"المقدمة: استراتيجيات تحليل القضايا
تتميز كل قضية بخصائص فريدة - تتنوع في مستويات التعقيد، عدد الأدلة، الأحكام القانونية الثابتة مقابل الأحكام المتغيرة بتغير الزمان والمكان والأشخاص، بالإضافة إلى الأهداف والنتائج المتوقعة. هذه العوامل تلعب دوراً هاماً في كيفية تحليل وصياغة الموضوع، حيث يمكن للباحث تعديل أو إضافة عناصر للبحث بناءً على خصائص القضية المعينة ومتطلبات القاضي. وفي هذا السياق، يجب على الباحث أن يتبع المراحل التالية بشكل منظم لتطوير فهم شامل (مفهوم) و(تصور) و(توصيات) حول القضية.
الخطوة الأولى: تقييم الجوانب الإجرائية
من الضروري فحص الجوانب الشكلية مثل نوع القضية (تجارية، جنائية، مدنية، إلخ)، متطلبات المدعي والمدعى عليه (الصفة والأهلية، الاختصاص الولائي والنوعي والمكاني)، لأن الحكم في هذه الجوانب قد يؤدي إلى إعفاء القاضي والمحكمة من النظر في القضية من الأساس، مما يقود إلى رفض القضية لأسباب مثل عدم الاختصاص أو عدم الصفة.
الخطوة الثانية: التحليل المتعمق للقضية عبر ثلاث مراحل
المرحلة الأولى: الفحص الأولي
تتطلب هذه المرحلة قراءة شاملة للملف من البداية للنهاية، بما في ذلك الغلاف، الذي قد يحمل بيانات ومعلومات هامة عن القضية. ينبغي متابعة القراءة دون إجراء أي تغييرات على ترتيب الصفحات، محافظةً على التسلسل الذي وضعت به الوثائق، سواء أكانت مقدمة من قبل القاضي أو الدائرة القضائية.
المرحلة الثانية: التحليل الاستنتاجي
في هذه الفترة، يُعاد تنظيم الملف زمنيًا لفهم تطور الأحداث بوضوح. يسمح هذا الترتيب برسم صورة دقيقة للوقائع، حيث يُفحص الباحث الشهادات والأدلة المقدمة من كلا الطرفين، يبحث عن التناقضات أو التعارضات، ويقيم الأدلة لتحديد مدى تطابقها مع الحقائق الجوهرية للدعوى ومدى اكتمالها أو نقصانها.
المرحلة الثالثة: القراءة التحضيرية
هذه المرحلة تجهز الباحث لتشكيل وجهة نظره الخاصة حول القضية وتطوير توصياته. يُعيد الباحث تنظيم الملف بما يتوافق مع فهمه النهائي ويخدم الأساس الذي سيبني عليه رأيه وحجته. بعد إتمام هذه القراءة، يكون الباحث في وضع جيد لصياغة تقريره أو مذكرته القضائية، مستعدًا لتقديم تحليل متكامل ومدروس بعناية.
الخطوة الثالثة: تكييف القضية ( التكييف القضائي) ( التوصيف القضائي)
وهي عملية ذهنية يسير فيها الباحث مبتغيًا توصيفًا (مثل: بيوع، مرابحة، شراكة.... وغيرها
للنزاع القائم.
وهذه الخطوة تتحقق بأربعة لوازم على الترتيب: وقائع / مشاكل / مبادئ / تطبيق
اللازم الأول: تحديد الوقائع
وهذه خطوة قد استفادها الباحث من قراءاته، وهنا على الباحث أن يذكر الوقائع المؤثرة ويحسن به ذكرها على صيغة نقاط منفردة، بحيث تكون كل واقعة في فقرة وترقيم مختلف، بشكل متسلسل يبين نمو الحدث أو الأحداث المؤثرة في القضية، مع الإشارة إلى موقعها في الملف برقم
الصفحة ورقم السطر، مثل:
.۱ (ص ؟ س ؟)
(ص ؟ س ؟)
)ص؟ س؟( ......
ومن أجل تكييف القضية عليه أيضا أن:
۱. يُنقح الوقائع وذلك بتحديد أوصافها المؤثرة.
. إثبات الوقائع بذكر الأسانيد التي ذكرها الخصوم لتثبت وقوعها، ودراسة هذه الأسانيد،
ومقارنتها وأرجحيتها وقطعيتها أو ظنيتها، وهل هي بينة أم قرينة، أم تحتاج إلى تثبت من جهات
أخرى مثلا... ونحو ذلك مما يتعلق بأسانيد إثبات الوقائع.
... تفسير الوقائع إذا احتاجت إلى تفسير.
وينبغي للباحث أن يشير أمام كل واقعة لها سند إلى مكان هذا السند في الملف برقم
الصفحة ورقم السطر مثل: ص ١٣) س (٤).
اللازم الثاني: تحديد المشاكل القانونية
وذلك بأن يستنتج الباحث الأسئلة القانونية التي تطرحها الوقائع والمطالبات وأقوال الخصوم، مثل: هل العلاقة بين المتخاصمين علاقة بيع ؟ هل الأسانيد المذكورة تثبت علاقة الشراكة ؟ هل من حق المدعي المطالبة بـ..؟ هل أقوال الشهود تحتاج إلى تفسير ؟ وهكذا
ويدرس أقوال الخصوم: هل يوجد بينها تعارض ؟ تناقض ؟ ما هو حل هذا التناقض ؟ ويدرس أسانيدهم هل تتوافق أم تتعارض ؟ وهل وجه استدلالهم بها مطابقا للأوصاف المؤثرة في الدعوى أو فيها نقص ؟
ويدرس الوقائع : هل سردها صحيح ؟ هل بينها تناقض ؟ هل تحتاج إلى تثبت من جهة خارجة ؟
يجمع ويحدد المطالبات، ويدوّن هذه المشاكل ورأيه المبدئي المقترح تجاهها.
اللازم الثالث: تحديد المبادئ التي تحكم النزاع في الدعوى
وهذه المبادئ قد تكون قوانين أو مبادئ محاكم التمييز او النقض أو العرف، قواعد أصولية، أو آراء الفقهاء، أو لوائح وأنظمة تتبناها الجهة القضائية أوشبة قضائية، أو السوابق القضائية.
وتستخدم هذه المبادئ بحسب حال القضية، ولا يشترط اجتماعها جميعا في دراسة كل
قضية.
. فيحدد الباحث هذه المبادئ
. ويؤصلها، بأن يذكر مرجعها
. ويفسرها.
الخطوة الرابعة: صياغة المذكرة
خلال الخطوات الأولية، كان من المتوقع أن يجمع الباحث أفكاره وملاحظاته في دفتر ملاحظات أو مفكرة، مع إجراء التعديلات اللازمة والشطب والإضافة كإعداد أولي للمرحلة النهائية من كتابة المذكرة.
من الضروري للباحث أن يعي أن المذكرة تمثل اقتراحًا للحكم، وبالتالي يجب أن يكون الأسلوب في الكتابة واضحًا، موجزًا، ومنظمًا بطريقة منطقية، سواء في اختيار الكلمات، عرض الحقائق، أو في تقديم الاستدلال للرأي المقترح.
تحتوي المذكرة على عدة أقسام أساسية تشمل خلاصة بيانات القضية، ملخص للوقائع، ملخص للأقوال والدفاعات والبراهين، إلى جانب النقاش، الملاحظات، والتوصيات المقدمة.
أولا: بيانات القضية
يدون فيها اسم المحكمة اسم الدائرة، اسم القضية رقمها الالي ورقم القضية و تاريخها، أسماء المتداعين، ويستحسن أن يكون ذلك في تنسيق مرتب، أو بطريقة نقاط ، أو أي طريقة تجعل هذه البيانات
سهلة التناول عند الرجوع إليها.
ثانيا: ملخص الوقائع
بحيث يلخص وقائع القضية بذكرها مرتبة ترتيبا زمنيا منطقيا، يضع كل واقعة تمثل فكرة مستقلة في فقرة مستقلة، مشيرًا في كل واقعة إلى مكانها في الملف برقم الصفحة والسطر مثل:
ص ۲۲) س (۰۷)
مثال حيث يتحصل موجز وقائع الدعوى في
.۱ (ص ۱۳ س ٠٥)
.۲ (ص ٠٥ س (۱۰)
(ص ؟ س ؟)
وهكذا.
ثالثا: ملخص الأقوال والدفوع والأسانيد
بحيث يجدول أقوال المدعي، وأقوال المدعى عليه، ودفوع الطرفين وأسانيدهم، ويذكر رأيه في الدفوع والأسانيد المقدمة من الطرفين، مشيرا في كل واقعة أو سند إلى مكانه في الملف برقم
الصفحة والسطر.
أو يذكر كل مطالبة أو قول يشتمل على فكرة مستقلة في فقرة مستقلة، ويذكر أسانيدها
المذكورة ثم بين رأيه مشيرا في كل واقعة أو سند إلى مكانه في الملف برقم الصفحة والسطر.
مثال:
۱. حضر فلان عن فلان المدعى عليه (....) والتمس (....) ودفع بـ (.....) تأسيسا على (.......) ورأيي
).....( الحكم بـ
.٢. وحضر المدعي (.....) والتمس (....) تأسيسًا على (.....) ورأيي (....) وهكذا
ويختار الباحث الطريقة التي يراها أسهل للعرض في كل قضية بحسبها، ولكل قاض بحسبه، وليتذكر أن مهمة المذكرة هي العرض المرتب والمنطقي والواضح الذي يوصل بتسلسل منطقي واستدلالي إلى اقتراح حكم، وفي نفس الوقت يعرض ذلك بطريقة تعين القاضي على الرجوع بسهولة
إلى مكان الواقعة أو السند أو القول في ملف القضية الأصلي.
رابعا: المناقشة والرأي والتوصيات
في نهاية المذكرة يصرح الباحث برأيه في القضية ويدعم الرأي الذي تبناه في هذه القضية بالأسانيد المقدمة التي تتبناها الجهة القضائية وشبه القضائية منحيث المبادئ القضائية التي تبنتها أو السوابق القضائية.
نقاط إرشادية في محاسن ومعايب المذكرة القضائية
من محاسن المذكرة القضائية
1. السهولة والتحديد يصيب الهدف (وهو اقتراح الحكم بسهولة وبطريق محدد.
الوضوح بحيث تكون معنونة واضحة في ألفاظها ودلالاتها.
الجودة بحيث يُبدي الباحث رأيه ويوصله بطريقة صحيحة مبنية على القواعد العلمية
يعتمد فيها على المصطلح القانوني ويتجنب العبارات الإنشائية.
ويحسن هذه الجودة كثرة القراءة في مدونات الأحكام وخصوصا أحكام الاستئناف وأحكام التمييز .
سلامة الاستدلال بحيث يستخلص الوقائع وماديات الدعوى على نحو صحيح ثم التنزيل
الصحيح للحكم المقترح المطابق للوقائع على نحو صحيح.
ه الإيجاز غير المخل: وذلك حفاظا على وقت القاضي، ووقت المتداعين، وتقصير أمد التقاضي، حيث لا يخفى أن في التطويل غير اللازم تضييع للوقت، وإملال من غير طائل،وفي الإيجاز تنشيط للنفس في الاستمرار وترغيب في الوصول لنهاية الملف. الإشباع والإقناع وذلك يكون بالعرض الدقيق المؤصل والواضح والسهل في الإحالة للأصول
والأسانيد في ملف القضية أو غيره. التوثيق والتأصيل فالتوثيق يعني الرجوع إلى مستند مادي، والتأصيل يعني: الرد إلى أصل من دليل قانوني مثل استعمال وسائل الاثبات أو قاعدة أو حكم قضائي أو مادة قانونية... ونحو ذلك، وما غير ذلك فهو كلام مرسل لا يعوّل عليه ولا يؤخذ به.
كتابة الرأي أو التوصية كما يراها الباحث وكما أدى إليه اجتهاده من غير تشكك في القدرة على ذلك أو تشكك في العبارات، وهذا يكون بالاستعداد الجيد وتكوين القناعة بفهم
القضية.
من معايب المذكرة:
1. الاستذكاء على القاضي فعلى الباحث أن يتذكر دائما أن مذكرته لا تعدو أن تكون اقتراحا للحكم قد يقتنع به القاضي وقد لا يرى الأخذ به لترجيح فات أو استدلال أو قاعدة أو مادة قانونية لم يطلع عليها الباحث، أو لضرورات وإكراهات في القضية يلمسها القاضي لم يقدرها
الباحث.
٢. تجريح الخصوم.التكلف أو الإسفاف في الأسلوب فالتكلف هو تصنع جمال في الأسلوب على غير جمال فيه،والإسفاف التدني في الأسلوب المطروح بحيث يجانب الحيادية واللغة العلمية.
زيادة التنبيه على ما لا يستحق التنبيه وذلك بكثرة الكتابة بالأحمر أو الخط الغامق أو الخط المائل أو وضع التسطير تحت كثير من الكلمات، فعلى الباحث أن يحترم أن مذكرته سوف يطلع عليها قاض وليس قارئا عاديا.
ه. التوصية بطلب ملفات أو قضايا لا علاقة لها بالقضية أو لا لزوم للاطلاع عليها.
الإطالة في غير مبرر ولا طائل، والاستهلال المطول وذكر الوقائع غير المؤثرة في القضية وحشو القضية باستدلالات ونصوص أقوال الشهود كاملة من غير تنقيح المؤثر منها بينما كان يكفيه
أن يقول: أقرّ الشاهد بكذا في صفحة كذا سطر كذا.
ومن الممكن القول إن كل ما ناقض محاسن المذكرة فهو معيب فيها.
وختامًا فإنه ينبغي للباحث - مع الاستعداد الموضوعي لبحثه في القضية - أن يكون مستعدا
استعدادًا شكليًا بأن يحرص على حالة صحية جيدة ونفسية صحيحة، ونوم كاف، وفطور كاف،
وملابس مناسبة للعمل ومريحة، وحضور مبكر للعمل، وأن يحرص على ترتيب وتنظيم أوراقه
ومراجعه في المكتب أو في ملفات الحاسب بحسب حاجته في البحث، وطريقة تفكيره، حتى يسهل عليه الرجوع إليها، ولكيلا يضيع وقته في البحث عن مكان الملف أو المعلومة أو المصدر، وليوفر وقته في التحليل والدراسة.