وسيط السنهوري - الجزء 1 الأول
الفهرس
كلمة افتتاحية
العيوب الموضوعية :
العيوب الشكلية :
ب ) التنقيح الشامل :
جـ ) الظروف التى نبتت فيها فكرة التنقيح :
اللجنة الأولى :
اللجنة الثانية :
اللجنة الثالثة والأخيرة :
1- كيف عولجت العيوب الشكلية :
( أولاً ) التبويب :
ب- كيف عولجت العيوب الموضوعية :
2- مصادر التنقيح وطرق التفسير فى القانون الجديد
أ- نصوص التقنين المدنى القديم وأحكام القضاء المصرى
1- الاستغلال :
2- الاشتراط لمصلحة الغير :
3- التهديد المالى :
4- الشرط الجزائى :
ب- الفقه الإسلامى
أولا – ما الذى استقاه التقنين الجديد من هذا المصدر :
1- القديم من الفقه الإسلامى لذى استبقاه التقنين الجديد :
2- الجديد من الفقه الإسلامى الذى استحدثه التقنين الجديد :
3- الفقه الإسلامى أصبح مصدراً رسمياً للقانون المدنى :
جـ - التقنينات الحديثة
أولاً – ما الذى استقاه التقنين الجديد من هذا المصدر :
ثانيا – كيف تفسر النصوص التى استقيت من التقنينات الحديثة :
1- موضوعات كاملة :
ثانياً – الإعسار المدنى ( م 249 – 264 ) :
ثالثاً – حوالة الدين ( م 315 – 322 ) :
رابعاً – تصفية التركة ( م 876 – 914 ) :
ب- مسائل تفصيلية متنوعة :
2- ما قنن التقنين الجديد من أحكام كان معمولا بها من قبل
أ- الأحكام التى قررها القضاء المصرى فى ظل التقنين القديم دون نص فقننها التقنين الجديد :
ب- الأحكام التى كانت تقوم على نص تشريعى :
أ- موقف التقنين الجديد
1- مبدأ سلطان الإرادة :
ب - النظرية الشخصية والنظرية المادية للالتزام :
ج – نظرية الإرادة الباطنة ونظرية الإرادة الظاهرة
د – التصرف المسبب والتصرف المجرد :
2 - التقنين الجديد بين الاستقرار والتطور وبين الفرد والجماعة
1 - التقنين الجديد بين الاستقرار والتطور :
عوامل التطور في التقنين الجديد :
1 - المعايير المرنة :
2 - سلطة القاضي التقديرية :
عوامل الاستقرار في التقنين الجديد :
1 - المعايير الموضوعية :
2 - الإرادة الظاهرة :
ب - التقنين الجديد بين الفرد والجماعة :
حماية التقنين الجديد للفرد :
حماية التقنين الجديد للجماعة :
الكتاب الأول
من القانون المدني الجديد
الالتزامات بوجه عام
كلمة تمهيدية
فى التعريف بالالتزام
1 - تحديد مركز الالتزام فى القانون المدنى
2 - المذهبان الشخصي والمادي في الالتزام
3 – اختيار تعريف للالتزام
4 – أهمية نظرية الالتزام
وتأثرها بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والأدبية
مصادر الحق
1 – من أين الترتيب التقليدي لمصادر الالتزام
2 - نقد الترتيب التقليدي لمصادر الالتزام
3 – الترتيب الحديث لمصادر الالتزام
الباب الأول
العقد
Le Contrat
تمهيد
1 – تعريف العقد
2 - مبدأ سلطان الإرادة
( Autonomie de la Volonte )
3 - تقسيم العقود
1- العقد الرضائي والعقد الشكلي والعقد العيني
2 - العقد المسمى والعقد غير المسمى
2- العقد البسيط والعقد المختلط
4 - العقد الملزم للجانبين والعقد الملزم لجانب واحد
5 – عقد المعاوضة وعقد التبرع
6 - العقد المحدد والعقد الاحتمالي
الفصل الأول
أركان العقد
الفرع الأول
التراضي
المبحث الأول
وجود التراضي
73 - كيف يتم التعاقد :
78 - نظرية الإرادة الباطنة ( volonte interne ) :
2 - النيابة في العقد
( التعبير الصادر من النائب )
ا – شروط تحقق النيابة
الشرط الأول – حلول إرادة النائب محل إرادة الأصيل :
الشرط الثاني – استعمال النائب إرادته في الحدود المرسومة للنيابة :
الشرط الثالث – تعامل النائب باسم الأصيل :
ب – آثار النيابة
ج – تعاقد الشخص مع نفسه
97 – تعاقد الشخص مع نفسه في القانون الجديد :
المطلب الثاني
توافق الإرادتين
1- المتعاقدان في مجلس واحد
1- صدور الإيجاب :
المراحل التي يمر بها الإيجاب :
102 - الإيجاب البات :
القوة الملزمة للإيجاب :
سقوط الإيجاب :
ب – اقتران الإيجاب بالقبول
ج – حالات خاصة في القبول
الحالة الأولى – مجرد السكوت قد يكون قبولا : ( )
الحالة الثانية – تنفيذ العقد قد يقوم مقام القبول :
الحالة الثالثة – القبول في عقود المزاد :
الحالة الرابعة – القبول في عقود الإذعان ( ) :
الحالة الخامسة – القبول في عقود الجماعة وفي العقود النموذجية :
2 – المتعاقدان لا يجمعهما مجلس واحد
( التعاقد بالمراسلة أو فيما بين الغائبين )
( Contrat par correspondence ou entre absents )
أ - الفقه والقوانين الأجنبية
ب – أحكام القانون المصري
المطلب الثالث
مرحلة تمهيدية في التعاقد
( الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي والعربون )
1 – الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي
( Promesse de contrat – Contrat preliminaire )
( Avant – contrat )
أ – كيف ينعقد الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي
4 - الآثار التي تترتب على الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي
2 - العربون
( Les arrhes )
المبحث الثاني
صحة التراضي
المطلب الأول
الأهلية
( La capacite )
1 – النظرية العامة في الأهلية
2 – أحكام الأهلية
في القانون المدني الجديد وقانون المحاكم الحسبية
أ – تأثر الأهلية بالسن
4 - تأثر الأهلية بعوامل أخرى غير السن
( عوارض الأهلية )
المطلب الثاني
عيوب الإرادة
( Vices du consentement )
1 – الغلط
( L ' erreur )
أ – متى يكون الغلط جوهرياً وعلى أي شيء يقع
ب – كيف يتصل المتعاقد الآخر بالغلط
2 – التدليس
( Le dol )
ا – عناصر التدليس
ب – نظرية الغلط تغني عن نظرية التدليس
3 – الإكراه
( La violence )
1 – استعمال وسائل للإكراه تهدد بخطر جسيم محدق
ب – رهبة تحمل على التعاقد
ج – الجهة التي صدر منها الإكراه
4 – الاستغلال
( L'exploitation )
ا – عناصر الاستغلال
ب - الجزاء الذي يترتب على الاستغلال
المبحث الأول
المحل موجود أو ممكن
1 – المحل موجود
2 - المحل ممكن
المبحث الثاني
المحل معين أو قابل للتعيين
كيفية تعيين المحل
2 – تعيين محل الالتزام إذا كان نقوداً
المبحث الثالث
المحل قابل للتعامل فيه
( dans le commerce )
( النظام العام والآداب )
المطلب الأول
الاتفاقات التي تخالف النظام العام
1 – روابط القانون العام
2 – روابط القانون الخاص
المطلب الثاني
الاتفاقات التي تخالف الآداب
الفرع الثالث
السبب
( La Cause )
المبحث الأول
كيف نشأت نظرية السبب
2 – العهد المدرسي
1 – نظرية السبب في العهد الذي سبق دوما ( )
2 – نظرية السبب منذ عهد دوما إلى عهد التقنين المدني الفرنسي ( )
المبحث الثاني
نظرية السبب في القانون الحديث
1 – معنى السبب في النظرية التقليدية والشروط الواجب توافرها فيه
ا - تحديد معنى السبب في النظرية التقليدية
ب – الشروط الواجب توافرها في السبب
2 - خصوم السبب وأنصاره .
ا – خصوم السبب
ب – أنصار السبب
المطلب الثاني
النظرية الحديثة في السبب
2 - الأخذ بالنظرية الحديثة آلتي تقوم على الباعث الدافع إلى التعاقد
3 – التصرف المجرد
( L'acte abstrait )
المطلب الثالث
نظرية السبب في القانون المصري الجديد
1 – اعتناق القانون الجديد للنظرية الحديثة في السبب
2 – الفصل ما بين منطقة السبب ومنطقة الغلط في القانون الجديد
3 – إثبات السبب
الفرع الرابع
الجزاء : نظرية البطلان
المبحث الأول
الآثار التي تترتب على العقد الباطل والعقد القابل للإبطال
المطلب الأول
الآثار العرضية للعقد الباطل
1 – نظرية تحول العقد
( Conversicn du contrat )
( ونظرية انتقاص العقد Reduction du contrat )
نظرية الخطأ عند تكوين العقد
( Culpa in contrahendo )
المطلب الثاني
الآثار الأصلية للعقد الباطل
المطلب الأول
الإجازة ( Confirmation )
1 - العقد الباطل
2 - العقد القابل للإبطال
المطلب الثاني
التقادم
1 - العقد الباطل
2 - العقد القابل للإبطال
المبحث الثالث
تقرير البطلان
( دعوى البطلان )
المطلب الأول
من الذي يتمسك بالبطلان
1 - العقد الباطل
2 – العقد القابل للإبطال
المطلب الثاني
كيف يتقرر البطلان
1 – العقد الباطل
2 – العقد القابل للإبطال
المطلب الثالث
اثر تقرير البطلان
1 – فيما بين المتعاقدين
2 - بالنسبة إلى الغير
الفصل الثاني
آثار العقد
الفرع الأول
قوة العقد الملزمة بالنسبة إلى الأشخاص
المبحث الأول
اثر العقد بالنسبة إلى المتعاقدين
المطلب الأول
الخلف العام
المطلب الثاني
الخلف الخاص
المبحث الثاني
اثر العقد بالنسبة إلى الغير
المطلب الأول
التعهد عن الغير
( Promesse de porte – fort )
1 – قبول الغير للتعهد
2 – رفض الغير للتعهد
المطلب الثاني
الاشتراط لمصلحة الغير
( Stipulation pour autrui )
1 – كيف تطورت قاعدة الاشتراط لمصلحة الغير وما وصلت إليه في تطبيقاتها العملية
2 - شروط تحقق قاعدة الاشتراط لمصلحة الغير
3 - أحكام الاشتراط لمصلحة الغير
الفرع الثاني
قوة العقد الملزمة بالنسبة إلى الموضوع
المبحث الأول
تحديد موضوع التعاقد
المطلب الأول
تفسير العقد ( )
( Interpretation du contrat )
1- عبارة العقد واضحة
2 - عبارة العقد غير واضحة
3 – قيام الشك في التعرف على إرادة المتعاقدين
المطلب الثاني
تحديد نطاق العقد
المطلب الثالث
إلزام المتعاقدين بتنفيذ العقد
( العقد شريعة المتعاقدين )
1 - تنفيذ العقد في جميع ما أشتمل عليه
2 – نظرية الحوادث الطارئة
( Theorie de l’imprevision )
1 - التطور التاريخي لنظرية الحوادث الطائرة
4 - نظرية الحوادث الطارئة في القانون المدني الجديد
المطلب الثالث
علاقة السببية بين الخطأ والضرر
( Lien de causalite )
الفصل الثالث
زوال العقد
الفرع الأول
فسخ العقد ( )
المبحث الأول
الفسخ بحكم القضاء
1 - لا يكون الفسخ إلا في العقود الملزمة للجانبين
2 - لا يكون الفسخ إلا إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه
3 - لا يكون الفسخ إلا إذا كان الدائن مستعداً للقيام بالتزامه وقادراً على إعادة الحال إلى أصلها
المطلب الثاني
كيف يستعمل حق الفسخ
المطلب الثالث
ما يترتب على الفسخ من اثر
المبحث الثاني
الفسخ بحكم الاتفاق
المبحث الثالث
انفساخ العقد بحكم القانون
الفرع الثاني
الدفع بعدم تنفيذ العقد
( أو الامتناع المشروع عن الوفاء بالعقد )
( Exceptio non adimpleti contractus )
المبحث الأول
متى يمكن التمسك بالدفع بعدم تنفيذ العقد
المبحث الثاني
كيف يمكن التمسك بالدفع بعدم تنفيذ العقد
المبحث الثالث
ما يترتب من الأثر على الدفع لعدم تنفيذ العقد
أ - فيما بين المتعاقدين :
ب - بالنسبة إلى الغير :
الباب الثاني
العمل غير المشروع
( المسئولية التقصيرية )
L'ACTE ILLICITE
( La responsabilite delictuelle )
تمهيد
1 – التمييز بين المسئولية الأدبية والمسئولية القانونية
2 - التمييز بين المسئولية الجنائية والمسئولية المدنية
3 – التمييز بين المسئولية العقدية والمسئولية التقصيرية
4 – تطور المسئولية التقصيرية
الفصل الأول
المسئولية عن الأعمال الشخصية
الفرع الأول
أركان المسئولية التقصيرية
1 – الركن المادي : التعدى
2 - الركن المعنوي : الإدراك
1 - الشخص الطبيعي :
المطلب الثاني
تطبيقات مختلة لفكرة الخطأ
المطلب الثاني
انعدام السببية لأن السبب غير منتج أو غير مباشر
1 – تعدد الأسباب
1 - تعدد الأسباب مع استغراق سبب منها للأسباب الأخرى :
ب – تعدد الأسباب دون استغراق
2 - تسلسل النتائج
( أو تعاقب الأضرار والضرر غير المباشر )
الفرع الثاني
آثار المسئولية
المبحث الأول
دعوى المسئولية
( Action en responsabilite )
المطلب الأول
طرفا الدعوى
1 – المدعى
1 – غير المضرور ليس له حق في التعويض :
ب – حق التعويض للمضرور :
ج – حق التعويض كل مضرور :
2 – المدعى عليه
المطلب الثاني
الطلبات والدفوع
1 - طلبات المدعى
2 – دفوع المدعى عليه ( التقادم )
المطلب الثالث
الإثبات
1 – عبء الإثبات
2 – وسائل الإثبات
المطلب الرابع
الحكم الصادر في دعوى المسئولية
وطرق الطعن فيه ( وبخاصة طريق الطعن بالنقض )
1 – طرق الطعن في الحكم الصادر في دعوى المسئولية
2 – الآثار التي تترتب على الحكم الصادر في دعوى المسئولية
المبحث الثاني
جزاء المسئولية
( التعويض )
1 - طريقة التعويض :
2 - تقدير التعويض
المطلب الثاني
التعويض في صورته المعدلة الموصوفة
2 - التأمين على المسئولية
3 – اجتماع طريقين للتعويض
الفصل الثاني
المسئولية عن عمل الغير
والمسئولية الناشئة عن الأشياء
الفرع الأول
المسئولية عن عمل الغير
المبحث الأول
مسئولية من تجب عليه الرقابة عمن هم في رقابته
المطلب الأول
متى تتحقق مسئولية متولى الرقابة
1 – تولى الرقابة
2 - القانون المصري
المطلب الثاني
لا ضرورة لأن يكون الإثراء قائماً وقت رفع الدعوى
الفرع الثاني
أحكام الإثراء بلا سبب
المبحث الأول
الدعوى
1 – طرفا الدعوى
أ – المدعى :
4 - المدعى عليه :
2 – الطلبات والدفوع
( تقادم دعوى الإثراء )
أ – طلبات المدعى :
ب – دفوع المدعى عليه :
3 – الإثبات
أ – عبء الإثبات :
ب - وسائل الإثبات :
4 - الحكم
أ - الطعن في الحكم بطريق النقض :
ب – الآثار التي تترتب على الحكم :
المبحث الثاني
الجزاء أو التعويض
1 – كيف يقدر الإثراء
أ – الإثراء ملكية انتقلت إلى ذمة المثري :
ب – الإثراء منفعة أو خدمة أو عمل أو إثراء سلبي :
2 – كيف يقدر الافتقار
أ – تقدير مدى الافتقار
ب – وقت تقدير الافتقار
3 – ما يقترن بالتعويض من ضمانات
الفصل الثاني
دفع غير المستحق - الفضالة
الفرع الأول
دفع غير المستحق
( Paiement de l’indu )
المبحث الأول
أركان دفع غير المستحق
المطلب الأول
حالتا دفع غير المستحق
1 – الوفاء بدين غير مستحق من بادئ الأمر
أ - الركن الأول : دين غير مستحق وقت الوفاء به :
ب – الركن الثاني : عمل من أعمال الوفاء يشوبه عيب يجعله قابلا للإبطال
أ – الركن الأول : وفاء غير صحيح بدين مستحق الأداء :
ب - الركن الثاني : زوال سبب الدين بعد أن تم الوفاء به :
المطلب الثاني
تكييف الالتزام برد ما أخذ دون حق
الوسيط
في
شرح القانون المدني الجديد
نظرية
الالتزام بوجه عام
مصادر الالتزام
العقد – العمل غير المشروع – الاثراء بلا سبب – القانون
تأليف
عبد الرازق أحمد السنهوري
دكتور في العلوم القانونية ودكتور في العلوم السياسية والاقتصادية
ودبلوميه من معهد القانون الدولي بجامعة باريس
1952
دار النشر للجامعات المصرية
16 شارع عدلي باشا – تليفون 40995
القاهرة
كلمة افتتاحية
هذا هو الوسيط أقدمه بين يدى رجال القانون أقوى ما أكون أملا فى أن يملأ فراغا وأن يسد حاجة. وقد اعتزمت فيه بمشيئة الله أن أشرح القانون المدنى الجديد.
والوسيط هو الوسط ما بين الوجيز والمبسوط . ولئن جعل الله في العمر بقية ، وأمدنى بعون من عنده ، أخرجت بعد الوسيط الوجيز ، ثم استعنت برفقة من زملائى في إخراج المبسوط . فتتم بذلك حلقات ثلاث ، ينتظمها عقد واحد . والوسيط هو واسطة هذا العقد . تجمله فيصبح وجيزاً . وتفصله فيصير مبسوطاً. ومن أجل ذلك اخترت أن أبدأ به . فهو أوفى من الوجيز فى سد حاجات العلم والعمل . وهو أدنى من المبسوط للباحث الذى لا يملك غير وقت محدود.
***
وبعد فطابع القانون المدنى الجديد الاعتدال . فهو يرضى الاستقرار ، ويطاوع التطور . والاستقرار يتمثل فى وصل الحاضر بالماضى . والتطور يترآى فى تطلع الحاضر إلى المستقبل .
***
وإيذاناً بأن الحاضر متصل بالماضى ، عمدت فى هذا الكتاب إلى أمرين :
( أولهما ) أننى طفقت أشير إلى القضاء والفقه المصريين فى عهد القانون المدنى القديم كما لو كانا قد نبتا فى عهد القانون المدنى الجديد . وترانى أشير إليهما دون أن أشعر القارئ بأن القانون المدنى قد تغير ، ودون أن أنبه إلى أن القضاء والفقه اللذين أستند إليهما قد قاما فى عهد القانون المدنى القديم . وأوردت بذلك أن أدل على أن ما كان يصلح قضاء وفقهاً فى الماضى لا يزال صالحاً حتى اليوم . فالسلسلة لم تنقطع حلقاتها ، والعهد الحاضر لا يزال متصلا بالعهد الماضى أوثق الاتصال . وتعمدت أن أنقل عن كتابى فى نظرية العقد وعن كتابى الآخر فى النظرية العامة للالتزامات كثيراً مما اشتملا عليه من الآراء الفقهية ومن قضاء المحاكم المصرية ، فى العبارات ذاتها التى وردت فى الكتابين ، بعد توفير ما ينبغى من الملاءمة ليساير الكتاب الجديد أحكام القانون الجديد . كل ذلك حتى أصل الحاضر بالماضى ، وحتى أثبت من طريق عملى أن الكتاب الذى كان يصلح مرجعاً فى القانون القديم لا يزال صالحاً فى كثير من نواحيه مرجعاً فى القانون الجديد لم يؤذن بثورة ، ولم يحدث انقلاباً . وإذا كنت قد رجعت عن بعض الآراء الفقهية التى سبق لى أن اعتنقتها فى الكتابين اللذين أسلفت ذكرهما ، فتلك سنة العقل البشرى ، لا يقيم على خطة واحدة من النظر . فهو لا يستطيع أن يستوعب الحقائق مطلقة . ويدرك اليوم ما لم يكن بقادر على إدراكه بالأمس .
ولما كان القانون الجديد – فيما استحدث من النصوص والأحكام – لا يزال بكراً لم يرد فيه قضاء أو فقه ، فقد استعضت عنهما بما نقلت من الأعمال التحضيرية . فأرخت كل نص من نصوص القانون الجديد منذ كان النص فى المشروع التمهيدى ، متعقباً إياه وقد انتقل إلى المشروع النهائى ، ثم إلى مجلس النواب ، ثم إلى لجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ ، ثم إلى مجلس الشيوخ ، حتى أصبح هو نص القانون الجديد . نقلت ما جاء فى المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدى فى صدد هذه النصوص . واعتمدت فى كل ذلك على مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدنى الجديد التى أصدرتها وزارة العدل فى أجزاء سبعة .
وكنت إذا ما استحدث القانون الجديد تغييراً ، أعنى كل العناية بالإشارة إلى هذا التغيير ، فأرسم حدوده ، وأبين مداه ، وأستطرد عند الحاجة إلى بحث سريان الحكم الجديد من حيث الزمان ، فأذكر ما عسى أن يكون للنص المستحدث من أثر رجعى ، وبخاصة ما يكون له من أثر فورى ، وفقاً للنظريات الحديثة .
( والأمر الثانى ) أننى جعلت الفقه والقضاء الفرنسيين هما ، من بين سائر النظم القانونية الأجنبية ، النظام الأجنبى الذى رجعت إليه ، كما كانت الحال فى عهد القانون المدنى القديم . على أن القضاء الفرنسى لم أشر إليه إلا حيث أتابع التطور التاريخي لبعض المبادئ القانونية ، وإلا حيث استكمل به القضاء المصرى . وقد تعمدت أن يكون قضاؤنا المصرى هو الأصل الذي يرجع إليه ، فيكون هو القضاء البارز فى جميع نواحى الكتاب ، لا يغنى عنه القضاء الفرنسى ، بل لا يقف إلى جانبه إلا حيث تقوم الحاجة . لم أفعل ذلك زراية بالقضاء الفرنسى أو غضاً من شأنه ، وإلا فهو القضاء الذى نزلنا ضيوفاً فى ساحته الواسعة ، وعشنا زمناً فى رحباته الفسيحة . ولكن آن للضيف أن يعود إلى بيته ، بعد أن أقامه على عمد قوية . والقضاء المصرى فى مدى خمسة وسبعين عاماً قطع شوطاً بعيداً فى طريق التقدم ، حتى أصبح من حقه أن يظفر باستقلاله . وقد صار من الكثرة والتنوع بحيث يجد الباحث فيه لكل مسألة مرجعاً . وبلغ فى الذاتية شأواً أبعد ما بلغ الفقه المصرى . فمن واجبه الآن أن يضطلع بمسئولياته كاملة.
***
هذا عن اتصال الحاضر بالماضى . أما عن تطلع الحاضر إلى المستقبل ، فآيته أن القانون المدنى الجديد يفتتح عهداً جديداً .
يتمثل ذلك فى هذه النهضة التشريعية المباركة التى بدأت منذ سنة 1936 ، وقد أرسى أساسها على ماهر باشا باللجان التى ألفها لوضع مشروعات للتقنينات الرئيسية ، فناظرت هذه الحركة المثمرة المباركة قرينتها التى نبتت ستين عاماً قبلها وانتهت إلى وضع التقنينات المصرية الحديثة التى قامت عليها حياتنا القانونية ولا تزال تقوم على بعض منها حتى اليوم . فما أشبه الليلة بالبارحة ! لقد دخلت مصر بالأمس ، وفى نهضتها التشريعية الأولى ، عالم القانون الحديث ، فخطت خطوة حاسمة فى مدارج تطورها القانونى. وهى اليوم ، فى نهضتها التشريعية الثانية ، تخطو خطوة حاسمة أخرى ، فتتبوأ مكاناً مستقلا فى الأسرة العالمية للقانون.
وإذا كانت مصر قد استقلت بتشريعها ، فقد آن لها أن تستقل أيضاً بقضائها وبفقهها. وأن هذا العهد الجديد ، الذى افتتحه القانون المدنى الجديد ، لتعلن فيه مصر أنها قد اعتزمت أن يكون لها قضاء ذاتى وفقه قومى.
هذه هى المرحلة الجديدة التى تخطوها مصر ، وهذه هى الآفاق الجديدة التى تطالع بها رجال القانون فى هذا العهد الجديد .
لقد ظفر التشريع المصرى بالاستقلال فى سنة 1937 ، وكانت معاهدة مونتريه هى صك استقلاله . وظفر القضاء المصرى بالتوحيد بعد انقضاء فترة الانتقال وزوال المحاكم المختلطة . فعلى القضاء المصرى تقع تبعات جسيمة ينبغى له أن ينهض بها . وعلى الفقه المصرى أن يكون الرائد للقضاء المصرى ، يمهد له السبيل ، ويعبر له الطريق.
وإذا كان القانون المدنى الجديد قد اقتبس نصوصاً من بعض المصادر الأجنبية ، فليست هذه ، فى الكثرة الغالبة منها ، غير مصادر استئناس للصياغة . أما الغالبية العظمى من أحكامه فمستمدة من أحكام القانون المدنى القديم ومن المبادئ التى أقرها القضاء المصرى طوال سبعين سنة كاملة .
وقد كتبت منذ ثمانية عشر عاماً فى كتاب (( نظرية العقد )) : (( علينا أولاً أن نمصر الفقه ، فنجعله فقهاً مصرياً خالصاً ، نرى فيه طابع قوميتنا ، ونحس أثر عقليتنا ، ففقهنا حتى اليوم لا يزال ، هو أيضا ، يحتله الأجنبى ، والاحتلال هنا فرنسى . وهو احتلال ليس بأخف وطأة ، ولا بأقل عنتاً ، من أى احتلال آخر . لا يزال الفقه المصرى يتلمس فى الفقه الفرنسى الهادى المرشد ، لا يكاد يتزحزح عن أفقه ، أو ينحرف عن مسراه ، فهو ظله اللاصق ، وتابعه الأمين . فإذا قدر لنا أن نستقل بفقهنا ، وأن نفرغه فى جو مصرى ، يشب فيه على قدم مصرية ، وينمو بمقومات ذاتية ، بقى علينا أن نخطو الخطوة الأخيرة ، فنخرج من الدائرة القومية إلى الدائرة العالمية ، ونؤدى قسطاً مما تفرضه علينا الإنسانية ضريبة فى سبيل تقدم الفقه العالمى ، أو ما اصطلح الفقهاء على تسميته بالقانون المقارن )).
واليوم يسعدنى أن أنقل هنا ما أدليت به أمام اللجنة التشريعية بمجلس النواب ، وهى تنظر مشروع القانون الجديد : (( أن النصوص التشريعية الواردة فى هذا المشروع لها من الكيان الذاتى ما يجعلها مستقلة كل الاستقلال عن المصادر التى أخذت منها . ولم يكن الغرض من الرجوع إلى التقنينات الحديثة أن يتصل المشروع بهذه التقنينات المختلفة اتصال تبعية فى التفسير والتطبيق والتطور ، فإن هذا ، حتى لو كان ممكناً ، لا يكون مرغوباً فيه ، فمن المقطوع به أن كل نص تشريعى ينبغى أن يعيش فى البيئة التى يطبق فيها ، ويحيا حياة قومية توثق صلته بما يحيط به من ملابسات ، وما يخضع له من مقتضيات ، فينفصل انفصالا تاماً عن المصدر التاريخى الذى أخذ منه ، أيا كان هذا المصدر . وقد حان الوقت الذى يكون لمصر فيه قضاء ذاتى وفقه مستقل . ولكل من القضاء والفقه ، بل على كل منهما ، عند تطبيق النص أو تفسيره ، أن يعتبر هذا النص قائماً بذاته ، منفصلا عن مصدره ، فيطبقه أو يفسره تبعاً لما تقتضيه المصلحة ، ولما يتسع له التفسير من حلول تفى بحاجات البلد ، وتساير مقتضيات العدالة . وبذلك تتطور هذه النصوص فى صميم الحياة القومية ، وتثبت ذاتيتها ، ويتأكد استقلالها ، ويتحقق ما قصد إليه واضعو المشروع من أن يكون لمصر قانون قومى ، يستند إلى قضاء وفقه لهما من الطابع الذاتى ما يجعل أثرهما ملحوظاً فى التطور العالمى للقانون )) .
تطور النصوص فى صميم الحياة القومية : هذه هى مهمة القضاء والفقه فى مصر منذ اليوم . ولا عذر لهما إذا هما تخليا عن هذه التبعة الخطيرة ، وتركا الاجتهاد إلى التقليد .
وإن القانون المصرى الجديد ليؤذن بعهد جديد لا فى مصر فحسب ، بل أيضاً فى البلدين الشقيقين العربيين ، سورية والعراق . ويكفى أن يكون هذا الشرح للقانون المصرى الجديد هو فى الوقت ذاته شرح للقانون السورى الجديد ، فما بين القانونين إلا فروق طفيفة أشرت إليها فى حواشى هذا الكتاب . وهو أيضاً مرجع أساسى لشرح القانون العراقى الجديد ، فقد قام هذا القانون على مزاج موفق من الفقه الإسلامى والقانون المصرى الجديد . وقد حان الوقت ليتعاون الفقهاء المصريون مع زملائهم فقهاء سورية وفقهاء العراق ، ويتكاتفوا جميعاً لإرساء أساس قوى (( للقانون المدنى العربى )) ، يكون قوامه الفقه الإسلامى ، قانون المستقبل لبلاد العروبة جميعاً .
وإذا كنا نشعر اليوم بنزعة محمودة إلى تثبيت ذاتيتنا وتأكيد استقلالنا ، بعد أن صلب عودنا وشببنا عن الطوق ، فإن الواجب يقتضينا أن نذكر ذكر المعترف بالفضل والجميل ما نحن مدينون به للفقه الأجنبى ، وبخاصة للفقه الفرنسى . فقد كان هذا الفقه التكئة التى عليها نرتكز ، والنور الذى به نهتدى ، ولا زلنا مغمورين بفيضه حتى اليوم .
***
هذا والكتاب الذى أقدمه إلى القراء هو من طلائع الشروح للقانون المدنى الجديد . فلابد أن يكون بعيداً عن حد الكمال . وما أعجلنى إلى إخراجه إلا علمى بأن الغاية بعيدة ، وأن العمر قصير ، وأن الكمال لله وحده .
وقد تفضل صديقى الأستاذ الفاضل مصطفى كامل إسماعيل فكفل تصحيح (( التجارب )) ، فعاون بذلك على إخراج الكتاب معاونة مشكورة ، تخففت بها من مشقة بالغة . جزاه الله عنى خير الجزاء .
وإذا كان هذا الكتاب ليس إلا خطوة متواضعة نحو استقلال الفقه المصرى ، وقد بدت بشائر هذا الاستقلال قبل ذلك فى كتب ورسائل قيمة لزملاء هم فى الذروة من فقه القانون المدنى ، فإنى أرجو أن يكون الكتاب ، فى هذاالحيز المحدود ، قد أوفى بقليل من الغرض ، وملأ شيئاً من الفراغ ، وسد بعضاً من الحاجة .
وبالله المستعان .
أبريل سنة 1952
نظرة
فى
التقنين المدنى الجديد
كيف وضع ، وكيف يكون تفسيره
وما استحدث من أحكام ، وما يرسم من اتجاهات عامة
1- تنقيح التقنين المدنى : كيف قامت فكرة التنقيح ، وكيف حققت .
2- القواعد التى قام عليها التنقيح : كيف عولجت عيوب التقنين القديم – مصادر التنقيح وطرق التفسير فى التقنين الجديد .
3- الفروق الجوهرية ما بين التقنين الجديد والقديم : ما استحدث التقنين الجديد من أحكام ، وما قننه وكان مغمولا به من قبل .
4- الاتجاهات العامة للتقنين الجديد : موقف التقنين الجديد من الاتجاهات العامة للتقنينات الحديثة – التقنين الجديد بين الاستقرار والتطور وبين الفرد والجماعة .
( 1 )
تنقيح التقنين المدنى
( كيف قامت فكرة التنقيح ، وكيف حققت )
1- كيف قامت فكرة التنقيح
1 ) عيوب التقنين المدنى القديم ([1])
العيوب الموضوعية :
يكتنف الظروف التى وضع فيها التقنين المدنى القديم شيء من الغموض ، إذا لم يختلف عنه أعمال تحضيرية تبين لنا كيف وضع ، والظروف التى وضع فيها ، والسياسة التشريعية التى توخيت فى وضعه .
والمعروف أن واضع التقنين المدنى المختلط هو الأستاذ مانوري Manoury . كان محامياً فرنسياً يقيم فى الإسكندرية . واتخذه نوبار باشا أمين سر له . ثم عينه بعد ذلك أمين سر للجنة الدولية التى كانت تدرس مشروع إنشاء المحاكم المختلطة فى مصر ، وعهد إليه فى وضع التقنينات المختلطة فى سنة 1872 ، فانتهى من وضعها فى العام التالى ( سنة 1873 ) .
وقد اقتبس مانورى التقنين المدنى المختلط من التقنين المدنى الفرنسى ، فاختصر هذا التقنين اختصاراً مخلا فى كثير من المواطن . ونقل بعض المسائل عن القضاء الفرنسى وعن التقنين المدنى الإيطالى القديم الذى صدر فى سنة 1866 . ولم يغفل الشريعة الإسلامية فنقل عنها بعض الأحكام . وصدر التقنين المدنى المختلط فى 28 من يونيه سنة 1875 . ثم شكلت لجنة من بعض كبار المترجمين – كان فيهم محمد قدرى ( باشا ) وحسين فخرى ( باشا ) وبطرس غالى ( باشا ) – وقامت اللجنة بترجمة هذا التقنين وسائر التقنينات المختلطة إلى اللغة العربية .
وما لبثت حكومة ذلك العهد ، بعد إذ استقرت المحاكم المختلطة ، أن تطلعت إلى إصلاح القضاء الوطنى وتنظيمه على غرار القضاء المختلط . وكان ناظر الحقانية إذ ذاك محمد قدرى باشا . فتألفت فى أواخر سنة 1880 لجنة لوضع لائحة لمحاكم وطنية نظامية ، كان من بين أعضائها الأستاذ موريوندو Moriondo وهو محام إيطالى عين قاضياً فى محكمة الإسكندرية المختلطة فى سنة 1875 ، وبقى فى القضاء المختلط حتى وصل إلى منصب وكيل محكمة الاستئناف المختلطة ، وتوفى سنة 1911 . وقامت هذه اللجنة بوضع لائحة لترتيب المحاكم الوطنية الجديدة صدرت فى 17 من نوفمبر سنة 1881 . وقام أعضاء اللجنة فى الوقت ذاته بوضع تقنينات لهذه المحاكم ، صيغت كلها على مثال التقنينات المختلطة . وكان من نصيب الأستاذ موريوندو أن يضع التقنين المدنى الوطنى ، فنقله نقلا يكاد يكون حرفياً من التقنين المدنى المختلط . واشترك محمد قدرى باشا مع الأستاذ موريوندو فى وضع هذا التقنين .
ثم شبت الثورة العرابية ، فوقفت حركة الإصلاح القضائى . ولما أخمدت الثورة أعادت الحكومة النظر فى لائحة سنة 1881 ، وأصدرتها معدلة فى 14 من يونيه سنة 1883 . ثم أصدرت التقنين المدنى الوطنى فى 28 من أكتوبر سنة 1883 ، فالتقنينات الخمسة الأخرى فى 13 من نوفمبر سنة 1883 . وقد وضعت هذه التقنينات الوطنية كلها باللغة الفرنسية ، ثم ترجمت إلى اللغة العربية . وقام بالترجمة يوسف وهبه ( باشا ) مسترشداً بترجمة التقنينات المختلطة التى سبقت الإشارة إليها . وراجعت الترجمة لجنة شكلت لهذا الغرض ([2]) .
وقد سجلت قوانين (( الإصلاح )) المختلطة والوطنية فى تاريخ التقنين المصرى مرحلة تقدم واسعة فى العهد الذى صدرت فيه ، وقضت على كثير من مساوئ الماضى . ولكن البلاد بقيت تسير إلى الأمام ، فتطورت المدينة ، واستدار الزمن ، وتقدم فن التقنين ، وأصبحت مصر لا تقنع اليوم بما كانت تقنع به بالأمس ، وأخذت عيوب هذه التقنينات تظهر شيئا فشيئا . وبحسبى أن أشير هنا إشارة موجزة إلى عيوب التقنين المدنى القديم .
وأول ما يعيب هذا التقنين أنه محض تقليد للتقنين الفرنسى العتيق . فجمع بين عيوب التقليد وعيوب الأصل الذى قلده . والتقنين الفرنسى قد قدم به العهد ، وهو اليوم متخلف عن العصر الذى يعيش فيه قرناً ونصف قرن . وفى خلال هذه الأجيال الطويلة ارتقى التقنين المقارن إلى مدى جعل التقنين الفرنسى فى الصف الأخير من التقنينات الحديثة . فهناك مسائل ذات خطر كبير نبتت فى العهود الأخيرة ، ونمت وازدهرت فاحتوتها تقنينات القرن العشرين ، ولا نجد لها أثراً فى التقنين الفرنسى ، وقد ولد فى فجر القرن التاسع عشر ، ولا فى تقنيننا المدنى الذى أخذ عنه . فمبدأ التعسف فى استعمال الحق ، ونظرية الاستغلال ، ونظام المؤسسات ، وتنظيم الملكية فى الشيوع ، وعقود التزام المرافق العامة ،وعقد التأمين ، وحوالة الدين ، والإعسار المدنى ، كل هذه المسائل الخطيرة لا نعثر على نص واحد فيها لا فى التقنين الأصيل ولا فى التقنين المقلد . وحتى فيما احتواه هذان التقنينان من النظريات والأحكام ، نرى الكثير منها ناقصاً مبتورا . ويكفى أن نشير إلى أهم نظرية فى القانون المدنى وهى نظرية الالتزام ، وإلى أهم باب فيها وهو باب المصادر ، حتى يظهر بجلاء أن أحكام العقد والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب وردت فى التقنينين غامضة مقتضبة . فلا نجد فى أحكام العقد شيئاً عن النيابة فى التعاقد ، ولا عن الإرادة المنفردة ، ولا عن عقود الإذعان ، ولا عن الدفع بعدم تنفيذ العقد ، ولا عن الحق فى الحبس ، بل نحن لا نجد فى مسألة من أدق مسائل العقد ، وهى مسألة تكوينه ، إلا صمتا محيرا . فلا نص يبين كيف يصدر الإيجاب ، ومتى يكون ملزماً ، وإلى أى وقت ، وكيف يقترن به القبول ، ومتى وأين يتم التعاقد فيما بين الغائبين . ولا نجد فى المسئولية التقصيرية إلا عدداً قليلا من النصوص تسكت عن أهم المسائل فى هذه المسئولية . أما فى الإثراء بلا سبب فلا يوجد نص واحد يضع القاعدة العامة فى هذا الموضوع الخطير ([3]) .
ولم يقتصر التقنين المصرى على نقل عيوب التقنين الفرنسى ، بل زاد عليها عيوباً من عنده . وهو إذا كان قد تجنب عيوب هذا التقنين فى بعض المسائل ، كما فعل فى ترتيبه لمصادر الالتزام وفى عيوب الرضاء والهبة المستترة والتضامن فى المسئولية التقصيرية والمصروفات الفاحشة فى بيع الوفاء وامتياز المقاول من الباطن ، إلا أن ما زاده من العيوب أربى بكثير على ما تجنبه منها .
ففى تقنيننا المدنى القديم فضول واقتضاب . وفيه غموض وتناقض . ثم هو يقع فى كثير من الأخطاء الفاحشة .
أما أن التقنين القديم فه فضول واقتضاب فيكفى أن نتصفحه لنتبين ذلك فى وضوح . فهو فى حق الملكية ، أهم الحقوق العينية ، يقتصر على نصين اثنين ، يتحدث فى الثانى منهما عن حق المؤلف ويحيل فيه إلى قانون خاص . وهو مع ذلك يتناول حق الانتفاع ، أقل الحقوق العينية خطراً وأضيقها انتشاراً فى مصر ، فإذا به يفيض فى نصوصه إفاضة لا يفسرها إلا أنه يقلد التقنين الفرنسى تقليداً أعمى ، حيث حق الانتفاع فى فرنسا من الحقوق العينية الواسعة الانتشار بسبب قانون الميراث . ثم هو فى نظرية الالتزام يفيض فى المسائل التى لا حاجة للإفاضة فيها كما فعل فى الالتزامات التخييرية والالتزامات التى يكون القانون مصدرها ، ويقتضب فى المسائل التى هي فى أشد الحاجة إلى البيان والتفصيل كما فعل فى تكوين العقد وفى الاشتراط لمصلحة الغير وفى الدعوى البوليصية وفى المسئولية التقصيرية وفى الإثراء بلا سبب .
وفى التقنين القديم غموض وتناقض . يتفشى الغموض فى كثير من نصوصه الجوهرية . ويكفى الرجوع إلى النصوص المتعلقة بالدعوى غير المباشرة والدعوى البوليصية والالتزام الطبيعى والشرط الجزائى والمحل والسبب والاشتراط لمصلحة الغير والتضامن وعمل الفضولى والحيازة ، لنتبين أن هذه النصوص قلقة غامضة لا تخلص إلى معنى مستقر ثابت . أما التناقض ما بين أحكام التقنين القديم فهو أمر غير نادر الوقوع . إذ بينما يحمل المشترى تبعة الهلاك فى بيع المثليات قبل التسليم ، نرى البائع هو الذى يحمل هذه التبعة بوجه عام . وقد ساير التقنين القديم التقنين الفرنسى فى الأولى ،ونقل عن الشريعة الإسلامية فى الثانية . وبينما لا يجوز للمدين المتضامن أن يتمسك بالمقاصة التى وقعت لغيره من المدينين المتضامنين ، إذا به يجوز له أن يتمسك بها بقدر حصته فى الدين . وفى الوقت الذى يجيز فيه التقنين القديم الاشتراط لمصلحة الغير دون قيد ، إذا به يقرر فى عبارة عامة وفى غير احتراز أن العقود لا تترتب عليها منفعة لغير عاقديها . وينزل بالحد الأقصى للفوائد الاتفاقية إلى 9 فى المائة ، ولكنه يرتفع به فى عقد القرض إلى 12 فى المائة . ولم يسلم التقنين المدنى الوطنى من أن يتناقض فى بعض أحكامه مع التقنين المدنى المختلط . فالتقنين الوطنى يشترط فى حوالة الحق رضاء المدين ، ويكتفى التقنين المختلط بإعلانه . ويبيح التقنين الوطنى بيع المحصولات قبل أن تنبت ، ويحرم التقنين المختلط هذا البيع . ويجعل التقنين الوطنى أقصى مدة الاسترداد فى بيع الوفاء خمس سنين ، وينقص التقنين المختلط هذه المدة إلى سنتين .
وهناك سلسلة من الأخطاء وقع فيها التقنين القديم . منها أنه أغفل أهم شرط فى التملك بالتقادم القصير ، وهو شرط حسن النية . ونقل أحكام بيع المريض مرض الموت عن الشريعة الإسلامية فوقع فى غلطتين : نظر إلى مال البائع وقت البيع والصحيح أن ينظر إليه وقت الموت ، وقضى بأن العبرة بقيمة المبيع والصحيح أن العبرة بالقدر المحابى به . وقرر أحكاماً غريبة فى النفقات نقلها عن القانون الفرنسى وهى تتنافر مع أحكام الشريعة الإسلامية ، فجعل الزوجة تنفق على زوجها ، بل تنفق على زوجة أبى زوجها . وذكر أن ملكية المبيع المعين بالنوع تنتقل بالتسليم ، والصحيح أنها تنتقل بالتعيين . وجعل الشرط الجزائى التزاماً تخييرياً ، والصحيح أنه يخرج من نطاق الالتزامات التخييرية . ورتب على الوفاء مع الحلول أن الدين ينقضى ويحل محله دين جديد ، والصحيح أن للدين يبقى مع انتقاله إلى دائن جديد . وزعم التقنين المدنى المختلط أن القسمة منشئة للحق ، والصحيح أن القسمة كاشفة لا منشئة .
العيوب الشكلية :
وفى التقنين القديم – إلى هذه العيوب الموضوعية – عيوب شكلية ترجع إلى تبويبه وإلى ازدواج لغته . فتبويبه واضح العيوب . إذ هو يجمع فى كتاب أول بين الأموال والحقوق العينية الأصلية ، وكان الواجب فصل الأموال عن الحقوق العينية ، فالأموال محل للحقوق العينية وللحقوق الشخصية على السواء . ويفصل فى كتابين مستقلين بين نظرية الالتزام والعقود المسماة ، ولا محل لهذا الفصل فالعقود المسماة تتصل بنظرية الالتزام أوثق الاتصال . ويخصص كتاباً رابعاً لما يسميه بحقوق الدائنين ، ويخلط فيه بين التأمينات العينية وإثبات الحقوق العينية ودفاتر التسجيل ، بل هو لا يذكر من التأمينات العينية الرهن الحيازى ويورده دون غيره فى العقود المسماة . ولا يشتمل على باب تمهيدى لمصادر القانون ولتطبيقه فى الزمان والمكان ، ولغير ذلك من المسائل العامة .
وعيوب التبويب التفصيلى لا تقل عن عيوب التبويب العام . ففى الكتاب المخصص للحقوق العينية الأصلية نرى قيود الملكية واردة على أنها حقوق ارتفاق ، ولا نرى أثراً للملكية فى الشيوع ولا للقسمة إلا بعيداً عن هذا الكتاب فى المكان المخصص للشركات وفى قانون المرافعات ( م 621/711 مرافعات ) . ونرى قاعدة جوهرية كالقاعدة التى تقضى بأن الحيازة فى المنقول سند الملكية موزعة توزيعاً غريباً بين التملك بالعقد ( م 46/68 ) والتملك بالتقادم ( م 86-87 /115 – 116 ) وإثبات الحقوق العينية ( م 607 – 608/ 733-734 ). وليس ثمة أثر لأي ترتيب منطقى أو عملى لوحظ فى تسلسل أسباب كسب الملكية .وفى الكتاب الثانى المخصص لنظرية الالتزام نرى نظرية الالتزام فى ذاته مشطورة شطرين توسطت بينهما أبواب ثلاثة خصصت لمصادر الالتزام . فالباب الأول من هذا الكتاب يتناول أثر الالتزام وما يدخل عليه من أوصاف . والباب الثانى يتناول أول مصادر الالتزام وهو العقد . والباب الثالث يخلط بين مصدرين مستقلين كان الواجب فصل أحدهما عن الآخر ، وهما الإثراء بلا سبب والعمل غير المشروع . والباب الرابع يفيض فى المصدر الأخير للالتزام وهو القانون ، مع أن هذا المصدر هو أقل المصادر حاجة إلى الانفراد بباب مستقل ، بله الإفاضة فى نصوصه . ثم يعود الباب الخامس إلى نظرية الالتزام فى ذاته ، فيتناول أسباب انقضائه ويرتبها ترتيباً غير منطقى . ويمضى الباب السادس فى إثبات الالتزام . أما انتقال الالتزام – ولا يعرف القانون القديم منه إلا حوالة الحق دون حوالة الدين – فلا تراه فى هذا الكتاب أصلا ، وإنما تجده منزوياً فى الفصل الأخير من فصول عقد البيع . وفى الكتاب الثالث الذى خصص للعقود المسماة تجد هذه العقود قد وردت واحداً بعد الآخر فى غير ترتيب واضح . فيأتى بعد البيع الإيجار وهو يمزج ما بين إيجار الأشياء وعقد المقاولة وعقد العمل . ثم يرد عقد الشركة فعقد العارية ويمتزج فيه القرض بعارية الاستعمال . وهكذا تتابع العقود دون ترتيب ، فتخلص من الوديعة إلى الكفالة، ثم إلى الوكالة ، فالصلح ، فرهن الحيازة ، فالغاروقة ! أما الكتاب الرابع فقد قدمنا أنه مزيج غريب يجمع ما بين حق الدائن العادى فى التنفيذ على أموال مدينه ، ومن ثم ترد إشارة إلى الدعوى البوليصية (م 556/680 ) ، والتأمينات العينية ، وهذه لا ترد كاملة ، فالرهن الحيازى يرد فى العقود المسماة كما رأينا ، وقواعد التسجيل القديمة ، وترد تحت عنوان إثبات الحقوق العينية ، ثم أحكام تفصيلية فى دفاتر التسجيل .
وليس الأمر مقصوراً على التبويب العام والتبويب التفصيلى ، فإن الترتيب الداخلى لأحكام كل باب وكل فصل لم يراع فيه تسلسل منطقى أو اعتبار عملى ، ولا حاجة للخوض فى ذلك .
أما ازدواج لغة التقنين القديم فأمره مشهور . وضع هذا التقنين فى الأصل باللغة الفرنسية ، ثم ترجم إلى اللغة العربية ، فكان من ذلك أن وجد أمام المحاكم الوطنية نص أصلى – يقابله نص رسمى ، وكثيراً ما يتناقض النصان . مثل ذلك التدليس ، يشترط النص العربى أن يكون صادراً من أحد المتعاقدين ولا يشترط النص الفرنسى ذلك ، والصحيح هو النص الفرنسى ، فقد أراد المشرع المصرى أن يتجنب عيباً فى القانون الفرنسى بأن يجعل التدليس الصادر من الغير كالإكراه الصادر من الغير عيباً فى الرضاء . وإعذار المدين ، يقرر النص العربى أن الإنذار فيه يجب أن يكون رسمياً ولا يتطلب النص الفرنسى ذلك ، والصحيح هنا هو النص العربى . والوفاء مع الحلول ، لا يشير النص العربى فيه إلى دين جديد يحل محل دين قديم ويصرح النص الفرنسى بذلك ، والصحيح هنا أيضاً هو النص العربى . واسترداد الحصة الشائعة ، لا يشترط النص العربى فى الشركاء أن يكونوا أصليين ويشترط ذلك النص الفرنسى ، والصحيح هو النص الفرنسى ([4]) . فأنت ترى قدر الاضطراب الذى يقع من ازدواج لغة التشريع ومن عدم اضطراد القاعدة فى الأخذ بأى النصين ، فتارة يؤخذ بالنص العربى ، وأخرى بالنص الفرنسى . هذا إلى أن الترجمة العربية ، وهى النص الرسمى ، يقع كثيراً أن تكون ترجمة خاطئة لم تتحر الدقة فيها ([5]) .
ب ) التنقيح الشامل :
هذه هى عيوب التقنين القديم أشرنا فى إيجاز لأن الكثير منها معروف . وتقنين على هذا القدر من العيوب لا يجوز التردد فى القول بوجوب تنقيحه ، وبتنقيحه تنقيحاً شاملاً . فالتنقيح الجزئي لا يجدى فى إصلاح عيوب انتشرت فى جميع ثنايا التقنين ، وشاعت فى كل أجزائه . وقد كان التنقيح الشامل هو المبدأ المقرر فى جميع اللجان التى توالت على تنقيح هذا التقنين ، يبرز هذا فى وضوح من الرجوع إلى أعمال هذه اللجان ، ومن الرجوع إلى المذكرة الرسمية التى كانت أصلا فى تأليف اللجان جميعاً .
والتقنينات متى قدمت ، وطال بها العهد ، واختلف عليها الزمن ، لا يجدى فيها الترفيع . وبحسبك أن تنظر إلى التقنين المدنى النمساوى ، وقد وضع فى سنة 1810 ، ثم نقح تنقيحاً جزئياً فى أوائل الحرب العالمية الأولى ، تراه رثاً مهلهلا يطالعك فيما بين ثناياه القديمة البالية بقطع مرقعة تلمح فيها الجدة ، فتعجب من هذا الازدواج الغريب ما بين القديم والجديد ، ويفجؤك منه ضروب من المفارقات وانعدام التنسيق والانسجام . وهذا هو السر فى عدم انتشاره وجهل الناس به ، مع أنه من أهم التقنينات الجرمانية . ويكفى أن تقارن بينه وبين التقنينين الجرمانيين الآخرين ، الألمانى والسويسرى ، حتى تتبين أنهما يبزانه كثيراً فى التماسك والانسجام ، وإحكام الحبك ، وكمال الصنعة .
وقد عمد واضعو المشروع الفرنسى الإيطالى إلى التنقيح الشامل دون التنقيح الجزئى ، فطلعوا على الناس بأثر تشريعى جليل . وهكذا صنع الإيطاليون عند ما نقحوا تقنينهم المدنى فى العهد الأخير ، فجاء تنقيحهم شاملا جامعاً . وهذا هو ما اعتزم الفرنسيون أن يصنعوا ، فهم اليوم ينقحون تقنينهم المدنى العتيق تنقيحاً شاملا ، بدأوا العمل فيه منذ سنة 1945 – فإذا كان كل من التقنين الإيطالى والتقنين الفرنسى فى هذه الحاجة إلى التنقيح الشامل ، وقد نقح أولهما فعلا وأخذ الثانى طريقه إلى التنقيح ، فما أولى التقنين المصرى بالتنقيح الشامل وهو الذى جمع إلى عيوبه الذاتية عيوب الأصل الذى حاكاه .
والآن وقد تم التنقيح ، واستوى التقنين الجديد متخذاً مكانه بين التقنينات الحديثة ، أيريبك منه أن جاء تنقيحه تنقيحاً شاملاً ؟ وهل كان يجدى فيه التنقيح الجزئي ؟ وأين كانت النصوص الجديدة تجد مكانها بين نصوص التقنين القديم ، وهى لا تقل فى العدد عن هذه ، وكلها بين نص واضح الضرورة ونص محقق النفع ؟ ثم أما كان التنقيح الجزئى يفرض بقاء التقنين على تقسيمه القديم بما حواه من عيوب ، وعلى تبويه الأصلى بما شابه من نقص ، وعلى ترتيبه المعهود بما اعتوره من خلل ! ([6]) .
جـ ) الظروف التى نبتت فيها فكرة التنقيح :
نبتت فكرة تنقيح التقنين المدنى منذ عهد بعيد . وقد كان التقنين القديم منذ صدوره محلا لتعديلات جزئية متفرقة ([7]) .
وألفت لجنة أثناء الحرب العالمية الأولى للنظر فى إلغاء الامتيازات الأجنبية ، وكان فيما فكرت فيه تنقيح القانون المدنى .
على أن التنقيح الشامل لم يكن محلا للتفكير فى تلك العهود . ولكن التطورات العميقة التى ساقها الحرب العالمية الأولى ما لبثت أن جعلت هذه المسألة الخطيرة تطرح على بساط البحث . فناقشها كبار المشتغلين بالقانون المصرى من الأجانب فى ذلك الوقت ، نذكر منهم أربعة : الأستاذ بيولاكازيللى ([8]) والأستاذ مسينا ([9]) والأستاذ والتون ([10]) والأستاذ بواييه ([11]) . فكان الأولون من خصوم التنقيح الشامل ، والأخيران من أنصاره ([12]) .
وأول تصريح رسمى حاسم فى اعتزام الحكومة تعديل التقنين المدنى والتقنينات الأخرى تعديلا شاملا ورد فى الخطاب الذى ألقاه وزير الحقانية فى عيد الاحتفال الخمسينى بالمحاكم الوطنية فى سنة 1933 ([13]) . وعلى أثر ذلك انطلق الشعور العام الذى كان سائدا فى ذلك الوقت بين رجال القانون من المصريين ، فنادوا بوجوب تنقيح التقنين المدنى تنقيحاً شاملاً ([14]) .
ثم توالت الأحداث السياسية ، وأخذت الحرب العالمية الثانية تقترب ، ومال الإنجليز إلى عقد معاهدة مع مصر استعداداً لهذه الحرب . وقبل أن تعقد معاهدة سنة 1936 ، توقعت الوزارة التى كانت قائمة فى الحكم إذ ذاك – وزارة على ماهر باشا – أن هذه المعاهدة لابد أن تعرض للامتيازات الأجنبية ، وأن تقضى بإلغائها . فقدرت بحق أن إلغاء هذه الامتيازات يقتضى تعديل التقنينات المصرية التى وضعت على عجل وقت إنشاء المحاكم المختلطة ، ونقلت نقلا يكاد يكون حرفياً إلى المحاكم الوطنية عند إنشائها . فأخذت للأمر أهبته ، وشكلت لجنتين ، إحداهما لتعديل التقنين المدنى والتقنين التجارى وتقنين المرافعات ، والأخرى لتعديل التقنين الجنائى وتقنين الإجراءات الجنائية .
2 – كيف حققت فكرة التنقيح
( اللجان التى تعاقبت على تنقيح القانون المدنى )
اللجنة الأولى :
وكل إذن إلى إحدى اللجنتين اللتين أشرنا إليهما تنقيح القانون المدنى تنقيحاً شاملا . وكانت هذه اللجنة برياسة مراد سيد أحمد باشا ، وأعضاؤها سبعة غير الرئيس ([15]) وقد شكلت بقرار من مجلس الوزراء صدر فى أول مارس سنة 1936 . وحدد المجلس عامين للجنة لكى تتم فى خلالهما أعمالها ، واشترط تفرغ أعضاء اللجنة ومعاونيهم للمهمة التى نيطت بهم تفرغاً تاماً فى نظير مكافآت مالية تعوضهم عن جهودهم .
وعقدت اللجنة الأولى في المدة ما بين 21 من مارس سنة 1936 ، تاريخ افتتاح عملها الرسمى ، و 26 من مايو سنة 1936 ، تاريخ حلها ، عشر جلسات وزعت فى خلالها العمل على الأعضاء ، وانتهت إلى إقرار بعض النصوص التمهيدية فى القانون المدنى على أساس المشروع الذى تقدم به الأستاذ لينان دى بلفون أحد أعضائها ، وهى تتعلق بمصادر القانون وبتنازع القوانين . وقد استبقى المشروع التمهيدى للقانون المدنى الجديد من هذه النصوص أربعة هى المواد الأولى فيه ، وكذلك استبقى مشروعاً قدمه للجنة الأستاذ لينان دى بلفون فى الأشخاص المعنوية والجمعيات والمؤسسات بعد إدخال بعض تعديلات فيه .
ولكن اللجنة الأولى لم تكد تقضى فى عملها شهرين حتى صدر قرار من مجلس الوزراء فى 26 من مايو سنة 1936 بحلها اقتصاداً فى النفقات ! وكان ذلك على أثر تغير الوزارة . وقد أنجزت هذه اللجنة – عدا النصوص التمهيدية فى القانون المدنى التى سبقت الإشارة إليها – ما يقرب من ثمانين مادة من القانون التجارى تتعلق كلها بالكمبيالة وأوراق الصرف ([16]) .
اللجنة الثانية :
وبقى العمل معطلا بعد حل اللجنة الأولى إلى أن صدر فى 20 من نوفمبر سنة 1936 قرار من مجلس الوزراء بتشكيل اللجنة الثانية برياسة كامل صدقى ( باشا ) ومعه عشرة أعضاء ([17]) ، على أسس تغاير الأسس التى قامت عليها اللجنة الأولى ، فلم تحدد لنهاية العمل مدة وألغى نظام التفرغ والمكافآت . وقد خرج من اختصاص هذه اللجنة قانون المرافعات المدنية ، وعهد إليها فضلا عن القانون المدنى وقانون التجارة البرى والبحرى ، وبوضع قانون الأحوال الشخصية لغير المسلمين .
وعقدت اللجنة الثانية فى المدة ما بين 20 من نوفمبر سنة 1936 تاريخ تشكيلها و 21 من يونيه سنة 1938 تاريخ حلها ما يقرب من عشرين جلسة ، انتهت فيها إلى الموافقة على النصوص التمهيدية والنصوص المتعلقة بالموطن والشفعة والكفالة . وقد استبقى المشروع التمهيدى للقانون المدنى الجديد من هذه الأعمال النصوص المتعلقة بالشفعة بعد مراجعتها والنصوص المتعلقة بالكفالة بعد إدخال تعديلات جوهرية فيها ([18]) .
اللجنة الثالثة والأخيرة :
وفى 16 من يونية سنة 1938 تقدم وزير العدل أحمد خشبة باشا – وكانت الوزارة قد تغيرت – بمذكرة إلى مجلس الوزراء أبان فيها أن تجاه المشتغلين بصناعة التشريع يكشف عن ضعف إيمانهم بصلاحية نظام اللجان للبدء بأعمال التقنين ، كما أن التجربة فى أكثر البلاد تقطع بفسادها وبأفضلية إسناد مهمة وضع التقنين إلى أحد رجال القانون ، حتى إذا فرغ من وضع مشروع تمهيدى طرح هذا المشروع على الرأى العام ، فإذا اجتمعت ملاحظات الأفراد والهيئات عليه عهد به إلى لجنة تتولى مناقشته وتقويم عوجه . واقترح وزير العدل أن يعهد فى وضع المشروع التمهيدى للقانون المدنى إلى اثنين من المشتغلين بالقانون يختار أحدهما من المصريين والآخر من الأجانب ، على أن يتفرغا لعملهما ويتماه فى مدى ستة شهور .
وفى 21 من يونية سنة 1938 وافق مجلس الوزراء على ما جاء بمذكرة وزير العدل ، فحلت اللجنة الثانية بهذا القرار . وفى 28 من يونيه سنة 1938 أصدر وزير العدل ، تنفيذاً لقرار مجلس الوزراء ، قراراً بإسناد مهمة وضع المشروع التمهيدى للقانون المدنى لاثنين من رجال القانون ، أحدهما الأستاذ إدوار لامبير من أكبر رجال الفقه فى فرنسا ، والثانى مؤلف هذا الكتاب ([19]) .
وإلى هذا الإجراء الحكيم الذى اتخذه وزير العدل – لجنة قليلة العدد لا تجاوز اثنين تتفرغ لعملها تفرغاً تاماً ([20]) – يرجع الفضل فى إنجاز المشروع التمهيدى فى قرابة عامين ، وقد بلغت مواد هذا المشروع 1591 مادة ، وتم طبعه فى سنة 1942 ([21]) . وعرضته وزارة العدل للاستفتاء على رجال القضاء وأساتذة القانون ومختلف الهيئات القانونية والمالية ، وظل معروضا للاستفتاء زهاء ثلاث سنوات ([22])
وفى 29 من مارس سنة 1945 شكلت لجنة برياسة مؤلف هذا الكتاب وعضوية أربعة من رجال القانون ([23]) ، تعاونها هيئة فنية ([24]) ، لمراجعة المشروع فى ضوء ما تم من الاستفتاء وما قدم من الملاحظات . وحدد لها موعد ستة أشهر لإنجاز مهمتها . وقد عقدت لجنة المراجعة هذه أولى جلساتها فى أول أبريل سنة 1945 وانتهت من مراجعة المشروع التمهيدى فى 21 من نوفمبر سنة 1945 .
وأرسل المشروع النهائى إلى مجلس الوزراء فى 22 من نوفمبر سنة 1945 ([25]) ، وهو يشتمل على 1253 مادة ([26]) ، وصدر مرسوم بعرضه على البرلمان فى 4 من ديسمبر سنة 1945 ([27]) .
وعرض المشروع على مجلس النواب ، بعد أن أحيل على (( لجنة الشؤون التشريعية )) برياسة حضرة النائب المحترم علي أيوب بك وكيل المجلس ([28]) ، فأقره ، وقد استغرق نظره بالمجلس ولجنته التشريعية زهاء ستة شهور ، من 17 ديسمبر سنة 1945 إلى 27 مايو سنة 1946 ([29]) .
وأحيل المشروع بعد ذلك إلى مجلس الشيوخ ، فقرر فى 3 من شهر يونية سنة 1946 إحالته إلى لجنة خاصة سميت لجنة القانون المدنى ، برياسة حضرة الشيخ المحترم محمد محمد الوكيل بك وكيل المجلس ([30]) . ودرست اللجنة المشروع دراسة مستفيضة مدة عامين ، استمعت فى خلالهما إلى كثير من الآراء تقدمت إليها من جهات مختلفة ([31]) .
وأحالت المشروع بعد أن أقرته إلى مجلس الشيوخ ([32]) فأقره المجلس فى 28 من شهر يونيه سنة 1948 ([33]) . وأحيل ثانية إلى مجلس النواب لإقرار التعديلات التى رأى مجلس الشيوخ إدخالها ، فأقرها مجلس النواب فى 5 من شهر يولية سنة 1948 .
وفى 16 من شهر يوليه سنة 1948 صدر المرسوم بالتصديق عليه وإصداره . ونشر فى الجريدة الرسمية بتاريخ 29 من شهر يوليه سنة 1948 على أن يعمل به ابتداء من 15 أكتوبر سنة 1949 ، أي من اليوم الذى توحد فيه القضاء المصرى بزوال النظام المختلط ، وبلغ عدد مواده 1149 مادة ([34]) .
وفى 24 من شهر أكتوبر سنة 1948 صدر قرار وزير العدل بتشكيل لجنة برياسة الأستاذ سليمان حافظ بك وكيل وزارة العدل وعضوية تسعة من رجال القانون ([35]) لجمع الأعمال التحضيرية للتقنين المدنى الجديد ونشرها على جمهور المشتغلين بالقانون .
وقد أنجزت اللجنة مهمتها ، بعد أن جمعت المذكرة الإيضاحة للمشروع التمهيدى والمحاضر والتقارير المختلفة([36]) ، ووزعت ما ورد فى هذه الوثائق على نصوص التقنين .
ووقعت مجموعة الأعمال التحضيرية فى أجزاء سبعة ([37]) ، هى التى ننقل عنها فى هذا الكتاب ما نرى ضرورة الإشارة إليه من هذه الأعمال ([38]) .
(2)
القواعد التى قام عليها التنقيح
كيف عولجت عيوب التقنين القديم – مصادر التنقيح وطرق التفسير
فى التقنين الجديد
1- كيف عولجت عيوب التقنين القديم
( استعراض عالم للتقنين الجديد )
كان الهم الأول لواضعى التقنين الجديد هو أن يعالجوا عيوب التقنين القديم سواء فى الشكل أو فى الموضوع .
1- كيف عولجت العيوب الشكلية :
رأينا أن التقنين القديم كان معيباً فى تبويبه ، ومعيباً فى ازدواج لغته وضعف أسلوبه . فلننظر كيف عولجت هذه العيوب فى التقنين الجديد .
( أولاً ) التبويب :
مشتملات التقنين الجديد : كان الأمر الأول الذى نظر فيه واضعو المشروع ، وهم يستفتحون عملهم ، هو أن يبحثوا كيف يكون تقسيم التقنين الجديد ، وكيف يبوب ، وكيف ترتب نصوصه فى كل باب ، وبتعبير آخر : ما هى الخطة Plan التى يوضع التقنين الجديد على مقتضاها . وذلك بعد أن وضح أن الخطة التى قام عليها التقنين القديم ، بما تحويه من عيوب وما يشوبها من نقص ، لا تصلح أن يقوم عليها التقنين الجديد .
ولكنهم ما لبثوا أن تبينوا أن هذا السؤال يسبقه سؤال آخر ، هو : أيشتمل التقنين الجديد على كل موضوعات القانون المدنى ، فيحتوى قانون الأسرة كما يحتوى قانون المعاملات ؟ قامت صعوبات واضحة حالت دون أن يندرج فى التقنين الجديد أحكام الأسرة ، فإن هذه الأحكام ليس مصدرها فحسب الشريعة الإسلامية ، بل إن لها مصادر أخرى دينية ، وهى لم توحد فى كل أجزائها بالنسبة إلى جميع المصريين . وحدت فى أحكام الصغير والمحجور ، ووحدت إلى حد كبير فى أحكام الميراث والوصية ، ولكنها لم توحد فى الزواج والطلاق والنسب . فرأى واضعو المشروع ألا يربكوا التقنين المدنى الجديد بعقبات يتعذر تذليلها ، واعتزموا الاقتصار على أحكام المعاملات . واستظهروا فيما رسموه لأنفسهم من ذلك اتجاهات واضحة بدت فى كثير من التقنينات الحديثة . فهذا التقنين البولونى ، والتقنين اللبنانى، والتقنين السوفييتى فى المعاملات ، بل والتقنين السويسرى فى الالتزامات ، وكلها من أحدث التقنينات وأشهرها ، لم يندرج فيها قانون الأسرة ، وظل هذا القانون وحده ، أو هو وقانون الحقوق العينية ، منفصلا عن سائر أجزاء القانون المدنى . فلا تثريب إذن على واضعى التقنين الجديد إذا هم أبقوا قانون الأسرة منفصلا ، وملابسات هذا القانون معروفة([39]) .
قسم عام للتقنين الجديد : وإذ رسم واضعو التقنين الجديد حدود هذا التقنين ومدى ما يشتمل عليه من موضوعات ، برز أمامهم سؤال جديد فرضته سياسة التقسيم والتبويب . فهل يكون للتقنين الجديد قسم عام على غرار هذا القسم الذى اشتمل عليه التقنين الألمانى ، وسايره فيه كثير من التقنينات الحديثة ؟ كان أمام واضعى التقنين الجديد مثلان متعارضان : مثل التقنين الألمانى وما تبعه من تقنينات أخرى ، ومثل التقنين الفرنسى وسائر التقنينات اللاتينية .
فالتقنينات اللاتينية لا تشتمل عادة على قسم عام ، وإنما تجتزئ بفصل تمهيدى قصير يتناول مصادر القانون وبعض قواعد موجزة فى تنازع القوانين أما التقنين الألمانى فقد حوى قسما عاما مسهبا اشتمل على مائتين وأربعين نصا ، تناول فيها كثيراً من الموضوعات العامة ، وخصص كثيراً من هذه النصوص لنظرية العمل القانونى ( acte juridique ) فعرض فيها لتفصيلات كثيرة مما يندرج عادة فى النصوص الخاصة بالعقد . وكذلك فعل التقنين الصينى ، وقد اشتمل قسمه العام على 152 مادة . وحذا حذو التقنين الألمانى التقنين الأرجنتينى ( 331 مادة ) والتقنين البرازيلى ( 174 مادة ) وتقنين السوفييت ( 51 مادة ) . وهذه التقنينات جميعها تناولت فى هذا القسم العام جانباً من المسائل العامة كمصادر القانون والتعسف فى استعمال الحق والشخص الطبيعى والشخص المعنوى وتقسيم الأموال ، وأضافت إلى ذلك نصوصاً كثيرة فى نظرية العمل القانونى .
لم يتردد واضعو التقنين الجديد طويلا بين هذين المثلين . فقد رأوا أن مثل التقنينات اللاتينية من حيث الاكتفاء بفصل قصير فى الأحكام العامة لم يعد هو المثل المتبع فى التقنينات الحديثة . ولكنهم لم يأخذوا بمثل التقنين الألمانى كاملا ، ولم يدرجوا فى القسم العام نصوصاً تتناول أحكام العمل القانونى . فإن أصلح مكان لهذه النصوص فى تقنين ذى صبغة عملية هو الفصل الذى يخصص للعقد . ذلك أن العقد هو أهم الأعمال القانونية . فإذا ذكرت أحكامه فى القسم العام بعنوان العمل القانونى ، أصبح واضعو المشروع بين أن يغفلوا هذه الأحكام فى الفصل المخصص للعقد ، فيفقد هذا الفصل أهم الأحكام التى تندرج عادة فيه ، وبين أن يعيدوا ذكرها ، فيكون هذا تكراراً لما سبق . والخطة العملية فى ذلك هو أن تذكر هذه الأحكام فى الفصل المخصص للعقد ، ويحال عليها فيما يخص الأعمال القانونية الأخرى . هكذا فعل تقنين الالتزامات السويسرى ، وقد آثر التقنين الجديد مسايرته فى هذه الخطة العملية الحكيمة ([40]) .
وما كان بعد ذلك من مسائل عامة فقد احتواها الباب التمهيدى للتقنين الجديد . ويشتمل هذا الباب على ثمانية وثمانين نصا ، تناولت فى الفصل الأول منها القانون وتطبيقه ، فعددت مصادر القانون ، وقررت مبدأ التعسف فى استعمال الحق ، وذكرت الوقاعد الخاصة بتنازع القوانين من حيث الزمان ومن حيث المكان . وتناولت فى الفصل الثانى الأشخاص ، ففصلت أحكام الشخص الطبيعى وأحكام الشخص المعنوى بما يندرج فيه من جمعيات ومؤسسات . وخصصت الفصل الثالث لتقسيم الأشياء والأموال .
التقسيم الرئيسى للقانون الجديد : وبعد أن فرغ واضعو التقنين الجديد من تحديد مشتملات الباب التمهيدى ، كان عليهم أن يرسموا للتقنين تقسيماته الرئيسية . وقد توخوا فى هذا التقسيم أن يعالجوا عيوب التقنين القديم . فقد قدمنا :
( أولاً ) أن التقنين القديم جمع فى الكتاب الأول بين الأموال والحقوق العينية الأصلية ، وكان الأولى فصل هذه عن تلك ، فإن الأموال تكون محلا للحقوق العينية الحقوق الشخصية على السواء . وهذا ما فعله التقنين الجديد . فقد وضع تقسيم الأموال فى الباب التمهيدى ، فهيأ بذلك للفكرة الصحيحة من أن المال يصلح محلا للحقوق المالية كافة .
( ثانياً ) أن التقنين القديم فصل فى قسمين مستقلين نظرية الالتزام عن العقود المسماة ، ولم يكن هناك محل لهذا الفصل ، فالعقود المسماة إنما هى تطبيق من تطبيقات نظرية الالتزام . وقد توخى التقنين الجديد أن يجمع بين نظرية الالتزام والعقود المسماة فى قسم واحد ، جعله القسم الأول من التقنين . والبدء بنظرية الالتزام فى التقنين الجديد هو خير من البدء بالحقوق العينية الأصلية فى التقنين القديم . فإن نظرية الالتزام هى مفتاح القانون المدنى ، بل هى مفتاح القانون بوجه عام . فالبدء بها أمر تستوجبه البداهة ، وتقتضيه طبيعة الأشياء .
( ثالثا ) أن التقنين القديم خلط فى كتابه الرابع ، الذى عنونه بحقوق الدائنين ، بين التأمينات العينية وإثبات الحقوق العينية ودفاتر التسجيل . وقد تجنب التقنين الجديد هذا الخلط ، فترك إثبات الحقوق العينية ودفاتر التسجيل لقانون خاص هو قانون الشهر العقارى ، توقعاً للإصلاح الجوهرى الذى سيتم فى هذا الموضوع بعد إدخال السجل العقارى . واستبقى من هذه الموضوعات التأمينات العينية ، فجعلها بعنوان الحقوق العينية التبعية فى كتاب رابع ، يجئ بعد الكتاب الثالث فى الحقوق العينية الأصلية . وجمع بين الكتابين فى قسم واحد – هو القسم الثانى – لما بينهما من الصلة الوثيقة . وأورد التأمينات العينية كاملة ، فأدرج فيها رهن الحيازة على خلاف ما فعل التقنين القديم ، وحذف منها الحبس إذ لم يعتبره حقا عينيا .
ويخلص من ذلك أن التقسيم الرئيسى للتقنين الجديد يفضل كثيراً من ناحية المنطق تقسيم التقنين القديم . فالتقنين الجديد يبدأ بباب تمهيدى . ثم ينقسم إلى قسمين ، أحدهما للحقوق الشخصية ، والثانى للحقوق العينية . ويتجزأ القسم الأول إلى كتابين ، أحدهما لنظرية الالتزام ، والثانى للعقود المسماة . وكذلك يتجزأ القسم الثانى إلى كتابين آخرين ، أحدهما للحقوق العينية الأصلية ، والثانى للحقوق العينية التبعية .
التبويب التفصيلي للتقنين الجديد : وفى تبويب الأقسام الرئيسية ، يفضل التقنين الجديد التقنين القديم .
فالكتاب الأول من التقنين الجديد ، الذى خصص لنظرية الالتزام ، لوحظ فى تبويبه تجنب العيوب التى وقع فيها التقنين القديم . وقد تقدم أن هذا التقنين بدأ بنظرية الالتزام فى ذاته ، ثم تركها ، قبل أن يفرغ منها ، إلى مصادر الالتزام . فتناول العقد ، ثم جمع بين مصدرين مستقلين كان الواجب فصل أحدهما عن الآخر ، هما العمل غير المشروع والإثراء بلا سبب ثم هو ، بعد أن يفرغ من مصادر الالتزام ، يعود إلى نظرية الالتزام فى ذاته ، فيتناول أسباب انقضائه ، ويورد هذه الأسباب فى غير ترتيب منطقى ثم يختم نظرية الالتزام بباب مشوش فى طرق إثباته . ويترك انتقال الالتزام – ولا يعرف منه إلا إحدى صورتيه – إلى جهة منزوية فى الفصل الأخير من عقد البيع . أما التقنين الجديد فيبوب الكتاب الأول فى نظرية الالتزام تبويباً منطقياً عملياً فى وقت واحد ، فيجعل الباب الأول من هذا الكتاب لمصادر الالتزام . ويورد هذه المصادر مرتبة ترتيباً علمياً حديثاً فيبدأ بالعقد ، ويتناول أركانه فآثاره فانحلاله . وينتقل بعد ذلك إلى الإرادة المنفردة ([41]) فالعمل غير المشروع فالإثراء بلا سبب ، فالقانون . وهو فى كل فصل من هذه الفصول يرتب النصوص ترتيباً تتسلسل الأحكام فيه تسلسلا يمليه المنطق والعمل . ثم يجعل الباب الثانى لآثار الالتزام فيتناول التنفيذ العينى ، والتنفيذ بطريق التعويض ، ويعرض بعد ذلك لما يكفل حقوق الدائنين العاديين ، فيتناول الدعوى غير المباشرة والدعوى البوليصية ودعوى الصورية والحق فى الحبس والإعسار المدنى . وهذا الباب على ما فى تنسيقه من مشقة ، قد رتبت نصوصه ترتيبا قل أن تجد له نظيراً فى التقنينات الحديثة . ثم يعرض الباب الثالث للأوصاف المعدلة لأثر الالتزام فيتناول الشرط والأجل ثم ينتقل إلى تعدد محل الالتزام فيتكلم فى الالتزام التخييرى والالتزام البدلى ، وإلى تعدد طرفى الالتزام فيتكلم فى التضامن وعدم القابلية للانقسام . ثم يخصص الباب الرابع لانتقال الالتزام ، فيتناول حوالة الحق ثم حوالة الدين ، فيستكمل بذلك نقصا فى القانون القديم كان ملحوظا . ثم يعرض الباب الخامس لانقضاء الالتزام ، فيرتب أسباب الانقضاء ترتيباً عملياً معقولا . ويختم التقنين الجديد نظرية الالتزام بباب سادس فى إثبات الالتزام ([42]) .
والكتاب الثانى من التقنين الجديد خصص للعقود المسماة . وقد قدمنا أن التقنين القديم أورد هذه العقود فى غير ترتيب واضح . أما التقنين الجديد فقد بوبها تبويباً تسهل متابعته . فجعل الباب الأول للعقود التى تقع على الملكية ، وتناول فيه البيع فالمقايضة فالهبة فالشركة فالقرض فالصلح . وجعل الباب الثانى للعقود التى تقع على الانتفاع ، وتناول فيه الإيجار فالعارية .وجعل الباب الثالث للعقود الواردة على العمل ، وتناول فيه المقاولة والتزام المرافق العامة فعقد العمل فالوكالة فالوديعة فالحراسة . وجعل الباب الرابع لعقود الغرر ، وتناول فيه المقامرة والرهان فالمرتب مدى الحياة فعقد التأمين . وختم أبواب الكتاب الثانى بباب خامس فى عقد الكفالة .
والكتاب الثالث من التقنين الجديد خصص للحقوق العينية الأصلية . وقد تقدم أن التقنين القديم فى هذا الموضوع خلط بين قيود الملكية وحقوق الارتفاق ، ولم يعرض الملكية فى الشيوخ ، ولم يراع أى ترتيب منطقى أو عملى فى إيراد أسباب كسب الملكية . أما التقنين الجديد فجعل الباب الأول من هذا الكتاب لحق الملكية . فتكلم فى حق الملكية بوجه عام ، متناولا نطاق هذا الحق ووسائل حمايته والقيود التى ترد عليه مميزاً إياها عن حقوق الارتفاق ، ثم خصص للملكية الشائعة نصوصاً مستفيضة ، وفصل أحكامها تفصيلا مبيناً ، وانتقل بعد ذلك إلى أسباب كسب الملكية فأوردها فى ترتيب ذى صبغة عملية . فالملكية إما أن تكسب ابتداء بالاستيلاء ، أو تنتقل من مالك إلى آخر . ويكون ذلك تارة بسبب الموت فى الميراث والوصية ، وطوراً ما بين الأحياء فى الالتصاق والعقد والشفعة والحيازة ([43]) . وجعل الباب الثانى للحقوق المتفرعة عن حق الملكية ، فتناول هذا الباب حق الانتفاع فحق الحكر ، فحق الارتفاق .
والكتاب الرابع من التقنين الجديد خصص للحقوق العينية التبعية ، وهى التأمينات العينية . فوردت هذه التأمينات فى أبواب أربعة ، الباب الأول فى الرهن الرسمى ، والثانى فى حق الاختصاص ، والثالث فى رهن الحيازة ، والرابع فى حقوق الامتياز .
كل هذا والتقنين الجديد ، فى الترتيب التفصيلى لكل باب من أبوابه ، يجرى ، خلافاً للتقنين القديم ، على نحو من التسلسل المنطقى ومن وضوح الفكرة بحيث يسهل على الباحث أن يدرك ما ينتظم مسائله المتعاقبة من ارتباط وتناسق ، وبحيث تتيسر له متابعته فى غير عناء .
( ثانيا ) اللغة والأسلوب :
ولا شك فى أن التقنين الجديد ، فى لغته وفى أسلوبه التشريعى ، أرقى من التقنين القديم . فقد أفاد من رقى لغة القانون وأسلوبه فى مصر طوال سبعين عاما حتى لقد أصبح التقنينان القديم والجديد يمثلان عصرين مختلفين جد الاختلاف فى اللغة وفى الأسلوب .
نضيف إلى ذلك أن التقنين الجديد خلا من عيب ازدواج اللغة . فالنص العربى هو النص الرسمى والنص الأصلى فى وقت معا .
وبرئ التقنين الجديد من هذا الضعف فى التعبير وهذه الركاكة فى الأسلوب ، اللذين كانا ينزلان بكثير من نصوص التقنين القديم إلى منزلة العامى من الألفاظ . ولم تعد المصطلحات القانونية تضطرب فيه وتتعارض ، بل إن المصطلح القانونى ليرد فى جميع النصوص لفظا واحدا لا يتبدل ولا يتغير .
ب- كيف عولجت العيوب الموضوعية :
وقد عالج التقنين الجديد العيوب الموضوعية التى كانت متفشية فى التقنين القديم . فاستحدث أحكاما جديدة ، واستوفى مسائل ناقصة ، وجمع نصوصا متناثرة .
استحدث التقنين الجديد أحكاما كانت تنقص التقنين القديم . من ذلك القواعد المتعلقة بتنازع القوانين من حيث الزمان والمكان ، والشخصية المعنوية وما يتصل بها من تنظيم للجمعيات والمؤسسات ، وحوالة الدين ، والتزام المرافق العامة ، وعقد العمل ، وعقد التأمين ، وعقد الهبة ، والحكر ، وإيجار الوقف . ويسبق هذا كله فى الأهمية موضوعان جديدان كنا فى أشد الحاجة إليهما ، هما تنظيم الإعسار المدنى وتصفية التركة .
واستوفى التقنين الجديد مسائل كانت فى التقنين القديم شديدة الاقتضاب على مالها من خطر . من ذلك القواعد المتعلقة بتكوين العقد ، والدعوى البوليصية ، والاشتراط لمصلحة الغير ، والمسئولية العقدية ، والمسئولية التقصيرية ، والحراسة ، والملكية الشائعة ، ورهن الحيازة ، وحق الاختصاص .
وجمع التقنين الجديد فى بعض الموضوعات ما تناثر من أحكامها فى جهات متفرقة ، فلم شتاتها ، وعرضها جملة واحدة بحيث يتكشف ما بين أجزائها من صلات وثيقة . من ذلك موضوع الحيازة ، وحقوق الارتفاق ، وحقوق الامتياز ، والحق فى الحبس ، والنيابة فى التعاقد .
ونكتفى هنا بهذه الإشارة . وسنتناول بالتفصيل هذه المسائل عند الكلام فى الفروق الجوهرية ما بين التقنين الجديد والقديم .
2- مصادر التنقيح وطرق التفسير فى القانون الجديد
يعنينا أن نبين هنا المصادر التى استقى منها التنقيح ، وأن نرسم إلى جانب كل مصدر السياسة التى يتوخاها القاضى والفقيه فى تفسير النصوص التى استقيت من هذا المصدر .
ومصادر التنقيح ثلاثة :
أ- أولها وأهمها نصوص التقنين المدنى القديم ، بعد أن هذبت ، وأضيف إليها أحكام القضاء المصرى طوال سبعين سنة ، بقى فيها هذا القضاء يعمل فى تفسير هذه النصوص وتطبيقها . والنصوص التى استقيت من هذا المصدر تكاد تستغرق ثلاثة أرباع التقنين الجديد . ومن ثم نرى أن هذا القانون لم يحدث انقلاباً فى المعاملات المدنية . فلا تزال القواعد المدنية القديمة ، كما بسطها التقنين القديم وقررها القضاء ، هى السائدة فى التقنين الجديد .
ب- وثانى هذه المصادر هو الفقه الإسلامى . فقد استبقى التقنين الجديد ما أخذ التقنين القديم عن هذا الفقه ، وأضاف مسائل جديدة إلى ما سبق أخذه .
جـ- وثالث هذه المصادر هى التقنينات الحديثة . فقد استحدث القانون الجديد موضوعات أخذها عن هذه التقنينات ، واستأنس فى موضوعات أخرى بما تميزت به هذه التقنينات من تقدم فى الصياغة ورقى فى الأسلوب التشريعى . فانتفع إلى مدى بعيد بالتقدم العظيم الذى بلغه فن التقنين المدنى الحديث .
أ- نصوص التقنين المدنى القديم وأحكام القضاء المصرى
أولاً – ما الذى استقاه التقنين الجديد من هذا المصدر :
قدمنا أن نصوص التقنين القديم وأحكام القضاء المصرى هى أهم مصدر استقى منه التقنين الجديد ([44]) .
وقد هذب التقنين الجديد نصوص التقنين القديم فى بعض النظريات العامة : كالغلط والسبب والاشتراط لمصلحة الغير والفضالة ، وفى بعض المسائل التفصيلية : كوقف التقادم والبيع فى مرض الموت والغلط فى عقد الصلح .
وقنن التقنين الجديد أحكام القضاء المصرى فى بعض النظريات العامة وفى بعض المسائل التفصيلية كذلك . فمن النظريات العامة التى قننها التعسف فى استعمال الحق ، وتكوين العقد ، والاستغلال ، والحوادث الطارئة ، والالتزام الطبيعى ، والتهديدات المالية ، والصورية ، والملكية الشائعة ، والأعمال القانونية الصادرة فى مرض الموت، وشرط عدم التصرف . ومن المسائل التفصيلية وجوب المطالبة القضائية بالفوائد ، والشرط الجزائى ، وتجديد الحساب الجارى ، وتقادم الاستحقاق فى الوقف ، واستمرار الشركة مع القصر ، وضمان المؤجر للعيوب الخفية ، وحريق العين المؤجرة ، وحقوق الجوار ، ورهن الحصة الشائعة .
وقد قدمنا أن الكثرة الغالبة من نصوص التقنين الجديد قد استقيت من هذا المصدر إذ أن التقنين الجديد قد أبقى على كل ما هو صالح من مبادئ التقنين القديم ، بعد أن هذب صياغة هذه النصوص ، وأضاف إليها ما انتهى إليه اجتهاد القضاء فى تطبيق هذه المبادئ .وقد أبرزت لجنة للقانون المدنى بمجلس الشيوخ هذا المعنى فى تقريرها إذ تقول: (( إن المصادر التى استمد منها المشروع أحكامه هى التقنين الحالى القديم وما صدر فى شأنه من أحكام المحاكم المصرية أولا . وما من نص من نصوص هذا التقنين إلا وأشير إليه فى معرض إيضاح النص المقابل له فى المشروع فى المذكرات الإيضاحية التى قدمتها وزارة العدل ، وما من مبدأ استقر القضاء على الأخذ به فى تفسير هذه النصوص إلا عرضته هذه المذكرات . وهى فى الحالين تنوه بالإبقاء على الحكم الوارد فى النص ، أو بالتعديل الذى آثرت إدخاله على صياغته تمشياً مع أحكام القضاء أو آراء الفقه ، أو بالإضافة التى رأت إثباتها أخذاً بهذه الآراء أو تلك الأحكام . فالمشروع من هذه الناحية قد أبقى على كل ما هو صالح من قواعد التقنين الحالى وإن كان قد هذب صياغتها تهذيباً يتلاءم مع تطور اللغة الاصطلاحية فى مصر وأساليب الصياغة فيها . وهو بهذه المثابة قد احتفظ بالقواعد العامة التى تضمنها هذا التقنين فى الجملة ، وأضاف إليها ما اجتهد القضاء فى إقراره على أساس هذه المبادئ . فلا هو يقطع الصلة بين الماضى والحاضر ، ولا هو يضيع ثروة القضاء من المبادئ والتقاليد ، وإنما هو على النقيض من ذلك يضفى على ما استقر من الأوضاع فى الماضى صبغة جديدة من الإصلاح تبرئه من العيوب التى خالطته ، وتكفل الانتفاع منه على أمثل وجه ([45]) )) .
ثانياً : كيف تفسر النصوص التى استقيت من القضاء المصرى والتقنين المدنى القديم :
ويعنينا أن نبين هنا فى وضوح أن النصوص التى استقيت من هذا المصدر يجب أن تفسر فى ضوء القضاء والفقه اللذين نشآ فى مصر فى ظل التقنين القديم ، وبذلك يتصل الحاضر بالماضى ، ولا تنقطع سلسلة التطور . وسيرى القارئ أننا نشير فى هذا الكتاب إلى القضاء المصرى الذى نبت فى عهد التقنين القديم ، مستندين إليه فى تفسير النصوص الجديدة ، كما لو كان هذا القضاء قد صدر فى عهد التقنين الجديد مفسراً لهذه النصوص . بل ولا نتكلف عناء التنبيه إلى أن القضاء الذى نستشهد به إنما هو قضاء قد صدر تطبيقاً للنصوص القديمة ، فإلى هذا الحد انعدمت المغايرة بين القديم والجديد .
ونستعرض أمثلة تبين كيف تفسر نصوص التقنين الجديد بالرجوع إلى القضاء والفقه القديمين ، ونختار توخياً للإيجاز أمثلة أربعة ، هى النصوص المتعلقة بالاستغلال ، وبالاشتراط لمصلحة الغير ، وبالتهديد المالى ، وبالشرط الجزائي .
1- الاستغلال :
كان القضاء المصرى فى ظل التقنين القديم يقف حائراً أمام ظاهرة اجتماعية كانت فى أشد الحاجة إلى علاج تشريعى . فقد كانت أقضية ترفع أمامه عن الزوج يبلغ سن الشيخوخة ، وينبذ امرأته الأولى ليتزوج من أخرى يقع تحت سلطانها ، فينزل لها أو لأولاده منها عن كل ماله . وكانت أقضية ترفع أمامه عن الولد يضيق عليه أبوه ، ثم يموت الأب عن مال كثير يطلق الإبن يده فيه فيبدده ، والمرابون يستكتبون ضحيتهم العقود الباهظة متوسلين إلى ذلك بمختلف الذرائع والحيل . وكانت أقضية ترفع أمامه عن الزوجة تسلم زمامها إلى هواها ، وتضحى الطائل من المال يبتزه الزوج ليخلى لها السبيل إلى الزواج من غيره . هذه الأقضية وغيرها كانت ترفع أمام القضاء المصرى ، فكان يلجأ فيها إلى حلول يهديه إليها اجتهاده دون عون من النصوص التشريعية . فتارة يلجأ إلى نظرية الإغواء والتسلط على الإرادة ( seduction , capitation) وليس لها سند تشريعى ، وطوراً يذهب إلى نظرية الإكراه وضوابط الإكراه تضيق بهذه الأقضية ، بل لقد ذهب فى حالة من هذه الحالات إلى الأخذ بنظرية الخلع فى الفقه الإسلامى . ومهما يكن من أمر هذا الاضطراب والتقلقل ، فقد كان القضاء المصرى سليم الفطرة ، حسن التقدير ، إذ كان ينظر دائماً بعين الريبة إلى العقود التى تبرم فى مثل هذه الظروف ، فيبطلها أو ينقص منها . ولم يكن يعوزه إلا أن يثبت على أساس قانونى يقوم على نص تشريعى . فأتى التقنين الجديد بهذا النص . وهذا ما تقوله المادة 129 .
(( 1- إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الآخر ، وتبين أن المتعاقد المغبون لم يبرم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشاً بيناً أو هوى جامحاً ، جاز للقاضى بناء على طلب المتعاقد المغبون أن يبطل العقد أو أن ينقص التزامات هذا المتعاقد )) .
(( 2- ويجب أن ترفع الدعوى بذلك خلال سنة من تاريخ العقد ، وإلا كانت غير مقبولة )) .
(( 3- ويجوز فى عقود المعاوضة أن يتوفى الطرف الآخر دعوى الإبطال إذا عرض ما يراه القاضى كافياً لرفع الغبن )) .
ولسنا هنا فى مقام شرح هذا النص وما ينطوى عليه من مسائل تفصيلية . وبحسبنا أن نذكر أن أدق مشكلة يثيرها هى تحديد ما يريده المشرع (( بالطيش البين والهوى الجامح )) . ولا نتردد فى القول بأن القاضى عند تحديده للمعنى المقصود من هذه العبارة يجب أن يسترشد بالقضاء السابق ، وأن يستعرض أمامه الأقضية التى رفعت فعلا أمام المحاكم ، فلا يلبث أن يتمثل صورة الشيخ الذى وقع تحت سلطان امرأته الجديدة ، وصورة الشاب الذى أصبح ألعوبة فى أيدى المرابين ، وصورة الزوجة التى غلبها هواها على أن تستبدل زوجاً بزوج . هذه صور من الحياة المصرية يتمثلها القاضى وهو يطبق هذا النص ، فيصبح المعنى أمامه محدداً واضحاً . وهو بعد ليس فى حاجة إلى أن يطوف بخياله بلاداً غير مصرية ينقل عنها نماذج هى أجنبية عنا ولا صلة لنا بها . وهو ليس فى حاجة بوجه خاص إلى أن يرجع إلى التقنين الألمانى أو التقنين السويسرى أو التقنين البولونى وكل هذه تقنينات ورد فيها نص مماثل لنصنا المصرى ، فإن البلاد التى تطبق فيها هذه التقنينات غريبة عنا ، ومجتمعها الأجنبى يغاير مجتمعنا المصرى ، وإذا كان نص تقنينا الجديد يماثل فى الأسلوب والصياغة نصوص هذه التقنينات ، فليس هذا معناه أن القاضى المصرى يلتزم تفسير القضاة الأجانب مع ما يوجد من تفاوت فى الأوساط الاجتماعية وفى العادات والتقاليد . ومن ثم نرى ضرورة التزامنا لقضائنا السابق والسير على المبادئ التى سبق أن قررتها المحاكم المصرية فى وسطنا المصرى .
2- الاشتراط لمصلحة الغير :
ويتميز هذا المثل عن سابقة بأن التقنين القديم كان يشتمل على نص فيه . فكانت المادتان 137/198 من هذا القانون تنصان على أن (( من عقدت على ذمته مشارطة بدون توكيل منه ، فله الخيار بين قبولها أو رفضها )) . فكان النص القديم غامضاً مضطرباً ، يتردد بين الاشتراط لمصلحة الغير والتعهد عن الغير والفضالة . فجاء التقنين الجديد واضحاً دقيقاً ، ونصت المادة 154 منه على ما يأتى :
(( 1- يجوز للشخص أن يتعاقد باسمه على التزامات يشترطها لمصلحة الغير إذا كان له فى تنفيذ هذه الالتزامات مصلحة شخصية ، مادية كانت أو أدبية )) .
(( 2- ويترتب على هذا الاشتراط أن يكسب الغير حقاً مباشراً قبل المتعهد بتنفيذ الاشتراط يستطيع أن يطالبه بوفائه ، ما لم يتفق على خلاف ذلك . ويكون لهذا المتعهد أن يتمسك قبل المنتفع بالدفوع التى تنشأ عن العقد )) .
(( 3- ويجوز كذلك للمشترط أن يطالب بتنفيذ ما اشترط لمصلحة المنتفع ، إلا إذا تبين من العقد أن المنتفع وحده هو الذى يجوز له ذلك )) .
فكيف يفسر القاضى هذا النص ؟ وإذا أثار تطبيقه ، بالرغم من وضوحه ، مسائل تقتضى حلا ، فأين يتلمس القاضى هذا الحل ؟ وإذا عرض مثلا ما يقتضى تحديد الدفوع التى يجوز للمتعهد أن يتمسك بها قبل المنتفع ، أو تحديد المصلحة الشخصية التى تكون للمشترط إذا كانت مصلحة أدبية ، أو تحديد مدى الحق المباشر الذى يكسبه الغير والأساس القانونى الذى يقوم عليه هذا الحق ، فبأى مصدر يسترشد القاضى فى حل هذه المسائل ؟ لا نتردد فى القول بأنه يتعين على القاضى أن يسترشد فى كل ذلك بالقضاء المصرى السابق وبالفقه المصرى السابق ، وسيجد هذا القضاء والفقه غنين زاخرين بالمبادئ القانونية ، والتأصيلات الفقهية ، والحلول التفصيلية ، فى هذا الموضوع الخطير . وسيجد أنه بالرغم من أن نصوص التقنين الجديد تختلف اختلافاً بيناً عن نص التقنين القديم من حيث الدقة والوضوح ، فإن تطبيق النصوص الجديدة لا يترتب عليه غير النتائج ذاتها التى كانت ترتب على تطبيق النص القديم الحائر لمضطرب . وسيجد أن الفرق بين الوضعين القديم والجديد يكاد ينحصر فى أننا كنا فى الوضع القديم تستقى القواعد القانونية الخاصة بالاشتراط لمصلحة الغير من القاء والفقه رأساً وكنا لا نجد غناء فى النص التشريعى ، فكان قانوننا فى هذا الموضوع الخطير يكاد يكون قانونا غير مكتوب . أما الآن ، وفى ظل التقنين الجديد ، سنطبق عين المبادئ التى كنا نطبقها فى الماضى ، ونلتزم الحلول التفصيلية ذاتها ، ولكننا نلتمس هذه المبادئ والحلول ، لا فى قضائنا وفقهنا فحسب ، بل نجد الكثير منها واضحاً فى تشريعنا الجديد ، وقد أصبح قانوننا مكتوباً مقننا فى موضوع من أهم موضوعات القانون المدنى. ولعل هناك فرقاً آخر بين الوضعين القديم والجديد . ففى الوضع القديم ، ونحن نلتمس الحلول فى ثنايا ما تراكم من أحكام القضاء وآراء الفقهاء ، لم تكن هذه الحلول تخلص لنا ثابتة مستقرة ، فالقضاء لم يكن يخلو من تردد ، والفقه لم يكن يسلم من خلاف . أما فى الوضع الجديد ، والحلول الرئيسية قد وردت فيها نصوص تشريعية واضحة قاطعة ، فلا معنى للتردد ولا محل للخلاف ، وقد خلصت لنا الحلول فى أهم المسائل منحمسة بينة ، متسمة بطابع من الثبات والاستقرار .
3- التهديد المالى :
والتهديد المالى من الأمثلة البارزة التى قنن فيها التقنين الجديد أحكام القضاء المصرى . ولم يكن التقنين القديم يشتمل على نص فى هذا الموضوع . فصاغ القضاء المصرى نظرية التهديد المالى على هدى من القضاء الفرنسى ، وسلك فى ذلك سبيلا هو محض اجتهاد لا سند له من التشريع . فاستمد التقنين الجديد من هذا القضاء المصرى النصوص التى أوردها فى هذا الشأن على الوجه الآتى :
نصت المادة 213 على أنه : (( 1- إذا كان تنفيذ الالتزام عيناً غير ممكن أو غير ملائم إلا إذا قام به المدين نفسه ، جاز للدائن أن يحصل على حكم بإلزام المدين بهذا التنفيذ وبدفع غرامة تهديدية إن امتنع عن ذلك . 2- وإذا رأى القاضى أن مقدار الغرامة ليس كافياً لإكراه المدين الممتنع عن التنفيذ ، جاز له أن يزيد فى الغرامة كلما رأى داعياً للزيادة )) .
ونصت المادة 214 على أنه : (( إذا تم التنفيذ العينى أو أصر المدين على رفض التنفيذ ، حدد القاضى مقدار التعويض الذى يلزم به المدين ، مراعياً فى ذلك الضرر الذى أصاب الدائن والعنت الذى بدا من المدين )) .
وهذه النصوص التى استقيت من القضاء المصرى السابق يرجع القاضى بداهة ، فى تفسيرها وفى تحديد مراميها ، إلى هذا القضاء بالذات ، فهو مصدرها المباشر . ولا شأن له بالتقنينات الأجنبية ، ولو اتفقت نصوصها مع هذه النصوص من حيث الأسلوب والصياغة . فإن واضع التقنين الجديد إنما استأنس من هذه التقنينات بالأسلوب التشريعى والصياغة الشكلية . وإذا كانت هذه التقنينات الأجنبية هى المصدر الشكلى لهذه النصوص ، فإن مصدرها الموضوعى هو القضاء المصرى السابق .
بيد أن تقنين القضاء المصرى السابق على الوجه الذى قدمناه لم يكن محض ترديد لأحكام هذا القضاء فقد اشتملت النصوص الجديدة على مزايا نجملها فيما يأتى .
أولا – أقامت هذه النصوص أساساً تشريعياً لنظرية التهديد المالى ، ولم يكن هذا الأساس موجوداً من قبل ([46]) .
ثانيا – حددت النصوص تحديداً تشريعياً حاسماً ، لا يدع مجالا للاضطراب الذى يغلب أن يكون طابع الأحكام القضائية ، النطاق الذى تطبق فيه نظرية التهديد المالى ، والوقت الذى يصفى فيه مركز المدين . أما النطاق فمداه هو حيث يقتضى تنفيذ الالتزام تدخل المدين تدخلا شخصيا يكون التنفيذ بدونه غير ممكن أو غير ملائم . وأما الوقت الذى يصفى فيه مركز المدين فهو الوقت الذى يتخذ فيه موقفاً نهائياً ، إما بوفاء التزامه وإما بالإصرار على عدم الوفاء ([47]) .
ثالثا – وصلت النصوص بنظرية التهديد المالى إلى مداها لتحقيق الغرض المقصود منها ، وذلك من وجهين : الوجه الأول أن النصوص تقضى ، إذا رأى القاضى أن مقدار الغرامة ليس كافياً لإكراه المدين الممتنع عن التنفيذ ، بجوار الزيادة فى الغرامة التهديدية ، وذلك بقصد التغلب على ممانعة المدين . والوجه الثانى أن القاضى عند تحديده مقدار التعويض الذى يلزم به المدين لا يقتصر على مراعاة الضرر الذى أصاب الدائن ، بل يجب أيضاً ، كما جاء فى المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدى ، (( أن يراعى فى هذا التقدير ما يكون من أمر ممانعة المدين تعنتاً باعتبار هذه الممانعة عنصراً أدبياً من عناصر احتساب التعويض ، وفى هذا النطاق يتمثل لب نظام الغرامات المالية ومعقل القوة فيه ([48]) )) .
4- الشرط الجزائى :
والشرط الجزائى مثل رابع فى أن التقنين الجديد استقى نصوصه من القضاء المصرى السابق . وهو يختلف عن الأمثلة السابقة فى أن القضاء الذى فتن هنا ليس بالقضاء الذى كان يستند إلى نص تشريعى غامض مضطرب ، كما هو الأمر فى الاشتراط لمصلحة الغير ، ولا بالقضاء الاجتهادى الذى لا سند له من التشريع ، كما هو الأمر فى نظريتى الاستغلال والتهديد المالى ، وإنما هو قضاء اجتهادى كان يجرى على عكس النص التشريعى ويتعارض معه تعارضاً صريحاً . فقد كانت المادتان 123/181 من القانون القديم تنصان على أنه : (( إذا كان مقدار التضمين فى حالة عدم الوفاء مصرحاً به فى العقد أو فى القانون فلا يجوز الحكم بأقل منه ولا بأكثر )) . والنص صريح كما ترى ، وهو بعد مأخوذ من نصوص التقنين الفرنسي ( م 1152 فرنسي ) ، وهى أيضاً صريحة فى هذا المعنى . ومع ذلك فقد كان كل من القضاءين الوطنى والمختلط يقضى بما يتعارف مع صريح النص ، ولا يحكم بشئ من التعويض المتفق عليه إذا لم يكن هناك ضرر أصاب الدائن . بل ذهب القضاء الوطنى إلى مدى أبعد ، إذ كان يقضى ، حتى مع وجود الضرر ، بتخفيض التعويض المتفق عليه إلى حد يتعادل فيه مع مقدار الضرر .
فعمد التقنين الجديد إلى تقنين القضاء المصرى فى هذا الصدد . ونصت المادة 224 على ما يأتى :
(( 1- لا يكون التعويض الاتفاق مستحقاً إذا أثبت المدين أن الدائن لم يلحقه أى ضرر )) .
(( 2- ويجوز للقاضى أن يخفض هذا التعويض إذا أثبت المدين أن التقدير كان مبالغاً فيه إلى درجة كبيرة ، أو أن الالتزام الأصلى قد نفذ فى جزء منه )) .
(( 3- ويقع باطلا كل اتفاق يخالف أحكام الفقرتين السابقتين )) .
وهذا النص يجب أن يرجع فى تطبيقه وتفسيره إلى القضاء المصرى السابق الذى أسلفنا الإشارة إليه ، شأنه فى ذلك شأن سائر النصوص التى تقنن هذا القضاء .
على أن النص يجمع إلى مزية تقنين القضاء السابق مزايا أخرى نجملها فيما يأتى :
( أولا ) أزال التعارض بين القضاء والنصوص التشريعية . أما التعارض ما بين القضائين الوطنى والمختلط فقد زال بزوال المحاكم المختلطة .
( ثانيا ) أصل أحكام الشرط الجزائى تأصيلا قانونياً صحيحاً ، وبناها على أساس سليم . (( فليس الشرط الجزائى فى جوهره – وهذا ما تقوله المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدى ([49]) – إلا مجرد تقدير اتفاقى للتعويض الواجب أداؤه . فلا يعتبر بذاته مصدراً لوجوب هذا التعويض ، بل للوجوب مصدر آخر ، قد يكون التعاقد فى بعض الصور ، وقد يكون العمل غير المشروع فى صور أخرى . فلابد لاستحقاق الجزاء المشروط إذن من اجتماع الشروط الواجب توافرها للحكم بالتعويض ، وهى الخطأ والضرر والإعذار )) . وهذا التأصيل الصحيح هو الذي يفسر جواز عدم الحكم بالشرط الجزائى إذا انتفى الضرر ، وجواز تخفيضه إذا قل الضرر . فما دام الضرر هو شرط واجب للجزاء المتفق عليه ، (( فهو بذاته – كما تقول هنا أيضاً المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدى ([50]) – مناط تقدير الجزاء الواجب أداؤه . ويترتب على هذا أن انتفاء الضرر يستتبع سقوط الجزاء المشروط ، ويقع عبء إثبات ذلك على عاتق المدين . وإذا كانت قيمة الضرر أقل من مقدار الجزاء المشروط وجب إنقاص هذا المقدار حتى يكون معادلا لتلك القيمة )) .
( ثالثا ) جعل النص هذه الأحكام من النظام العام ، فلا يجوز الاتفاق على ما يخالفها . وبذلك أمن المدين تعسف الدائن ، وتوقى أن يفرض عليه هذا الاتفاق المخالف الذى لا يلبث أن يصبح شرطاً من الشروط المألوفة عند التعاقد (clauses de style) .
هذه الأمثلة التى سقناها – وهى قليل من كثير – تنهض جميعاً للدلالة على أمور ثلاثة :
أولا – أن الكثرة الغالبة من نصوص التقنين الجديد ، وقد استقيت من القضاء المصرى ومن التقنين القديم ، يرجع القاضى فى تطبيقها وفى تفسيرها مباشرة إلى القضاء المصرى السابق .
ثانيا – أن التقنينات الأجنبية الحديثة ، إذا اتفقت فى بعض نصوصها مع نصوص التقنين الجديد التى استقيت من القضاء المصرى ، فإن هذا لا يعنى الرجوع إلى هذه التقنينات فى تطبيق هذه النصوص وفى تفسيرها . فهى ليست إلا مصادر شكلية لهذه النصوص استؤنس بها فى الصياغة والأسلوب . أما لمصدر الموضوعى فهو القضاء المصرى السابق . وسيرى القارئ أننا فى هذا الكتاب لم نشر إلى التقنينات الأجنبية إلا فى مناسبات قليلة ، ولم تكن الإشارة بقصد الرجوع إلى هذه التقنينات فى تفسير النصوص ، بل لعقد مقارنات بين قانوننا والقوانين الأجنبية فى بعض المواطن التى تجدى فيها المقارنة ، أو لتتبع نظام من النظم القانونية فى تطوراته التاريخية .
ثالثا – أن التقنين الجديد ، فى استقائه من التقنين القديم ومن أحكام القضاء المصرى السابق الكثرة الغالبة من نصوصه ، لم يقتصر على ترديد القديم من النصوص ومن الأحكام القضائية ، بل هو قد هذب النصوص القديمة تهذيباً أبرأها به من عيوبها التى كانت محل الشكوى ، وقنن القضاء المصرى تقنينا حسم به الخلاف فى مواطنه ، وأكسب الأحكام القانونية شيئاً من الثبات والاستقرار ، ويسر للباحث التعرف على هذه الأحكام .
ب- الفقه الإسلامى
أولا – ما الذى استقاه التقنين الجديد من هذا المصدر :
للفقه الإسلامى مكان ملحوظ بين المصادر الثلاثة التى استقى منها تنقيح القانون المدنى . فقد استبقى التقنين الجديد ما اشتمل عليه التقنين القديم من أحكام أخذه عن الفقه الإسلامى . واستحدث أحكاماً جديدة أخذها عن هذه الفقه . وجعل ، بعد ذلك كله ، الفقه الإسلامى مصدراً رسمياً للقانون المدنى ، يأتى بعد النصوص التشريعية والعرف ، ويتقدم مبادئ القانون الطبيعى وقواعد العدالة ([51]) .
1- القديم من الفقه الإسلامى لذى استبقاه التقنين الجديد :
كان التقنين القديم يشتمل على أحكام أخذها عن الفقه الإسلامى ، فاستبقاه التقنين الجديد بعد التقنين الجديد بعد أن هذب النصوص القديمة وصحح ما انطوت عليه من أخطاء .
فيبع المريض مرض الموت ، والأهلية ، والشفعة ، والهبة ، وسداد الدين قبل إيلولة التركة للورثة ، والغبن فى بيع القاصر ، وخيار الرؤية ، وتبعة الهلاك فى البيع ، وغرس الأشجار فى العين المؤجرة ، والأحكام المتعلقة بالعلو والسفل ، وبالحائط المشترك ، ومدة التقادم ، كل هذه موضوعات اشتمل عليها التقنين القديم واستبقاها التقنين الجديد بعد أن هذبها وصحح فيها .
وقد هذب التقنين الجديد بوجه خاص الأحكام المتعلقة بتصرفات المريض مرض الموت وبالهبة وبسداد الدين قبل أيلولة التركة للورثة .
فقد صحح النصوص الخاصة ببيع المريض مرض الموت من الأخطاء التى تسربت إليها فى التقنين القديم إذ جعل العبرة بالقدر المحابى به لا بقيمة المبيع ، ونظر إلى قيمة المبيع وقت الموت لا وقت البيع . ولم يقتصر من تصرفات المريض على البيع ، بل أورد فى النصوص المتعلقة . بالوصية أحكاماً تناولت تصرفات المريض بوجه عام نقلها عن الفقه الإسلامى والقضاء المصرى . فنصت المادة 916 على أن : (( 1- كل عمل قانونى يصدر من شخص فى مرض الموت ويكون مقصوداً به التبرع ، يعتبر مضافا إلى ما بعد الموت ، وتسرى عليه أحكام الوصية أيا كانت التسمية التى تعطى لهذا التصرف . 2- وعلى ورثة من تصرفوا أن يثبتوا أن العمل القانونى قد صدر من مورثهم وهو فى مرض الموت ، ولهم إثبات ذلك بجميع الطرق ، ولا يحتج على الورثة بتاريخ السند إذا لم يكن هذا التاريخ ثابتا .
3- وإذا أثبت الورثة أن التصرف صدر من مورثهم فى مرض الموت ، اعتبر التصرف صادرا على سبيل التبرع ، ما لم يثبت من صدر له التصرف عكس ذلك . كل هذا ما لم توجد أحكام خاصة تخالفه )) . ونصت المادة 917 على أنه : (( إذا تصرف شخص لأحد ورثته ، واحتفظ بأية طريقة كانت بحيازة العين التى تصرف فيها وبحقه فى الانتفاع بها مدى حياته ، اعتبر التصرف مضافا إلى ما بعد الموت ، وتسرى عليه أحكام الوصية ، ما لم يقم دليل يخالف ذلك )) .
كذلك فعل التقنين الجديد فى عقد الهبة . فقد نقل أحكام التقنين القديم المتعلقة بها . ولم يكتف بذلك ، فإن هذه الأحكام كانت مقتضبة ، وكانت مقصورة على الشكل دون الموضوع ، فأورد أحكام الهبة كاملة من حيث شكلها ومن حيث موضوعها . واستمد الأحكام الموضوعية من الفقه الإسلامى .
ولم يقتصر التقنين الجديد على الأخذ بالمبدأ القاضى بألا تركة إلا بعد سداد الدين – وقد كان التقنين القديم يجعل المبدأ مفهوماً فى ثنايا نصوصه – بل عمد إلى هذا المبدأ الخطير فنظمه تنظيما دقيقاً وفصل الإجراءات التى تكفل تطبيقه ، وهى إجراءات عملية كانت الحاجة إليها ملحة ، فسد بذلك فراغاً كبيراً .
2- الجديد من الفقه الإسلامى الذى استحدثه التقنين الجديد :
وقد استحدث التقنين الجديد أحكاماً أخرى استمدها من الفقه الإسلامى .
وبعض هذه الأحكام العامة التى أخذ بها النزعة الموضوعية التى نراها تتخلل كثيراً من نصوصه . وهذه هى نزعة الفقه الإسلامى والقوانين الجرمانية ، آثرها التقنين الجديد على النزعة الذاتية التى هي طابع القوانين اللاتينية ، وجعل الفقه الإسلامى عمدته فى الترجيح .
ومن هذه المبادئ أيضاً نظرية التعسف فى استعمال الحق . لم يأخذها التقنين الجديد عن القوانين الغربية فحسب، بل استمدها كذلك من أحكام الفقه الإسلامى . ولم يقتصر فيها على المعيار الشخصى الذى اقتصرت عليه أكثر القوانين ، بل ضم إليها معياراً موضوعياً فى الفقه الإسلامى يقيد استعمال الحق بالمصالح المشروعة وبتوفى الضرر الجسيم الذى قد يصيب الغير من استعماله .
وكذلك الأمر فى حوالة الدين ، أغفلتها القوانين اللاتينية ، ونظمتها القوانين الجرمانية متفقة فى ذلك مع الفقه الإسلامى . فأخذ بها التقنين الجديد .
ومبدأ الحوادث الطارئة (imprevision) أخذ به بعض التقنينات الحديثة . فرجح التقنين الجديد الأخذ به استناداً إلى نظرية الضرورة ونظرية العذر فى الفقه الإسلامى .
ومن الأحكام التى استحدثها التقنين الجديد مسائل تفصيلية كما قدمنا ، اقتبسها من الفقه الإسلامى . ومن هذه المسائل الأحكام الخاصة بمجلس العقد . وبإيجار الوقف ، وبالحكر ، وبإيجار الأراضى الزراعية ، وبهلاك الزرع فى العين المؤجرة ، وبانقضاء الإيجار بموت المستأجر وفسخه للعذر ، وبوقوع الإبراء من الدين بإرادة الدائن وحده .
3- الفقه الإسلامى أصبح مصدراً رسمياً للقانون المدنى :
وقد نصت المادة الأولى من التقنين الجديد على أنه (( إذا لم يوجد نص تشريعى يمكن تطبيقه حكم القاضى بمقتضى العرف ، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية ، فإذا لم توجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعى وقواعد العدالة )) .
ويتبين من ذلك أن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرسمى الثالث للقانون المدنى المصرى . وهى إذا أتت بعد النصوص التشريعية والعرف ، فإنها تسبق مبادئ القانون الطبيعى وقواعد العدالة . ولا شك فى أن ذلك يزيد كثيراً فى أهمية الشريعة الإسلامية ، ويجعل دراستها دراسة علمية فى ضوء القانون المقارن أمراً ضرورياً لا من الناحية النظرية الفقهية فحسب ، بل كذلك من الناحية العملية التطبيقية . فكل من الفقيه والقاضى أصبح الآن مطالبا أن يستكمل أحكام القانون المدنى ، فيما لم يرد فيه نص ولم يقطع فيه عرف ، بالرجوع إلى أحكام الفقه الإسلامى . ويجب عليه أن يرجع إلى هذه الأحكام قبل أن يرجع إلى مبادئ القانون الطبيعى وقواعد العدالة . بل لعل أحكام الشريعة الإسلامية ، وهى أدق تحديدا وأكثر انضباطا من مبادئ القانون الطبيعى وقواعد العدالة ، هى التى تحل محل هذه المبادئ والقواعد، فتغنينا عنها فى كثير من المواطن ([52]) .
ثانياً – كيف تفسر النصوص استقيت من الشريعة الإسلامية وكيف تستخلص منها الأحكام باعتبارها مصدراً رسمياً .
أما النصوص التى نقلها التقنين الجديد عن الشريعة الإسلامية ، فأصبحت نصوصاً تشريعية وأصبح الفقه الإسلامى مصدراً تاريخياً لها ، فهذه نرجع فى تفسيرها إلى مصدرين رئيسيين :
المصدر الأول – هو القضاء المصرى فيما يوجد له تفسير فى هذا القضاء . والقضاء المصرى غنى بالمبادئ والأحكام فى موضوعات كمرض الموت والشفعة والحكر وإيجار الوقف . فعلى من يفسر نصوص القانون الجديد الواردة فى هذه الموضوعات وأمثالها أن يرجع إلى هذا القضاء فيما استقر عليه من المبادئ .
والمصدر الثانى – هو ما جاء فى كتب الفقه الإسلامى ، وبخاصة فى تفسير ما لا يوجد له تفسير فى القضاء المصرى . والرجوع إلى الفقه الإسلامى فى كتبه المعتمدة واجب أيضا عندما يراد استخلاص الأحكام من الشريعة الإسلامية باعتبارها مصدراً رسميا للقانون المدنى .
وفى رأينا أنه حيث ينبغى الرجوع إلى الفقه الإسلامى فى كتبه المعتمدة ، سواء أكان هذا الفقه هو المصدر الرسمى التى تستمد منه الأحكام أم كان هو المصدر التاريخى الذى تفسر فى ضوئه النصوص التشريعية ، يجب أن يراعى أمران جوهريان :
الأمر الأول – هو عدم التقيد بمذهب معين من مذاهب الفقه الإسلامى . فكل مذاهب الفقه يجوز الرجوع إليها والأخذ منها . ولا محل للوقوف عند أرجح الأقوال من مذهب أبى حنيفة ، بل ولا للتقيد بالمذهب الحنفى فى جملته . ولعلنا نذهب إلى مدى أبعد ، فنقول أنه لا موجب للتقيد بالمذاهب الأربعة المعروفة ، فهناك مذاهب أخرى ، كمذهب الزيدية ومذهب الإمامية ، يمكن الانتفاع بها إلى حد بعيد .
والأمر الثانى – هو أن يراعى فى الأخذ بأحكام الفقه الإسلامى التنسيق ما بين هذه الأحكام والمبادئ العامة التى يقوم عليها التشريع المدنى فى جملته . فلا يجوز الأخذ بحكم فى الفقه الإسلامى يتعارض مع مبدأ من هذه المبادئ ، حتى لا يفقد التقنين المدنى تجانسه وانسجامه . وفيما قدمناه من الرخصة فى الأخذ بمذاهب الفقه جميعا ، دون تمييز بين مذهب ومذهب ، ما يجعل تحقيق هذا التنسيق ميسوراً ، فلا يضل الباحث فى تفصيلات الفقه الإسلامى ، ولا يختار منها إلا ما يتسق مع المبادئ العامة للتشريع المدنى ([53]) .
جـ - التقنينات الحديثة
أولاً – ما الذى استقاه التقنين الجديد من هذا المصدر :
والمصدر الثالث الذى استقى منه التقنين الجديد بعض أحكامه ، والكثير من صيغه وعباراته ، هو التقنين الحديث . فقد حرص واضعو التقنين الجديد على أن ينتفعوا انتفاعا كاملا بكل خطوة خطتها التقنينات الحديثة فى طريق الكمال من ناحية الأسلوب الفنى والصياغة التشريعية .
وقد رتبت هذه التقنينات الحديثة فانتظمتها أقسام ثلاثة : القسم الأول التقنينات اللاتينية قديمها وحديثها . فالقديم يأتى على رأسه التقنين الفرنسى ، ومعه التقنين الإيطالى القديم ، والتقنين الأسبانى ، والتقنين البرتغالى ، والتقنين الهولندى . والحديث يشتمل على التقنين التونسى والمراكشى ، والتقنين اللبنانى ، والمشروع الفرنسى الإيطالى ، والتقنين الإيطالى الجديد . والقسم الثانى التقنينات الجرمانية ، وأهمها التقنين الألمانى ، والتقنين السويسرى ، والتقنين النمساوى . والقسم الثالث تقنينات متخيرة استقت من كلتا المدرستين اللاتينية والجرمانية . وأهم هذه التقنينات التقنين البولونى ، والتقنين البرازيلى ، والتقنين الصينى ، والتقنين اليابانى .
ولكل من هذه التقنينات مزايا وعيوب ([54]) وقد توخى التقنين الجديد أن ينتفع بمزاياها وأن يتوقى عيوبها . وهذا كله فى حدود تقاليدنا القانونية وما استقر عليه قضاؤنا وفقهنا . وأكثر ما رجع إليه التقنين الجديد ، من هذه التقنينات ، خمسة : المشروع الفرنسى الإيطالى ، والتقنين الإيطالى الجديد ، والتقنين السويسرى ، والتقنين الألمانى ، والتقنين البولونى ، فالتقنين الجديد ، وإن كان قد اتخذ التقنينات اللاتينية أساسا له إلا أنه لم يلتزمها وحدها ، بل رجع أيضا إلى التقنينات الجرمانية .
وقد رجع التقنين الجديد إلى هذه التقنينات الحديثة فى بعض النواحى الموضوعية . ولكنه رجع إليها أكثر ما رجع فى نواحى الصياغة والأسلوب .
أما النواحى الموضوعية فأهمها بعض النظم القانونية التى كانت تنقص القانون القديم ، كالمؤسسات وحوالة الدين والإعسار ، وبعض المسائل التفصيلية التى أخذت عن التقنينات الحديثة ، كمسئولية عديم التمييز والمسئولية عن الآلات الميكانيكية والنصوص الخاصة بالحوادث الطارئة وبإدارة الملكية فى الشيوع وبملكية الأسرة وباتحاد ملاك الطبقات . وجارى التقنين الجديد فوق ذلك ، كما قدمنا ، التقنينات الجرمانية والفقه الإسلامى فى إيثار المعايير الموضوعية على المعايير الذاتية فى كثير من المسائل .
وأما نواحى الصياغة والأسلوب فقد أفاد منها التقنين الجديد أكبر الفائدة . ولكن واضعى هذا التقنين حرصوا كل الحرص ، وهم فى سبيل الانتفاع من التقنينات الحديثة فى الصياغة والأسلوب ، على أن يحققوا أمرين : أولهما أن تكون العبارات التى استعيرت من التقنينات الأجنبية لم تقتبس إلا لأنها تؤدى ، فى أمانة ووضوح ، المعانى التى قصدوا إلى نقلها عن القضاء المصرى وعن نصوص التقنين القديم . والأمر الثانى أنهم فيما استعاروه من صيغ وعبارات عن التقنينات الحديثة تجنبوا أن يقع أى تنافر فيما بين أجزاء التقنين ، وحرصوا على أن تنصهر هذه العناصر كلها فى بوتقة واحدة ، وأن ينتظم حباتها جميعاً عقد واحد .
ثانيا – كيف تفسر النصوص التى استقيت من التقنينات الحديثة :
أهم مبدأ ينبغى أن ننبه له الباحث فى تفسير التقنين المدنى الجديد هو أن نصوص هذا التقنين التى استمدت من التقنينات الأجنبية يجب أن تفصل فصلا تاما عن مصادرها الأجنبية ، فلا يرجع إلى هذه المصادر فى تطبيقها وتفسيرها. هذه النصوص التشريعية قد اندمجت فى تقنين قائم بذاته ، فأصبح لها من الكيان الذاتى ما يجعلها مستقلة كل الاستقلال عن المصادر التى أخذت منها . وإنما يجب الرجوع فى تفسير هذه النصوص إلى مصادرها الموضوعية من قضاء قصرى سابق ومن فقه مصرى تقليدى ومن نصوص تشريعية قديمة . هذه هى المصادر الأولى التى يجب أن يرجع إليها فى التفسير . وقد ألححنا فى التنبيه على ذلك عندما تكلمنا فى القضاء المصرى كمصدر أول استقى منه تنقيح التقنين المدنى . أما التقنينات الأجنبية فلا يرجع إليها إلا لأغراض علمية بحتة ، كالموازنة بين الشرائع المختلفة ، وكاستقصاء التطور التاريخى لنظام قانونى معين .
هذا المبدأ الجوهرى الذى نقرره يفرض نفسه على كل باحث فى التقنين الجديد للأسباب الآتية :
1- أن الكثرة الغالبة من النصوص المستمدة من التقنينات الحديثة إن هى فى الواقع من الأمر ، إلا تقنين لما جرى عليه القضاء المصرى ، أو إصلاح لعيوب فى نصوص التقنين القديم . ولم يقصد من الاستئناس بصياغة التقنينات الحديثة ومن محاكاة أسلوبها التشريعى إحداث أى تغيير فى الأحكام التى تضمنتها نصوص التقنين القديم أو جرى بها القضاء المصرى . وقد تكررت الإشارة إلى ذلك ([55]) .
2- أن القليل الباقى من النصوص المستمدة من التقنينات الحديثة ، وهى التى طرقت موضوعات جديدة لم تكن موجودة فى التقنين القديم ، لم تنقل هذه الموضوعات على علاتها من مصادرها الأجنبية . بل إن هذه النصوص قد محصت قبل نقلها إلى التقنين الجديد ، وعدلت بحيث تتسق مع سائر النصوص . فهى أقرب إلى أن تكون جزءاً أصيلا متماسكا من أجزاء هذا التقنين ، تسرى فيه روحه ، وينبسط عليه ما ينتظم سائر الأجزاء من وحدة وانسجام ([56]) .
3- أن أية محاولة يراد بها تفسير النصوص المستمدة من التقنينات الحديثة بالرجوع إلى هذه التقنينات هى محاولة مقضى عليها بالفشل . فإن هذه التقنينات كثيرة متنوعة ، ولكل تقنين نهجه وشرعته ، وله فقهه وقضاؤه ، وكثيراً ما يقع بينها التعارض والتنافر . فكيف يجوز أن نرجع فى تفسير تقنين متماسك الأجزاء ، متسق النواحى ، إلى مصادر متضاربة متناقضة ([57]) ! .
4- أن هذا الذى نقرره من وجوب أن يكون للنصوص التشريعية كيان ذاتى ، لتعيش فى البيئة التى تطبق فيها ، ولتتوثق صلتها بما يحيط بها من ملابسات ، ولتتطور تبعا لما تقتضيه الحاجات المتجددة المتغيرة ، هو ما يقول به سالى وغيره من أقطاب القانون ([58]) ، وهذه هى خير مدرسة نعرفها فى تفسير النصوص التشريعية .
5- أن هذا الذى نقرره هو أيضا ما قصد إليه صراحة واضعو التقنين الجديد . نتبين ذلك فى وضوح تام من الأعمال التحضيرية ، ونراه مذكورا فى مبادئ التفسير التى أدلى بها أمام مجلس الشيوخ ، ونلقاه مرددا فى تقرير اللجنة التشريعية بمجلس النواب ، وفى تقرير لجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ .
أما مبادئ التفسير التى أدلى بها أمام مجلس الشيوخ فقد جرت على الوجه الآتى : (( أولا )) أن الغالبية العظمى من أحكام هذا المشروع مستمدة من أحكام القانون الحالى ومن المبادئ التى أقرها القضاء المصرى طوال السبعين سنة الماضية ، ومطابقة للقواعد القانونية التى جرى عليها القضاء والفقه فى مصر . وهذا هو المصدر الذى يرجع إليه عند تفسير هذا القانون . وأما الصادر الأجنبية فليست إلا مصادر استئناس للصياغة وحدها . ( ثانيا ) أن الأحكام التى اشتقت أصلا من الشريعة الإسلامية يرجع فى تفسيرها إلى أحكام هذه الشريعة ، مع ملاحظة ما جاء فى المادة الأولى من المشروع من اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً رسميا من مصادر القانون ومن أن للقاضى أن يرجع إلى أحكام الشريعة الإسلامية كلما كان هناك محل لذلك . ( ثالثا ) أما الأحكام القليلة التى اشتقت من تقنينات أجنبية فى موضوعات جديدة مستقلة ( المؤسسات ، حوالة الدين ، ملكية الأسرة ، اتحاد الملاك ، الإعسار المدنى ، تصفية التركات ) فقد روعى فى وضعها أن تكون متمشية مع البيئة المصرية ، متفقة مع العرف والعادات ، متناسقة مع سائر أحكام المشروع . وبذلك تكون قد انعزلت من مصادرها وأصبح لها كيان ذاتى قوامه تساندها مع غيرها من نصوص ، ويرجع فى تفسيرها إلى النصوص ذاتها وما درج عليه القضاء فى مثل هذه الأحوال ([59]) )) .
وأما ما جاء فى تقرير اللجنة التشريعية بمجلس النواب فى هذا الصدد ، فهذا هو : (( ولا يسع اللجنة ، وهى تختتم تقريرها ، إلا أن تسجل الكلمة القيمة التى أدلى بها مندوب الحكومة بعد الانتهاء من بحث المشروع وهى : أن النصوص التشريعية الواردة فى هذا المشروع لها من الكيان الذاتى ما يجعلها مستقلة كل الاستقلال عن المصادر التى أخذت منها . ولم يكن الغرض من الرجوع إلى التقنينات الحديثة أن يتصل المشروع بهذه التقنينات المختلفة اتصال تبعية فى التفسير والتطبيق والتطور ، فإن هذا حتى لو كان ممكنا ، لا يكون مرغوبا فيه . فمن المقطوع به أن كل نص تشريعى ينبغى أن يعيش فى البيئة التى يطبق فيها ، ويحيا حياة قومية توثق صلته بما يحيط به من ملابسات ، وما يخضع له من مقتضيات ، فينفصل انفصالا تاما عن المصدر التاريخى الذى أخذ منه ، أيا كان هذا المصدر . وقد حان الوقت الذى يكون لمصر فيه قضاء ذاتى وفقه مستقل . ولكل من القضاء والفقه ، بل على كل منهما ، عند تطبيق النص أو تفسيره ، أن يعتبر هذا النص قائما بذاته ، منفصلا عن مصدره ، فيطبقه أو يفسره تبعا لما تقتضيه المصلحة ، ولما يتسع له التفسير من حلول تفى بحاجات البلد ، وتساير مقتضيات العدالة . وبذلك تتطور هذه النصوص فى صميم الحياة القومية ، وتثبت ذاتيتها ، ويتأكد استقلالها ، ويتحقق ما قصد إليه واضعو المشروع من أن يكون لمصر قانون قومى يستند إلى قضاء وفقه لهما من الطابع الذاتى ما يجعل أثرهما ملحوظا فى التطور العالمى للقانون )) .
(( وترحب اللجنة بهذه الفرصة الطيبة التى ستتاح للقضاء والفقه فى مصر ، عند تطبيق هذه النصوص وتفسيرها ، فى أن يجد المكان الفسيح للاجتهاد والاستنباط بعد أن انفك عنهما غل القيد بمتابعة قانون واحد معين فى نصوصه التشريعية وفى قضائه وفقهه ، بل بعد أن أصبحا فى حل ، وقد انفصلت النصوص عن مصادرها ، من التقيد بمتابعة أى قانون معين ، فخرجا بذلك من باب التقليد الضيق إلى ميدان الاجتهاد الفسيح ([60]) .
وهذا ما جاء أخيراً فى تقرير لجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ : (( أما ما يقال عن صعوبة التفسير وإلزام القاضى بالرجوع إلى فقه دول متعددة للوقوف على مفهوم نص معين ، فترى اللجنة أن النصوص متى أدمجت فى التقنين انعزلت عن مصادر الاستئناس ، وأصبح لها كيان ذاتى قوامه تساندها مع غيرها من نصوص هذا التقنين ، وأثرها فى البيئة التى تعيش فيها ، وانفعالها بظروف هذه البيئة . فما نقل من الصيغ أو النصوص عن تشريعات أو تقنينات أجنبية وصل بنصوص أخرى فى المشروع تحددت دلالتها من قبل فى التقنين الحالى وفى الفقه المصرى وأحكام القضاء فى مصر ، وهذا التآلف هو أول بل وأهم عنصر من عناصر التفسير ([61]) )) .
(3)
الفروق الجوهرية ما بين التقنين القديم والجديد
( ما استحدث التقنين الجديد من أ؛كام ، وما قننه وكان معمولا به من قبل )
***
فى غير ما أضاف التقنين الجديد سداً لنقص بين كان ملحوظا فى التقنين القديم ، وفى غير ما عالج من عيوب كانت بارزة فى النصوص القديمة ، وفى غير التبويب وقد عولجت فيه عيوب التقنين القديم على النحو الذى قدمناه ، لم يحمل التقنين الجديد فى نصوصه وأحكامه شيئاً يغاير ما كان التقنين القديم يتضمن من نصوص وأحكام .
ويمكن رد الفروق الجوهرية ما بين التقنينين القديم والجديد إلى أصلين : الأصل الأول هو ما استحدث التقنين الجديد من أحكام لم يكن معمولا بها من قبل . والأصل الثانى هو ما قنن من أحكام كان معمولا بها من قبل ولكن نصوص التقنين القديم كانت تقص عن تأديتها .
1- ما استحدث التقنين الجديد من أحكام لم يكن معمولا بها من قبل استحدث التقنين الجديد موضوعات كاملة لم يعرض لها التقنين القديم مع شدة الحاجة إليها ، ومسائل أخرى تفصيلية تناثرت فى أبوابه المختلفة .
1- موضوعات كاملة :
هذه الموضوعات هى المؤسسات والإعسار المدنى وحوالة الدين وتصفية التركة .
أولا – المؤسسات ( م 69-80 ) :
لم يكن التقنين القديم يعرف المؤسسات (foundations) . وكان نظام الوقف المعروف يؤدى بعض الأغراض التى وجدت المؤسسات من أجلها ، وبخاصة الوقف الخيرى الذى يرصد مباشرة على جهات البر . ولكن نظام الوقف فى كثير من الحالات يضيق عن الوفاء بأغراض المؤسسات ، حتى أن كثيراً من المؤسسات الاجتماعية والخيرية فى مصر لم يتسع لها هذا النظام ، فاتخذ نظام جمعية عادية على ما فى ذلك من ضيق وحرج ، أو اتخذ بطريق مباشر شكل مؤسسة ، ولم يبال بانعدام النصوص القانونية التى تقرر أحكام المؤسسات . من أجل ذلك أدخل القانون الجديد نظام المؤسسات ، وأورد النصوص التى تقرر أحكامها .
وتتخلص هذه النصوص فى أن المؤسسة شخص اعتبارى يقوم على تخصيص مال لغرض لا ينطوى على ربح مادى . فيدخل فى ذلك أعمال البر والأعمال العلمية والفنية والرياضية والدينية وغير ذلك من أعمال النفع العام . وتختلف المؤسسة عن الجمعية فى أن الأولى تقوم على مال يخصص للغرض المقصود ، أما الأخرى فتقوم على جماعة من الأشخاص تتكون منهم الجمعية . وتختلف المؤسسة عن الوقف فى أن الوقف لا يكون إلا فى العقار ، أما المنقول فلا يوقف منه إلا ما تعورف الوقف فيه . هذا إلى أن الوقف يخضع لنظام لا مرونة فيه ، ولا يتسع لإنشاء مستشفيات وملاجئ ومعاهد وهيئات أخرى يتسع لها نظام المؤسسات بما انطوى عليه من مرونة ([62])
وأداة تكوين المؤسسة هى إرادة المؤسس الذى خصص المال . وتفرغ هذه الإرادة فى صورة سند رسمى إذا أنشأ المؤسسة حال حياته ، أو فى صورة وصية إذا كان الإنشاء بعد الموت . ولم يجعل التقنين الجديد إنشاء المؤسسات خاضعاً لموافقة السلطة التنفيذية كما فعل التقنين الألمانى والقانون البلجيكى ، بل لم يجعل لهذه السلطة حق الاعتراض على إنشاء المؤسسات كما أشارت بذلك جمعية البحوث التشريعية فى فرنسا . ولكنه أخضع المؤسسات لرقابة وكلها إلى الجهة التى تعينها السلطة التنفيذية . وقد تكون هذه الجهة هى وزارة الشؤون الاجتماعية أو النيابة العامة أو أية مصلحة أخرى تعين لهذا الغرض . والقضاء هو الحكم ما بين المؤسسة وجهة الرقابة إذا هما اختلفتا فى أمر جوهرى .
وللقضاء أيضا أن يعدل فى النظام الذى تدار به المؤسسة . وله أن يخفف من التكاليف والشروط المقررة فى سند الإنشاء ، بل له أن يغليها إذا كان الإلغاء لازماً للمحافظة على أموال المؤسسة أو ضروريا لتحقيق الغرض من إنشائها . وله أخيرا أن يحكم بإلغاء المؤسسة ذاتها إذا أصبحت فى حالة لا تستطيع معها تحقيق الغرض الذى أنشئت من أجله ، أو إذا أصبح هذا الغرض غير ممكن التحقيق ، أو إذا صار مخالفاً للقانون أو للآداب أو للنظام العام . وفى هذه الأحكام الأخيرة من التوسعة والترخص ما يجعل نظام المؤسسات أكثر مرونة من نظام الوقف .
ثانياً – الإعسار المدنى ( م 249 – 264 ) :
كثيراً ما عرض التقنين القديم للإعسار ، ورتب عليه نتائج خطيرة . ولكنه أغفل تنظيم هذا الإعسار ، فصارت الأمور إلى الفوضى : لا الدائنون بمطمئنين لتصرفات مدينهم المعسر ، ولا هم مطمئنون بعضهم لبعض ، ولا المدين بمطمئن لهم جميعا . فنظم التقنين الجديد الإعسار تنظيما راعى فيه مصلحة الدائن ومصلحة المدين معا ، وتحاشى أن تكون هناك تصفية جماعية لأموال المدين المعسر حتى يجنبه ما يستتبع ذلك عادة من إرهاق وعنت . وراعى فيما يتعلق بالمدين أنه أصبح موكولا إلى نظام أوضح حدودا ، فلم يعد يلحق به وصف الإعسار لمجرد زيادة دينه على ماله، بل يشترط أن تكون أمواله غير كافية لوفاء ديونه مستحقة الأداء ، والقاضى على كل حال لا يشهر إعساره إلا بعد أن يقدر جميع الظروف التى أحاطت به ، سواء أكانت هذه الظروف عامة أم خاصة ، فينظر إلى موارده المستقبلة ومقدرته الشخصية ومسئوليته عن الأسباب التى أدت إلى إعساره ومصالح دائنيه المشروعة وكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر فى حالته المالية .
وإذا شهر إعسار المدين فليس من الحتم إن تحل ديونه المؤجلة ، إذ يجوز للقاضى أن يبقى على الأجل ، وله أن يمد فيه ، بل إن للقاضى أن يسير إلى مدى أبعد ، فينظر المدين إلى ميسرة بالنسبة إلى الديون المستحقة الأداء ذاتها . وبهذا تتاح للمدين المعسر تصفية ديونه وديا فى أحسن الظروف ملاءمة . والمدين فى سبيل التصفية يجوز له أن يتصرف فى ماله ولو بغير رضاء الدائنين على أن يكون ذلك بثمن المثل ، وعلى أن يقوم بإيداع الثمن خزانة المحكمة لتوزيعه على الدائنين . وللمدين فوق ذلك ، إذا وقع الدائنون الحجز على إيراداته ، أن يطلب إلى القضاء نفقة يتقاضاها من إيراداته المحجوزة .
هذا هو حال المدين من اليسر فى هذا النظام . أما الدائنون فيكفل لهم نظام الإعسار من الحماية ما لم يكن متاحاً لهم فى ظل التقنين القديم . ذلك أن مجرد تسجيل صحيفة دعوى الإعسار يكون من أثره ألا ينفذ أى اختصاص ، يقع بعد التسجيل على عقارات المدين ، فى حق الدائنين السابقة ديونهم على هذا التسجيل . كذلك لا يسرى فى حق الدائنين أى تصرف للمدين يكون من شأنه أن ينقص من حقوقه أو يزيد فى التزاماته ، كما لا يسرى فى حقهم أى وفاء يقوم به المدين . وتعزيزاً لحماية الدائنين من تصرفات المدين ، قرر التقنين الجديد توقيع عقوبة التبديد على المدين إذا ارتكب عملا من أعمال الغش البين إضراراً بدائنيه .
ويتبين مما قدمناه أن النظام الذى وضعه التقنين الجديد للإعسار يكفل التوفيق بين جميع المصالح المتعارضة ، فهو يحمى المدين من دائنيه ، ويحمى الدائنين من مدينهم ، ويحمى الدائنين بعضهم من بعض .
ثالثاً – حوالة الدين ( م 315 – 322 ) :
لم يكن التقنين القديم يعرف فى انتقال الالتزام إلا حوالة الحق ولم يكن ينظم حوالة الدين مع وضوح الحاجة إليها. فأضاف التقنين الجديد إلى حوالة الحق حوالة الدين جريا على سنن التقنينات الحديثة . هذا إلى أن الفقه الإسلامى قد نظم حوالة الدين تنظيما محكماً دقيقاً ، وإن كان لم ينظم حوالة الحق .
وفى التقنين الجديد تتم حوالة الدين إما باتفاق بين المدين وشخص آخر يتحمل عنه الدين دون حاجة إلى قبول الدائن ، وإما باتفاق بين الدائن وشخص آخر يتحمل قبله الدين دون حاجة إلى قبول المدين . فإذا تمت الحوالة ، جاز للدائن أن يطالب المدين الجديد بالدين ذاته ، وجاز للمدين الجديد أن يتمسك قبل الدائن بالدفوع التى كان للمدين الأصلى أن يتمسك بها . ويضمن المدين الأصلى للدائن أن يكون المدين الجديد موسراً وقت إقرار الدائن للحوالة .
وقد طبق التقنين الجديد حوالة الدين تطبيقاً نافعاً فى حالة تعرض كثيراً فى العمل ، هى حالة بيع العقار المرهون رهناً رسمياً . فإنه يجوز أن يتفق البائع والمشترى على حوالة الدين المضمون بالرهن ليتخلص البائع من الدين المترتب فى ذمته بالحوالة كما تخلص من الرهن ببيع العقار المرهون .
رابعاً – تصفية التركة ( م 876 – 914 ) :
من العيوب البارزة فى التقنين القديم أنه فى الوقت الذى كان يقر فيه القاعدة الشرعية المعروفة التى تقضى بألا تركة إلا بعد سداد الدين ، ولو أنه لم ينص عليها فى عبارة صريحة ، لم يكن يضع نظاماً لتصفية التركة ، حتى يتسلمها الورثة خالية من الديون مادامت التركة لا تنتقل إليهم إلا بعد سدادها . وقد كان إغفال هذا النظام سبباً فى أن يقع القضاء والفقه فى مصر فى كثير من الاضطراب والارتباك ، فأراد التقنين الجديد أن يتلافى هذا النقص الخطير بوضع نصوص مفصلة ينظم بها تصفية التركة .
وبحسبنا هنا أن نحيل القارئ على هذه النصوص ، وهى تعتبر دون ريب من أهم ما استحدثه التقنين الجديد .
ب- مسائل تفصيلية متنوعة :
إلى جانب هذه الموضوعات الكاملة استحدث التقنين الجديد أحكاماً أخرى تفصيلية نتعقب أهمها فيما يأتى :
فى الباب التمهيدى : عددت المادة الأولى مصادر القانون ، فذكرت الفقه الإسلامى من بينها ولا شك فى أن هذا كسب جديد للشريعة الإسلامية ، لم تظفر به إلا فى التقنين الجديد .
وفى الكتاب الأول : وهو الكتاب الذى خصص للالتزامات بوجه عام استحدث التقنين الجديد ([63]) عدا نظرية الحوادث الطارئة ( م 147 ) مسئولية عديم التمييز ، فنص على أنه إذا وقع الضرر من شخص غير مميز ، ولم يكن هناك من هو مسئول عنه ، أو تعذر الحصول على تعويض من المسئول ، جاز للقاضى أن يلزم من وقع منه الضرر بتعويض عادل ، مراعياً فى ذلك مركز الخصوم ( أنظر م 164 فقرة 2 ) . واستحدث كذلك مسئولية مبنية على خطأ مفروض فرضاً لا يقبل إثبات العكس عن الآلات الميكانيكية وعن الأشياء التى تتطلب حراستها عناية خاصة ( أنظر م 178 ) وأجاز فى المادة 170 للقاضى ، إذا لم يتيسر له وقت الحكم أن يعين مدى التعويض تعييناً نهائياً ، أن يحتفظ للمضرور بالحق فى أن يطالب فى خلال مدة معينة بإعادة النظر فى التقدير .
وفى آثار الالتزام ، أجاز فى المادة 203 ( فقرة 2 ) للمدين إذا كان فى التنفيذ العينى إرهاق له ، أن يقتصر على دفع تعويض نقدى إذا كان ذلك لا يلحق بالدائن ضرراً جسيما . وأجازت المادة 219 أن يتم إعذار المدين عن طريق البريد على الوجه المبين فى تقنين المرافعات . أما فى الفوائد ، فقد استحدث التقنين الجديد ( م 226 – 227 ) أحكاماً هامة ترمى إلى الحد منها مجاراة للنزعة فى القوانين الحديثة ، فخفض السعر القانونى للفوائد إلى 4% فى المسائل المدنية وإلى 5% فى المسائل التجارية ، وخفض السعر الاتفاقى إلى 7% . ونص صراحة على أنه يتعين رد ما دفع زائداً على هذا المقدار . وأخذ بيد المدين فى حالتين أعفاه فيهما من دفع الفوائد أو خفض منها : الحالة الأولى هى حالة ما إذا تسبب الدائن بسوء نية وهو يطالب بحقه فى إطالة أمد النزاع ، فللقاضى أن يخفض الفوائد قانونية كانت أو اتفاقية ، أو لا يقضى بها إطلاقا ، عن المدة التى طال فيها النزاع بلا مبرر ( م 229 ) . والحالة الأخرى هى حالة ما إذا رسا المزاد فى العين المحجوز عليها وفاء للدين ، فلا يكون الدائنون مستحقين لفوائد التأخير إلا إذا كان الراسى عليه المزاد ملزما بدفع فوائد الثمن أو كانت خزانة المحكمة ملزمة بهذه الفوائد ، على ألا يجاوز ما يتقاضاه الدائنون من فوائد فى هذه الحالة ما هو مستحق منها قبل الراسى عليه المزاد أو خزانة المحكمة ( م 230 ) وفى هذا رفق واجب بالمدين . واستكمالا للقيود الهامة التى فرضها التقنين الجديد على الفوائد ، نصت المادة 232 على أنه لا يجوز فى أية حال أن يكون مجموعة الفوائد التى يتقاضاها الدائن أكثر من رأس المال ، ونصت كذلك على تحريم الفوائد المركبة تحريماً تاماً . وأدخل التقنين الجديد تعديلا هاماً على قواعد الدعوى البوليصية ، فنص فى المادة 240 على أنه متى تقرر عدم نفاذ التصرف استفاد من ذلك جميع الدائنين الذين صدر هذا التصرف إضراراً بهم . وكان التقنين القديم لا يجعل أحداً يستفيد من هذه الدعوى غير الدائن الذى باشرها . ورد التقنين الجديد ( م 246 ) الحق فى الحبس إلى تكييفه القانونى الصحيح ، فجعله دفعاً بعدم التنفيذ ، لا حقا عينيا كما كان يذهب إليه التقنين القديم ، فأزال هذا التكييف الصحيح ما كان يعترض الحق فى الحبس من صعوبات ترجع إلى القواعد الخاصة بشهر الحقوق العينية ، ومكن من تعميم هذا الحق فى جميع صوره المنطقية عن طريق رده إلى قاعدة عامة ، بعد أن كان مقصوراً فى التقنين القديم على حالات معينة ذكرت على سبيل الحصر .
وفى حوالة الحق ، جعلت الحوالة تتم دون حاجة إلى رضاء المدين ( م 303 ) وكان التقنين القديم – الوطنى دون المختلط – يشترط هذا الرضاء . وكان فى هذا تعطيل للتعامل لا مبرر له ، وتخلف عن التمشى مع القوانين الحديثة تحت أثر وهم خاطئ أن هذا هو حكم الفقه الإسلامى ، والحق أن هذا الفقه غير مسئول عن هذا العيب ، لأنه لا يعرف حوالة الحق أصلا . وقد توهم بعض الفقهاء المصريين أن ما يسميه الفقه الإسلامى فى دقة تامة بحوالة الدين ، ويشترط فيه رضاء المدين ، هو هذا الذى نسميه نحن فى قوانيننا الحديثة بحوالة الحق ، والفرق ظاهر بين الحوالتين .
وفى انقضاء الالتزام ، جعل التقنين الجديد الإبراء يتم بإرادة الدائن وحدها دون حاجة إلى رضاء المدين ( م371 ) وكان التقنين القديم يشترط هذا الرضاء ، وفى هذا التجديد رجوع إلى قواعد الفقه الإسلامى . أما التقادم فقد جعلت مدته ثلاث سنوات فى الالتزامات التى تنشأ من مصادر غير تعاقدية ، كالالتزامات التى تنشأ من العمل غير المشروع وتلك التى تنشأ من قواعد الإثراء بلا سبب كالفضالة واسترداد ما دفع دون حق . وقد نحى التقنين الجديد فى هذا التجديد منحى التقنينات الحديثة . والحكمة فى ذلك ظاهرة ، فإن الالتزام الذى يفرضه القانون على المدين فرضا ولا يرجع فيه إلى إرادته لا يجوز أن يبقى فى الذمة أكثر من ثلاث سنوات من وقت العلم به ، بخلاف ما ارتضاه المدين بإرادته من الالتزامات التى تعاقد عليها ، فهذه تدوم خمس عشرة سنة . وجعل التقنين الجديد الحق فى إبطال العقد لنقص فى الأهلية أو لعيب من عيوب الرضاء يتقادم هو أيضا بثلاث سنوات ، حتى يستقر التعامل ولا يبقى سيف الإبطال مصلتا على العقود يتهددها بالزوال مدة طويلة .
وفى الكتاب الثانى : وهو الكتاب الذى خصص للعقود المسماة ، أدخل التقنين الجديد فى البيع تعديلين متفاوتين فى الأهمية . أولهما يجعل دعوى الضمان فى العيوب الخفية لا تسقط إلا بسنة كاملة ( م 452 ) وكانت فى التقنين القديم تسقط بثمانية أيام وهى مدة شديدة القصر . والتعديل الثانى ، وهو أهم بكثير من التعديل الأول ، حرم بيع الوفاء تحريما باتا ( م 465 ) ، وهذه هى نهاية الشوط فى مراحل التطور لهذا البيع . فقد كان من قبل جائزا دون قيد . ولما استكثر التعامل منه ضروبا هى رهن حيازة مستتر يخفى الربا الفاحش ، حرمه المشرع المصرى فى صورته الساترة للرهن . وقد دلت التجارب على أن بيوع الوفاء فى مصر ليست إلا رهونا مستترة ، فأبطلها التقنين الجديد جميعا ، فى صورتيها الساترة والسافرة .
وفى عقد الشركة أدخل التقنين الجديد تعديلا فى حالة ما إذا كانت حصة أحد الشركاء مقصورة على عمله . فقد كان التقنين القديم يجعل نصيب هذا الشريك فى الربح أقل الأنصبة ، وقد يكون عمله هو النشاط الجوهرى الذى تقوم عليه الشركة . فنصت المادة 514 ( فقرة ثالثة ) من التقنين الجديد على أن هذا الشريك يقدر نصيبه فى الربح والخسارة تبعا لما تفيده الشركة من عمله ، وهذا هو الحكم العادل .
وكان التقنين القديم – جريا على سنن القانون الفرنسى ومن قبله القانون الرومانى – يسمى طائفة من العقود هى القرض والعارية والوديعة ورهن الحيازة ، عقودا عينية ويجعلها لا تتم إلا بالتسليم . وعينية هذه العقود بقية تخلفت عن القانون الرومانى . فقد كان هذا القانون لا يسلم بأن رضاء المتعاقدين وحده كاف لانعقاد العقد فى غير طائفة معينة من العقود سماها عقوداً رضائية . وكان يتطلب فى كل طائفة من طوائف العقود الأخرى ركنا غير الرضاء يختلف باختلاف كل طائفة . فكان يقتضى فى طائفة العقود العينية ركن التسليم . والآن وقد أصبح رضاء المتعاقدين كافيا لانعقاد العقد فى غير طائفة العقود الشكلية ، فقد زالت الحكمة فى اشتراط العينية فى بعض العقود ، ولم يعد هناك مسوغ لبقائها ، وقد اختفت فعلا فى كثير من التقنينات الحديثة . واختفت كذلك فى التقنين الجديد ([64]) .
وفى عقد القرض استحدث التقنين الجديد حكما هاماً ، فنص فى المادة 544 على أنه إذا اتفق على الفوائد ، كان للمدين إذا انقضت ستة أشهر على القرض ، أن يعلن رغبته فى إلغاء العقد ورد ما اقترضه ، على أن يتم الرد فى أجل لا يجاوز ستة أشهر من تاريخ هذا الإعلان ، وفى هذه الحالة يلزم المدين بأداء الفوائد المستحقة عن الستة الأشهر التالية للإعلان ، ولا يجوز بوجه من الوجوه إلزامه بأن يؤدى فائدة أو مقابلا من أى نوع بسبب تعجيل الوفاء ، ولا يجوز الاتفاق على إسقاط حق المقترض فى الرد ، أو الحد منه .
وفى عقد الإيجار استحدث التقنين الجديد تعديلا هاما ، فجعل التزام المؤجر التزاما إيجابياً هو أن يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة ( م 588 ) ، وكان التزام المؤجر فى التقنين القديم التزاماً سلبياً يقتصر على ترك المستأجر ينتفع بالعين . واقتضى هذا التعديل الجوهرى نصاً صريحاً فى التقنين الجديد ( م576 ) يلزم المؤجر بضمان العيوب الخفية . كذلك حذف التقنين الجديد نصاً كان موجوداً فى التقنين القديم ، يقضى أن يكون إثبات عقد الإيجار بالكتابة ، إذ لا يوجد مسوغ لهذا الخروج على القواعد العامة .
وعلى النقيض من عقد الإيجار ، يقتضى عقد الكفالة تشددا من ناحية الإثبات ، فإن الكفيل يكون متبرعا فى أكثر الأحيان ، ويغلب أن يكون قد تورط فى كفالة لا تلبث أن تعود عليه بالغرم ، ومن ثم وجب التثبت من رضائه بالكفالة . فنص التقنين الجديد على أن هذا العقد لا يثبت إلا بالكتابة ، ولو كان من الجائز إثبات الالتزام المكفول بالبينة ( م773 )
وفى الكتاب الثالث : وهو الكتاب الذى خصص للحقوق العينية الأصلية ، استحدث التقنين الجديد تعديلات هامة فى حق الملكية وأسباب كسبها .
فأجاز لكل مالك أن يجبر جاره على وضع حدود لأملاكهما المتلاصقة ، وتكون نفقات التحديد شركة بينهما ( م813 ) ، وقيد المطل المنجرف بأن يكون على مسافة تقل عن خمسين سنتيمترا من حرف المطل ( م 820 ) . ووضع قواعد لإدارة المال الشائع جعل فيها الحكم لأغلبية الشركاء إذا تعنتت الأقلية ووقفت حجر عثرة فى سبيل الإصلاح ( م 828 ) ، وجعل الحكم لأغلبية الشركاء كذلك حتى لو قررت هذه الأغلبية ، فى سبيل تحسين الانتفاع بالمال الشائع ، من التغييرات الأساسية والتعديل فى الغرض الذى أعدله المال الشائع ما يخرج عن حدود الإدارة المعتادة ( م 829 ) ، بل وحتى لو قررت التصرف فى المال الشائع مستندة فى ذلك إلى أسباب قوية ( م 832 ) . وقصرت المادة 833 حق استرداد الحصة الشائعة على المنقول ، أما العقار فاكتفى فيه بالشفعة ، وبذلك حدد التقنين الجديد تحديدا عمليا واضحا نطاق كل من نظامين متقاربين ، أخذ أحدهما من التقنين الفرنسى وهو حق الاسترداد ، وأخذ الآخر من الفقه الإسلامى وهو الشفعة . وأدخل التقنين الجديد فى الملكية الشائعة نظامين جديدين ، هما نظام ملكية الأسرة ( م851 – 855 ) ونظام اتحاد ملاك طبقات البناء الواحد ( م862 – 869 ) . أما النظام الأول فالغرض منه تنظيم إدارة المال الشائع ما بين أعضاء الأسرة الواحدة تنظيما من شأنه أن يجعل هذه الإدارة ميسرة . فأجيز الاتفاق على إنشاء ملكية للأسرة تبقى مدة تطول إلى خمس عشرة سنة لا يجوز فى خلالها لأحد من الشركاء أن يطلب القسمة. وجعل للشركاء الحق فى تعيين واحد منهم لإدارة المال الشائع ، وأعطى لهذا المدير سلطة واسعة تصل إلى حد أن يدخل على ملكية الأسرة من التغيير فى الغرض الذى أعدله المال المشترك ما يحسن طرق الانتفاع به . وهذا النظام يستجيب لحاجة من حاجات المجتمع المصرى فى الريف . فكثيراً ما تستبقى الأسرة الأرض شائعة بين الورثة بعد موت المورث ، ويتولى الإدارة كبير الأسرة . فأوجد التقنين الجديد نظاماً مستقرا لهذه الحالة . والنظام الآخر – نظام اتحاد الملاك – يراد به تيسير السبيل للأوساط من الناس أن ينشئوا مساكن تكون ملكا لهم ، فأجيز تكوين اتحاد لبناء المساكن أو مشتراها وتوزيع ملكية طبقاتها على أعضاء الاتحاد ، كما أجيز لملاك طبقات البناء أن يكونوا اتحادا فيما بينهم . ويضع الاتحاد ، فى كل من هاتين الصورتين ، نظاماً لضمان حسن الانتفاع بالعقار المشترك ، ويكون له مأمور يتولى تنفيذ قراراته وفى هذا تيسير لإدارة المرافق المشتركة للمبانى ذوات الطبقات ، وتشجيع على إنشاء هذه المبانى ، مما يعين على التفريج من أزمة المساكن فى المدن المكتظة بالسكان .
وفى الاستيلاء كسبت للملك ، اشترط التقنين الجديد فيمن يحيى الأرض الموات بقصد تملكها أن يكون مصرياً ( م874 فقرة 3 ) ولم يكن هذا الشرط واجبا فى التقنين القديم .
وفى الالتصاق ، إذا أقام شخص منشآت على أرض الغير وكان يعتقد بحسن نية أن له الحق فى إقامتها ، خير صاحب الأرض بين أن يدفع قيمة المواد وأجرة العمل أو أن يدفع مبلغاً يساوى ما زاد فى ثمن الأرض بسبب هذه المنشآت . وقد استحدث التقنين الجديد هنا حكماً ، فأجاز فى الفقرة الثانية من المادة 925 لصاحب الأرض ، إذ كانت المنشآت قد بلغت حدا من الجسامة يرهقه ، أن يطلب تمليك الأرض لمن أقام المنشآت نظير تعويض عادل . وفى حالة أخرى ، إذا كان مالك الأرض وهو يقم عليها بناء قد جار بحسن نية على جزء من الأرض الملاصقة ، أجازت المادة 928 للمحكمة إذا رأت محلا لذلك أن تجبر صاحب هذه الأرض على أن ينزل لجاره عن ملكية الجزء المشغول بالبناء وذلك فى نظير تعويض عادل .
وفى الشفعة ، عالج التقنين الجديد نقصاً فى التقنين القديم ، فأباحت المادة 940 لمن يريد الأخذ بالشفعة أن يعلن رغبته فيها فى خلال خمسة عشر يوما من تاريخ الإنذار الرسمى الذى يوجهه إليه البائع أو المشترى ، وإلا سقط حقه . وكان التقنين القديم يسقط حق الشفيع أيضا إذا لم يعلن الرغبة فى خلال حقه . وكان التقنين القديم يسقط حق الشفيع أيضا إذا لم يعلن الرغبة فى خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ علمه بالبيع ، وكانت واقعة العلم هذه تثير منازعات كثيرة من ناحية الإثبات ، فوقف التقنين الجديد عند الإنذار الرسمى دون العلم . وضيق التقنين الجديد حق الأخذ بالشفعة عما كان الأمر عليه فى التقنين القديم وذلك من نواح عدة : أوجب فى خلال ثلاثين يوماً من إعلان الرغبة فى الأخذ بالشفعة أن يودع الشفيع خزانة المحكمة كل الثمن الحقيقى الذى حصل به البيع ( م942 ) وأن يقيد دعوى الشفعة بالجدول ( م943 ) ، واسقط الحق فى الأخذ بالشفعة بمقتضى المادة 948 إذا انقضت أربعة أشهر من يوم تسجيل عقد البيع ( وفى التقنين القديم إذا انقضت ستة أشهر ) أو نزل الشفيع عن هذا الحق ولو قبل البيع ( وفى التقنين القديم لم يكن يعتد بنزول الشفيع عن الحق قبل البيع ) ، كما لم يجز الأخذ بالشفعة ، بمقتضى المادة 939 ، إذا وقع البيع بين الأصول والفروع أو بين الزوجين أو بين الأقارب لغاية الدرجة الرابعة أو بين الأصهار لغاية الدرجة الثانية ( وفى التقنين القديم لم يكن يجوز الأخذ بالشفعة بين الأصول والفروع أو بين الزوجين أو بين الأقارب لغاية الدرجة الثالثة ) .
وفى الكتاب الرابع : وهو الكتاب الذى خصص للتأمينات العينية ، عالج التقنين الجديد فى الرهن الرسمى رهن الحصة الشائعة ، فنصت المادة 1039 على أن الرهن الصادر من جميع الملاك لعقار شائع يبقى نافذا أيا كانت النتيجة التى تترتب على قسمة العقار فيما بعد أو على بيعه لعدم إمكان قسمته ، وإذا رهن أحد الشركاء حصته الشائعة فى العقار أو جزءا مفرزاً من هذا العقار ، ثم وقع فى نصيبه عند القسمة أعيان غير التى رهنها ، انتقل الرهن بمرتبته إلى قدر من هذه الأعيان يعادل قيمة العقار الذى كان مرهونا فى الأصل . وهذا الحكم الجديد من شأنه أن يطمئن مرتهن الحصة الشائعة على ضمانه . وميز التقنين الجديد (م1033 ) بين رهن ملك الغير ويقع قابلا للإبطال ، ورهن المال المستقبل ويقع باطلا . وأجاز للدائن ( م1067 ) أن يطلب بيع العقار المطلوب تطهيره دون أن يكون مضطرا إلى زيادة العشر كما كان الأمر فى التقنين القديم .
ولم يلغ التقنين الجديد حق الاختصاص ، ولكنه قلل من عيوبه إلى حد بعيد . فأوجب أن يكون حق الاختصاص، ولكنه قلل من عيوبه إلى حد بعيد . فأوجب أن يكون بيد الدائن حكم واجب التنفيذ (م1085 فقرة 1 ) . وأجاز لكل ذى مصلحة أن يطلب إنقاص الاختصاص إلى الحد المناسب إذا كانت الأعيان التى رتب عليها هذا الحق تزيد قيمتها على ما يكفى لضمان الدين ( م1094 فقرة 1 ) ، ولم يستلزم ، من ناحية أخرى ، أن يقدم الدائن صورة رسمية من الحكم للحصول على حق الاختصاص ، بل اكتفى بشهادة من قلم الكتاب مدون فيها منطوق الحكم ( م1089 ) وهذه الشهادة يمكن الحصول عليها فى يوم صدور الحكم .
وسد التقنين الجديد ثغرة فى التقنين القديم بإيجاد حق امتياز للمقاولين وللمهندسين المعماريين ( م1148 ) . وقد عجل قانون الشهر العقارى إصلاحاً آخر ، بأن جعل حق امتياز بائع العقار ورهن الحيازة العقارى خاضعين لنظام القيد دون نظام التسجيل .
هذه هى أهم الأحكام التى استحدثها التقنين الجديد . وغنى عن البيان أن أى حكم منها لا يسرى على الماضى ، ولا يطبق إلا فيما يستجد من الوقائع منذ 15 أكتوبر سنة 1949 تاريخ نفاذ التقنين الجديد . وقد يثير عدم سريان هذه الأحكام على الماضى مشاكل نعالجها فى مواضعها من هذا الكتاب .
2- ما قنن التقنين الجديد من أحكام كان معمولا بها من قبل
وهذه طائفتان . طائفة هى الأحكام التى قررها القضاء المصرى دون نص فى ظل التقنين القديم ، وهى أحكام على درجة كبيرة من الأهمية والخطر ، ولم تكن مقننة فقننها التقنين الجديد . والطائفة الثانية أحكام كان منصوصا عليها فى التقنين القديم ، ولكن النصوص كانت إما معيبة فهذبها التقنين الجديد ، أو مدسوسة فى مكان غير التقنين المدنى فنقلها التقنين الجديد إلى مكانها الصحيح .
أ- الأحكام التى قررها القضاء المصرى فى ظل التقنين القديم دون نص فقننها التقنين الجديد :
هذه الأحكام تبلغ أكثر من نصف نصوص التقنين الجديد . فقد انتفع هذا التقنين انتفاعا بعيد المدى بالقضاء المصرى السابق ، من وطنى ومختلط ، وقنن المبادئ الهامة التى أقرها هذا القضاء فى خلال سبعين عاما عمل فيها فى ظل التقنين القديم .
ففى الباب التمهيدى ، وردت نصوص صريحة فى نظرية التعسف فى استعمال الحق وفى الأشخاص الطبيعية والاعتبارية وفى الجمعيات . وهذه المسائل لم يكن التقنين القديم يتناولها ، ولكن القضاء المصرى كان قد أقر مبادئها ووضع أسسها .
وفى نظرية الالتزام ، أخذ التقنين الجديد بأحكام القضاء المصرى فى طائفة كبيرة من النصوص . ففى العقد والعمل القانونى نقل عن القضاء المصرى كيف تتوافق الإرادتان ، وكيف يتعاقد الغائبان ، وأورد نصوصا صريحة فى مبادئ كان القضاء المصرى قد أقرها ، كالنيابة فى التعاقد ، والعقد الابتدائى ، والعربون ، والاستغلال ، وإنقاص العقد، وتحويله ، والخلف الخاص ، وعقود الإذعان ، والتعهد عن الغير ، والدفع بعدم تنفيذ العقد ، والوعد بجائزة . وفى مصادر الالتزام غير العقد نقل عن القضاء مسائل كثيرة ، كعلاقة السببية فى المسئولية التقصيرية ، وأسباب دفع المسئولية ، وطرق التعويض المختلفة ، واجتماع التقادم المدنى والتقادم الجنائى ، ونظرية الإثراء بلا سبب . كذلك قنن التقنين الجديد للقضاء المصرى فى مسائل أخرى غير مصادر الالتزام ، كالالتزام الطبيعى ، والالتزام باتخاذ الحيطة ، ونظرية التهديد المالى ، والخطأ المشترك ، والاتفاق على الإعفاء من المسئولية ، والضرر المباشر ، والضرر الأدبى ، والمطالبة القضائية بالفوائد ، وجواز تخفيض الشرط الجزائى إذا كان مبالغا فيه إلى درجة كبيرة ، ودعوى الصورية ، والوفاء بمقابل ، وتجديد الحساب الجارى ، والإنابة ، وتقادم الريع ، وتقادم الاستحقاق فى الوقف ، وبدء سريان التقادم، ووقفه ، وانقطاعه ، والنزول عنه ، وتحديد الورقة الرسمية والورقة العرفية ، ودفاتر التجار ، والأوراق المنزلية ، وجواز منع توجيه اليمين الحاسمة ، وجواز إثبات الحنث فيها .
وفى العقود المسماة ، قنن التقنين الجديد أحكام القضاء فى البيع بالتقسيط ، وفى إقرار المشترى بالاستحقاق ، وفى ضمان صلاحية المبيع ، وفى تقديم الشريك نفوذه حصة فى الشركة ، وفى القواعد التى تنظم إدارة الشركة ، وفى المسئولية عن ديون الشركة ، وفى استمرار الشركة مع القصر ، وفى إثبات الصلح بالكتابة ، وفى ضمان المؤجر للعيوب الخفية ، وفى حريق العين المؤجرة ، وفى التحسينات التى يستحدثها المستأجر ، وفى أثر موت المستأجر فى انقضاء عقد الإيجار ، وفى انتهاء الإيجار بالحوادث الطارئة وبانتقال الموظف وبهلاك الزرع ، وفى عدم إنقاص أجر الوكيل إذا دفع طوعا بعد تنفيذ الوكالة ، وفى نائب الوكيل ، وفى مسئولية الموكل عن الضرر الذى يصيب الوكيل ، وفى تعدد الوكلاء ، وفى وديعة الفنادق ، وفى كفالة ناقص الأهلية ، وفى تزاحم الدائن مع الكفيل فى الرجوع على المدين . كما أورد التقنين الجديد عقوداً كاملة كان القضاء المصرى قد أقر مبادئها الأساسية ، كعقد التزام المرافق العامة ، وعقد العمل ، وعقد التأمين .
وفى الحقوق العينية الأصلية ، نقل التقنين الجديد عن القضاء المصرى حقوق الجوار ، وحق الشرب والمسيل ، وحق المرور ، والحائط المشترك ، وشرط عدم التصرف ، وكثيراً من أحكام الملكية الشائعة ، والقسمة ، والشيوع الإجبارى ، وملكية الطبقات ، والتصرفات الصادرة فى مرض الموت ، وتزاحم الشفعاء ، وحق السكنى ، والقيود التى تحد من حق مالك العقار فى البناء عليه كيف شاء .
وفى التأمينات العينية ، نقل التقنين الجديد أحكام القضاء المصرى فى شرط تملك الرهن عند عدم الوفاء ، وفى نزول الدائن المرتهن عن مرتبته ، وفى الحائز للعقار المرهون ، وفى بعض أحكام التطهير ، وفى منع حق الاختصاص بعد إعسار المدين أو موته ، وفى رهن الدين رهن حيازة ، وفى ترتيب حقوق الامتياز ، وفى التفصيلات المتعلقة بامتياز المؤجر وامتياز صاحب الفندق .
ب- الأحكام التى كانت تقوم على نص تشريعى :
نصوص كانت معيبة فهذبت : كان التقنين القديم يشتمل على نصوص معيبة فهذبها التقنين الجديد . من ذلك النصوص المتعلقة بتقسيم الأشياء والأموال ، والنصوص التى وردت فى الغلط ، وفى السبب ، وفى البطلان ، وفى الاشتراط لمصلحة الغير ، وفى مسئولية المكلف بالرقابة ، وفى مسئولية المتبوع ، وفى دفع غير المستحق ، وفى الفضالة ، وفى الدعوى غير المباشرة ، وفى الدعوى البوليصية ، وفى الحق فى الحبس ، وفى التضامن ، وفى المقاصة ، وفى وقف التقادم ، وفى البيع فى مرض الموت ، وفى عقد المقاولة ، وفى الحراسة ، وفى القيود القانونية الواردة على حق الملكية ، وفى نظرية الحيازة ، وفى نظرية حق الارتفاق .
نصوص كانت فى مكان آخر فنقلت إلى التقنين المدنى : نقل التقنين الجديد هذه النصوص إليه ووضعها فى مكانها الصحيح . من ذلك النص على مصادر القانون ، وكان وارداً فى لائحة المحاكم الوطنية . وأحكام الأهلية والهبة وإيجار الوقف والحكر ، وكان الباحث يلتمسها فى كتب الفقه الإسلامى . وأحكام العرض الحقيقى والإيداع والحوالة بين حجزين وإجراءات حق الاختصاص والبقاء فى الشيوع لمدة معينة ، وهذه الأحكام كانت محشورة بين نصوص تقنين المرافعات . وقسمة المورث ، وقد وردت نصوصها فى قانون الوصية . والشفعة ، وكانت قد فصلت عن التقنين المدنى وصدر بها قانون خاص ([65]) .
( 4 )
الاتجاهات العامة للتقنين الجديد
( موقف التقنين الجديد من الاتجاهات العامة للتقنينات الحديثة )
( التقنين الجديد بين الاستقرار والتطور ، وبين الفرد والجماعة )
***
أ- موقف التقنين الجديد
من الاتجاهات العامة للتقنينات الحديثة
يحسن ، حتى نرسم موقف التقنين الجديد من الاتجاهات العامة للتقنينات الحديثة ، أن نبين أولا أهم هذه الاتجاهات . ويمكن ردها إلى اتجاهين رئيسيين : ( الاتجاه الأول ) يتعلق بالمدى الذى يسلم به تقنين معين بمبدأ سلطان الإرادة ، والحد الذى يفصل فى هذا التقنين ما بين المنطقة التى تنظمها الإرادة والمنطقة التى ينظمها القانون . ( والاتجاه الثانى ) يتعلق بمقدار ما ينطوى عليه تقنين معين من نزعة ذاتية tendance subjective ، ومقدار ما ينطوى عليه من نزعة موضوعية tendance objective ، وأية نزعة من هاتين النزعتين هى المتغلبة على الأخرى فى هذا التقنين . وهذا الاتجاه الرئيسى الثانى ينطوى على اتجاهات متنوعة . ذلك أن النزعة الذاتية أو النزعة الموضوعية للتقنين تفرض عليه موقفاً معيناً إزاء تنازع نظريات متعارضة فى أمور ثلاثة : (1) الأمر الأول – أى المذهبين نختار فى تصوير الالتزام : المذهب الشخصى أو المذهب المادى ؟ (2) والأمر الثانى – أية النظريتين نختار فى التعبير عن الإرادة : نظرية الإرادة الباطنة أو نظرية الإرادة الظاهرة ؟ (3) والأمر الثالث – حظ التصرف المجرد acte abstrait بالنسبة إلى التصرف المسبب ، وهل يجوز أن يكون للأول مكان يحتله بجوار المكان الذى يحتله الثانى؟ فالنزعة الذاتية تفرض اختيار المذهب الشخصى للالتزام ، وتؤثر نظرية الإرادة الباطنة ، ولا تجعل للتصرف المجرد مكانا ملحوظاً إلى جانب التصرف المسبب . أما النزعة الموضوعية فعلى النقيض من ذلك تختار المذهب المادى للالتزام ، وتؤثر نظرية الإرادة الظاهرة ، وتجعل للتصرف المجرد مكانا ملحوظا إلى جانب التصرف المسبب .
ومن ثم فالاتجاهات العامة للتقنينات الحديثة يمكن جمعها حول المسائل الأربع الآتية : (1) مبدأ سلطان الإرادة . (2) النظرية الشخصية والنظرية المادية للالتزام . (3) نظرية الإرادة الباطنة ونظرية الإرادة الظاهرة . (4) التصرف المسبب والتصرف المجرد .
ويقال عادة إن هذه الاتجاهات العامة فى جملتها تفصل ما بين التقنينات اللاتينية والتقنينات الجرمانية . فالأولى مشبعة بروح الفردية بالنسبة إلى مبدأ سلطان الإرادة فتأخذ به إلى مدى بعيد ، أما الأخرى فمشبعة بروح الجماعة فتضع قيوداً كثيرة على هذا المبدأ . والأولى تأخذ بالنظرية الشخصية للالتزام ، بينما تأخذ الأخرى بالنظرية المادية . وتؤثر الاولى نظرية الإرادة الباطنة ، بينما تؤثر الأخرى نظرية الإرادة الظاهرة . والتصرف المسبب هو القاعدة فى التقنينات الأولى ، أما التقنينات الأخرى فتبرز إلى جانب التصرف المسبب التصرف المجرد وتضع له نظرية عامة .
على أن هذا القول يلقى على عواهنه دون تمحيص . وهو إذا صدق فإنما يصدق فى الناحية الفقهية أكثر مما يصدق فى الناحية التشريعية . ذلك أنه لا يوجد تقنين حديث انحاز انحيازاً مطلقاً إلى أحد الاتجاهين ، ونبذ بتاتا الاتجاه الآخر . فالتقنين الألمانى – وهو عنوان التقنينات الجرمانية – احترم مبدأ سلطان الإرادة إلى مدى بعيد ، واعتد بالعنصر الشخصى فى الالتزام ، وأخذ بالإرادة الباطنة فى كثير من النواحى ، وعرف التصرف المسبب فاعتبره باطلا إذا كان مخالفاً للآداب ، وجعله قابلا للإبطال إذا شاب الإرادة عيب . والتقنن الفرنسى – وهو عنوان التقنينات اللاتينية – يضع قيوداً كثيرة على مبدأ سلطان الإرادة ، ويعتد فى بعض الحالات بالعنصر المادى فى الالتزام ، ويأخذ بالإرادة الظاهرة فى بعض النواحى ، ويعرف التصرف المجرد ولو على سبيل الاستثناء . فالفصل ما بين التقنينات الجرمانية والتقنينات اللاتينية فى هذه الاتجاهات لا يجوز أن يكون فصلا تاماً . والذى يمكن أن يقال فى هذا الصدد أن نزعة التقنينات الجرمانية أقرب إلى اتجاهات منها إلى اتجاهات أخرى ، وعلى العكس من ذلك التقنينات اللاتينية ، ولكن دون أن نستبعد هذه الاتجاهات الأخرى استبعاداً تاماً عن كل من النظامين ([66]) .
أضف إلى ما تقدم أن القوانين اللاتينية تأثرت فى الخمس عاما الأخيرة ، منذ ظهور التقنين الألمانى ، بالنزعة الجرمانية تأثراً كبيراً . وقامت حركة تهدف إلى هذا الغرض ، حمل سالى (Saleilles) لواءها فى مسهل القرن العشرين . وبرز هذا الطابع فى التقنينات اللاتينية الحديثة التى ظهرت فى القرن الحالى . ترى ذلك واضحا فى التقنين التونسى والمراكشى ، وفى التقنين اللبنانى ، وفى المشروع الفرنسى الإيطالى ، وفى التقنين الإيطالى الجديد ، وفى تقنينات أخرى متخيرة كالتقنين البولونى والتقنين البرازيلى والتقنين الصينى . وكان من أثر ذلك أن أصبحت هناك فروق محسوسة بين التقنين المدنى الفرنسى أو تقننن نابليون ( Code civil francais, Code Napoleon ) والقانون المدنى الفرنسى (Droit civil francais) وانفرجت مسافة الخلف بينهما ([67]) .
أما التقنين المصرى الجديد فقد بدأ فى مشروعه التمهيدى يتأثر تأثراً ظاهراً بنزعة القوانين الجرمانية . ولكن هذا التأثر أخذ يخف تدرجا فى المراحل التالية ، وقد خف بنوع خاص فى المشروع النهائى أمام لجنة المراجعة ، ثم فى المشروع الذى أقرته لجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ . وهو فى الصورة الأخيرة التى صدر بها قد انحاز انحيازا نهائياً إلى النظام اللاتينى . وإذا كانت هناك بقايا من النزعة الجرمانية لا تزال موجودة ([68]) ، فذلك هو القدر الذى تأثرت فى حدوده القوانين اللاتينية ذاتها فقها وتشريعاً بالنزعة الجرمانية . وقد تأثر تبعاً لها التقنين المصرى الجديد ، حتى صح أن يقال إن هذا التقنين لا يزال منتميا للنظام اللاتينى لا فى دائرة التقنين المدنى الفرنسى بالذات ، ولكن فى دائرة أوسع هى دائرة القانون المدنى الفرنسى المتأثر ببعض النزعات الجرمانية ([69]) .
وإذن لم يخرج التقنين المصرى الجديد على تقاليده اللاتينية ، بل بقى محتفظا بها . والزعم بأن هذا القانون قد أحدث ثورة وانقلابا فى الأوضاع المدنية التى كانت قائمة قبله زعم لا يقوم على أساس . فلا ثورة ولا انقلاب ، ولكن تسجيل لما تم فعلا من تأثر النظريات اللاتينية بالنظريات الجرمانية . وقد استبقى التقنين الجديد النظام اللاتينى أساسا له. ولكن النظام اللاتينى الذى استبقاه ليس هو ذلك النظام الذى ساد التقنين المدنى الفرنسى فى مقتبل القرن التاسع عشر ، بل النظام الذى تطور مسايراً للحاجات العملية وتخطى أعناق السنين حتى وصل إلى منتصف القرن العشرين . فالقول بالثورة والانقلاب قول يخالف الواقع ، وينطوى على تجاهل لما تم من تطور فى النظم اللاتينية فى مدى قرن ونصف قرن .
وونظر الآن فى ضوء ما قدمناه إلى موقف التقنين الجديد من هذه الاتجاهات العامة التى أسلفنا ذكرها .
1- مبدأ سلطان الإرادة :
وقف التقنين الجديد من مبدأ سلطان الإرادة موقفاً معتدلا . فلا هو انتقص منه إلى حد أن جعله يفنى فى سلطان المشرع وسلطان القاضى ، إذ لا يزال الأصل أن الإرادة حرة تحدث من الآثار القانونية ما تتجه إلى إحداثه ، ولا هو تركه يطغى فيستبد بإنشاء العلاقات القانونية وبتحديد آثارها دون نظر إلى المصلحة العامة وإلى مقتضيات العدالة .
استبقى القيود التى كان التقنين القديم يرسمها حدودا لسلطان الإرادة . فلا تزال هناك عقود شكلية روعى فى شكليتها اعتبارات تمت للنظام العام ، أو تتجه لحماية أطراف العقد أنفسهم . ولا تزال العقود الرضائية ذاتها محصورة فى نطاق النظام العام والآداب . ولا تزال الحدود المادية للغبن فى بعض العقود قائمة كما فى بيع عقار القاصر وإبحار الوقف ، بل زاد التقنين الجديد عليها عقد القسمة إذا زاد الغبن فيه على الخمس ( م 845 ) .
واستحدث قيودا جديدة طاوع فيها التطور الاجتماعى والاقتصادى للقانون طوال العصور الأخيرة ، بل سجل فى بعضها ما كان القضاء المصرى ذاته قد وصل إليه من حلول عن طريق هذا التطور .
فقيد من سلطان الإرادة عند تكوين العقد ، بأن وسع من نطاق الغبن ، وحوره من نظرية مادية جامدة تقتصر على عقود معينة ، إلى نظرية ذاتية مرنة تتناول جميع العقود . فرسم بذلك للإرادة حدودا جديدة لا تتعداها ، ومنع أن يستغل المتعاقد طيشاً أو هوى آنسه فى المتعاقد الآخر حتى لو رضى هذا بما وقع عليه من غبن ، إذ أن إرادته فى هذه الحالة لا تكون صحيحة ، ولا يرتب القانون عليها أثرها ( أنظر المادة 129 ) . ومثل الاستغلال الإذعان ، رسم التقنين الجديد له أيضا حدودا لسلطان الإرادة عند تكوين العقد ، وذلك إذا كان قبول المتعاقد يقتصر على مجرد التسليم بشروط مقررة يضعها الموجب ولا يقبل مناقشة فيها . وإذا كان المتعاقد فى حالة الاستغلال يستغل فى المتعاقد الآخر ظروفاً شخصية خاصة ، فهو فى حالة الإذعان يستغل فيه ظروفاً اقتصادية عامة ، والمتعاقد المغبون مذعن فى الحالتين . ومن ثم قيد القانون من سلطان الإرادة فى حالة الإذعان كما قيد منها فى حالة الاستغلال . فقضى بأنه إذا تم العقد بطريق الإذعان ، وكان قد تضمن شروطاً تعسفية ، جاز للقاضى أن يعدل هذه الشروط أو أن يعفى الطرف المذعن منها ، وذلك وفقا لما تقضى به العدالة ( أنظر المادة 149 ) ([70]) بل إن التقنين الجديد سار فى الحد من سلطان الإرادة إلى مدى أبعد . فألزم ، كما قدمنا فى إدارة المال الشائع وفى التصرف فيه ، أقلية الملاك فى الشيوع أن تخضع لإرادة الأغلبية ( أنظر المواد 828 و 829 و 832 ) ، وجعل زمام الإدارة فى يد الأغلبية إذا كون ملاك طبقات البناء الواحد اتحادا فيما بينهم ( أنظر المواد 864 و 865 و 866 و 867 ) ([71]) وفى هذا كله خروج على مبدأ سلطان الإرادة ، ولكن التقنين الجديد ضحى بهذا المبدأ رعاية لمصلحة أعلى هى أن يكفل للمال الشائع إدارة حسنة يقتضيها الصالح المشترك لجميع الملاك فى الشيوع . ولم يقتصر التقنين الجديد على إحلال إرادة المشرع محل إرادة المتعاقد كما رأينا فى الأمثلة السابقة ، بل زاد على ذلك أن أحل فى بعض الحالات إرادة القاضى محل إرادة المتعاقد كما سنرى ( أنظر المادة 95).
وقيد من سلطان الإرادة عند تنفيذ العقد ، فجعل نظرية الحوادث الطارئة وقت هذا التنفيذ تقابل نظريتى الاستغلال والإذعان وقت تكوين العقد ، ونص فى الفقرة الثانية من المادة 147 على أنه (( إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن فى الوسع توقعها ، وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدى ، وإن لم يصبح مستحيلا ، صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة ، جاز للقاضى ، تبعا للظروف وبعد الموازنة بين مصلحةالطرفين ، أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول . ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك )) . وطبق هذه النظرية تطبيقا خاصا فى عقدى الإيجار والمقاولة . فنص فى الفقرة الأولى من المادة 608 على أنه (( إذا كان الإيجار معين المدة ، جاز لكل من المتعاقدين أن يطلب إنهاء العقد قبل انقضاء مدته إذا جدت ظروف خطيرة غير متوقعة من شأنها أن تجعل تنفيذ الإيجار من مبدأ الأمر أو فى أثناء سريانه مرهقاً )) ( أنظر أيضاً المادة 602 فقرة 2 والمادة 609 ) . ونص فى الفقرة الرابعة من المادة 658 على أنه (( إذا أنهار التوازن الاقتصادى بين التزامات كل من رب العمل والمقاول بسبب حوادث استثنائية عامة لم تكن فى الحسبان وقت التعاقد ، وتداعى بذلك الأساس الذى قام عليه التقدير المالى لعقد المقاولة ، جاز للقاضى أن يحكم بزيادة الأجر أو بفسخ العقد )) . وكجواز إنقاص الالتزام الذى أصبح مرهقاً لحوادث طارئة جواز تخفيض التعويض في الشرط الجزائي إذا تبين عند تنفيذ العقد أن التعويض المتفق عليه يزيد كثيرا على الضرر الذي وقع فعلا ، وقد نصت الفقرة الثانية من المادة 24 على أنه " يجوز للقاضي أن يخفض هذا التعويض إذا اثبت المدير أن التقدير كان مبالغاً فيه إلى درجة كبيرة " . ومثل ذلك أيضاً أن يقتصر المدين على دفع تعويض نقدي إذا تبين أن في التنفيذ العيني إرهاقاً له ، وقد نصت الفقرة الثانية من المادة 203 على انه " إذا كان في التنفيذ العيني ارهاق للمدين ، جاز له أن يقتصر على دفع تعويض نقدي إذا كان ذلك لا يلحق بالدائن ضرراً جسيماً " . ونصت الفقرة الثانية من المادة 1018 ، وهي تضع الجزاء على مخالفة القيود التي تحد من حق مالك العقار في البناء ، على أن " كل مخالفة لهذه القيود تجوز المطالبة بإصلاحها عينا ، ومع ذلك يجوز الاقتصار على الحكم بالتعويض إذا رأت المحكمة ما يبرر ذلك " . ومثل ذلك اخيراً ما رتبه التقنين الجديد على تغير الظروف في تعديل حق الإرتفاق وفي إنهائه . فنص في الفقرة الثانية من المادة 1023 ، في صدد النهي عن إبدال موضع آخر بالموضع المعين أصلاً لاستعمال حق الإرتفاق ، على ما يأتي : " ومع ذلك إذا كان الموضع الذي عين أصلاً من أصبح من شأنه أن يزيد في عبء الإرتفاق ، أو أصبح الإرتفاق مانعاً من إحداث تحسينا في العقار المرتفق به ، فلمالك هذا العقار أن يطلب نقل الإرتفاق إلى موضع آخر من العقار ، أو إلى عقار آخر مملكه هو أو يملكه أجنبي إذا قبل الأجنبي ذلك ، كل هذا متى كان استعمال الإرتفاق في وضعه الجديد ميسوراً لمالك العقار المرتفق بالقدر الذي كان ميسوراً به في وضعه السابق " . ونص في المادة 1029 على أن " لمالك العقار المرتفق به أن يتحرر من الإرتفاق كله أو بعضه إذا فقد الإرتفاق كل منفعة للعقار المرتفق أو لم تبق له غير فائدة محدودة لا تتناسب البتة مع الأعباء الواقعة على العقار المرتفق به " ( أنظر أيضاً المادتين 1024 و 1025 ) .
كل هذه قيود على سلطان الإرادة استحدثها التقنين الجديد – وقد سبقه القضاء المصري إلى بعض منها – فخفف بهذا التجديد من النزعة الفردية التي كانت تميز التقنينات اللاتينية ، والتي كان من شأنها أن تطلق مبدأ سلطان الإرادة إلى مدى بعيد قد يتعارض مع العدالة والمصلحة . ولم يجاوز التقنين الجديد حدود الاعتدال في تقييد هذا المبدأ ، إذ هو فيما قيده به قد جارى النزعة الحديثة المتمشية ، لا في التقنينات الجرمانية وحدها بل وفي التقنينات اللاتينية الحديثة ذاتها ، فساير بذلك تطوراً محموداً سجله العصر الحاضر لهذه التقنينات ( [72] ) .
ب - النظرية الشخصية والنظرية المادية للالتزام :
سنرى عند الكلام في نظرية الالتزام أن هناك مذهبين يختلفان في النظرة إلى الالتزام . فالمذهب الشخصي يرى أن الأمر الجوهري فيه هو ما يقوم من رابطة شخصية فيما بين الدائن والمدين . وهذه هي نظرية القانون الرومانين وعنها أخذت القوانين اللاتينية . أما المذهب المادي فينظر إلى محل الالتزام باعتبار انه هو العنصر الأساسي فيه ، وينزل عنصر الرابطة الشخصية إلى المكان الثاني ، فيصبح الالتزام في نظر هذا المذهب عنصراً مالياً أكثر منه علاقة شخصية . وهذه هي النظرية الجرمانية ، قال بها جييرك ومن نحا نحوه من فقهاء الألمان متأثرين في ذلك بالتقاليد الجرمانية القديمة ، ونابذين تقاليد القانون الروماني .
والمذهب المادي يفسر تفسيراً منطقياً صحيحاً كيف يبقى الالتزام رغم تغير اطرافه . لو أن الالتزام ، في عنصره الجوهري ، رابطة شخصية ، لزال بزوال هذه الرابطة ، ولما أمكن أن يتغير الدائن في حوالة الحق ، والمدين في حوالة الدين ، دون أن يتغير الالتزام ذاته . ويفسر المذهب كذلك تفسيراً منطقياً صحيحاً كيف يجوز أن ينشأ الالتزام دون دائن . والالتزامات التي تنشأ دون دائن تقع كثيراً في الحياة العملية ، فمن ذلك التزام الواعد بجائزة ، والتزام المتعهد لمصلحة شخص غير معين أو شخص غير موجود في الاشتراط لمصلحة الغير ، والتزام من يوقع السند لحامله ، فلو أن الالتزام ليس في جوهره إلا رابطة شخصية بين دائن ومدين ، لما صح أن ينشأ التزام دون أن يوجد الدائن والمدين معا وقت نشوء الالتزام ، حتى تقوم الرابطة بينهما .
وقد كانت التقنينات اللاتينية ، بالرغم من اعتناقها للمذهب الشخصي في الالتزام ، تفسح مجالا لبعض تطبيقات المذهب المادي ، فتعترف بحوالة الحق دون حوالة الدين ، وبالسند لحامله ، وتطور فيها الاشتراط لمصلحة الغير حتى أصبح من المستطاع الاشتراط لمصلحة شخص غير معين ولمصلحة شخص مستقبل . ولما احتك المذهب المادي ببالمذهب الشخصي سارت التقنينات اللاتينية في تطورها ، فاعترف بعضها بحوالة الدين إلى جانب حوالة الحق ، ونص بعضها على جواز الوعد بجائزة لشخص غير معين .
وقد وقف التقنين الجديد هنا أيضاً موقف الاعتدال فم يغرق في الأخذ بالمذهب المادي ، ولكنه من جهة أخرى سجل ما تم فعلا من تطور نحو هذا المذهب بحكم تأثر النظريات اللاتينية بالنظريات الجرمانية .
فهو أولاً استبقى التطبيقات القديمة للمذهب المادي ، فاعترف بحوالة الحق ( أنظر المواد 303 – 314 ) ، واقر ما وصل إليه الفقه والقضاء منذ عهد طويل من جواز الاشتراط لمصلحة شخص مستقبل أو جهة مستقبلة أو لمصلحة أو جهة لم يعينا وقت العقد متى كان تعيينهما مستطاعاً وقت أن ينتج العقد أثره ( أنظر المادة 156 ) .
وهو ثانياً سجل ما تطورت إليه التقنينات اللاتينية في ناحية المذهب المادي إلى أقصى مدى وصل إليه هذا التطور حتى لا يكون متخلفاً عن عصره فنظم إلى جانب حوالة الحق حوالة الدين ( أنظر المواد 315 – 322 ) ، ونص صراحة على أن من وجه للجمهور وعدا بجائزة يعطيها عن عمل معين التزم بإعطاء الجائزة لمن قام بهذا العمل ، ولو قام به دون نظر إلى الوعد بالجائزة أو دون علم بها ( أنظر المادة 162 ) .
وهو بعد هذا وذاك لم يهجر المذهب الشخصي للالتزام ، ولم يخرج على تقاليده خروجاً لا تبرره المصلحة العملية . فلا يزال الالتزام رابطة ما بين شخصين ، ولا يزال الالتزام الارادي يقوم على الإرادة المشتركة للدائن والمدين ، وعن طريق هذه الإرادة تتسرب العوامل النفسية والخقية . فيجب أن تكون الإرادة حرة مختارة ، لا إكراه يعيبها ولا استغلال . ويجب أن تكون على هدى ، لا غلط يشوبها ولا تدليس . وجعل التقنين الجديد لعقود الاذعان أحكاماً خاصة ، وافسح جانباً للظروف الطارئة غير المتوقعة ، مما سبق بيانه . أما الالتزام غير الإرادي فلا يزال هو أيضاً رابطة ما بين شخصين إلى حد أن الدائن بتعويض عن ضرر أدبي لا ينتقل حقه إلى ورثته إلا إذا كان هذا التعويض قد تحدد بمقتضى اتفاق بينه وبين المسئول أو كان قد طالب به أمام القضاء ( أنظر المادة 222 ) . وفي هذا اعتراف صريح بالعامل الشخصي في الالتزامات غير العقدية .
ج – نظرية الإرادة الباطنة ونظرية الإرادة الظاهرة
سنرى في هذا أيضاً ، عند الكلام في نظرية العقد ، أن هناك مذهبين يختلفان في النظرة إلى الإرادة . فمذهب الإرادة الباطنة – وهو المذهب اللاتيني – يقف عند الإرادة النفسية ، أما التعبير المادي عن هذه الإرادة فليس إلا قرينة عليها تقبل إثبات العكس . ومذهب الإرادة الظاهرة – وهو المذهب الجرماني – يقف عند التعبير عن الإرادة ، ويعتبره هو الإرادة ذاتها ، إذ التعبير هو المظهر الاجتماعي للإرادة والقانون إنما يعنيه الظواهر الاجتماعية دون الظواهر النفسية ، هذا إلى أن التعبير عن الإرادة هو الشيء المادي الذي يقف عنده المتعاملون ويطمئنون إليه في تعاملهم .
ولم تسلم التقنينات اللاتينية من أثر المذهب الإرادة الظاهرة ، كما لم تسلم التقنينات الجرمانية من أثر لمذهب الإرادة الباطنة . ويعنينا في هذا الصدد أن نبين أن التقنين الجديد بقى في حظيرة التقنينات اللاتينية . فالأصل عنده هو الأخذ بالإرادة الباطنة ، ولكنه مع ذلك يأخذ بالإرادة الظاهرة إلى الحد الذي يقتضيه استقرار التعامل . وهو في هذا قد تأثر بالنزعة الجرمانية الموضوعية تأثر التقنينات اللاتينية ذاتها بهذه النزعة ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
أخذ التقنين الجديد بالإرادة الظاهرة ، ابتغاء استقرار التعامل ، في تكوين العقد وفي تفسيره .
ففي تكون العقد سار إلى حد أن أقام العقد في بعض الحالات على الإرادة الظاهرة . فهو ينص في المادة 91 على أن التعبير عن الإرادة ينتج أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه . ويترتب على ذلك أن من وجه إليه إيجاب فقبله ثم عدل ، ولكن القبول وصل إلي علم الموجب قبل أن يصل العدول ، يرتبط بالعقد ، لا على أساس إرادته الحقيقية التي عدل عنها ، بل على أساس إرادته الظاهرة وهي وحدها التي اقترن بها الإيجاب . كذلك تنص المادة 92 من القانون الجديد على أنه " إذا مات من صدر منه التعبير عن الإرادة أو فقد أهليته قبل أن ينتج التعبير أثره فان ذلك لا يمنع من ترتب هذا الأثر عند اتصال التعبير بعلم من وجه إليه " . ولا يستقيم هذا الحكم على أساس الإرادة الباطنة الكامنة في النفس ، وهي الإرادة التي تموت بموت صاحبها وتزول بفقده لأهليته ، بل على أساس الإرادة الظاهرة التي انفصلت عن صاحبها فأصبحت مستقلة عنه ، وتبقى حتى بعد موته أو بعد فقده لأهليته . ويقرر التقنين الجديد أن غلط أحد المتعاقدين لا يكون سبباً في إبطال إلا إذا كان المتعاقد الآخر قد وقع في الغلط ذاته أو كان على علم به أو اكن من السهل عليه أن يتبينه ( م 120 ) . ويترتب على ذلك انه إذا كان الغلط قد انفرد به المتعاقد الأول ، ولم يقع فيه المتعاقد الآخر ، ولم يعلم به ولم يكن من السهل عليه أن يتبينه ، فإن العقد يكون صحيحاً ، لا على أساس الإرادة الحقيقية للمتعاقد الأول ، فان هذه الإرادة قد شابها غلط فجعلها فاسدة ، ولكن على أساس إرادته الظاهرة التي اطمأن إليها المتعاقد الآخر واعتمد عليها في ترتيب شئونه . ويقرر التقنين الجديد أيضاً انه إذا صدر التدليس من غير المتعاقدين ، فليس للمتعاقد المدلس عليه أن يطلب إبطال العقد ، ما لم يثبت أن المتعاقد الآخر كان يعلم أو كان من المفروض حتما أن يعلم بهذا التدليس ( م 126 ) . ويقرر في صدد الإكراه ما قرره في صدد التدليس ، فينص على أنه إذا صدر الإكراه من غير المتعاقدين ، فليس للمتعاقد المكره أن يطلب إبطال العقد ، ما لم يثبت أن المتعاقد الآخر كان يعلم أو كان من المفروض حتما أن يعلم بهذا الإكراه . فإذا كان المتعاقد الآخر لا يعلم بوقوع التدليس أو الإكراه ، وكان في الوقت ذاته يتعذر عليه أن يعلم ذلك ، فان العقد يكون صحيحاً ، لا على أساس الإرادة الحقيقية للمتعاقد الأول ، فإن هذه الإرادة قد أفسدها التدليس أو الإكراه ، ولكن على أساس إرادته الظاهرة التي اعتمد عليها المتعاقد الآخر ( [73] ) .
وفي تفسير العقد يمكن القول أن التقنين الجديد قد أخذ من طريق غير مباشر بالإرادة الظاهرة في العقود التي تكون عبارتها واضحة . فقد نص في الفقرة الأولى من المادة 150 على أنه " إذا كانت عبارة العقد واضحة ، فلا يجوز الانحراف عنها من طريق تفسيرها للتعرف على إرادة المتعاقدين " . صحيح أن عبارة العقد الواضحة تؤخذ على إنها تعبير أمين عن الإرادة الحقيقية ، وفي التزام هذه العبارة للتعرف على إرادة المتعاقدين التزام للإرادة الحقيقية لا الإرادة الظاهرة . ولكن وراء هذا الافتراض حقيقة ملموسة ، هي إننا إنما نستخلص الإرادة الحقيقة من الإرادة الظاهرة ، ولا يجوز لنا أن ننحرف عن هذا للتعرف على تلك . فنحن في الواقع من الأمر نأخذ بالإرادة الظاهرة ، وإن كنا نفعل ذلك تحت ستار أن الإرادة الظاهرة هي الإرادة الحقيقية ذاتها .
ويتبين مما قدمناه أن التقنين الجديد قد أخذ بالإرادة الظاهرة في بعض الفروض ، سواء كان ذلك في تكوين العقد أو في أثناء تفسيره . فساغ له من وجه أن ينص في المادة 89 على أن العقد يتم " بمجرد أن يتبادل طرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين " ، فجعل التعبير عن طريق التعرف على الإرادتين وما يقوم بينهما من تطابق . ولكن لا يجوز السير في هذا الطريق إلى مدى أبعد مما تحتمله النصوص فليس صحيحاً أن التقنين الجديد أخذ بالإرادة الظاهرة كقاعدة عامة . وإذا كان قد أخذ بها في بعض الفروض ، فقد صدر في ذلك عن اعتبار مشروع هو تحقيق استقرار التعامل . وهو إذا جعل التعبير طريق التعرف على الإرادة فإنما أراد عن طريق هذه العلاقة المادية التعرف على الإرادة الحقيقية بالقدر الذي يمكن التعرف عليها ، ولم يرد الأخذ بالإرادة الظاهرة التي تقف عند ظاهر التعبير . وإلا فالواضح أن التقنين الجديد قد أخذ بالإرادة الباطنة ، أو الإرادة الحقيقية للمتعاقدين ، كقاعدة عامة ، وفي مواطن شتى ، سواء كان ذلك عند تكوين العقد أو عند تفسيره .
ففي تكوين العقد ، لم يعتد بالإرادة إلا في معدنها الحقيقي ، حرة مختارة غير مضللة ولا واهمة ، فمحصها من الغلط والتدليس والإكراه والاستغلال ، بل إنه تعقبها في مظان ما قد تخضع له من ضغط كما فعل في عقود الاذعان . ثم سار في استصفاء الإرادة الحقيقية واستكناه ما تتجه إليه من غايات مستترة إلى مدى أبعد ، إذ اعتد لا بالإرادة وحدها بل أيضاً بالباعث الذي كان دافعاً لها . وهذه هي نظرية السبب أخذ التقنين الجدي بها كاملة ، وفي الأخذ بهذه النظرية انحياز واضح للإرادة الباطنة .
وفي تفسير العقد ، أخذ التقنين الجديد أيضاً بالإرادة الباطنة ، إذا كانت عبارات العقد غير واضحة . فنص في الفقرة الثانية من المادة 150 على أنه " إذا كان هناك محل لتفسير العقد ، فيجب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين دون الوقوف عند المعني الحرفي للألفاظ ، مع الاستهداء في ذلك بطبيعة التعامل ، وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين ، وفقا للعرف الجاري في المعاملات " . فالأصل إذن في تفسير العقد هو البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين ، أي تلمس الإرادة الحقيقية . وإذا كان التقنين الجديد يضع معايير موضوعية للبحث عن هذه الإرادة الحقيقية كطبيعة التعامل والعرف الجاري في المعاملات ، فإن هذه المعايير ليست إلا طرقاً للنفاذ إلى الإرادة الحقيقية للمتعاقدين على نحو منضبط يمكن الاطمئنان إليه .
والذي يخلص لنا من متابعة التقنين الجديد أن الأصل في الإرادة هي الإرادة الباطنة . ولكن هذه الإرادة في بعض الأحوال ، تبعاً لمقتضيات الاستقرار في التعامل ، تتجسم في المظهر الذي اتخذ للتعبير عنها ، فتصبح هي الإرادة الظاهرة ، وتقوم عندئذ على أساس من الثقة المشروعة التي يولدها هذا المظهر في نفوس المتعاملين . ( [74] ) وإذا كان التقنين الجديد قد سار في طريق الإرادة الظاهرة إلى مدى أبعد مما فعل التقنين الفرنسي : فإن له في ذلك أسوة بالتقنين اللاتينية الحديثة التي خطت هي أيضاً خطوات واسعة في هذا الطريق . ومهما يكن من أمر اقتراب التقنين الجديد من الإرادة الظاهرة ، فهو على كل حال لم يبلغ في ذلك مبلغ التقنين الألماني والتقنينات الجرمانية الأخرى ، ولا يزال في هذا الصدد باقياً في حظيرة التقنينات اللاتينية المتطورة .
د – التصرف المسبب والتصرف المجرد :
سنرى عند الكلام في نظرية السبب أن هذه النظرية هي المحك الذي تتميز به التقنينات ذات الصبغة الذاتية عن التقنينات ذات الصبغة الموضوعية . فالتقنينات الأولى تأخذ بنظرية نفسية للسبب ، وتفسح له مجالا واسعاً ، ولا تقر التصرف المجرد عن سببه إلا في حدود ضيقة . أما التقنينات الأخرى فتأخذ بنظرية موضوعية للسبب ، ولا تفسح له إلا مكاناً محدوداً ، وتتوسع في إقرار التصرف المجرد ، وترده إلى قاعدة عامة .
وسنرى أن القانون الفرنسي قد خطا في النظرية السبب خطوات واسعة ، واستبدل القضاء الفرنسي بالنظرية التقليدية الضيقة ، وهي نظرية موضوعية ، نظرية حديثة جعلت السبب هو الباعث الذي دفع إلى التعاقد ، فحورته إلى فكرة نفسية مخصبة . واشترط في كل تصرف أن يكون مقروناً بسببه ، فلا يكون التصرف مجرداً ( abstrait ) إلا في حالات استثنائية يقتضيها استقرار التعامل ، وينص عليها القانون بذواتها .
وعلى النقيض من ذلك كان موقف التقنينات الجرمانية . فعندها أن السبب فكرة موضوعية بحتة . وقد احتفظت هذه التقنينات في نظرتها هذه بصبغتها الموضوعة السائدة . ومن ثم أقرت التصرف المجرد في حالات كثيرة . فجعلت عقود انتقال الملك عقوداً مجردة تنقل الملك بصرف النظر عن صحة العقود التي أنشأت الالتزامات بنقل الملكية . وجعلت كثيرا من العقود التي تنشيء الالتزام عقوداً مجردة تصح ولو لم يكن لها سبب أو كان سببها غير مشروع ، وذلك كحوالة الحق وحوالة الدين والتنازل عن الحق الشخصي والإنابة في الوفاء . بل سارت في هذا الطريق إلى مدى أبعد ، فرسمت خطوطاً رئيسية للتصرف المجرد ، وردته إلى قاعدة عامة ، ونصت على انه يجوز بوجه عام تجريد الالتزام من سببه ، فيتخذ صورة التعهد المجر بالوفاء ( promesse abstraite de paiement ) أو الاعتراف المجرد بالدين ( reconnaissance abstraite de dette ) .
فإلى أي المذهبين انتمي التقنين الجديد ؟ هنا نراه انحاز انحيازاً تاماً إلى مذهب التقنينات اللاتينية . فأخذ بنظرية السبب كما يأخذ بها القضاء الفرنسي : نظرية نفسية واسعة تنفذ منها العوامل الذاتية والأدبية إلى مدى بعيد ، وتتغلغل في الصميم من العلاقات القانونية . وبالرغم من أن التقنين الجديد أخذ في بعض الحالات بمعايير موضوعية ، إلا انه وقف في نظرية السبب عند المعيار الذاتي ، ولم يتزحزح في ذلك عن تقاليد التقنينات اللاتينية . فالتقنين المصري الجديد سببي ( causaliste ) كالتقنين المصري القديم ، وكالتقنين الفرنسي ، وهو يتعارض في هذا إلى حد بعيد مع التقنينات الجرمانية . وهو كالتقنين الفرنسي يستوجب أن يكون لكل التزام مقرونا بسببه ، ويشترط أن يكون السبب مشروعاً وإلا بطل العقد ، ولا يبقر الالتزام المجرد إلا في حدود ضيقة ، فلا يضع له قاعدة عامة كما فعلت التقنينات الجرمانية ، بل لا يعترف به إلا في حالات معينة يقتضيها الاستقرار في التعامل ، ويفرد لهذه الحالات نصوصاً خاصة .
ومن ثم نرى أن التقنين الجديد في هذا الصدد بقي كعادته في حظيرة التقنينات اللاتينية . بل إنه هنا التزم هذه الحظيرة في أضيق دودها ، ولم يتأثر لا كثيراً ولا قليلا بالتقنينات الجرمانية .
2 - التقنين الجديد بين الاستقرار والتطور وبين الفرد والجماعة
طابع التقنين الجديد هو الاعتدال . رأيناه معتدلا فيما قدمنا . يتوسط في الأخذ بمبدأ سلطان الإرادة ، فيأخذ به بعد أن يحيطه بقيود كثيرة . ويتوسط بين المذهب الشخصي والمذهب لامادي للالتزام ، فيستبقي المذهب الشخصي بعد أن يأخذ بما في المذهب المادي من نتائج عملية نافعة . ويتوسط بين الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة ، فيصدر عن الإرادة الباطنة ، ولكنه يأخذ بالإرادة الظاهرة حيث يقتضي ذلك استقرار التعامل . ثم هو يأخذ بنظرية السبب كاملة ، ولا يقر التصرف المجرد إلا في حدود معتدلة معقولة .
فالتقنين الجديد يعد حق من القوانين المتخيرة ( eclectique ) ، وإن بقى بوجه عام في حظيرة التقنينات اللاتينية كما قدمنا .
وهو ، فيما نحن فيه هنا ، يقف أيضاً موقف المتخير المعتدل ، فيتخذ سبيله قواماً بين الاستقرار والتطور ، وبين الفرد والجماعة .
1 - التقنين الجديد بين الاستقرار والتطور :
يهدف التقنين الجديد إلى أن يكون قانوناً حياً عمليا . والقانون الحي العملي ينبغي أن يحمل في طياته عوامل التطور حتى يبقى حياًً ، وعوامل الاستقرار حتى يكون عملياً .
عوامل التطور في التقنين الجديد :
أهم هذه العوامل هي هذه المعايير المرنة التي جعلها التقنين الجديد في مكان القواعد الجامدة ، وهذه السلطة التقديرية الواسعة التي أعطاها للقاضي .
1 - المعايير المرنة :
ورث التقنين الجديد عن التقنين القديم بعض القواعد الجامدة التي لم يكن هناك بد من الاحتفاظ بها . مثل ذلك الغبن في بيع عقار لشخص لا تتوافر فيه الأهلية وقد قدر بما يزيد على خمس قيمة العقار ( م 425 ) ، والفوائد القانونية والاتفاقية وقدر لها سعر معلوم لا تجاوزه ( م 226 – 227 ) ، والقاعدة التي تقضي بأنه إذا عدل من دفع العربون فقده وإذا عدل من قبضه رد ضعفه ( م 103 فقرة 2 ) وقد نقلها التقنين الجديد عن القضاء والعرف ، والقاعدة التي استحدثها من جواز نقض عقد القسمة إذا لحق أحد المتقاسمين غبن يزيد على الخمس ( م 845 ) . هذه القاعدة الجامدة التي تضع للمسألة حلا واحداً ثابتاً لا يتغير مهما تغيرت الظروف والملابسات ، والتي تقف في بعض المسائل عند رقم معلوم لا تحدي عنه ، قد نكون فقي حاجة إليه في قليل من الحالات لاستقرار التعامل وثباته على وتيرة واحدة . ولكن لا يجوز الاستكثار من مثل هذه القواعد الجامدة فإنها تقف عقبة في طريق التطور . وخير منها معايير مرنة يضعها المشرع هادياً للقاضي ، يسترشد بها هذا فيما يعر له من الأقضية ، ولا يتقيد فيها بحل واحد لا ينحرف عنه ، بل تتغاير الحلول وتتفاوت بتغير الظروف وتفاوت الملابسات ( [75] ) .
وهذا مثل لمعيار مرن استبدله التقنين الجديد بقاعدة جامدة كانت موجودة في التقنين القديم . فقد كانت المواد 291 – 292 / 364 - 366 من التقنين القديم تنص على جواز فسخ البيع إذا وقع على أشياء بيعت جملة واحدة ثم ظهر إنها اقل من القدر المتفق عليها أو أكثر . ثم نصت المادتان 292 / 367 من هذا التقنين على أنه لا يجوز للمشتري فسخ البيع في هذه الأحوال " إلا إذا كان الغلط زائداً على نصف عشر الثمن المعين " . فنبذ التقنين الجديد هذه القاعدة الجامدة التي تقف عند نسبة معينة من الثمن ، واستبدل بها معياراً مرناً ، إذ نص في الفقرة الأولى من المادة 433 على أنه " لا يجوز للمشتري أن يطلب فسخ العقد لنقض في المبيع إلا إذا أثبت أن هذا النقص من الجسامة بحيث أو انه كان يعلمه لما أتم العقد " . وكذلك يكون الحكم فيما لو وجد المبيع زائداً على المقدار المتفق عليه ( م 433 فقرة 2 ) . وظاهر أن المعيار الجديد يفضل القاعدة القديمة ، إذ به يتمكن القاضي من الملاءمة ما بين ظروف كل قضية والحل القانوني الذي يناسبها ، فقد يكون النقص أو الزيادة في المبيع أكثر من نصف العشر ويرفض القاضي أن يحكم بفسخ العقد ، وقد يكون اقل ويجيب القاضي المشتري إلى طلب الفسخ ، وذلك كله تبعاً للملابسات والظروف في كل قضية بذاتها .
وقد أكثر التقنين الجديد من هذه المعايير المرنة إذ هي من أهم عوامل التطور . ونكذر هنا بعضا منها .
فمن ذلك معيار الجوهري ، وقد عرفته المادة 121 بأنه الغلط الذي يبلغ حدا ، الجسامة بحيث يمتنع معه المتعاقد عن إبرام العقد لو لم يقع في هذا الغلط . وظاهر أن هناك فرقاً كبيرا بين هذا المعيار المرن وبين القاعدة القديمة التي كانت تشترط أن يكون الغلط واقعاً في مادة الشيء . ومن ذلك أيضاً معيار التدليس الجسيم ، وقد قضت الفقرة الأولى من المادة 125 بأنه يجوز إبطال العقد للتدليس إذا كانت الحيل التي لجأ إليها أحد المتعاقدين أو نائب عنه من الجسامة بحيث لولاها لما أبرم الطرف الثاني العقد . ومثل معيار التدليس الجسيم معيار الرهبة القائمة على أساس ، إذ تقضي المادة 127 بأنه يجوز إبطال العقد للإكراه إذا تعاقد شخص تحت سلطان رهبة بعثها المتعاقد الآخر في نفسه دون حق وكانت قائمة على أساس ، وتكون الرهبة قائمة على أساس إذا كانت ظروف الحال تصور للطرف الذي يدعيها أن خطراً جسيماً محدقاً يهدده هو أو غيره في النفس الو الجسم الو الشرف أو المال . وفي الاستغلال اتخذ التقنين الجديد معيار التأثير الدافع إلى التعاقد ، فلا يتحقق الاستغلال إلا إذا تبين أن المتعاقد المغبون لم يبرم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشاً بينا أو هو جامحاً ( م 129 فقرة أولى ) . وكذلك في السبب اتخذ التقنين الجديد معيار الباعث الدافع إلى التعاقد وإن كان لم يصرح به في النص . وفي جواز الرجوع في الهبة اتخذ معيار العذر المقبول ، فأجاز للواهب أن يطلب من القضاء الترخيص له في الرجوع متى كان يستند في ذلك إلى عصر مقبول ولم يوجد مانع من الرجوع ( م 500 فقرة 2 ) .
كل هذه معايير مرنة تتفاوت الحلول التي تؤدي إليها بتفاوت الظروف التي تطبق فيها ، وبخاصة إذا لوحظ أن جميع المعايير التي ذكرناها هي معايير ذاتية يراعي في تطبيقها حالات نفسية يكشف عنها القاضي في كل شخص بذاته ، وقد صرحت بهذا المعنى الفقرة الثالثة من المادة 127 في صدد الإكراه ، فقضيت بأنه " ويراعي في تقدير الإكراه جنس من وقع عليه الإكراه وسنه وحالته الاجتماعية والصحية وكل ظرف أخر من شأنه أن يؤثر في جسامة الإكراه " . وسنرى أن هناك معايير أخرى موضوعية في التقنين الجديد تجمع بين مرونة المعيار وثبات القاعدة .
2 - سلطة القاضي التقديرية :
وعامل آخر في التقنين الجديد يفسح أمامه المجال للمرونة والتطور ، هو هذه السلطة التقديرية الواسعة التي جعلها للقاضي . رأيناها في تطبيق هذه المعايير المرنة التي تقدم ذكرها ، ونراها الآن فيما فوض فيه القاضي من تطبيق أحكام القانون وفقاً للمناسبات ، وما أعطي في ذلك من سلطة تقديرية ، تصل به في بعض الحالات إلى استكمال ما فات المتعاقدين أن يتفقا عليه ، بل والى تعديل ما تم عليه الاتفاق فيما بينهما . وإذا كان التقنين الجديد لم يبلغ في ذلك مدى ما بلغ التقنين السويسري إذ جعل القاضي مشرعاً فيما لم يرد فيه نص ، بل وقف عند حدود معقولة تمنع من الخلط بين وظيفة التشريع ووظيفة القضاء ، إلا انه مع ذلك سار شوطاً بعيداً في سبيل أن يجعل للقاضي من سلطان التقدير ما ييسر له أن يجعل أحكام القانون متمشية مع مقتضيات الظروف . فتكون أحكام القانون بذلك أداة طيعة في يد القاضي يطور بها القانون تطويراً مستمراً ، ويواجه بها ما يتغير من ملابسات وأحوال . ونورد أمثلة لما اشتمل عليه التقنين الجديد من نصوص تجعل للقاضي هذه السلطة التقديرية ، وهي سلطة تمكنه في بعض الحالات من أن يستكمل شروط العقد وان يعدل فيها عند الاقتضاء .
فمن النصوص التي تفسح للقاضي من سلطاته التقديرية ، هذه التي تجعل له حرية واسعة في تقدير التعويض المستحق للشخص المضرور ، وذلك في حالة الدفاع الشرعي ، فمن جاوز في هذا الدفاع القدر الضروري أصبح ملزماً بتعويض تراعي فيه مقتضيات العدالة ( م 166 ) ، وفي حالة الضرورة ، فمن سبب ضررا للغير ليتفادى ضرراً أكبر لا يكون ملزماً إلا بالتعويض الذي يراه القاضي مناسباً ، ( م 168 ) ، وفي تحديد طريقة التعويض ، فيعين القاضي هذه الطريقة تبعاً للظروف ، ويصح أن يكون التعويض مقسطاً كما يصح أن يكون إيراداً مرتباً ويقدر بالنقد ، على انه يجوز للقاضي تبعاً للظروف وبناء على طلب المضرور أن يأمر بإعادة الحالة إلى ما كانت عليه أو أن يحكم بأداء أمر معين متصل بالعمل غير المشروع ( م 171 ) . ويقدر القاضي ، عند عدم النص ما إذا كان هناك التزام طبيعي ( م 200 ) . وللقاضي أن يعين الميعاد المناسب لحلول أجل الدين إذا كان لوفاء مشترطاً عند المقدرة أو الميسرة ( م 272 ) . وله أن ينظر المدين إلى أجل معقول أو آجال ينفذ فيها التزامه ( م 346 فقرة 2 ) . وله أن يمنع توجيه اليمين الحاسمة إذا كان الخصم متعسفاً في توجيهها ( م 410 فقرة 1 ) . وإذا التصق منقولان لمالكين مختلفين بحيث لا يمكن فصلها دون تلف ولم يكن هناك اتفاق بين المالكين ، قضت المحكمة في الأمر مسترشدة بقواعد العدالة ، ومراعية في ذلك الضرر الذي حدث وحالة الطرفين وحسن نية كل منهما ( م 931 ) . ويجوز للقاضي بناء على طل بالمالك أن يقرر ما يراه مناسباً للوفاء بالمصروفات الضرورية والنافعة ، وله أن يقضي بأن يكون الوفاء على أقساط دورية ( م 982 ) .
ومن النصوص ما يجيز للقاضي أن يستكمل شروط العقد وان يعدل في الشروط المتفق عليها . فإذا اتفق الطرفان على جميع المسائل الجوهرية في العقد ، واحتفظا بمسائل تفصيلية يتفقان عليها فيما بعد ، ولم يشترطا أن العقد لا يتم عند عدم الاتفاق عليها ، اعتبر العقد قد تم ، وإذا قام خلاف في المسائل التي لم يتم الاتفاق عليها فان المحكمة تفصل فيها طبقاً لطبيعة المعاملة ولأحكام القانون والعرف والعدالة ( م 95 ) . وإذا اتفق على أجر للوكالة كان هذا الأجر خاضعا لتقدير القاضي ( م 709 فقرة 2 ) . وقد رأينا انه يجوز للقاضي في الاستغلال أن ينقص التزامات المتعاقد المغبون ( م 129 ) ، وان تنقص من العقد إذا كان في شق منه باطلا ( م 143 ) ، وان يحوله إلى عقد آخر توافرت أركانه إذا كان في الصورة التي هو عليها باطلا وتبين أن نية المتعاقدين كانت تنصرف إلى إبرام العقد الآخر ( م 144 ) ، وان يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول في حالة الحوادث الطارئة ( م 147 فقرة 2 ) ، وان يعدل الشروط التعسفية في عقود الإذعان ( م 149 ) ، وان يقضي بالتعويض النقدي إذا كان التعويض العيني مرهقاً ( م 203 فقرة 2 ) ، وان يخفض التعويض المتفق عليه في الشرط الجزائي إذا كان مبالغاً فيه إلى درجة كبيرة ( م 224 فقرة 2 ) .
عوامل الاستقرار في التقنين الجديد :
أهم هذه العوامل هي المعايير الموضوعية التي أكثر التقنين الجديد منها ، ثم الأخذ بالإرادة الظاهرة دون الإرادة الباطنة في بعض الحالات .
1 - المعايير الموضوعية :
رأينا فيما قدمناه كيف أن التقنين الجديد يكثر من اتخاذ المعايير المرنة التي تعين على التطور ، وبقي الآن أن نرى كيف أن الكثرة الغالبة من هذه المعايير هي معايير موضوعية لا معايير ذاتية كالتي سبق أن ذكرناها . وقد أريد بذلك إيجاد نوع من التعادل بين التطور والاستقرار . فالمعيار الموضوعي ، من حيث هو معيار عامل للتطور ، ومن حيث هو موضوعي عامل للاستقرار . والموضوعية ، وهي صنو للإرادة الظاهرة ، بل هي الأصل الذي تنتمي إليه هذه الإرادة ، من أكبر عوامل الاستقرار . وهي من مميزات التقنين الجديد . وقد أراد هذا التقنين أن يتخفف من حدة النزعة الذاتية التي تميز التقنينات اللاتينية ، فأخذ بالإرادة الظاهرة وبالموضوعية معاً ، ولكن بقدر متفاوت ، إذ أقل من الأخذ بالإرادة الظاهرة واكثر من الأخذ بالموضوعية ، إلى حد انه عندما كان في بعض المسائل يتخذ معايير ذاتية لم يتخذها معايير ذاتية محضة بل رسم لها ضوابط موضوعية ليضفى عليها شيئاً من الثبات والاستقرار . ونأتي بأمثلة من نصوص التقنين الجديد لمعايير موضوعية ، ثم لمعايير ذاتية لها ضوابط موضوعية .
فمن المعايير الموضوعية معيار بكثر التقنين الجديد من ذكره ، وهو معيار " عناية الشخص المعتاد " . ويرجع هذا المعيار إلى عهد القانون الروماني ، فهو معروف فيه ، شائع في نواحيه المختلفة . ذكره التقنين الجديد كأصل من أصول الالتزام بعمل ، فنص في الفقرة الأولى من المادة 211 على انه إذا كان المطلوب من المدين هو أن يحافظ على الشيء أو أن يقوم بإدارته أو أن يتوخى الحيطة في تنفيذ التزامه ، فإن المدين يكون قد وفى بالالتزام إذا بذل في تنفيذه من العناية كل ما يبذله الشخص العادي ولو لم يتحقق الغرض المقصود . ثم طبقه في نواح متفرقة ، في العقود وفي غيرها . فالشريك في عقد الشركة عليه أن يبذله من العناية في تدبير مصالح الشركة ما يبذله في تدبير مصالحه الخاصة ، إلا إذا كان منتدبا للإدارة بأجر فلا يجوز له أن ينزل في ذلك عن عناية الرجل المعتاد ( م 521 فقرة 2 ) . والمستأجر في عقد الإيجار يجب عليه أن يبذل من العناية في استعمال العين المؤجرة وفي المحافظة عليها ما يبذله الشخص المعتاد ( م 583 فقرة 1 ) . والمستعير في عقد العارية عليه أن يبذل في المحافظة على الشيء المعار العناية التي يبلها في المحافظة على ماله دون أن ينزل في ذلك عن عناية الرجل المعتاد ( م 641 فقرة 1 ) . والعامل في عقد العمل يجب عليه أن يبذل في تأدية العمل من العناية ما يبذله الشخص المعتاد ( م 685 ( أ ) ) . والوكيل في عقد الوكالة يجب عليه ، إذا كانت الوكالة بغير أجر ، أن يبذل في تنفيذها العناية التي يبذلها في أعماله الخاصة دون أن يكلف في ذلك أزيد من عناية الرجل المعتاد ، فإن كانت بأجر وجب عليه أن يبذل دائماً في تنفيذها عناية الرجل المعتاد ( م 704 ) . والمودع عنده في عقد الوديعة يجب عليه إذا كانت الوديعة بغير أجر أن يبذل من العناية في حفظ الشيء المودع ما يبذله في حفظ ماله دون أن يكلف في ذلك أزيد من عناية الرجل المعتاد ، أما إذا كانت الوديعة باجر فيجب أن يبذل في حفظ الوديعة عناية الرجل المعتاد ( م 720 ) . والحارس في الحراسة الاتفاقية أو القضائية يلتزم بالمحافظة على الأموال المعهود إليه حراستها وبإدارة هذه الأموال ، ويجب أن يبذل في كل ذلك عناية الرجل المعتاد ( م 734 فقرة 1 ) . والفضولي يجب عليه أن يبذل في القيام بالعمل عناية الشخص المعتاد ( م 192 ) – ومن المعايير الموضوعية ، ما نص عليه التقنين الجديد في الاستغلال ، إذ لا يجوز الطعن في العقد بهذا الوجه إلا إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الآخر ( م 129 فقرة 1 ) . وما نص عليه في الخلف الخاص ، من أن الالتزامات والحقوق المتصلة بالشيء تنتقل إليه في الوقت الذي ينتقل فيه الشيء إذا كانت من مستلزماته ( م 146 ) . وما نص عليه في المسئولية عن الغير ، من أن الشخص يكون مسئولا عن كل من يجب عليه قانوناً أو اتفاقاً رقابته وكان في حاجة إلى الرقابة بسبب قصره أو بسبب حالته العقلية أو الجسمية ( م 173 فقرة 1 ) . وما نص عليه في المسئولية عن الأشياء ، من أن الشخص يكون مسئولا إذا تولى حراسة أشياء تتطلب حراستها عناية خاصة ( م 178 ) ( [76] ) . وما نص عليه في تحديد الضرر المباشر ووجوب التعويض عنه ، من أن التعويض يشمل ما لحق الدائن من خسارة وما فاته من كسب بشرط أن يكون هذا نتيجة طبيعية لعدم الوفاء بالالتزام أو للتأخر في الوفاء به ، ويعتبر الضرر نتيجة طبيعية إذا لم يكن في استطاعة الدائن أن يتوقاه ببذل جهد معقول ( م 221 ) . وما نص عليه في تحديد العيب الخفي في الشيء المبيع ، من انه عيب ينقص من قيمة الشيء أو من نفعه بحسب الغاية المقصودة مستفادة مما هو مبين في العقد أو مما هو ظاهر من طبيعة الشيء أو الغرض الذي أعدله ( م 447 فقرة 1 ) . وما نص عليه في الإيجار ، من وجوب أن يكون استغلال المستأجر للأرض الزراعية موافقاً لمقتضيات الاستغلال المألوف ( م 613 ) . وما نص عليه في التزام المرافق العامة ، من أن ملتزمي هذه المرافق إذا اثتبوا القوة القاهرة جاز لهم أن يدفعوا مسئوليتهم عما يصيب المرفق من عطل أو خلل يزيد على المألوف في مدته أو في جسامته ( م 673 فقرة 2 ) .
ومن المعايير الذاتية المحددة بضوابط موضوعية ، ما نص عليه التقنين الجديد في الفقرة الثانية من المادة 150 من وجوب البحث في تفسير العقد عن النية المشتركة للمتعاقدين – وهذا هو معيار ذاتي – مع الاستهداء في ذلك بطبيعة التعامل وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين وفقاً للعرف الجاري في المعاملات – وهذه هي ضوابط موضوعية . وما نص عليه في تحديد العذر المقبول للرجوع في الهبة – وهو معيار ذاتي كما قدمنا ، بضوابط موضوعية ، منها أن يخل الموهوب له بما يجب عليه نحو الواهب بحيث يكون هذا الإخلال جحوداً كبيراً من جانبه ، وأن يصبح الواهب عاجزاً عن أن يوفر
لنفسه أسباب المعيشة بما يتفق مع مكانته الاجتماعية ( م 501 ) . وما نص عليه في مواضع كثيرة متفرقة في اشتراط العلم ، من أن الشخص يكون عالماً بالشيء – وهذا معيار ذاتي – أو أن يكون من المفروض حتما أن يعلم به – وهذا ضابط موضوعي ( أنظر المادتين 104 و 106 في النيابة والمواد 120 و 126 و 128 في الغلط والتدليس والإكراه ) ، وما نص عليه في الغلط في المادة 124 ، من انه ليس لمن وقع في غلط أن يتمسك به على وجه يتعارض مع ما يقضي به حسن النية – وهذا معيار ذاتي – ويبقى بالأخص ملزماً بالعقد الذي قصد إبرامه إذا اظهر الطرف الآخر استعداده لتنفذ هذا العقد – وهذا ضابط موضوعي .
2 - الإرادة الظاهرة :
والى جانب المعايير والضوابط الموضوعية ، أخذ التقنين الجديد في بعض الحالات بالإرادة الظاهرة دون الإرادة الباطنة توخياً لاستقرار التعامل . كما أخذ في حالات أخرى بالتصرف المجرد ، وهو ضرب من الإرادة الظاهرة ، للغرض ذاته . وقد تقدم بيان ذلك كله .
ب - التقنين الجديد بين الفرد والجماعة :
وقف التقنين الجديد بين الفرد والجماعة موقوفاً معتدلا عادلا . فلم يضح الفرد لمصلحة الجماعة ، ولم يسخر الجماعة لخدمة الفرد . ونبين هنا كيف حمي الفرد ، وكيف حمي الجماعة .
حماية التقنين الجديد للفرد :
لم يقصر التقنين الجديد في حماية الفرد ، ولم يتهاون في أن يفسح للحرية الفردية مجالا معقولا ، سواء كان ذلك في نطاق العقد أو في نطاق الملكية .
ففي نطاق العقد ، أقر مبدأ سلطان الإرادة بالرغم مما أورد عليه من قيود تقدم بيانها . فلا يزال الفرد حراً في أن يتعاقد ، ولا تزال إرادته هي التي تنشئ العقد ، وهي التي ترتب آثاره ، فيتم العقد بمجرد أن يتبادل طرفاه التعبير عن ارادتين متطابقتين ، فإذا تم فهو شريعة المتعاقدين . ولا يزال العقد هو أحد المصادر الرئيسية للالتزامات ، ولم ينزل عن مكانته . وإذا كانت مصادر أخرى كالعمل غير المشروع قد ارتفعت إلى منزلة العقد ، فإن ذلك لم ينتقص من أهمية العقد ولا من خطه . وإذا كنا قد بعدنا ، بما ورد على الإرادة من قيود لمصلحة كل من الجماعة والفرد ، عن مذهب الفردية المتطرفة التي كانت سائدة في أوائل القرن التاسع عشر ، والتي تشبع بها التقنين المدني الفرنسي عند صدوره ، فإن التقنين الجديد لا يزال يحترم إرادة الفرد ، ويقر ما تتجه إلى تحقيقه من آثار ، في حدود معقولة مقبولة ، في عصر تطور فيه مذهب الفردية تطوراً خطيراً ونزل فيه عن كثير من مظاهر الغلو .
وفي نطاق الملكية ، استبقى التقنين الجديد الملكية الفردية ، وحماها من الاعتداء فلمالك الشيء وحده حق استعماله واستغلاله والتصرف فيه ، وله الحق في كل ثماره ومنتجاته وملحقاته ، ولا يجوز أن يحرم أحد ملكه إلا في الأحوال التي يقررها القانون ، وبالطريقة التي يرسمها ، ويكون ذلك في مقابل تعويض عادل . والمالك حر التصرف في ملكه ، إذا شاء نزل عنه إلى غيره بمقابل أو بغير مقابل ، وإذا شاء استبقاه ينتقل عنه بعد موته إلى ورثته ولمن أوصى لهم . وخفف التقنين الجديد من بعض قيود كانت تثقل الملكية في التقنين القديم . من ذلك الحق في الشفعة ، ضيق منه وأحاطه بقيود جديدة . ومن ذلك الحكر ، قصر مداه ، وقيد نطاقه ، فلا يجوز التحكير لمدة تزيد على ستين سنة ، ولا يجوز ترتيب حكر على أرض غير موقوفة .
فالتقنين الجديد يحمي الفرد إذن من مظهرين رئيسيين من مظاهر نشاطه : حريته في التعاقد وحريته في التملك .
حماية التقنين الجديد للجماعة :
ولكن القانون الجديد يتمشى مع روح عصره ، ويساير التطورات الخطيرة التي اعتورت مذهب الفردية . وآية ذلك تراها أيضاً في نطاق العقد وفي نطاق الملكية .
ففي نطاق العقد ، قيد التقنين الجديد سلطان الإرادة إلى مدى بعيد ، فهو محوط بكثير من القيود لمصلحة الجماعة سبق بيانها تفصيلا فيما أسلفناه . ويتميز التقنين الجديد في هذا الصدد بأنه التزم في العلاقات التعاقدية حماية الجانب الضعيف . فحيث يختل التوازن بين طرفي العقد ، ويقف احدهما مغلول اليد أمام الطرف الآخر ، فإن الجماعة يعنيها أن تحمى الطرف الضعيف وهو يواجه الطرف القوي ن وأن تقيله من عثاره . رأينا التقنين الجديد يفعل ذلك في عقود الإذعان ، وفي نظرية الاستغلال ، وفي نظرية الحوادث الطارئة ، وفي عقد العمل ، وفي عقد التأمين ، وفي أحكام أخرى كثيرة سبق ذكرها . ومن ثم نرى أن التقنين الجديد طابعه حماية المدين ، وهو في ذلك على النقيض من التقنين القديم الذي كان يمعن في حماية الدائن . ففي فوائد الدين لم يقتصر التقنين الجديد على تخفيض سعر الفوائد القانونية والاتفاقية ، بل أضاف إلى ذلك قيوداً كثيرة في تقاضي الفوائد ذكرناها تفصيلا فيما تقدم ( انظر المواد 229 و 230 و 232 و 544 ) .
ثم إنه قيد إلى مدي بعيد من حق الدائن في الاختصاص بعقار المدين . فجعل هذا الحق ، كما رأينا ، لا يجوز الحصول عليه إلا إذا كان بيد الدائن حكم واجب التنفيذ ( م 5801 فقرة 1 ) . ولم يجز بعد موت المدين أخذ اختصاص على عقار فى التركة ( م 5801 فقرة 2 ) . ولم يجز الاحتجاج على الدائنين الذين يكون لهم حقوق سابقة على تسجيل صحيفة دعوي الإعسار بأي اختصاص يقع على عقارات المدين بعد هذا التسجيل ( م 256 فقرة 2 ) . وأجاز ، كما قدمنا ، لكل ذى مصلحة أن يطلب إنقاص الاختصاص إلى الحد المناسب إذا كانت الأعيان التي رتب عليها هذا الحق تزيد قيمتها على ما يكفى لضمان الدين ( م 1049 فقرة 1 ) .
وفى نطاق الملكية ، قفز التقنين قفزة واسعة فى جعل الملكية وظيفة اجتماعية أكثر منها حقاً فردياً . بل إن المشروع التمهيدي صرح بذلك فى أحد نصوصه ، فذكر فى المادة 1162 منه أن لمالك الشيء مادام ملتزماً حدود القانون أن يستعمله وأن ينتفع به وأن يتصرف فيه دون أي تدخل من جانب الغير ، بشرط أن يكون ذلك متفقا مع ما لحق الملكية من وظيفة اجتماعية . ولم تحذف هذه العبارة الأخيرة فى المشروع النهائي قصداً إلى حذف حكمها . بل لأنها ، كما جاء فى الأعمال التحضيرية ( [77] ) ، بالإيضاحات الفقهية ، وأن فى التطبيقات التى أوردها المشروع فى النصوص التالية ما يغنى عنها " . وقد تضمنت النصوص التالية فعلا من القيود على حق الملكية ما يجعل هذا الحق وظيفة اجتماعية روحاً ومعنى . فأوجبت المادة 807 على المالك ألا يغلو على استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار . وتكفلت المواد 808 - 824 بإيراد سلسلة من القيود على حق الملكية ، فى الشرب والمجرى والمسيل وحق المرور والحائط المشترك والمطلات وشرط عدم التصرف وما إلى ذلك من القيود القانونية والاتفاقية . بما يغل يد المالك فى استعمال ملكه لا للمصلحة العامة فحسب ، بل أيضاً لمصلحة الجيران ، وبما يبرز فكرة التضامن الاجتماعي متغلغة في الصميم من نظام الملكية . وترى ذلك أيضاَ فيما قدمناه فى نظام الشيوع وكيف جعل التقنين الجديد الكلمة العليا لأغلبية الملاك حتى يخضع الأقلية لحكم التضامن ( م 828 و 829 و 832 ) . وقد اسلفنا وترى ذلك فى ملكية الأسرة ( م 851 - 855 ) ، وفى ملكية الطبقات ( م 856 - 861 ) .وقد أسلفنا الإشارة إلي كل ذلك .
وبعد ، فهذا طرف من القيود التي يضعها التقنين الجديد على حرية التعاقد وعلى حف الملكية . وتبين من ذلك أن هذا التقنين قد خطا خطوات واسعة فى سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية . وما هو فى هذا إلا مرآة لعصره ، تنعكس عليه صور التطورات العميقة التى مر بها القانون فى خلال قرن ونصف قرن ، منذ صدور التقنين المدني الفرنسي ذى النزعة الفردية .
***
ويأبى التقنين الجديد أن يكون متخلفاً عن عصره . وما هو إلا صورة صادقة لمدنية الجيل الذى ظهر فيه .
الكتاب الأول
من القانون المدني الجديد
* * *
الالتزامات بوجه عام
كلمة تمهيدية
فى التعريف بالالتزام
* * *
1 - تحديد مركز الالتزام فى القانون المدنى
1 - أقسام القانون المدنى : ينقسم القانون المدنى - وهو القانون الذي ينظم علاقات الأفراد ببعضها ببعض - إلي قسمين رئيسين : قسم الأحوال الشخصية وقسم المعاملات .
فقواعد الأحوال الشخصية هى التى تنظم علاقة الفرد بأسرته . وقواعد المعاملات هى تنظم علاقة الفرد بغيره من الأفراد من حيث المال .
والمال فى نظر القانون يتكون من حقوق .
والحق في المعاملات مصلحة ذات قيمة مالية يقرها القانون للفرد . وهو إما حق العينى أو حق شخصى .
والحق الشخصى هو الالتزام : ويسمي حقاً إذا نظر إليه من جهة الدائن ، وديناً إذا نظر إليه من جهة المدين .
2 - الحق العينى والحق الشخصى : الحق العينى ( ( droit reel هوسلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شىء معين . أما الحق الشخصى ( ( droit personnel فهو رابطة مابين شخصين ، دائن ومدين ، يخول الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شىء أو بالقيام بعمل بالامتناع عن عمل .
ولازال التمييز ما بين الحق العينى والحق الشخصى من أهم المسائل الرئيسية فى القانون المدني . ولم تجد محاولات بعض الفقهاء فى هدم هذا التقسيم . وهؤلاء الفقهاء فريقان : فريق يقرب الحق العينى من الحق الشخصى ، وفريق لآخر على النقيض من ذلك يقرب الحق الشخصي من الحق العينى .
3 - تقريب الحق العينى من والحق الشخصى : أما الفريق الأول ، وعلى رأسهم الأستاذ بلانيول ، فيرى أن الحق العينى هو كالحق الشخصي رابطة مابين شخصين . لأن القانون إنما ينظم الروابط ما بين الأشخاص . ولا يمكن أن يقال فى الحق العينى إنه رابطة مابين الشخص والشيء ، لأن الرابطة إنما تكون بين الشخص والشخص . ففى هذا إذن يتفق الحق العينى مع الحق الشخصى . ويتفق معه أيضاً على أنه يشتمل مثله على عناصر ثلاثة : موضوع الحق والدائن هو المالك ، والمدين هم الناس كافة غذ يجب عليهم جميعاً احترام هذا الحق . فالحقان إذن يتماثلان من حيث الطبيعة والعناصر . وإنما يختلفان في شيء غير جوهري هو جانب المدين .دائماً هم جميع الناس عدا الدائن ، ولهذا يمكن اعتبار الحق العينى حقا شخصياً عاماً من حيث المدين ( passivement universel ) . أما في الحق الشخصي فالمدين هو شخص أو أشخاص معينون بالذات .
هذا ما يقوله الفريق الأول . وظاهر أنهم يقصدون هدم التميز ما بين الحق العينى والحق الشخصي من وراء جعل الحق العينى هو الذي يماثل الحق الشخصى . ولا جدال في أنه من الخطأ أن يقال إن الحق العينى رابطة ما بين الشخص والشيء . فالرابطة لا توجد إلا بين الشخص والشخص كما يقول بلانيول . ولذلك قلنا في تعريف الحق العينى إنه " سلطة لشخص على شىء " ، ولم نقل إنه " رابطة ما بين شخص وشيء " . وأما القول بأن الحق العينى هن حق شخصي عام من حيث المدين ففيه مغالطة لا تخفى عند التعمق في النظر . إذا لحق الشخصي فيه أيضاً هذا الجانب العام من حيث المدين ، وتلزم الناس كافة باحترامه . فإذا أحل أحد بهذا الالتزام ، بأن حرض المدين مثلا على أن يمتنع عن القيام بما تعهد به ، كان مسئولا ووجب عليه التعويض . ولكن الحق الشخصى يزيد على الحق العينى شيئا جوهوياً يميزه عنه ، هو الجانب الخاص من حيث المدين إلي هذا الجانب العام الذي تقدم ذكره . ففى كل حق شخصى يوجد مدين معين ، أو مدينون معينون ، هم الذين يباشر الدائن سلطته على الشىء موضوع الحق بوساطتهم ، ولا وجود لهؤلاء فى الحق العينى . وهذا فرق جوهري ما بين الحقين تترتب عليه نتائج هامة سيأتي ذكرها ( [78] ) .
4 - تقريب الحق العينى من والحق الشخصى : وهناك الفريق الثاني وهو الذي يحاول هدم التمييز من وراء جعل الحق الشخصى كالحق العينى . وعلى رأس هذا الفريق الأستاذان سالي ( saleilles ) ولا مبير ( Lambrt ) . ويتلخص رأيهما فى أن الحق الشخصى هو كالحق العيني عنصر من عناصر الذمة المالية ( patrimoine ) يتصرف فيه صاحبه ، فيبيعه ويهبه ويرهنه ويجرى فيه سائر التصرفات . وقد حان الوقت الذي ينظر فيه إلي الحق الشخصى لا باعتبار أنه رابطة ما بين ، بل باعتبار أنه عنصر مالي ، وهذا ما يقتضيه تقدم المعاملات وسرعة تداول الأموال . فتتجرد القيمة المالية للحق الشخصى عن شخص الدائن وعن المدين ، وبذلك يقترب الحق الشخصى من الحق العينى . وهذا هو المذهب المادي فى الالتزام ، وسنعود إليه فيما يلى .
ونحن لا ننكر على المذهل المادي للالتزام انتشاره ومسايرته للتطور القانوني الحديث . لكننا مع ذلك لا نراه يهدم التمييز ما بين الحق العينى والحق الشخصى . فمن الممكن أن ينظر إلى الالتزام نظرة مادية باعتبار موضوعه لا باعتبار أشخاصه ، ويكون فى هذا تقريب بينه وبين الحق العينى . ولكن ذلك لا ينفى أن هناك فرقاً جوهرياً ما بين الحقين حتى إذا نظر إليهما معاً من حيث موضوعهما . فالدائن فى الحق العينى يستعمل سلطة عير مباشرة على موضوع الحق دون وسيط بينهما ، بخلاف الحق الشخصى فليس للدائن فيه إلا سلطة غير مباشرة على الشيء موضوع الحق ، ولا يستعمل هذه السلطة إلا بوساطة المدين .
5 - بقاء التمييز ما بين الحقين قائما : يبقى إذن التمييز ما بين الحق الشخصى والحق العيني قائماً بأهميته . فالحق العيني سلطة مباشرة للشخص على الشيء ، والحق الشخصي رابطة مابين شخصين . والظاهرة المهمة في الحق العيني هي تحديد الموضوع ، أما في الحق الشخصي فتحديد المدين . ويزيد الحق الشخصي على الحق العيني عنصراً أساسياً هو وجود مدين معين يباشر بوساطته الدائن سلطته على الشيء موضوع الحق .
6 - نتائج هذا التمييز : وهذا التمييز ما بين الحقين لا يزال تمييزا جوهرياً في كل القوانين التي اشتقت من القانون الروماني . وتترتب عليه نتيجتان هامتان : 1 - لما كان الحق العيني سلطة مباشرة على الشيء ، فلصاحبه حق تتبع هذا الشيء ( droit de suite ) في يد أي شخص انتقلت إليه ملكيته .
2 - وله أيضاً ، إذا كان الحق العيني حق ضمان كالرهن . أن يتقدم على جميع الدائنين الشخصيين في تقاضى حقه من الشيء ( droit de preference ) ، فإن هؤلاء ليست لهم إلا سلطة مباشرة على هذا الشيء ( [79] ) .
2 - المذهبان الشخصي والمادي في الالتزام
7 – الرابطة القانونية ما بين الدائن والمدين : تبين مما قدمناه أن الحق الشخصي ، أي الالتزام ، يقوم على رابطة قانونية ما بين الدائن والمدين ، ويسميها الرومان : juris vinculum .
ولم تثبت هذه الرابطة على حلا واحدة ، بل إنها تطورا . فكانت في أول أمرها سلطة تعطي للدائن على جسم الممدين العلى ماله ، وكان هذا هو الذي يميز بين الحق العيني والحق الشخصي ، فالأول سلطة تعطي للشخص على شيء ، والثاني سلطة تعطي للشخص على شخص آخر . وكانت سلطة الدائن على المدين سلطة واسعة ، يدخل فيها حق الإعدام وحق الاسترقاق وحق التصرف . ثم تلطفت هذه السلطة فصارت مقصورة على التنفيذ البدني بحبس المدين مثلا . ولم يصل الدائن إلي التنفيذ على مال المدين إلا بعد تطور طويل . فأصبح للالتزام ، منذ عند الرومان ، مظهران : مظهر باعتباره رابطة شخصية فيما بين الدائن والمدين ، ومظهر باعتباره عنصراً مالياً يقوم حقاً لذمة الدائن ، ويترتب ديناً في ذمة المدين .
ولا يزال الالتزام محتفظاً بهذين المظهرين إلي الوقت الحاضر وإن اختلفت المذاهب فيه . فمذهب يغلب الناحية الخصية ، وهو المذهل الفرنسي التقليدي الموروث عن القانون الروماني ، ومذهل يعلب الناحية المالية وهو المذهل الألماني الحديث .
8 – المذهل الشخصي في الالتزام : أما المذهل الشخصي ( theorie subjective ) فيري الأمر الجوهري في الالتزام هو أنه رابطة شخصية فيما بين الدائن والمدين . وهذا ما حمل الأستاذ بلانيول على أن يزيد في تعريف الالتزام فكرة الرابطة الشخصية . فهو يعرف الالتزام بأنه علاقة قانونية ما بين شخصين بمقتضاها يكون لأحدهما وهو الدائن الحق فى تقاضي شيء معين من الآخر وهو المدين .
وأشهر من قال بالمذهب الشخصي من فقهاء الألمان سافيني ( savigny ) . فقد كان يري الالتزام رابطة شخصية تخضع المدين للدائن ، وقي صورة مصغرة من الرق . فالسلطة ( Herrschaft ) التي تمنح لشخص علي شخص آخر قد تستغرق حرية من يخضع لهذه السلطة ، وهذا هو الرق الكامل والملكية التامة . وقد لا تتناول السلطة إلا بعض هذه الحرية وإلا تمتد إلا إلي جزء من تشاط المدين ، فيترتب من ذلك حق للدائن فريب من حق الملكية ولكنه ليس إياها . فهو حق خاص بعمل معين من أعمال المدين ، وهذا ما نسميه بالالتزام . فالالتزام إذن هو سلطة معينة تمنح لشخص على شخص آخر . وتكون الملكية والالتزام في نظر سافيني شيئين من طبيعة واحدة ، ولا يختلفان إلا في الدرجة ، ففي الملكية يكون الخضوع كلياً ، وهو جزئي في الالتزام ، ولكنه موجود في الحالين .
9 – المذهب المادي في الالتزام : يتبين مما تقدم أن نظرية سافيني وهي مطبوعة بطابع القانون الروماني ، تجعل من الالتزام رابطة شخصية وثيقة ، رابطة خضوع قريب من الرق ، وتنسجها على طراز من حق الملكية .
هذه النظرية قام في وجهها فقهاء الألمان ، وعلى رأسهم جييرك ( Gierke ) ، وأبوا أن تستقر في الفقه الألماني بعد أن عملوا على تحرير قانونهم من النظريات الرومانية وغلبوا النظريات الجرمانية الأصل عليها . وقد بين جييرك أن الفكرة الجرمانية في الالتزام لا تقف عند الرابطة الشخصية كما كان الأمر في القانون الروماني ، بل تنظر إلي محل الالتزام وهو العنصر الأساسي ، وتجرده من الرابطة الشخصية ، حتى يصبح الالتزام عنصراً مالياً أكثر منه علاقة شخصية ، فينفصل الالتزام بذلك عن شخص الدائن وعن شخص المدين ، ويختلط بملحة فيصبح شيئاً ماديا العبرة فيه بقيمته المالية ( [80] ) . هذه هي النظرية المادية ( theorie objective ) للالتزام ، أم تقتصر علي ألمانيا ، فقد نشرها عي فرنسا نقلا عن المدرسة الألمانية سالي ( saleilles ) ، وهو يعتبر زعيم هذا المذهب في فرنسا ولو أن المذهب لم يسد في الفقه الفرنسي .
10 - النتائج العملية للمذهب المادي : وليس المذهب المادي مجرد مذهب نظري ، بل هو خصب في نتائجه الملية . فإن النظر إلي الالتزام باعتباره الاقتصادية في العصر الحاضر من تبسيط علي المعاملات وتيسير بها ، حني يكسب تداول الأموال مرونة تستلزمها هذه النظم ، بعد أن اشتدت حركة الإنتاج وانتشرت الصناعات الكبيرة . فالنظرية المادية تضعف الصلة ما بين محل الالتزام وشخصي الدائن والمدين . وينبني على هذا نتائج عملية هامة نذكر منها اثنتين :
( أولا ) لما كانت العبرة في الالتزام بمحله دون أشخاصه ، أصبح من السهل أن نتصور تغير أشخاص الالتزام ، ليس من دائن إلي آخر فحسب ، وهذا ما يسلم به التقيني الفرنسي ذاته مع أنه قد أخذ بالمذهب الشخصي ، بل أيضاً من مدين إلي آخر ، فيوجد إلي جانب حوالة الحق ( ( cession de creance حوالة الدين ( ( cession de dette . وهذا ما اعترفت به التقنينات المشبعة بالمذهب المادي ، كالتقنين الألماني والتقنين السويسري ، وعلى أثرهما سار التقنين المدني الجديد ، وقد ساير في ذلك الشريعة الإسلامية وقي تعترف بحوالة الدين . أما التقنين المدني القديم فكان على غرار القانون الفرنسي لا يعترف إلا بحوالي الحق .
( ثانياً ) لما كانت الرابطة الشخصية ليست هي الأمر الجوهري في الالتزام ، فمن الممكن أن نتصور وجود التزام دون دائن وقت نشوءه ، فيستند الالتزام إلي المدين وحده . ولو كانت الرابطة الشخصية قي العنصر الأول ، لما أمكن تصور التزام ينشأ دون أن يكون هناك وقت نشوئه دائن ومدين ،لأن الالتزام هو الرابطة الشخصية فيما بين هذين . فإذا لم يوجد أحدهما امتنع وجود هذه الرابطة , أما إذا أخذنا بالمذهب المادي أمكن تصور التزام يقع عبئاً في مال المدين دون أن يكون هناك دائن يقتضي المدين هذا العبء وقت وجود الالتزام ، ويكفي أن نوجد الدائن وقت التنفيذ ، ففي هذا الوقت فقط تظهر الضرورة في أن يتقدم دائن يستوفي المدين التزامه . ولاشك في أن تحليل الالتزام على هذا الوجه يفسر كثيراً من المسائل القانونية التي لا يمكن تفسيرها إذا تقدينا بالمذهب الشخصي . ونذكر من هذه المسائل ما يأتي :
( 1 ) التزام المدين بإرادته المنفردة لغير دائن معين : هناك حالات عملية نري فيها شخصاً يلتزم بمجرد إرادته لغير دائن معين . مثل ذلك شخص يعد بجائزة من عثر علي شيء ضائع . فالواعد هنا قد التزم بإرادته المنفردة ووجد الالتزام دون دائن ، وهو التحليل العلمي الصحيح ، لا يتفق إلا مع المذهب المادي ويستعصى على المذهب الشخصي الذي يأبي إلا أن يوجد الدائن وقت نشوء الالتزام .
( 2 ) نظرية الاشتراط لمصلحة الغير : إذا طبقت هذه النظرية في حالة عقد التأمين لمصلحة شخص غير معين أو شخص لما يوجد وقت نشوء الالتزام ، كما إذا أمن شخص على حياته لمصلحة أولاده ولم يكن له ولد وقت التأمين ، فإن الالتزام في هذه الحالة ينشأ دون أن وجد الدائن . ولا يمكن تفسير التزام مثل هذا إذا تقيدنا بالمذهب الشخصي . فلا يستطاع إذن تفسيره إلا طبقا للمذهل المادي .
( 3 ) السند لحامد : من يوقع هذا السند يلتزم لدائن عير معروف هو حامل السند . فهنا أيضاً نشأ الالتزام دون دائن ، ولا يفسر ذلك إلا المذهب المادي .
11 – تقرير المذهبين الشخصي والمادي : لا شك في أن النظرية المادية من شأنها أن تؤدي إلي نتائج عملية خطيرة الشأن أن تؤدي إلي نتائج عملية خطيرة الشأن رأينا جانباً منها ، وأدركنا كيف أنها تتمشي مع النظم الاقتصادية القائمة في الوقت الحاصر ومع سرعة تداول المال وتيسير سبل المعاملات . لذلك يجب الاحتفاظ بالمرونة التي يكسبها هذا المذهب لنظرية الالتزام .
على أنه لا يجوز في الوقت ذاته إغفال المذهل الشخصي . فلا يزال الالتزام رابطة فيما بين شخصين . ولا يزال لشخصية المدين والدائن أثر كبير في تكوين الالتزام وتنفيذه . فقد رأينا أنه لا بد من ودود طرفي الالتزام وقت التنفيذ على الأقل . وسنري أن نية الطرفين – وهذا شيء نفسي – يؤثر تأثيراً كبيراً في وجود الالتزام صحيحاً وفي تنفيذه على الوجه المطلوب . والنية قي السبيل الذي تتسرب منه العوامل الخلقية إلي القواعد القانونية . ونضيف إلي ما تقدم أن شخصية المدين بنوع خاص ضرورية في الالتزام ، لا عند تنفيذه فحسب ، بل أيضاً عند نشوئه ، وهذا ما يعترف به المذهل المادي ذاته . ووجود مدين معين في الالتزام إنما قو هذا ما يعترف به المذهب المادي ذاته . ووجود مدين معين في الالتزام إنما قو هذا الذي يقوم عليه الفرق الجوهري ما بين الحق الشخصي والحق العيني . فقد سبق أن أشرنا إلي أن سلطة الدائن على الشيء في الحق سلطة غير مباشرة يستعملها الدائن بواسطة المدين ، وهذا ما يجعل من غير المستطاع إغفال الرابطة الشخصية في الالتزام .
والتقنين المدني الجديد ، إذا كان قد أخذ من المذهل المادي نتائج علمية هامة ، لم يهجر في الوقت ذاته المذهل الشخصي ، بل استبقاه في كثير من آثاره . وقد سبقت الإشارة إلي ذلك .
3 – اختيار تعريف للالتزام
12 - القانون المدني القديم وتعريف القانون الفرنسي : بعد هذه النظرة العامة للالتزام يمكن الآن أن نختار تعريفاً له . ونذكر قبل ذلك تعريف القانون المدني القديم وتعريف القانون الفرنسي . فقد كانت المادتان 90 / 144 من القانون المدني القديم تنصان على أن " التعهد قو ارتباط قانوني الغرض منه هو حصول منفعة لشخص الغرض منه هو حصول منفعة لشخص بالتزام المتعهد بعمل شيء معين أو بامتناعه عنه " . والقانون القديم كان يسمي الالتزام " تعهداً " . ولفظ " الالتزام " أدق ، لأن التعهد قد يفهم على أنه التزام مصدره العقد دون غيره من المصادر الأخرى .
وقد ورد تعريف الالتزام في القانون الفرنسي عرضاً في صدد تعريف العقد . فنصت المادة 1101 من هذا القانون علي أن " العقد اتفاق يلتزم بمقتضاه شخص أو أكثر نحو شخص آخر أو أكثر بإعطاء شيء أو بالقيام تعمل أو بالامتناع عن عمل " . وتعريف القانون الفرنسي يقرب من تعريف القانون المدني القديم في أن كلا منهما ينص أن محل الالتزام قد يكون إعطاء شيء ، (donner ) ، أي نقل ملكية أو حق عيني . والقانون المدني القديم يدخل الالتزام بإعطاء شيء في دائرة الالتزام تعمل .
13 – التعريف الذي ورد في المشروع التمهيدي للتقنين المدني : الجدير : وقد كان المشروع التمهيدي للتقنين المدني الجديد ، في المادة 121 ، يعرف الالتزام على الوجه الآتي " الالتزام حالة قانونية بمقتضاها يجب على الشخص أن ينقل حقاً عينياً أو أن يقوم بعمل أو أن يمتنع عن عمل " .
وقد ورد في المذكرة الإيضاحية لهذا المشروع ، تعليقاً على هذا النص ، ما يأتي ( [81] ) " كان في الوسع تعريف الالتزام بأنه علاقة قانونية أو رابطة من رواب القانون ، ولا سيما أن هذا هو التعريف التقليدي الذي ورد في التقنين المصري الحالي ( م 90 / 144 ) . بيد أنه يخشي من سياق التعريف على هذا الوجه أن يكون في ذلك قطع برأي معين في مسألة حظها من الخلاف في الفقه الحديث غير قليل . والواقع أن تعريف الالتزام بأنه رابطة قانونية إنما هو اعتناق للمذهب الشخصي ، مع ا ن الطابع المادي للالتزام أخذ يتزايد نصيبه من البروز في التشريع الحديث . وقد آثر المشروع أن يعرف الالتزام بأنه حالة قانونية تأكيداً لهذه النزعة الحديثة . وقي تعد نزعة الشريعة لغراء في تصويرها بفكرة الالتزام . ويراعي من ناحية أخري أن ذكر الدائن قد أغفل في التعريف إغفالا تاماً ولم يذكر إلا المدين . وهذا وجه آخر من وجوه التصوير المادي لالتزام . فالالتزام ، مجرداً من الدائن ، مرتبطاً بالمدين وحده ، إنما يكون عنصراً سلبياً من عناصر الذمه المالية أكثر منه علاقة قانونية تربط ما بين شخصين . وينهض لتوجيه هذا النظر ما استقر عله العمل . فمن الميسور عملا تصور التزام ليس له دائن وقت نشوئه ، والاشتراط لمصلحة الغير حافل بالتطبيقات التي يمكن أن تساق في هذا الصدد على أن الطابع الشخصي لم يهمل إهمالا تاماً . فالالتزام ، كما هو مدكور في التعريف ، يستتبع بالضرورة وجود شخص ملزم هو المدين . ومؤدي ذلك أن لكل التزام مديناً يعتبر شخصه عنصراً جوهرياً من عناصره ، وهذا هو نصيب الطابع الشخصي من فكرة الالتزام " .
وقد رؤى حذف هذا النص في المشروع النهائي تجنباً التعريفات بقدر الإمكان فيما لا ضرورة لتعريفه وتحرزاً من تأكيد الطابع المادي الالتزام في نص تشريعي تأكيداً قد يجعله يطغي على الطابع الشخصي . فالتعريف الذي ورد في المشروع التمهيدي أليق أن يكون مكانه الفقه لا التشريع ( [82] ) .
14 – التعريف الذي تختاره : وفي رأينا أن خير تعريف للالتزام ، في المرحلة التي وصل إليها من التطور في الوقت الحاضر ، هو التعريف الذي يبرز المسألتين الآتيتين :
( أولا ) أن للالتزام ناحية مادية كما أن له ناحية شخصية . فهو حالة قانونية تربط شخصاً معيناً .
( ثانياً ) أنه ليس ضرورياً أن يوجد الدائن منذ نشوء الالتزام .
وعندنا أن التعريف الآتي يفي بهذا الفرق :
" الالتزام حالة قانونية يرتبط بمقتضاها شخص معين بنقل حق عيني أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل " .
4 – أهمية نظرية الالتزام
وتأثرها بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والأدبية
14 – أهمية نظرية الالتزام : بعد ما قدمنا من تحديد لنظرية الالتزام بقي أن ندل على ما لهذه النظرية من شأن وخطر . فهي من القانون المدني ، بل ومن القانون عامة ، بمثابة العمود الفقري من الجيم . ويجعل لها تارد ( ( tarde في علم القانون مكان نظرية القيمة في علم الاقتصاد السياسي . ويجد علماء القانون فيها مجالا فسيحاً للسمو بالمنطق القانوني إلي أرفع مكان . بل قد يبالغ بعض الفقهاء فيغفل ما تشتمل عليه هذه النظرية من حقائق اجتماعية واقتصادية وأدبية ، ويجردها من كل ذلك ، ويبرزها قواعد فنية خالية إلا من المنطق المحض ، قريبة من المسائل الرياضية والعلوم الطبيعية . بل أن البعض قد غالي إلي حد أن وضع لها أسساً رياضية يضاهي بها النظريات الهندسية .
16 – تطور النظرية : على أنه إذا صح أن نظرية الالتزام هي أصلح النظرية قانونية ميداناً للتفكير المنطقي ، و أذا صح أيضاً أنها أولي النظريات قابلية للتوحيد في شرائع الأمم المختلفة لوحدة أصلها التاريخي ولسيادة المنطق فيها ، فليس بصحيح ما يزعم بعض الفقهاء من أن هذه النظرية لم تتطور ، بل بقيت ثابتة على الزمن ، تلقيناها عن الرومان كنا هي دون تعيير يذكر . والصحيح أن نظرية الالتزام تطروا تطوراً كبيراً منذ عهد الرومان إلي النوم . وقد تأثرت في تطورها بعوامل اجتماعية واقتصادية وأدبية .
17 - تأثر النظرية بالعوامل الاجتماعية : فالنظريات الاشتراكية وما في منحاها من النظريات الأخرى أثرت في نظرية الالتزام تأثيراً واضحاً . هذا عقد العمل ، وقد أخذ يزدحن بالقواعد والأحكام التي تهدف إلي حماية العمال وإلى إعطائهم من الحقوق ما لم يكن لهم من قبل كطرية الاجتماع وحق تكوين النهابات وحق الإضرات . وهذه نظرية العقد ذاتها ، وقد أخذت قوة الإلزام في العقد تبني فيها على التضامن الاجتماعي أكثر مما تقوم على إرادة الفرد . وهذه عقود الإذعان ، وقد أخذت الدولة تتدخل في تنظيمها حتى لا تترك جانب المستهلك دون حماية وهو الجانب الضعيف . وهذه نظرية الغبن ، وقد أخذت تتسع في القوانين الحديثة حتى أصبحت نظرية عامة تنطبق على جميع العقود على خلاف ما كانت تقضي به النظريات الفردية من وجوب ترك الفرد حراً في تعاقده يلتزم تما أراد مهما أصابه من غبن في ذلك .
18 – تأثر النظرية بالعوامل الاقتصادية : كذلك كان للعوامل الاقتصادية تأثير كبير في نظرية الالتزام . فقد كان من شأن السرعة في تداول المال أن أخذ المذهب المادي لالتزام يبرز إلي جانب المذهب الشخصي كما قدمنا . وحدت ظاهرة اقتصادية أخرى هي استغلال القوات الطبيعية استغلالا اقتصادياً مما أدي إلي استعمال مختلف الآلات الميكانيكية . وكان لهذا أثره في نظرية الالتزام ، فقد اقترن تقدم الآلات وكثرة استعمالها بمخاطر جمة تستهدف لها الناس ، وكان هذا سبباً في تأسيس المسئولية على الخطأ المفروض ، بل وفي خلق نظرية تحمل التبعة . وكان من ذلك أيضاً أن اتسع نطاق عقد التأمين بأنواعه المختلفة ، فوسع من نظرية الاشتراط لمصلحة الغير حتى بدت في ثوب جديد . وظاهرة اقتصادية ثالثة كان لها أثرها ي نظرية الالتزام قي تجمع رؤوس الأموال للإنتاج على أثر تقدم الصناعة ، وكان من وراء ذلك أن جدت نظريات في تنظيم النشاط الاقتصادي ، وأدى ازدياد هذا النشاط إلى خلق أنواع جديدة من العقود لم تكن معروفة من قبل ، كالعقود الجماعية والعقود النموذجية وعقود التزام المرافق العامة . هذا إلى أن المشاكل الاقتصادية بعد الحربين العالميتين الاخيرتين قد خلقت نظريات قانونية جديدة . نرى هذا في نظرية الظروف الطارئة ، وفي نظرية الوفاء بعملة نقص سعرها وما يتصل بذلك من " شرط الذهب " ، وفي التسعير الجبري للسلع والأجر .
19 – تأثر النظرية بالعوامل الأدبية : أما تأثير العوامل الأدبية في نظرية الالتزام فهو قديم . فالنظرية التي تقضى بان الغش يفسد العقود ، ونظرية التعسف في استعمال الحق ، والمبدأ القاضي بأنه لا يجوز الاتفاق على ما يخالف الآداب والنظام العام ، كل هذه نظريات مشبعة بالروح الأدبية ، وهي تقوم على محاربة سوء النية والضرب على أيدي العابثين بالأخلاق والآداب العامة . وهناك الالتزامات الطبيعية ، وهي التزامات تمت بصلة متينة إلى قواعد الأخلاق ، يعترف بها القانون ويضع لها نوعاً من الجزاء ، فتمتزج المثل الأدبية بالقواعد القانونية حتى تصبح شيئا واحداً . هذا إلى أن المصادر غير التعاقدية للالتزام إنما تقوم على أساس متين من القواعد الأدبية . فالالتزام بالتعويض عن العمل الضار يستند إلى التزام بوجوب الامتناع عن الأضرار بالغير دون حق . كذلك مبدأ الإثراء بلا سبب يمنع الشخص من أن ينتفع على حساب غيره . والالتزامات التي ينشئها القانون ، كالتزامات الجوار والتزامات أفراد الأسرة بعضهم نحو بعض ، هي في الواقع أوامر ونواه أدبية تقضي بوجوب العطف على الجار والكف عن إيذائه والبر بذوى القربى والأرحام . فإذا قلنا أن القانون إنما يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر لا نكون مبالغلين في هذا القول ، ونكون قد دللنا في الوقت ذاته على أن القانون والأخلاق شيئان متلازمان .
20 – ترتيب موضوعات الكتاب : بعد هذه الإلمامة العجلى بالالتزام نبدأ الكلام في مصادره ، ونقدم لذلك بكلمة في ترتيب هذه المصادر ، ثم نستعرضها في أبواب أربعة :
الباب الأول : في العقد .
الباب الثاني : في العمل غير المشروع .
الباب الثالث : في الإثراء بلا سبب .
الباب الرابع : في القانون .
مصادر الحق
مقدمة
في ترتيب مصادر الالتزام
21 – تعريف مصدر الالتزام : المقصود بمصدر الالتزام هنا هو السبب القانونين الذي أنشأ الالتزام . فالتزام المشتري بدفع الثمن مصدره عقد البيع . والتزام المتسبب في ضرر بتعويضه مصدره العمل غير المشروع . والتزام الأب بالنفقة على عياله مصدره نص في القانون .
22 – الترتيب التقليدي لمصادر الالتزام : تذكر القوانين اللاتينية عادة أن مصادر الالتزام خمسة : العقد ( contrat ) ، وشهب العقد ( quasi - contrat ) ، والجريمة ( delit ) ، وشبه الجريمة ( quasi - delit ) ، والقانون ( loi ) .
فالعقد هو توافق ارادتين على إنشاء التزام ، كعقد البيع يتفق بمقتضاه البائع والمشتري على إنشاء التزامات ، منها ما هو في جانب البائع كالالتزام بنقل الملكية والالتزام بضمان التعرض ، ومنها ما هو في جانب المشتري كالالتزام بدفع الثمن .
وشبه العقد هو عمل اختياري مشروع ينشأ عنه التزام نحو الغير ، وقد ينشأ عنه أيضاً التزام مقابل في جانب لك الغير ( أنظر المادة 1371 من القانون المدني الفرنسي ) . مثل ذلك الفضولي ، فهو يقوم مختاراً بعمل يريد به مصلحة الغير دون أن يتعاقد معه على ذلك ، فيلتزم بان يستمر في العمل الذي بدأه وبأن يقدم حساباً عنه ، ومصدر هذا الالتزام هو العمل الاختياري المشروع الذي قام به . وقد ينشأ عن هذا العمل التزام آخر من جانب رب العمل ، فيلتزم هذا في حالة ما إذا أحسن الفضولي القيام بالعمل الذي أخذه على عاتقه بان يراد ما أنفقه الفضولي من مصروفات ضرورية ونافعة ، وبأن ينفذ ما عقده الفضولي من التزامات في سبيل القيام بمهمته ( أنظر المادة 1375 من القانون المدني الفرنسي ) .
والجريمة هي عمل ضار يأتيه فاعله متعمدا الأضرار بالغير ، كما إذا اتلف شخص عمداً مالا مملوكاً لغيره ، فينشأ عن هذا العمل الضار التزام في جانب فاعله بان يعوض عن المال الذي أتلفه .
وشبه الجريمة عمل يصيب الغير بالضرر كالجريمة ، ولكنه يختلف عنها في أنه غير مصحوب بنية الأضرار بالغير ، بل يأتيه فاعله عن إهمال وعدم احتياط ، فيلتزم بتعويض الضرر كما في الجريمة . فإذا قاد شخص سيارة بسرعة غير معتادة ، وتسبب عن ذلك أن دهس شخصاً في الطريق ، فإنه يلتزم بتعويض المصاب أو ورثته عن الضرر الذي أحدثه .
والقانون قد يكون أخيراً مصدراً للالتزام فينشئه في حالات معينة ، كما في التزامات أفراد الأسرة بعضها لبعض من نفقة ورضاع وحضانة ووصاية وقوامة إلى غير ذلك ، وكما في التزامات الجار نحو جاره .
هذه هي مصادر الالتزام ، وتذكر عادة على الترتيب المتقدم . وقد اتفق علماء الفقه الحديث على انتقاد هذا الترتيب ، ولكنهم اختلفوا في الترتيب الذي يجب الأخذ به ، ثم استقرت جمهرتهم على ترتيب معين .
وحتى تستوب هذه المسألة الهامة نبحث أولاً من أين اتي هذا الترتيب الذي قدمناه ، ثم تبين وجوه النقد فيه ، وتخلص من ذلك إلى الترتيب الحديث لمصادر الالتزام .
1 – من أين الترتيب التقليدي لمصادر الالتزام
23 – القانون الروماني : لم يرد هذا الترتيب في القانون الروماني في عهده المدرسي ، فقد كان هذا القانون يرجع الالتزامات إلى نوعين من المصادر : الجريمة ( delicta ) وتنحصر في جرائم محددة ، والعقد ( contractus ) ويشتمل على عقود معينة على سبيل الحصر ، ثم إلى مصادر أخرى للالتزامات التي لا تنشأ من الجريمة ولا من العقد ، وهي مصادر مختلفة متفرقة لم يحاول القانون الروماني ترتيبها ، واسمها " الأسباب المختلفة " ( variae causarum figurae ) .
هذا هو ترتيب القانون الروماني لمصادر الالتزام في عهده المدرسي . ولم يكن فيه شيء عن شبه العقد ولا عن شبه الجريمة . ولكن جاييس Gaius ، أحد فقهاء الرومان المعروفين ، رأى أن يضع الالتزامات التي تنشا من أعمال غير مشروعة إلى جانب الالتزامات التي تنشا من أعمال غير مشروعة إلى جانب الالتزامات التي تنشأ من الجرائم المحددة المعروفة ، بجامعة أن كلا من النوعين ينشأ من عمل غير مشروع ( [83] ) . والذي كان جاييس يعنيه هو اعتبار هذه الالتزامات كأنها تنشأ من جريمة ، لا من حيث مصدرها ، لأنها لا تنشأ من جريمة في الواقع من الأمر ، بل من حيث أثرها ، إذ هي في حكمها كالالتزامات التي تنشأ من الجرائم ، فلا تنتقل إلى ورثة المدين ويصح أن تجاوز حد الضرر الذي أحدثه العمل . والفرق واضح بين المعنيين ، إذ أن الشبه في المعنى الأول يقع على المصدر ، ويقع في المعنى الثاني على الأثر . وكان جاييس يقول عن هذه الالتزامات أن المدين فيه يلتزم كما لو كان يلتزم بجريمة ( quasi ex delicto tenetur ) . ورأى جاييس أيضاً أن يضع الالتزامات التي تنشأ من أعمال مشروعة إلى جانب الالتزامات التي تنشأ من العقود المعينة المعروفة ( [84] ) ، ويقصد المعنى الذي قصد إليه في الأعمال غير المشروعة ، فهي التزامات يلتزم بها المدين كما لو كان يلتزم بعقد ، فليست إذن في مصدرها تنشأ من شبه العقد ، بل هي التزامات كتلك التي تنشأ من العقد من ناحية الأثر . وإلا فالفرق كبير بين العقد وما يسمي يشبه العقد ، فالأول توافق إرادتين ، والثاني لا وجود لهذا التوافق فيه ، بل قد لا توجد الإرادة فيه أصلاً ، وكان يقول عن هذه الالتزامات إن المدين فيها يلتزم كما لو كان يلتزم بعقد ( quasi ex contractu tenetur ) .
ولم يلبث الفرق الدقيق بين المعنيين أن زاد دقة وغموضاً ، حتى ورد فيما كتبه جاييس نفسه ونقله عنه جستنيان ( justinien ) شيء من الخلط بينهما .
على أنه يلاحظ أن كلا من جاييس وجستنيان لم يستعمل لفظي " شبه العقد " و " شبه الجريمة " اللذين استعملهما بوتييه ( Pothier ) والقانون الفرنسي من بعده . وقد أخذ هذان اللفظان مدلولا آخر غير الي كان يعنيه جاييس من اللفظين المقابلين لهما في ترتيبه . وسنبين ذلك فيما يلي .
24 – القانون الفرنسي القديم : أما ترتيب مصادر الالتزام في القانون الفرنسي القديم فتاريخه تحوير مستمر للنظيرة الرومانية حتى خرجت عن معناها الصحيح . ولم يلبث التعبير الروماني ( quasi ex delicto ) و ( quasi ex contractu ) أن انقلب فأصبح ( ex quasi delicto ) و ( ex quasi contractu ) . ولكن المعنى في أول الأمر لم يتغير واقتصر التحوير على اللفظ ، وإن كان " شبه العقد " اتسع نطاقه فأصبح يشمل مسائل أخرى كالقوامة والميراث .
وفي عهد أصحاب الحواشي ( glossateurs ) صارت مصادر الالتزام العقد وملحق العقد والجريمة وملحق الجريمة ومصادر أخرى متفرقة ( variae causarum figurae ) . فاستبقى " المحشون " المصادر الأربعة التي عرفت عند جاييس وجستنيان ، وزادوا عليها هذه المصادر المتفرقة التي جعلوها مستقلة عن ملحق العقد وملحق الجريمة حتى ينسبوا إليها الالتزامات التي لا يمكن ارجاعها إلى مصدر من المصادر الأربعة الأولى كما في دعوى الاسترداد بسبب السرقة ( condictio furtive ) .
أما المدرسة البارتولية فقد حملها روح التحليل المنطقي التي اشتهرت بها على بحث الأساس الذي بنيت عليه الالتزامات الناشئة من " ملحق العقد " . وكان رأي بارتول ( Bartole ) أن ملحق العقد هذا ليس مبنيا على إرادة حقيقية أو مفترضة ، بل هو مبنى على إرادة وهمية خلقها القانون . وهذه هي الخطوة الأولى في تقريب " ملحق العقد " من العقد واخراج هذا التعبير الأول عن المعنى الذي قصد إليه الرومان .
ثم تلى ذلك الخطوة الثانية ، وأصبح " ملحق العقد " يتضمن إرادة مفترضة تقربه من العقد الذي يتضمن إرادة حقيقية . وهكذا ابتعدنا عن النظرية الرومانية وانفرجت مسافة الخلف بين النظريتين . فالنظرية الرومانية كانت ترى " ملحق العقد " هو العمل المشروع الذي ليس بعقد ، أي أن الفركة الأساسية فيه هي أن تنتفي عنه صفة العقد . أما الآن " فالملحق بالعقد " هو عمل مشروع يقرب من العقد في أن كلا منهما ليس عملا مشروعاً فحسب ، بل هو أيضاً مبنى على إرادة : حقيقية في العقد ومفترضة في ملحق العقد . ومن ثم لصقت صفة العقد بملحق العقد ، وأصبح هذا " شبه عقد " .
ثم أتي فوتييه فجعل مصادر الالتزام خمسة : العقد وشبه العقد والجريمة وشبه الجريمة والقانون .
25 – قانون نابليون : وانتقل الترتيب الذي أتى به بوتييه إلى قانون نابليون على علاته . فجعل هذا القانون مصادر الالتزام خمسة هي المصادر ذاتها التي قال بها بوتييه .
وسلم كثير من فقهاء القانون المدني الفرنسي في أول الأمر بهذا الترتيب ، ولم يعرضوا له بنقد ، بل جعلوه أساساً لتعليقاتهم وشروحهم .
2 - نقد الترتيب التقليدي لمصادر الالتزام
26 – نقد الأستاذ بلانيول ( [85] ) : يرى الأستاذ بلانيول ( Planiol ) أن تقسيم العمل غير المشروع باعتباره مصدراً للالتزام إلى جريمة وشبه جريمة ، بحسب وجود نية التعمد أو انعدامها ، لا أهمية له ، لا من حيث نشوء الالتزام ولا من حيث ما يترتب عليه من الأثر . فشبه الجريمة ينشيء التزاماً كالجريمة سواء بسواء ، والتعويض يدفع كاملا في الحالتين .
أما شبه العقد فهو في نظر الأستاذ بلانيول تعبير مضلل . ذلك أن أصحاب الترتيب التقليدي يزعمون أن شبه العقد قريب من العقد في أنه عمل إرادي ، وبعيد عن الجريمة وشبه الجريمة في أنه عمل مشروع . والواقع عكس ذلك تماماً ، فشبه العقد بعيد عن العقد لأنه غير إرادي ، وقريب من الجريمة وشبه الجريمة لأنه غير مشروع .
أما أن شبه العقد عمل غير إرادي ، فيظهر هذا من أن الالتزام الناشيء من شبه العقد ليس على أية صورة من الصور وليد الإرادة – بله توافق الإرادتين – فهو قد ينشأ رغم إرادة الملتزم ، لذلك لا يشترط توافر الأهلية فيه ، بينما يشترط توافرها في المتعاقد لأن التزامه لا ينشأ إلا بإرادته . وإذا كنا في شبه العقد قد تصادف عملا ارادياً في مبدأ الأمر ، كما إذا أقام شخص بناء على أرض الغير فينشأ التزام في ذمة صاحب الأرض بان يرد ما أثرى به على حساب صاحب البناء ، فإن هذا العمل الارادي ليس هو الذي خلق الالتزام ، وليس من صدرت منه هذه الإرادة هو الملتزم ، بل الملتزم هو الشخص الذي لم تصدر منه أية إرادة ، وهو صاحب الأرض الذي فوجئ بالبناء مقاماً على أرضه .
وأما أن شبه العقد عمل غير مشروع ، فيظهر هذا إذا تعمقنا في تحليل الالتزام الذي ينشأ من شبه العقد . فإننا نقف عادة عند العمل الذي يبدأ به شبه العقد . وهذا العمل مشروع دون شك . فمن يدفع ديناً غير موجود أو يقيم بناء على أرض الغيار يقوم بأعمال مشروعة . ولكن هذا العمل المشروع ليس هو الذي ينشيء الالتزام ، فإن الملتزم ليس هو الشخص الذي دفع الدين أو أقام البناء ، ومعروف أن سبب الالتزام يتصل بشخص المدين لا بشخص الدائن . فإذا أردنا أن نعرف سبب الالتزام ملتمسين إياه متصلا بشخص المدين ، وجدنا أن هذا السبب في الحالتين المتقدمتين وفي الحالات الأخرى المماثلة يرجع إلى إثراء المدين دون سبب على حساب الدائن ، فوجب عليه أن يرد للدائن ما أثرى به على حسابه . فالإثراء دون حق هو إذن مصدر الالتزام ، وهو عمل غير مشروع .
ويتبين من ذلك أن شبه العقد ليس بالعمل الإرادي ولا بالعمل المشروع كما يزعمون .
27 – رأي الأستاذ بلانيول في ترتيب مصادر الالتزام : ثم يقدم الأستاذ بلانيول أساس لترتيب آخر ، فيذهب إلى أن للالتزام مصدرين اثنين : العقد والقانون . ويرد شبه العقد والجريمة وشبه الجريمة جميعاً إلى القانون . ذلك أن الالتزامات التي تنشأ من هذه المصادر الثلاثة ليست إلا التزامات جزائية قامت بسبب الإخلال بالتزامات قانونية . ففي شبه العقد يثري شخص على حساب غيره ، فيخل بالتزام قانونين هو ألا يثري دون حق على حساب الغير ، وينشأ عن الإخلال بهذا الالتزام القانونين التزام جزائي هو رد ما أثرى به . وفي الجريمة وشبه الجريمة يحدث شخص ، بخطأه العمد أو غير العمد ، ضرراً للغير ، فيخل بالتزام قانونين هو إلا يضر الغير بخطأه ، وينشأ عن الإخلال بهذا الالتزام القانوني التزام جزائي هو تعويض الضرر الذي أحدثه .
والذي يميز هذه الالتزامات الجزائية هو إنها ليست كالالتزامات القانونية درءاً لضرر قد يقع في المستقبل ، بل هي تعويض عن ضرر قد وقع في الماضي على أنه يلاحظ أنه هذه الالتزامات الجزائية إنما هي في الواقع الالتزامات القانونية ذاتها قد استحالت إلى تعويض ، على الوجه الذي نراه في الإلتزمات التعاقدية عندما تستحيل هي أيضاً إلى تعويض إذا لم يكن تنفيذها عيناً . فكل التزام غير تعاقدي يكون التزاماً قانونياً ، إما في صورته الأصلية ، وإما في صورة استحال فيها إلى تعويض . وهو في الصورة الأولى يراد به درء ضرر قد يقع ، وفي الصورة الثانية يراد به التعويض عن ضرر قد وقع .
28 – تقدير رأي الأستاذ بلانيول في ترتيب مصادر الالتزام : هذا هو الرأي الذي يقدمه الأستاذ بلانيول في ترتيب مصادر الالتزام . وهو رأي خلاب ، بسيط المظهر ، سهل الفهم . ولكن حظه من الابتداع أقل مما يظهر لأول وهلة . فقد سبقه تولييه ( Toulier ) ( [86] ) إلى نقد الترتيب التقليدي لمصادر الالتزام نقداً جدياً ، وبين في وضوح وجلاء : ( أولاً ) أن مصادر الالتزام لا تعدو أن تكون الاتفاق أو القانون . ( ثانياً ) أن الالتزامات التي يكون مصدرها القانون أما أن تستند إلى القانون رأساً وإما أن تنشأ على اثر عمل صادر من المدين أو الدائن . ( ثالثاً ) أن ما يسميه القانون بشبه العقد إنما يرجع إلى قاعدة عادلة هي عدم مشروعية الإثراء على حساب الغير ، وأن المشرع كما ألزم من يأتي بعمل غير مشروع تعويض الضرر الذي يحدث من هذا العمل ، ألزم كذلك من يثري بعمل مشروع على حساب غيره أن يرد إلى هذا الغير ما أثرى به على حسابه ، وهذا تقابل منطقي عادل .
ولكن بلانيول كان مبتدعا عندما أوجد الصلة بين الالتزامات القانونية والالتزامات التي تنشأ من الجريمة وشبه الجريمة وشبه العقد . فهذه الالتزامات الأخيرة كما يقول ما هي إلا التزامات قانونية استحالت إلى تعويض مالي . وكان مبتدعا كذلك عندما ارجع كل هذه الالتزامات غير التعاقدية إلى فكرتين اساسيتين : درء خطر قد يقع ، أو التعويض عن ضرر قد وقع .
على أنه بالرغم من روعة ما في هذا التحليل من جدة وبساطة ، فليس فيه ما يلقى كثيراً من الضوء على ترتيب مصادر الالتزام . إذ نكاد نكون بعد نظرية بلانيول حيث كنا قبلها ، لم نتقد م خطوة كبيرة إلى الأمام . فهي أقرب إلى التعليل منها إلى التحليل ، لأنها توضح علة وجود الالتزامات أكثر مما تبين مصدر نشوئها .
هذا هو بوجه إجمالي موضع الضعف في نظرية الأستاذ بلانيول . وإذا أردنا نقد تفاصيلها أخذنا عليها ما يأتي :
( أولاً ) إذا صح أن القانون مصدر لكل الالتزامات غير التعاقدية ، فهو مصدر غير مباشر بالنسبة إلى بعضها ، ومصدر مباشر بالنسبة إلى بعض آخر ( [87] ) . وكان الأولى أن يبرز العمل كما برز العقد مصدراً مستقلا من مصادر الالتزام .
( ثانياً ) بالغ الأستاذ بلانيول في تأكيده بأن شبه العقد عمل غير مشروع ، مع أن القول بأنه عمل مشروع لا يخلو من الوجاهة . ذلك أن المثرى على حساب الغير إنما يلتزم بعمل إذا نظرنا إليه في أصله كان مشروعاً ، وإذا نظرنا إليه في نتيجته كان غير مشروع . فهو عمل يتسبب عنه إثراء على حساب الغير . فيبقى العمل في ذاته مشروعاً وإن تسببت عنه نتيجة غير مشروعة .
على أنه من الانصاف أن يقال أن لبلانيول فضلا كبيراً في توجيه نظر الفقهاء إلى عيوب الترتيب التقليدي لمصادر الالتزام . وقد اجمع الفقهاء ، على اثر الحملة التي قام بها ، على نقد هذا الترتيب ، وما لبثوا أن هجروه إلى ترتيب حديث ، ننتقل الآن إليه .
3 – الترتيب الحديث لمصادر الالتزام
29 – القانون المدني القديم : نص القانون المدني القديم في المادتين 93 / 147 على أن " التعهدات إما أن تكون ناشئة عن اتفاق أو عن فعل أو عن نص القانون " . وهذا الترتيب خير بكثير من الترتيب الذي أتى به القانون الفرنسي . فقد تجنب أكثره وجوه النقد التي توجه إلى الترتيب الأخير ، فلم يفرق بين الجريمة وشبه الجريمة ، ولم يجعل ما يسمي " بشبه العقد " مصدراً للالتزام ، بل جمع المصادر التي وزعها القانون الفرنسي بين شبه العقد والجريمة وشبه الجريمة في مصدر واحد وأسماه " فعلا " ( fait ) ، وأبقى العقد والقانون مصدرين مستقلين .
وكل ما يمكن أن يوجه للقانون المصري القديم من النقد أنه لم يبين ما ينطوي تحت كلمة " الفعل " من معان . فالفعل إما أن يكون من شأنه أن يفقر الدائن دون حق ، وهذا هو العمل غير المشروع . وإما أن يكون من شأنه أن يغني المدين دون سبب ، وهذا هو الإثراء بلا سبب . وهكذا يتكشف عن " الفعل " مصدران لا مصدر واحد ، كان فصل أحدهما عن الآخر أجلى بياناً وأوسع إحاطة .
30 – التقنينات الحديثة والفقه الحديثة : وإذا رجعنا إلى التقنينات الحديثة ، كالتقنين الألماني والتقنين السويسري والمشروع الفرنسي الإيطالي والتقنين الإيطالي الجديد ، وأردنا أن نستخلص منها ما توخته من ترتيب لمصادر الالتزام ، أمكن أن يقال في شيء من التعميم إن المصادر التي أقرتها هذه التقنينات خمسة : العقد والإرادة المنفردة والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب والقانون .
ويشترك هذا الترتيب الحديث مع الترتيب القديم في مصدرين هما العقد والقانون . أما الجريمة وشبه الجريمة فيجتمعان في " العمل غير المشروع " . وشبه العقد في الترتيب القديم يقابله الإثراء بلا سبب وريد الحديث الإرادة المنفردة مصدراً للالتزام .
وهذا الترتيب هو الذي أخذ به أكثر الفقهاء في الفقه الحديث ( [88] ) .
31 – التقنين المدني الجديد : ويلاحظ أن التقنينات الحديثة لا تورد في نص خاص مصادر الالتزام مرتبة هذا الترتيب الخماسي الذي تقدم ذكره ، بل إن هذا الترتيب يستخلص من التبويب الذي اتخذته هذه التقنينات . وعلى هذا النحو جرى التقنين المدني الجديد ، فلم يورد نصاً خاصاً يقر فيه أي ترتيب معين ، بل اقتصر على عرض مصادر الالتزام المختلفة في فصول متعاقبة ، مرتبة على النحو المتقدم ، وقد ورد في هذا الصدد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ما يأتي :
" والواقع أن تحدث التقنينات ، ولاسيما ما كان منها جرماني النزعة . لا يورد في النصوص تقسيما للمصادر . بل إن المشروع الفرنسي الإيطالي ذاته ، على شدة تأثره بالنزعة اللاتينية ، انتهى إلى الإعراض عن كل تقسيم فقهي ، ونعي على التقسيم الذي اتبعه التقنين الفرنسي قصوره وفساده ومجانبته للمعقول . وقد برر واضعو المشروع الفرنسي الإيطالي إعراضهم عن كل تقسيم ونبذهم للأحكام الحالية الواردة في المادة 1370 من التقنين المدني الفرنسي والمادة 1097 من التقنين المدني الإيطالي بان التقسيم الذي اتبعه هذان النصان أليق بأغراض التعليم منه بأغراض النصوص التشريعية . واستطرد التقرير الخاص بالمشروع المتقدم ذكره قائلا : " والخلاصة أن الفقه بوسعه أن يجري على التقسيم التقليدي أو أن يحل محله تقسيماً أكثر اتفاقاً مع المعقول ، والنتيجة أن إسقاط التقسيم من المشروع قد ازال من النصوص عقبة تحول دون حرية اجتهاد الفقه في الإبداع والتصور " . وقد رؤى من الأنسب اقتفاء اثر المشروع الفرنسي الإيطالي وتقنينات حديثة أخرى ، فلم يقتصر الأمر على الإعراض عن التقسيم البالي الذي اتبعه التقنين الفرنسي العتيق ، بل جاوز ذلك إلى العدو عن إقرار أي تقسيم رسمي في النصوص . وعلى هذا النحو قنع المشروع بعرض مصادر الالتزام المختلفة دون أن يجهد في ردها إلى أقسام جامعة شاملة في نص خاص . فعمد ، نسجاً على منوال أحدث التقنينات ، إلى البدء بأحكام العقد والإرادة المنفردة ( [89] ) ، ثم تناول العمل غير المشروع والإثراء بلا سبب ، وانتهى بالالتزامات التي تنشأ مباشرة من نص القانون ( [90] ) " .
32 – أساس علمي لترتيب مصادر الالتزام ومصادر الحقوق بوجه عام : تبين مما تقدم أن التقنينات الحديثة جعلت مصادر الالتزام خمسة : العقد والإرادة المنفردة والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب والقانون .
وهذا الترتيب تغلب فيه الناحية العملية ، وينقصه الأساس العلمي الذي يرتكز عليه . فلا يكفي أن نقول إن هذه هي مصادر الإلتزام ، بل يجب إرجاع هذه المصادر إلى أصول علمية منطقية .
ونحن إذا أردنا أن نرجع مصادر الالتزام إلى ترتيب منطقي ، وفهمنا أن المراد بالمصدر هو السبب القانونين الذي ينشيء الالتزام ، وجدنا عند التأمل أن الأسباب القانونية التي تنشيء الالتزامات ليست مقصورة على هذه الدائرة – دائرة الحقوق الشخصية – بل هي تتناول أيضاً الحقوق العينية ، بل تجاوز قانون الأموال إلى قانون الأسرة ، بل هي تحلق في سماء القانون ، وتنشيء كل العلاقات القانونية أو تؤثر فيها ، سواء كانت هذه العلاقات ترجع إلى القانون الخاص أو إلى القانون العام .
ومن الواضح أن السبب الذي ينشيء علاقة قانونية أو يؤثر فيها هو أمر يجد فيحدث تعديلا في العلاقات القانونية الموجودة . ولو كان لنا أن نتصور أن الأرض كفت عن الدوران ، وأن كل مخلوق عليها ركن إلى السكون أمكن أن نقول إن العلاقات القانونية تبقى على حالها دون تغير في الوقت الذي تجمد فيه كل حركة . فإذا حدثت بعد ذلك أية حركة ، فقد يكون من شأنها أن تعدل في هذه العلاقات . هذه الحركة التي وقعت نسميها " بالواقعة " . فإذا كان من شأنها أن تنتج أثراً قانونياً سميت " بالواقعة القانونية " ( fait juridique ) . وهي إما أن تكون راجعة لإرادة الإنسان ، وإما ألا ترجع لهذه الإرادة .
فهبوب العواصف ، وانفجار البراكين ، ودوران الأرض ، كل هذه وقائع لا ترجع لإرادة الإنسان ، بل هي من عمل الطبيعة . وقد تؤثر في العلاقات القانونية الموجودة : هبوب العواصف أو انفجار البراكين قد يكون قوة قاهرة تعفى المدين من التزامه . ودوران الأرض حول نفسها يعين ساعات تنفيذ الالتزام في عقد العمل . ودورانها حول الشمس يحصي عدد السنين اللازمة للتملك بالتقادم .
والوقائع التي ترجع لإرادة الإنسان أكثرها أعمال مادية ، قد يريد صاحبها أن يحدث بها أثراً في الروابط القانونية الموجودة أو لا يريد ذلك . فهو يأكل ويمشي ويتحدث ويعاشر الناس ويجاملهم ، وهو لا يريد عادة من وراء هذا أن يؤثر في علاقاته القانونية . ولكن هذه العلاقات قد تتأثر دون أن تتجه إرادته إلى شيء من ذلك . فإذا أكل شيئاً لا يملكه أصبح مسئولا عن تعويض المالك . وإذا مشي دون حيطة فأتلف شيئاً وجب عليه أن يعوض عما اتلف . وإذا تحدث فذكر مثالب للغير فقد يكون هذا سباً أو قذفاً يجعله مسئولا . وإذا جامل الغير فقام ببعض شؤونهم فقد يجد نفسه ملزماً باتمام ما بدأ به ويكون دائناً لهذا الغير بمقدار ما كلفه العمل . ويلاحظ أنه في الوقائع المتقدمة قد قام الشخصي بأعمال مادية اختيارية ، أراد النتائج التي ترتبت عليها في بعض الفروض ، ولكنه في أكثر الفروض لم يرد شيئاً من هذه النتائج .
وهناك من الوقائع التي ترجع لإرادة الإنسان ما ليس بأعمال مادية ، بل هي أعمال إرادية . ونريد بالعمل الإرادي هنا عمل الإرادة المحضة تتجه إلى إحداث نتائج قانونية معينة . مثل هذه الوقائع تسمي إعمالاً قانونية ( actes juridiques ) تمييزاً لها عن الأعمال المادية . ومنها ما يرجع لإرادة الشخص منفرداً كالوصية والوقف والوعد بجائزة ( الجعالة ) ، ويسمي بالعمل القانونين الصادر من جانب واحد ( acte juridique unilateral ) ، ومنها ما يرجع لارادته مقرونة بارادة طرف آخر ، وهذا هو العقد ( acte juridique bilateral, contrat ) .
من ذلك نرى أن الوقائع هي مصادر الروابط القانونية . والوقائع إما أن تكون طبيعية ( faits naturels ) أو اختيارية ( faits rolontaires ) . والوقائع الاختيارية إما أن تكون إعمالاً مادية ( actes materielgs ) أو إعمالاً قانونية ( actes juridiques ) . والأعمال القانونية إما أن تكون صادرة من جانب واحد ( actes juridiques ) . والأعمال القانونية إما أن تكون صادرة من جانب واحد ( actes unilatreaux ) أو صادرة من الجانبين ( actes bilatreaux, contrats ) والقانون من وراء كل ذلك محيط ، فهو الذي يحدد الآثار القانونية التي تترتب على الوقائع والأعمال جميعاً .
ويلاحظ في هذا الترتيب إننا تدرجنا من الأعم إلى الأخص . فالوقائع القانونية تشمل الوقائع الطبيعية والوقائع الاختيارية ، والوقائع الاختيارية تشمل الأعمال المادية والأعمال القانونية . والأعمال القانونية تشمل الأعمال الصادرة من جانب واحد والأعمال الصادرة من الجانبين .
33 – تطبيق هذا الترتيب على مصادر الحقوق العينية : المعروف أن أسباب كسب الحقوق العينية سبعة : الاستيلاء والميراث والوصية والالتصاق والعقد والشفعة والحيازة .
فإذا رتبنا هذه الأسباب على النحو الذي قدمناه كان منها الوقائع الطبيعية ، وهي الميراث وأسباب الأخذ بالشفعة والتقادم . ومنها الأعمال المادية ، وهي الاستيلاء والالتصاق والحيازة . ومنها الأعمال القانونية ، بعضها عمل صادر من جانب واحد وهي الوصية وإعلان الرغبة في الأخذ بالشفعة ، وبعض آخر عمل صادر من الجانبين ، وهو العقد ( [91] ) .
34 – تطبيق الترتيب على مصادر الالتزام : ونطبق هذا الترتيب العلمي على مصادر الالتزام . فالوقائع الطبيعية كالجوار والقرابة يرتب عليها القانون التزامات معينة لاعتبارات ترجع للعدالة والتضامن الاجتماعي . لذلك يصح إسناد هذه الالتزامات للقانون مباشرة فيكون هو مصدرها .
والأعمال المادية قسمان : القسم الأول أعمال غير مشروعة تصدر من المدين فتفقر الدائن دون حق فيلتزم المدين بالتعويض ، ومصدر هذا الالتزام هو العمل المادي الضار . والقسم الثاني أعمال مشروعة تغني المدين على حساب الدائن فيلتزم المدين أن يرد ما اغتنى به ، ومصدر هذا الالتزام هو العمل المادي النافع .
الباب الأول
العقد
Le Contrat
تمهيد
35 – مسائل ثلاث : نمهد للكلام في العقد بكلمات ثلاث : إحداها في تعريف العقد ، والثانية في مبدأ سلطان الإرادة ، والثالثة في تقسيم العقود .
* * *
1 – تعريف العقد
36 – الاتفاق والعقد : يميز بعض الفقهاء بين الاتفاق والعقد .
فالاتفاق ( convention ) هو توافق إرادتين أو أكثر على إنشاء التزام أو نقله أو تعديله أو إنهائه . فالاتفاق على إنشاء التزام مثله عقد البيع ، ينشيء التزامات في جانب كل من البائع والمشتري . والاتفاق على نقل التزام مثله الحوالة ، تنقل الحق أو الدين من دائن لدائن آخر أو من مدين لمدين آخر . والاتفاق على تعديل التزام مثله الاتفاق على اقتران أجل بالالتزام أو إضافة شرط له . والاتفاق على إنهاء التزام مثله الوفاء ينتهي به الدين .
والعقد ( contrat ) اخص من الاتفاق ، فهو توافق إرادتين على إنشاء التزام أو على نقله . ومن ذلك يتضح أن كل عقد يكون اتفاقاً . أما الاتفاق فلا يكون عقداً إلا إذا كان منشئاً لالتزام أو ناقلا له . فإذا كان يعدل الالتزام أو ينهيه فهو ليس بعقد .
وقد نقل القانون المدين الفرنسي هذا التفريق بين العقد والاتفاق عن بوتييه ودوما ، إذ عرف العقد في المادة 1101 بأنه اتفاق يلتزم بمقتضاه شخص أو عدة أشخاص نحو شخص أو عدة أشخاص آخرين بإعطاء شيء أو بفعله أو بالامتناع عن فعله . فالعقد إذن بمقتضى هذا التعريف اتفاق ينشيء التزاماً ، فهو نوع ( espece ) والاتفاق جنس ( genre ) له . ويلاحظ أن التعريف الذي أورده القانون الفرنسي يجمع بين تعريف العقد وتعريف الالتزام ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
37 – لا أهمية للتمييز بين الاتفاق والعقد : ولا نرى أهمية للتمييز بين الاتفاق والعقد . ونتفق في هذا مع أكثر الفقهاء . وإذا كان الفقهاء الذين يقولون بالتمييز يرون أهمية له من حيث الأهلية ، فهي تختلف في العقد عنها في الاتفاق ، فإنه يلاحظ على هذا الرأي أن الأهلية تختلف باختلاف العقود ذاتها ، فهي في عقود التبرع مثلا غيرها في عقود المعاوضة ، ومع ذلك لم يقل أحد إن هناك فرقاً ما بين الهبة والبيع من حيث أن كلا منهما عقد لمجرد أن الأهلية تختلف في أحدهما عنها في الآخر .
وكان المشروع التمهيدي يورد تعريفاً للعقد لا يميز فيه بينه وبين الاتفاق . فنصت المادة 122 من هذا المشروع على أن " العقد اتفاق ما بين شخصين أو أكثر على إنشاء رابطة قانونية أو تعديلها أو إنهائها " . وهذا هو تعريف المشروع الفرنسي الإيطالي في المادة الأولى منه . وقد قصد من إيراد هذا التعريف في المشروع نفي كل تفرقة بين العقد والاتفاق وجعلهما شيئاً واحد كما صرحت بذلك المذكرة الإيضاحية ( [92] ) . وإذا كان هذا التعريف قد حذف في المشروع النهائي فإن هذا الحذف لا يعني عدولا عن عدم التمييز بين الاتفاق والعقد ، بل كان الحذف مجاراة لسياسة تشريعية هي تجنب الإكثار من التعريفات الفقهية ( [93] ) .
لذلك نرى أن يعرف العقد بأنه توافق إرادتين على إحداث اثر قانونين سواء كان هذا لااثر هو إنشاء التزام أو نقله أو تعديله أو إنهاؤه .
38 – وجوب الاتفاق على إحداث اثر قانونين : والمهم في العقد أن يكون هناك اتفاق على إحداث اثر قانوني . فإذا لم يكن المراد إحداث هذا الأثر فليس هناك عقد بالمعنى القانونين المقصود من هذه الكلمة . ويتبين ذلك من الظروف والملابسات .
فقد يدعو شخص آخر إلى وليمة ، في نطاق المجاملات الاجتماعية ، فيقبل المدعو ، ولا يقصد الطرفان من هذا الاتفاق أن ينشئا التزاماً قانونياً فيما بينهما . فإذا تخلف المدعو أو عدل الداعي لم تترتب على ذلك مسئولية في جانب من اخل منهما بوعده . ولكن قد يكون تقديم الطعام التزاماً قانونيناً إذا قصد المتعاقدان ذلك . ويتبين قصدهما من الظروف . فإذا اتفقت شركة مع مستخدم عندها على أن تقدم له الغذاء أثناء عمله في جهة نائية ، أو تعهد صاحب الفندق أن يقدم الطعام للنزيل ، فهذا التعهد ذو اثر قانوني وهو ملزم للمتعهد .
وقد يتبرع صديق لصديقه بتقديم خدمة مجانية دون أن يقصد الالتزام قانوناً بتقديم هذه الخدمة . فإذا وعد مزارع جاره أن يقدم له المعونة دون مقابل في حصاد زرعه ، أو تقدم طبيب لمعالجة صديق له دون اجر ، أو عرض شخص على صديقه أن يستصحبه في سيارته ، فلا تنطوي هذه الاتفاقات على معنى الإلزام . وإنما يكون الإلزام إذا قصد إليه الطرفان . فالطبيب الذي تعهد أن يعالج فقيراً دون اجر يلتزم قانوناً بذلك .
وقد تقوم اتفاقات بين أعضاء الأسرة لا يقصد بها عقد التزامات قانونية . فالولد الذي يعمل مع أبيه في صناعته ، والزوجة التي تعين زوجها في تجارته ، والأب الذي يعد ابنه بجائزة إذا نجح في الامتحان ، لا يقصد أي منهم أن يرتبط ارتباطاً ملزماً . ولكن إذا قام هذا القصد ترتب على قيامه الارتباط القانوني . فقد يعمل الولد أجيراً عند أبيه ، وقد تشارك الزوجة زوجها في تجارته ، وقد يعد شخص بجائزة من يقدم خير تصميم لمبنى يريد إقامته فيفوز ابنه المهندس بالجائزة .
39 – تحديد منطقة العقد : وليس كل اتفاق يراد به إحداث اثر قانونين يكون عقداً . بل يجب أن يكون هذا الاتفاق واقعاً في نطاق القانون الخاص وفي دائرة المعاملات المالية .
فالمعاهدة اتفاق بين دولة ودولة ، والنيابة اتفاق بين النائب وناخبيه ، وتولية الوظيفة العامة اتفاق بين الحكومة والموظف . ولكن هذه الاتفاقات ليست عقوداً إذ هي تقع في نطاق القانون العام : الدولي والدستوري والإداري .
والزواج اتفاق بين الزوجين ، والتبني في الشرائع التي تجيزه اتفاق بين الوالد المتبني والولد المتبني . ولكن يجر إلا تدعي هذه الاتفاقات عقوداً وإن وقعت في نطاق القانون الخاص ، لأنها تخرج عن دائرة المعاملات المالية .
فإذا وقع اتفاق في نطاق القانون الخاص وفي دائرة المعاملات المالية فهو قعد . تستوي في ذلك العقود التي يقف فيها المتعاقدان على قدم المساواة وتلك التي يذعن فهيا أحد المتعاقدين للأخر ، والعقود التي توفق ما بين مصالح متعارضة وتلك التي تجمع ما بين مصالح متوافقة ، والعقود الذاتية ( actes subjectifs ) وتلك التي تنظم أوضاعاً مستقرة ( actes - regle, actes - condition ) وكان بعض فقهاء القانون العام يريدون إخراج عقود الإذعان ( contrats d'adhesion ) والعقود التي تجمع ما بين المصالح المتوافقة كعقد الشركة ، والعقود التي تنظم اوضاعاً مستقرة كالعقود الجماعية ( contrats collectives ) ، من منطقة العقد . ولكن هذا الرأي لم يسد في القانون المدني .
40 – المذهبان الشخص والمادي في العقد : سبق أن أشرنا إلى مذهبين في الالتزام ، أحدهما شخصي ينظر إلى الالتزام كرابطة شخصية ، والآخر مادي ينظر إليه كقيمة مالية . هذان المذهبان نراهما أيضاً في العقد . فالمذهب الشخصي يرى العقد وليد الإرادة الباطنة أو الإرادة النفسية . والمذهب المادي يراه وليد الإرادة الظاهرة أو الإرادة المادية .
والقوانين اللاتينية ، هنا أيضاً ، هي التي تذهب مذهباً شخصياً في العقد ، وتأخذ بنظرية الإرادة الباطنة ( volonte interne ) ، وعندها أن العبرة بإرادة المتعاقدين التي يكنانها في الضمير ، وما التعبير المادي عن هذه الإرادة إلا مجرد دليل يكشف عنها . فإن اتفق هذا التعبير مع الإرادة الحقيقية أخذ به ، وإلا فالعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني .
أما القوانين الجرمانية فتأخذ في كثير من الأحوال بالإرادة الظاهرة ( volonte externe, declaration de volonte ) ، وتقف عند التعبير عن الإرادة ، ولا شأن لها بالإرادة الحقيقية ، فالتعبير المادي عن الإرادة ليس مجرد لدليل عليها ، بل هو الإرادة ذاتها : الإرادة في ثوبها الاجتماعي حيث يمكن التعرف عليها . وهذا المظهر المادي هو المظهر الذي يجب الوقوف عنده ، ما دام العقد ينشيء روابط اجتماعية . ولا عبرة بالإرادة التي تنطوي عليها النفس ، فهي من الظواهر النفسية ، لا يعبأ القانون بها وهو ينظم الروابط الاجتماعية . وسنعود إلى هذا الموضوع ببيان أو في فيما يلي .
2 - مبدأ سلطان الإرادة
( Autonomie de la Volonte )
41 – عرض عام للمبدأ : يذهب أنصار هذا المبدأ إلى أن الإرادة لها السلطان الأكبر في تكوين العقد وفي الآثار التي تترتب عليه ، بل وفي جميع الروابط القانونية ولو كانت غير تعاقدية .
وعندهم أن النظام الاجتماعي يرتكز على الفرد . فهو الغاية ، ولخدمته يسخر المجموع . والفرد لا يستكمل شخصيته إلا بالحرية ، بل إن مظهر هذه الشخصية هي الإرادة الحرة المستقلة . وكما أن رجال الفلسفة يجعلون التفكير أية الشخصية من الناحية الفلسفية ، فإن رجال القانون من أنصار هذا المبدأ يتخذون الإرادة أية الشخصية من الناحية القانونية . ولما كان الفرد يعيش في المجتمع ، ولما كانت الغاية الأولى هي احترام حريته وإرادته ، كان من الواجب أن تكون روابطه بغيره من أفراد المجتمع أساسها الإرادة الحرة . فلا يخضع لواجبات إلا إذا كان قد ارتضاها مختاراً . وكل التزام أساسه الرضاء والاختيار يتمشي مع القانون الطبيعي ، لأن هذا القانون إنما يقوم على الحرية الشخصية ووجوب احترامها . فالإرادة الحرة هيب إذن مبدأ القانون ، والغاية التي ينتهي إليها . وما المهمة التي يضطلع بها القانون إلا تحقيقي حرية كل فرد بحيث لا تتعارض هذه الحرية مع حريات الآخرين . هذا التوازن ما بين الحريات جميعاً هو ما يجب على المشرع أن يعني به . وليس عليه بعد ذلك أن يرى ما إذا كان النشاط الفردي الحر يتفق مع ما تقتضيه مبادئ الأخلاق ، ولا عليه أن يرى إلى أي حقد يتفق صالح المجموع مع صالح الفرد ، فالفرد لا المجموع هو الذي يحميه القانون .
هذا المبدأ كان له حظ كبير من الأثر في القانون الحديث بعد انتشار المذهب الفردي على اثر تطور النظم الاقتصادية . ولكن استمرار هذه النظم في التطور ، وظهور الصناعات الكبيرة ، واختلال التوازن بين القوى الاقتصادية ، مهد للمذاهب الاشتراكية سبيل الانتشار ، فقامت هذه المذاهب معارضة للمذاهب الفردية ، وكان من ذلك أن انتكص مبدأ سلطان الإرادة ، وجعل خصومه يمعنون في نقده ، حتى قام أخيراً فريق من المعتدلين يضعون الأمور في حدودها المعقولة .
فنحن نتبع في بحثنا هذه المراحل الأربع ، فنرى كيف نشأ هذا المذهب ، وما بلغ إليه من المدى عند بلوغه ذروته ، وكيف رجع القهقري بعد ذلك ، ثم كيف وضع الأمر في نصابه المعقول . ولا تزعم بذكر هذه المراحل إنها تحققت عملا في التاريخ ، وإلا فإن سلطان الإرادة الكامل لم يتحقق في أية مرحلة منها على النحو الذي يصفه أنصار المبدأ المتطرفون . وإنما نعني أن هناك تطوراً في منحي التفكير الاجتماعي نقسمه إلى مراحل توخياً للإيضاح في بسط هذه الآراء . ونحن في ذلك لا نؤرخ وقائع اجتماعية ، بل نتتبع تطور نظريات ومذاهب .
42 – كيف نشأ مذهب سلطان الإرادة : لم يعترف القانون الروماني في أي عصر من عصوره بمذهب سلطان الإرادة كاملا . بدأت العقود فيه تكون شكلية تحوطها أوضاع معينة من حركات وإشارات وألفاظ وكتابة . أما مجرد توافق إرادتين ( nudum pactum ) فلا يكون عقداً ولا يولد التزاماً . فكان المدين يلتزم لا لسبب سوى أنه استوفى الأشكال المرسومة ، ويكون التزامه صحيحاً حتى لو كان السبب الحقيقي الذي من اجله التزم لم يوجد أو لم يتحقق أو كان غير مشروع أو كان مخالفاً للآداب . فالعقد الشكلي كان عقداً مجرداً صحته تستمد من شكله لا من موضوعه . ولكن الحضارة الرومانية ما لبثت أن تطورت وتعقدت سبل الحياة . فكان من ذلك توزيع العمل ، والحاجة إلى كثرة التبادل ، ووجوب السرعة في المعاملات . واقترن هذا كله يتقدم في التفكير القانونين أدى إلى التمييز بين الشكل والإرادة ف يالعقد وإعطاء الإرادة قسطاً من الأثر القانوني . ودعا هذا إلى اعتبار الاتفاق موجوداً بمجرد توافق الإرادتين ، والشكل ليس إلا سبباً قانونياً ( causa civilis ) للالتزام قد توجد أسباب غيره . ومن ثم ظهر إلى جانب العقود الشكلية العقود العينية والعقود الرضائية والعقود غير المسماة . وانتصر مبدأ سلطان الإرادة في دائرة العقود الرضائية . وانتصر بعد ذلك في بعض عقود أخرى عرفت بالعقود البريطورية ( pactes pretoriens ) والعقود الشرعية ( pactes legitimes ) . ولكن القانون الروماني لم يقرر في أية مرحلة من مراحله مبدأ سلطان الإرادة في العقود بوجه عاز . بل ظلت الأوضاع بعد أن تهذبت هي التي تخلق العقد بقدر اختلف قوة وضعفاً بحسب تطور القانون واتساع نطاق التبادل والمعاملات . وبقى العقد اللفظي ( contrat verbal ) إلى آخر عهود القانون الروماني هو القالب الذي يصبون فيه ما تبدو الحاجة إليه من الاتفاقات غير المعروفة حتى تصبح ملزمة .
أما في العصور الوسطى فلم تنقطع الشكلية وتستقل الإرادة بتكوين العقد إلا تدرجاً . وقد استمرت الشكلية في أوضاعها السابقة الذكر إلى نهاية القرن الثاني عشر . ثم أخذت تتحور ، وكانت متجهة إلى التناقص . وأخذت الإرادة يقوى أثرها في تكوين العقد شيئاً فشيئاً . وساعد على هذا التطور عوامل أربعة :
1 - تأثير المبادئ الدينية وقانون الكنيسة : فكان المتعاقد إذا اقسم على احترام عقده ، ولو لم يفرغه في شكل مخصوص ، عد الحنث باليمين خطيئة يعاقب عليها . بل كان مجرد عدم الوفاء بالوعد خطيئة دينية . وسهل الانتقال من فكرة العقوبة إلى فكرة الإلزام المدني حتى أصبح مجرد الاتفاق يجوز تنفيذه بدعوى ( action ex nudo pacto ) أمام المحاكم الكنيسة .
2 - إحياء القانون الروماني والتأثر به : ونحن نعلم أن القانون الروماني كان قد وصل في تطوره من حيث استقلال الإرادة إلى حد كبير بمختلف عقوده الملزمة . وتوسعوا في تفسير تلك الروح ، وفهموا خطأ أن القانون الروماني يقرر مبدأ سلطان الإرادة . فساعد ذلك على قبول هذا المبدأ . وأصبحت القاعدة في القانون الفرنسي القديم هي ما كان استثناء في القانون الروماني .
3 - العوامل الاقتصادية : بعد أن زاد النشاط التجاري وقويت حركة التعامل اقتضى الأمر إزالة ما يعوق المبادلات التجارية من الأوضاع والأشكال . فكانت المحاكم التجارية الإيطالية في القرن الرابع عشر تقضي طبقاً لقواعد العدالة . والعدالة لا تميز بين العقد الشكلي ومجرد الاتفاق من حيث الإلزام .
4 - العوامل السياسية : وكان ذلك بطريق التدرج في بسط نفوذ الدولة ، وتدخلها شيئاً فشيئاً في الروابط القانونية بين الأفراد ، والأخذ في حماية العقود التي تتم بمجرد الاتفاق . وكان من شان ذلك أن هجرت الأوضاع القديمة ، وحل محلها أشكال أخرى أقل إغراقاً في الفطرية والسذاجة .
وما جاء القرن السابع عشر حتى أصبح مبدأ سلطان الإرادة ثابتاً مقرراً . وما كان اثر الدين يضعف حتى حل محله ما انتشر من نظريات اقتصادية وفلسفية وسياسية ، وكلها مشبعة بروح الفردية ، وقد بلغت أوجها في القرن الثامن عشر ، وهي تشيد بوجود قانون طبيعي مبنى على حرية الفرد ووجوب استقلال إرادته وتسيير هذه الإرادة لكل ما في الحياة من نظم اقتصادية واجتماعية . وقد قام الفزيوقراطيون ( physiocrates ) ينادون بالحرية الاقتصادية قانوناً طبيعياً ، ويذهبون إلى أنه لو تركت الناس أحراراً في نشاطهم الاقتصادي وفتحت أبواب المنافسة بينهم ، فلا تلبث الأمور أن تستقر ، وتتحدد الأسعار من طريق المنافسة والعرض والطلب ، لا من طريق تحكمي يمليه المشرع . ومعنى هذا أن الإرادة وحدها هي التي يجب أن تسيطر في الميدان الاقتصادي ، وأن العقود لا تخضع في تكوينها وفي الآثار التي تترتب عليها إلا الإرادة المتعاقدين . وصحب هذه النظريات الاقتصادية نظريات فلسفية وسياسية حمل لواءها روسو ( rousseau ) في كتابه المعروف بالعقد الاجتماعي ( contrat social ) ، فكانت حرية الفرد واستقلال إرادته هي المحور الذي يدور عليه تفكير ذلك العصر . وقد تلقت الثورة الفرنسية هذه النظريات وقامت عليها ، وسلمتها إلى المشرعين في أوائل القرن التاسع عشر ، فوضع قانون نابليون على أساس تقديس حرية الفرد والإمعان في احترام إرادته .
43 – مدى ما وصل إليه مبدأ سلطان الإرادة : استقر هذا المبدأ وصار دعامة تبنى عليها النظريات القانونية . وهو بعد أن تمشي فيه المنطق القانونين أصبح يشتمل على اصلين : ( أولاً ) كل الالتزامات ، بل كل النظم القانونية ، ترجع في مصدرها إلى الإرادة الحرة . ( ثانياً ) لا تقتصر الإرادة على أن تكون مصدر الالتزامات ، بل هي أيضاً المرجع الأعلى فيما يترتب على هذه الالتزامات من آثار .
فالإرادة الحرة هي التي تهيمن على جميع مصادر الالتزام . وهذه الإرادة تتجلى قوية في العقد . فالمتعاقدان لا يلتزمان إلا بارادتيهما . ولا يلتزم أحد بعقد لم يكن طرفاً فيه ، كما لا يكسب أحد حقاً من عقد لم يشترك فيه . أما نظرية الاشتراط لمصلحة الغير فتبدو ضيقة محدودة في قانون نابليون ، ولم يحصل التوسع فيها إلا في العهد الأخير . فالعقد إذن يرتكز على الإرادة ، بل هو يتمحض إرادة خالصة إذا قلنا أن إرادة المدين وحدها هي التي تلزمه . وسنرى ذلك عند الكلام في الإرادة المنفردة . وشبه العقد مبنى على إرادة مفروضة . والجريمة وشبه الجريمة مردهما إلى الإرادة الحرة . والقانون نفسه إذا رتب التزامات فإنما هو يفترض في ترتيبها أن الملتزم ارتضاها في ذمته التزاماً .
وليس سلطان الإرادة مقصوراً على توليد الالتزامات وحدها ، بل أيضاً يولد كل الحقوق الأخرى . فالملكية مبنية على حرية الإرادة ، بل هي الحرية في مظهرها الملموس المادي . وحقوق الأسرة مبنية على عقد الزواج أي على الإرادة . والميراث مبنى على وصية مفروضة . وطرق التنفيذ الإجباري ذاتها ترتكز على الإرادة الحرة ، فهي طرق وإن كانت إجبارية قد ارتضاها المدين وقت الاستدانة . بل العقوبة الجنائية لا مبرر لمشروعيتها إلا في الإرادة ، فالمجرم الذي خرج على المجتمع قد ارتضى مقدماً أن يناله الجزء . ذلك لأن القانون ما هو إلا وليد الإرادة ارتضاه الناس بأنفسهم أو بممثليهم واختاروا الخضوع لسلطانه ، والمجتمع البشري ذاته ، اليست دعامته هذا العقد الاجتماعي الذي نادى به روسو ومن قبله من الفلاسفة والمفكرين !
وكما أن منشأ الالتزامات يرجع للإرادة الحرة ، كذلك الأثر الذي يترتب على الالتزام ، فهو خاضع للإرادة أيضاً . ولهذا الأصل ناحيتان :
الناحية الأولى أن كل ما ارتضاه الملتزم ديناً في ذمته يكون صحيحاً وينتج أثره لأن التزامه إنما بنى على إرادته . فلا يصح أن نقيد من اثر العقد بدعوى أن هناك غبناً لحق أحد المتعاقدين ما دام قد ارتضى هذا الغبن . والعامل الذي يتعاقد مع رب العمل حراً مختاراً يجب عليه أن ينفذ ما التزم به ، ولا يحتج بان الشروط التي ارتضاها جائرة . وليس المهم في العقد أن يكون هناك تعادل بين الشيئين المتبادلين ، بل يكفي أن يكون التعادل بين الشخصين المتعاقدين وقد توفر كل منهما على حريته وإرادته المستقلة . والأصل في الإنسان الحرية واستقلال الإرادة ، ولا يكون الأمر غير ذلك إلا في حدود رسمها القانون ، كان يكون المتعاقد قاصراً في السن أو في العقل ، أو يكون ضحية غلط أو إكراه أو غش . أما في غير هذه الحدود فالإنسان حر مستقل في إرادته . فإذا التزم بشيء كان العدل أن يقوم بما التزم به . أما ما يقال عن التضامن الاجتماعي والتعسف في استعمال الحقوق وقواعد العدالة والنظام العام ، فهذه الأشياء لا ينبغي أن تغرق في التحديد من سلطان الإرادة . وإذا كانت قواعد العدالة والنظام العام تعني شيء ، فلا أحق بعنايتها من سلطان الإرادة والتسليم بأثره كاملا في تفسير العقد وترتيب نتائجه القانونية .
والناحية الثانية من هذا الأصل أن العقد ، وقد تم بتوافق إرادتين مستقلتين ، لا يجوز تعديله إلا بتوافق هاتين الإرادتين . فلا يستقل أحد من المتعاقدين بتعديله ، ولا يجوز للقاضي نفسه بدعوى إتباع قواعد العدالة أن يعدل فيه أو أن يضيف إليه ما ليس منه .
4 – انتكاص مبدأ سلطان الإرادة ( نقد المبدأ ) : إذا ارجعنا انتصار مبدأ سلطان الإرادة إلى عوامل اقتصادية ، وهي العوامل التي أدت إلى انتشار روح الفردية ف يالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، فهذه العوامل ذاتها بعد أن تطورت ، وقامت الصناعات الكبيرة ، وتاسست الشركات الضخمة ، ونظمت طوائف العمال على اثر اختلال التوازن بين القوات الاقتصادية ، مما أدى إلى انتشار روح الاشتراكة وقيامها في وجه المذاهب الفردية ، هذه العوامل كما قلنا كان من شانها أن تنقص من سلطان الإرادة . فيكون هذا المبدأ قد قام على أساس اقتصادي ، وانتكص متأثراً بعوامل اقتصادية .
ويتولى خصوم المبدأ تفنيد النتائج التي وصل إليها أنصاره . فيقولون إن جعل الإرادة مصدراً لكل الحقوق فيه إغراق في نواح ووهم في نواح أخرى . فالالتزامات التعاقدية ذاتها وهي مبنية على توافق إرادتين لا تستند إلى محض الإرادة الداخلية ، والمتعاقد لا يتقيد بتعاقده لأنه أراد ذلك فحسب ، بل هناك اعتبارات اجتماعية ترجع للثبات والاستقرار الواجب توافرها في المعاملات والثقة التي يولدها التعاقد في نفوس المتعاقدين ، وهي التي تستند إليها قوة الإلزام في العقود . وقد لا يتم اتحاد حقيقي بين الإرادتين عند التعاقد ، ومع ذلك فاتحادهما حكما يكفي ما دام التعاقد قد ولد ثقة مشروعة يترتب على الإخلال بها ضرر . وما العقد إلا نظام من النظم الاجتماعية يراد به تحقيق التضامن الاجتماعي وتوجيه الإرادة في هذا السبيل ، وليس الغرض منه تحقيق ما للإرادة من سلطان . وهناك نظرية ألمانية لا تحفل بالإرادة الباطنة ولا تجعل لها سلطاناً ، بل تنظر إلى الإرادة الظاهرة لأنها وحدها الشيء المحسوس كحقيقة اجتماعية ، وهي التي يؤبه لها لأنها تولد الثقة المشروعة .
أما إسناد مصادر الالتزام الأخرى إلى الإرادة فالحجة فيه أوهي . وقد تبين أن ما يسمى بشبه العقد لا يشبه العقد في شيء من حيث استناده إلى الإرادة كما أن الجريمة وشبه الجريمة إنما يتولد الالتزام فيهما من القانون ، وهو التزام يترتب على عكس مقتضى إرادة من صدر منه العمل غير المشروع ، فإن هذا لم يرد أن يلتزم بعمله ، بل أراد النقيض من ذلك ، فيلزمه القانون رغماً عن إرادته ، فأين نحن هنا من سلطان الإرادة ! ولقد كانت نظرية سلطان الإرادة عائقاً يحول دون الأخذ بمسئولية المجنون والطفل والأخذ بالمسئولية المادية وهذه مذاهب تطورت إليها الشرائع الحديثة ، وفي الأخذ بها إلى مدى معين إرضاء للعدالة ، ومطاوعة لأسباب الاستقرار ، وسير في طريق التقدم .
وإذا تركنا الالتزامات جانباً ونظرنا إلى الحقوق الأخرى التي يزعمون أن مصدرها الإرادة ، رأينا أن وهم القائلين بهذا الرأي هنا أيضاً يتجسم . فالملكية ليست إرادة المالك ، بل إن هذه الإرادة يرد عليها قيود متعددة ترجع إلى التضامن الاجتماعي ، وبخاصة ما يتصل منه بمراعاة حسن الجوار . وليس الميراث مبنياً على وصية مفترضة ، بل الواقع من الأمر أن الميراث سبق الوصية في التطور التاريخي ، وأساسه اشتراك الأسرة في ملكية الأموال . أرأيت لو كان المورث طفلا أو مجنوناً أكان يصح الزعم بان ميراثه وصية مفترضة وهو لا يستطيع أن يترك وصية صريحة ! كذلك روابط الأسرة لم ينظمها عقد الزواج ، فإن هذا العقد إنما وضع الزوجين في مركز قانونين نظمه المشرع نفسه طبقاً لصالح المجتمع وصالح الأسرة ، ولا دخل لإرادة الزوجين في ذلك . أما القول بان المجرم قد ارتضي توقيع العقوبة عليه فهو قول أقرب إلى التهكم منه إلى الحقيقية ، وإلا فأي مجرم رأى في العقوبة جزاء ارتضاه لنفسه ! إنما العقوبة ترجع في مشروعيتها إلى اعتبارات اجتماعية لا دخل لإرادة المجرم فيها .
45 – وضع الأمور في نصابها – إلى أي حد تسيطر الإرادة على العقود : تبين من نقد مبدأ سلطان الإرادة أن الخطأ الذي وقع فيه أنصار هذا المبدأ هو اتخاذه مبدأ مطلقاً في كل نواحي القانون . وهذه المبالغة كانت سبباً في مبالغة تعارضها ، وقام خصوم المبدأ هم أيضاً يقولون بنبذه مرة واحدة . وبين الامعان في إطلاق المبدأ إلى أوسع مدى والمبالغة في رده إلى أضيق الحدود ، وجد المعتدلون مجالا لوضع الأمور في نصابها الصحيح .
ونحن إذا توخينا الاعتدال وجانبنا التطرف ، تبينا أن الإرادة لا سلطان لها في دائرة القانون العام . فالروابط الاجتماعية التي تخضع لهذا القانون إنما تحددها المصلحة العامة لا إرادة الفرد . أما العقد الاجتماعي المزعوم فقد أصبح نظرية عتيقة مهجورة .
وإذا انتقلنا إلى دائرة القانون الخاص ، فما يتعلق منها بالأسرة لا مجال للإرادة فيه إلا بقدر محدود . فعقد الزواج ، وهو الأساس الذي ترتكز عليه الأسرة ، مصدره إرادة المتعاقدين ، ولكن الآثار التي تترتب على العقد ليست خاضعة للإرادة ، بل ينظمها القانون طبقاً لمصلحة الأسرة والمجتمع . وكذلك بقية روابط الأسرة لا شأن للإرادة فيها .
وما يتعلق من دائرة القانون الخاص بالأموال نرى الإرادة تنشط فيها تدرجاً . وهي في الحقوق العينية اضعف نشاطاً منها في الحقوق الشخصية . فإن الحقوق العينية ، وإن كانت الإرادة مصدراً لكثير منها ، حقوق محصورة لا تستطيع الإرادة أن تخلق شيئاً جديداً فيها . ثم إن آثار هذه الحقوق لا تخضع لإرادة الأفراد إلا نادراً ، بل إن القانون هو الذي يتولى في الغالب تحديد مداها .
ولكن الإرادة في الحقوق الشخصية لها مجال واسع ، فهي مصدر لكثير من هذه الحقوق ، وهي التي ترتب آثارها . ومع ذلك لا نريد أن نبالغ في أهمية الإرادة حتى في الحقوق الشخصية . فإنها إذا كانت من أهم المصادر لهذه الحقوق نف ذلك لا يمنع من أن يوجد بجانبها مصادر أخرى قد تعدلها في الأهمية كالعمل غير المشروع ، أو تقرب منها كالإثراء بلا سبب .
وإذا خلصنا إلى الالتزامات التعاقدية وجدنا الإرادة تجول في هذا الميدان أوسع ما تكون خطي وابعد ما تكون مدى . ولكن حتى في هذا الميدان ، إذا نظرنا إلى الإرادة من حيث إنها ترتب أحكام الالتزامات التعاقدية ، وجدنا إنها محدودة في ذلك بقيود النظام العام والآداب . بل إن إرادة الفرد – حتى في داخل هذه القيود – يضعف أثرها في بعض العقود التي تضع نظاماً ثابتة للطوائف والجماعات ، كما في الجمعيات والشركات والنقابات ، فهذه تنظيمها الجماعة التي تنتمي إليها ولا تعتد في تنظيمها بإرادة كل فرد من أفرادها . وهناك عقود الجماعة ( contrats collectfs ) ، كعقد العمل الجامع ( contrat collecolf du travail ) ، وصلح أغلبية الدائنين مع المفلس ، نرى فيها الأقلية تخضع لإرادة الأغلبية . كذلك توجد قيود على حرية الإرادة ترجع لاختلال التوازن بين القوى الاقتصادية وأنصار القانون للجانب الضعيف ، كما نرى في تشريع العمال وفي عقود الإذعان وفي نظرية الاستغلال وهي نظرية تتوسع تدرجاً في القوانين الحديثة حتى تتناول كل العقود ثم إن الإرادة وهي في دائرة كل هذه القيود لا تزال خاضعة أيضاً لشكلية تتطلبها بعض العقود حماية للمتعاقد الذي يقدم على أمر خطير كما في الهبة والرهن الرسمي . وهي تخضع كذلك لقواعد الشهر حماية للغير حسن النية . وتخضع أخيراً لقواعد الإثبات وهي قواعد من شانها أن تقيد سلطان الإرادة من الناحية العملية .
هذه هي الحدود التي يرسمها القانون في الوقت الحاضر ميداناً لسلطان الإرادة . فهو يعترف بهذا السلطان ، ولكن يحصره في دائرة معقولة ، تتوازن فيها الإرادة مع العدالة والصالح العام .
3 - تقسيم العقود
46 – تقسيمات مختلفة : ذكر القانون المدني الفرنسي بعض تقسيمات للعقود في غير استقصاء . والتقسيم أقرب إلى عمل الفقيه منه إلى عمل المشرع . ؟؟ لم يعرض له القانون المدني المصري ، لا القديم ولا الجديد ( [94] ) . كذلك لم تعرض له التقنينات الحديثة كالتقنين الألماني والتقنين السويسري .
ويمكن تقسيم العقد عدة تقسيمات إذا نظر إليه من وجهات مختلفة .
فالعقد من حيث التكوين إما أن يكون عقداً رضائياً ( contrat cousensuel ) أو عتداً شكلياً ( ontrat solomel ) أو عقداً عينياً ( contrat reel ) .
وهو من حيث الموضوع إما أن يكون عقداً مسمي ( contrat nomme ) أو عقداً غير مسمي ( contrat innomme ) . وإما أن يكون عقداً بسيطاً ( contrat simple ) أو عقداً مختلطاً ( contrat mixte ) .
وهو من حيث الأثر إما أن يكون عقداً ملزماً للجانبين ( contrat synal lamgatique , bilateral ) أو عقداً ملزماً لجانب واحد ( contrat unilateral ) . وإما أن يكون عقد معاوضة ( contrat a titre onereux ) أو عقد تبرع ( contrat a titre gratuity ) .
وهو من حيث الطبيعة إما أن يكون عقداً محدداً ( contrat commutative ) أو عقداً احتمالياً ( contrat aleatoire ) . وإما أن يكون عقداً فورياً ( contrat instantane ) أو عقداً زمنياً ( contrat successif ) .
1- العقد الرضائي والعقد الشكلي والعقد العيني
47 - العقد الرضائي : هو ما يكفي في انعقاده تراضي المتعاقدين ، أي اقتران الإيجاب بالقبول . فالتراضي وحده هو الذي يكون العقد . وأكثر العقود في القانون الحديث رضائية ، كالبيع والإيجار . وقد تقدم أن القانون لم يبلغ هذه القاعدة طفرة ، بل تطور إليها تدرجاً .
ولا يمنع العقد من أن يكون رضائياً أن يشترط في إثباته شكل مخصوص . إذ يجب التمييز بين وجود العقد وطريقة إثباته . فما دام يكفي في وجود العقد رضاء المتعاقدين فالعقد رضائي ، حتى لو اشترط القانون لإثباته كتابة أو نحوها . والفائدة العملية من هذا التمييز أن الكتابة إذا كانت لازمة لإثبات ( ad probatinum ) فإن العقد غير المكتوب يجوز إثباته بالإقرار أو اليمين . أما إذا كانت الكتابة ركناً شكلياً في العقد ( ad solennitatem ) فإن العقد غير المكتوب يكون غير موجود حتى مع الإقرار أو اليمين .
48 - العقد الشكلي : هو ما لا يتم بمجرد تراضي المتعاقدين ، بل يجب لتمامه فوق ذلك إتباع شكل مخصوص يعينه القانون . وأكثر ما يكون هذا . الشكل ورقة رسمية يدون فيها العقد . ولم يبق في القانون الحديث إلا عدد قليل من العقود الشكلية ، الغرض من استبقاء شكليتها هو في الغالب تنبيه المتعاقدين إلى خطر ما يقدمون عليه من تعاقد ، كما في الهبة والرهن ( [95] ) .
وقد تقدمت الإشارة إلى أن العقود بدأت تكون شكلية في القديم ، وتطورت بعد ذلك إلى أن صار أكثرها رضائياً والقليل هو الشكلي . وتختلف الشكلية الحديثة عن الشكلية القديمة في إنها أكثر مرونة . وتختلف عنها أيضاً ، وبوجه خاص ، في إنها لا تكفي وحدها في تكوين العقد . فالشكلية الحديثة ، إذا كانت لازمة ، فهي ليست بكافية ، بل لا بد أن تقترن بإرادة المتعاقدين . فالإرادة هي التي يقع عليها الشكل . أما الشكلية القديمة فكانت وحدها هي التي تكون العقد ، لذلك كان لا يجوز الطعن فيها بالغلط أو التدليس أو الإكراه أو غير ذلك من الدفوع الموضوعية . فالشكلى إذن كان هو العقد لا الإرادة ( [96] ) .
49 – العقد العيني : هو عقد لا يتم بمجرد التراضي ، بل يجب لتمام العقد فوق ذلك تسليم العين محل التعاقد . ولا يكاد يوجد في القانون المدني الجديد مثل للعقد العيني إلا هبة المنقول ، فهذه قد تكون عقداً شكلياً إذا تمت بورقة رسمية ، وقد تكون عقداً عينياً إذا تمت بالقبض ( م 488 من القانون المدني الجديد ) . ولكن ليس هناك ما يمنع من أن يتفق المتعاقدان على أن العقد لا يتم إلا إذا قام أحدهما بتنفيذ شطر من التزامه . ففي عقود التأمين يشترط أحياناً إلا يتم العقد إلا بعد أن يدفع المؤمن له القسط الأول ، والشرط صحيح في هذه الحالة ، ويكون العقد عينياً ولكن العينية هنا مصدرها الاتفاق لا القانون .
أما القانون المدني القديم فكان يسير على نهج القانون الفرنسي ، ويجعل إلى جانب هبة المنقول عقوداً عينية أخرى أربعة : القرض والعارية والوديعة ورهن الحيازة . وكلا القانونين ورث عينية هذه العقود الأربعة عن القانون الروماني دون مبرر . فقد كانت هذه العينية مفهومة في القانون الروماني حيث كانت العقود في الأصل شكلية . ثم استغنى عن الشكل بالتسليم في بعض العقود ، وهذه هي العقود العينية . ولم يسلم بأن التراضي وحده كاف لانعقاد العقد إلا في عدد محصور من العقود سمي بالعقود الرضائية . أما اليوم فقد أصبح التراضي ، كقاعدة عامة ، كافياً لانعقاد العقد ، فلم يعد هناك مقتضى لإحلال التسليم محل الشكل . وقد قللت بعض التقنينات الحديثة عدد هذه العقود العينية ، فاستبقى القانون الألماني منها القرض ورهن الحيازة ، ولم يستبق قانون الالتزامات السويسري إلا رهن الحيازة وحده .
2 - العقد المسمى والعقد غير المسمى
50 – العقد المسمى : هو ما خصصه القانون باسم معين وتولى تنظيمه لشيوعه بين الناس في تعاملهم . والعقود المسماة في القانون الجديد إما أن تقع على الملكية ، وهي البيع والمقايضة والهبة والشركة والقرض والصلح ، وإما أن تقع على المنفعة وهي الإيجار وعارية الاستعمال . وإما أن تقع على العمل وهي المقاولة والتزام المرافق العامة وعقد العمل والوكالة والوديعة والحراسة . ويضاف إلى ذلك عقود الغرر وهي المقامرة والرهان والمرتب مدى الحياة وعقد التأمين ، ثم عقود التأمينات الشخصية والعينية وهي الكفالة والرهن الرسمي ورهن الحيازة .
ويلاحظ أن العقد المسمى ، في غير النصوص التفصيلية التي تولت تنظيمه ، يخضع للقواعد العامة التي يخضع لها سائر العقود .
51 – العقد غير المسمى : هو ما لم يخصه القانون باسم معين ولم يتولى تنظيمه ، فيخضع في تكوينه وفي الآثار التي تترتب عليه للقواعد العامة التي تقررت لجميع العقود ، شأنه في ذلك شأن العقد المسمى . ولكنه لما كان أقل شيوعاً لم يفصل المشرع أحكامه اكتفاء بتطبيق القواعد العامة ( [97] ) .
وتتفاوت التقنينات فيما تسميه من العقود وتفصل أحكامه . وقد كان القانون المدني القديم لا ينظم عقد التزام المراق العامة ولا المقامرة والرهان ولا عقد التأمين ، ويقتضب اقتضابا مخلا تنظيم عقود المقاولة والعمل والحراسة . فعالج القانون الجديد هذه الأمور . ولا زالت هناك عقود غير مسماة صالحة لأن تنظيم فتصبح عقوداً مسماة كعقد النشر وعقد التوريد وعقد الأشغال العامة وعقد النزول في الفندق .
ومن الأمثلة على العقود غير المسماة أن يتفق شخص مع آخر على أن يثبت له ميراثاً يستحقه وأن ينفق على هذا العمل في نظير جزء من هذا الميراث يأخذه إذا وفق في إثبات الإرث ( contrat de revelation de suecession ) ، وأن يتفق شخص مع آخر على أن يبيع الأول شيئاً مملوكاً للثاني وأن يعجل له مبلغاً معيناً وما زاد من الثمن على هذا المبلغ يحتفظ به لنفسه . والعقد بين مدير المسرح والممثلين ، وبينه وبين الظارة ، واتفاق إدارة إحدى المستشفيات مع مدرسة طبية على أن يضع المستشفى تحت تصرف المدرسة بعضاً من الأسرة تستخدم للتعليم الطبي ، واتفاق التاجر مع صاحب مصرف على أن يقدم له معلومات عن الحالة المالية لتاجر آخر ، والعقد بين المصور أو الرسام مع الشخص الذي يصوره أو يرسمه ، كل هذه عقود غير مسماة ( [98] ) .
2- العقد البسيط والعقد المختلط
52 – العقد البسيط : هو ما اقتصر على عقد واحد ولم يكن مزيجاً من عقود متعددة . وقد يكون العقد البسيط عقداً مسمى كالبيع والإيجار ، كما يكون عقدا غير مسمى كالعقد الذي توضع بمقتضاه أسرة تحت تصرف مدرسة طبية .
53 – العقد المختلط : هو ما كان مزيجا من عقود متعددة اختلطت جميعاً فأصبحت عقداً واحدا . مثل ذلك العقد بين صاحب الفندق والنازل في ( contrat d'hotellerie ) ، فهو مزيج من عقد إيجار بالنسبة إلى المسكن ، وبيع بالنسبة إلى المأكل ، وعمل بالنسبة إلى الخدمة ، ووديعة بالنسبة إلى الأمتعة .
وليس هناك من أهمية كبيرة في امتزاج عدة عقود في عقد مختلط . فإن هذا العقد إنما تطبق عليه أحكام العقود المختلفة التي يشتمل عليها . على أن قد يكون من المفيد في بعض الأحيان أن يؤخذ العقد المختلط كوحدة قائمة بذاتها ، وذلك إذا تنافرت الأحكام التي تطبق على كل عقد من العقود التي يتكون منها . ففي هذه الحالة يجب تغليب أحد هذه العقود باعتباره العنصر الأساسي ، كما في عقد التليفون ، وهو يدور بين عقد العمل والإيجار ، فغلب القضاء المصري فيه عنصر عقد العمل ورفض دعوى استرداد الحيازة التي رفعها مشترك قطعت عنه المواصلة التليفونية ( [99] ) ، وكما في العقد الموصوف بأنه إيجار ابتداء وبيع انتهاء ( location – vente ) ، وهو يدور بين البيع والإيجار ، فحسم القانون الجديد ( م 430 ) النزاع في شأنه وجعله بيعاً .
4 - العقد الملزم للجانبين والعقد الملزم لجانب واحد
54 – العقد الملزم للجانبين : هو العقد الذي ينشيء التزامات متقابلة في ذمة كل من المتعاقدين ، كالبيع يلتزم البائع فيه بنقل ملكية المبيع في مقابل أن يلتزم المشتري بدفع الثمن . والظاهرة الجوهرية في العقد الملزم للجانبين هو هذا التقابل القائم ما بين التزامات أحد الطرفين والتزامات الطرف الآخر .
55 – العقد الملزم لجانب واحد : هو العقد الذي لا ينشيء التزامات إلا في جانب أحد المتعاقدين فيكون مدينا غير دائن ، ويكون المتعاقد الآخر دائناً غير مدين . مثل ذلك الوديعة غير المأجورة يلتزم بمقتضاها المودع عنده نحو المودع أن يتسلم الشيء المودع وأن يتولى حفظه وأن يرده عيناً ، دون أن يلتزم المودع بشيء نحو المودع عنده .
والعقد الملزم لجانب واحد ( contrat unilateral ) هو كسائر العقود لا يتم إلا بتوافق إرادتين . وهذا بخلاف العمل القانونين الصادر من جانب واحد ( acte juridique unilateral ) فإنه يتم بإرادة واحدة ويكون التعبير بلفظ " جانب واحد " ( unilateral ) إذا اقترن بالعقد يعتبر فيه اثر العقد لا تكوينه ، وإذا اقترن بالعمل القانونين يلحظ فيه تكوين العمل القانوني لا أثره .
56 – أهمية هذا التقسيم : ولهذا التقسيم أهمية كبيرة ترجع إلى أن العقد الملزم للجانبين ينشيء التزامات متقابلة ، وهذا التقابل ( interdependence ) يؤدى إلى نتائج هامة لا نراها في العقد الملزم لجانب واحد حيث لا وجود للتقابل . ونذكر من هذه النتائج ما يأتي :
( 1 ) في العقد الملزم للجانبين إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ ما في ذمته من التزام كان للمتعاقد الآخر أن يفسخ العقد . وهذا ما يسمي عادة بالشرط الفاسخ الضمني ( condition resolutoire tacite , lex commissoria ) ، إذ هو شرط مفهوم في كل عقد ملزم للجانبين ( أنظر المادة 157 من القانون المدني الجديد ) أما في العقد الملزم لجانب واحد كالوديعة فلا محل لهذا الفسخ ، لأن المقصود منه هو أن يتحلل الطرف الآخر من التزامه ولا التزام عليه حتى يطلب التحلل منه ، فبقى أن يطلب تنفيذ الالتزام الثابت في ذمة الطرف الأول ( [100] ) .
( 2 ) في العقد الملزم للجانبين إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ ما في ذمته من التزام كان للمتعاقد الآخر ، بدلا من أن يطلب فسخ العقد ، أن يمتنع عن تنفيذ التزامه . فإذا طولب بالتنفيذ دفع دفع بوقفه حتى يقوم الطرف الأول بتنفيذ التزامه هو ( أنظر المادة 161 من القانون المدني الجديد ) . وهذا ما يسمونه بالدفع بعدم تنفيذ العقد ( exception non adimpleti contractus ) . أما في العقد الملزم لجانب واحد فلا محل لهذا الدفع ، لأن المتعاقد الآخر لم يتعلق في ذمته التزام حتى يطلب وقف تنفيذه .
( 3 ) في العقد الملزم للجانبين يطبق المبدأ القاضي بأن تحمل التبعة ( risqué ) يكون على المتعاقد الذي استحال تنفيذ التزامه . ويتخلص هذا المبدأ في أنه إذا استحال على أحد المتعاقدين تنفيذ التزامه لسبب خارج عن إرادته فإن الالتزام ينقضي بسبب استحالة التنفيذ ، وينقضي مع الالتزام المقابل له ، فينفسخ العقد من تلقاء نفسه ( أنظر المادة 159 من القانون المدني الجديد ) . ويكون المتعاقد الذي استحال تنفيذ التزامه قد تحمل تبعة هذه الاستحالة . أما في العقد الملزم لجانب واحد فإن الذي يتحمل التبعة هو المتعاقد الآخر لا المتعاقد الذي استحال تنفيذه التزامه . ذلك لأن هذا المتعاقد ينقضي التزامه بسبب استحالة تنفيذه ، ولا يعوض المتعاقد الآخر عن ذلك شيئاً لأنه لم يتعلق في ذمته التزام مقابل يسقط بسقوط الالتزام الأول ، فيكون هو الذي تحمل التبعة .
( 4 ) في العقد الملزم للجانبين يعتبر التزام أحد المتعاقدين سبباً ( cause ) لالتزام المتعاقد الآخر وفقاً للنظرية التقليدية في السبب ، وذلك للتقابل القائم ما بين الالتزامين . أما في العقد الملزم لجانب واحد فلا يوجد التزام مقابل يمكن اعتباره سبباً .
57 – العقد الملزم للجانبين غير التام contrat synallagma tique imparfait ) وكان القانون الروماني يعرف نوعا من العقود هو وسط بين العقد الملزم للجانبين والعقد الملزم لجانب واحد ، وكان يسميه بالعقد الملزم للجانبين غير التام . وهو عقد ملزم في الأصل لجانب واحد ، ولكن الجانب الآخر يلتزم بعد نشوء العقد بسبب غير العقد ، وذلك كالوديعة إذا التزم المودع بتعويض ما أصاب المودع عنده من الضرر بسبب الشيء المودع أو برد المصروفات الضرورية التي أنفقت في حفظ الشيء من الهلاك .
والصحيح أن العقد الملزم للجانبين غير التام إنما هو عقد ملزم لجانب واحد . وما عسى أن ينشأ من التزام بعد ذلك في جانب الدائن لم ينشأ من العقد ، بل هو التزام مصدره سبب آخر : العمل غير المشروع في حالة التعويض عن الضرر ، والإثراء بلا سبب في حالة رد المصروفات الضرورية . ولقد كان هذا التقسيم مفهوماً في القانون الروماني لأن العقود الملزمة للجانبين ودها هي التي كانت تعتبر في هذا القانون عقوداً يجب توافر حسن النية في تنفيذها ( de bonne foi ) ، أما العقود الملزمة لجانب واحد فكانت تعتبر عقوداً حرفية التنفيذ ( de droit street ) . فكان من المفيد أن توصف العقود الملزمة لجانب واحد بأنها عقود ملزمة للجانبين ولو على نحو غير تام حتى يتيسر اشتراط حسن النية في التنفيذ . ولكن هذه الفكرة الرومانية لم تعد قائمة في القانون الحديث ، وأصبحت كل العقود – سواء كانت ملزمة للجانبين أو ملزمة لجانب واحد – يجب أن يتوافر في تنفيذها حسن النية . فلم تعد هناك فائدة في أن تتسم العقود الملزمة لجانب واحد بسمة العقود الملزمة للجانبين .
5 – عقد المعاوضة وعقد التبرع
58 – عقد المعاوضة : هو العقد الذي يأخذ فيه كل من المتعاقدين مقابلا لما اعطاه . فالبيع عقد معاوضة بالنسبة إلى البائع لأنه يأخذ الثمن في مقابل إعطاء المبيع ، وبالنسبة إلى المشتري لأنه يأخذ المبيع في مقابل إعطاء الثمن . والقرض بفائدة عقد معاوضة بالنسبة إلى المقرض ، لأنه يأخذ الفوائد في مقابل إعطاء الشيء لأجل ، وبالنسبة إلى المقترض لأنه يأخذ الشيء لأجل في مقابل إعطاء الفوائد . وعقد الكفالة معاوضة بالنسبة إلى الدائن المكفول ، لأنه أخذ كفالة في مقابل إعطاء الدين ، وهو بالنسبة إلى الكفيل يكون تبرعاً إذا لم يأخذ أجراً على كفالته إذ يكون قد أعطى دون أن يأخذ . ومن ذلك يتضح أن العقد الواحد قد يكون معاوضة بالنسبة إلى أحد المتعاقدين وتبرعا " بالنسبة إلى المتعاقد الآخر ، ذلك لأن المعاوضة لا يشترط فيها أن يكون المعاوض قد أعطى المقابل للمتعاقد الآخر ، كما أن التبرع لا يشترط فيه أن يكون المتبرع قد تبرع للمتعاقد الآخر .
59 – عقد التبرع : هو العقد الذي لا يأخذ فيه المتعاقد مقابلا لما أعطاه ، ولا يعطي المتعاقد الآخر مقابلا لما أخذه . فالعارية عقد تبرع بالنسبة إلى المعير لأنه لا يأخذ شيئاً من المستعير في مقابل الشيء المعار ، وبالنسبة إلى المستعير لأنه لا يعطي شيئاً للمعير في مقابل الانتفاع بالشيء المعار . وكذلك الهبة دون عوض والقرض والوديعة والوكالة ، إذا كانت هذه العقود الثلاثة دون مقابل ، كلها عقود تبرع على النحو الذي قدمناه . ومن ذلك يتبين أن العقود الملزمة للجانبين بعضها معاوضة كالإيجار ، وبعضها تبرع كالعارية . كذلك العقود الملزمة لجانب واحد بعضها تبرع كالهبة دون عوض ، وبعضها معاوضة كالكفالة إذا أخذ الكفيل أجراً من المدين .
ومن المفيد أن نميز في عقود التبرع بين عقود التفضل والهبات . فعقود التفضل ( actes de bienfaisance ) يولي المتبرع فيها المتبرع له فائدة دون أن يخرج عن ملكية ماله . فالعارية عقد تفضل لأن المعير يتبرع بمنفعة العين دون أن يخرج عن ملكيتها . والوديعة عقد تفضل لأن المودع عنده يتبرع بعمله لا بماله . أما الهبات ( actes de liberalite ) فيخرج فيها المتبرع عن ملكية ماله ، كعقد الهبة يخرج فيها الواهب عن ملكية الموهوب . ويتبين من ذلك أن الهبات اشد خطورة من عقود التفضل ، ولذلك تحوط المشرع فاشترط في الهبة شكلا خاصاً .
60 – أهمية هذا التقسيم : والتمييز بين عقد التبرع – تفضلا كان أو هبة – وعقد المعاوضة له نتائج هامة ، نذكر منها ما يأتي :
( 1 ) تكون مسئولية المتبرع اخف عادة من مسئولية المعاوض ، فمسئولية المودع عنده أيسر من مسئولية المستأجر . كما أن مسئولية المتبرع له اشد عادة من مسئولية المعاوض ، فمسئولية المستعير اشد من مسئولية المستأجر . فهذه العقود الثلاثة – الوديعة والإيجار والعارية – تتفاوت فيها مسئولية المتعاقدين قوة وضعفاً ، وتتدرج من الضعف إلى القوة طبقاً لماذاا كان المتعاقد يتبرع كالمودع عنده ، أو يعاوض كالمستأجر ، أو يتلقى التبرع كالمستعير .
( 2 ) الغلط في الشخص يؤثر في عقود التبرع . وهو لا يؤثر في عقود المعاوضة إلا إذا كان شخص المتعاقد محل اعتبار ، كما في الشركة والمزارعة .
( 3 ) يجوز الطعن في عقود التبرع بالدعوى البوليصية دون حاجة إلى إثبات سوء نية من تلقى التبرع . فإذا وهب المدين المعسر آخر شيئاً من ماله ، جاز للدائن الطعن في هذا التصرف ولو لم يثبت سوء نية الموهوب له . أما في عقود المعاوضة كالبيع ، فلا بد من إثبات سوء النية .
6 - العقد المحدد والعقد الاحتمالي
61 – العقد المحدد : هو العقد الذي يستطيع فيه كل من المتعاقدين أن يحدد وقت تمام العقد القدر الذي أخذ والقدر الذي أعطى ، حتى لو كان القدران غير متعادلين . فبيع شيء معين بثمن معين عقد محدد ، سواء كان الثمن يعادل قيمة المبيع أو لا يعادله ما دامت قيمة المبيع ومقدار الثمن يمكن تحديدهما وقت البيع .
62 – العقد الاحتمالي : هو العقد الذي لا يستطيع فيه كل من المتعاقدين أن يحدد وقت تمام العقد القدر الذي أخذ أو القدر الذي أعطى ، ولا يتحدد ذلك إلا في المستقبل تبعاً لحدوث أمر غير محقق الحصول أو غير معروف وقت حصوله . فالبيع بثمن هو إيراد مرتب مدى الحياة عقد احتمالي ، لأن البائع وإن كان يعرف وقت البيع القدر الذي أعطي لا يستطيع أن يعرف في ذلك الوقت القدر الذي أخذه ، إذ الثمن لا يتحدد إلا بموته والموت أمر لا يعرف وقت حصوله . والمشتري أيضاً كالبائع يباشر عقداً احتمالياً ، فهو يعرف القدر الذي أخذه ، ولكنه لا يعرف القدر الذي أعطي وهو الثمن الذي لا يمكن تحديده وقت البيع لما سبق بيانه . ومن العقود الاحتمالية الشائعة عقود التأمين وعقود الرهان والمقامرة ( [101] ) .
هذا وقد يظن لأول وهلة أن تقسيم العقد إلى محدد واحتمالي لا يكون إلا في عقود المعاوضة ، وليس في عقود التبرع إلا عقود محددة . ولكن الصحيح أن عقد التبرع قد يكون احتمالياً إذا كان الموهوب له لا يستطيع أن يحدد وقت تمام العقد القدر الذي يأخذ ، كما إذا وهب شخص لآخر إيراداً مرتباً طول حياته .
63 – أهمية هذا التقسيم : والتمييز بين العقد المحدد والعقد الاحتمالي له أهمية كبيرة من الناحية الاقتصادية . أما من الناحية القانونية فأهميته محدودة . ومن أهم نتائجه أمران :
( 1 ) أساس العقود الاحتمالية هو ذلك الاحتمال ( alea ) في المكسب أو الخسارة . فلو أتضح أن هذا الاحتمال غير موجود في الواقع ، وإن حسبه المتعاقدان موجوداً ، فالعقد باطل ، كما إذا باع شخص منزلا بإيراد يعطي لشخص ثالث طول حياته ، فإذا بهذا الشخص قد مات قبل وقوع البيع .
( 2 ) لا يؤثر الغبن عادة في العقود الاحتمالية ، لأن الأساس الذي بنيت عليه هذه العقود هو كما تقدم غبن احتمالي يتحمله أحد المتعاقدين ( [102] ) .
7 - العقد الفوري والعقد الزمني ( [103] )
64 – العقد الفوري : هو العقد الذي لا يكون الزمن عنصراً جوهرياً فيه ، فيكون تنفيذه فورياً ولو تراخي التنفيذ إلى أجل أو إلى آجال متتابعة .
فبيع شيء يسلم في الحال بثمن يدفع في الحال عقد فوري ، لأن عنصر الزمن هنا معدوم ، إذ أن كلا من المبيع والثمن يسلم في الحال ، فهو عقد فوري التنفيذ .
وقد يكون البيع بثمن مؤجل ويبقي مع ذلك فورياً . ذلك لأن الزمن إذا كان قد تدخل هنا فهو عنصر عرضي لا دخل له في تحديد الثمن ( [104] ) . فالبيع بثمن مؤجل عندما يحين وقت تنفيذه ، يكون فوري التنفيذ . وليس الأجل إلا موعداً يتحدد به وقت التنفيذ ، ولا يتحدد به مقدار الثمن .
وقد يكون البيع بثمن مقسط ويبقى مع ذلك فورياً . إذ الثمن الذي يدفع أقساطاً ليس إلا ثمناً مؤجلا إلى آجال متعددة . وليست هذه الآجال إلا عناصر عرضية في العقد لا يتحدد بها مقدار الثمن . ويكون العقد في هذه الحالة فوري التنفيذ ، جزءاً جزءاً ، عندما يحين وقت التنفيذ لكل جزء منه .
وقد يكون الأجل الذي يضرب للتنفيذ إجبارياً ، لا اختيارياً كما في الأمثلة المتقدمة ، ويبقي مع ذلك عنصراً عرضياً لا يتحدد به المحل المعقود عليه ، فيكون العقد في هذه الحالة فوري التنفيذ . مثل ذلك النجار يتفق مع العميل على أن يصنع له دولاباً . فصنع الدولاب لا بد أن يستغرق زمناً ، ولكن هذا الزمن – وهو أجل إجباري – لا يتحدد به محل العقد . والأجل الإجباري هنا كالأجل الاختياري هناك ، كلاهما عنصر عرضي لا يقاس به المعقود عليه . ويكون عقد الاستصناع في المثل الذي قدمناه فوري التنفيذ عند ما يحين وقت تنفيذه ، أي بعد أن يتم صنع الدولاب .
ويتبين مما تقدم أن العقد الفوري يتحدد محله مستقلا عن الزمن ، وأن الزمن إذا تدخل فيه فإنما يتدخل عنصراً عرضياً لا عنصراً جوهرياً ، لتحديد وقت التنفيذ لا لتحديد المحل المعقود عليه . ذلك أن محل العقد الفوري – أرضا كان أو بناء أو عرضواً أو نقداً أو غير ذلك – إنما يمتد في المكان لا في الزمان ، أي أن له جرماً إذا هو قيس فإنما يقاس يجيز مكاني لا بمقياس زماني ، أو هو – كما يقول الدكتور عبد الحي حجازي في رسالته المعروفة – حقيقة مكانية لا حقيقة زمانية . وإنما سمي بالعقد الفوري ، ولم يسم بالعقد المكاني ، لأن الظاهرة الجوهرية فيه ليست هي في إثبات المكان له ، بل في نفي الزمان عنه .
65 – العقد الزمني : هو العقد الذي يكون الزمن عنصراً جوهرياً فيه ، بحيث يكون هو المقياس الذي يقدر به محل العقد . ذلك أن هناك أشياء لا يمكن تصورها إلا مقترنة بالزمن . فالمنعة لا يمكن تقديرها إلا بمدة معينة . والعمل إذا نظر إليه في نتيجته ، أي إلى الشيء الذي ينتجه العمل ، كان حقيقية مكانية ، ولكن إذا نظر إليه في ذاته فلا يمكن تصوره إلا حقيقة زمانية ، مقترناً بمدة معينة .
ومن ثم فعقد الإيجار عقد زمني لأنه يقع على المنفعة ، والزمن عنصر جوهري فيه لأنه هو الذي يحدد مقدار المنعفة المعقود عليها . وعقد العمل لمدة معينة ، عقد زمني ، لأن الخدمات التي يؤديها العامل لا تقاس إلا بالزمن ، فالزمن عنصر جوهري فيه إذ هو الذي يحدد مقدار المحل المعقود عليه .
وهناك من الأشياء ما يتحدد في المكان فيكون حقيقة مكانية ، ولكن المتعاقدين يتفقان على تكرار أدائه مدة من الزمن لسد حاجة تتكرر . فهو في ذاته يقاس بالمكان ، ولكن المتعاقدين اتفقا على أن يقاس بالزمان . مثل ذلك عقد التوريد ، يلتزم به أحد المتعاقدين أن يورد للمتعاقد الآخر شيئاً معيناً يتكرر مدة من الزمن . فمحل ا لعقد هنا – وهو الشيء المعين الذي اتفق على توريده – يقاس في ذاته بالمكان ، ولكن المتعاقدين اتفقا على أن يتكرر مرات مدة من الزمن ، فجعلاه يقاس ، كالمنفعة والعمل ، بالزمان لا بالمكان . فالمعقود عليه في كل من عقد الإيجار وعقد التوريد هو الزمن ، أو هو شيء يقاس بالزمن . ولكن المعقود عليه في عقد الإيجار يقاس بالزمن طبيعة ، أما المعقود عليه في عقد التوريد فيقاس بالزمن اتفاقاً .
ومن ثم ينقسم العقد الزمني إلى عقد ذي تنفيذ مستمر ( contrat a exe cution continue ) كعقد الإيجار وعقد العمل لمدة معينة ، وعقد ذي تنفيذ دوري ( contrat a execution periodique ) كعقد التوريد وعقد الإيراد المؤبد أو الإيراد مدى الحياة .
66 – أهمية هذا التقسيم : ترجع خصائص العقد الزمني إلى فكرة جوهرية هي أن المعقود عليه في هو الزمن . والزمن إذا مضي لا يعود . فإذا نفذ العقد الزمني حيناً من الزمن ، وأريد لسبب أو لآخر الرجوع في العقد استحال ذلك ، فإن الفترة من الزمن الذي نفذ فيها العقد قد انقضت ، وما نفذ من العقد أصبح تنفيذه نهائياً لا يمكن الرجوع فيه . أما العقد الفوري فلا يقوم على الزمن ، وإذا نفذ في جزء منه جاز الرجوع فيما تم تنفيذه . ويترتب على هذا الفرق الجوهري فيما بين العقد الزمني والعقد الفوري نتائج هامة ، نذكر منها ما يأتي :
( 1 ) الفسخ في العقد الفوري ينسحب أثره على الماضي ، لأنه يجوز الرجوع فيه . أما الفسخ في العقد الزمني فلا ينسحب أثره على الماضي لأن ما نفذ منه لا يمكن إعادته .
( 2 ) إذا وقف تنفذ العقد الفوري ، فإن هذا الوقف لا يؤثر في التزامات المتعاقدين من حيث الحكم بل تبقى هذه الالتزامات كاملة كما كانت قبل الوقف . أما العقد الزمني فوقف تنفيذه يترتب عليه النقص في كمه وزوال جزء منه ، إذ تمحي آثاره في خلال المدة التي وقف تنفيذه فيها . لأن هذه المدة لا يمكن تعويضها بعد أن فاتت بل قد يترتب على وقف العقد الفوري انتهاؤه إذا كانت مدة الوقف تزيد على المدة المحددة للعقد أو تساويها .
( 3 ) العقد الزمني تتقابل فيه الالتزامات تقابلا تاما ًن لا في الوجود فحسب بل أيضاً في التنفيذ ، فما تم منها في جانب يتم ما يقابله في الجانب الآخر . ففي عقد الإيجار الأجرة تقابل الانتفاع ، فإذا انتفع المستأجر مدة معينة التزم بدفع الأجرة بقدر المدة التي انتفع فيها . أما في العقد الفوري فإن التقابل إذا كان تاماً في الوجود فهو غير تام في التنفيذ . ففي عقد البيع بثمن مقسط إذا تقابل المبيع والثمن من حيث الوجود ، فليس من الضروري أن يتقابلا من حيث التنفيذ ، ويجوز أن يدفع المشتري أقساطاً من الثمن لا يأخذ ما يقابلها من المبيع ، ويلجأ إلى فسخ البيع فيسترد ما دفعه من الثمن .
( 4 ) الإعذار شرط لاستحقاق التعويض في العقد الفوري في أكثر الأحوال . أما في العقد الزمني فالاعذار ليس بضروري إذا تاخر الملتزم عن تنفيذ التزامه الزمني ، لأن ما تأخر فيه لا يمكن تداركه لفوات الزمن ، فلا فائدة ترتجي من الإعذار .
( 5 ) العقد الزمني لا يمكن إلا أن يكون ممتداً مع الزمن ، وبقدر ما يمتد يكون تغير الظروف محتملا ، ومن ثم كانت العقود الزمنية هي المجال الطبيعي لنظرية الظروف الطارئة . أما العقود الفورية فلا يمكن أن تنطبق عليها هذه النظرية إلا إذا كان تنفيذها مؤجلا ( [105] ) .
67 – ترتيب البحث في العقد : الآن وقد فرغنا من التمهيد للكلام في العقد ، ننتقل إلى البحث فيه . ونرتب البحث على النحو الذي سار عليه القانون المدني الجديد ، فنتناول في فصول ثلاثة :
1 - أركان العقد .
2 - آثار العقد .
3 - انحلال العقد .
الفصل الأول
أركان العقد
68 – مصر أركان العقد : العقد يقوم على الإرادة ، أي تراضي المتعاقدين . والإرادة يجب أن تتجه إلى غاية مشروعة ، وهذا هو السبب . فالعقد إذن ركنان : التراضي والسبب ( [106] ) .
وأما المحل فهو ركن في الإلتزام لا في العقد . ولكن أهميته لا تظهر إلا في الالتزام الذي ينشأ من العقد .فإن محل الالتزام غير التعاقدي يتولى القانون تعيينهن فليس ثمة احتمال أن يكون غير مستوف للشروط . أما محل الالتزام التعاقدي فإن المتعاقدين هما اللذان يقومان بتعيينه ، فوجب أن يراعيا استيفاءه للشروط التي يتطلبها القانون . ومن ثم فالمحل يذكر عادة مقترنًا بالعقد .
فنحن نبحث القواعد التي يقوم عليها التراضي والمحل والسبب ، وكذلك الجزء الذي يترتب على هذه القواعد وهو البطلان . ويتناول بحثنا إذن المسائل الآتية :
1 - التراضي .
2 - المحل .
3 - السبب .
4 - البطلان .
الفرع الأول
التراضي
69 – وجود التراضي وصحة : يوجد التراضي بوجود إرادتين متوافقتين . وإذا كان وجود هاتين الإرادتين يكفي لوجود العقد ، فإنه لا يكفي لصحته ، بل يجب حتى يكون العقد صحيحًا أن تكون الإرادتان المتوافقتان صحيحتين فنبحث إذن :
1 - وجود التراضي .
2 - صحة التراضي .
المبحث الأول
وجود التراضي
70 - التراضي هو تطابق إرادتين : نصت المادة 89 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" يتم العقد بمجرد أن يتبادل طرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين؛ مع مراعاة ما يقرره القانون فوق ذلك من أوضاع معينة لانعقاد العقد ( [107] ) " .
فالتراضي إذن هو تطابق إرادتين ( [108] ) . والمقصود بالإرادة هنا الإرادة التي تتجه لإحداث أقر قانوني معين هو إنشاء الالتزام .
71 - أركان الإرادة ( أو العمل القانوني ) : والإرادة بهذا التحديد هي العمل القانوني ( acte juridique ) . والعمل القانوني كما رأينا أعم من العقد . فكان المنطق يقضي بأن يكون بحث العقد داخلا ضمن بحث العمل القانوني ، لا العكس . ولكن الناحية العملية تتغلب هنا . فالعقد هو العمل القانوني الأكثر شيوعا في التعامل . والقواعد التي تنطبق على العقد هي ذات القواعد التي تنطبق على العمل القانوني ، إذا استثنينا منها تلك التي يقتضيها توافق الإرادتين ، كما سنبين ذلك عند الكلام في الإرادة المنفردة ، أي في العمل القانوني الصادي من جانب واحد . ومن ثم فأركان العمل القانوني هي بعينهها أركان العقد : إرادة صحيحة ، أي إرادة صادرة من ذى أهلية وخالية من العيوب ، تقع على محل مستوف لشروطه ، وتتجه لتحقيق سبب مشروع .
72 - اتجاه الإرادة لأحداث أثر قانوني : ويعنينا هنا وجود الإرادة والمقصود بهذا أن تصدر الإرادة من صاحبها بنية إحداث أثر قانوني هو إنشاء الالتزام .
ويترتب على ذلك بداهة أن الإرادة لا يمكن أن تصدر من شخص معدوم الإرادة ، كالطفل غير المميز والمجنون ومن فقد الوعي لسكر أو مرض ومن انعدمت إرادته الذاتية تحت تأثير الإيحاء ونحو ذلك .
ولا عبرة بالإرادة التي لم تتجه لإحداث أثر قانوني ، كما في المجاملات الاجتماعية وفي التبرع بتقديم خدمات مجانية وفي الاتفاقات التي تقوم فيما بين أفراد الأسرة ، وقد تقدم بيان هذا .
كذلك لا يعتقد بإرادة الهازل ولا بالإرادة الصورية ولا بالإرادة المعلقة على محض المشيئة ولا بالإرادة المقترنة بتحفظ ذهني ، فإن الإرادة في جميع هذه الأحوال لم تتجه اتجاهًا جديًا لإحداث أثر قانوني ( [109] )
73 - كيف يتم التعاقد :
والتعاقد يتم بتعبير كل من المتعاقدين عن إرادته على النحو الذي قدمناه ويتوافق الإراتين . وقد يمرا لتعاقد بمرحلة تمهيدية لا يكون العقد فيها باتًا ، ويتحقق ذلك في الاتفاق الابتدائي وفي العربون .
فيخلص إذن للبحث المسائل الآتية : ( 1 ) التعبير عن الإرادة . ( 2 ) توافق الإرادتين ( 3 ) مرحلة تمهيدية في التعاقد : الاتفاق الابتدائي والعربون .
المطلب الأول
التعبير عن الإرادة
74 - تعبير الأصيل وتعبير النائب : قد يصدر التعبير عن الإرادة من الأصيل في التعاقد وقد يصدر من نائب عنه . فتتلكلم : ( أولاً ) في التعبير الصادر من الأصيل ، و ( ثانيًا ) في التعبير الصادر من النائب ، أي النيابة في التعاقد .
1 ـ التعبير الصادر من الأصيل
75 - الإرادة ومظهر التعبير التعبير عنها : يجب التمييز بين الإرادة الكامنة في النفس والمظهر الخارجي للتعبير عنها .
أما الإرادة الكامنة في النفس فهي عمل نفسي ينعقد به العزم على شيء معين ( [110] ) .
وما دامت الإرادة عملا نفسيًا فإنه لا يعلم بها من الناس إلا صاحبها ، ولا يعلم بها غيره إلا إذا عبر عنها بأحد مظاهر التعبير .
76 – التعبير الصريح والتعبير الضمني : نصت المادة 90 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" 1 – التعبير عن الإرادة يكون باللفظ وبالكتابة وبالإشارة المتداولة عرفًا ، كما يكون باتخاذ موقف لا تدع ظروف الحال شكا في دلالته على حقيقة المقصود " .
" 2 – ويجوز أن يكون التعبير عن الإرادة ضمنيا إذا لم ينص القانون أو ينفق الطرفان على أن يكون صريحًا ( [111] ) " .
ونرى من ذلك أن التعبير عن الإرادة ـ وهو مظهرها الخارجي وعنصرها المادي المحسوس ـ يكون تارة تعبيرًا صريحًا وطورًا تعبيرًا ضمنيًا .
ويكون التعبير عن الإرادة صريحا إذا كان المظهر الذي اتخذه ـ كلاما أو كتابة أو إشارة أو نحو ذلك ـ مظهرًا من موضوعًا في ذاته للكشف عن هذه الإرادة حسب المألوف بين الناس . فالتعبير الصريح قد يكون بالكلام ، وذلك بإيراد الألفاظ الدالة على المعنى الذي تنطوي عليه الإرادة . وقد يؤدي اللسان هذه الألفاظ مباشرة وقد يؤديها بالواسطة كالمخاطبة التليفونية وكإيفاد رسول لا يكون نائبًا . وقد يكون التعبير الصريح بالكتابة في أي شكل من أشكالها ، عرفية كانت أو رسمية ، في شكل سند أو كتاب أو نشرة أو إعلان ، موقعا عليها أو غير موقع ، مكتوبة باليد أو بالآلة الكاتبة أو بالآلة الطابعة أو بأية طريقة أخرى ، أصلا كانت أو صورة . وبديهي أن الإثبات بالكتابة يتطلب شروطا أشد مم يتطلبه التعبير بالكتابة . ويكون التعبير الصريح أيضًا بالإشارة المتداولة عرفا ، فإشارة الأخرس غير المبهمة تعبير صريح عن إرادته ، وأية إشارة من غير الأخرس تواضعت الناس على أن لها معنى خاصا يكون تعبيرا صريحا عن الإرادة ، كهز الرأس عموديًا دلالة على القبول وهزها أفقيا أو هز الكتف دلالة على الرفض . ويكون التعبير الصريح أخيرًا باتخاذ أي موقف آخر لا تدع ظروف الحال شكا في دلالته على حقيقة المقصود ، فعرض التاجر لبضائعه على الجمهور مع بيان أثمانها يعتبر إيجابًا صريحًا ( [112] ) .
ووقوف عربات الركوب ونحوها في الأماكن المعدة لذلك عرض صريح على الجمهور . ووضع آلة ميكانيكية لتأدية عمل معين كميزان أو آلة لبيع الحلوى أو لتوزيع طوابع البريد أو نحو ذلك ، كل هذا يعد تعبيرًا صريحًا ( [113] ) .
ويكون التعبير عن الإرادة ضمنيا إذا كان المظهر الذي اتخذه ليس في ذاته موضوعًا للكشف عن الإرادة ، ولكنه مع ذلك لا يمكن تفسيره دون أن يفترض وجود هذه الإرادة ، مثل ذلك أن يتصرف شخص في شيء ليس له ولكن عرض عليه أن يشتريه . فذلك دليل على أنه قبل الشراء إذ يتصرف تصرف المالك . وكالموعود بالبيع يرتب حقا على العين الموعود ببيعها ( 1 ) ، وكالدائن يسلم سند الدين للمدين فهذا دليل على أنه أراد انقضاء الدين ما لم يثبت عكس ذلك . وكالمستأجر يبقى في العين المؤجرة بعد نهاية الإيجار ويصدر منه عمل يفهم على أنه يراد به تجديد الإيجار ( أنظر م 599 ) ، وكالوكيل يقبل الوكالة بتنفيذها ، وكمدير ملعب يعد للتمثيل رواية عرضها مؤلف عليه ( [114] ) .
وأي مظهر من مظاهر التعبير الصريحة أو الضمنية يكفي بوجه عام في التعبير عن الإرادة ، مع مراعاة أن هناك عقودًا شكلية سبقت الإشارة إليها تستلزم أن يتخذ التعبير مظهرًا خاصًا؛ في شكل معين ، ومع مراعاة أن هناك قواعد للإثبات تستوجب الكتابة في كثير من الفروض ، ولكن الكتابة في هذه الحالة الأخيرة مظهرًا للتعبير عن الإرادة بل طريقًا لإثبات وجودها بعد أن سبق التعبير عنها . ومع ذلك فهناك أحوال يجب أن يكون التعبير عن الإرادة فيها تعبيرًا صريحًا ، ولا يكتفي بالتعبير الضمني . وهي أحوال يراد فيها عادة تنبيه العاقد قبل التعاقد إلى وجه الخطر فيما هو مقدم عليه ، فلا يبرم الأمر إلا بعد التروي وإلا بعد أن تصدر منه إرادة صريحة . وهذا نوع من الشكلية المهذبة . وهذه الأحوال إما أن ينص عليها المشرع أو يتفق عليها المتعاقدان . مثل الذي ينص عليه المشرع حجية الدفاتر والأوراق المنزلية لا تقوم إلا في إحدى حالتين ، أن يذكر المدين فيها صراحة أنه استوفى دينًا أو أن يذكر صراحة أنه قصد بما دونه في هذه الأوراق أن تقوم مقام السند ( أنظر م 398 ) ، وبائع التركة يرد للمشتري ما استولى عليه منها ما لم يكن عند البيع قد اشترط صراحة عدم الرد ( أنظر م 457 ) ، وبراءة ذمة المستأجر الأصلي نحو المؤجر إذا صدر من هذا قبول صريح بالتنازل عن الإيجار أو بالإيجار من الباطن ( أنظر م 597 ) ( [115] ) . وقد يتفق المتعاقدان على أن يتخذ مظهر التعبير عن الإرادة شكلاً خاصًا أن يكون تعبيرًا صريحًا أو يكون بالكتابة أو بكتابة رسمية ، وفي هذه الأحوال ينفذ الاتفاق فلا يوجد التعبير إلا في الشكل المتفق عليه وقد سبق بيان ذلك ( [116] ) .
وكل ما قدمنا عن التعبير الصريح والتعبير الضمني كان معمولا به قضاء دون نص في ظل القانون القديم ( [117] ) .
77 – الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة ( [118] ) ـ تمهيد : إذا لم تختلف الإرادة الداخلية عن مظهرها الخارجي ، فسيان الأخذ بالإرادة الباطنة أو بالإرادة الظاهرة ما دام الإثنتان متطابقتين . أما إذا اختلفتا ـ كما إذا أمضى شخص عقدًا مطبوعًا يتضمن شرطًا كان لا يقبله لو فطن له ، وكشخص ينزل في فندق على شروط لا يعملها ولكنها مكتوبة ومعلقة في غرفته ، وكمن يوصي على أثاث منزلي بطريق التأشير على بيان مطبوع فإذا به يؤشر على أثاث غرفة نوم وهو يريد أثاث غرفة استقبال ـ فالقاعدة المعروفة في القوانين اللاتينية أن الإرادة الباطنة هي التي يؤخذ بها . ولكنها نظرية حديثة كان للألمان الضلع الأكبر فيها ، تأخذ بالإرادة الظاهرة ، ومن هنا اختلفت المدرسة الألمانية مع المدرسة الفرنسية في العقد كما اختلفتا في الالتزام وكما اختلفتا في نظرتهما العامة للعلاقات القانونية . فالأولى تقف أمام المظاهر المادية المحسوسة فنظرتها موضوعية ( objectif ) ، والأخرى تنفيذ إلى البواطن النفسية فنظرتها ذاتية ( subjectif ) ، فإذا اقتصرنا على العقد رأينا المدرسة الفرنسية تأخذ بالإرادة الباطنة ، وتأخذ المدرسة الألمانية بالإرادة الظاهرة .
78 - نظرية الإرادة الباطنة ( VOLONTE INTERNE ) :
وهي تبحث عن الإرادة فيما تنطوي عليه النفس . أما مظهر التعبير عن الإرادة فليس إلا قرينة عليها تقبل إثبات العكس . فإذا قام دليل من جهة أخرى على أن المظهر المادي لا يتفق مع الإرادة النفسية ، فالعبرة بهذه لا بذاك . وإذا تعذر الوصول إلى معرفة الإرادة النفسية عن طريق الجزم ، فما على القاضي إلا أن يتعرفها عن طريق الافتراض . فالإرادة الحقيقة أولاً ، وإلا فالإرادة المفترضة ـ ولكنها ـ حقيقية أو مفترضة ـ هي الإرادة الباطنة لا الإرادة الظاهرة : الإرادة الحرة المختارة في معدنها الحقيقي ، غير متأثرة لا بغش ولا بإكراه ولا بغلط .
79 - نظرية الإرادة الظاهرة ( Volonte externe, declaration de volounte ) : في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بحث من بحثهم إلى أن هذه الإرادة النفسية لا يجوز أن يكون لها أثر في القانون فهي شيء كامن في النفس ، والإرادة التي تنتج أثرا هي الإرادة في مظهرها الاجتماعي ، لا في مكمنها وهي تختلج في الضمير . ولا تأخذ الإرادة مظهرًا اجتماعيًا إلا عند الإفصاح عنها . فالعبرة بهذا الإفصاح ، إذ هو الشيء المادي الذي يستطيع القانون أن يحيط به وأن يرتب أحكامه ، دون حاجة إلى تحسس ما تنطوي عليه النفس من نيات . فإن القانون ظاهرة اجتماعية لا ظاهرة نفسية ، والإرادة الباطنة لا وجود لها إلا في العالم النفسي فإذا أريد أن يكون لها وجود في العالم الاجتماعي ، وجب أن تتجسم في المظهر المادي لها ، وهو ما يستطاع إدراكه . وفي هذا استقرار للتعامل ، وطمأنينة لمن يسكن بحق إلى ما يظهر أمامه من إرادة لا يستطيع التعرف عليها إلا من طريق التعبير عنها ، فلا يحتج عليه بعد ذلك بأن من تعاقد معه كان ينطوى على نية أخرى غير التي تستخلص من الطريق الذي اختاره للتعبير عن هذه النية ( [119] ) .
ولا يشترط أصحاب نظرية الإرادة الظاهرة طريقًا خاصًا لمظهر التعبير ، فأي مظهر من هذه المظاهر يصح عندهم . وقد يكون هذا المظهر تعبيرا صريحًا أو تعبيرًا ضمنيًا ، وقد يكون مجرد السكوت في أحوال خاصة مظهرًا من مظاهر التعبير . والمهم عندهم ألا تقتصر الإرادة على عمل نفسي ، بل تبرز إلى العالم المادي في علامة ظاهرة ، هي التي نقف عندها ، ونقدر الإرادة بقدرها .
وهم لا يكتفون من المظهر الخارجي للإرادة بأن يكون مجرد دليل عليها ـ دليل يقبل إثبات العكس إذا تبين من الظروف أن التعبير الخارجي لا يتفق مع الإرادة الداخلية ـ ولو اكتفوا بذلك لاتفقوا مع أصحاب نظرية الإرادة الباطنة . ولكنهم يذهبون إلى مدى أبعد ، ويعتبرون هذا المظهر الخارجي هو العنصر الأصلي للإرادة ، فيجب الوقوف عنده . وإذا كان لا بد من اعتباره دليل على الإرادة الداخلية ، فهو دليل لا يقبل إثبات العكس . فلا يسمع لشخص يدعي أنه أضمر غير ما أمظهر ، ما دام قد أراد هذا التعبير الذي اختاره لإرادته ( [120] ) .
80 - موقف القانون الجديد : وقد سبق القول إن القانون الجديد انحرف انحرافًا بسيطًا عن تقاليد القانون القديم في أمر الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة فلم يجمد في الوقوف عند الإرادة الباطنة ، بل تزحزح قليلا نحو الإرادة الظاهرة حتى يكفل الاستقرار في التعامل ، على أنه لم يبلغ مبلغ القانون الألماني في اقترابه من الإرادة الظاهرة كما سبق أن بينا . وإذا جاز أن يقال إن القانون الألماني قد أكمل نظرية الإرادة الظاهرة بنظرية الإرادة الباطنة ، فإن القانون الجديد يكون قد أكمل نظرية الإرادة الباطنة بنظرية الإرادة الظاهرة .
81 – متى ينتج التعبير عن الإرادة أثره : والتعبير عن الإرادة ـ سواء كان صريحًا أو ضمنيًا ـ وسواء اعتد فيه بالإرادة الباطنة أو بالإرادة الظاهرة ـ لا ينتج أثره إلا في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه . وهذا ما تقضى به المادة 91 من القانون المدني الجديد ، فهي تنص على ما يأتي : " ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه ، ويعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به ما لم يقم الدليل على عكس ذلك " ( [121] ) ولا نظير لهذا النص في القانون المدني القديم .
ولإيضاح ذلك يجب التمييز بين وجود التعبير وجود فعليًا ووجوده وجودًا قانونيا . فالتعبير يكون له وجود فعلى بمجرد صدوره من صاحبه ، ولكنه ولا يكون له وجود قانوني إلا إذا وصل إلى علم من وجه إليه . العبرة في التعبير بوجوده القانوني لأن هذا الوجود وحده هو الذي تترتب عليه الآثار القانونية للتعبير . وهذا هو المعنى المقصود من إنتاج التعبير لأثره ( Efficacite ) .
فإذا كان التعبير عن الإرادة إيجابًا مثلا فإنه لا ينتج أثره إلا إذا وصل إلى علم المتعاقد الآخر الذي يوجه إليه الإيجاب . ومتى وصل إلى علمه أنتج أثره . ومعنى ذلك أن الإيجاب من وقت العلم يعتبر قائمًا لا يجوز العدول أثره . ومعنى ذلك أن الإيجاب من وقت العلم يعتبر قائمًا لا يجوز العدول عنه ، وكان قبل العلم أي قبل أن ينتج أثره يجوز فيه العدول ، ولكن هذا ليس معناه أن الإيجاب الذي أصبح من وقت العلم قائمًا لا يجوز العدول عنه ، هو إيجاب ملزم لا يجوز الرجوع فيه . فإن الإيجاب الذي لا يجوز العدول عنه ، يجوز مع ذلك الرجوع فيه ، ما لم يكن ملزمًا .و حتى يكون الإيجاب ملزمًا . وحتى يكون الإيجاب ملزما يجب توافر شروط معينة سيأتي الكلام فيها . ومن ذلك يتبين أن العدول لا يكون إلا قبل أن يستكمل الإيجاب وجوده القانوني ، أما الرجوع فلا يكون إلا بعد أن يستكمل الإيجاب هذا الوجود بشرط ألا يكون ملزمًا ، فإذا كان ملزما فلا يجوز العدول عنه ولا الرجوع فيه . و إذا كان التعبير عن الإرادة بول مثلا ، فإنه كذلك لا ينتج أثره إلا من وقت علم الموجب به . وأثره القبول أكثر وضوحًا من أثر الإيجاب ، فإن القبول إذا أنتج أثره كان هذا الأثر هو تمام العقد . ومن ذلك يتبين أن القبول إذا صدر فلا يتم به العقد إلا من وقت وصوله إلى علم الموجب ، وهذه هي نظرية العلم التي سنراها في التعاقد بين الغائبين .
وقد جاءت المادة 91 بقرينة قانونية على العلم لما قد ينطوي عليه من خفاء ، فقضت بأن وصول التعبير قرينة على العلم به ، لأن العادة جرت أن الناس إذا وصل إليهم شيء أحاطوا به علمًا وقت وصوله . على أن هذه القرينة القانونية ليست قاطعة ، فيجوز لمن وصل إليه التعبير أن يثبت أنه لم يعلم به بالرغم من وصوله ، وهو الذي يحمل عبء الإثبات ( [122] ) .
ويتبين مما تقدم أن القانون الجديد قطع في أمر كان القانون القديم فيه مترددًا ، غذ جعل التعبير عن الإرادة ينتج أثره من وقت العلم به ، وكان القضاء في القانون القديم يتردد بين وقت إعلان التعبير ووقت تصديره ووقت وصوله ووقت العلم به ، وسنرى ذلك عند الكلام في التعاقد بين الغائبين .
82 - الموت وفقر الأهلية - أثرهما في التعبير عن الإرادة : وقد قدمنا أن التعبير عن الإرادة يكون له وجود فعلى من وقت صدوره من صاحبه ، وهذا الوجود الفعلي يبقى له حتى لو مات صاحبه أو فقد أهليته . وهنا اعتبر القانون الجديد أن التعبير عن الإرادة قد انفصل عن صاحبه ما دام قد تم له الوجود الفعلي . فلا يسقط بموت من صدر منه التعبير ولا بفقده لأهليته وفي هذا ضرب من الأخذ بالإرادة الظاهرة دون الإرادة الباطنة التي تبقى كامنة في نفس صاحبها وتموت بموته وتزول بفقده لأهليته . وإذ اعتبر القانون الجديد ذلك . فقد رتب على هذا الاعتبار نتيجة هامة خالف فيها القانون القديم . فجعل التعبير يبقى بعد الموت أو فقد الأهلية ، بل ويستكمل وجود القانوني بوصوله إلى علم من وجه إليه . وهذا ما تقضى به المادة 92 من القانون الجديد ، فهي تنص على ما يأتي : " إذا مات من صدر منه التعبير عن الإرادة أو فقد أهليته قبل أن ينتج التعبير أثره ، فإن ذلك لا يمنع من ترتب هذا الأثر عند اتصال التعبير يعلم من وجه إليه ، هذا ما لم يتبين العكس من التعبير أو من طبيعة التعامل ( [123] ) " .
وقد كان القضاء المصري في ظل القانون القديم يجري على أن موت صاحب الإرادة أو فقده لأهليته قبل أن تنتج الإرادة أثرها يستتبع سقوط الإرادة ( [124] ) .
ويرجع هذا في رأينا إلى أن القانون القديم لم يكن يستطيع أن يتصور انفصال الإرادة عن صاحبها ، فهو لا يراها إلا إرادة كامنة في النفس تموت بموت صاحبها وتزول بفقده لأهليته . ولا شك في أن حكم القانون الجديد في هذه المسألة يفضل حكم القانون القديم من حيث استقرار التعامل . والمثل الآتي بوضح ذلك : شخص في مصر كتب لآخر في فرنسا يعرض عليه صفقة ، فقلها الآخر ، ولكنه مات قبل أن يصل القبول إلى علم الموجب ، ولم يكن هذا عند وصول القبول إليه يعلم بموت صاحبه . العقد في هذه الحالة يتم وفقًا للقانون الجديد ، وكان لا يتم في ظل القانون القديم . وظاهر أن القول بتمام العقد هو الذي يتفق مع استقرار التعامل ، فإن الموجب لا مأخذ عليه إذا هو اطمأن إلى تمام الصفقة ورتب شؤونه على هذا الاعتبار ( [125] ) " .
ويجب على ورثة القابل في هذه الحالة ( وعلى القيم في حالة فقد الأهلية ) وقد تم العقد أن يقوموا بتنفيذه في الحدود التي تلتزم بها الورثة بعقود مورثهم ( [126] ) . وغنى عن البيان أن العقد لا يتم في المثل المتقدم إذا تبين من الإيجاب أو من طبيعة التعامل أن شخص القابل هو محل الاعتبار . فإذا قصد الموجب ـ وبان هذا القصد في إيجابه صراحة أو ضمنًا ـ أن العقد لا يتم إلا مع القابل بالذات ، أو كان الأمر المعقود عليه تستعصى طبيعته أن يقوم بتنفيذه غير القابل شخصيًا ، كما إذا كان هذا فنانًا وعرض عليه القيام بعمل يدخل في فنه ، فإن القبول يسقط بموت القابل ( [127] ) .
كل هذا بخلاف من وجه إليه القبول ، فإنه إذا فقد أهليته أو مات قبل وصول القبول إلى علمه فإن العقد لا يتم ، لأن القبول في هذه الحالة لا يمكن أن ينتج أثره ، إذ هو لن يصل إلى علم من وجه إليه بعد أن مات ، فيبقى الإيجاب دون قبول ولا يتم العقد ( [128] ) .
2 - النيابة في العقد ( * )
( التعبير الصادر من النائب )
83 ـ تمهيد : التعبير الصادر من النائب ـ من حيث إنه تعبير عن الإرادة ـ يخضع لجميع القواعد التي أسلفناها ـ فيكون صريحًا أو ضمنيًا ـ ويرد فيه الأخذ بالإرادة الباطنة أو الإرادة الظاهرة ، وينتج أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه ، ولا يسقط بموت النائب أو فقده لأهليته ، كل ذلك على التفصيل الذي قدمناه . وهو ـ من حيث إنه تعبير يصدر من النائب لا من الأصيل ـ يقتضينا الكلام في نظرية النيابة .
والنيابة ( representation ) هي حلول إرادة النائب محل إرادة الأصيل مع انصراف الأثر القانوني لهذه الإرادة إلى شخص الأصيل كما لو كانت الإرادة قد صدرت منه هو ( [129] ) .
والنيابة – بالنسبة إلى المصدر الذي يحدد نطاقها – تكون أما نيابة قانونية إذ كان القانون هو الذي يحدد هذا النطاق ، كما في الولي والوصي والقيم والسنديك والحارس القضائي والفضولي والدائن الذي يستعمل حق المدين . واما أن تكون نيابة اتفاقية إذا كان الاتفاق هو الذي يتولى تحديد نطاقها ، ويتحقق هذا في عقد الوكالة ( [130] ) .
والفكرة الجديدة التي اهتدى إليها الفقه الحديث في موضوع النيابة هي أن من ينوب عن غيره إنما يحل إرادته هو محل إرادة من ينوب عنه . وقد هجر الرأي القديم الذي كان يذهب إلى أن النائب إنما يتقمس شخص الأصيل ، فيتكلم بلسانه ويعبر عن إرادته . وأصبح الفقه الحديث يذهب إلى أن التعبير الذي يصدر من النائب إنما هو تعبير عن إرادة النائب لا عن إرادة الأصيل ، وذلك بالقدر الذي لا يتلقى فيه النائب من الأصيل تعليمات محددة فينفذها كما تلقاها ، إذ يكون في هذه الحدود معبراً عن إرادة الأصيل لا عن إرادته هو ( [131] ) . والخصوصية في التعبير الذي يصدر من النائب مترجما عن إرادته هو أن هذا التعبير ينتج أثره لا في شخص صاحبه كما هو الحال في كل تعبير عن الإرادة ، بل في شخص غيره وهو الأصيل .
والنيابة لا تتحقق إلا بشروط معينة ، ولها آثار خاصة . وقد ينوب شخص واحد عن طرفي العقد فتحل إرادته محل ارادتهما معاً ، أو يتعاقد أصيلاً عن نفسه نائبا عن غيره ، فيبدو في الفرضين أن الشخصي يتعاقد مع نفسه ، وهذه حالة هامة من أحوال النيابة نفردها بالذكر .
فنتلكم اذن في مسائل ثلاث : ( ا ) شروط تحقق النيابة ( ب ) آثار النيابة ( ج ) تعاقد الشخص مع نفسه .
ا – شروط تحقق النيابة
84 – حصر هذه الشروط : حتى تكون هناك نيابة يجب :
( أولاً ) أن تحل إرادة النائب محل إرادة الأصيل .
( ثانياً ) وان تجري إرادة النائب في الحدود المرسومة للنيابة .
( ثالثاً ) وان يكون التعامل باسم الأصيل لا باسم النائب .
الشرط الأول – حلول إرادة النائب محل إرادة الأصيل :
85 – النائب والرسول : تقدم القول أن النائب إنما يعبر عن إرادته هو لا عن إرادة الأصيل ، فهو ليس بمجرد وسيط بين الأصيل والغير يقتصر على نقل إرادة كل منهما إلى الآخر ، وإلا كان رسولا ( messager ) . وهناك فرق بين التعاقد بنائب والتعاقد برسول . ففي الحالة الأولى يتعاقد الأصيل بنائب عنه ، ويعتبر التعاقد بين حاضرين إذا جمع النائب والمتعاقد الآخر مجلس واحد ، والعبرة بإرادة النائب فلا يصح أن يكون مجنوناً أو غير مميز ، ويعتد بالعيوب التي تلحق هذه الإرادة . أما في الحالة الثانية فالأصيل يتعاقد بنفسه ، والتعاقد يكون بين غائبين حتى لو جمع الرسول والمتعاقد الآخر مجلس واحد ، والعبرة بإرادة الأصيل إذ الرسول يعبر عن هذه الإرادة فيصح أن يكون مجنوناً أو غير مميز ما دام يقدر مادياً على نقل هذه الإرادة ويستطيع تبليغ الرسالة صحيحة ، ولا ينظر في عيوب الرضاء إلى إرادة الرسول بل إلى إرادة المرسل .
86 – العبرة بارادة النائب وبنيته : ومن ذلك نرى أن مجرد الوساطة لا تكفي لتحقيق النيابة ، بل يجب لتحقيقها أن يكون النائب معبراً عن إرادته هو لا عن إرادة من ينوب عنه . ويترتب على ذلك : ( 1 ) أن عيوب الرضاء ينظر فيها إلى إرادة النائب لا إلى إرادة الأصيل . فإذا وقع النائب في غلط أو تدليس أو إكراه كان العقد قابلا للإبطال ، ولا يعترض على هذا بأن إرادة الأصيل لم يشبها عيب من هذه العيوب . كذلك يعتد بالتدليس والإكراه الصادرين من النائب فتصبح إرادة من تعاقد معه معيبة . وإذا وقع التدليس أو الإكراه من الأصيل فإنه يؤثر كذلك في صحة العقد ، لأن التدليس والإكراه يؤثران في صحة العقد حتى لو وقعا من الغير فاولى أن يؤثرا في صحة العقد إذا وقعا من الأصيل . ( 2 ) أن حسن النية وسوءها يتلمسان عند النائب لا عند الأصيل ، وذلك في الأحوال التي يرتب فيها القانون اثرا على ذلك . فإذا كان النائب حسن النية وتعامل مع مدين معسر ، فلا يجوز لدائني هذا المدين الطعن في التصرف بالدعوى البوليصية . أما إذا كان الناب سيء النية وتواطأ مع المدين المعسر ، فللدائنين الطعن في التصرف حتى لو كان الأصيل حسن النية .
وقد ينظر في بعض الفروض إلى نية الأصيل . ويتحقق ذلك إذا كان النائب يتصرف وفقاً لتعليمات محددة صدرت له من الأصيل . فإذا وكل شخص آخر في شراء شيء معين بالذات ، وكان الموكل يعلم بما فيه من العيب والوكيل يجهل ذلك ، فلا يجوز في هذه الحالة للموكل أن يرجع على البائع بدعوى العيب . ونرى أن هذا القدر في اعتبار نية الأصيل كاف في تعيين الدور الذي يقوم به كل من الأصيل والنائب في إبرام العقد . فالأصل أن العقد ينعقد بإرادة النائب لا بإرادة الأصيل ، على أن إرادة الأصيل تكون محل اعتبار فيما يختص بعلمه وفيما يوجه فيه النائب ، إذ أن النائب في هذه الحالة يكون بمثابة الرسول ( [132] ) .
وقد أورد القانون الجديد كل هذه الأحكام ، فنص في المادة 104 على ما يأتي :
" 1 – إذا تم العقد بطريق النيابة ، كان شخص النائب لا شخص الأصيل هو محل الاعتبار عند النظر في عيوب الإرادة أو في اثر العلم ببعض الظروف الخاصة أو افتراض العلم بها حتما . "
" 2 – ومع ذلك إذا كان النائب وكيلا ويتصرف وفقاً لتعليمات معينة صدرت له من موكله ، فليس للموكل أن يتمسك بجهل النائب لظروف كان يعلمها هو أن كان من المفروض حتما أن يعملها ( [133] ) " .
ولم يكن في القانون القديم مقابل لهذا النص ، ولكن القضاء والفقه في مصر كانا يعملان دون نص بمقتضى هذه الأحكام ( [134] ) .
87 – أما الأهلية فينظر فيها للأصيل : ولا يؤخذ من أن النائب إنما يعبر عن إرادته أنه يجب أن تتوافر فيه الأهلية اللازمة للعقد الذي يباشره نيابة عن الأصيل . ذلك لأن العقد إذا كان ينعقد بإرادة النائب فإنه ينتج أثره في شخص الأصيل ، فالأصيل لا النائب هو الذي يجب أن تتوافر فيه الأهلية للعقد ( [135] ) .
وإذا كانت الأهلية تشترط في الأصيل ، فهي لا تشترط في النائب كما قدمنا . فيصح أن ينوب قاصر أو محجور عليه في بيع منزل مملوك لشخص تتوافر فيه أهلية التصرف ( [136] ) . ولكن النائب يجب أن يكون أهلاً لأن تصدر منه إرادة مستقلة لأنه يعبر عن إرادته هو ، فيجب إذن أن يكون مميزا ولو كان قاصراً . ولكن إذا كان الوكيل قاصراً جاز له أن يطلب إبطال عقد الوكالة ، فلا يرجع الموكل عليه إلا بدعوى الإثراء بلا سبب أو بدعوى الفضالة ( [137] ) .
وكل هذا ما لم تكن النيابة قانونية . فإن القانون في هذا النوع من النيابة هو الذي اضفى على النائب صفته ، وهو الذي يعين أهليته وأهلية الأصيل . فيجوز أن يكون الأصيل قاصراً – مميزاً أو غير مميز – كما يجوز أن يطلب من النائب كمال الأهلية ، ويتحقق هذا في الوصاية والقوامة .
الشرط الثاني – استعمال النائب إرادته في الحدود المرسومة للنيابة :
88 – مجاوزة النائب لحدود نيابته : وإذا كان النائب يعبر عن إرادته هو لا عن إرادة الأصيل ، فإنه يجب أن يعبر عن هذه الإرادة في حدود نيابته ، وهي الحدود التي عينها القانون أو الاتفاق . فإذا جاوز هذه الحدود فقد صفة النيابة ولا ينتج العمل الذي قام به أثره بالنسبة إلى الأصيل .
على أن العمل ينتج استثناء أثره بالنسبة إلى الأصيل إذا كان الغير الذي نعامل مع التائب حسن النية ، أي لا يعلم بمجاوزة حدود النيابة ، وكانت لديه أسباب قوية تدعوه إلى الاعتقاد بأن النائب قد تعاقد في حدود نيابته . مثل ذلك أن يكون النائب قد خولت له نيابة مستمرة ، كعملاء التأمين ومديري الشركات ووكلاء الدوائر ، وان يكون العمل الذي قام به يدخل عادة في حدود نيابته . ومثل ذلك أيضاً أن يبقى الأصيل سند النيابة في يد النائب بعد انتهاء النيابة ، فيتعامل الغير مع النائب الذي انتهت نيابته مطمئناً إلى هذا السند ( [138] ) .
وقد اشتمل القانون الجديد على نصين هما تطبيقان للمبدأ المتقدم . ( أولهما ) هو الخاص بحالة انقضاء النيابة وكان النائب ومن تعاقد معه يجهلان هذا الانقضاء . فنصت المادة 107 على أنه " إذا كان النائب ومن تعاقد معه يجهلان معا وقت العقد انقضاء النيابة ، فإن أثر العقد الذي يبرمه ، حقاً كان أو التزاماً ، يضاف إلى الأصيل أو خلفائها ( [139] ) " . مثل ذلك أن يعزل الأصيل النائب دون أن يعلم هذا بالعزل ، أو أن يموت الأصيل دون أن يعلم النائب بموته ، فيتعاقد النائب مع الغير دون أن يعلم الغير بعزل النائب أو بموت الأصيل . ( والنص الثاني ) ورد في عقد الوكالة ، إذ تنص المادة 703 على ما يأتي : " - الوكيل ملزم بتنفيذ الوكالة دون أن يجاوز حدودها المرسومة .
2 - على أن له أن يخرج عن هذه الحدود متى كان من المستحيل عليه أخطار الموكل سلفاً وكانت الظروف يغلب معها الظن بأن الموكل ما كان إلا ليوافق على هذا التصرف ، وعلى الوكيل فى هذه الحالة أن يبادر بإبلاغ الموكل خروجه عن حدود الوكالة ( [140] ) " .
89 - إقرار الأصيل لهذه المجاوزة : فإذا جاوز النائب حدود النيابة لوم ينتج العمل الذي قام به أثره في حق الأصيل في إحدى الصور المتقدمة الذكر ، ولم يكن من المستطاع اعتبار النائب فضولياً لعدم توافر شروط الفضالة ، اعتبر الأصيل أجنبياً عن هذا العمل . ورجع الغير على النائب بالتعويض إذا كان له محل .
ولكن قد يقر الأصيل العمل المجاوز لحدود النيابة ، فيصبح كأنه قد تم في حدودها ، ويتقيد به الأصيل والغير من وقت التعاقد لا من وقت الإقرار ( [141] ) .
الشرط الثالث – تعامل النائب باسم الأصيل :
90 - الاسم المستعار الو المسخر ( prete - nom ) : ولا يكفي أن يكون النائب معبراً عن إرادته في حدود النيابة ، بل يجب أيضاً أن يكون تعامله مع الغير باسم الأصيل . فلو تعامل الوكيل باسمه لما كانت هناك نيابة ، وتكون الوكالة مقصورة على علاقة الوكيل بالموكل ، وهذا هو ما يعرف بالاسم المستعار أو المسخر . ومن ثم يضاف اثر العقد إلى الوكيل دائناً أو مدينا ولا يضاف إلى الموكل . ويرجع الموكل على الوكيل بمقتضى عقد الوكالة الذي تم بينهما .
ومع ذلك يضاف اثر العقد إلى الأصيل في حالتين : ( 1 ) إذا كان من المفروض حتما أن الغير يعلم بوجود النيابة . ( 2 ) أو كان يستوي عند الغير أن يتعامل مع الأصيل أو النائب . وقد اشتملت المادة 106 من القانون المدني الجديد على هذه الأحكام . فنصت على ما يأتي : " إذا لم يعلن العاقد وقت إبرام العقد أنه يتعاقد بصفته نائباً ، فان اثر العقد لا يضاف إلى الأصيل ، دائنا أو مدينا ، إلا إذا كان من المفروض حتما أن من تعاقد مع النائب يعلم بوجود النيابة ، أو كان يستوي عنده أن يتعامل مع الأصيل أو النائب " ( [142] ) .
91 – التعاقد باسم الأصيل : فيجب إذن وقت أن يتعاقد النائب مع الغير أن يتعامل باسم الأصيل ولحسابه . وهذه النية قد يفصح عنها ، أو قد تفهم ضمناً من الظروف ، كما إذا باع مستخدم بضاعة مخدومة في محل هذا المخدوم ، وكالخادم يتعاقد عن سيده ، وكقبطان السفينة يتعاقد عن صاحبها .
والتعاقد باسم الأصيل يجب أن يتحقق أيضاً عند الغير الذي يتعاقد مع النائب . فإذا كان النائب يعمل باسم الأصيل ، ولكن الغير يتعامل معه في شخصه ، فالنيابة لا تقوم ، والعقد لا يتم ، لا مع شخص النائب لأنه لا يتعامل لنفسه ، ولا مع الأصيل لأن الغير لا يقصد التعامل معه . ولكن إذا كان النائب يعمل باسمه والغير يتعامل باسم الأصيل ، أضيف العقد إلى الأصيل في الحالتين اللتين نصت عليهما المادة 106 ، وقد تقدم ذكرهما .
ب – آثار النيابة
92 – العلاقة فيما بين النائب والغير : النائب يعمل باسم الأصيل كما قدمنا ، فاثر العقد لا يلحقه هو بل يلحق الأصيل . ويترتب على ذلك أن النائب لا يستطيع أن يطالب الغير بحق من الحقوق التي أنشأها العقد ، إلا إذا ثبتت له النيابة في تنفيذ العقد كما ثبتت له في إبرامه . كذلك لا يقوم في ذمة النائب التزام بالعقد . ولكن إذا كان النائب لا يلتزم بالعقد ، فإن هذا لا يمنع من أن يلتزم بخطأه ، حتى إذا قصر في أداء مهمته صار مسئولا عن هذا التقصير ، إما نحو الغير الذي تعاقد معه ، وإما نحو الأصيل نفسه ، وإما نحو الاثنين معاً .
93 - العلاقة فيما بين النائب والأصيل : يحدد هذه العلاقة المصدر الذي أنشأ النيابة : الوكالة أو القانون .
94 – العلاقة فيما بين الأصيل والغير : تتولد علاقة مباشرة فيما بين الأصيل والغير ، ويختفي شخص النائب من بينهما . فهما المتعاقدان ، وهما اللذان ينصرف إليهما اثر العقد . وهذه هي الخطوة التي وقف دونها القانون الروماني . وهي الخصيصة المميزة للنيابة في القوانين الحديثة ، انتهى إليها منطق النيابة في تطورها ، وقضت بها النصوص الصريحة . فقد نصت المادة 105 من القانون المدني الجديد على أنه " إذا ابرم النائب في حدود نيابته عقداً باسم الأصيل ، فإن ما ينشأ عن هذا العقد من حقوق والتزامات يضاف إلى الأصيل " . ( [143] )
فيكسب الأصيل الحقوق التي تولدت له من العقد ، ويطالب الغير بها دون وساطة النائب .
كذلك يكسب الغير الحقوق التي تولدت له من العقد ، ويرجع بها مباشرة على الأصيل .
ج – تعاقد الشخص مع نفسه ( * )
95 – نظرة عامة : متى سلمنا أنه يجوز حلول إرادة محل أخرى بطريق النيابة ، أمكن أن نسلم أن شخصا واحدا يكون نائبا عن غيره وأصيلاً عن نفسه ، أو أن يكون نائبا عن كل من المتعاقدين ، فيجمع في الحالتين طرفي العقد في شخصه . ولا يكون ثمة إلا إرادة واحدة هي إرادة ذلك الشخص وقد حلت إرادتين ( [144] ) .
وقد اختلفت الشرائع في موقفها من هذه المسالة . فمنها ما يحرم في الأصل تعاقد الشخص مع نفسه ، كالقانون الألماني والمشروع الفرنسي الايطالي والشرعية الإسلامية والشريعة الانجليزية والقانون المصري الجديد . ومنها ما يبيحه بوجه عام ، كالقانون السويسري والقانون الفرنسي والقانون المصري القديم . ولكن لا توجد شريعة أطلقت التحريم أو الإباحة . فالشرائع التي حرمت تعاقد الشخص مع نفسه أباحته في فروض معينة ، والشرائع التي أباحته حرمته في ظروف استثنتها ، وكان من شان التوسع في الاستثناء عند الفريقين ، خضوعاً لمقتضيات الحياة العملية ، أن تقربت الشرائع التي تحرم الشرائع التي تبيح .
96 – تعاقد الشخص مع نفسه في القانون القديم : لم يرد في القانون القديم نص عام يحرم تعاقد الشخص مع نفسه أو يبيحه . فنزع الفقه إلى الاجتهاد ، وميز بين أن يكون الشخص الذي يتعاقد مع نفسه ينوب عن أحد طرفي العقد ويتقدم أصيلاً عن نفسه وان يكون نائباً عن الطرفين . ذلك أنه جعل العبرة في منع هذا التعاقد أو أباحته وجود خطر يهدد مصلحة الأصيل أو انعدام هذا الخطر ، فيمنع التعاقد عند تحقق الخطر ويباح عند انتفائه . ومن هنا جاء التمييز بين شخص يتعاقد مع نفسه لنفسه وآخر يتعاقد مع نفسه لغيره . فالخطر متحقق في الحالة الأولى بالنسبة إلى بعض العقود ذات الأهمية كالبيع ونحوه فتمتنع مباشرة هذه العقود ، أما بالنسبة إلى العقود الأخرى فتجوز مباشرتها . ولا يتحقق الخطر في الحالة الثانية إلا في بعض عقود استثنائية كالصلح ، فيباح تعاقد الشخص مع نفسه إلا في هذه الحالات الاستثنائية ( [145] ) .
97 – تعاقد الشخص مع نفسه في القانون الجديد :
أما القانون الجديد فقد أورد نصا عاما يحرم تعاقد الشخص مع نفسه إلا في بعض الحالات . إذ قضت المادة 108 بأنه " لا يجوز لشخص أن يتعاقد مع نفسه باسم من ينوب عنه ، سواء أكان التعاقد لحسابه هو أم لحساب شخص أخر دون ترخيص من الأصيل . على أنه يجوز للأصيل في هذه الحالة أن يجيز التعاقد . كل هذا مع مراعاة ما يخالفه ، مما يقضي به القانون أو قواعد التجارة . " ( [146] )
فالأصل إذن أن تعاقد الشخص مع نفسه لا يجوز ، سواء في ذلك تعاقد الشخص لحساب نفسه كما إذا كان موكلا في بيع مال فاشتراه لنفسه ( [147] ) ، أو تعاقد لحساب غيره وهو نائب عن طرفي العقد كما لو كان موكلا في بيع مال فاشتراه لشخص وكله في الشراء . ذلك أنه يتحكم بإرادته وحده في مصلحتين متعارضتين ، وهذا التعارض في الحالة الثانية لم يحسب حسابه أحد من الأصيلين ، وهو في الحالة الأولى تعارض مع مصلحته الشخصية ذاتها ، فلا تتيسر الحماية الواجبة لمصلحة الأصيل في كلتا الحالتين ( [148] ) .
وهناك رأي يذهب إلى أن تعاقد الشخص مع نفسه في القانون الجديد قابل للإبطال لمصلحة الأصيل ولذلك ترد عليه الإجازة ، وقد تقرر هذا بمقتضى نص خاص . وقد كنا من القائلين بهذا الرأي وقررناه في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ( [149] ) . ولكن تبينا بعد التأمل أن تحريم تعاقد الشخص مع نفسه إنما يقوم على قرينة قانونية هي أن الشخص إذا اناب عن غيره في التعاقد فهو لا يقصد التوسع في هذه الانابة إلى حبد أن يبيح للنائب أن يتعاقد مع نفسه أصيلاً أو نائبا عن شخص آخر ، لما ينجم عن هذا الموقف من تعارض في المصالح . فإذا ما تعاقد النائب مع نفسه بالرغم من ذلك كان مجاوزاً لحدود النيابة ، يكون شأنها شأن كل وكيل جاوز حدود نيابته ، فلا يكون عمله نافذاً في حق الأصيل إلا إذا اجازه . وهذا ما يقضي به صراحة نص المادة 108 .
على أن هذه القرينة القانونية قابلة لإثبات العكس ، فيجوز للأصيل أن ينقضها وان يرخص مقدما للنائب في التعاقد مع نفسه . وفي هذه الحالة يعمل النائب في حدود نيابته إذا تعاقد مع نفسه ، يكون عمله نافذا في حق الأصيل . وهذا ما صرحت به أيضاً المادة 108 سالفة الذكر .
وتنقض هذه القرينة القانونية كذلك إذا وجد نص في القانون أو قضت قواعد التجارة بجواز تعاقد الشخص مع نفسه . مثل النص القانوني ما قضى به قانون المحاكم الحسبية الجديد في المادة 20 وهي توجب الحصول على إذن المحكمة لتصرف الوصي في مال القاصر – ومن باب أولى إذا كان هذا التصرف لنفسه – وفي إيجار مال القاصر لنفسه ، وقد عدد النص طائفة معينة أخرى من التصرفات . أما بالنسبة إلى الولى فتجيز الشريعة الإسلامية أن يشتري الأب مال ولده أو يبيع ماله من ولده بمثل القيمة أو بيسير الغبن ، ويقاس على البيع غيره من التصرفات ( [150] ) . ومثل ما تقضي به قواعد التجارة تعامل الوكيل بالعمولة باسم طرفي التعاقد وفقاً لقواعد القانون التجاري ( [151] ) .
ويستخلص مما قدمناه أن الجزاء في تعاقد الشخص مع نفسه لا يلتمس في نظرية البطلان ، بل في نظرية مجاوزة النائب لحدود نيابته .
المطلب الثاني
توافق الإرادتين
98 – التمييز بين حالتين : لم يعرض القانون القديم بنص إلى هذا الموضوع الذي يعد من أدق موضوعات العقد ، بل ترك الأمر فيه للفقه والقضاء . وهذا بخلاف التقنينات الحديثة كالتقنين الألماني وتقنين الالتزامات السويسري والمشروع الفرنسي الإيطالي ، فقد ورد فيها نصوص على جانب عظيم من الأهمية ، نسج على موالها القانون الجديد ، وهي تبين كيف يصدر الإيجاب ومتى يكون ملزماً ، والى أي وقت ، وكيف يقترن به القبول ، سواء أكان المتعاقدان حاضرين مجلس العقد أم كانا غير موجودين في مجلس واحد .
ونستعرض كلا من هاتين الحالتين : ( 1 ) حالة ما إذا ضم المتعاقدين مجلس واحد ( 2 ) وحالة التعاقد فيما بين الغائبين .
1- المتعاقدان في مجلس واحد
99 – الإيجاب والقبول : تقدم أنه لا يد لتمام العقد من صدور إيجاب من أي من المتعاقدين ح يعقبه قبول مطابق له من المتعاقد الآخر . فنتكلم في مسائل ثلاث : ( أولاً ) صدور الإيجاب ) ثانياً ) اقترانه بالقبول ( ثالثاً ) حالات خاصة في القبول .
1- صدور الإيجاب :
المراحل التي يمر بها الإيجاب :
100 – المفاوضات : من يصدر منه الإيجاب لا يستقر به الرأي في العادة على أن يصدر إيجاباً باتاً إلا بعد مفاوضات ( [152] ) قد تطول . ويعتبر من قبل المفاوضات أن يعرض شخص التعاقد دون أن يحدد أركانه . كان يضع إعلاناً ينبئ أنه يعرض منزلا للبيع أو للإيجار دون أن يذكر الثمن أو الأجرة . وإذا كانت شخصية المتعاقد محل اعتبار ، فلا يعد إيجاباً بل تفاوضاً أن يعرض شخص التعاقد حتى لو بين أركان العقد ، أما إذا لم يكن هناك اعتبار لشخصية المتعاقد عد هذا إيجاباً . وكان المشروع التمهيدي يشتمل على نص ( م 134 ) يقي بأن عرض البضائع مع بيان ثمنها يعتبر إيجاباً ، أما النشر والإعلان وبيان الأسعار الجاري التعامل بها وكل بيان آخر متعلق بعروض أو طلبات موجهة للجمهور أو للأفراد فلا يعتبر عند الشك إيجاباً وإنما يكون دعوة إلى التفاوض ( [153] ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه لا يعد إيجاباً باتاً ، بل يكون من قبيل المفاوضات ، أن يعرض شخص على آخر القيام بعمل دون أن يتضمن العرض الشروط والتفاصيل اللازمة ( [154] ) .
والقانون لا يرتب في الأصل على هذه المفاوضات أثراً قانونياً ، فكل متفاوض حر في قطع المفاوضة في الوقت الذي يريد . ولا مسئولية على من عدل ، بل هو لا يكلف إثبات أنه قد عدل لسبب جدى . وليست المفاوضات إلا عملا مادياً لا يلزم أحداً . لذلك لا يعد السمسار نائباً لأنه إنما يمهد للمفاوضات وهي عمل مادي لا عمل قانوني .
على أن العدول عن المفاوضات قد يرتب مسئولية على من قطعها إذا اقترن العدول بخطأ منه . ولكن المسئولية هنا ليست مسئولية تعاقدية مبنية على العدول بل هي مسئولية تقصيرية مبنية على الخطأ . والمكلف بإثبات الخطأ هو الطرف الآخر الذي أصابه ضرر من العدول ، فإذا اثبت مثلا أن من قطع المفاوضات لم يكن جاداً عند الدخول فيها ، أو كان جادا ولكن لم يخطره بالعدول في الوقت المناسب ، وأنبنى على ذلك أن فاتته صفقة رابحة ، كان له الحق في المطالبة بتعويض .
101 – الإيجاب المعلق : وقد تنتهي المفاوضات إلى إيجاب معلق ، كأن يعرض شخص التعاقد بثمن معين مع الاحتفاظ بتعديل هذا الثمن طبقا لتغير الأسعار ، فيكون الإيجاب الذي صدر منه بالثمن الذي عينه معلقاً على شرط عدم تغير الأسعار ، أو أن يعرض شخص على الجمهور شيئاً ذا كمية محدودة يعين ثمنه فيتم العقد مع من قبل أولاً وتراعى الأسبقية في القبول حتى ينفد الشيء . ومن هذا يتبين أن الإيجاب المعلق هو إيجاب لا مفاوضة ، ولكنه إيجاب لا ينفذ إلا إذا تحقق الشرط الذي علق عليه .
102 - الإيجاب البات :
فإذا خرج الإيجاب من دور المفاوضة ومن دور التعليق أصبح إيجاباً باتاً . وتقرير ما إذا كان الإيجاب قد وصل إلى هذا الدور النهائي هو من مسائل الواقع لا من مسائل القانون . فينفصل فيه قاضي الموضوع طبقا لظروف كل قضية ولا معقب على حكمة .
القوة الملزمة للإيجاب :
103 - في القانون القديم : لم يرد في القانون القديم نص يبين ما إذا كان الموجب يبقى ملزماً بالبقاء على إيجابه المدة الكافية لاقتران القبول بالإيجاب . فكان القضاء يذهب إلى أن للموجب أن يعدل عن إيجابه ما دام الإيجاب لم يقترن بالقبول ( [155] ) . ولكنه مع ذلك ذهب إلى أن الإيجاب المقرون بأجل يلزم الموجب بالبقاء على إيجابه طول هذا الأجل ، سواء حدد الأجل صراحة أو ضمناً ، وبنى هذا لا على أساس الإرادة المنفردة بل على أساس أن هناك عقداً تم بين الموجب والموجب له يلزم الأول بألا يعدل عن إيجابه المدة المحددة ، وقد تم هذا العقد بقبول ضمني من الموجب له أو بسكوته لأن هذا الأجل في مصلحته ( [156] ) . وذهب القضاء أيضاً إلى أن عدول الموجب عن إيجابه في وقت غير مناسب قد يجعل للموجب له حقاً في التعويض على أساس المسئولية التقصيرية ( [157] ) .
أما الفقه فكان يقول أيضاً مع القضاء بأن الإيجاب يلزم مدة الأجل ، ولكنه كان يتقلب في تفسير هذه القوة الملزمة بين هذه النظريات الثلاث : نظرية الإرادة المنفردة ، ونظرية العقد الضمني ، ونظرية المسئولية التقصيرية ( [158] ) .
104 - في القانون الجديد : وأتى القانون الجديد فأقر الوضع على أساس نص تشريعي . فقضت المادة 93 بما يأتي : " إذا عين ميعاد للقبول التزم الموجب بالبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد . 2 - وقد يستخلص الميعاد من ظروف الحال أو من طبيعة المعاملة ( [159] ) " . فالإيجاب المقترن بميعاد للقبول ملزم للموجب طبقا لنص القانون الجديد . ولم نعد بعد هذا النص في حاجة إلى البحث عن الأساس الذي تقوم عليه هذه القوة الملزمة ، فالنص صريح في أن الإيجاب وحده هو الملزم ، أي أن الإلزام يقوم على الإرادة المنفردة طبقا لنص القانون ، وهذه هي إحدى الحالات التي نص القانون الجديد على أن الإرادة المنفردة تكون فيها مصدراً للالتزام .
ويكون تحديد الميعاد الذي يبقى فيه الإيجاب ملزماً صريحاً في الغالب . ولكن يقع أحياناً أن يستفاد هذا التحديد ضمنا من ظروف التعامل أو من طبيعته . فإذا عرض مالك آلة أن يبيعها تحت شرط التجربة ، فمن الميسور أن يستفاد من ذلك أنه يقصد الارتباط بإيجابه طوال المدة اللازمة للتجربة . وعند النزاع في تحديد الميعاد يترك التقدير للقاضي ( [160] ) . وإذا صدر الإيجاب لغائب دون أن يحدد ميعاد للقبول ، فإن الموجب يبقى ملتزماً إلى الوقت الذي يتسع لوصول قبل يكون قد صدر في وقت مناسب وبالطريق المعتاد ، وله أن يفرض أن إيجابه قد وصل غير متأخر ( [161] ) . فهنا أيضاً يوجد ميعاد ضمني ، إذ قضت طبيعة المعاملة ، والإيجاب قد صدر لغائب ، أن يتربص الموجب مستبقيا إيجابه إلى أن ينقضي الميعاد الذي يتسع عادة لوصول القبول إليه فيما لو كان الموجب له قد أرسل هذا القبول دون إبطاء لا تبرره الظروف ومع افتراض أن الإيجاب قد وصل في الميعاد المقدر لوصوله ( [162] ) .
ويبقى الموجب ملتزماً بالبقاء على إيجابه المدة التي حددها ، وما لم يكن إيجابه قد سقط برفض الطرف الآخر له قبل انقضاء هذه المادة كما سيأتي .
أما إذا لم يحدد الموجب أية مدة للقبول ، فإن إيجابه يبقى قائما ، ولكنه لا يكون ملزما ، بل يجوز له الرجوع فيه أي وقت شاء ما دام أنه لم يقترن بالقبول .
ومن ثم نتبين أن الإيجاب قد يكون قائما ملزما ، وقد يكون قائما غير ملزم ، فالقيام غير الإلزام ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
سقوط الإيجاب :
105 – الإيجاب القائم الملزم : فإذا كان الإيجاب قائماً ملزماً فإنه يسقط في حالتين :
( الحالة الأولى ) هي أن يرفض الموجب له الإيجاب ، فيسقط حتى لو لم تنقض المدة التي يكون فيها ملزماً ، ويتخذ رفض الإيجاب صوراً مختلفة ، فهو تارة يكون رفضاً محضاً ، وطوراً يكون قبولا يتضمن تعديلا في الإيجاب ( م 96 وسيأتي ذكرها ) ، وثالثة يكون إيجاباً جديداً يعارض الإيجاب الأول .
( الحالة الثانية ) هي أن تنقضي المدة التي يكون فيها الإيجاب ملزماً ، فيسقط ، وينتهي الإلزام والقيام في وقت واحد . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " يظل الموجب مرتباً بإيجابه في خلال الميعاد المحدد للقبول متى حدد له ميعاد ، سواء في ذلك أن يصدر الإيجاب لغائب أو لحاضر . فإذا انقضى الميعاد ولم يصل القبول ، فلا يصبح الإيجاب غير لازم فحسب بعد أن فقد ما توافر له من الإلزام ، بل هو يسقط سقوطاً تاماً . وهذا هو التفسير المعقول لنية الموجب ، فهو يقصد ألا يبقى إيجابه قائماً إلا في خلال المدة المحددة ما دام قد لجأ إلى التحديد . وقد يتصور بقاء الإيجاب قائماً بعد انقضاء الميعاد ولو أنه يصح غير لازم ، ولكن مثل هذا النظر يصعب تمشيه مع ما يغلب في حقيقة نية الموجب . ويراعى أن القول بسقوط الإيجاب عند انقضاء الميعاد يستتبع اعتبار القبول المتأخر بمثابة إيجاب جديد . وهذا هو الرأي الذي أخذ به المشروع في نص لا حق . وغنى عن البيان أن الإيجاب الملزم يتميز في كيانه عن الوعد بالتعاقد ، فالأول إرادة منفردة والثاني اتفاق إرادتين ( [163] ) " .
106 – الإيجاب القائم غير الملزم : وإذا كان الإيجاب قائماً غير ملزم – وهذا لا يكون إلا في التعاقد ما بين حاضرين في مجلس العقد – فإنه يسقط أيضاً في حالتين :
( الحالة الأولى ) إذا عدل عنه الموجب قبل انفضاض مجلس العقد .
( الحالة الثانية ) إذا انفض مجلس العقد ولو لم يعدل عنه الموجب .
وسنرى تفصيل كل ذلك عند الكلام في مجلس العقد ( أنظر م 94 ( [164] ) ) .
107 – القبول بعد سقوط الإيجاب إيجاب جديد : وإذا سقط الإيجاب على النحو الذي قررناه فيما تقدم ، فكل قبول يأتي بعد ذلك يكون متأخراً ، ولا يعتد به على اعتبار أنه قبول لإيجاب سابق . ولكن يصح كما رأينا أن يكون هذا القبول المتأخر إيجاباً جديدا موجهاً لمن صدر منه الإيجاب الأول الذي سقط ، فإذا قبله هذا تم العقد .
نرى ذلك في حالة ما إذا رفض الإيجاب بقبول يتضمن تعديلا في الإيجاب أو بإيجاب جديد يعارض الإيجاب الأول . ونرى ذلك كما قدمنا في حالة ما إذا صدر قبول بعد انقضاء المدة التي يكون فيها الإيجاب ملزماً ( [165] ) . ونرى ذلك أيضاً في حالة ما إذا صدر قبول بعد عدول الموجب عن إيجابه . ونرى ذلك أخيراً في حالة ما إذا صدر قبول بعد انفضاض مجلس العقد . ففي هذه الحالات الأربع – وهي الحالات التي رأينا أن الإيجاب يسقط فيها – إذا صدر القبول بعد سقوط الإيجاب فلا يعتد به قبولا ، ولكنه يعدل إيجاباً جديداً .
ب – اقتران الإيجاب بالقبول
108 – الميعاد الذي يصح فيه القبول – مدة قيام الإيجاب : يصح القبول ما دام الإيجاب قائما . وقد عددنا فيما تقدم الحالات التي يسقط فيها الإيجاب . ونستخلص منها أن الإيجاب المقترن بأجل للقبول صريح أو ضمني يبقى قائماً طول مدة الأجل ، سواء كان التعاقد بين حاضرين أو غائبين . فيجوز في أي وقت في خلال الأجل أن يصدر القبول فيقترن به الإيجاب .
أما إذا كان التعاقد بين حاضرين في مجلس واحد ، ولم يقترن الإيجاب بأجل للقبول ، فإن الإيجاب يبقى قائماً – ويجوز أن يقترن بالقبول – ما دام مجلس العقد لم ينفض . فإذا انفض سقط الإيجاب وامتنع ؟؟؟؟؟ .
109 – مجلس العقد : يبقى الآن أن نبين ما هو المقصود بمجلس العقد . جاء هذا التعبير في المادة 94 من القانون المدني الجديد ، وهذا نصها : " 1 - إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد ، دون أن يعين ميعاد القبول ، فان الموجب يتحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فورا ، وكذلك الحال إذا صدر الإيجاب عن شخص إلى آخر بطريق التليفون أو بأي طريق مماثل .
2 - ومع ذلك يتم العقد ، واو لم يصدر القبول فورا ، إذا لم يوجد ما يدل على أن الموجب قد عدل عن إيجابه في الفترة ما بين الإيجاب والقبول ، وكان القبول قد صدر قبل أن ينفض مجلس العقد ( [166] ) " .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " إن الإيجاب إذا وجه لشخص حاضر وجب أن يقبله من فوره . وينزل الإيجاب الصادر من شخص إلى آخر بالتليفون أو بأية وسيلة مماثلة منزلة الإيجاب الصادر إلى شخص حاضر . وقد اخذ المشروع في هذه الصورة عن المذهب الحنفي قاعدة حكيمة ، فنص على أن العقد يتم ولو لم يحصل القبول فور الوقت إذا لم يصدر قبل افتراق المتعاقدين ما يفيد عدول الموجب عن إيجابه في الفترة التي تقع بين الإيجاب والقبول . وقد رؤى من المفيد أن يأخذ المشروع في هذه الحدود بنظرية الشريعة الإسلامية في اتحاد مجلس العقد ( [167] ) " .
ويتبين من هذا أن الموجب له ، إذا اتحد مجلس العقد حقيقة أو حكماً ( كما في التعاقد بالتليفون أو بأي طريق مماثل ) ، يجب عليه كمبدأ عام أن يصدر قبوله فوراً بمجرد صدور الإيجاب ، فلا يفصل وقت ما بين الإيجاب والقبول . وهذا الوضع – وهو مأخوذ من القوانين الحديثة ( [168] ) - يقتضي أن الإيجاب لا يكاد يقوم حتى يسقط ، وفي هذا من الضيق والحرج ما لا يخفى . فلطف القانون الجديد من حدة هذا الوضع بالالتجاء إلى الشريعة الإسلامية ، وجعل الإيجاب يبقى قائماً ما دام مجلس العقد لم ينقض . ومجلس العقد هو المكان الذي يضم المتعاقدين . وليس الملحوظ فيه هو المعنى المادي للمكان ، بل الملحوظ هو الوقت الذي يبقى فيه المتعاقدان منشغلين بالتعاقد دون أن يصرفهما عن ذلك شاغل آخر . فإذا اجتمع شخصان في مجلس واحد ، واصدر احدهما إيجاباً للآخر ، فليس من الضروري أن يكون القبول فوراً ، بل يجوز أن يبقى الموجب له يتدبر الأمر شيئا من الوقت ، حتى إذا عقد العزم على القبول فعل ذلك . ويكون قبوله صحيحاً بشرطين : ( الشرط الأول ) أن يبقى كل من المتعاقدين منشغلا بالتعاقد . فإذا انصرف أي منهما إلى شيء غيره اعتبر مجلس العقد في انفض ، وسقط الإيجاب . و ( الشرط الثاني ) أن يبقى الموجب على إيجابه ، فلا يرجع فيه أثناء المدة التي يبقى فيها مجلس العقد قائماً .
ولا شك في أن الوضع على هذا الأساس المستمد من الشريعة الإسلامية قد أصبح وضعاً عملياً معقولا ، ولم تعد الفورية في القبول لازمة ، بل يجوز فيه التراخي مدة معقولة لا ينشغل فيها المتعاقدان بغير العقد ويبقى فيها الموجب على إيجابه . وهذا هو ف ينظرنا خير تفسير لقواعد الفقه الإسلامي في مجلس العقد ( [169] ) .
110 – لا تحتيم في القبول : ومتى قام الإيجاب ولم ينقض الميعاد الذي يصح فيه القبول ، فإن الموجب له يكون بالخيار بين قبول الإيجاب أو رفضه ولا يتحتم عليه أن يقبل ، وإلا قام العقد على الإيجاب وحده .
ومهما يكن من بداهة هذا الحكم ، فإن ظروفاً قد تجعل الموجب له ملزماً بالقبول . ويتحقق ذلك إذا كان هو الذي دعا الموجب إلى التعاقد معه . وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على نص في هذا المعنى حذف اكتفاء بتطبيق القواعد العامة ، فكانت المادة 136 من هذا المشروع تنص على أنه " يجوز لمن وجه إليه الإيجاب أن يرفضه ، ما لم يكن قد دعا إليه ، فلا يجوز له في هذه الحالة أن يرفض التعاقد إلا إذا استند إلى أسباب مشروعة ( [170] ) " .
والتطبيقات العملية لهذا النص كثيرة متنوعة . فهناك طوائف من الناس تستحث غيرها على الإيجاب وتدعوهم إليه ، كالتجار في النشرات والإعلانات وقوائم الأسعار التي يوجهونها إلى الجمهور ، وكأصحاب الفنادق والمطاعم يفتحون أبوابهم للطارق ، وكأرباب الصناعات يدعون العمال إلى العمل في صناعاتهم . فإذا استجيبت هذه الدعوة إلى التعاقد ، كانت الاستجابة إيجاباً يمتاز عما عداه من ضروب الإيجاب بأن من وجه إليه لا يجوز له أن يرفضه لغير سبب مشروع . وقد عللت المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي هذا الحكم العادل بما يأتي : " وليس هذا الأثر القانوني إلا نتيجة للحالة التي أنشأها صاحب الدعوة ، بل وتطبيقا من تطبقات مبدأ جامع هو مبدأ إساءة استعمال الحق أو التعسف في استعماله . على أن الإساءة في هذا الفرض ترد على مجرد رخصة من الرخص ، وهذه خصوصية تسترعى الانتباه . وقد تعمد المشروع إغفال تعيين الجزاء الذي يترتب على الرفض التعسفي ، فمثل هذا الرفض يرتب مسئولية لا شك فيها . فيجوز أن يقتصر التعويض على مبلغ من المال إذا كان هذا الجزاء كافياً . ويجوز للقاضي في بعض الفروض أن يذهب إلى ما هو ابعد ، فيعتبر أن العقد قد تم على سبيل التعويض إذا كان في الظروف ما يوجب ذلك ( [171] ) " .
111 – كيف يطابق القبول الإيجاب : وإذا كان الموجب له لا يتحتم عليه القبول على النحو الذي قدمناه ، إلا أنه إذا اختار أن يقبل وجب أن يكون قبوله مطابقاً للإيجاب مطابقة تامة ، وان يكون متفقا كل الاتفاق مع الموجب في جميع المسائل التي تناولها الإيجاب . وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على نص في هذا المعنى رؤى حذفه اكتفاء بتطبيق المبادئ العامة . فكانت المادة 137 من هذا المشروع تنص على أنه " لا يتم العقد ما لم يتفق الطرفان على كل المسائل التي تفاوضا فيها بشأن هذا العقد . أما الاتفاق على بعض هذه المسائل فلا يكفي لالتزام الطرفين ، حتى لو اثبت هذا الاتفاق في ورقة مكتوبة ( [172] ) " .
على أنه ليس من الضروري لإبرام العقد أن يتم الاتفاق على جميع المسائل مسألة مسألة . فقد نصت المادة 95 من القانون الجديد على ما يأتي : " إذا اتفق الطرفان على جميع المسائل الجوهرية في العقد ، واحتفظا بمسائل تفصيلية عليها فيما بعد ولم يشترطا أن العقد لا يتم عند عدم الاتفاق عليها ، اعتبر العقد قد تم . وإذا قام خلاف على المسائل التي لم يتم الاتفاق عليها ، فان المحكمة تقضي فيها طبقا لطبيعة المعاملة ولأحكام القانون والعرف والعدالة ( [173] ) " . والذي يسترعي النظر في الحالة التي جاء فيها هذا النص هو أن المتعاقدين قد حددا مسائل لم يتم الاتفاق عليها واحتفظا بها لتكون محلا للاتفاق فيما بعد ، وبالرغم من إنهما لم يتفقا عليها بعد ذلك ، إلا أن العقد يعتبر قد تم . والذي يبرر هذا الحكم هو أن هذه المسائل ليست جوهرية في العقد ، وان القانون قد افتراض أن نية المتعاقدين انصرفت إلى إبرام العقد حتى لو قام خلاف بينهما على هذه المسائل ، ما دام إنهما لم يشترطا أن العقد لا يتم عند عدم الاتفاق عليها . فتسيراً لنية المتعاقدين على هذا الوجه المعقول أباح القانون للقاضي أن يقضي فيما اختلفا فيه طبقا لطبيعة المعاملة ولأحكام القانون والعرف والعدالة . وهذا أيضاً أمر يسترعى النظر ، فإن مهمة القاضي في هذه الحالة تخرج عن المألوف من عمله ، فهو لا يقتصر على تفسير ما اتفاق عليه المتعاقدان ، بل يجاوز ذلك إلى تدبير ما اختلفا فيه ، فهو إذن يساهم في صنع العقد ( [174] ) . ويوجه هذا الحكم فيما انطوى عليه من جرأة أنه ما دام المفروض أن المتعاقدين قد أرادا إبرام العقد ولو لم يتفقا على هذه المسائل غير الجوهرية ، استتبع ذلك أن نفرض أيضاً إنهما أراد أن يحل القاضي محلهما ليبت فيما اختلفا فيه ، لأن هذا هو السبيل الوحيد للملاءمة بين ما اتفقا عليه من إبرام العقد وما اختلفا فيه من المسائل . فإذا اتفق المؤجر والمستأجر مثلا على المسائل الجوهرية في عقد الإيجار ، فتراضيا على العين المؤجرة والأجرة والمدة وسائر الشروط الجوهرية ، واختلفا فيمن يتحمل ضريبة الخفر أو أجرة البواب أو اشتراك المياه ، وهي عادة مبالغ زهيدة ، ولم يشترطا أن العقد لا يتم إلا إذا اتفقا أيضاً على هذه المسألة التفصيلية ، كان من المستساغ أن يفترض القانون أن المتعاقدين قد أرادا إبرام عقد الإيجار ، وإنهما تركا للقاضي أن يبت في هذه المسألة غير الجوهرية طبقا للعرف إذا لم يستطيعاهما أن يصلا فيها إلى اتفاق . فالأمر إذن لا يعدو أن يكون تفسيرا لنية المتعاقدين ،بحيث لو قام دليل على أن نيتهما لم تنصرف إلى ذلك ، وإنهما لم يقصدا إبرام العقد إلا بعد الاتفاق الكامل حتى على هذه المسائل التفصيلية ، لوجب استبعاد النص ، ولنحتم على القاضي أن يقضي بأن عقد الإيجار لم يبرم ما دام أن المتعاقدين لم يتفقا على جميع المسائل التي تناولاها ، جوهرية كانت أو تفصيلية ( [175] ) .
فالقبول إذن يجب أن يكون مطابقا للإيجاب على النحو الذي قدمناه . أما إذا كان غير مطابق له ، بل اختلف عنه زيادة أو نقصا أو تعديلا ، فإن العقد لا يتم ، ويعتبر مثل هذا القبول رفضاً يتضمن إيجاباً جديدا . فإذا طلب البائع ثمنا للمبيع ألفاً تدفع فوراً ، وقبل المشتري أن يدفع الألف على أن يزيد البائع في المبيع ، أو قبل أن يدفع في المبيع وحده ثمانمائة ، أو قبل أن يدفع فيه وحده ألفاً ولكن بالتقسيط ، لم يتم البيع ، واعتبر هذا القبول إيجاباً جديداً من المشتري . وهذا الحكم هو الذي تنص عليه المادة 96 من القانون الجديد إذ تقضي بما يأتي : " إذا اقترن القبول بما يزيد في الإيجاب أو يقيد منه أو يعدل فيه ، اعتبر رفضا يتضمن إيجاباً جديدا ( [176] ) " .
ج – حالات خاصة في القبول
الحالة الأولى – مجرد السكوت قد يكون قبولا : ( * )
112 - المبدأ العام : لا محل للكلام في السكوت باعتباره معبراً عن الإيجاب ، فإنه لا يتصور أن يكون مجرد السكوت إيجاباً . ولكن هل يجوز أن يكون قبولا ؟
يمكن القول بوجه عام إن السكوت في ذاته ، مجرداً عن أي ظرف ملابس له ، لا يكون تعبيراً عن الإرادة ولو قبولا ، لأن الإرادة عمل ايجابي والسكوت شيء سلبي ، ويقول فقهاء الشريعة الإسلامية : " لا ينسب لساكت قول " . وليس السكوت إرادة ضمنية ، فإن الإرادة الضمنية تستخلص من ظروف ايجابية تدل عليها كما سبق القول . أما السكوت فهو العدم ( [177] ) ، وأولى بالعدم أن تكون دلالته الرفض لا القبول . وهذا هو المبدأ العام ، يقول به الفقه والقضاء في مصر وفي غيرها من البلاد ( [178] ) .
113 – الاستثناء : على أن هذا المبدأ العام يقيد منه استثناءات اقرها القضاء المصري في ظل القانون القديم ، وأكدها القانون الجديد في نص صريح ، فقضت المادة 98 بما يأتي :
1 - إذا كانت طبيعة المعاملة أو العرف أو غير ذلك من الظروف تدل على أن الموجب لم يكن لينتظر تصريحا بالقبول ، فان العقد يعتبر قد تم ، إذا لم يرفض الإيجاب في وقت مناسب .
2 - ويعتبر السكوت عن الرد قبولا ، إذا كان هناك تعامل سبق بين المتعاقدين واتصل الإيجاب بهذا التعامل ، أو إذا تمخض إيجاب لمنفعة من وجه إليه ( [179] ) " .
فالاستثناء إذن هو أن يعتبر السكوت قبولا إذا أحاطت به ظروف ملابسة من شانها أن تجعله يدل على الرضاء ( [180] ) . هذه الظروف الملابسة ضرب لها القانون الجديد الأمثلة الآتية :
( 1 ) إذا كان العرف التجاري الذي جرى عليه العمل قضي بأن السكوت يدل على الرضاء ( [181] ) ، كما إذا أرسل المصرف بيانا لعمليه عن حسابه في المصرف ، وذلك أن عدم الاعتراض على هذا البيان يعد إقراراً له ( [182] ) ، أو كانت طبيعة المعاملة تقضي بذلك ، كما إذا أرسل التاجر البضاعة لمن طلبها وأضاف في " الفاتورة " شروط مستجدة سكت عنها المشتري ولم يبادر إلى رفضها ( [183] ) .
( 2 ) إذا كان هناك تعامل سابق بين المتعاقدين كما إذا اعتاد عميل استيراد البضائع التي يريدها من تاجر بالكتابة إليه فيرسل له التاجر ما يريد دون أن يؤذنه بالقبول . فإذا طلب العميل شيئاً وظل التاجر ساكتاً كعادته كان للعميل أن يعتبر هذا السكوت رضاء وأن التاجر سيرسل له ما طلب كما عودة ( [184] ) . وقد يكون هناك عقد سابق بين الطرفين ، فيستخلص السكوت قبولا إذا كان العقد الجديد من مكملات تنفيذ العقد السابق ، أو معدلا له ، أو فاسخاً ( [185] ) .
( 3 ) إذا تمحض الإيجاب لمنفعة من وجه إليه وسكت هذا ، فيعتبر سكوته رضاء ، كالهبة التي لا تشترط فيها الرسمية تعرض على الموهوب له فيسكت ، وكعارية الاستعمال تعرض على المستعير فيلزم الصمت ( [186] ) .
وليس فيما تقدم إلا امثلة لم ترد على سبيل الحصر ، فكل سكوت تلازمه ملابسات تدل على الرضاء فهو " سكوت ملابس " ( [187] ) ( silence circonstancie ) ، ويعتبر قبولا ، كما إذا علم الموكل بمجاوزة الوكيل حدود الوكالة فإن سكوته إجازة ، وكالمالك الحقيقي في بيع ملك الغير إذا علم بالبيع وسكت دون عذر كان سكوته إقراراً للبيع . في كل هذا لو كان الساكت أراد أن يعترض لتكلم ، ولكنه سكت في معرض الحاجة إلى الكلام ، ويقول فقهاء الشريعة الإسلامية هنا أيضاً : " السكوت في معرض الحاجة بيان " .
الحالة الثانية – تنفيذ العقد قد يقوم مقام القبول :
114 – يعتبر القضاء المصري أن التنفيذ الاختياري للإيجاب يقوم مقام القبول ، فيتم العقد به ، ويعتبر قبولا ضمنياً ( [188] ) . أما الزمان والمكان اللذان يتم فيها العقد فيتبع في شأن تحديدهما القواعد العامة إذ لا يوجد نص خاص في ذلك . وتقضي القواعد العامة – على ما سنرى – أن العقد يتم وقت أن يعلم الموجب بهذا التنفيذ الاختياري وفي المكان الذي علم فيه ذلك ( م 97 ) ، ما لم يوجد اتفاق بين المتعاقدين يحدد وقتاً أو مكاناً آخر ، كأن يتضح من إرادة الموجب أنه قصد أن يتم العقد من وقت التنفيذ وفي مكانه فيقوم الموجب له بالتنفيذ وفقاً لهذه الإرادة .
وكانا لمشروع التمهيدي يشتمل على نص في هذه المسألة ، فكانت المادة 143 من هذا المشروع تقضي بأنه " إذا تبين من إرادة الموجب أو من طبيعة التعامل أو من مقتضى العرف أن تنفيذ العقد يقوم مقام القبول ، فإن العقد يعتبر قد تم في الزمان وفي المكان اللذين بدأ فيهما التنفيذ . ويجب في هذه الحالة المبادرة بإخطار الطرف الآخر ببدء التنفيذ " . ولكن هذا النص حذف في المشروع النهائي ، حذفته لجنة المراجعة لأنه " من التفصيلات التي لا ضرورة لها ( [189] ) " . على أن النص لو استبقى لبقى وقت تمام العقد ومكانه محددين بحصول التنفيذ لا بعلم الموجب به متى اتضح ذلك ، لا من إرادة الموجب فحسب ، بل أيضاً من طبيعة التعامل أو من مقتضى العرف ، ولوجب على الموجب له أن يبادر بإخطار الموجب ببدء التنفيذ ، ولا يكون هذا الأخطار إلا إبلاغاً للقبول الضمني الذي صدر منذ أن وقع البدء بالتنفيذ ( [190] ) .
الحالة الثالثة – القبول في عقود المزاد :
115 – هناك عقود تتم في بعض الأحيان لا من طريق الممارسة ، بل من طريق المزايدة . واهم هذه العقود البيع والإيجار . فالبيع الجبري عن طريق القضاء أو عن طريق الإدارة يتم بالمزاد . وكذلك البيوع التي تجريها المحاكم الحسبية . وقد يقع البيع الاختياري كذلك بطريق المزاد إذا اختار البائع هذا الطريق . وكثيرا ما تؤجر الجهات الحكومية ووزارة الأوقاف أراضي وعقارات بطريق المزاد . ويعنينا في العقود التي تتم بالمزايدة أن نعرف متى يتم الإيجاب ومتى يتم القبول . فقد بظن أن طرح الصفقة في المزاد هو الإيجاب ، والتقدم بالعطاء هو القبول . وليس هذا صحيحاً . فإن طرح الصفقة في المزاد لا يعدو أن يكون دعوة إلى التعاقد عن طريق التقدم بعطاء ، والتقدم بعطاء هو الإيجاب . أما القبول فلا يتم إلا برسو الم 1زاد ، ويكون هو إرساء المزاد على من يرسو عليه . وهذا هو الذي جرى عليه القضاء المصري في ظل القانون القديم ، فقد كان يعتبر التقدم بالعطاء إيجاباً لا قبولا ، ويرتب على ذلك جواز الرجوع فيه قبل إرساء المزاد ( [191] ) .
وأكد هذا المبدأ القانون الجديد بنص صريح . فقضت المادة 99 بما يأتي : " لا يتم العقد في المزايدات إلا برسوم المزاد ، ويسقط العطاء بعطاء يزيد عليه ولو كان باطلا ( [192] ) " . والعطاء يكون باطلا إذا صدر مثلا من شخص لا يجوز له التعاقد في الصفقة المطروحة في المزاد ، كقاض يتقدم بعطاء في مزاد لبيع عين متنازع عليها إذا كان نظر النزاع يقع في اختصاصه . ويكون قابلا للإبطال إذا صدر مثلا من قاصر أو محجور عليه . فإذا بطل العطاء في الحالين لم يبطل أثره وهو إسقاط العطاء الذي تقدمه .
الحالة الرابعة – القبول في عقود الإذعان ( * ) :
116 – دائرة عقود الإذعان : قد يكون القبول مجرد إذعان لما يمليه الموجب ، فالقابل للعقد لم يصدر قبوله بعد مناقشة ومفاوضة ، بل هي في موقفه من الموجب لا يملك إلا أن يأخذ أو أن يدع . ولما كان في حاجة إلى التعاقد على شيء لا غناء عنه ، فهو مضطر إلى القبول . فرضاؤه موجود ، ولكنه مفروض عليه . ومن ثم سميت هذه العقود بعقود الإذعان ( [194] ) . هذا الضرب من الإكراه ليس هو المعروف في عيوب الإرادة ، بل هو إكراه متصل بعوامل اقتصادية أكثر منه متصلا بعوامل نفسية .
ويتبين مما تقدم أن عقود الإذعان لا تكون إلا في دائرة معينة تحددها الخصائص الآتية : ( 1 ) تعلق العقد بسلع أو مرافق تعتبر من الضروريات بالنسبة إلى المستهلكين أو المنتفيعن . ( 2 ) احتكار الموجب لهذه السلع أو المرافق احتكاراً قانونياً أو فعلياً ، أو على الاقل سيطرته عليها سيطرة تجعل المنافسة فيها محدودة النطاق . ( 3 ) صدور الإيجاب إلى الناس كافة وبشروط واحدة وعلى نحو مستر أي لمدة غير محددة . ويغلب أن يكون في صيغة مطبوعة تحتوى على شروط منفصلة لا تجوز فيها المناقشة وأكثرها لمصلحة الموجب ، فهي تارة تخفف من مسئولية التعاقديية وأخرى تشدد في مسئولية الطرف الآخر ، وهي في مجموعها من التعقيد بحيث يغم فهمها على أوساط الناس .
وأمثلة هذه العقود كثيرة : فالتعاقد مع شركات النور والماء والغاز ، ومع مصالح البريد والتلغراف والتلفون ، وعقد النقل بوسائله المختلفة من سكك حديدية وكهربائية وبواخر وسيارات وطيارات وغير ذلك ، والتعاقد مع شركات التامين بأنواعه المتعددة ، وعقد العمل في الصناعات الكبرى ، كل هذا يدخل في دائرة عقود الإذعان . ومن ثم نرى أن القبول في هذه العقود هو كما قدمنا إذعان . فالموجب يعرض إيجابه في شكل بات نهائي لا يقبل مناقشة فيه ، فلا يسع الطرف الآخر إلا أن يقبل إذ لا غنى له عن التعاقد ، فهو محتاج إلى الماء والنور والغاز ، وكثيرا ما تعرض له حاجة إلى الاتصال بالناس عن طريق التراسل ولا بد له من التنقل والسفر في بعض الأحايين ، وهو مضطر إلى العمل ليكسب ما يقوم بأوده . وقد نصت المادة 100 من القانون الجديد على هذا المعنى في العبارات الآتية : " القبول في عقود الإذعان يقتصر على مجرد التسليم بشروط مقررة يضعها الموجب ولا يقبل مناقشة فيها ( [195] ) " .
117 – طبيعة عقود الإذعان : وقد انقسم الفقهاء في طبيعة عقود الإذعان إلى مذهبين رئيسيين . فبضعهم يرى أن عقود الإذعان ليست عقودا حقيقية ، ويذهب فريق آخر إلى إنها لا تختلف عن سائر العقود .
أما الفريق الأول – وعلى رأسهم الأستاذ سالي وتابعه في ذلك فقهاء القانون العام مثل ديجيه وهوريو – فينكر على عقود الإذعان صبغتها التعاقدية ، إذ أن العقد توافق إرادتين عن حرية واختيار ، أما هنا فالقبول مجرد إذعان ورضوخ . فقعد الإذعان أقرب إلى أن يكون قانونا أخذت شركات الاحتكار الناس باتباعه فيجب تفسيره كما يفسر القانون ، ويرعى في تطبيقه مقتضيات العدالة وحسن النية ، وينظر فيه إلى ما تستلزمه الروابط الاقتصادية التي وضع لتنظيمها . ويرى الأستاذ ديموج ، ويتفق في هذا مع فقهاء القانون العام ، أن عقد الإذعان هو مركز قانوني منظم ( institution ) يجب أن يعني في تطبيقه بصالح العمل أولاً ، ثم بما يستحق الحماية من صالح كل من طرفي العقد .
ويرى الفريق الثاني – وهم غالبية فقهاء القانون المدني – أن عقد الإذعان عقد حقيقي يتم بتوافق إرادتين ، ويخضع للقواعد التي تخضع لها سائر العقود . ومهما قيل من أن أحد المتعاقدين ضعيف أمام الآخر ، فإن هذه ظاهرة اقتصادية لا ظاهرة قانونية ، وعلاج الأمر لا يكون بإنكار صفة العقد على عقد حقيقي ، ولا بتمكين القاضي من تفسير هذا العقد كما يشاء بدعوى حماية الضعيف ، فتضطرب المعاملات وتفقد استقرارها ، بل أن العلاج الناجع هو تقوية الجانب الضعيف حتى لا يستغله الجانب القوي . ويكون ذلك بإحدى وسيلتين أو بهما معاً : الأولى وسيلة اقتصادية فيجتمع المستهلكون ويتعاونون على مقاومة التعسف من جانب المحتكر ، والثانية وسيلة تشريعية فيتدخل المشرع – لا القاضي - لينظم عقود الإذعان .
118 – حكم عقود الإذعان في القانون القديم والجديد : وقد كانت الحماية في مصر ، في ظل القانون القديم ، حماية قضائية . فكان القضاء من جهة يعتبر عقود الإذعان عقوداً حقيقية واجبة الاحترام ( [196] ) ، فيحترم الشروط لمطبوعة ف يعقد الإيجار ( [197] ) ، وفي عقود التأمين ( [198] ) ، ويلزم من يتعامل مع شركة باحترام لوائحها المطبوعة ( [199] ) ، ومن يتعاقد مع مصلحة السكك الحديد بمراعاة نظمها ولوائحها ( [200] ) . ويقيد المستخدم في عقد العمل باحترام لوائح الخدمة التي يخضع لها ( [201] ) . إلا أن مع ذلك يغلب الشروط المكتوبة على الشروط المطبوعة ( [202] ) ، ويبطل الإعفاء الإتفاقي من المسئولية ( [203] ) ، ويفسر الالتزام في مصلحة الطرف المذعن ( [204] ) ، وينسخ الإرادة السابقة بالإرادة اللاحقة ( [205] ) .
وجاء القانون الجديد فجعل الحماية تشريعية ، ونظم بنصوص خاصة عقد التزام المرافق العامة وعقد العمل وقد التأمين . وأتى بنصوص عامة لتنظيم عقود الإذعان كافة ، فجعل بذلك للقضاء المصري في ظل القانون القديم سنداً تشريعياً في عهد القانون الجديد ، ومهد أمامه الطريق ليخطو خطوات أوسع في حماية الجانب المذعن . وندع النصوص الخاصة في العقود التي سلفت الإشارة إليها تدرس في مواضعها . ونقتصر هنا على إيراد النصوص العامة .
فقد نصت المادة 149 على أنه " إذا تم العقد بطريق الإذعان ، وكان قد تضمن شروطا تعسفية جاز للقاضي أن يعدل هذه الشروط أو أن يعفي الطرف المذعن منها ، وذلك وفقا لما تقضي به العدالة . ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك ( [206] ) " . وهذا النص في عمومه وشموله أداة قوية في يد القاضي يحمى بها المستهلك من الشروط التعسفية التي تفرضها عليه شركات الاحتكار . والقاضي هو الذي يملك حق تقدير ما إذا كان الشرط تعسفياً ، ولا معقب لمحكمة النقض على تقديره ما دامت عبارة العقد تحتمل المعنى الذي أخذ به . فإذا كشف شرطاً تعسفياً في عقد إذعان ، فله أن يعدله بما يزيل اثر التعسف ، بل له أن يلغيه ويعفى الطرف المذعن منه ، ولم يرسم المشرع له حدوداً في ذلك إلا ما تقتضيه العدالة . ولا يجوز للمتعاقدين أن ينزعا من القاضي سلطته هذه باتفاق خاص على ذلك ، فإن مثل هذا الاتفاق يكون باطلا لمخالفته للنظام العام ، ولو صح للجأت إليه شركات الاحتكار وجعلته شرطاً مألوفاً ( clause de style ) في عقودها .
ونصت المادة 151 على ما يأتي : " 1 – يفسر الشك في مصلحة المدين .
2 - ومع ذلك لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان ضاراً بمصلحة الطرف المذعن ( [207] ) " . وقد ورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي ويراعى من ناحية أخرى أن الأصل أن يفسر الشك في مصلحة المدين عند غموض عبارة التعاقد غموضاً لا يتيح زواله . وقد استثنى المشروع من حكم هذا الأصل عقود الإذعان ، فقضى أن يفسر الشرك فيها لمصلحة العاقد المذعن ، دائناً كان أو مديناً . فالمفروض أن العاقد الآخر ، وهو أقوى العاقدين ، يتوافر له من الوسائل ما يمكنه من أن يفرض على المذعن عند التعاقد شروطاً واضحة بينة . فإذا لم يفعل ذلك اخذ بخطأه أو تقصيره وحمل تبعته ، لأنه يعتبر متسبباً في هذا الغموض من وجه : أنظر المادة 1288 من التقنين الاسباني وكذلك المادة 915 من التقنين النمساوي وهي تنص على أن إبهام العبارة يفسر ضد من صدرت منه ( [208] ) " .
الحالة الخامسة – القبول في عقود الجماعة وفي العقود النموذجية :
119 – تضمن المشروع التمهيدي نصين ن احدهما خاص بعقود الجماعة ( contrats collectives ) ، والثاني بالعقود النموذجية ( contrats – type ) .
فكانت المادة 146 من المشروع التمهيدي تنص على أنه " في عقود الجماعة يتم القبول برضاء الأغلبية ، وترتبط الأقلية بهذا القبول " . ومثل عقود الجماعة عقد العمل الجماعي ( contrat collectif du travail ) ، وهو العقد الذي ينظم شروط العمل ما بين طائفة أصحاب الأعمال وطائفة العمال . ويتم الإيجاب والقبول فيه برضاء الأغلبية من كل من الطائفتين . وترتبط الأقلية بالعد . وهنا نرى أن كل فرد من الأقلية قد ارتبط بعقد لم يقبله ولم يكن طرفاً فيه ، وأصبح لا يستطيع الانحراف في عقد فردي عن نصوص العقد الجماعي . وفي هذا خروج بين على القواعد المدنية ، يعلله أن عقود الجماعة أقرب إلى القوانين منها إلى العقود ، وهي على كل حال تنشيء مراكز قانونية منظمة ( institutions ) .
وكانت المادة 147 من المشروع التمهيدي تنص على أنه " إذا وضعت السلطة العامة أو أية هيئة نظامية أخرى نموذجاً لأحد العقود ، فإن من يبرم هذا العقد ويحيل على النموذج يتقيد بالشروط على الوردة فيه " . والعقد النموذجي هو الذي تضعه سلطة عامة أو أية هيئة نظامية أخرى ، كعقود الإيجار النموذجية التي تضعها وزارة الأوقاف أو المجالس البلدية أو النقابات . ويقضى النص السالف الذكر بأن من يتعاقد محيلا في تعاقده على عقد نموذجي يتقيد بالشروط الواردة فيه ، لأن الإحالة عليه تفترض أن المتعاقد قط اطلع على ما ورد فيه من الشروط وارتضاها .
وقد حذف هذان النصان في المشروع النهائي ، حذف الأول لأن مكانه يحسن أن يكون في تشريع خاص ، وحذف الثاني لوضوح الحكم الوارد فيه ( [209] ) .
2 – المتعاقدان لا يجمعهما مجلس واحد
( التعاقد بالمراسلة أو فيما بين الغائبين ) ( * )
( Contrat par correspondence ou entre absents )
120 – تحديد الموضوع : فرضنا فيما قدمناه أن التعاقد يتم بين حاضرين ، سواء تم التعاقد بينهما مباشرة أو تم بوساطة نائب عن أي منهما . ولكن يحدث كثيراً أن يتم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مجلس واحد ، ويتم ذلك بالمرسالة ، بأية طريقة من طرقها المختلفة : البريد أو البرق أو رسول خاص لا يكون نائباً أو غير ذلك ( [210] ) .
وليس الذي يميز ما بين الفرضين في حقيقة الأمر هو أن يجمع المتعاقدين مجلس العقد أو إلا يجتمعا في مجلس واحد ، بل إن المميز هو أن تفصل فترة من الزمن بين صدور القبول وعلم الموجب به . ففي التعاقد ما بين حاضرين تمنحي هذه الفترة من الزمن ، ويعلم الموجب بالقبول في الوقت الذي يصدر فيه . أما في التعاقد ما بين غائبين فإن القبول يصدر ثم تمضي فترة من الزمن هي المدة اللازمة لوصول القبول إلى علم الموجب ، ومن ثم يختلف وقت صدور القبول عن وقت العلم به .
والذي يؤكد ما تقدم أننا نستطيع أن نتصور تعاقداً ما بين غائبين لا يفصل زمن فيه ما بين صدور القبول والعلم به ، كالتعاقد بالتلفون ، وعندئذ تنطبق قواعد التعاقد ما بين حاضرين على ما سنرى . ونستطيع أن نتصور تعاقداً ما بين حاضرين يفصل زمن فيه ما بين صدور القبول والعلم به ، وعندئذ تنطبق قواعد التعاقد ما بني غائبين ، ويكفى لتحقق ذلك أن نتصور أن امتلعاقدين افترقا بعد صدور الإيجاب المزم وقبل صدور القبول ثم صدر القبول بعد ذلك وأتى من صدر منه القبول بنفسه يبلغ الموجب قبوله ( [211] ) .
فالعبرة ليست إذن باتحاد المجلس أو اختلافه ، بل بتخلل فترة من الزمن بين صدور القبول والعلم به ( [212] ) .
121 – ماذا يترتب على هذا التحديد – زمان العقد ومكانه : ومتى وضعنا المسألة على النحو الذي قدمناه تبين في الحال ماذا يترتب على هذا الوضع : فما دام أن هناك فترة من الزمن تفصل ما بين صدور القبول والعلم به ، وجب التساؤل متى إذن يتم العقد ؟ أوقت صدور القبول أما وقت العلم به ظ فإذا تعين الوقت الذي يتم فيه العقد تعين أيضاً المكان الذي يتم فيه : يتم في المكان الذي يوجد فيه الموجب إذا قلنا إن العقد لا يتم إلا إذا علم الموجب بالقبول ، ويتم في المكان الذي يوجد فيه من صدر منه القبول إذا قلنا إن العقد يتم بمجرد صدور القبول .
فرمان العقد هو الذي حدد مكان ، وهذا هو الأصل . وقد يختلف مكان العقد عن زمانه في بعض الفروض ، أهمها التعاقد بالتلفون . ففيه لا يفصل زمن ما بين صدور القبول والعلم به كما رأينا . فهو من ناحية الزمان بمثابة تعاقد ما بين حاضرين . أما من ناحية المكان فالمتعاقدان في جهتين مختلفتين ، فتجري في تعيينه قواعد التعاقد ما بين غائبين ( [213] ) .
وعلينا الآن أن نبحث متى يتم العقد ما بين غائبين وفي أي مكان . ونستعرض في ذلك الفقه والقوانين الأجنبية ، ثم ننتقل إلى أحكام القانون المصري .
أ - الفقه والقوانين الأجنبية
122 – مذاهب أربعة في الفقه : الفقه في البلاد التي ليس فيها تشريع يعين الزمان والمكان اللذين يتم فيهما العقد – كما في فرنسا وفي مصر في ظل القانون القديم – منقسم متشعب الرأي ، وذلك بالرغم من أهمية تعيين زمان العقد ومكانه على ما سنرى .
وذلك أن خاصية التعاقد بالمرسالة فيما بين غائبين هي كما قدمنا الفترة من الزمن التي تفصل ما بين صدور القبول والعلم به ( [214] ) . فإذا قلنا أن العبرة في تمام العقد هي بتلاقي الإرادتين نو فإن العقد يتم وقت صدور القبول ، ففي هذا الوقت كان الإيجاب قائماً وصدر القبول متلافياً معه . وإذا قلنا بل العبرة بالوقت الذي يعلم فيه المتعاقدان معاً بهذا التلاقي ، فإن صدور القبول لا يكفي ، بل يجب أن يعلم الموجب بالقبول وهو باق على إيجابه .
والحق أن التعاقد إذا تم بين غائبين تعذر العثور على وقت يعلم فيه المتعاقدان معاً بتلاقي الإرادتين . فلا يكفي أن يعلم الموجب بصدور القبول ، بل يجب أيضاً أن يعلم القابل بهذا العلم ، وهكذا . وهذا هو الدور ، وهو ممتنع . بل إن تلاقي الإرادتين في التعاقد ما بين غائبين لا يمكن الجزم به . فقد يعدل الموجب عن إيجابه ولا يصل هذا العدول إلى علم الموجب إلا بعد وصول القبول إلى علمه . وفي الحالتين يتم العقد ، وفي الحالتين لا تتلاق الإرادتان ( [215] ) .
فليس يعنيه إذن في التعاقد ما بين الغائبين أن يعلم المتعاقدان معاً بتلاقي الإرادتين ، بل ولا بأن تتلاقى الإرادتان فعلا ، فإن هذا وذاك قد يتعذر تحققه كما قدمنا . ولا يبقى أمامنا – وقد صدر القبول في وقت متقدم على الوقت الذي علم فيه الموجب بهذا القبول – إلا أن نختار بين الوقتين ح وقت صدور القبول وقت العلم به .
فإذا نحن وقفنا عند صدور القبول ، فعلينا أن نختار بين الوقت الذي أعلن فيه القابل قبوله – وهذا هو مذهب إعلان القبول ( systeme de declaration ) – والوقت الذي يخرج فيه هذا القبول من يده في طريقه إلى الموجب إذ هو لا يملك استرداده بعد ذلك – وهذا هو مذهب تصدير القبول ( systeme d'expedition ) .
وإذا نحن جاوزنا صدور القبول إلى العلم به ، فعلينا أيضاً أن نختار بين الوقت الذي يصل فيه القبول إلى الموجب فنفرض علمه – به – وهذا هو مذهب تسلم القبول ( systeme de reception ) – والوقت الذي يعلم فيه الموجب فعلا بالقبول – وهذا هو مذهب العلم بالقبول ( systeme d'information ) .
هذه هي مذاهب أربعة ، لكل مذهب منها أنصار يقولون به .
123 – مذهب إعلان القبول : أما أنصار مذهب إعلان القبول فيقولون أن نظريتهم هي المنطبقة على القواعد العامة ، فالعقد توافق إرادتين ومتى أعلن الطرف الآخر قبوله للإيجاب المعروض عليه فقد توافقت الإرادتان وتم العقد . هذا إلى أن المذهب يتفق مع مقتضيات الحياة التجارية من وجوب السرعة في التعامل .
ويؤخذ على هذا المذهب خروجه على القواعد العامة من ناحيتين . فليس من الضروري أن تكون الإرادتان متوافقتين بإعلان القبول ، إذ يجوز أن يعدل الموجب ولا يصل عدوله إلى القابل إلا بعد صدور القبول . كذلك ليس من الصحيح أن القبول ينتج أثره بمجرد صدوره . فالقبول إرادة ، والإرادة لا تنتج أثرها إلا من وقت العلم بها .
124 – مذهب تصدير القبول : وأنصار هذا المذهب يتفقون في الواقع مع أنصار المذهب الأول ، فهم يكتفون بإعلان القبول ، ولكنهم يشترطون أن يكون هذا الإعلان نهائيا لا رجوع فيه . ولا يكون ذلك إلا إذا كان من صدر منه القبول قد بعث فعلا بقبوله إلى الموجب بحيث لا يملك أن يسترده ، بأن ألقاه في صندوق البريد أو سلمه لعامل البرق فبعث به أو أبلغه لرسول انطلق ليخبر به الموجب .
ويؤخذ على هذا المذهب أنه إذا كان إعلان القبول كافياً لتمام العقد ، فليس من القانون ولا من المنطق أن يزيده التصدير أية قيمة قانونية . على أن القبول المصدر يمكن استرداده كما تقضي بذلك لوائح البريد في كثير من البلاد ، والكتاب في البريد ملك للمرسل حتى يتسلمه المرسل إليه .
125 – مذهب تسليم القبول : وأنصار هذا المذهب يرون أن القبول لا يكون نهائياً بتصديره إذ يمكن استرداده وهو في الطريق ، وهو لا يكون نهائياً لا يسترد إلا إذا وصل إلى الموجب . ففي هذا الوقت يتم العقد ، سواء علم الموجب أو لم يعلم . على أن وصول القبول إلى الموجب قرينة على علم هذا به .
ومن ذلك نرى أن مذهب تسليم القبول يتذبذب بين مذهبي التصدير والعلم . فهو بين أن يكون قد اخذ بمذهب التصدير مستأنياً إذ لا يرى التصدير باتاً حتى يصل القبول إلى الموجب ، وبين أن يكون قد اخذ بمذهب العلم متعجلا إذ يجعل وصول القبول قرينة على هذا العلم .
والمذهب من حيث أنه صورة معدلة لمذهب التصدير لا يزيد في قيمته عن هذا ، فإن وصول القبول إلى الموجب دون علمه به لا يزيد إعلان القبول شيئاً من الناحية القانونية . وإذا قيل أن الكتاب يصبح ملكاً للمرسل إليه ، فإن المقصود من هذا هو الملكية المادية ، أما الملكية المعنوية فتبقى للمرسل .
أما إذا أريد بالتسلم أن يكون قرينة على العلم ، فإن كانت القرينة قاطعة اعوزها النص ، وإن كانت غير قاطعة فقد المذهب استقلاله واختلط بمذهب العلم بالقبول ، وهو المذهب الرابع الذي نتولى الآن بحثه .
126 - مذهب العلم بالقبول : والواقع أن المذهبين الرئيسيين هما مذهب إعلان القبول ومذهب العلم بالقبول ، وما عداهما فمتفرع عنهما ، ويرد إليهما . ولمذهب العلم بالقبول أنصار كثيرون . وهم لا يكتفون من القبول بإعلانه ، بل يشترطون علم الموجب به ، شأن كل إرادة يراد بها أن تنشيء أثراً قانونياً ، فهي لا يترتب عليها هذا الأثر إلا إذا علم بها من هي موجهة إليه . وهم يتخذون من وصول القبول قرينة على علم الموجب ، ولكنها قرينة قضائية يؤخذ بها أو لا يؤخذ ، وهي على كل حال تقبل إثبات العكس .
127 - النتائج التي تترتب على الأخذ بمذهب دون آخر : ونقارن الآن بين المذهبين الرئيسيين ، مذهب الإعلان ومذهب العلم ، في النتائج التي تترتب على الأخذ بمذهب منهما دون الآخر ، فيتبين الفرق بينهما فيما يأتي :
1 - إذا عدل الموجب عن إيجابه ووصل العدول إلى العلم القابل بعد إعلان القبول وقبل علم الموجب به ، فإن العقد يتم وفقاً لمذهب الإعلان ، ولا يتم وفقاً لمذهب العلم . كذلك من صدر منه القبول لو عدل عن قبوله وصول العدول إلى الموجب غير متأخر عن وصول القبول ، فإن العقد يتم وفقاً لمذهب الإعلان ، ولا يتم وفقاً لمذهب العلم .
2 - إذا كان العقد بيعاً واقعاً على منقول معين بالذات ، فإن ملكيته تنتقل إلى المشتري من وقت تمام العقد ، وتكون الثمار للمشتري من ذك الوقت أي من وقت العلم بالقبول إذا أخذنا بمذهب العلم ، أو من وقت إعلان القبول إذا أخذنا بمذهب الإعلان . وكعقد البيع أي عقد آخر ناقل للملكية .
3 - هناك مواعيد تسري من وقت تمام العقد كمواعيد التقادم بالنسبة إلى الالتزامات المنجزة التي تنشأ من العقد . فتسري هذه المواعيد من وقت العلم بالقبول وفقاً لنظرية العلم ، ومن وقت إعلان القبول وفقاً لنظرية الإعلان .
4 - في الدعوى البوليصية لا يستطيع الدائن الطعن في عقد صدر من مدينه إضراراً بحقه إلا إذا كان هذا العقد متأخراً في التاريخ عن الحق الثابت له في ذمة المدين . فلو أن هذا الحق قد ثبت في ذمة المدين في الفترة ما بين إعلان القبول والعلم به في العقد الذي يريد الدائن الطعن فيه ، فإنه يجوز للدائن الطعن في العقد وفقاً لنظرية العليم ، ولا يجوز له ذلك وفقاً لنظرية الإعلان .
5 - العقود التي صدرت من تاجر شهر افلاسه يتوقف نصيبها من الصحة والبطلان علىمعرفة وقت تمامها . ويختلف حظ هذه العقود بحسب ما إذا كانت قد تمت قبل المدة المشتبه فيها أو في أثناء هذه المدة أو بعد التوقف عن الدفع أو بعد شهر الافلاس . فتهم إذن معرفة وقت تمام العقد في مثل هذه الفروض ، فقد يعلن القبول في مرحلة من هذه المراحل ويحصل العلم به في مرحلة أخرى ، فيختلف الحكم على العقد باختلاف المذهب الذي يؤخذ به .
6 - تقضي قواعد القانون الدولي الخاص بأن القانون الذي يخضع له العقد هو القانون الذي أراده المتعاقدان وفقاً لنظرية سلطان الإرادة . ويكون هذا القانون عادة هو قانون الجهلة التي تم فيها العقد ( lex loci contractu ) . فإذا تم عقد بين شخصين ، وكان من صدر منه الإيجاب موجوداً في مصر وعلم بالقبول فيها ، ومن صدر منه القبول كان موجوداً في فرنسا وقت صدور القبول ، فإن العقد يخضع للقانون المصري إذا أخذنا بمذهب العلم ، ويخضع للقانون الفرنسي إذا أخذنا بمذهب الإعلان . والأخذ بأي المذهبين في تحديد المكان يحدد الزمان كذلك .
7 - قد يكون ارتكاب جريمة في بضع الفروض متوفقاً على تمام عقد مدني ، كجريمة التبديد فإنها تتم بتمام عقد البيع الذي يتصرف بموجبه المبدد في الأشياء التي كان مؤتمناً عليها . فيهم أن نعرف في أي مكان تم عقد البيع ، فإن هذا المكان هو الجهة التي وقعت فيه الجريمة ، ومحكمة هذه الجهة هي المحكمة المختصة بالنظر في التبديد . فإذا فرض أن المبدد وقت أن باع كان في بلد غير البلد الذي كان فيه المشتري ، فإن المحكمة المختصة تكون محكمة هذا البلد أو ذلك تبعاً للمذهب الذي يؤخذ به . وهذا المذهب هو الذي يعين أيضاً وقت تمام العقد .
128 - القوانين الأجنبية : وتأخذ بعض التقنينات الأجنبية الحديثة بمذهب العلم بالقبول . اخذ مبه التقنين الألماني ( م 130 ) ، والمشروع الفرنسي الإيطالي ( م 2 فقرة أولى ) ، والتقنين التجاري الإيطالي ( م 36 ) ، والتقنين الإسباني ( م 262 فقرة ثانية ) .
ويأخذ تقنين الالتزامات السويسري بمذهب تصدير القبول ( م 10 ) . ويأخذ التقنين المدني السوري الجديد بمذهب إعلان القبول ، فقد نصت المادة 98 من هذا التقنين على أنه " يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول ، ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك " . ونجد هنا أحد الفروق القليلة بين القانونين السوري والمصري ( [216] ) .
أما في فرنسا حيث لا يوجد نص تشريعي ، فالقضاء منقسم بين مذهبي إعلان القبول والعلم بالقبول . وتقضي محكمة النقض الفرنسية بأن تحديد وقت تمام العقد ومكانه مسألة يرجع فهيا إلى نية المتعاقدين ، وهي مسألة موضوعية لا رقابة لمحكمة النقض عليها ( [217] ) .
ب – أحكام القانون المصري
129 – القانون القديم : لم يشتمل القانون القديم على نص تشريعي في هذا الموضوع . فانقسم القضاء فيه ، سواء في ذلك القضاء الوطني أو القضاء المختلط .
أما القضاء الوطني فكان يميل إلى الأخذ بمذهب العلم بالقبول في المسائل المدنية على الأقل ( [218] ) .
وانقسم القضاء المختلط بين مذهبي العلم والإعلان ( [219] ) .
وبقى الفقه في مصر حائراً حيرة القضاء . ولكنه اتجه أخيراً إلى الأخذ بمذهب العلم بالقبول ( [220] ) .
130 – القانون الجديد : أما القانون الجديد فقد حسم هذا الخلاف الطويل بنصوص تشريعية واضحة ، اخذ فيها بمذهب العلم بالقبول . فهو قد وضع المبدأ الأساسي في تعيين الوقت الذي ينتج فيه التعبير عن الإرادة أثره ، فنص في المادة 91 على أنه " ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه ، ويعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به ، ما لم يقم الدليل على عكس ذلك " . وقد مر الكلام في هذا النص . ثم طبق هذا المبدأ في نص خاص بالتعاقد فيما بين الغائبين . فقضت المادة 97 بما يأتي :
" 1 - يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول ، ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك .
2- ويفترض أن الموجب قد علم بالقبول في المكان وفي الزمان اللذان وصل إليه فيهما هذا القبول ( [221] ) " .
ويتبين من هذا النص أن القانون الجديد ترك تعيين المكان والزمان اللذين يتم فيهما العقد فيما بين الغائبين إلى اتفاق المتعاقدين . وتحديد ما إذا كان المتعاقدان قد اتفقا على شيء في هذا الصدد وما هو الشيء الذي اتفقا عليه يعتبر من المسائل الموضوعية ، فلا رقابة فيه لمحكمة النقض .
أما إذا لم يتفق المتعاقدان على شيء ولم يوجد نص قانوني خاص ، فيعتبر العقد قد تم في المكان والزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول . وهذا هو مذهب العلم بالقبول اخذ به القانون الجديد في صراحة ووضوح . وهو في هذا لم يزد على أن طبق المبدأ الأساسي الذي سبقت الإشارة إليه من أن الإرادة لا تنتج أثرها إلا في الوقت الذي تتصل فيه بعلم من وجهت إليه ، أي بعلم الموجب . ومن اجل ذلك يجب تفسير الفقرة الثانية من المادة 97 على أن الحكم الذي اوردته ليس إلا تطبيقاً لهذا المبدأ . فيكون وصول القبول قرينة على العلم به . وهي قرينة قانونية لأنها وردت في نص قانوني ، ولكنها قرينة غير قاطعة ، فيجوز إثبات العكس . وإذا كان النص لم يصرح بجواز إثبات العكس ، فإن هذا فمهوم من الرجوع إلى المبدأ الأساسي الذي ورد في العبارة الأخيرة من المادة 91 ، وهي تقضي بأن وصول التعبير عن الإرادة يعتبر " قرينة على العلم به ما لم يقم الدليل على عكس ذلك " – وقد رأينا أن الفقرة الثانية من المادة 97 ليست إلا تطبيقا لهذا المبدأ الأساسي ، فينبغي أن تفسر على مقتضاه .
وقد تقضى النصوص القانونية في حالات خاصة ، كما قدمنا ، بتعيين المكان والزمان اللذين يتم فيهام العقد على غير الوجه المتقدم ، فتتبع هذه النصوص ، مثل ذلك ما ورد في المادة 599 من تجدد الإيجار تجداً ضمنياً ببقاء المستأجر في العين المؤجرة بعد انتهاء الإيجار بعلم المؤجر ودون اعتراض منه ، فيتم التجديد ببقاء المستأجر في العين دون حاجة أن يعلم بأن المؤجر لا يعترض على هذا البقاء ( [222] ) .
المطلب الثالث
مرحلة تمهيدية في التعاقد
( الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي والعربون )
131 – تعاقد غير نهائي : عالجنا فيما قدمناه كيف يتم التعاقد ، ووصلنا في ذلك إلى مرحلته النهائية ، فرأينا كيف يتم العقد على نحو بات نهائي . ولكن قد يسبق مرحلة التعاقد النهائي مرحلة تمهيدية تؤدي على وجه محقق أو غير محقق إلى المرحلة النهائية . وأبرز الصور لهذه المرحلة التمهيدية الوعيد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي والعربون .
1 – الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي ( * )
( Promesse de contrat – Contrat preliminaire )
( Avant – contrat )
132 – الصور العملية للوعد بالتعاقد وللاتفاق الابتدائي : الوعد بالتعاقد كثير الوقوع في الحياة العملية : يتوقع شخص حاجته في المستقبل إلى ارض بجوار مصنعه أو منزله ، أو هو الآن في حاجة إليها ولكن لا يستطيع شراءها فوراً ، فيكتفي بالتعاقد مع صاحب هذه الأرض على أن يتعهد هذا ببيع الأرض له إذا أبدى رغبته في الشراء في مدة معينة ، فيتقيد صاحب الأرض بالعقد دون أن يتقيد به الطرف الآخر . يقوم المستأجر بإصلاحات هامة في العين المؤجرة ، ويحصل قبل قيامه بهذه الإصلاحات من المالك على وعد ببيع العين له إذا رغب شراءها في خلال مدة الإيجار حتى ينتفع بهذه الإصلاحات انتفاعاً كاملاً . يعد المالك من تسلم الشيء بشرط مذاقه أن يبيعه إياه إذا هو أعلن رغبته في الشراء في مدة معينة ، وهذا ما يسمى ببيع المذاق ( م 422 ) . يؤجر المالك العين ويشترط على المستأجر أن يشتريها إذا هو أبدى رغبته في البيع في خلال مدة الإيجار ، وهذا هو الوعد بالشراء يقابل الوعد بالبيع في الصور المتقدمة . يفتح مصرف حساباً جارياً لعميل قبل أن يقرضه شيئاً ، فيكون هذا وعداً من المصرف بالإقراض عندما يريد العميل أن يقترض . ويلاحظ في كل هذه الصور – الوعد بالبيع والوعد بالشراء والوعد بالإقراض – أن العقد ملزم لجانب واحد هو الواعد ، أما الموعود له فلم يلتزم بشيء .
على أن هناك صوراً أخرى للوعد بالتعاقد يكون فهيا ملزما للجانبين : يريد شخصان التعاقد ولكنهما لا يستطيعان ذلك فوراً . يمنعهما من ذلك مثلا إجراءات لا بد منها في إبرام العقد النهائي كاستخراج مستندات ضرورية أو الحصول على إذن من المحكمة الشرعية أو المحكمة الحسبية أو نحو ذلك . أو يمنعهما ضرورة الكشف عن العقار لتبين ما عسى أن يثقله من الحقوق العينية . أو يمنعهما أن هناك مصروفات كثيرة يقتضيها إبرام العقد النهائي وشهره وهما لا يستطيعان الاضطلاع بها في الحال ( [223] ) . هذه بعض أمثلة من الموانع التي تحول دون إبرام العقد النهائي فوراً . ولكن المتعاقدين قد قرر قرارهما على إبرام العقد ، ويريدان التقيد به منذ الآن ، فيمضيان اتفاقاً ابتدائياً يعد كل منهما فيه الآخر بأن يمضي العقد النهائي في مدة تعين في الاتفاق . وهذا هو الاتفاق الابتدائي ، وهو وعد بالتعاقد ، ولكنه وعد ملزم للجانبين .
ولننظر الآن كيف ينعقد الوعد بالتعاقد ، في صورتيه الملزمة لجانب واحد والملزمة للجانبين ، وما الذي يترتب عليه من الآثار .
أ – كيف ينعقد الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي
133 – الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي ، عقد كامل لا مجرد إيجاب . ولكنه عقد تمهيدي لا عقد نهائي . وعلى هذين الأساسين ترتكز كل القواعد التي سنقررها في هذا الموضوع .
وأول ما يستخلص من ذلك أن الوعد بالتعاقد ، وكذلك الاتفاق الابتدائي ، وسط بين الإيجاب والتعاقد النهائي . وبيان هذا أن الواعد بالتعاقد – بالبيع مثلا – يلتزم بأن يبيع الشيء الموعود ببيعه إذا أبدى الطرف الآخر رغبته في الشراء . وهذا أكثر من إيجاب ، لأنه إيجاب قد اقترن به القبول فهو عقد كامل . ولكن كلا من الإيجاب والقبول لم ينصب إلا على مجرد الوعد بالبيع – أو على بيع تمهيدي في حالة الاتفاق الابتدائي – ولذلك يكون الوعد بالتعاقد ، وكذلك الاتفاق الابتدائي ، مرحلة دون التعاقد النهائي ، وهو خطوة نحوه .
134 – ما الذي يجب الاتفاق عليه في الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي : تنص الفقرة الأولى من المادة 101 من القانون المدني الجديد على أن " الاتفاق الذي يعد بموجبه كلا المتعاقدين أو إحداهما بإبرام عقد معين في المستقبل لا ينعقد ، إلا إذا عينت جميع المسائل الجوهرية للعقد المراد إبرامه ، والمدة التي يجب إبرامه فيها ( [224] ) " . وهذا الحكم نتيجة منطقية من أن كلا من الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي هو خطوة نحو التعاقد النهائي ، فوجب أن يكون السبيل مهيأ لإبرام العقد النهائي بمجرد ظهور رغبة الموعود له في الوعد بالتعاقد الملزم لجانب واحد ، أو بمجرد حلول الميعاد في الاتفاق الابتدائي الملزم للجانبين .
والمسائل الجوهرية للعقد المراد إبرامه هي أركان هذا العقد . فإن كان بيعاً وجب أن يتفق الطرفان على المبيع والثمن ( [225] ) . وإن كان شركة وجب أن يتفقا على المشروع المالي الذي تكونت من اجله الشركة وعلى حصة كل شريك . وإن كان مقايضة وجب أن يتفقا على الشيئين اللذين يقع فيهما التقايض؛ وهكذا . فإذا لم يتم الاتفاق على جميع هذه المسائل ، فإن الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي لا ينعقدان .
وتعيين المدة التي يجب في خلالها إبرام العقد الموعود به ضروري أيضاً لانعقاد الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي . وهذا التعيين قد يقع صراحة على مدة محددة أو قابلة للتحديد ، وقد يقع دلالة كما إذا كان العقد الموعود به لا يجدي تنفيذه بعد فوات وقت معين ، فهذا الوقت هو المدة التي يجب في خلالها إبرام هذا العقد . وإذا اتفق الطرفان على أن تكون المدة هي المدة المعقولة ، وكان في عناصر القضية ما ينهض لتحديد هذه المدة ، جاز الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي لأن المدة هنا تكون قابلة للتحديد ، وإذا اختلف الطرفان على تديدها تكفل القاضي بذلك .
135 – الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي في العقود الشكلية : وإذا كان العقد الموعود به عقداً شكلياً ، كالهبة والرهن الرسمي والشركة ، فإن الشكل الذي يعتر ركناً فيه – ورقة رسمية أو ورقة مكتوبة – يعتبر أيضاً ركنا في الوعد بالتعاقد وفي الاتفاق الابتدائي . وهذا ما تقضي به صراحة الفقرة الثانية من المادة 101 ، فهي تنص على أنه " إذا اشترط القانون لتمام العقد استيفاء شكل معين ، فهذا الشكل تجب مراعاته أيضا في الاتفاق الذي يتضمن الوعد بإبرام هذا العقد ( [226] ) " .
فإذا لم يستوف الوعد بالتعاقد أو الاتفاق الابتدائي الشكل المطلوب وقع باطلا ( [227] ) . فالوعد بالرهن الرسمي إذا لم يفرغ في ورقة رسمية كان باطلا ، ولا يجوز إجبار الواعد على تنفيذ وعده تنفيذاً عينياً بأن يجبر على إبرام الرهن الرسمين لأن هذا يقتضي تدخلا شخصياً من الواعد لإتمام رسمية الرهن ، وإجباره على هذا التدخل الشخصي ممتنع . ولا يجوز كذلك أن يقوم الحكم على الواعد بالتنفيذ مقام الرهن الرسمي لأن الوعد بالرهن باطل كما قدمنا ، ولانه لو جاز ذلك لأمكن بطريق ملتو أن يصل الطرفان إلى إبرام رهن رسمي دون ورقة رسمية ، إذ يقتصران على وعد بالتعاقد غير رسمي يصلان به إلى حكم يقوم مقام الرهن الرسمي .
ولكن يجوز أن يؤدي الوعد بالرهن الرسمي غير المفرغ في ورقة رسمية إلى النتيجة الآتية : يعتبر عقداً غير معين ثم بإيجاب وقبول وفقاً لمبدأ سلطان الإرادة ، وتب التزاماً شخصياً في ذمة الواعد . ولما كان هذا الالتزام يتعذر تنفيذه معيبنا ، فلا يبقى إلا التعويض يحكم به على الواعد ، ويجوز أن يؤخذ به حق اختصاص فيؤدي عملا إلى نتيجة قريبة من الرهن الرسمي . كما يجوز الحكم بسقوط اجل القرض الذي كان يراد ضمانه بالرهن ، وأخذ حق اختصاص بمبلغ القرض ( [228] ) .
136 – شروط الانعقاد والصحة في العقد الموعود به ومتى تراعى في الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي : ولما كان الوعد هو خطوة نحو العقد النهائي ، فإن شروط هذا العقد من حيث الانعقاد والصحة قد تكون مطلوبة في عقد الوعد ذاته . ذلك أنه ، كما قدمنا ، لا يحول في الوعد دون الوصول إلى العقد النهائي إلا ظهور رغبة الموعود له إذا كان الوعد ملزماً لجانب واحد ، أو حلول الميعاد لإبرام العقد النهائي إذا كان الوعد ملزماً للجانبين ( أي اتفاقا ابتدائياً ) .
ويترتب على ذلك أن الوعد إذا كان ملزماً للجانبين ، فإن الأهلية المطلوبة لإبرام العقد النهائي في كل من الطرفين تكون مطلوبة أيضاً في الاتفاق الابتدائي . أما إذا كان الوعد ملزماً لجانب واحد ، فتقدر الأهلية بالنسبة إلى الواعد وقت الوعد ، فيجب أن يكون أهلاً للتعاقد النهائي في هذا الوقت حتى لو فقد الأهلية وقت التعاقد النهائي بأن حجر عليه مثلا ( [229] ) . وعيوب الإرادة بالنسبة إلى الواعد تقدر وقت الوعد أيضاً لأنه لا يصدر منه رضاء بعد ذلك إذ أن التعاقد النهائي يتم بمجرد ظهور رغبة الموعود له . أما اهلاية الموعود له فتقدر وقت التعاقد النهائي لا وقت الوعد ، فيصح أن يكون قاصراً وقت الوعد بشرط أن تتوافر فيه الأهلية وقت ظهور رغبته ، ذلك لأنه ل يلتزم بشيء وقت الوعد وإنما يلتزم عند التعاقد النهائي . على أنه يجب أن تتوافر فيه أهلية التعاقد – أي التمييز – وقت الوعد لأن الوعد عقد كامل كما قدمنا وهو أحد طرفيه . أما عيوب الإرادة فتقدر بالنسبة إليه وقت الوعد ووقت التعاقد النهائي معاً ، إذ أنه يصدر منه رضاء في كل من هذين الوقتين ، فيجب أن يكون رضاؤه في كل منهما صحيحاً .
وسواء كان الوعد ملزماً لجانب واحد أو ملزماً للجانبين فإن مشروعية المحل والسبب يكفي توافرها وقت التعاقد النهائي ، حتى إذا لم تكن متوافرة وقت الوعد .
4 - الآثار التي تترتب على الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي
137 - مرحلتان يفصلهما حلول الميعاد أو ظهور الرغبة : إذا انعقد الوعد صحيحاً على النحو الذي قدمناه ، فإن الأثر الذي يترتب عليه يجب أن نميز فيه بين مرحلتين . فإذا كان الوعد ملزماً للجانبين ( اتفاقاً ابتدائياً ) فإن حلول الميعاد المضروب لإبرام العقد النهائي هو الذي يفصل ما بين هاتين المرحلتين . أما إذا كان الوعد ملزماً لجانب واحد فإن الذي يفصل بينهما هو ظهور رغبة الموعود له في التعاقد النهائي .
138 – قبل حلول الميعاد أو ظهور الرغبة : ففي المرحلة التي تسبق حلول الميعاد أو ظهور الرغبة لا يكسب الوعد إلا حقوقاً شخصية ولا يرتب إلا التزامات ، حتى لو كان التعاقد النهائي من شأنها أن ينقل حقاً عينياً كما في البيع .
يتبين ذلك في الاتفاق الابتدائي ( الوعد الملزم للجانبين ) ، فإن كلا من الطرفين يكون ملزما ًن في المرحلة التي تسبق حلول الميعاد المضروب لإبرام العقد النهائي ، بإبرام هذا العقد عند حلول الميعاد ، وهذا التزام بعمل . ويتبين ذلك أيضاً في الوعد الملزم لجانب واحد ، فإن الواعد وحده يترتب في ذمته التزام شخصي أن يقوم بوعده عند ظهور رغبة الموعود له ، وهذا أيضاً هو التزام بعمل ، أما الموعود له فلا يلتزم بشيء .
فإذا كان العقد النهائي المراد إبرامه هو عقد بيع ، وتم اتفاق ابتدائي ملزم للجانبين على عقده ، أو تم وعد ملزم لجانب واحد ، فإن الموعود له بالبيع في الحالتين لا يكسب في هذه المرحلة إلا حقاً شخصياً في ذمة الواعد ، ولا تنتقل إليه ملكية الشيء الموعود ببيعه . ويترتب على ذلك أمران لا يخلوان من أهمية عملية :
( أولاً ) يبقى الواعد مالكاً للشيء . فله أن يتصرف فيه إلى وقت التعاقد النهائي ، ويسرى تصرف الواعد في حق الموعود له متى توافرت الشروط المتعلقة بالشهر بالنسبة إلى العقار . فإذا باع العين وسجل البيع ، فليس للموعود له إلا الرجوع بتعويض على الواعد .
( ثانياً ) إذا هلك الشيء قضاء وقدراً تحمل الواعد تبعة هلاكه ، لا لأنه لم يسلمه إلى المتعاقد الآخر فحسب كما في العقد النهائي ، بل أيضاً لأنه لا يزال المالك . ولكنه لا يكون مسئولا عن الضمان نحو الموعود له إذ المفروض أن الشيء قد هلك قضاء وقدراً ( [230] ) .
139 - بعد حلول الميعاد أو ظهور الرغبة : أما المرحلة الثانية فتحل . في الاتفاق الابتدائي الملزم للجانبين ، بحلول الميعاد المحدد لإبرام العقد النهائي . فإذا حل هذا الميعاد التزم كل من الطرفين بإجراء العقد النهائي ، وجاز إجباره على التنفيذ عيناً على النحو الذي سنبينه فيما يلي . ومتى وقع التعاقد النهائي التزم كل من المتعاقدين بأحكامه ( [231] ) .,
وتحل المرحلة الثانية في الوعد الملزم لجانب واحد بظهور رغبة الموعود له في إبرام العقد الموعود به وذلك في خلال المدة المتفق عليها . فإذا لم تظهر هذه الرغبة قبل انقضاء المدة سقط الوعد بالتعاقد . أما إذا ظهرت ، صراحة أو ضمناً كأن تصرف الموعود له في الشيء الموعود ببيعه إياه . فإن التعاقد النهائي يتم بمجرد ظهور هذه الرغبة ولا حاجة لرضاء جديد من الواعد ( [232] ) ويعتبر التعاقد النهائي قد تم وقت ظهور الرغبة لا من وقت الوعد .
وإذا اقتضى إبرام العقد النهائي تدخلا شخصياً من الواعد ، في حالتي الوعد الملزم للجانبين والوعد الملزم لجانب واحد ، كما إذا كان هذا العقد بيعاً واقعاً على عقار ولزم التصديق على إمضاء البائع تمهيداً للتسجيل ، فامتنع البائع عن ذلك ، جاز استصدار حكم ضده ، وقام الحكم متى حاز قوة الشيء المقضي مقام عقد البيع ، فإذا سجل انتقلت ملكية العقار إلى المشتري . ويستثنى من هذه القاعدة العقد الشكلي إذا لم يكن الوعد به قد استوفى الشكل المطلوب ، فقد قدمنا أن الحكم فيه لا يقوم مقام العقد ، بل يقتصر القاضي على الحكم بالتعويض . أما إذا كان الوعد بعقد شكلي قد استوفى الشكل الواجب ، فإن الحكم في هذه الحالة يقوم مقام العقد . وهذه الأحكام نص عليها القانون المدني الجديد صراحة في المادة 102 ، فهي تقضي بأنه " إذا وعد شخص بإبرام عقد ثم نكل وقاضاه المتعاقد الآخر طالبا تنفيذ الوعد ، وكانت الشروط اللازمة لتمام العقد وبخاصة ما يتعلق منها بالشكل متوافرة ، قام الحكم متي حاز قوة الشيء المقضي به مقام العقد ( [233] ) " .
2 - العربون
( Les arrhes )
140 – العربون ودلالته في القوانين الأجنبية : يتفق أحياناً أن يدفع أحد المتعاقدين للأخر عند إبرام العقد مبلغاً من المال – يكون عادة من النقد – يسمى العربون . وأكثر ما يكون ذلك في عقد البيع وفي عقد الإيجار ، فيدفع المشتري للبائع أو المستأجر للمؤجر جزءاً من الثمن أو من الأجرة . ويكون غرض المتعاقدين من ذلك إما حفظ الحق لكل منهما في العدول عن العقد بأن يدفع من يريد العدول قدر هذا العربون للطرف الآخر ، وإما تأكيد العقد والبت فيه عن طريق البدء في تنفذه بدفع العربون .
وقد انقسمت القوانين الأجنبية بين هاتين الدلالتين المتعارضتين . فالقوانين اللاتينية بوجه عام تأخذ بدلالة العدول ( [234] ) ، أما القوانين الحرمانية فتأخذ بدلالة البت ( [235] ) . وغنى عن البيان أن كلتا الدلالتين قابلة لإثبات العكس ، فإذا تبين من اتفاق المتعاقدين أو من الظروف أن المقصود من العربون هو غير ما يؤخذ من دلالته المفروضة وجب الوقوف عند ما أراده المتعاقدان .
141 – العربون في القانون المدني القديم : لم يرد نص عن هذه المسألة في القانون المدني القديم ، فكان القضاء المصري يتردد بين الدلالتين ( [236] ) . وكان في ذلك يأخذ بنية المتعاقدين ( [237] ) . ويفسر هذه النية عند غموضها في ظل العرف الجاري . والظاهر أن العرف في مصر يميزيين البيع والإيجار . ففي البيع تكون دلالة العربون في العقد الابتدائي جواز العدول وفي العقد النهائي التأكيد والبت ( [238] ) . أما في الإيجار فالعربون دليل على التأكيد والبت لا على جواز العدول ، ويعتبر تعجيلا لجزء من الأجرة تنفيذاً للعقد .
142 – العربون في القانون المدني الجديد : اخذ القانون المدني الجديد ، حسما للخلاف والتردد ، بدلالة جواز العدول . ومن هنا كان العقد المقترن بعربون مرحلة غير باتة في التعاقد النهائي ، إذ يجوز العدول عنه .
وقد نصت المادة 103 من القانون الجديد على ما يأتي :
1 - دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه ، إلا إذا قضي الاتفاق بغير ذلك .
2 - فإذا عدل من دفع العربون وقت ، فقده . وإذا عدل من قبضه ، رد ضعفه . هذا ولو لم يترتب على العدول أي ضرر ( [239] ) " .
ويتبين من هذا النص أنه إذا دفع عربون وقت إبرام العقد ، ولم يتفق المتعاقدان صراحة أو ضمناً على أنه إنما دفع لتأكيد البتات في التعاقد ، كان دفعه دليلا على أن المتعاقدين ارادا أن يكون لكل منهما الحق في العدول عن العقد ، يستوى في ذلك البيع والإيجار وأي عقد آخر . فإذا لم يعدل أحد منهما عن العقد في خلال المدة التي يجوز له فيها العدول ، أصبح العقد باتاً ، واعتبر العربون تنفيذاً جزئياً له ، ووجب استكمال التنفيذ . أما إذا عدل أحد المتعاقدين عنه في المدة التي يجوز له فيها ذلك ، وجب على من عدل أن يدفع للطرف الآخر قدر العربون جزاء العدول . فإذا كان هو الذي دفع العربون فإنه يفقده ، ويصبح العربون حقاً لمن قبضه . أما إذا كان الطرف الذي عدل هو الذي قبض العربون ، فإنه يرده ويرد مثله ، أي يرد ضعفيه ( [240] ) ، للطرف الآخر ، حتى يكون بذلك قد دفع قيمة العربون جزاء عدوله عن العقد . ويلاحظ أن النص يرتب التزاماً بدفع قيمة العربون في ذمة الطرف الذي عدل عن العقد ، لا تعويضاً عن الضرر الذي أصاب الطرف الآخر من جراء العدول ، فإن الالتزام موجود حتى لو لم يترتب على العدول أي ضرر كما هو صريح النص ، بل تفسيراً لنية المتعاقدين ، فقد فرض المشرع أن المتعاقدين أرادا إثبات حق العدول لكل منهما في نظير الالتزام بدفع قدر العربون فجعلا العربون مقابلا لحق العدول . وفي هذا يختلف العربون عن الشرط الجزائي ، فإن هذا الشرط تقدير اتفق عليه المتعاقدان لقيمة التعويض عن الضرر الذي ينشأ عن الإخلال بالعقد ، ومن ثم جاز للقاضي تخفيض هذا التقدير إذا كان مبالغاً فيه إلى درجة كبيرة ، بل جاز له إلا يحكم به أصلاً إذا لم يلحق الدائن أي ضرر . وسيأتي بيان ذلك عند الكلام في الشرط الجزائي ( [241] ) .
أما إذا اتفق المتعاقدان صراحة أو ضمناً على أن دفع العربون إنما كان لتأكيد العقد لا لإثبات حق العدول ، وجبت مراعاة ما اتفقا عليه . فلا يجوز لأحد منهما العدول عن العقد ، ولكل منهما مطالبة الآخر بتنفيذه . ويعتبر العربون تنفيذا جزئياً يجب استكماله . وتجري على العقد الذي أبرم القواعد العامة التي تجري على سائر العقود من جواز المطالبة بالتنفيذ العيني أو بالتعويض أو بالفسخ . وإذا فسخ العقد وترتب على الفسخ تعويض ، فليس من الضروري أن يقدر التعويض بقدر العربون ، فقد يكون أكثر أو أقل بحسب جسامة الضرر .
المبحث الثاني
صحة التراضي
143 – الأهلية وعيوب الإرادة : كل ما قدمناه إنما هو في وجود التراضي . ولا يكفي أن يكون التراضي موجوداً ، بل يجب أيضاً أن يكون صحيحاً . والتراضي لا يكون صحيحاً إلا إذا كان صادراً من ذي أهلية ولم نكن إرادة أحد المتعاقدين مشوبة بعيب ( [242] ) . وعيوب الإرادة هي الغلط والتدليس والإكراه والاستغلال .
ونبدأ بالكلام في الأهلية ، ثم في عيوب الإرادة .
المطلب الأول
الأهلية ( * )
( La capacite )
144 – القانون القديم والقانون الجديد : اقتصر القانون القديم في الأهلية على الإحالة إلى قانون الأحوال الشخصية بعد أن ميز بين الأهلية المقيدة والأهلية المطلقة ( م 129 – 130 / 189 – 190 قديم ) ، ثم ذلك أن الجزاء مع نقص الأهلية هو أبطال العقد ( م 131 – 132 / 191 – 192 قديم ) .
أما القانون الجديد فقد عرض لأحكام الأهلية في شيء من التفصيل ، فاشتركت نصوصه مع نصوص قانون المحاكم الحسبية ( قانون رقم 99 لسنة 1947 الصادر في 13 يوليه سنة 1947 ) في كثير من الأحكام التي تطبق على جميع المصريين ، مسلمين أو غير مسلمين ، وهذا شطر من قانون الأحوال الشخصية تم توحيده للمصريين كافة . أما الأجانب فتطبق عليهم قوانين الجنسيات التي ينتمون إليها لأن الأهلية تعتبر من الأحوال الشخصية ( م 11 جديد ) ( [243] ) .
ونبحث في ايجاز النظرية العامة في الأهلية ، ثم ننتقل إلى الأحكام التي وردت عنها في القانون الجديد .
1 – النظرية العامة في الأهلية
145 – أهلية الوجوب : يميز الفقهاء بين أهلية الوجوب ( capacite de jouissance ) وأهلية الأداء ( capacite d'exercice ) .
ويعرف علماء أصول الفقه الإسلامي أهلية الوجوب بأنها صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه . وأهلية الوجوب بهذا التعريف هي في الواقع الشخص ذاته منظوراً إليه من الناحية القانونية . فالشخص ، سواء كان شخصاً طبيعاً أو شخصاً اعتبارياً ، إنما ينظر إليه القانون من ناحية أنه صالح لأن تكون له حقوق وعليه واجبات . فكل إنسان – بعد أن أبطال الرق – شخص قانوني تتوافر فيه أهلية الوجوب . وتثبت له هذه الأهلية من وقت ميلاده ، بل وقبل ذلك من بعض الوجوه عندما يكون جنيناً ، إلى وقت موته ، بل وبعد ذلك إلى حين تصفية تركته وسداد ديونه . وكذلك الشخص الاعتباري شخص قانوني تتوافر فيه أهلية الوجوب ، لأن الشخصية الاعتبارية ليست في الواقع إلا القابلية لامتلاك الحقوق وتحمل الواجبات .
فإذا انعدمت أهلية الوجوب انعدمت الشخصية معها ، وذلك كالجنين يولد ميتاً ، وكالميت بعد سداد ديونه ، وكجماعة من الناس ليست له شخصية معنوية ، وكالشركة بعد أن تصفى ، وكالرقيق في القوانين التي كانت تبيح الرق ، وكمن يحكم عليه بالموت المدني في القوانين التي كانت تبيح ذلك ، وكالراهب في قوانين بعض الطوائف الدينية ( [244] ) .
146 – أهلية الأداء : وأهلية الأداء هي صلاحية الشخص لاستعمال الحق . ويقع أن تتوافر للشخص أهلية الوجوب دون أهلية الأداء ، فيكون مستمتعاً بالحق ، وهذه هي أهلية الوجوب ، دون أن يستطيع استعماله بنفسه ، وهذه هي أهلية الأداء . ويتبين من ذلك أنه يمكن فصل أهلية الوجوب عن أهلية الأداء فصلا تاماً . والذي يعنينا هنا هو أهلية الأداء ، فإذا أطلقنا الأهلية كانت هي المقصودة .
ويمكن تقسيم العقود من حيث الأهلية إلى أقسام أربعة : 1 – عقود اغتناء ، وهي عقود يغتني من يباشرها دون أن يدفع عوضاً لذلك كالهبة بالنسبة إلى الموهوب له . 2 – عقود إدارة ، وهي عقود ترد على الشيء لاستغلاله كالايجار بالنسبة إلى المؤجر . 3 – عقود تصرف ، وترد على الشيء للتصرف فيه بعوض كالبيع بالنسبة إلى كل من البائع والمشتري . 4 – عقود تبرع ، وترد على الشيء للتصرف فيه بغير عوض كالهبة بالنسبة إلى الواهب .
فمن توافرت فيه الأهلية كاملة كان صالحاً لمباشرة هذه الأقسام الأربعة من العقود . ومن كان ناقص الأهلية فهو لا يصلح إلا لمباشرة بعض هذه الأقسام ، كالصبي المميز يصلح لمباشرة عقود الاغتناء وعقود الإدارة ، ولا يصلح وحده لمباشرة عقود التصرف ، ولا يصلح أصلاً لمباشرة عقود التبرع . وقد تكون الأهلية معدومة كما هي حال الصبي غير المميز ، فهو لا يصلح لمباشرة أي قسم من هذه الأقسام الأربعة .
147 – تحميص الأهلية بتمييزها عن غيرها مما يلتبس بها : الأهلية مناطها التمييز ، لأن الإرادة لا تصدر إلا عن تمييز فمن كان كامل التمييز كان كامل الأهلية ، ومن نقص تمييزه كانت أهليته ناقصة ، ومن انعدم تمييزه انعدمت أهليته .
ويجب التفريق بين الأهلية والولاية على المال . فالأهلية هي ما عرفنا . أما الولاية على المال فهي نفاذ الأعمال القانونية على مال الغير . مثل ذلك الولي والوصي والقيم والوكيل عن الغائب ، كل هؤلاء لهم الأولية على مال الصغير والمحجور والغائب ، فلا يقال إن الولي له أهلية التصرف في مال الصغير ، بل يقال إن له ولاية التصرف في هذا المال . فالولاية صلاحية بالنسبة إلى مال الغير ، أما الأهلية فصلاحية بالنسبة إلى مال الشخص نفسه .
كذلك يجب التفريق بين عدم الأهلية وعدم قابلية المال للتصرف . فالقاصر غير أهل للتصرف في ماله ، ويرجع ذلك لنقص في التمييز عنده . أما من وقف ماله فلا يستطيع التصرف فيما وقفه ، لا لنقص في الأهلية عنده راجع إلى نقص في التمييز ، بل لعدم قابلية المال الموقوف ذاته للتصرف .
ويجب التفريق أخيراً بين عدم الأهلية والمنع من التصرف . فقد يمنع شخص من التصرف لمصلحة مشروعة ، ولا يرجع ذلك لنقص في التمييز عند الشخص الممنوع كما في نقص الأهلية ، ولا لعدم قابلية المال للتصرف . مثل ذلك منع الشخص من أن يبيع ماله في مرض الموت إلا في حدود معينة ، وقد روعيت في ذلك مصلحة الورثة ، ومنع الزوجة في بعض الشرائع من التصرف إلا بإذن زوجها ، وقد روعيت في ذلك مصلحة الشركة المالية ما بين الزوجين ورئيسها الزوج . فإذا زال المانع صح التصرف ، كما إذا اجازت الورثة في الحالة الأولى أو انفصمت عرى الزوجية في الحالة الثانية . ويلاحظ أن المنع من التصرف يلحق الشخص ، أما عدم القابلية للتصرف فيلحق المال ( [245] ) .
148 – الأصل في الشخص أن يكون ذا أهلية : والمفروض في الشخص أن يكون كامل الأهلية ما لم يسلب القانون أهليته أو يحد منها . وهذا ما قضت به المادة 109 إذ نصت على أن " كل شخص أهل للتعاقد ما لم تسلب أهليته أو يحد منها بحكم القانون ( [246] ) " .
فعبء إثبات عدم الأهلية يقع على من يدعيه ( [247] ) . فإذا نجح في إثبات عدم أهليته كان له أن يبطل العقد الذي صدر منه . ولا يجوز للطرف الآخر أن يحتج بأنه كان يعتقد أنا لمتعاقد معه ذو أهلية ( [248] ) . أما إذا لجأ ناقص الأهلية إلى طرق احتيالية ليخفي نقص الهليته ، فمع أن له أن يطلب إبطال العقد لنقص الأهلية ، إلا أنه يكون مسئولا عن التعويض للغش الذي صدر منه . وهذا ما تقضي به المادة 119 إذ تنص على أنه " يجوز لناقص الأهلية أن يطلب أبطال العقد ، وهذا مع عدم الإخلال بالزامه بالتعويض إذا لجأ إلى طرق احتيالية ليخفى نقص أهليته ( [249] ) " . ولا يكفى لتطبيق هذا النص أن يقتصر ناقص الأهلية على التأكيد بأنه كاملها ، بل يجب أن يستعين ، وهو يؤكد كمال أهليته ، بطرق احتيالية كأن يقدم شهادة ميلاد مزورة ليثبت أنه بلغ سن الرشد . وهذا الذي قضى به النص الصريح في القانون الجديد كان القضاء المصري يعمل به في ظل القانون القديم تطبيقاً للقواعد العامة ( [250] ) .
149 – أحكام الأهلية من النظام العام : وأحكام الأهلية من النظام العام ، فلا يجوز أن يعطي شخص أهلية غير متوافرة عنده ، ولا أن يوسع عليه فيما نقص عنده منها . كما لا يجوز الحرمان من أهلية موجودة أو الانتقاص منها . وكل اتفاق على شيء من ذلك يكون باطلا . وإلى تشير المادة 48 من القانون الجديد إذ تنص على أنه " ليس لأحد النزول عن أهليته ولا التعديل في أحكامها " .
2 – أحكام الأهلية
في القانون المدني الجديد وقانون المحاكم الحسبية
150 – العوامل التي تتاثر بها الأهلية : لما كانت أهلية الأداء مناطها التمييز كماقدمنا ، فهي تتأثر بالسن دائماً . وقد تتأثر بعوارض تعق أو لا تقع في شأنها أن تؤثر في التمييز ، كالجنون والعتة والغفلة ( [251] ) .
أ – تأثر الأهلية بالسن
151 – الأدوار الطبيعية في حياة الإنسان : الأدوار الطبيعية التي يمر بها الإنسان من وقت أن يولد إلى أن يموت ادوار ثلاثة : 1 – من وقت ولادته إلى سن التمييز 2 – من سن التمييز إلى سن البلوغ . 3 – من سن البلوغ إلى الموت .
152 – الصبي غير المميز : تقدر سن التمييز بسبع سنوات . وكل من لم يبلغ السابعة يعتبر فاقداً للتمييز معدوم الأهلية ( م 45 فقرة 2 ) . وقد نصت المادة 110 على أنه " ليس للصبي غير المميز حق التصرف في ماله ، وتكون جميعه تصرفاته باطلة ( [252] ) " . فالصبي غير المميز لا يستطيع أن يباشر أي عقد . وليس هذا مقصوراً على عقود التبرع وعقود التصرف وعقود الإدارة ، بل يمتد أيضاً إلى عقود الاغتناء ، فلا يستطيع الصبي غير المميز أن يقبل الهبة لأنه فاقد التمييز ، فلا تكون لارادته اثر .
وتثبت الولاية على ماله لوليه ثم لوصيه .
وولى الصغير هو الأب ثم الجد الصحيح . وبهذا تقضي المادة 7 من قانون المحاكم الحسبية إذ تنص على أن " للأب ثم للجد الصحيح ( [253] ) الولاية على مال القاصر ، وعليه القيام بها ، ولا يجوز أن يتنحى عنها إلا بإذن المحكمة " . فإذا لم يكن للصغير ولي ، ولم يعين الأب وصياً مختاراً ( [254] ) ، تعين المحكمة وصياً ، وهذا ما تقضي به المادة 15 من قانون المحاكم الحسبية إذ تنص على أنه " إذا لم يكن للقاصر أو الحمل المستكن وصى مختار تعين المحكمة وصياً " .
أما الحدود التي يتصرف في نطاقها الولي والوصي في مال القاصر فمرسومة في قانون المحاكم الحسبية وفي قواعد الشرعية الإسلامية . وإلى هذا تشير المادة 118 من القانون المدني الجديد إذ تنص على أن " التصرفات الصادرة من الأولياء والأوصياء والقوات تكون صحيحة في الحدود التي يرسمها القانون ( [255] ) " . وكذلك تنص المادة 47 من هذا القانون على أنه " يخضع فاقدو الأهلية وناقصوها بحسب الأحوال لأحكام الولاية أو الوصاية أو القوامة بالشروط ووفقاً للقواعد المقررة في القانون " .
فللولى أن يباشر عن الصغير أهلية الاغتناء وأهلية الإدارة وأهلية التصرف ، حتى بالغبن اليسير ، ولكن الغبن الفاحش لا يجوز . أما أهلية التبرع فلا يستطيع الولى أن يباشرها ، إلا أن يكون التبرع لأداء واجب إنساني أو عائلي وأذنت به المحكمة ، ( أنظر المادة ) من قانون المحاكم الحسبية ) . ويجوز للمحكمة أن تحد من ولاية الولي أو أن تسلبه إياها " إذا أصبحت أموال القاصر في خطر بسبب سوء تصرف الولي أو لأي سبب آخر أو خيف عليها منه " ( م 10 من قانون المحاكم الحسبية ) .
وولاية الوصى – اختاره الأب أو أقامه القاضي – أضيق من ولاية الولى . فهو يباشر عن الصغير أهلية الاغتناء فيقبل عنه الهبات ، إلا إذا كانت مقترنة بشرط فيجب إذن المحكمة في القبول أو الرفض . ويباشر أهلية الإدارة ، ولكن لا بد من إذن المحكمة : في إيجار عقار القاصر لمدة أكثر من ثلاثة سنوات في الأراضي الزراعية ولمدة أكثر من سنة في المباني ، وفي إيجار عقار القاصر لمدة تمتد إلى ما بعد بلوغه سن الرشد لأكثر من سنة ، وفي استثمار الأموال ، وتصفيتها ، واقتراض المال للقاصر ، وفي الإنفاق من مال القاصر على من تجب عليه نفقهم إلا إذا كانت النفقة مقضياً بها من جهة ، وفي الوفاء بالالتزامات التي تكون على التركة أو على القاصر ما لم يكن قد صدر بها حكم واجب التنفيذ ، وفيما يصرف في تزويج القاصر . ( أنظر في كل ذلك المادة 20 من قانون المحاكم الحسبية ) . ويباشر أهلية التصرف ولكن لا بد دائماً من إذن المحكمة ، سواء كان التصرف في أموال القاصر بالبيع أو الشراء أو المقايضة أو الشركة أو الإقراض أو الرهن أو أي نوع آخر من أنواع التصرفات الناقلة للملكية أو المرتبة لحق عيني . ويدخل في ذلك تحويل الديون التي تكون للقاصر ، وقبول الحوالة عليه . والتنازل عن التأمينات أو إضعافها . والصلح والتحكيم ، ورفع الدعاوى إلا ما يكون في تأخير رفعها ضرر بالقاصر أو ضياع حق له . ( أنظر في كل ذلك المادة 20 من قانون المحاكم الحسبية ) . أما أهلية التبرع فلا يستطيع الوصى أن يباشرها ولو بإذن المحكمة ، وإلى هذا تشير المادة 18 من قانون المحاكم الحسبية إذ تنص على أن " تصرف الوصى في مال القاصر بطريق التبرع الباطل " .
153 – الصبي المميز : يعتبر الصبي مميزاً من وقت بلوغه سن التمييز أي سن السابعة إلى وقت بلوغه سن الرشد أي سن الإحدى والعشرين . وتنص المادة 6 على أنه " كل من بلغ سن التمييز ولم يبلغ سن الرشد ، وكل من بلغ سن الرشد وكان سفيهاً أو ذا غفلة ، يكون ناقص الأهلية وفقاً لما يقرره القانون " ويقرر القانون في المادة 111 أحكام تصرفات الصبي المميز على النحو الآتي :
" إذا كان الصبي مميزا كانت تصرفاته المالية صحيحة متى كانت نافعة نفعا محضا ، وباطلة متى كانت ضارة ضرراً محضاً " .
2 - أما التصرفات المالية الدائرة بين النفع والضرر ، فتكون قابلة للأبطال لمصلحة القاصر ، ويزول حق التمسك بالأبطال إذا أجاز القاصر التصرف بعد بلوغه سن الرشد ، أو إذا صدرت الإجازة من ولية أو من المحكمة يحسب الأحوال وفقا للقانون ( [256] ) " .
ويتبين من ذلك أن الصبي المميز له أهلية الاغتناء ، فيستطيع قبول الهبات لأن ذلك نافع له نفعاً محضاً . وليست له أهلية التبرع ولا يستطيع أحد أن يباشرها عنه إلا في الحدود التي قدمناها ، فلا يستطيع أن يهب شيئاً من ماله لأن ذلك ضار به ضرراً محضاً . أما أهلية الإدارة وأهلية التصرف ، وهي الأعمال الدائرة بين النفع والضرر ، فلا يملكها ، ولكن يباشرها عنه الولى أو الوصي في الحدود المتقدم ذكرها في حالة الصبي غير المميز .
ويستثنى من الأحكام المتقدم ذكرها الصبي المميز إذا بلغ الثامنة عشرة من عمره . فقد نصت المادة 112 على أنه " إذا بلغ الصبي المميز الثامنة عشرة من عمره وأذن له في تسلم أمواله لإدارتها ، أو تسلمها بحكم القانون ( [257] ) ، كانت أعمال الإدارة الصادرة منه صحيحة في الحدود التي رسمها القانون ( [258] ) " . والقانون هنا هو قانون المحاكم الحسبية . وقد نص في المادة الثانية منه على ما يأتي : " ليس للقاصر أن يتسلم أمواله قبل بلوغ سن الرشد ، ومع ذلك فإذا بلغ الثامنة عشرة من عمره جاز له بإذن من المحكمة أن يتسلم كل هذه الأموال أو بعضها لإدارتها بعد سماع أقوال الوصي . وإذا رفضت المحكمة الإذن لا يجوز له أن يجدد طلبه قبل مضى سنة من وقت صدور القرار النهائي بالرفض " . وتكفلت المادة الثالثة برسم الحدود التي يتصرف في نطاقها الصبي المأذون ، فنصت على أن " للقاصر المأذون له أن يباشر أعمال الإدارة بما في ذلك أعمال الصيانة الضرورية لحفظ الأموال المسلمة إليه . ويدخل في أعمال الإدارة كل عمل من أعمال التصرف تقتضيه هذه الإدارة كبيع الحاصلات وشراء ما يلزم للزراعة ( [259] ) . ولا يجوز له بغير إذن من المحكمة أن يزاول أعمال التجارة أو أن يؤجر المباني أو الأراضي الزراعية لمدة تزيد على سنة . وكذلك ليس له أن يستوفى حقاً أو أن يوفى ديناً إلا إذا ترتبا على أعمال اداراته . ولا يجوز له أن يتصرف في صافي دخله إلا بالقدر اللازم لسد نفقاته ومن تلزمه نفقتهم قانوناً . ويعتبر القاصر المأذون له كامل الأهلية فيما أذن له به وفي التقاضي فيه ( [260] ) " .
ويستثنى كذلك الصبي المميز في إدارة ماله الذي كسبه من عمله الخاص متى بلغ السادسة عشرة . فقد نصت المادة السادسة من قانون المحاكم الحسبية على أن " للقاصر متى بلغ السادسة عشرة الحق في أن يتولى إدارة ماله الذي كسبه من عمله الخاص . ولا يكون ضامناً لديونه الناشئة عن هذه الإدارة إلا بقدر ذلك المال دون غيره من أمواله الأخرى " .
154 – البالغ الرشيد : تقضي المادة 44 من القانون المدني الجديد بأن " 1 - كل شخص بلغ سن الرشد متمتعا بقواه العقلية ، ولم يحجر عليه ، يكون كامل الأهلية لمباشرة حقوقه المدنية . 2 - وسن الرشد هي إحدى وعشرون سنة ميلادية كاملة ( [261] ) " . وهذه السن عامة لجميع المصريين ، مسلمين أو غير مسلمين . فمتى بلغ القاصر هذه السن غير مجنون ولا معتوه وغير محكوم عليه باستمرار الولاية أو الوصاية لسبب من أسباب الحجر أصبح رشيداً أي كامل الأهلية . أما إذا كان قبل بلوغه هذه السن قد حكم عليه باستمرار الولاية أو الوصياة لجنون أو عته أو غفلة أو سفه ( [262] ) ، أو لم يحكم عليه ولكنه بلغ السن مجنوناً أو معتوهاً . فتستمر الولاية عليه أو الوصاية يحسب الأحوال ( [263] ) . ويترتب على ذلك أنه إذا بلغ السن وكان ذا غفلة أو سفيهاً ولم يكن قد حكم عليه باستمرار الولاية أو الوصاية للغفلة أو السفه ، فإنه يصبح رشيداً كامل الأهلية ، وإذا أريد الحجر عليه بعد ذلك وجب استصدار حكم بالحجر ، وتختار المحكمة له قيما قد يكون غير الولى أو الوصى .
فإذا بلغ القاصر سن الحادية والعشرين رشيداً كملت أهليته . وكان له بلك أهلية اغتناء وأهلية الإدارة وأهلية التصرف وأهلية التبرع ، يباشر كل ذلك بنفسه . ويسلمه وليه أو وصيه ماله ليكون حر التصرف فيه . وكل دعوى للقاصر على وصيه ( أو للمحجور عليه على قيمه ) تكون متعلقة بأمور الوصاية ( أو القوامة ) تسقط بمضى خمس سنوات من التاريخ الذي انتهت فيه الوصاية ( القوامة ) : أنظر م 36 من قانون المحاكم الحسبية . كذلك يقع باطلا كل تعهد أو مخالصة يحصل عليها الوصي من القاصر الذي بلغ سن الرشد إذا صدرت المخالصة أو التعهد قبل الفصل نهائياً في الحساب ( أنظر المادة 35 من قانون المحاكم الحسبية ) .
على أنه قد يصيب الشخص بعد بلوغه سن الرشد عارض من عوارض الأهلية ، وهي التي سنتكلم عليها فيما يلي .
4 - تأثر الأهلية بعوامل أخرى غير السن
( عوارض الأهلية )
155 – حصر عوارض الأهلية : قد بلغ الإنسان سن الرشد ، ولكن أهليته تتأثر بعد ذلك بعارض يرجع إلى التمييز . والعوارض أربعة : الجنون ، والعته ، والغفلة ، والسفه . ويلاحظ أن السفه إنما هو نقص في التمييز في دائرة التصرفات المالية ، ولذلك اندرج بين عوارض الأهلية .
وسنرى أن من يغيب غيبة منقطعة يقام عنه وكيل ، ومن حكم عليه بعقوبة جنائية ينصب قيم عليه ، ومن أصيب بعاهات معينة يعين له مساعد قضائي . وهذا كله لا يدخل في الأهلية ، لأنه لا يرجع إلى التمييز بل يقوم على أسباب أخرى ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
156 – المجنون : نصت المادة 113 من القانون المدني الجديد على أن " المجنون والمعتوه وذا الغفلة والسفيه تحجر عليهم المحكم ، وترفع الحجر عنهم ، وفقاً للقواعد والإجراءات المقررة في القانون ( [264] ) " . والقانون المقصود هنا هو أيضاً قانون المحاكم الحسبية . وقد قضت المادة 42 منه بأنه " يحكم بالحجر إلى البالغ للجنون أو للعته أو للغفلة أو للسفه ، ولا يرفع الحجر إلا بحكم " . فالمجنون تحجر عليه المحكمة وتنصب له قيما ، إلا إذا كان قد حكم باستمرار الولاية أو الوصاية عليه قبل بلوغه سن الرشد أو بلوغ هذه السن مجنوناً فتبقى ولاية وليه أو وصيه .
وأهلية المجنون معدومة لأنه فاقد التمييز ، وتصرفاته القانونية تقع باطلة لانعدام الإرادة . وإلى هذا تشير المادة 114 من القانون المدني الجديد إذ تنص على ما يأتي :
" 1 - يقع باطلا تصرف المجنون والمعتوه ، إذا صدر التصرف بعد تسجيل قرار الحجر " .
2 - أما إذا صدر التصرف قبل تسجيل قرار الحجر فلا يكون باطلا إلا إذا كانت حالة الجنون أو العته شائعة وقت التعاقد ، أو كان الطرف الآخر على بينة منها ( [265] ) " .
فالمجنون تصرفاته بعد تسجيل الحجر باطلة . وتصرفاته قبل تسجيل الحجر صحيحة ما دامت حالة الجنون غير شائعة وغير معروفة من الطرف الآخر ، فإذا شاعت أو عرفها الطرف الآخر كان التصرف باطلا .
وولاية القيم على المجنون كولاية الوصى على الصغير ، يباشر القيم وحده من التصرفات ما يباشره الوصي وحده ، ويستأذن المحكمة في التصرفات التي يستأذن فيها الوصي ، ولا يستطيع مباشرة التصرفات التي لا يستطيع مباشرة التصرفات التي لا يستطيع مباشرتها الوصي . وكالقيم على المجنون وصيه . أما الولي على المجنون فمثل الولى على الصغير من حيث سعة الولاية .
157 – المعتوه : والمعتوه كالمجنون يحجر عليه وينصب له قيم إذا لم يكن له ولى أو وصى والقيم على المعتوه ووليه ووصيه كالقيم على المجنون ووليه ووصيه من حيث مدى الولاية .
أما المعتوه نفسه فقد يكون غير مميز فتكون أهليته معدومة ، شأنه في ذلك شأن الصغير غير المميز والمجنون . ( [266] ) وقد يكون مميزاً فتكون عنده أهلية الصبي المميز و قد سبق بيان ذلك ( [267] ) .
158 – ذو الغفلة والسفيه : نصت الفقرة الأولى من المادة 115 من القانون المدني الجديد على أنه " إذا صدر تصرف من ذى الغفلة أو من السفيه بعد تسجيل قرار الحجر سري على هذا التصرف ما يسري على تصرفات الصبي المميز من أحكام " . ويتضح من ذلك أن ذا الغفلة والسفيه يحجر عليهما وينصب لهما قيم . وتكون أهليتهما بعد تسجيل قرار الحجر ناقصة كأهلية الصبي المميز ، فتثبت لهما أهلية الاغتناء ، وتتقيد أهلية الإدارة وأهلية التصرف بالقيود التي سبق ذكرها في الصبي المميز ، وتنعدم أهلية التبرع .
واستثنى في أهلية التصرف نوعان من التصرفات هما الوقف والوصية ، فهذان يكونان صحيحين إذا صدرا من السفيه أو ذى الغفلة وأذنته المحكمة فيهما . وتقضي الفقرة الأولى من المادة 116 بهذا الحكم إذ تنص على أن " يكون التصرف المحجور عليه لسفه أو غفلة بالوقف أو بالوصية صحيحاً متى أذنته المحكمة في ذلك " . كذلك يجوز للمحجور عليه للسفه أو الغفلة أن يتسلم أمواله كلها أو بعضها لإدارتها على النحو الذي رأيناه في الصبي المميز الذي بلغ الثامنة عشرة وفي الحدود التي سبق ذكرها هناك . وإذا كانت الفقرة الثانية من المادة 116 مقصورة في هذا الصدد على السفيه إذ تنص على أن " تكون أعمال الإدارة الصادرة من المحجور عليه لسفه المأذون له بتسلم أمواله صحيحة في الحدود التي رسمها القانون " ، فإن المادة 43 من قانون المحاكم الحسبية تشمل كلا من السفيه وذى الغفلة إذ تنص على أنه " يجوز للمحجور عليه للسفه أو الغفلة أن يقف أمواله أو يوصى بها متى أذنته المحكمة بذلك ، وكذلك يجوز له بإذن من المحكمة أن يتسلم أمواله كلها أو بعضها لإدارتها ، فإذا أذنته المحكمة بذلك سرت عليه أحكام المواد 3 و 4 و 5 من هذا القانون ( [268] ) " .
هذا هو حكم تصرفات السفيه وذى الغفلة بعد تسجيل قرار الحجر . أما التصرفات الصادرة قبل تسجيل قرار الحجر فهي في الأصل صحيحة ، لأن انتقاص الأهلية لا يثبت إلا بالحجر . وهذا هو رأي الإمام أبي يوسف ، خلافاً لرأي الإمام محمد الذي يذهب إلى أن الحجر للسفه يثبت بقيام السبب نفسه لا بحكم القاضي . ولا يسري الحجر في حق الغير إلا من وقت تسجيل القرار الصادر به وفقاً للمبادئ العامة . ولا يحتج الغير بعدم علمه بالحجر متى كان القرار مسجلا ( [269] ) .
لكن يقع كثيرا أن السفيه أو ذا الغفلة يتوقع الحجر عليه فيعمد إلى تبديد أمواله بالتصرف فيها إلى من يتواطأ معه على ذلك ، أو أن ينتهز الغير هذه الفرصة فيستصدر منه تصرفات يستغله بها ويبتز أمواله . ففي هاتين الحالتين – حالة التواطؤ وحالة الاستغلال – يكون تصرف السفيه أو ذى الغفلة باطلا إذا كان من أعمال التبرع ، أو قابلا للإبطال إذا كان من أعمال التصرف أو أعمال الإدارة . وهذا ما استقر عليه القضاء المصري في ظل القانون القديم ( [270] ) ، وأكده القانون الجديد في الفقرة الثانية من المادة 115 إذ تنص على ما يأتي : " أما التصرف الصادر قبل تسجيل قرار الحجر فلا يكون باطلا أو قابلا للإبطال إلا إذا كان نتيجة استغلال أو تواطؤ ( [271] ) " .
وينصب القيم على السفيه وذى الغفلة على النحو الذي ينصب به القيم على المجنون والمعتوه أو يعين به الوصى على القاصر . ولا تستمر الولاية أو الوصاية على القاصر إذا بلغ سفيها أو ذا غفلة ، بل يجب الحجر عليه ونصب قيم له كما قدمنا . وولاية القيم على مال السفيه وذى الغفلة كولايته على مال المجنون والمعتوه وكولاية الوصى على مال القاصر ، وقد تقدم ذكر ذلك ( [272] ) .
159 – الغائب والمحكوم عليه بعقوبة جناية : وهناك حالتان تلحقان عادة بالأهلية ، ولكنهما لا يتصلان بها إلا من حيث مظاهر الحجر وإقامة نائب عن المحجور ، وهما حالتا الغائب والمحكوم عليه بعقوبة جناية .
فالغائب ، كما نصت المادة 50 من قانون المحاكم الحسبية ، " هو كل شخص كامل الأهلية لا تعرف حياته أو مماته ، أو تكون حياته محققة ولكنه هجر موطنه راضياً أو مرغماً وحالت ظروف قاهرة دون إدارته شؤونه بنفسه أو بوكيل عنه مدة أكثر من سنة ، وترتب على ذلك أن تعطلت مصالحه أو مصالح غيره " . ويتبين من ذلك أن الغائب شخص كامل الأهلية كما هو صريح النص ، ولكن الضرورة قضت بإقامة وكيل عنه يدير شؤون حتى لا تتعطل مصالحه ومصالح الناس . ويلاحظ أن القانون استعمل لفظ " الغائب " لا لفظ " المفقود " لأن اللفظ الأول ينطوي على معنى اعم من المعنى الذي ينطوي عليه اللفظ الثاني . فالمفقود في الشريعة الإسلامية هو من يختفى بحيث لا يعرف احي هو أم ميت ، أما الغائب فهذا وغيره ممن تكون حياته محققة ولكنه بعد عن موطنه بحيث لم يعد يستطيع أن يدير شؤونه بنفسه . وقد قضت المادة 51 من قانون المحاكم الحسبية بأنه " إذا ترك الغائب وكيلا عاماً تحكم المحكمة بتثبيته متى توافرت فيه الشروط الواجب توافرها في الوصي ، وإلا عينت غيره " . ثم قضت المادة 53 من هذا القانون بأن " يسري على الوكيل عن الغائب حكم المادة 33 من هذا القانون ، وفيما عدا ما استثنى بنص صريح في هذا الفصل يسري على الغيبة ما يسرى على الوصاية من أحكام أخرى " . وقضت المادة 52 من القانون ذاته بأن " تنتهي الغيبة بزوال سببها أو بموت الغائب أو بالحكم من جهة الأحوال الشخصية المختصة باعتباره ميتاً وفقاً لأحكام المرسوم بقانون رقم 52 سنة 1929 " .
أما المحكوم عليه بعقوبة جناية فتقضى أحكام قانون العقوبات ( م 25 ) بأن يكون محجوراً عليه مدة تنفيذ العقوبة ، ويختار قيما تصد عليه المحكمة ، أو يعين القيم المحكمة المدنية الكلية التي يقع في دائرتها محل إقامته إذا لم يختر أحداً . ويتولى القيم إدارة ماله . أما أعمال التصرف فلا بد فيها من إذن المحكمة المدنية وإلا كانت باطلة .
ومن ذلك نرى أن الحجر على المحكوم عليه لا يرجع لنقص أهليته ، فهو كامل الأهلية لأنه كامل التمييز وإنما وقع الحجر عليه لاستكمال العقوبة من جهة ، وللضرورة من جهة أخرى ( [273] ) .
160 - المساعدة القضائية : وقد استحدث قانون المحاكم الحسبية في مصر نظام المساعدة القضائية ( assistance judiciaire ) . ونقله القانون المدني الجديد ، فنص في المادة 117 على ما يأتي :
" 1 - إذا كان الشخص أصم أبكم ، أو أعمي أبكم ، وتعذر عليه بسبب ذلك التعبير عن إرادته ، جاز للمحكمة أن تعين له مساعدا قضائيا يعاونه في التصرفات التي تقتضي مصلحته فيها ذلك " .
" 2 - ويكون قابلا للإبطال كل تصرف من التصرفات التي تقررت المساعدة القضائية فيها ، متي صدر من الشخص الذي تقررت مساعدته قضائيا بغير معاونة المساعد ، إذا صدر التصرف بعد تسجيل قرار المساعدة ( [274] ) " .
أما قانون المحاكم الحسبية فقد نص في المادة 47 على أنه " إذا كان الشخص أصم أبكم ، أو أعمى أصم ، أو أعمى أبكم ، وتعذر عليه بسبب ذلك التعبير عن إرادته ، جاز للمحكمة أن تعين له مساعداً قضائياً يعاونه في التصرفات التي تقتضي مصلحته فيها ذلك " . ونصت المادة 48 من هذا القانون على أنه " يكون قابلا للإبطال كل تصرف من التصرفات التي تقررت المساعة فيها يصدر من الشخص الذي حكم بإقامة مساعد قضائي له بغير معاونة هذا المساعد ، إذا صدر هذا التصرف بعد تسجيل الحكم بتقرير المساعدة " . ونصت المادة 49 من القانون ذاته على أنه " يسري في تعيين المساعد القضائي وفي عزله ما يسري في تعيين القيم وعزله من أحكام . وكذلك تسري على المساعدة الأحكام الأخرى الخاصة بالقوامة " .
ويتبين من مجموع هذه النصوص أن المساعدة القضائية إنما تتقرر لاجتماع عاهتين في الجسم من عاهات ثلاث : العمى ، والبكم ، والصمم . والسبب فيها ليس نقص الأهلية ، فإن التمييز الكامل متوافر عند من تقرر له المساعدة القضائية ، ولكن هو العجز الطبيعي عن التعبير عن الإرادة كما صرحت بذلك النصوص السابق ذكرها .
والمساعدة القضائية تتقرر لتصرف بالذات أو المجموع من التصرفات المعينة ، وينظر في ذلك إلى ظروف من تقررت مساعدته وإلى خطر ما تقررت المساعدة القضائية فيه أو إلى وقته . فإذا وقع تصرف من ذلك بغير معاونة المساعد ، كان التصرف قابلا للإبطال لمصلحة من تقررت له المساعدة ، إذا صدر بعد تسجيل الحكم بتقرير المساعدة .
والمساعد القضائي يعين ويعزل وفقاً للأحكام التي تتبع في تعيين القيم وعزله ، وتسري عليه الأحكام الخاصة بالقوامة .
المطلب الثاني
عيوب الإرادة
( Vices du consentement )
161 – حصر عيوب الإرادة : أشتمل المشروع التمهيدي على نص هو المادة 166 من هذا المشروع ، حذف في المشروع النهائي ، وقد جرى بما يأتي : " لكل من شاب رضاءه غلط أو تدليس أو انتزع رضاؤه بالإكراه أو باستغلال حاجة له أن يطلب أبطال العقد وفقاً للأحكام التالية ( [275] ) " .
ويتبين من ذلك أن عيوب الإرادة هي الغلط والتدليس والإكراه والاستغلال . ولا بد في هذا الصدد من التمييز بني إرادة معيبة وإرادة غير موجودة فالإرادة المعيبة هي إرادة موجودة ، ولكنها صدرت من شخص غير حر في إرادته أو على غير بينة من أمره . فإرادته تعلقت بمحلها تعلقاً حقيقياً ومن ثم فهي موجودة ، ولكنها ما كانت تتعلق به لو أنها كانت على هدى أو كانت مختارة ومن ثم فهي معيبة . أما الإرادة غير الموجودة فمجرد مظهر خارجي يوهم إنها موجودة ، ولكنه في الواقع من الأمر لا ينطوي على إرادة تعلقت بمحلها . وما يصدر من المجنون أو السكران أو الصبي غير المميز لا يعتبر إرادة ، إذ أن أحداً من هؤلاء لا يميز ما يفعل . وكذلك الإشارة الطائشة تصدر عن غير قصد لا يتكون إرادة ، ولو صدرت من شخص عاقل . ويترتب على هذا التمييز الجوهري أن العقد الذي يقوم على إرادة غير موجودة لا يكون له وجود ، أو هو عقد باطل . أما العقد الذي يقوم على إرادة معيبة فهو موجود لأن الإرادة موجودة ، ولكن يجوز للمتعاقد الذي شاب إرادته عيب أن يبطله ، فهو عقد قابل للإبطال . وسنرى تفصيل ذلك فيما يلي .
وتتصل نظرية عيوب الإرادة بنظرية سلطان الإرادة اتصالا وثيقاً . فإرادة الفرد ، ولها المقام الأول في توليد الروابط القانونية وفي ترتيب آثارها ، يجب أن تكون على هدى مختارة ، وإلا فالإرادة المشوبة بعيب من العيوب المتقدمة ليست إرادة صحيحة ، فلا يكون لها سلطان كامل .
ونتولى الآن بحث عيوب الإرادة متعاقبة : الغلط فالتدليس فالإكراه فالاستغلال .
1 – الغلط ( * )
( L ' erreur )
162 – تعريف الغلط : يمكن تعريف الغلط بأنه حالة تقوم بالنفس تحمل على توهم غير الواقع . وغير الواقع أما أن يكون واقعة غير صحيحة يتوهم الإنسان صحتها ، أو واقعة صحيحة يتوهم عدم صحتها . والغلط بهذا التعريف الشامل ينتظم كل أنواع الغلط ، ولا يقف عند نوع معين منها . والذي نريده هنا هو غلط يصيب الإرادة ، فينبغي أن نمحص هذا النوع من الغلط بتمييزه عن غيره من الأنواع الأخرى وبرسم الدائرة التي تحصر نطاقه حتى نستطيع بعد ذلك أن نبين قواعده وأحكامه .
163 – الغلط المانع : وأول نوع من الغلط نستبعده من دائرة بحثنا هو ما يسمى عادة بالغلط المانع ( erreur - obstacle ) . وهو غلط يقع ، طبقاً لنظرية تقليدية في الفقه الفرنسي ، في ماهية العقد ، كما إذا عطى شخص لآخر نقوداً على أنه قرض وأخذها الآخر على إنها هبة ، أو في ذاتية المحل ، كما لو كان شخص يملك سيارتين من صنفين مختلفين فباع احداهما والمشتري يعتقد أنه يشتري الأخرى ، أو في السبب ، كما إذا اتفق الورثة مع الموصي لهم على قسمة العين الشائعة بينهم ثم يتضح أن الوصية باطلة .
وظاهر أن هذا النوع يعدم الإرادة ولا يقتصر على أن يعيبها . ففي الأمثلة التي قدمناها لم تتوافق الإرادتان على عنصر من العناصر الأساسية : ما هية العقد أو المحل أو السبب . فالتراضي إذن غير موجود ، والعقد باطل أي منعدم . وهذا هو الذي يدعونا لاستبعاد الغلط المانع من دائرة البحث ، فهو يتصل بوجود التراضي لا بصحته ، ونحن الآن في صدد صحة التراضي بعد أن فرغنا من الكلام في وجوده .
164 – اختلاف الإرادة الظاهرة عن الإرادة الباطنة : وقد تختلف الإرادة الظاهرة عن الإرادة الباطنة ، فيؤخذ بإحداهما دون الأخرى كما بينا فيما تقدم . والكلام في الإرادتين وفرق ما بينهما ليس كلاماً في عيوب الإرادة ( [276] ) ، بل كلام في الإرادة ذاتها ، أي في وجودها لا في صحتها . فيجب استبعاد هذه المسألة أيضاً من دائرة البحث ( [277] ) .
165 – الغلط في النقل أو في التفسير : والغلط الذي يعنينا بحثه هنا هو الغلط الذي يقع وقت تكون الإرادة ( erreur sur la formation de la volonte ) وهناك غلط لا يعيب الإرادة يجب كذلك استبعاده من دائرة البحث ، وهو غلط يقع في وقت نقل الإرادة إذا نقلت على غير وجهها ، وهذا ما يسمى بالغط في النقل ( erreur de transmission ) ، أو يقع في تفسيرها إذا فهمها من توجهت إليه على غير حقيقتها ، وهذا ما يسمى بالغلط في التفسير ( erreur d'interperetation ) . والفرق بين الغلط الذي يقع وقت تكون الإرادة والغلط الذي يقع في النقل أو في التفسير أن الغلط الأول هو حالة تقوم بنفس من صدرت منه الإرادة ، أما الغلط الآخر فحالة تقوم بنفس من توجهت إليه الإرادة ( [278] ) .
166 – الغلط الذي يعيب الإرادة : ويبقى ، بعد استيعاب ما قدمناه من أنواع الغلط ، الغلط الذي يصيب الإرادة ، وهو الذي يعنينا بحثه ويجب أن نرسم له دائرة واضحة المعالم . فهو من جهة غلط يقع في تكون الإرادة لا في نقلها ولا في تفسيرها ، وهو من جهة أخرى لا يعدم الإرادة كما هو الأمر في الغلط المانع ، ولا يختلط بوجودها ذاته كما هو الأمر في الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة .
وإذا كان الغلط الذي يعيب الإرادة لا يجوز أن يقع على ركن من أركان العقد وإلا اعدم التراضي كما رأينا ، إلا أنه يجب مع ذلك أن يكون غلطاً جوهرياً حتى يعيب الإرادة . ثم أن الغلط هو أمر نفسي يستكن في الضمير ، فوجب لاستقرار التعامل إلا يستقل به المتعاقد الذي وقع في الغلط ، بل يتصل به المتعاقد الآخر على وجه من الوجوه حتى يمكن الاعتداد به .
خلص لنا من ذلك أن الغلط الذي يعيب الإرادة يجب أن يكون : ( أولاً ) غلطاً جوهرياً واقعاً على غير أركان العقد . ( ثانياً ) غلطاً لا يستقل به أحد المتعاقدين بل يتصل به المتعاقد الآخر .
فتتكلم إذن في المسالتين الآتيتين : 1 – متى يكون الغلط جوهرياً وعلى أي شيء يقع . 2 – كيف يتصل المتعاقد الآخر بالغلط ( [279] ) .
أ – متى يكون الغلط جوهرياً وعلى أي شيء يقع
167 – معيار الغلط الجوهري في القانون الفرنسي وكيف تطور من معيار موضوعي إلى معيار ذاتي : ورث الفقه الفرنسي التقليدي عن القانون الفرنسي القديم تقسيم الغلط من حيث تأثيهر في صحة العقد إلى أنواع ثلاثة : غلط يجعل العقد باطلا وهو الغلط المانع الذي سبقت الإشارة إليه ، وغلط يجعل العقد قابلا للإبطال لمصلحة العاقد الذي وقع في الغلط ، وغلط لا يؤثر في صحة العقد . وقد سبق أن بينا الحالات الثلاث التي يكون فيها الغلط مانعاً فيجعل العقد باطلا . أما الغلط الذي يجعل العقد قابلا للإبطال فيكون في حالتين : ( 1 ) غلط يقع في مادة الشيء محل الالتزام الناشيء من العقد ، وهو ما تعبر عنه المادة 1110 من القانون المدني الفرنسي بالغلط الواقع في مادة الشيء ذاتها ( substance meme de la chose ) . ( 2 ) غلط يقع في شخص المتعاقد إذا كانت شخصيته محل اعتبار في العقد . والغلط الذي لا يؤثر في صحة العقد يكون في أحوال أربع : 1 – غلط في وصف لا يتعلق بمادة الشيء محل الالتزام . 2 – غلط في قيمة الشيء محل الالتزام . 3 – غلط في شخص المتعاقد إذا لم تكن شخصيته محل اعتبار في العقد . 4 – غلط في الباعث على التعاقد .
ولكن القضاء في فرنسا لم يأخذ بهذه النظرية التقليدية . وجاري الفقه الحديث القضاء في ذلك . فلم يأخذ بالتقسيم الثلاثي للغلط ، إذ استبعد النوع الأول وهو الغلط الذي يجعل العقد باطلا ، لأنه يتصل بوجود التراضي لا بصحته كما قدمنا . وهدم الحاجز ما بين النوعين الثاني والثالث ، فإن التمييز ما بين هذين النوعين قد قام على قواعد جامدة تضيق بما تقتضيه الحياة العملية ، وخير منها معيار مرن يمكن تطبيقه على الحالات المتنوعة . فمن الغلط ما يقع في قيمة الشيء أو في الباعث على التعاقد ومع ذلك يؤثر في صحة العقد لأنه كان هو الدافع إلى التعاقد . ومن الغلط ما يقع في مادة الشيء ومع ذلك لا يؤثر في صحة العقد لأنه لم يكن هو الدافع . فالعبرة إذن ليست بان الغلط وقع في مادة الشيء أو في قيمته ، بل العبرة بأن الغلط كان غلطاً جوهرياً ( essentielle ) ، أي بأنه كان هو الدافع الرئيسي إلى التعاقد ( la raison principale et determinte ) فلا تكون هناك حالات محددة يؤثر فيها الغلط في صحة العقد وحالات أخرى محددة كذلك لا يؤثر فيها الغلط ، بل تهدم هذه القواعد الضيقة ، وتزول الحواجز ما بين حالات وأخرى ، ونستبدل معياراً بقاعدة ، ويصبح الغلط مؤثراً في صحة العقد متى كان هو الدافع إلى التعاقد ، وذلك في جميع الحالات ، تبعاً لملابسات كل حالة وظروفها الخاصة .
وتطور الفقه الفرنسي من الأخذ بمعيار موضوعي إلى الأخذ بمعيار ذاتي نهاه واضحاً في تفسير عبارة " الغلط في مادة الشيء ذاتها " الواردة في المادة 1110 من القانون الفرنسي . فقد بدا الفقهاء الفرنسيون في العهد الأول يفسرون هذه العبارة تفسيراً حرفياً ، ويذهبون إلى أن المراد بذلك هو الغلط الذي يتعلق بالمادة التي يتكون منها الشيء ، ومادة الشيء هي مجموعة الخصائص التي تدخله في جنس معين وتميزه عن الأجناس الأخرى . ويقدمون عادة المثل الذي أتى به يوتييه : شخص اشترى ( شمعدان ) من نحاس مطلى بالفضة وهو يعتقد أنه من فضة خالصة ( [280] ) . ثم أخذ الفقهاء في عهد ثان يعدلون عن هذه الفكرة الموضوعية بإدخال عامل ذاتي في تحديد هذا النوع من الغلط . وأول من سار من الفقهاء في هذا الطريق هما الأستاذان أوبرى ورو ( [281] ) ، فقد أخذا في الأصل بالمذهب الموضوعي كقاعدة عامة ، فذهبا إلى أن المراد بمادة الشيء هي العناصر المادية التي تكونه والخواص التي تميزه من الأشياء الأخرى طبقاً للمتعارف بين الناس ، ولكنهما اضافا إلى ذلك جواز أن يتفق المتعاقدان على توافر صفة معينة في الشيء فتصبح هذه الصفة جوهرية بالنظر إلى غرض المتعاقدين لا بالنظر إلى مادة الشيء من حيث هي . ثم هجر الأستاذ لوران ، في عهد ثالث ، المعيار الموضوعي وأخذ بالمعيار الذاتي جملة واحدة ، فذهب إلى أن نية المتعاقدين وحدها هي التي تحدد مادة الشيء والأوصاف المعتبرة فيه ( [282] ) . واقتفى سائر الفقهاء اثر لوران في هذا المنحى ، فذهب الأستاذان بودري وبارد إلى أن المراد بمادة الشيء هي الأوصاف الرئيسية التي اعتبرها المتعاقدان أو أحدهما في ذلك الشيء والتي ما كان التعاقد يتم بدونها ( [283] ) ، وذهبت الأستاذة بلانيول وكولان وكايبتان وجوسران إلى هذا الرأي ( [284] ) .
فالعبرة إذن ، طبقا للمعيار الذاتي ، بالأوصاف المعتبرة في نظر المتعاقدين لا بالخصائص التي تكون مادة الشيء في ذاته ، فقد يشتري شخص شيئاً على أنه أثر تاريخي ويعتقد في الوقت ذاته أنه مصنوع من ذهب فيتضح أنه مصنوع من ( البرونز ) ، فهذا غلط في " مادة الشيء " ، ولكنه بحسب نية المشتري ليس غلطا في الصفة المعتبرة عنده ، فما دام الشيء الذي اشتراه هو الأثر التاريخي الذي يقصده ، فلا يعنيه بعد ذلك إن كان من ذهب أو من معدن آخر . وقد استبدل الفقه والقضاء في فرنسا بعبارة " مادة الشيء " ( substance de la chose ) عبارة أخرى اشتقاها من الكلمة ذاتها هي الصفة الجوهرية ( qualite substantielle ) ، أي الصفة التي اعتبرها المتعاقد في الشيء . والمعيار الذاتي ما هو في الواقع إلا نتيجة منطقية لمبدأ سلطان الإرادة ، فما دامت إرادة العاقد هي التي تنشيء الرابطة القانونية فيجب الأخذ بهذه الإرادة في حقيقتها وعلى وجهها الصحيح ، لا معيبة بما تأثرت به من غلط أو غير ذلك من العيوب .
168 – معيار الغلط الجوهري في القانون المصري معيار ذاتي : وبالمعاير الذاتي أيضاً أخذ الفقه والقضاء في مصر منذ عهد القانون القديم . وقد أسعفها في ذلك نصوص هذا القانون ذاتها ، فقد كانت المادتان 134 / 194 من القانونين الوطني والمختلط تنصان على أن " الغلط موجب لبطلان الرضاء متى كان واقعاً في أصل الموضوع المعتبر في العقد " ، وجاء في النص الفرنسي للقانون المصري القديم : " متى كان واقعاً في الناحية الرئيسية التي كانت محل اعتبار في الشيء " ( le rapport principal sous lequel la chose ete envisage dans le contrat ) . فالنصوص كما نرى تذهب بوضوح إلى الأخذ بالمعيار الذاتي ، وقد نقلت لا عن نصوص القانون الفرنسي بل عن القضاء والفقه في فرنسا بعد التطور الذي أسلفنا ذكره ( [285] ) .
وجاء القانون الجديد مؤيداً للمعيار الذاتي وصريحاً في وجوب الأخذ به . فقد نصت المادة 120 على أنه " إذا وقع المتعاقد في غلط جوهري جاز له أن يطلب إبطال العقد . . . ( [286] ) " . صم نصت المادة 121 على أنه : " 1 - يكون الغلط جوهريا إذا بلغ حدا من الجسامة بحيث يمتنع معه المتعاقد عن إبرام العقد لو لم يقع في هذا الغلط . 2 - ويعتبر الغلط جوهريا على الأخص . أ - إذا وقع في صفة للشيء تكون جوهرية في اعتبار المتعاقدين ، أو يجب اعتبارها كذلك لما يلابس العقد من ظروف ولما ينبغي في التعامل من حسن النية . ب - إذا وقع في ذات التعاقد أو في صفة صفاته ، وكانت تلك الذات أو هذه الصفة السبب الرئيسي في التعاقد ( [287] ) " .
ويتبين من هذه النصوص أن القانون الجديد قد أخذ بالمعيار الذاتي . فالغلط الجوهري عنده هو الغلط الذي يبلغ ، في نظر المتعاقد الذي وقع في الغلط ، حداً من الجسامة بحيث كان يمتنع عن إبرام العقد لو لم يقع في الغلط . فهو إذا وقع في صفة للشيء وجب أن تكون هذه الصفة جوهرية في اعتبار المتعاقدين ، وإذا وقع في ذات المتعاقد أو في صفة من صفاته وجب أن تكون تلك الذات أو هذه الصفة السبب الرئيسي في التعاقد .
على أن الأخذ بالمعيار الذاتي يقتضي أن يكون المعيار متعلقاً بحالة نفسية قد يدق الكشف عنها في بعض الأحيان . لذلك اتخذ القانون الجديد قرينة موضوعية لتنم عن هذه الحالة النفسية ، فقضى بأن صفة الشيء تكون جوهرية ، ليس فحسب إذا اعتبرها المتعاقدان جوهرية وفقاً لما انطوت عليه نيتهما بالفعل ، بل أيضاً إذا وجب أن يكونا قد اعتبراها جوهرية وفقاً لما لابس العقد من ظروف ولما ينبغي في التعامل من حسن النية . فالظروف الموضوعية للعقد ووجوب أن يسود التعامل حسن النية يهديان – إذا لم نهتد من طريق آخر – إلى تعرف نية المتعاقدين . فإذا اشترى شخص من تاجر في الآثار قطعة ظنها أثرية ، ثم اتضح إنها ليست كذلك ، فمن حق المشتري أن يقيم من واقعة أنه تعامل مع تاجر الآثار قرينة على نيته ، وأن يتخذ من هذه القرينة ذاتها دليلا على نية المتعاقد الآخر ، وأن يتمسك بما ينبغي أن يسود التعامل من حسن النية فلا يكلف نفسه أن يتحقق من الصفة الأثرية للقطعة ما دام قد اشتراها من تاجر في الآثار ، بل كان الواجب على هذا أن ينبه المشتري إلى أن القطعة ليست أثرية لو كان عالماً بذلك .
169 – على أي شيء يقع الغلط : والغلط الجوهري ، على النحو الذي اسلفناه ، يصح أن يقع ، لا في صفة الشيء وفي الشخص فحسب ، بل أيضاً في القيمة وفي الباعث ( [288] ) . والعبرة بأنه غلط جوهري ، لا بأنه وقع في هذا أو في ذاك . ونستعرض الآن الغلط في هذه الأحوال المختلفة .
170 – الغلط في صفة جوهرية في الشيء : إذا طبقنا معيار الغلط الجوهري على الغلط في وصف الشيء ، فإن الغلط لا يؤثر في صحة العقد إلا إذا كان هو الدافع الرئيسي إلى التعاقد كما قدمنا . وفي القضاء المصري في ظل القانون القديم – والقانون الجديد أتى مؤكداً للقانون القديم كما اسلفنا – أمثلة كثيرة على ذلك . فقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن الترخيص الذي أعطته الحكومة في استغلال أرض كانت تعتقد إنها لا تحتوي إلا على كميات صغيرة جداً من الملح يجوز إبطاله إذا تبين أن هذه الأرض تحتوي على كميات كبيرة يمكن استغلالها بسهولة ( [289] ) . وقضت بأن بيع الأوراق المالية الصادرة من شركة حكم ببطلانها يجوز إبطاله للغلط الذي وقع فيه المشتري بشأن صفة جوهرية في الشيء المبيع ( [290] ) . وقضت بأنه إذا باع شخص أرضا على أنها تحد من الجهة البحرية بشارع عرضه خمسة أمتار ، وتبين بعد ذلك أن هذا الشارع لا وجود له مما يجعل الأرض محصورة من جهاتها الأربع ولا منفذ لها يؤدي إلى الطريق العام ، فإن البيع يجوز إبطاله يسبب الغلط الواقع في صفة جوهرية في الشيء المبيع ( [291] ) . وقضت بأن بيع قماش على أنه قابل لأن يغسل ثم يتبين أنه غير قابل لذلك يجوز إبطاله للغلط في صفة جوهرية في الشيء ( [292] ) . وقضت بأن بيع شيء على أنه قديم مع أنه مجرد تقليد للقديم يجوز إبطاله للغلط في صفة جوهرية في الشيء المبيع ، ولا يلتزم المشتري برفع دعوى الإبطال في ثمانية أيام من وقت العلم بالحقيقة لأن هذا هو ميعاد رفع الدعوى في ضمان العيوب الخفية ، أما هنا فالدعوى دعوى أبطال للغلط ( [293] ) . وقضت بأنه يعتبر غلطاً في صفة جوهرية في الشيء قبول حوالة حق مع اعتقاد أن الحق مضمون برهن ، ويتبين بعد ذلك أن الرهن قد سقط قيده وأن العقار المرهون بيع إلى الغير ، فشرط عدم ضمان المحيل يبطل في هذه الحالة ( [294] ) . ولكن لا يعتبر غلطاً في صفة جوهرية في الشيء المبيع أن يقع خطأ في بيان حدود الأرض المبيعة ما دامت نمرة الأرض في خريطة فك الزمام قد ذكرت صحيحة وكان يمكن تمييز الأرض ومعرفتها من وراء ذلك ( [295] ) . ولا يعتبر غلطاً يجعل العقد قابلا للإبطال أن يتضح أن الأرض المبيعة محصورة إذا لم يذكر البائع أن لها منفذاً بل بين حدودها وموقعها وكانت معرفتها مستطاعة بذلك ( [296] ) .
171 – الغلط في شخص المتعاقد : وإذا طبقنا معيار الغلط الجوهري على الغلط في شخص المتعاقد ، فإن الغلط لا يؤثر في صحة العقد إلا إذا وقع في ذات المتعاقد أو في صفة من صفاته وكانت تلك الذات أو هذه الصفة السبب الرئيسي في التعاقد كما هو نص المادة 121 . مثل هذا الغلط إنما يقع في العقود التي تكون فيها شخصية المتعاقد محل اعتبار كعقود التبرع بوجه عام وبعض عقود المعاوضة . وهو قد يقع في ذات المتعاقد إذا كانت هي محل الاعتبار ، كالغلط في شخص الموهوب له أن الوكيل أو المزارع أو الشريك . وقد يقع في صفة جوهرية من صفات المتعاقد كانت هي الدافع إلى التعاقد كأن يهب شخص لآخر مالا معتقداً أن هناك رابطة قاربة تربطه به فيتضح أن الأمر غير ذلك ، وكأن يؤجر شخص منزلا لامرأة يعتقد أن سلوكها لا ريبة فيه فيتضح إنها امرأة تحترف العهارة حتى لو لم تكن تباشر مهنتها في المنزل ، وكأن يتعاقد شخص مع أحد الفنيين ( مهندس أو صانع في عمل يقتضي مهارة فنية ) وهو يعتقد أنه يحمل شهادة فنية فيتضح أنه لا يحملها وانه غير ماهر في فنه ( [297] ) . وتقدير ما إذا كانت شخصية المتعاقد أو صفته كانت هي محل الاعتبار وهي التي دفعت إلى التعاقد مسألة من مسائل الواقع لا من مسائل القانون ، ينظر فيها إلى ظروف الدعوى مما يمكن أن يستدل به على نية المتعاقدين . فالمعيار ذاتي . وهو المعيار الذي يطبق في جميع نواحي نظرية الغلط .
172 – الغلط في القيمة : رأينا أن النظرية التقليدية لا تقيم لهذا الغلط وزناً فلا تجعله يؤثر في صحة العقد . أما إذا سايرنا النظرية الحديثة وهي التي أخذ بها القانون المصري ، وطبقنا معيار الغلط الجوهري على الغلط في القيمة ، وجب أن نقول إن الغلط في قيمة الشيء إذا كان هو الدافع الرئيسي إلى التعاقد يجعل العقد قابلا للإبطال . فإذا باع شخص سهماً بقيمته الفعلية ، وكان يجهل أن هذا السهم قد ربح جائزة كبيرة ، كان له أن يطلب إبطال البيع للغلط في قيمة الشيء الذي باعه . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة ، في قضية اتفق فيها صاحب البضاعة مع صاحب السفينة على أن يكون سعر نقل البضاعة إما بحساب حجمها أو بحساب وزنها طبقاً لما يختاره صاحب السفينة ، وطلب هذا أن يكون السعر بحساب الحجم فتبين أن حساب الحجم يزيد على حساب الوزن ثمانية أضعاف ، ولم يكن صاحب البضاعة يدرك ذلك بدليل أنه رفض الاتفاق مع صاحب سفينة أخرى على سعر يقل كثيراً عن السعر الذي يطالب به ، بأن صاحب البضاعة في هذه الحالة يجوز له أن يطلب إبطال عقد النقل ( [298] ) .
173 – الغلط في الباعث : تقدم القول إن النظرية التقليدية تميز بين الغلط في السبب والغلط في الباعث ، فتجعل الأول يبطل العقد بطلاناً مطلقاً ، وتجعل الثاني لا اثر له في صحة العقد . والنظرية التقليدية عندما نميز بين السبب والباعث تنظر إلى السبب في نظريته التقليدية أيضاً فيكون هو الغرض المباشر الذي يقصد الملتزم الوصول إليه من وراء التزامه . فإذا اتفق الورثة مع الموصى له على قسمة العين الشائعة بينهم ، ثم يتضح أن الوصية باطلة أو إنها سقطت بعدول الموصي ، كان هناك غلط في السبب بمعناه التقليدي ، فإن الورثة قصدوا من التزامهم بعقد القسمة غرضاً مباشراً هو إفراز نصيبهم من نصيب الموصى له باعتبار أن هذا يملك بالوصية حصة في العين ، وتبين أنه لا يملك شيئاً ، فهذا غلط في السبب ( [299] ) . أما الغلط في الباعث ، وهو الذي لا يؤثر في صحة العقد طبقاً للنظرية التقليدية ، فمثله أن يبيع شخص عيناً وهو مريض ويعتقد أنه في مرض الموت ، ثم يشفى المرض ، لهو لا يستطيع أن يطعن في البيع بدعوى أنه صدر منه وهو في مرض الموت لأن هذا الطعن لا يقبل إلا من الورثة وبشرط أن ينتهي المرض بالموت ، ولا يستطيع أن يطعن في البيع بالغلط في الباعث ولو أن الدافع له إلى التعاقد هو اعتقاده وقت البيع أنه يموت . فإذا تركنا النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة ، وطبقنا معيار الغلط الجوهري ، كان الغلط في الباعث في هذا المثل غلطاً جوهرياً يجيز للبائع أن يطلب إبطال البيع ( [300] ) .
ونرى من ذلك أن التمييز يبقى قائماً بين الغلط في السبب والغلط في الباعث ما دمنا نحتفظ بالنظرية التقليدية في السبب ولو هجرنا النظرية التقليدية في الغلط . فلا يزال الغلط في السبب بمعناه التقليدي يجعل العقد باطلا ، أما الغلط في الباعث فيجعل العقد قابلا للإبطال وفقاً للنظرية الحديثة في الغلط ، ولا يؤثر في صحة العقد وفقاً للنظرية التقليدية .
أما إذا هجرنا النظرية التقليدية في السبب إلى النظرية الحديثة ، فإن الغلط في السبب يختلط بالغلط في الباعث ، ويصبحان شيئاً واحداً ، ولا يكون ثمة محل للقول بأن الغلط في السبب يجعل العقد باطلا والغلط في الباعث يجعل العقد قابلا للإبطال . ويتعين الأخذ بأحد الأمرين : إما أن يكون الغلط في كل من السبب والباعث – فهما شيء واحد في النظرية الحديثة في السبب – من شأنه أن يجعل العقد باطلا ، وإما أن يكون هذا الغلط من شأنه أن يجعل العقد قابلا للإبطال . ولا يجوز التفريق بينهما في الحكم . وقد وقف كثير من الفقهاء حائرين عند هذه المسألة الدقيقة ، يتحسسونها ولكن لا يجرؤون على قول حاسم فيها . فهم يقولون بالنظرية الحديثة في السب ويخلطونه بالباعث ، ويقولون بالنظرية الحديثة في الغلط ويجعلون معياره الغلط الجوهري ولو وقع في الباعث ، ولكنهم يقفون عند هذا ويبقون على التمييز فيما بين الحالتين ، فيجعلون الغلط في السبب من شأنه أن يجعل العقد باطلا ، والغلط في الباعث من شأنه أن يجعل العقد قابلا للإبطال . فيترتب على هذا التناقض خلط عجيب ما بين منقطتي السبب والغلط ، إذ تبقى منطقة مشتركة فيما بينهما يتنازعها كل منهما ، فإذا سمينا هذه المنطقة بالسبب المغلوط ( cause erronee ) كان العقد باطلا ، وإذا سميناها بالغلط في الباعث ( erreur sur le motif ) كان العقد قابلا للإبطال ( [301] ) .
هذا التناقض المعيب توقاه القانون المصري الجديد . فهو قد أخذ بالنظرية الحديثة في كل من الغلط والسبب ، وانبنى على ذلك وجود هذه المنطقة المشتركة فزحزحها من منطقة السبب إلى منقطة الغلط ، وجعل نظرية الغلط وحدها هي التي تنطبق أحكامها على هذه المنطقة ، فيكون الغلط في كل من السبب والباعث من شأنه أن يجعل العقد قابلا للإبطال . ولا يكون هناك محل للقول بأن السبب المغلوط يجعل العقد باطلا ، فالسبب الذي يجعل العقد باطلا في القانون الجديد هو السبب غير المشروع وحده ( [302] ) .
174 – الغلط في الواقع والغلط في القانون : وفي كل ما قدمناه من تطبيقات لمعيار الغلط الجوهري ، سواء وقع الغلط في الشيء أو الشخص أو القيمة أو الباعث ، لا نفرق بين ما إذا كان الغلط هو غلط في الواقع أو غلط في القانون . فما دام جوهرياً ، أي مادام هو الذي دفع إلى التعاقد ، فإنه يجعل العقد قابلا للإبطال . وهذا ما تنص عليه صراحة المادة 122 من القانون المدني الجديد إذ تقضي بما يأتي : " يكون العقد قابلا للإبطال لغلط في القانون إذا توافرت فيه شروط الغلط في الواقع طبقا للمادتين السابقتين ، هذا ما لم يقض القانون بغيره ( [303] ) " . ولم يكن القانون القديم يشتمل على نص في هذه المسألة ، ولكن القضاء والفقه في مصر سارا على أن الغلط في القانون كالغلط في الواقع يجعل العقد قابلا للإبطال ( [304] ) .
والذي كان يلبس الأمر في هذه المسألة وقت قيام القانون القديم غير مشتمل على نص فيها هو وجود قاعدة أخرى معروفة تقضي بان الجهل بالقانون لا يقبل عذراً ، أو كما يقولون : " لا يفرض في أحد أنه يجهل القانون " ( Nul n'est cense ignorer la loi ) . ولكن مجال تطبيق هذه القاعدة لا يكون إلا حيث توجد أحكام قانونية تعتبر من النظام العام ، فيجب على جميع الناس مراعاتها ولا يجوز لأحد أن يخل بها بدعوى أنه يجهلها ، ويفترض أن كل شخص يعرف هذه الأحكام ، وإلا لما أمكن تطبيقها تطبيقاً منتجا لو أفسحنا جانب العذر في ذلك . ويدخل في هذه الأحكام القوانين الجنائية وبعض من القوانين المدنية وهي التي تعتبر من النظام العام . مثل ذلك أن يقرض شخص آخر بفائدة تزيد على 7 في المائة وهو يجهل أن الحد الأقصى للفوائد هو 7 في المائة ، فليس للمقرض في هذه الحالة أن يطلب إبطال عقد القرض بدعوى الغلط في القانون وانه ما كان يقرض نقوده لو علم بان الحد الأقصى للفائدة لا يزيد على 7 في المائة ، بل يبقى القرض صحيحاً وتنقص الفائدة إلى 7 في المائة . أما إذا كان الغلط واقعاً في مسألة قانونية لا تعتبر من النظام العام ، فلا شك في أنه يمكن الاحتجاج بهذا الغلط والتمسك به لطلب إبطال العقد ، إلا إذا نص القانون على غير ذلك كما فعل في عقد الصلح حيث تنص المادة 556 على أنه " لا يجوز الطعن في الصلح بسبب غلط في القانون ( [305] ) " .
ومن المفيد أن نطبق هذا المبدأ على جميع أنواع الغلط التي سبق تفصيلها . فالغلط في القانون الواقع في صفة جوهرية في الشيء مثله أن يتعهد شخص بدفع دين طبيعي وهو يعتقد أن هذا الدين ملزم له مدنياً ، فيجوز له في هذه الحالة أن يطلب إبطال التعهد . ومثل الغلط في القانون الواقع في شخص المتعاقد أن يهب رجل لمطلقته مالا وهو يعتقد أنه استردها لعصمته جاهلا أن الطلاق الرجعي ينقلب بائناً بانتهاء العدة فلا ترجع إلى عصمته إلا بعقد جديد . ومثل الغلط في القانون الواقع في القيمة أن يبيع وارث حصته في التركة وهو يحسب أنه يرث الربع فإذا به يرث النصف . ومثل الغلط في القانون الواقع في الباعث ما قضت به محكمة الاستئناف المختلطة من أنه إذا اعترف الوارث بحق للغير في التركة معتقداً أن القانون الوطني هو الواجب التطبيق ، ثم تبين بعد ذلك أن القانون الإيطالي هو الذي يطبق ، وأن دعوى الغير ليست صحيحة طبقاً لهذا القانون ، فإن رضاء الوارث يكون مشوباً بغلط في القانون ( [306] ) .
ب – كيف يتصل المتعاقد الآخر بالغلط
175 – الغلط المشترك : لم نعرض في كل ما قدمناه إلا للمتعاقد الذي وقع في الغلط ، فهو الذي نطبق في شأنه المعيار الذاتي ، معيار الغلط الجوهري . ولكن هل يبقى المتعاقد الآخر بعيداً عن هذا الغلط ، غير متصل به على وجه من الوجوه ، والمعيار كما قدمنا ذاتي ، وكثيراً ما يكون جاهلا بأمر هذا الغلط بل ويكون غير متوقع له ؟ إننا إذا قلنا بذلك تزعزع التعامل ، ولم يأمن أي متعاقد أن يرى العقد الذي اطمأن إليه قد انهار بدعوى الغلط يقدمها الطرف الآخر ، وهو بعد لم يدخل في سريرته فيعلم إن كان رضاؤه قد صدر عن غلط !
من أجل ذلك قال كثير من الفقهاء أن الغلط الفردي لا يكفي ، بل يجب أن يكون الغلط مشتركاً بين المتعاقدين ( erreur commune ) . ذلك أن المتعاقد إذا وقع في غلط جوهري واشترك معه المتعاقد الآخر في هذا الغلط ، ثم تبينت الحقيقة وطلب المتعاقد الأول إبطال العقد ، فمن العدل أن يقره المتعاقد الآخر على بطلان العقد لسبب هو نفسه قد اشترك فيه ، ولا يعود هناك وجه للتذمر من تقلقل المعاملات وعدم استقرارها . فإذا فرضنا مثلا أن شخصاً باع لآخر صورة على إنها من صنع مصور مشهور ، وجب أن يكون كل من البائع والمشتري يعتقد أن الصورة هي من صنع هذا المصور حتى يجوز للمشتري طلب إبطال البيع للغلط إذا تبين أن الصورة ليست من صنعه . أما إذا كان المشتري وحده هو الذي يعتقد ذلك دون البائع ، فلا يكون هذا الغلط مشتركاً ، ولا يجعل البيع قابلا للإبطال حتى لا يفاجأ البائع بدعوى إبطال العقد وهو لا يعلم شيئاً عن الغلط الذي وقع فيه المشترى .
هذه هي نظرية الغلط المشترك ، وهذه هي الحجج التي يقدمها انصار هذه النظرية للتدليل على صحة نظرهم . ولكننا لا نشك بالرغم مما يقدمون من حجج ، أن النظرية لا تتمشى مع المنطق ، ولا تتفق مع العدالة ، ثم هي ليست ضرورية لتحقيق الغرض العملي المقصود وهو استقرار المعاملات إذ يمكن الوصول إلى هذا الغرض من طريق آخر .
أما أن النظرية لا تتمشى مع المنطق فظاهر ، لأن الغلط يفسد رضاء من وقع فيه ، ولا يمنع فساد هذا الرضاء كون المتعاقد الآخر لم يشترك في الغلط . فيجب منطقياً إبطال العقد إذا شاب رضاء أحد المتعاقدين غلط كان هو الدافع له إلى التعاقد ، سواء وقع المتعاقد الآخر في هذا الغلط أو لم يقع .
وأما أن النظرية لا تتفق مع العدالة ، فيظهر ذلك إذا فرضنا أن الغلط لم يكن مشتركاً ، ولكن المتعاقد الذي صدر منه رضاء صحيح كان يعلم بالغلط الذي وقع فيه المتعاقد الآخر ، وتركه مسترسلا في غلطه دون أن ينبهه إلى ذلك . فالغلط في مثل هذه الحالة يكون فردياً ، وليس من شأنها أن يبطل العقد طبقاً لنظرية الغلط المشترك . ويترتب على ذلك أنه ما لم يكن هناك تدليس من المتعاقد الأول ، ولنفرض أنه وقف موقفاً سلبياً محضاً ، فإن العقد يكون صحيحاً لا مطعن فيه . وبديهي أن هذه النتيجة تصطدم مع العدالة ، فإنه إذا كان عدلا أن يبطل العقد في حالة اشتراك الطرفين في الغلط ، فالأولى أن يبطل العقد إذا انفرد أحد المتعاقدين بالغلط وكان الآخر يعلم ذلك ولم ينبهه إليه .
وأما أن النظرية ليست ضرورية لاستقرار التعامل ، فإن ذلك يظهر في وضوح لو اخذنا بنظرية الغلط الفردي ، واقتصرنا على اشتراط أن يكون المتعاقد الآخر متصلا بهذا الغلط على الوجه الذي سنبينه فيما يلي .
176 – الغلط الفردي الذي يتصل به المتعاقد الآخر : يكفي إذن أن يكون الغلط فردياً ( [307] ) . ولكن إذا كان المتعاقد الآخر لم يشترك في هذا الغلط وجب ، حتى تمتنع مفاجأته بدعوى الغلط ، أن يكون على علم به أو أن يكون من السهل عليه أن يتبينه . وهذا ما تقضي به المادة 120 من القانون الجديد ، فهي تنص على أنه " إذا وقع المتعاقد في غلط جوهري ، جاز له أن يطلب إبطال العقد أن كان المتعاقد الآخر قد وقع مثله في الغلط ، أو كان على علم به ، أو كان من السهل عليه أن يتبينه ( [308] ) " .
وتعليل ذلك أن الغلط إذا لم يكن مشتركاً ، وقاجأ المتعاقد الذي وقع في الغلط المتعاقد الآخر بعدوى الغلط ، ولزم أن تبطل العقد ، فإن المتعاقد الآخر حسن النية لا ذنب له في ذلك ، والمخطئ هو المتعاقد الأول الذي أهمل في كشف نيته ولم يجعل المتعاقد الآخر يتبين أو يستطيع أن يتبين ما شاب إرادته من غلط . فوجب عليه التعويض ، وخير تعويض في هذه الحالة هو بقاء العقد صحيحاً ( [309] ) . ولا يستقيم هذا التعليل إلا إذا كان المتعاقد الآخر لا علم له بالغلط وليس من السهل عليه أن يتبينه . أما إذا كان عالماً بالغلط وانه هو الدافع إلى التعاقد فلا حق له في الشكوى من إبطال العقد لأنه يكون سىء النية . وإذا لم يكن عالماً بالغلط ولكن ولكن كان من السهل عليه أن يتبينه وأن يتبين أنه هو الدافع إلى التعاقد ، فلا حق هل كذلك في الشكوى من إبطال العقد لأنه يكون مقصراً ( [310] ) . ويخلص لنا من كل ذلك أن الغلط الجوهري لا يجعل العقد قابلا للإبطال إلا إذا كان غلطاً مشتركاً ، أو كان غلطاً فردياً يعلمه المتعاقد الآخر أو يسهل عليه أن يتبينه .
فإذا تحددت نظرية الغلط في على هذا النحو فإنها لا تتنافى مع استقرار التعامل ، ذلك لأن المتعاقد الذي وقع في الغلط لا يدع للمتعاقد الآخر سبيلا للزعم بأنه فوجئ بطلب إبطال العقد . فقد ثبت ( [311] ) أن هذا المتعاقد الآخر كان مشتركاً في الغلط ، أو كان يعلم به ، أو كان من السهل عليه أن يتبينه . وهو في الأولى حسن النية ولكن مقتضى حسن نيته أن يسلم بإبطال العقد ، وهو في الثانية سيء النية والإبطال جزاء لسوء نيته ، وهو في الثالثة مقصر وتعويض التقصير الإبطال ( [312] ) .
وغنى عن البيان إننا إذا اشترطنا أن يكون المتعاقد الآخر متصلا بالغلط على النحو المتقدم ، فإن ذلك يعني أن يكون على بينة أيضاً من أن هذا الغلط الجوهري هو الدافع إلى التعاقد كما سبق القول ( [313] ) .
ويتبين مما قدمناه أنه لا تبقى إلا حالة واحدة لا يكفي فيها الغلط الفردي لإبطال العقد ، هي ألا يتمكن المتعاقد الذي وقع في الغلط من إثبات أن المتعاقد الآخر كان مشتركا في هذا الغلط أو كان يعلم به أو كان من السهل عليه أن يتبينه ( [314] ) .
177 - تطبيق الغلط الذي يتصل به المتعاقد الأخذ على أحوال الغلط المختلفة : ويحسن أن نطبق نظرية الغلط الذي يتصل به المتعاقد على أحوال الغلط المختلفة – الغلط في الشيء والغلط في الشخص والغلط في القيمة والغلط في الباعث – حتى نتبين أن هذه النظرية تكفل استقرار التعامل على نحو مرضى .
فإذا كان الغلط في الشيء ، وكان في صفة اعتبرها أحد المتعاقدين ولتكن مثلا أن الشيء الذي اشتراه أثرى ، وجب على المشتري إذا طلب إبطال العقد أن يثبت أن الشيء الذي ظنه اثريا ليس إلا مجرد تقليد وانه لم يكن ليشتريه لو كان قد علم بحقيقته . ثم يثبت إلى جانب ذلك أن البائع كان يظن مثله أن الشيء أثرى وأن هذه الصفة هي التي دفعت المشتري إلى الشراء ، أو يثبت أن البائع كان على بينة من أن الشيء غير أثرى وكان مع ذلك يعلم ، أو من السهل عليه أن يعلم ، أن المشتري إنما انساق إلى الشراء لأنه كان يظن أن الشيء أثرى . واثبات كل ذلك يكون يسيراً لو عنى المشتري وقت التعاقد أن يبين أنه إنما يشتري الشيء لأنه أثرى . فإذا هو لم يبين ذلك فقد يتيسر الإثبات من القرائن والظروف ، كارتفاع الثمن إلى درجة لا تجعل قيمة الشيء المقلد متناسبة بتاتاً مع هذا الثمن ، وكالمهنة التي اتخذها البائع لنفسه إذا فرض أن هذا البائع مهنته الاتجار في الأشياء الأثرية .
وإذا كان الغلط في الشخص ، كمن يهب لآخر مالا وهو يعتقد أنه ابن له غير شرعي ثم يظهر عدم صحة ذلك ، فللواهب أن يطلب إبطال الهبة للغلط ، ولكن يجب عليه أن يثبت إلى جانب الغلط الدافع أحد أمرين : أما أن الموهوب له أكان يشاطر الواهب الاعتقاد بأنه أبن غير شرعي له وأن هذا كان هو الدافع إلى الهبة وإما أن الموهوب له مع علمه بأنه ليس ابن الواهب كان يعلم ، أو يسهل عليه أن يعلم ، بالوهم الذي قام في ذهن الواهب وأن هذا الوهم هو الذي دفعه إلى التبرع .
وإذا كان الغلط في القيمة ، كما إذا باع شخص لآخر سهماً بقيمته الفعلية وهو لا يعلم أن هذا السهم قد ربح جائزة كبيرة ، استطاع البائع أن يطلب إبطال الهبة للغلط ، ولكن يجب عليه أن يثبت إلى جانب الغلط الدافع أحد المرين : إما أن الموهوب له كان يشاطر الواهب الاعتقاد بأنه ابن غير شرعي له وأن هذا كان هو الدافع إلى الهبة ، وإما أن الموهوب له مع عمله بأنه ليس ابن الواهب كان يعلم ، أو يسهل عليه أن يعلم ، بالوهم الذي قام في ذهن الواهب وأن هذا الوهم هو الذي دفعه إلى التبرع .
وإذا كان الغلط في القيمة ، كما إذا باع شخص لآخر سهماً بقيمته الفعلية وهو لا يعلم أن هذا السهم قد ربح جائزة كبيرة ، استطاع البائع أن يطلب إبطال البيع للغلط ، ولكن عليه أن يثبت أن المشتري كان يجهل مثله أن السهم قد ربح الجائزة ، أو أن هذا المشتري مع علمه بربح الجائزة كان يعلم ، أو يسهل عليه أن يعلم ، بجهل البائع لذلك . ولا شك في أن مجرد بيع السهم بقيمته الفعلية دون حساب للجائزة كاف وحده ليكون قرينة على أن المشتري كان إما مشتركاً في الغلط ، وإما عالما به ، وإما على الأقل كان من السهل عليه أن يتبينه .
وإذا كان الغلط في الباعث ، كما إذا باع مريض شيئاً وهو يعتقد أنه في مرض الموت ثم شفى ، كان للبائع في هذه الحالة أن يطلب إبطال البيع للغلط إذا هو اثبت أن المشتري كان يعتقد هو أيضاً أن البائع في مرض الموت ، أو أن المشتري يعلم ، أو يسهل عليه أن يعلم ، أن البائع كان يعتقد أنه في مرض الموت وأن هذا الاعتقاد هو الذي دفع المريض إلى البيع . وقد تقوم تفاهة الثمن مع خطورة المرض قرينة على ذلك .
ويتضح من التطبيقات المتقدمة أن القول بالغلط الفردي لا يصطدم مع استقرار التعامل متى روعيت قواعد الإثبات التي بينها .
178 – التمسك بالغلط على وجه يتعارض مع حسن النية : وقد أشتمل القانون الجديد على نص من شأنها أن يخفف من حدة الطابع الذاتي في الغلط . فقضت المادة 124 بما يأتي : " 1 - ليس لمن وقع في غلط أن يتمسك به على وجه يتعارض مع ما يقضي به حسن النية . 2 - ويبقي بالأخص ملزما بالعقد الذي قصد إبرامه ، إذا أظهر الطرف الآخر استعداده لتنفيذ هذا العقد ( [315] ) " .
ويتبين من هذا النص أن أي تمسك بالغلط ، إذا تعارض مع حسن النية ، يكون غير جائز . فإذا اشترى شخص أرضا وهو يعتقد أن لها منفذاً إلى الطريق العام ، ثم يتضح إنها محصورة ، فيعرض عليها البائع النفقات التي يقتضيها حصوله على حق المرور إلى الطريق العام مما يحقق له كل الأغراض التي قصد إليها ، فيأبى إلا إبطال العبي ، جاز أن يكون التمسك بالغلط في هذه الحالة متعارضاً مع ما يقضي به حسن النية ، فلا يجاب المشتري إلى طلبه . ويمكن اعتبار هذا الحكم تطبيقاً من تطبيقات نظرية التعسف في استعمال الحق .
وقد أورد الشق الثاني من النص تطبيقاً من أهم تطبيقات هذا المبدأ . فقضى بأن المتعاقد الذي وقع في الغلط يبقى ملزماً بالعقد الذي قصد إبرامه إذا اظهر الطرف الآخر استعدادها لتنفيذ هذا العقد . فإذا باع شخص سهماً بقيمته الفعلية ، وكان يجهل أن هذا السهم قد ربح جائزة كبيرة ، يبقى مع ذلك ملزماً بالبيع إذا نزل له المشتري عن هذه الجائزة . وإذا تعاقد شخص مع قاصر وهو يعتقد أنه بلغ سن الرشد ، فليس له أن يتمسك بالغلط إذا أجاز الوصي العقد . وإذا اشترى شخص شيئاً وهو يعتقد أنه أثرى ، فإنه يظل مرتبطاً بالعقد إذا عرض البائع أن يعطيه الشيء الأثري الذي قصد شراءه ( [316] ) .
2 – التدليس ( * )
( Le dol )
179 – علاقة التدليس بالغلط : التدليس هو إيقاع المتعاقد في غلط يدفعه إلى التعاقد . فالعلاقة إذن وثيقة ما بين التدليس والغلط . والتدليس لا يجعل العقد قابلا للإبطال إلا للغلط الذي يولده في نفس المتعاقد .
والتدليس بهذا التحديد يختلف عن الغش ( fraude ) ، لأن التدليس إنما يكون في أثناء تكوين العقد ، أما الغش فقد يقع بعد تكوين العقد ، أو يقع خارجاً عن دائرة العقد . وكذلك يختلف التدليس المدني ( dol civil ) عن التدليس الجنائي ( dol penal ) وهو النصب ( escroquerie ) بان الطرق الاحتيالية في النصب عنصر مستقل قائم بذاته ، وتكون عادة اشد جسامة من الطرق الاحتالية المستعملة في التدليس المدني كما سنرى ( [317] ) .
ولما كان التدليس يؤدي إلى الغلط ويختلط به كما قدمنا ، فنبدأ بتحديد عناصر التدليس ، ثم نبين أن نظرية الغلط تغني عن نظرية التدليس .
ا – عناصر التدليس
180 - عنصران : تنص المادة 125 من القانون الجديد على أنه " 1 - يجوز إبطال العقد للتدليس إذا كانت الحيل التي لجأ إليها أحد المتعاقدين ، أو نائب عنه ، من الجسامة بحيث لولاها لما أبرم الطرف الثاني العقد . 2 - ويعتبر تدليسا السكوت عمدا عن واقعة أو ملابسة ، إذا ثبت أن المدلس عليه ما كان ليبرم العقد لو علم بتلك الواقعة أو هذه الملابسة ( [318] ) " . وهذه المادة تقابل المادتين 136 / 196 من القانون القديم اللتين جرتا على الوجه الآتي : " التدليس موجب لعدم صحة الرضاء إذا كان رضاء أحد المتعاقدين مترتباً على الحيل المستعملة له من المتعاقد الآخر بحيث لولاها لما رضى " . ولا فرق ما بين القانونين الجديد والقديم إلا في ناحية الصياغة والأسلوب وفي النص صراحة في القانون الجديد على التدليس السلبي .
وتنص المادة 126 من القانون الجديد على أنه " إذا صدر التدليس من غير المتعاقدين ، فليس للمتعاقد المدلس عليه أن يطلب أبطال العقد ، ما لم يثبت أن التعاقد الآخر كان من المفروض حتما أن يعلم بهذا التدليس ( [319] ) " . وهذا النص لا مقابل له في القانون القديم ، وقد حسم إشكالاً كان قائماً سنفصله فيما بعد .
ويستخلص من هذه النصوص أن للتدليس عنصرين ( [320] ) : 1 – استعمال طرق احتيالية ، وهذا هو العنصر الموضوعي . 2 – تحمل على التعاقد ، وهذا هو العنصر النفسي . وهذان العنصران كافيان ، ولا أهمية بعد ذلك لما إذا كان التدليس قد صدر من أجل المتعاقدين أو من الغير ( [321] ) .
181 – استعمال طرق احتيالية : الطرق الاحتيالية تنطوي على جانبين : جانب مادي هو الطرق المادية التي تستعمل للتأثير في إرادة الغير ، وجانب معنوي هو نية التضليل للوصول إلى غرض غير مشروع .
فالطرق المادية لا تقتصر عادة على مجرد الكذب ، بل كثيراً ما يصحب الكذب أعمال مادية تدعمه لإخفاء الحقيقة عن المتعاقد ، ويجب أن تكون هذه الأعمال كافية للتضليل حسب حالة كل متعاقد ، فالمعيار هنا ذاتي . والأمثلة كثيرة : فهناك شركات وجمعيات تتخذ لها من مظاهر الإعلان ما لا يتفق مع حقيقتها لتخدع الناس في أمرها . وهناك أفراد يظهرون بمظهر اليسار والسعة أو يتخذون لأنفسهم صفات منتحلة . وهناك من يخفى المستندات ، ومن يصطنعها ، ومن يزور فيها ، حتى يحمل الغير على التعاقد معه على الوجه الذي يريد ( [322] ) . ولا يكفي مجرد المبالغة في القول ولو وصلت المبالغة إلى حد الكذب ما دام أن ذلك مألوف في التعامل ، كالتاجر يروج لبضاعته فينتحل لها أحسن الأوصاف ( [323] ) .
على أنه لا يشترط في التدليس المدني أن تكون الطرق الإحتيالية مستقلة عن المكذب ، قائمة بذاتها ، كما يشترط ذلك في النصب الجنائي . ففي بعض الأحوال يكفي الكذب ذاته طريقاً احتيالية في التدليس ( [324] ) . فالمهم إذن في الطرق الإحتيالية ليس إنها طرق مستقلة تقوم بذاتها لتسند الكذب ، بل أن يكون المدلس قد ألبس على المتعاقد وجه الحق فحمله على التعاقد تضليلاً ، واختار الطريق الذي يصلح لهذا الغرض بالنسبة إلى هذا المتعاقد . فمن الناس من يصعب التدليس عليه فتنصب له حبائل معقدة ، ومنهم من يسهل غشه فيكتفي في التدليس عليه بمجرد الكذب ( [325] ) .
بل قد يكون التدليس عملا سلبياً محضاً . فكفي مجرد الكتمان ( reticence ) طريقاً أحتيالياً . والأصل أن الكتمان لا يكون تدليساً ، إلا أن هناك أحوالاً يكون فيها أمر من الأمور واجب البيان ، فيلتزم المتعاقد الذي يعلم هذا الأمر بالإفضاء به ، ويعد تدليساً منه أن يكتمه . وتارة يكون الالتزام بالإفضاء مصدره نص في القانون ( [326] ) . وطوراً يكون مصدره الاتفاق الصريح . ولكن في كثير من الأحيان يكون المصدر هو هذه القاعدة القانونية العامة التي تقضي بعدم جواز الغش ، وذلك بأن يستخلص من الظروف أن امراً هاماً يؤثر في التعاقد إلى درجة كبيرة ، ويدرك أحد المتعاقدين خطره ، ويعرف أن المتعاقد الآخر يجهله ، ومع ذلك يكتمه عنه ، فيحمله بذلك على التعاقد ( [327] ) . وهذا ما نصت عليه صراحة الفقرة الثانية من المادة 125 إذا قضت بأن " يعتبر تدليساً السكوت عمداً عن واقعة أو ملابسة إذا ثبت أن المدلس عليه ما كان ليبرم العقد لو علم بتلك الواقعة أو هذه الملابسة " . ومن ذلك نرى أن الكتمان يكون تدليساً إذا توافرت الشروط الآتية في الأمر الذي بقى مكتوماً : ( 1 ) أن يكون هذا الأمر خطيراً بحيث يؤثر في إرادة المتعاقد الذي يجهله تأثيرا جوهرياً ، ( 2 ) أن يعرفه المتعاقد الآخر ويعرف خطره ، ( 3 ) أن يتعمد كتمه عن المتعاقد الأول ، ( 4 ) إلا يعرفه المتعاقد الأول أو يستطيع أن يعرفه من طريق آخر ( [328] ) . وأكثر ما يكون الكتمان تدليساً في عقود التأمين ( [329] ) .
بقى الجانب المعنوي وهو نية التضليل للوصول إلى غرض غير مشروع . فإذا انعدمت نية التضليل لا يكون هناك تدليس ، كالتاجر يبرز ما يعرضه في أحسن صورة ، وهو لا يقصد التضليل بل يريد استهواء الناس ( [330] ) . وقد توجد نية التضليل ولكن يقصد بها الوصول إلى غرض مشروع ، كما إذا استعمل المودع طرقاً إحتيالية للحصول من المودع عنده ، وتبين أنه شخص غير أمين ، على إقرار بالوديعة ( [331] ) .
182 – التدليس هو الدافع إلى التعاقد : ويجب أن يكون التدليس هو الدافع إلى التعاقد . وقاضي الموضوع هو الذي يبت في ذلك ، فيقدر مبلغ اثر التدليس في نفس العاقد المخدوع ليقرر ما إذا كان هذا التدليس هو الذي دفعه إلى التعاقد ، ويسترشد في ذلك بما تواضع عليه الناس في تعاملهم وبحالة المتعاقد الشخصية من سن وذكاء وعلم وتجارب ( [332] ) .
ويميز الفقه عادة بين التدليس الدافع ( dol principal ) ، وهو التدليس بالتحديد الذي قدمناه ، والتدليس غير الدافع ( dol incident ) ، وهو تدليس لا يحمل على التعاقد وإنما يغرى بقبول شروط أبهظ ( [333] ) ، فلا يكون سبباً في إبطال العقد ، بل يقتصر الأمر فيه على تعويض يسترد به العاقد المخدوع ما غرمه بسبب هذا التدليس وفقاً لقواعد المسئولية التقصيرية ( [334] ) . وهذا التمييز منتقد . ذلك أن التدليس الذي يغرى على التعاقد بشروط أبهظ هو تدليس دفع إلى التعاقد بهذه الشروط ، ولا يمكن فصل الإرادة في ذاتها عن الشروط التي تحركت الإرادة في دائرتها . فالتدليس هنا أيضاً يعيب الإرادة ، والعاقد المخدوع بالخيار بين أن يبطل العقد أو أن يستبقيه مكتفياً بتعويض عما أصابه من الضرر بسبب التدليس . وهو إذا اختار الإبطال بقى في دائرة العقد ، وإذا اختار التعويض انتقل إلى دائرة المسئولية التقصيرية . وكل تدليس له هذان الوجهان ، سواء في ذلك ما سمى بالتدليس غير الدافع وما سمى بالتدليس الدافع ( [335] ) .
183 – التدليس صادر من المتعاقد الآخر أو من الغير – القانون المدني القديم : كانت المادتان 136 / 196 من القانون المدني القديم ، في نصهما العربي ، تقضيان كما رأينا بأن " التلديس موجب لعدم صحة الرضاء إذا كان رضاء أحد المتعاقدين مترتباً على الحيل المستعملة له من المتعاقد الآخر بحيث لولاها لما رضى " . وكان هذا النص العربي يتفق مع القانون المدني الفرنسي الذي ينص صراحة على أن التدليس يجب أن يكون صادراً من المتعاقد الآخر ( م 1116 ) . لذلك كان الفقه والقضاء في مصر يذهبان إلى أن التدليس يجب أن يكون صادراً من المتعاقد الآخر ، تمشياً مع النص العربي المشار إليه ومع نص القانون الفرنسي ( [336] ) . وكذلك الفقه يعلل هذا الحكم الشاذ بأن التدليس إذا صدر من الغير فلا يجوز أن يكون سبباً في إبطال العقد ، إذ ليس من العدل أن يجزي المتعاقد الآخر بالإبطال عن ذنب اقترفه الغير ، وللعاقد المخدوع أن يرجع على الغير الذي صدر منه التدليس بتعويض عما أصابه من الضرر . وليست هذه الحجة بمقنعة . فإن التدليس ، سواء صدر من المتعاقد الآخر أو صدر من الغير ، يعيب الإرادة . وما دمنا نأخذ بالمعيار الذاتي وننظر لا إلى التدليس في ذاته بل إلى ما احدثه من الأثر في نفس المتعاقد ، فإن الواجب عدم التفريق بين تدليس صدر من المتعاقد الآخر وتدلس صدر من الغير ، لأن العاقد المخدوع مضلل في الحالتين ، وقد صدرت إرادته على غير هدى ، فلا يجوز أن يلتزم بمثل هذه الإرادة . والواقع أن هذا التمييز ليست له علة منطقية ، وهو يرجع في الأصل لأسباب خاصة بالقانون الروماني ( [337] ) . وبالرغم من زوال هذه الأسباب فقد تلقى القانون الفرنسي القديم القاعدة ميراثاً من التقاليد ، وانتقلت منه إلى القانون الفرنسي الحديث . وإلا فما الفرق بين الإكراه والتدليس من هذه الناحية ، والمقرر أن الإكراه يبطل العقد سواء صدر من المتعاقد الآخر أو من الغير ، لأنه يعيب الإرادة في الحالتين ( [338] ) .
ولعل ضعف الحجة في وجوب التمييز بين التدليس الصادر من الغير والتدليس الصادر من المتعاقد الآخر هو الذي حمل القضاء والفقه في فرنسا وفي مصر على الانتقاص من هذا التمييز والعمل على هدمه بالإكثار من الاستثناء فيه . فاستقر الرأي على ألا تمييز بين تدليس صادر من الغير وتدليس صادر من المتعاقد الآخر ، وأن كليهما يعيب الإرادة ، في الأحوال الآتية : ( 1 ) إذا كان التصرف القانوني الذي داخله التدليس تصرفاً قانونياً صادراً من جانب واحد ( 2 ) في الهبات لأن الهبة يجب أن تتمحض عن نية التبرع خالصة ، فإذا داخلها التدليس ولو صدر من الغير كان مبطلا لها ( 3 ) في المعاوضات إذا صدر التدليس من نائب المتعاقد الآخر أو من الغير إذا كان متواطئاً مع المتعاقد الآخر ، أو إذا صدر التدليس من الغير وكان المتعاقد الآخر يعلم بهذا التدليس أو كان في استطاعته أن يعلم به .
وكان الفقه المصري يستطيع أن يجد في القانون المدني القديم سنداً على أن التدليس يعيب الرادة حتى لو صدر من الغير ، إذا هو رجع إلى النص الفرنسي للمادتين 136 / 196 ، فإن الترجمة الدقيقة لهذا النص هي ما يأتي " التدليس يعيب الإرادة إذا كانت الحيل المستعملة ضد المتعاقد جسيمة بحيث إنه لولاها لما رضى " . فلم يميز النص بين تدليس يصدر من المتعاقد الآخر وتدليس يصدر من الغير ، بل أطلق فجعل التدليس يعيب الإرادة في الحالتين ( [339] ) . ولو أخذ الفقه والقضاء في مصر بهذا التفسير الوجيه لاستغنيا به عن سلوك الطريق الطويل الملتوي الذي سلكه الفقه والقضاء في فرنسا ، ولذهبا مباشرة إلى الحل الصحيح عن طريق النص الصريح .
184 – القانون المدني الجديد في التدليس الصادر من الغير : هذا ما فعله القانون الجديد . فقد تجنب التناقض الذي وقع فيه القانون ولقدم ، ونص صراحة في المادة 126 ، كما سبق القول ، على أنه " إذا صدر التدليس من غير المتعاقدين فليس للمتعاقد المدلس عليه أن يطلب إبطال العقد ما لم يثبت أن المتعاقد الآخر كان يعلم ، أو كان من المفروض حتما أن يعلم ، بهذا التدليس ( [340] ) " . وقد نص القانون الجديد على مثل هذا في الإكراه ( أنظر المادة 128 ) ، فسوى بحث ما بين الإكراه والتدليس في ذلك ( [341] ) .
وإذا كان التدليس الصادر من الغير يعيب الإرادة متى كان المتعاقد الآخر يعلم ، أو كان من المفروض حتما أن يعلم ، بالتدليس ، بقى الفرض الذي يكون فيه المتعاقد الآخر غير عالم بالتدليس وغير مستطيع أن يعلم به . وحتى هنا يجوز إبطال العقد للغلط إذا اثبت العاقد المخدوع أن العاقد الآخر كان مشتركا معه في الغلط الذي وقع فيه من جراء هذا التدليس ، أو أن هذا المتعاقد الآخر كان يعلم أو كان يستطيع أن يعلم بهذا الغلط . فإذا لم يثبت شيئا من ذلك ، فإن العقد لا يكون باطلا لا للتدليس وللغلط . وهذا عدل ، لأننا إذا أبطلنا العقد في هذه الحالة فللمتعاقد الآخر وهو حسن النية أن يطلب تعويضاً ، وخير تعويض هو بقاء العقد صحيحاً . وهذا تطبيق آخر لقيام العقد على سبيل التعويض ، لا على الإرادة الحقيقية للمتعاقد ( [342] ) ، وقد سبقت الإشارة إلى تطبيقات من هذا القبيل .
ب – نظرية الغلط تغني عن نظرية التدليس
185 – الغلط يغني عن التدليس في النظرية الحديثة : قدمنا أن التدليس من شأنها أن يوقع المتعاقد في غلط ، فإذا كان رضاؤه معيباً فإنما يكون ذلك بسبب الغلط الذي أوقع فيه التدليس . ومع ذلك فإن النظرية التقليدية للتدليس إذا وضعت بجانب النظرية التقليدية للغلط تجعل دائرة التدليس أوسع من دائرة الغلط . فهناك أحوال لا يكفي فيها الغلط لإبطال العقد ، كالغلط في الباعث والغلط في القيمة ، فإذا اقترن بالغلط تدليس دافع ، كان التدليس لا الغلط هو السبب في إبطال العقد ( [343] ) . ومن ذلك نرى أن طبقاً للنظرية التقليدية لا يغني الغلط عن التدليس . بل يجب الحرص على التمييز بين التدليس والغلط ، فإنه إذا كان كل تدليس يحدث في النفس غلطاً ، فإن الاقتصار على هذا الغلط مجرداً عن التدليس لا يكفي لإبطال العقد في كل الأحوال .
أما في النظرية الحديثة ، فالغلط يغني عن التدليس . ولا يمكن في هذه النظرية أن يوجد عقد يبطل للتدليس دون أن يكون قابلا لأن يبطل للغلط في الوقت ذاته . والتدليل على ذلك هين . فالتدليس لا يبطل العقد إلا إذا كان دافعاً ، وهو إنما يبطل العقد لما يوقع في نفس المتعاقد من الغلط . فالغلط الناشيء عن التدليس المبطل للعقد لما يوقع في نفس المتعاقد من الغلط . فالغلط الناشيء عن التدليس المبطل للعقد لا بد أن يكون غلطاً دافعاً ، والغلط الدافع يبطل العقد دائماً حتى لو وقع في الباعث أو في القيمة . فنرى من ذلك أن كل عقد يبطل للتدليس يمكن في الوقت ذاته أن يبطل للغلط ، وأن نظرية الغلط تغني إذن عن نظرية التدليس ( [344] ) .
186 – ولكن التدليس لا يغني عن الغلط : ذلك أن التدليس إذا لم يوقع في نفس المتعاقد غلطاً فلا أثر له في صحة العقد ، ولا تترتب عليه إلا مسئولية عن التعويض إذا انطوى على خطأ تقصيري وأحدث ضرراً . ولا يمكن أن نتصور عقداً لا يبطل للغلط ويبطل مع ذلك للتدليس . فالعبرة إذن بالغلط لا بالتدليس . وإذا كان الغلط يغني عن التدليس ، فإن التدليس لا يغني عن الغلط .
على أنه إذا وقع المتعاقد في غلط من شأنها أن يبطل العقد ، فإن هناك فرقاً عملياً في هذه الحالة بين أن يكون الغلط مصحوباً بالتدليس أو أن يكون غير مصحوب به . ويظهر أثر هذا الفرق في أمرين : ( أولاً ) يسهل إثبات الغلط حيث يكون مصحوباً بالتدليس ، فإن الطرق الإحتيالية تكون غالباً طرقاً مادية يسهل إثباتها ، فيثبت الغلط تبعاً لذلك . أما إذا لم يصحب الغلط تدليس ، فإنه يصبح أمراً نفسياً ليس من الميسور إثباته . ( ثانياً ) إذا كان الغلط مصحوباً بتدليس ، فإن التدليس يكون سبباً في إلزام المدلس بالتعويض ، وذلك إلى جانب إبطال العقد ، إذا نجم عن التدليس ضرر ( [345] ) . أما الغلط غير المصحوب بالتدليس فجزاؤه إبطال العقد ، ولا محل للتعويض إلا إذا ثبت خطأ في جانب المتعاقد الذي علم بالغلط أو كان يستطيع أن يعلم به .
وظاهر أن كلا من هذين الأمرين عملي محض ، ولا صلة له بأثر الغلط في صحة العقد ( [346] ) . وقد آثر القانون الجديد مع ذلك أن يستبقى التدليس إلى جانب الغلط جرياً على التقاليد ، لا سيما إذا اقترنت بهذه الفروق العملية .
3 – الإكراه ( * )
( La violence )
187 – الرهبة هي التي تفسد الرضاء : الإكراه ضغط تتأثر به إرادة الشخص فيندفع إلى التعاقد . والذي يفسد الرضاء ليست هي الوسائل المادية التي تستعمل في الإكراه ، بل هي الرهبة التي تقع في نفس المتعاقد . كما أن الذي يفسد الرضاء في التدليس ليست هي الطرق الإحتيالية ، بل ما تحدثه هذه الطرق في نفس المتعاقد من التضليل والوهم .
188 – الإكراه الذي يفسد الرضاء والإكراه الذي يعدمه : والإكراه وأن كان يفسد الرضاء على النحو المتقدم ، إلا أنه لا يعدمه . فالمكره إرادته موجودة ، ولو انتزعت منه هذه الإرادة رهبة ، لأنه خير بين أن يريد أو أن يقع به المكروه الذي هدد به ، فاختار اهون الضررين وأراد ، إلا أن الإرادة التي صدرت منه هي إرادة فاسدة ، لأنها لم تكن حرة مختارة .
وإنما يعدم الإكراه الرضاء إذا انتزع الرضاء عنوة لا رهبة ، كما إذا امسك المكره بيد المكره وأجرى القلم في يده بالتوقيع على التزام . ففي هذه الحالة يكون العقد باطلا لانعدام الرضاء .
189 – الإكراه هو أيضاً عمل غير مشروع : وينبغي أن تنظر إلى الإكراه – كما نظرنا إلى التدليس – من ناحيتين : الناحية التي يكون الإكراه فيها عيباً من عيوب الإرادة فيبطل العقد ، والناحية التي يكون الإكراه فيها عملا غير مشروع فتترتب عليه المسئولية عن التعويض . وسنرى فيما يلي هاتين الناحيتين في الإكراه .
190 – النصوص القانونية : وكان القانون القديم يشتمل على نص واحد في الإكراه هو نص المادتين 135 / 195 ، وهو يقضى بأنه " لا يكون الإكراه موجباً لبطلان المشارطة إلا إذا كان شديداً ، بحيث يحصل منه تأثير لذوى التمييز مع مراعاة سن العاقد وحالته والذكورة والأنوثة " . وهذا النص يفضل نصوص القانون الفرنسي التي نقل عنها ، إذا تجنب الخوض في كثير من التفصيلات التي عرضت لها هذه النصوص ( [347] ) ، واقتصر على وضع معيار مرن . إلا أنه خلط ما بين معيار موضوعي هو معيار ذي التمييز ( personne raisonnable ) ومعيار ذاتي هو معيار العاقد بالذات . وقد نقل هذا الخلط عن القانون الفرنسي ( [348] ) .
أما القانون الجديد فقد تجنبت نصوصه هذا الخلط ، فاقتصرت على المعيار الذاتي وهو المعيار الصحيح ، وعرضت لعناصر الإكراه في نصين ، هما لمادتان 127 و 128 .
وتنص المادة 127 على ما يأتي :
" 1 - يجوز إبطال العقد للإكراه إذا تعاقد شخص تحت سلطان رهبة بعثها المتعاقد الآخر في نفسه دون حق وكانت قائمة على أساس .
2 - وتكون الرهبة قائمة على أساس إذا كانت ظروف الحال تصور للطرف الذي يدعها أن خطرا جسيما محدقا يهدده هو أو غيره في النفس أو الجسم أو الشرف أو المال .
3 - ويراعي في تقدير الإكراه جنس من وقع عليه الإكراه وسنه وحالته الاجتماعية والصحية وكل ظرف أخر من شأنه أن يؤثر في جسامة الإكراه ( [349] ) " .
وتنص المادة 128 على ما يأتي :
" إذا صدر الإكراه من غير المتعاقدين ، فليس للمتعاقد المكره أن يطلب إبطال العقد ، ما لم يثبت أن المتعاقد الآخر كان يعلم أو كان من المفروض حتما أن يعلم بهذا الإكراه ( [350] ) " .
191 – عنصران للإكراه : ويستخلص من هذه النصوص أن عناصر الإكراه ، كعناصر التدليس ، اثنان : 1 – استعمال وسائل للإكراه تهدد بخطر جسيم محدق ، وهذا هو العنصر الموضوعي . 2 – رهبة في النفس يبعثها الإكراه فتحمل على التعاقد ، وهذا هو العنصر النفسي .
وهذان العنصران كافيان ، ولا يهم بعد ذلك ما إذا كان الإكراه صادراً من أحد المتعاقدين ، أو من الغير ، أو من ظروف خارجية تهيأت مصادفة .
ونتناول بالبيان كلا من العنصري الموضوعي والنفسي ، وننتقل بعد ذلك إلى الجهة التي صدر منها الإكراه هل هي أحد المتعاقدين . أو الغير أو مجرد المصادفة ( [351] ) .
1 – استعمال وسائل للإكراه تهدد بخطر جسيم محدق
192 – تحليل هذا العنصر : لا بد من استعمال وسائل للإكراه تقع على الحس أو على النفس . فتهدد المتعاقد المكره ، أو شخصاً عزيزاً عنده ، بخطر جسيم محدق بالنفس أو بالمال . ووسائل الإكراه تكون في العادة غير مشروعة يقصد بها الوصول إلى غرض غير مشروع . وقد تستعمل وسائل مشروعة للوصول إلى غرض غير مشروع فيتحقق الإكراه : من ذلك أن يستغل صاحب الحق المطالبة بحقه لابتزاز فائدة غير مشروعة من المدين ، ومن ذلك أيضاً أن يستغل صاحب الشوكة والنفوذ الأدبي شوكته ونفوذه ليحقق غرضاً غير مشروع .
فنتكلم إذن فيما يأتي : ( 1 ) الإكراه الحسي والإكراه النفسي ( 2 ) الخطر الجسيم المحدق بالنفس أو بالمال إذا هدد المتعاقد نفسه ( 3 ) هذا لخطر إذا هدد غير المتعاقد ( 4 ) المطالبة بحق كوسيلة للإكراه ( 5 ) الشوكة والنفوذ الأدبي .
193 – الإكراه الحسي والإكراه النفسي : وسائل الإكراه أما أن تقع على الجسم ، كالضرب المبرح والإيذاء بأنواعه المختلفة ، وهذا ما يسمى بالإكراه الحسي ( violence physique ) لنه يقع على الحس ، وهو نادر لاسيما في الأوساط المتحضرة . وإما أن تكون الوسيلة تهديداً بإلحاق الأذى دون إيقاعه بالفعل أو إحداثاً لألم نفسي ، وهذا ما يسمى الإكراه النفسي ( violence morale ) لأنه يوقع في النفس رهبة أو ألماً ، وهذا هو الإكراه الأكثر وقوعاً في الحياة العملية . وليس هناك فرق بين الإكراه الحسي والإكراه النفسي ، فكل وسيلة من وسائل الإكراه ، سواء وقعت على الجسم أو على النفس ، تفسد الرضاء وتجعل العقد قابلا للإبطال .
194 – خطر جسيم محدق بالنفس أو بالمال يهدد المتعاقد نفسه : ولكن لما كان الإكراه النفسي هو الأكثر وقوعاً كما قدمنا ، فإن كلامنا ينصرف في الغالب إليه . وهو الذي يوقع في نفس المتعاقد المكره أن خطراً جسيما محدقاً يهدده هو أو غيره في النفس أو الجسم أو الشرف أو المال ( [352] ) " .
فالخطر يجب أن يكون جسيما ، والعبرة في جسامة الخطر بحالة المكره النفسية . فلو كانت وسائل الإكراه التي استعملت غير جدية ، ولكنها مع ذلك أوقعت الرهبة في نفس المكره وصورت له أن خطراً جسيماً يهدده ، فإن هذا يكفي لإفساد الرضاء . وذلك كما إذا هدد شخص آخر بعمل من أعمال الشعوذة ، كأن يلحق الأذى بمواشيه من طريق السحر " والتعزيم " ، أو هدده بأن له قدرة على " الربط والحل " ، أو نحو ذلك مما يقع كثيراً في الأوساط القروية الساذجة .
والخطر يجب أن يكون محدقاً ( imminent ) أي وشيك الوقوع . فلو كان التهديد بخطر يتراخى وقوعه إلى أجل يتمكن معه المتعاقد من اتخاذ الحيطة لنفسه ، فإن هذا التهديد لبس من شأنه عادة أن يوقع في النفس الرهبة التي تفسد الرضاء . على أن الأمر منوط بحالة المتعاقد النفسية ، فقد ننبعث في نفسه رهبة من التهديد بخطر بعيد الأجل ، فيكفي هذا لإفساد الرضاء . فالعبرة إذن بوقوع الرهبة حالا في نفس المتعاقد ، لا بأن الخطر حال أو محدق ( [353] ) .
والخطر إما أن يصيب المتعاقد في جسمه أو نفسه ، كخطر يقع على حياته أو على سلامة أعضائه أو الم نفسي ينزل به . وإما أن يقع على شرفه واعتباره بين الناس أو على الثقة فيه لا سيما إذا كانت مهنته تقتضي التوفر على هذه الثقة كما في التجارة . وإما أن يقع على ماله ، كما إذا هدد في مزروعاته بالإتلاف أو في داره بالحريق . فالخطر الذي يقع على أي شيء يحرص المتعاقد على سلامته يكفي لتحقق الإكراه .
195 – الخطر يهدد الغير : وليس من الضروري أن يهدد الخطر المتعاقد المكره نفسه ، فقد يهدد شخصاً غيره عزيزاً عليه فيعتبر الإكراه متحققاً بذلك . وهذا ما تنص عليه صراحة الفقرة الثانية من المادة 127 التي تقدم ذكرها ، فهي تجيز أن يهدد الخطر الجسيم المحدق المتعاقد المكره نفسه " أو غيره " . وقد كان المشروع التمهيدي للقانون الجديد يشترط أن يكون الغير هو أحد أقارب المتعاقد ( [354] ) ، ولكن رؤى بحق في المشروع النهائي العدول عن هذا الشرط . فليس صحيحاً أن الأقارب هم كل الناس الذين ينزلهم الشخص منزلة نفسه ، فهناك الزوج والزوجة ، والخطيب والخطيبة ، بل والأصدقاء ، قد يكون فيهم من يعزهم الشخص إعزازاً يجعله يتأثر مما يتعرضون له من الخطر إلى حد أن تفسد إرادته تحت تأثير الخوف الذي يقع في نفسه من جراء ذلك . وليس صحيحاً كذلك أن كل الأقارب ينزلهم الشخص منزلة نفسه ، ويتأثر من الخطر الذي يهددهم تأثراً يفسد رضاه . والأولى أن يترك تقدير ذلك للظروف ، فلا يذكر فريق معين من الناس على زعم إنهم هم الاعزاء دون غيرهم . وإنما ينظر القاضي في كل حالة إلى ظروفها الخاصة ، ويقدر علاقة المتعاقد بمن يهدده الخطر ، هل هي علاقة وصلت إلى الحد الذي يجعل المتعاقد يتأثر من هذا الخطر بحيث تفسد إرادته فيبطل العقد ، لا فرق في ذلك بين قريب وزوج وخطيب وصديق ( [355] ) .
196 – المطالبة بحق كوسيلة للإكراه : والإكراه يتحقق عادة باستعمال وسائل غير مشروعة للوصول إلى غرض غير مشروع . فتهدد شخص بقتله أو بإحراق منزله إذا لم يمض التزاماً ، أو بقتل ولد له اختطفه المكره إذا لم يمض تعهداً بدفع الفدية ، أو بالتشهير به إذا لم يتعهد بدفع قدر من المال ، كل هذه الوسائل غير مشروعة للوصول إلى غرض غير مشروع .
أما إذا كانت الوسائل مشروعة في ذاتها ويراد بها الوصول إلى غرض مشروع ، بأن يضغط شخص على إرادة شخص آخر من طريق المطالبة يحق له عليه ، ولا يقصد بهذا الضغط إلا الوصول إلى حقه ، فلا يبطل العقد للإكراه ، كالدائن يهدد المدين بالتنفيذ على ما له إذا لم يعطه تأميناً على عين بالذات ، فيعطيه المدين رهناً ، فلا يبطل عقد الرهن في هذه الحالة ، لأن الوسائل التي استعملت للضغط على إرادة المدين وسائل مشروعة ولا يقصد بها الدائن إلا الوصول إلى حقه وهو غرض مشروع . وكذلك إذا هدد شخص آخر بتقديمه بلاغاً إلى النيابة العامة يتهمه فيه بالتبديد إذا لم يكتب له سنداً بما أودعه عنده من مال ، فهذا الإقرار الصادر منه لا يبطل للإكراه ، لأن الوسائل التي استعملت مشروعة ويراد بها الوصول إلى غرض مشروع هو إثبات حق موجود . وكذلك إذا هددت الزوجة زوجها بأن تحبسه في نفقتها أن لم يستند ويعطها ما تنفقه ، فلا يبطل عقد القرض للإكراه . هذا ونص القانون الجديد صريح في أن الإكراه لا يتحقق إلا إذا كانت الرهبة قد بعثت " دون حق " في نفس المتعاقد المكره ( [356] ) .
على أنه إذا استعملت الوسائل المشروعة للوصول إلى غرض غير مشروع ، واستغل الدائن قيام حقه في المطالبة فضغط على إرادة مدينه ، لا للوصول إلى حقه فحسب ، بل ليبتز من المدين ما يزيد على حقه ، فإن الإكراه يتحقق ويبطل العقد . فمن فاجأ شخصاً متلبساً بجريمة ، فاستغل هذا الظرف واضطر إلى كتابة سند بمبلغ كبير من المال لاحق له فيه ، جاز إبطال العقد للإكراه . أما إذا استكتبه سنداً بمبلغ هو مقدار ما أصابه من الضرر بسبب ارتكاب الجريمة ، فإن الغرض هنا مشروع والعقد صحيح . وإذا هدد دائن مدينه بأن يعلن إفلاسه وابتغى من وراء ذلك الحصول على مال أكثر من حقه ، كان هذا إكراهاً ، أما إذا حصل على حقه فإن الغرض يكون مشروعاً ولا يكون هناك إكراه ( [357] ) .
197 – الشوكة والنفوذ الأدبي : ومجرد الشوكة والنفوذ الأدبي الذي قد يكون لشخص على آخر ، سواء ارتبطا بصلة النسب كما بين الأب وولده ، أو اتصلا برابطة الزوجية أو المصاهرة ، أو لم يتصلا بشيء من ذلك كما بين الوصي والقاصر إذا لم يكونا من ذوي القربى وبين الأستاذ والطالب وبين ذى النفوذ الديني والمتدين وبين الريس والمرؤوس ، لا يكفي عادة ليكون وسيلة للإكراه ، ذلك أن استعمال النفوذ الأدبي والشوكة أمر مشروع ما دام القصد من ذلك الوصول إلى غرض مشروع ( [358] ) .
أما إذا قصد الوصول إلى غرض غير مشروع ، فلا يوجد في هذه الحالة ما يمنع من الطعن في العقد بالإكراه ( [359] ) . ولا شك في أن موقف الزوجة من زوجها والزوج ذو شوكة على زوجته ، وموقف الولد من أبيه وهو يخفض له جناح الذل من الرحمة ، وموقف المتدين من رئيس ديني والدين ذو اثر عميق في النفس ، وموقف المرؤوس من رئيسه وفي يد هذا إبقاؤه في العمل أو فصله ، كل هذه مواقف قد تتأثر فيها إرادة الشخص إلى حد كبير ، وليس من الصواب أن يقال إن الشخص يتعاقد مختاراً فيها . فإذا أريد بالعقد وصول إلى غرض غير مشروع ، كعقد التزام باهظ يثقل كاهل الملتزم . أو ما كان يرضاه لولا موقفه ممن يتعاقد معه ، فإن العقد يجوز إبطاله للإكراه ( [360] ) .
ب – رهبة تحمل على التعاقد
198 – وجوب الأخذ بالمعيار الذاتي : قدمنا أن المادة 127 من القانون الجديد تقضي بأنه يجوز إبطال العقد للإكراه إذا تعاقد شخص تحت سلطان رهبة بعثها المتعاقد الآخر في نفسه دون حق ز . . ويراعى في تقدير الإكراه جنس من وقع عليه هذا الإكراه وسنه وحالته الاجتماعية والصحية وكل ظرف آخر من شأنها أن يؤثر في جسامة الإكراه . وهذا النص قاطع في أن القانون الجديد يأخذ في الإكراه بمعيار ذاتي محض . وقد كان القانون القديم ( م 135 / 195 ) يخلط بين المعيار الذاتي والمعيار الموضوعي مقلداً في ذلك القانون الفرنسي كما سبق القول ( [361] ) .
ولا شك في أن القانون الجديد أحسن صنعاً بالاقتصار على المعيار الذاتي وعدم الخلط بينه وبين المعيار الموضوعي ، فإن الإكراه ، كالغلط وكسائر عيوب الرضاء ، ظاهرة من الظواهر النفسية لا يجوز الأخذ فيها بغير المعيار الذاتي ( [362] ) . وهذا ما جرى عليه القضاء والفقه في مصر حتى في ظل القانون القديم ( [363] ) . وهذا هو أيضاً ما أخذت به الشريعة الإسلامية ( [364] ) والقوانين الأجنبية الحديثة ( [365] ) .
فيجب إذن أن تكون الرهبة التي بعثها إلى نفس المتعاقد المكره التهديد بخطر جسيم محدق في النفس أو الجسم أو الشرف أو المال رهبة قد ضغطت على إرادته بحيث أصبح مسلوب الحرية لا اختيار له فيما أراد ، وأن هذه الرهبة هي التي حملته على التعاقد ودفعته إليه دفعاً . فالرهبة إذن تكون قد افسدت إرادته ، وهذه هي المسألة الجوهرية التي يجب الوقوف عندها ، واليها ترد سائر المسائل في الإكراه . وما تقدم ذكره من وجوب التهديد بخطر في النفس أو الجسم الو الشرف أو المال ، ومن أن الخطر يجب أن يكون جسيماً محدقاً ، إنما هو المظهر المادي للرهبة التي انبعثت في نفس المتعاقد المكره فحملته على التعاقد . وليس الخطر الجسيم المحدق مقصوداً لذاته ، بل للنتيجة التي يؤدي إليها من وقوع الرهبة في النفس ، وأن تكون هذه الرهبة هي التي دفعت إلى التعاقد ، مراعى في ذلك الحالة الشخصية للمتعاقد المكره . وهذا هو المعنى المقصود من الأخذ بالمعيار الذاتي ( [366] ) .
199 – تطبيق المعيار الذاتي : فالواجب إذن النظر إلى حالة المتعاقد الشخصية ، فنتعرف إلى أي حد هو يتأثر بالرهبة والخوف ، وندخل في اعتبارنا كل العوامل التي يكون من شأنها تكييف نفسيته ، من جنس وسن وحالة اجتماعية وحالة صحية وكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر في جسامة الإكراه كما تقول الفقرة الثالثة من المادة 127 .
فالأنثى غير الذكر . والصبي الصغير غير الشاب القوي ، وهذا غير الهرم البالي . والقروى الساذج غير المدني المتحضر . والعصبي غير الهادئ المزاج . والضعيف غير القوى . والمريض غير المعافي . والجاهل غير المتعلم . والغبي غير الذكي . وهكذا . ويجب الاضداد أيضاً إلى جانب الحالة الشخصية بالظروف والملابسات ، فالخطر قد يحدث رهبة في نفس المتعاقد وهو في جهة قاصية بعيدة عن الناس ولا يحدثه وهو في مدينة آهلة بالسكان وعلى مقربة من رجال الأمن . وقد يخشى منفرداً ما لا يخشاه وهو في جماعة من الناس . وقد يكون الخوف اشد وقعاً في نفسه ليلا منه نهاراً . فالمكان والزمان وغيرهما من الظروف والملابسات تؤثر في تكييف جسامة الخطر في نفس المتعاقد ( [367] ) .
ومعرفة ما إذا كانت الرهبة هي التي دفعت فعلا إلى التعاقد مسألة واقع لا رقابة لمحكمة النقض عليها ( [368] ) . وينظر في تقديرها إلى العوامل التي سبق بيانها . ووجوب الاعتداد بهذه العوامل من مسائل القانون التي تعقب عليها محكمة النقض ( [369] ) .
ج – الجهة التي صدر منها الإكراه
200 – الإكراه الصادر من المتعاقد الآخر والإكراه الصادر من الغير : كان القانون القديم يميز بين الإكراه والتدليس إذا صدرا من الغير . فالإكراه الصادر ، الغير يؤثر في صحة العقد ، أما التدليس الصادر من الغير فلا اثر له في ذلك . وكان هذا موضعاً للنقد سبقت الإشارة إليه . أما القانون الجديد فقد نبذ هذا التمييز ، وجعل الحكم سواء في الحالتين . فعالج بذلك عيباً ظاهرة من عيوب القانون القديم .
والأصل أن الإكراه يفسد الإرادة كما قدمنا . وسواء صدر الإكراه من أحد المتعاقدين أو صدر من الغير فإن اثر الإكراه من حيث هو عيب في الرضاء لا يختلف ، والإرادة تكون فاسدة في الحالتين . أما من حيث أن الإكراه عمل غير مشروع ، فإن المسئول عن هذا العلم هو المكره ، وهو في إحدى الحالتين غير في الحالة الأخرى .
والذي يعنينا هنا هو الإكراه بوصفه عيباً في الرضاء . وفلا فرق إذن بين إكراه يصدر من أحد المتعاقدين وإكراه يصدر من الغير : كلاهما يفسد الإرادة ويجعل العقد قابلا للإبطال ( [370] ) .
إلا أن هذا الحكم منوط بتوافر شرط هو ذات الشرط الذي أوردناه في التدليس . فالإكراه الصادر من الغير لا يجعل العقد قابلا للإبطال إلا إذا اثبت المتعاقد المكره أن المتعاقد الآخر كان يعلم ، أو كان من المفروض حتما أن يعلم ، بهذا الإكراه . ذلك أن الإكراه إذا صدر من الغير ، ولم يكن المتعاقد الآخر يعلم به أو يفرض حتما أنه يعلم به ، واختار المتعاقد المكره إبطال العقد ، فإنه يصح للمتعاقد حسن النية أن يطالبه بالتعويض ، وخير تعويض هنا هو استبقاء العقد صحيحاً ، فيقوم في هذه الصورة أيضاً لا أساس من الإرادة الحقيقية ، بل على أساس من التعويض . وهذا هو عين ما قررناه في التدليس ( [371] ) .
ويلاحظ أن الإكراه في هذه الصورة الأخيرة ، حيث يبقى العقد صحيحاً لحسن نية المتعاقد الآخر ، إذا لم ينتج أثره كعيب من عيوب الرضاء ، فإنه ينتج أثره كعمل غير مشروع ، ويكون للمكره أن يطالب الغير الذي صدر منه الإكراه بتعويض ما أصابه من الضرر ( [372] ) .
201 – الإكراه الصادر عن ظروف تهيأت مصادفة ( حالة الضرورة ) : وقد يصدر الإكراه لا من أحد المتعاقدين ولا من الغير ، ولكن من ظروف تهيأت مصادفة لا يد لأحد فيها ، واقتصر المتعاقد على الإفادة منها واستغلالها لحمل من وقع تحت تأثير هذه الظروف على التعاقد ، كما إذا تقدم شخص لإنقاذ آخر من خطر الغرق أو الحريق أو القتل أو نحو ذلك وحصل منه قبل إنقاذه على تعهد بإعطائه مقداراً جسيما من المال ثمناً لهذا الإنقاذ ، وكما لو اتفق جراح مع مريض على إجراء عملية في نظير أجر باهظ مبالغ فيه .
وقد ذهبت النظرية التقليدية في الإكراه إلى التمييز ما بين هذا الفرض والفرض الذي يصدر فيه الإكراه من الغير . فإن الإكراه الصادر من الغير يقصد به الضغط على المتعاقد حتى ينتزع منه الرضاء ، ومن ثم يؤثر في صحة العقد . أما الفرض الذي نحن بصدده فالظروف الضاغطة على الإرادة قد تهيأت مصادفة ، ولم يكن الغرض منها الضغط على إرادة المتعاقد ، ولم يفعل المتعاقد الآخر إلا أنه استغلها عند تعاقده . ولما كانت النظرية التقليدية تشترط في الإكراه أن ينتزع الرضاء ، وقد ورد فعلا لفظ " الانتزاع " ( extorque ) في المادة 1109 من القانون المدني الفرنسي ، فإنها لا تجعل الإكراه الذي تهيأت ظروفه مباشرة ذا اثر في صحة العقد ( [373] ) .
ولكن هذا التمييز الذي تأخذ به النظرية التقليدية لا مبرر له ، وهو اثر من آثار القانون الروماني بقى في القانون الفرنسي بعد أن زالت مقتضياته ( [374] ) . والصحيح أن الإكراه متحقق في كلا الفرضين . وما دامت إرادة المتعاقد لم تكن حرة ، بل صدرت تحت تأثير الضغط ، فالإرادة فاسدة ، سواء في ذلك أن يكون مصدر الضغط هو المتعاقد الآخر أو أجنبي أو ظروف خارجية لا يد لا حد فيها ، فاثر الضغط في إرادة المتعاقد واحد في كل هذه الأحوال . فإذا تعرض شخص لخطر الموت ، وتقدم لإنقاذه شخص اشترط أن يأخذ مبلغاً جسيماً من أجل ذلك ، فلا فرق ، من حيث حرية إرادة المدين ، إذا كان مصدر الخطر الذي يتهدده هو من فعل الدائن أو من عمل الغير أو نتيجة الصدفة ، وما دام الدائن قد علم بالظروف الخارجية واستغله فالعقد قابل للإبطال . كذلك الطبيب الذي يستغل خطورة المرض ، فيضطر المريض إلى الالتزام بمبلغ جسيم اجرا للعلاج لا يتناسب البتة مع الأجر الذي يؤخذ عادة ، إنما يتعاقد مع شخص قد فقد حرية الإرادة ، ويجب أن يبطل العقد في هذه الحالة ، ومن ينقذ سفينة على وشك الغرق تلقاء تعهد باهظ من ربان السفينة ليس له أن يتمسك بهذا التعهد لأن الإرادة قد أفسدها الإكراه .
وقد أشتمل المشروع التمهيدي للقانون الجديد على نص صريح في هذا الموضوع يميز بين ما إذا كان المتعاقد الآخر حسن النية ولم يقصد أن يستغل المتعاقد المهدد بخطر تهيأت ظروفه مصادفة ، أو كان سيء النية وأراد استغلال هذه الظروف . ففي الحالة الأولى وحدها لا يكون للمتعاقد المكره حق إبطال العقد ( [375] ) ، ويستخلص من مفهوم المخالفة أن الإكراه يكون سبباً لإبطال العقد في الحالة الثانية . وهذا التمييز معقول ويجب الأخذ به في ظل القانون الجديد . وإذا كان المشروع النهائي قد اغفل هذا النص فلم يكن ذلك لأنه أراد مخالفة حكمه ، بل هو قد اعتمد على القواعد العامة في تقرير هذا الحكم ( [376] ) ، وبخاصة على قواعد الاستغلال . وسنرى ذلك فيما يلي .
4 – الاستغلال ( * )
( L'exploitation )
202 – الاستغلال والغبن : الغبن هو المظهر المادي للاستغلال . ويمكن تعريف الغبن بأنه عدم التعادل بين ما يعطيه العاقد وما يأخذه .
ويستخلص من هذا التعريف : ( 1 ) أن الغبن لا يتصور إلا في عقود المعاوضة غير الاحتمالية . أما عقود المعاوضة الاحتمالية وعقود التبرع فلا يتصور فيها الغبن ، لأن الأولى طبيعتها تقضي بوقوع الغبن على أحد المتعاقدين ، ولان الثانية يعطي فيها أحد المتعاقدين ولا يأخذ فلا محل للكلام عن عدم التعادل بين ما أخذ وما أعطى ( [377] ) . ( 2 ) أن الغبن يقدر وقت تمام العقد ، فينظر إلى التعادل في هذا الوقت ، ولا عبرة بتغير القيم بعد ذلك . ( 3 ) أن الغبن يصعب الاحتراز منه ، فلا بد من التسامح في الغبن اليسير والوقوف عند الغبن الفاحش ، وبهذا التمييز العملي يقول الفقه الإسلامي .
203 – تطور الغبن من نظرية مادية للغبن إلى نظرية نفسية للاستغلال : والغبن مشكلة اجتماعية لم يهتد القانون إلى حلها حلا مرضياً . فهي قائمة على اعتبارات اقتصادية وأدبية غير ثابتة ، فإذا ساد المدنية مذهب الفردية وما يتبعه من سيطرة مبدأ سلطان الإرادة ، رأينا القانون لا يقم للغبن وزناً . ثم إذا تطورت المدنية وضعف مذهب الفردية ومبدأ سلطان الإرادة ، تدخل القانون لمنع الغبن .
كان الرومان متشبعين بروح الفردية ، ومن أجل ذلك لم يكن القانون الروماني يعبأ بالغبن . ولما ساد الدين المسيحي أوروبا في القرون الوسطى ، انتكصت روح الفردية . وإذا كان مذهب سلطان الإرادة أخذ في الظهور منذ ذلك الوقت ، فإن رجال الكنيسة قيدوا هذا المبدأ بالعدالة وبحماية الضعيف من استغلال القوى ، وتوسعوا في نظرية الغبن ، فحرموا الربا في عقود القرض ، وحددوا للسلع أثمانها وللعمل اجره ، وهذا ما كانوا يسمونه بالثمن العدل ( juste prix ) وبالأجر العدل ( juste salaire ) . وعنيت الشريعة الإسلامية بحالة معينة من حالات الغبن وهي العقود الربوية ، فحرمت الربا وتعقبته في جميع مظان وجوده . ثم عادت روح الفردية وساد مبدأ سلطان الإرادة ، فضاق من تحريم الغبن ما كان قد اتسع . وعادت القوانين لا تعتد بالغبن إلا في أحوال معينة . وقويت هذه النزعة في الثورة الفرنسية ، فألغت الصورة حتى تعيين الحد الأقصى للفائدة وحتى تحريم الغبن في بيع العقار . وورث القانون المدني الفرنسي ، ومن ورائه القانون المدني المصري القديم ، هذه التقاليد ، فجاءت أحكامها ضيقة في الغبن . وقد التزم القانونان نظرة مادية للغبن . فالغبن فيهما لا يؤثر في صحة العقود إلا في حالات استثنائية نص عليها ، والعبرة في الغبن بالقيمة المادية للشيء لا بالقيمة الشخصية بالنسبة إلى المتعاقد ، والغبن عيب قائم بذاته مستقل عن عيوب الرضاء ، وهو عيب في العقد لا عيب في الرضاء ، وآيته إلا يكون هناك تعادل بين قيمة ما أعطى المتعاقد وقيمة ما أخذ على أن يصل الاختلال في التعادل إلى رقم محدود . واظهر حالة للغبن في القانون المدني المصري القديم حالة البيع إذا وقع على عقار القاصر ( م 336 – 337 / 19 – 4204 ) . وهناك حالات أخرى كانت منتثرة في نواحي هذا القانون ، كالفائدة لا يزيد حدها الأقصى على 8 في المائة ، وكعقد الوكالة يجوز فيه أن يعاد النظر في اجر الوكيل .
وقد تطورت هذه النظرية المادية في الغبن إلى نظرية نفسية في الاستغلال أخذ بها أكثر التقنينات الحديثة . والفرق ما بين النظريتين يتخلص في أمرين : ( أولاً ) في النظرية الأولى ينظر إلى قيمة الشيء نظرة مادية لا نظرة شخصية ، فالعبرة بقيمة الشيء في حد ذاته ، وتحدد هذه القيمة تبعاً للقوانين الاقتصادية وأهمها قانون العرض والطلب . أما في النظرية الأخرى فالعبرة بالقيمة الشخصية وهي قيمة الشيء في اعتبار المتعاقد ، إذ قد يكون الشيء تافها في ذاته كبيراً في نظر من يريد الحصول عليه لاعتبارات ترجع لظروف شخصية . ويترتب على النظرة المادية لقيمة الشيء أنه إذا اختل التعادل في العقد بالنظر إلى هذه القيمة ، فإن الغبن يتحقق حتى لو لم يختل التعادل بالنظر إلى القيمة الشخصية للشيء ، فقد يكون المتعاقد على بينة من قيمة الشيء المادية ولكن يشتريه بثمن اكبر ، غير مخدوع ولا مضطر ، لأن قيمته الشخصية تعدل الثمن الذي بذله . في مثل هذه الحالة يعتبر المتعاقد ، طبقاً للنظرية المادية ، مغبوناً ما دام التعادل قد اختل بالنسبة إلى القيمة المادية ، مع أنه كان عالماً بهذه القيمة ولم يخدع في أمرها ولم يضطر إلى التعاقد ، أي أنه لم يكن ضحية غلط أو تدليس أو إكراه . فالغبن إذن في النظرية المادية هو كما قدمنا عيب مستقل قائم بذاته ، وهو عيب يقع في العقد لا في الرضاء . أما الذي يترتب على النظرة الشخصية لقيمة الشيء فهو إلا يكون هناك غبن إلا إذا رضى المتعاقد أن يدفع ثمناً هو اكبر من هذه القيمة الشخصية ، وهو لا يفعل ذلك إلا إذا كان واهماً في قيمته ، أو مخدوعاً فيها ، أو مضطراً إلى التعاقد ، ولا يكون هذا إلا نتيجة طبش أو رعونة أو عدم تجربة أو عوز أو حاجة . ومعنى ذلك أن الغبن لا يتحقق في مثل هذه الحالة إلا إذا وقع المتعاقد فيما يقرب من الغلط أو التدليس أو الإكراه . فلا يكون الغبن إذن في النظرية الشخصية عيباً مستقلا قائماً بذاته وواقعاً في العقد ، بل هو مظهر من مظاهر عيوب الرضاء . ( اثانيا ) ودرجة الاختلال في التعادل ينظر إليها في النظرية الأولى نظرة مادية ، فهي درجة محددة ، بل هي رقم مرصود . فالغبن الذي يزيد على الخمس كما في الشريعة الإسلامية والقانون المصري ، أو الربع كما في القانون الفرنسي بالنسبة إلى القسمة ، أو النصف كما كان الأمر في القانون الفرنسي القديم ، أو سبعة أجزاء من اثنى عشر كما في القانون الفرنسي بالنسبة إلى بيع العقار ، هو الغبن الذي يعتد به ويستوجب الجزاء ابطالا أو تكملة . وقد يكون الغبن فاحشاً من الناحية الشخصية ، بالنسبة إلى ظروف المتعاقد الخاصة ، ولكنه لا يبلغ القدر المحدد من الناحية المادية ، فلا يعتد به في هذه الحالة ولا يؤثر في صحة العقد . أما النظرية الشخصية فتتخذ في تحديد درجة الاختلال في التعادل معياراً مرناً ، فهي لا تحدد رقما يجب أن يصل الغبن إليه ، بل تترك ذلك لظروف كل حالة ، ويكفى أن يصل الاختلال في التعادل ما بين القيمتين إلى حد باهظ .
وعني عن البيان أن النظرية المادية فيها مزية التحديد ، وفي هذا ضمان لاستقرار التعامل ، إذ يمكن للوهلة الأولى أن نتعرف هل في العقد غبن ، ولا يقتضى ذلك أكثر من عملية حسابية تقدر بها قيمة الشيء المادية ، وننسب هذه القيمة إلى الثمن ، فإن وصل الغبن إلى القدر المحدد اعتد به . ولكن عيب النظرية المادية هو عدم مرونتها ، فهي من الدقة الحسابية بحيث لا تصلح حلا عادلا لمسائل اجتماعية يتغلب فيها العنصر النفسي ، وتختلف ظروفها فتختلف الحلول المناسبة لهذه الظروف . وقاعدة واحدة جامدة تطبق تطبيقاً حسابياً على جميع المسائل ، ودون نظر إلى الفروق ما بين مسألة وأخرى ، تكون قاعدة ظالمة رغما ًمن مظهر خداع فيها للعدالة .
وقد اعتنقت التقنينات الحديثة النظرية النفسية ، وجعلت من الغبن نظرية عامة تنطبق على جميع العقود . فقضى القانون المدني الألماني في المادة 138 ببطلان التصرف القانوني الذي يستغل به الشخص حاجة الغير أو خفته أو عدم تجربته ليحصل لنفسه أو لغيره ، في نظير شيء يؤديه ، على منافع مالية تزيد على قيمة هذا الشيء ، بحيث يتبين من الظروف أن هناك اختلالا فادحاً ( disproportion choquante ) في التعادل ما بين قيمة تلك المنافع وقيمة هذا الشيء . وتقضى المادة 21 من قانون الالتزامات السويسري بأنه في حالة اختلال التعادل اختلالا واضحاً ( disproportion evidente ) ما بين تعهد أحد المتعاقدين وتعهد المتعاقد الآخر ، يجوز للمتعاقد المغبون في غضون سنة أن يعلن بطلان العقد ويسترد ما دفعه ، إذا كان قد دفع إلى هذا الغبن من طريق استغلال حاجة وقع فيها أو خفة أو عدم تجربة . وتقضي المادة 22 من المشروع الفرنسي الإيطالي بأنه إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين بعيدة عن كل تعادل ( hors de toute proportion ) مع ما حصل عليه بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الآخر ، بحيث يفترض تبعاً للظروف أن رضاءه لم يصدر عن اختيار كاف ، جاز للقاضي بناء على طلب المتعاقد المغبون أن يبطل العقد أو أن ينقص الالتزامات ( [378] ) .
204 – القانون المصري الجديد : وقد ساير القانون المصري الجديد التقنينات الحديثة واخذ بالنظرية النفسية في الاستغلال ، فنص في المادة 129 على ما يأتي :
" 1 - إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الآخر ، وتبين أن المتعاقد المغبون لم يبرم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشا بينا أو هوى جامحا ، جاز للقاضي بناء على طلب المتعاقد المغبون أن يبطل العقد أو ينقص التزامات هذا المتعاقد " .
" 2 - ويجب أن ترفع الدعوى بذلك خلال سنة من تاريخ العقد ، وإلا كانت غير مقبولة " .
" 3 - ويجوز في عقود المعاوضة أن يتوفى الطرف الآخر دعوى الأبطال ، إذا عرض ما يراه القاضي كافيا لرفع الغبن ( [379] ) " .
وقد حرص القانون الجديد على أن ينص في المادة 130 على أن " يراعى في تطبيق المادة السابقة ( م 129 ) عدم الإخلال بالأحكام الخاصة بالغبن في بعض العقود أو بسعر الفائدة ( [380] ) " . والعقود التي يشير إليها أهمها عقد البيع إذا اشترطت فيه الفائدة والشرط الجزائي . وسيأتي بيان ذلك عند الكلام في هذه العقود . والمهم أن الغبن في هذه الحالات قام على أساس النظرية المادية ، فلم يعتبر عيباً في الرضاء بل عيباً في العقد ، واعتد في الشيء بقيمته المادية لا بقيمته الشخصية ، ووقفت النصوص في بعض هذه الحالات عند رقم محدد التزمته عند تقدير الغبن .
فإذا تركنا جانباً حالات الغبن المتقدم ذكرها روجعنا إلى الاستغلال في نظريته العامة التي تتناول جميع العقود ، وهي النظرية الشخصية التي تضمنها نص المادة 129 سالفة الذكر ، رأينا أن للاستغلال عناصر متى توافرت ترتب الجزاء الذي نص عليه القانون .
فنحن نتكلم : ( أولاً ) في عناصر الاستغلال . و ( ثانياً ) في الجزاء الذي يترتب عليه .
ا – عناصر الاستغلال
205 – العنصران الموضوعي والنفسي : للاستغلال عنصران ، أحدهما موضوعي وهو اختلال التعادل اختلالا فادحاً ، والآخر نفسي وهو استغلال ضعف في نفس المتعاقد .
206 – العنصر الموضوعي : أوردت المادة 129 العنصر الموضوعي للاستغلال في العبارة الآتية : " إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الآخر " . وهذا هو اختلال التعادل اختلال فادحاً كما قدمنا .
ففي عقد البعي ، لا يشترط التعادل بين التزامات البائع والتزامات المشتري ، فقد يغبن أحد المتعاقدين ولا يمنع الغبن من صحة البيع . ولكن إذا اختل التعادل اختلالا فادحاً بين قيمة المبيع الذي التزم به البائع والثمن الذي التزم به المشتري ، فإن العنصر الموضوعي للاستغلال يتحقق .
وفي الوعد بالبيع ، إذا كان الواعد قد التزم مثلا ببيع منزل كبير القيمة لقاء ثمن زهيد ، بحيث يكون التعادل بين التزام الواعد ببيع المنزل وما حصل عليه من فائدة بوعده هذا وهو الثمن الزهيد قد اختل اختلالا فادحاً ، فإن العنصر الموضوعي للاستغلال هنا أيضاً يتحقق .
وفي الحالة الأولى يكون الاختلال الفادح واقعاً بين التزامات أحد المتعاقدين والتزامات المتعاقد الآخر . وفي الحالة الثانية يقع الاختلال الفادح بين التزامات المتعاقد وما حصل عليه من فائدة بموجب العقد .
والعبرة في تقدير قيمة الشيء بقيمته الشخصية بالنسبة إلى المتعاقد ، لا بقيمته المادية في ذاته . فقد تكون القيمة المادية لمنزل أربعة آلاف ، فيرغب شخص في شرائه بخمسة آلاف لأن قيمة المنزل بالنسبة إليه تبلغ هذا الثمن . فالعبرة هنا بالقيمة الثانية دون الأولى . ولو اشتراه الراغب فيه بخمسة آلاف أو بمبلغ اكبر بحيث لا يكون الاختلال فادحاً بين ما دفعه وما اعتبر قيمة شخصية للمنزل ، فإن العنصر الموضوعي للاستغلال لا يتحقق ، أما إذا دفع ثمناً عالياً يزيد كثيراً على هذه القيمة الشخصية ، كأن دفع ثمانية آلاف مثلا ، جاز القول بأن الاختلال في التعادل اختلال فادح .
فالفداحة في اختلال التعادل معيارها مادي كما نرى . ولكن هذا المعيار ليس رقما ثابتاً ، بل هو معيار متغير تبعاً للظروف في كل حالة . فقد تتحقق الفداحة بثمانية آلاف في المثل المتقدم ، وقد تتحقق بمبلغ أقل ، وقد لا تتحقق إلا بمبلغ اكبر . والقاضي هو الذي يقد بأي مبلغ تتحقق . وينظر في ذلك إلى ظروف كل من المشتري والبائع وإلى جميع الملابسات الأخرى . فالمسالة هنا مسألة واقع لا مسألة قانون ، ومحكمة النقض لا رقابة لها في ذلك إلا من حيث قصور التسبيب ، فإذا بينت محكمة الموضوع الظروف التي جعلتها تقدر أن الاختلال في التعادل فادح م وكان بيانها في ذلك كافياً ، فلا تعقيب لمحكمة النقض . وعبء الإثبات يقع على عاتق المتعاقد المغبون ، فهو الذي عليه أن يثبت الفداحة في اختلال التعادل .
وأكثر ما يكون الاختلال فادحاً في عقود المعاوضة المحددة ( contrats commutatifs ) ففيها يأخذ المتعاقد ويعطي ، وهو يعرف على وجه محدد مقدار ما أخذ ومقدار ما أعطى ، سواء في ذلك أخذ لنفسه أو أخذ لغيره كما في الاشتراط لمصلحة الغير . ولكن قد يقع ذلك أيضاً في العقود الاحتمالية ( [381] ) ، وهي عقود تنطوي على احتمال المكسب والخسارة كما هو معروف . إذ ينبغي أن يكون هناك نوع من التعادل معقول بين احتمال المكسب وقيمته من جهة واحتال الخسارة وقيمتها من هة أخرى . فإذا كان احتمال الخسارة في جانب أحد المتعاقدين ارجح بكثير من احتمال المكسب ، وكان مقدار الخسارة في الوقت ذاته لا يقل كثيراً عن مقدار المكسب ، كان الاختلال في التعادل فادحاً . فلو أن شخصاً امن منزله من الحريق ، وكان المنزل بعيداً كل البعد عن التعرض لخطر الحريق ولم يؤمنه صاحبه إلا تلبية لطلب دائن ارتهن المنزل ، واشترطت شركة التأمين أن يدفع المؤمن له اقساطاً سنوياً عالية ، احتمال خسارتها أرجح بكثير من احتمال احتراق المنزل فتقاضى تعويض عنه هو مبلغ التأمين ، ولم يكن هناك فرق كبير بين مقدار القسط السنوي وبين مبلغ التأمين ذاته ، ففي مثل هذا العقد الاحتمالي وهو عقد التأمين قد يتحقق أن يكون الاختلال في التعادل ما بين التزامات المؤمن له والتزامات شركة التأمين اختلالا فادحاً .
ولا يمكن القول في عقود التبرع إن هناك اختلالا فادحاً في التعادل ، لأن المتبرع يعطي ولا يأخذ . ولكن الاستغلال بالرغم من ذلك يقع في التبرعات كما يقع في المعاوضات . بل هو اشد وطأة في الأولى منه في الثانية . وإذا جاز أن يتحقق الاستغلال فيما يختل فيه التعادل ، فإن الاستغلال يكون أكثر تحققاً فيما لا تعادل فيه أصلاً . والفقرة الثالثة من المادة 129 من القانون الجديد ، وهي تجيز في عقود المعاوضة توقى دعوى الإبطال بتكملة البدل ، تفيد ضمناً أن الاستغلال قد يقع في غير عقود المعاوضة أي في عقود التبرع ( [382] ) . أما كيف يقع الاستغلال في التبرعات فإن ذلك سهل التصور ، بل هو كثير الوقوع فعلا . فقد يتبرع شخص بجميع ماله – ويغلب أن يتم ذلك عن طريق هبة في صورة بيع – لزوجته الثانية وأولاده منها ، مضيعاً بذلك على زوجته الأولى وأولاده منها ميراثهم الشرعي ، ويكون هذا التبرع قد صدر نتيجة لاستغلال زوجته الأولى ضعفه أو هواه . وهنا لا يقال أن التعادل مختل اختلالا فادحاً . بل يقال إنه غير موجود أصلاً ، فالمتبرع أعطى دون مقابل ، وهو لم يرض بهذا التبرع إلا نتيجة استغلال لطيشه البين أو لهواه الجامح .
بل قد يجاوز الاستغلال العقود إلى التصرفات القانونية الصادرة من جانب واحد ، كما إذا أوصى شخص بجميع ما يملك الايصاء به لشخص استغل فيه طيشاً بينا أو هوى جامحاً ، فالوصية هنا يعيبها الاستغلال ، وهي ليست عقداً بل عملا قانونياً صادراً من جانب واحد .
207 – العنصر النفسي : أما العنصر النفسي للاستغلال فقد اوردته المادة 129 في العبارة الآتية : " وتبين أن المتعاقد المغبون لم يبرم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشاً بيناً أو هوى جامحاً " . وكان المشروع التمهيدي لهذا النص يجري على الوجه الآتي : " بحيث يكون مفروضاً تبعاً للظروف أن الطرف المغبون قدا ستغلت حاجته أو طيشه أو عدم خبرته أو ضعف إدراكه ، أو بحيث يتبين بوجه عام أن رضاءه لم يصدر عن اختيار كاف " . ثم أصبح نص المشروع النهائي كما يأتي : " وتبين أن المتعاقد المغبون قد استغل طيشه أو حاجته أو عدم خبرته أو ضعف إدراكه ، أو تبين بوجه عام أن رضاءه لم يصدر عن اختيار كاف " . ويلاحظ أن المشروعين التمهيدي والنهائي قد توسعا فيما يصح أن يستغل في المتعاقد المغبون : الحاجة والطيش وعدم الخبرة وضعف الإدراك . بل ذهبا إلى مدى أبعد ، فصرحا بان العبرة في كل هذا إلا يكون رضاء المتعاقد المغبون قد صدر عن اختيار كاف . والمشروعان فيما توسعا فيه يتفقان مع التقنينات الأجنبية الحديثة التي تضمنت نصوصاً عامة في الاستغلال ، وقد سبقت الإشارة إليها ، ورأيناها تستعمل الألفاظ ذاتها . ولكن عندما عرض المشروع النهائي على لجنة مجلس الشيوخ اثرت اللجة إلا تتوسع في الاستغلال توسع التقنينات الأجنبية ، وأن تقتصر فيما يصح أن يستغل على الطيش والهوى ، مع اشتراط أن يكون الطيش بيناً والهوى جامحاً ، إمعاناً في تضييق الدائرة التي يطبق الاستغلال فيها ، خشية من التحكم ، ورغبة في انضباط التعامل واستقراره ( [383] ) .
فالعنصر النفسي في الاستغلال ينحصر إذن في أن أحد المتعاقدين يستغل في المتعاقد الآخر طيشاً بيتاً أو هوى جامحاً . وفي القضاء المصري أمثلة بارزة على ذلك . فكثيراً ما يعمد رجل طاعن في السن إلى الزواج من امرأة لا تزال في مقتبل عمرها ، وليس من النادر أن تعمد الزوجة إلى استغلال ما تلقاها عند زوجها من هوى ، فتستكتبه من العقود لنفسها ولأولادها ما تشاء ، وقد أسلفنا الإشارة إلى ذلك . وقد تتزوج امرأة غنية من زوج شاب عن ميل وهوى ، فيعمد الزوج إلى استغلال الزوجة وابتزاز مالها عن طريق عقود يمليها عليها . وقد تشتري امرأة حريتها من زوج قديم تؤثر عليه زوجاً جديداً ، فيطلقها الزوج القديم لقاء مبلغ طائل من المال . وقد يلقى الطيش والنزق بشاب ورث مالا كثيراً في أيدي المرابين والمستغلين ، فيستكتبونه من العقود ما يجرده من الكثير من إله ، وهم يستغلون في ذلك نزقه الشديد وطيشه البين . كل هذه أمثلة ننتزعها من حياتنا المصرية لندلل بها على أن الاستغلال ليس بالأمر النادر ، بل هو شيء يقع في الحياة ، وإذا وقع كان القضاء في اشد الحاجة إلى نص يعالج به ما يعرض له من الاقضية في ذلك ( [384] ) . وهو إذا ترك إلى القواعد العامة يتلمس العلاج في عيب بالذات من عيوب الرضاء ، أو يتلمسه في قواعد العدالة ، كما كان يفعل من قبل في ظل القانون القديم ، فإنه لا يلبث أن يضطرب عليه الأمر ، ويكون بين أن يفسر النصوص على غير ما وضعت له ، أو أن يتحرر منها فينفلت إلى تيه ليست فيه معالم مستقرة ولا ضوابط يسترشد بها في خطاه .
ويلاحظ أن هذا العنصر النفسي يقتضى أن يكون المتعاقد المغبون " لم يبرم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشاً بيناً أو هوى جامحاً " . ومعنى هذا أن يكون الاستغلال قد وقع من المتعاقد الآخر ، وأن يكون هذا لاستغلال هو الذي دفع المتعاقد المغبون إلى التعاقد . ويترتب على ذلك أمران : ( أولهما ) أن إرادة المستغل تكون إرادة غير مشروعة ، فإنها انصرفت إلى استغلال المتعاقد المغبون ، وهذا عمل غير مشروع ( [385] ) . وإذا كان المستغل لا يد له فما أصاب المتعاقد المغبون من طيش أو هوى ، إلا أنه قد استغل فيه ما أصاب من ذلك ، وهذا ما يجعل الاستغلال قريباً من الإكراه إذا تهيأت ظروفه مصادفة على ما مر بنا ( [386] ) . ( والأمر الثاني ) أن إرادة المتعاقد المغبون تكون إرادة معيبة ، فهي إرادة ضلل بها الطيش البين أو ضغط عليها الهوى الجامح ، وقد دفع بها الاستغلال إلى التعاقد ، فالمعيار هنا معيار نفسي كما هو الأمر في سائر عيوب الرضاء .
ووقوع الاستغلال دافعاً إلى التعاقد مسألة واقع لا مسألة قانون ، فلا تعقيب عليها من محكمة النقض . ولكن الوصف القانوني لوقائع الاستغلال ، وأن ما يصح استغلاله مقصور على الطيش البين والهوى الجامع ، مسألة قانون تبسط عليها محكمة النقض رقابتها .
وعلى المتعاقد المغبون يقع عبء إثبات هذا العنصر النفسي ، إذا هو عنصر مستقل عن العنصر المادي ، لا مستخلص منه ولا مفروض . والنص صريح في هذا المعنى إذ يقول : " وتبين أن المتعاقد المغبون لم يبرم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشاً بيناً أو هوى جامحاً " . وهذا بخلاف نص المشروع التمهيدي الذي يجعل العنصر النفسي مفروضاً بوجود العنصر المادي فيقول : " بحيث يكون مفروضاً تبعاً للظروف أن الطرف المغبون قد استغلت حاجته . . . " .
208 – علاقة الاستغلال بعيوب الرضاء : قدمنا أن العنصر النفسي يقتضى أمرين : أن إرادة المتعاقد المستغل تكون إرادة غير مشروعة ، وأن إرادة المتعاقد المغبون تكون إرادة معيبة .
فإذا نحن اعتبرنا الأمر الأول ، كان العقد الذي أملاه الطرف المستغل عقداً غير مشروع . وإذا نحن اعتبرنا الأمر الثاني ، كان هذا العقد ذاته – الذي لم يرض به الطرف المغبون إلا عن ضلال من طيشه أو ضغط من هواه – عقداً قد داخله عيب من عيوب الرضاء .
بالاعتبار الأول أخذ القانون الألماني ( م 138 ) ، وجعل عقد المستغل باطلا بطلاناً مطلقاً لمنافاته للآداب ( [387] ) . وبالاعتبار الثاني أخذت التقنينات الحديثة الأخرى ومعها القانون المصري الجديد ، وجعلت العقد قابلا للإبطال أو الإنقاص لعيب في إرادة المتعاقد المغبون ( [388] ) .
ويعنينا هنا أن نقف عند الاعتبار الثاني ، وهو الذي أخذ به قانوننا المصري الجديد مقتفياً في ذلك اثر المشروع الفرنسي الإيطالي وكثير من التقنينات الحديثة . فالاستغلال ، وفقاً لهذا الاعتبار ، لا ينظر إليه على أساس أنه عمل غير مشروع صادر من الطرف المستغل ، بل على أساس أنه عمل من شانها أن يعيب إرادة الطرف المغبون . ذلك أن المتعاقد المغبون إذا هو استغل فيه طيشه البين كان مضللا ، وكان العيب الذي يداخل إرادته أقرب ما يكون إلى التدليس الو الغلط . وإذا ما استغل فيه هواه الجامح ، كان العيب الذي يداخل إرادته أقرب ما يكون إلى الإكراه . والأمر في كل ذلك واضح ، فإن المتعاقد المغبون لا يتصور أن يكون قد قبل هذا الغبن فالاحش الذي يختل به التعادل بين ما أخذ وما أعطى اختلالا فادحاً ، إلا أن يكون قد وقع في تدليس أو غلط في حالة الطيش البين ، أو أن يكون ضحية إكراه في حالة الهوى الجامع . ولكن الغلط والتدليس والإكراه في حالات الاستغلال عيوب لا تتميز تميزاً كافياً حتى يقام الدليل عليها ، بل هي عيوب مفترضة ، ويكفي في افتراضها أن يقام الدليل على الاستغلال بعنصريه المادي والنفسي . لذلك لم يقتصر الجزاء فيها على قابلية العقد للإبطال ، بل وضع بديلا عن هذا الجزاء في بعض الأحوال جزاء آخر هو قابلية العقد للانقاص ، وجعلت المدة التي ترفع فيها دعوى الإبطال أو دعوى الإنقاص سنة واحدة من تاريخ العقد . فخالفت دعوى الإبطال للاستغلال ، بهذا وذلك . دعاوى الإبطال الأخرى التي تترتب على الغلط والتدليس والإكراه . وهذا ما نتولى الآن بيانه .
ب - الجزاء الذي يترتب على الاستغلال
209 – دعويان : إذا توافرت شروط الاستغلال التي أسلفنا ذكرها " جاز للقاضي ، بناء على طلب المتعاقد المغبون ، أن يبطل العقد أو أن ينقص التزامات هذا المتعاقد " . ويتبين من ذلك أن القانون يرتب على الاستغلال إحدى دعويين : دعوى إبطال ، ودعوى إنقاص .
وسواء طلب المتعاقد المغبون الإبطال أو طلب الإنقاص ، فإنه يجب أن يرفع دعواه في " خلال سنة من تاريخ العقد وإلا كانت غير مقبولة " ( م 129 فقرة ثانية ) . والسنة هنا ميعاد لرفع الدعوى لا مدة للتقادم ، فإذا انقضت السنة دون أن يرفع المتعاقد المغبون دعواه ، ورفعها بعد ذلك ، كانت الدعوى غير مقبولة كما يقضي بذلك صريح النص . ويقال عادة في هذا الصدد أن السنة ميعاد إسقاط ( decheance ) لا ميعاد تقادم ( prescription ) . والفرق بين الميعادين أن ميعاد الإسقاط لا ينقطع ولا يقف ، بخلاف ميعاد التقادم فيرد عليه الانقطاع والوقف . وتبدأ السنة من وقت تمام العقد ، وتحسب بالتقويم الميلادي ( م 3 من القانون الجديد ) .
والحكمة في أن القانون جعل ميعاد رفع الدعوى في الاستغلال مدة قصيرة ، وجعله ميعاد إسقاط لا ينقطع ولا يقف ، هي الرغبة في حسم النزاع بشأن العقود التي يداخلها الاستغلال ، فلا يبقى مصري العقد معلقاً مدة طويلة على دعوى مجال الادعاء فيها واسع فسيح . وفي هذا حماية للتعاقد واستقرار للتعامل . أما دعوى الإبطال في الغلط والتدليس والإكراه فسنرى إنها لا تسقط إلا بثلاث سنوات أو بخمس عشرة سنة على حساب الأحوال ( م 140 ) ، وهذه المدة هي فوق ذلك مدة تقادم لا ميعاد إسقاط ، فيجوز أن تطول إذا قام بها سبب من أسباب الانقطاع أو الوقف . والعلة في ذلك أن الطعن في العقد بالغلط أو بالتدليس أو بالإكراه أمر من الميسور نسبياً تبين وجه الحق فيه ولو طال الزمن إلى ما بعد السنة ، فإن كلا من الغلط والتدليس والإكراه شيء يستطاع التثبت من وجوده بأيسر مما يستطاع التثبت من وجود الاستغلال ( [389] ) .
210 – دعوى الإبطال : وإذا اختار المتعاقد المغبون دعوى الإبطال جاز للقاضي أن يجيبه إلى طلبه فيبطل العقد إذا رأى أن الاستغلال عاب رضاء المتعاقد المغبون إلى حد أن افسد هذا الرضاء . وأن المتعاقد المغبون لم يكن ليبرم العقد أصلاً لولا هذا الاستغلال . أما إذا رأى القاضي أن الاستغلال لم يفسد الرضاء إلى هذا الحد ، وأن المتعاقد المغبون كان دون استغلال يبرم العقد لو أن التزاماته لم تكن باهظة ، رفض القاضي إبطال العقد ، معاوضة كان أو تبرعاً ، واقتصر على إنقاص الالتزامات الباهظة على الوجه الذي سيأتي بيانه . والخيار ما بين إبطال العقد وانقاص الالتزامات يسترشد فيه القاضي بملابسات القضية وظروفها ، فالمسالة إذن مسألة واقع لا معقب عليها من محكمة النقض .
ودعوى الإبطال للاستغلال يجري عليها أحكام دعاوى الإبطال الأخرى ، وسيأتي ذكر هذه الأحكام عند الكلام في بطلان العقد . ولكنها تتميز عن سائر هذه الدعاوى في أمرين .
( الأمر الأول ) المدة التي ترفع فيها الدعوى ، وقد مر ذكر ذلك .
( والأمر الثاني ) أن الطرف المستغل يجوز له أن يتوقى الحكم بالابطال عقود المعاوضات إذا هو غرض على الطرف المغبون ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن . وقد نصت الفقرة الثالثة من المادة 129 على هذا الحكم فقالت : " ويجوز في عقود المعاوضة أن يتوقى الطرف الآخر دعوى الإبطال إذا عرض ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن " . فإذا كان العقد معاوضة كالبيع ، وطلب البائع المغبون إبطاله للاستغلال ، جاز للمشتري أن يعرض زيادة في الثمن ترفع الغبن عن البائع . فإذا رأى القاضي أن الزيادة التي عرضها المشتري تكفي لرفع الغبن ، اكتفى بها وامتنع عن إبطال العقد . ومقدار الزيادة الذي يكفي لرفع الغبن يرجع إلى تقدير القاضي . ولا يشترط أن تكون الزيادة بحيث تجعل الثمن معادلا لقيمة الشيء . بل يكفي أن تكون بحيث تجعل الغبن الذي يتحمله البائع لا يصل إلى حد الغبن الفاحش . وينظر القاضي في تقدير ذلك إلى ملابسات القضية وظروفها ، ولا تعقب عليه محكمة النقض ما دام التسبيب وافياً . وغنى عن البيان أن ما قدمناه من دفع زيادة ترفع الغبن لتوقى دعوى الإبطال لا ينطبق على عقود التبرع ، فإن من تلقى التبرع لم يدفع أي مقابل تصح زيادته لرفع الغبن .
211 – دعوى الإنقاص : وإذا اختار المتعاقد المغبون إنقاص التزاماته الباهظة ورفع من بادئ الأمر دعوى الإنقاص ، أو رفع دعوى الإبطال ولكن القاضي رأى الاقتصار على إنقاص التزاماته ، قضى بانقاص هذه الالتزامات إلى الحد الذي لا يجعلها باهظة ( [390] ) . وهذا أيضاً موكول لتقدير القاضي ينظر فيه وفقاً لملابسات القضية وظروفها ، كما هو الشأن في الزيادة التي يعرضها الطرف المستغل لرفع الغبن فيما مر بنا . والمسالة هنا أيضاً مسألة واقع لا رقابة لمحكمة النقض عليها . ففي البيع المشوب بالاستغلال إذا رفع البائع المغبون عوى الإنقاص ، أو رفع دعوى الإبطال ولكن رؤى الاقتصار على الإنقاص ، جاز للقاضي أن ينقص من المبيع القدر الذي يراه كافياً لرفع الغبن الفاحش عن البائع ولا يشترط هنا أيضاً أن يكون الباقي من المبيع معادلا للثمن . بل يكفي إلا يكون هناك غبن فاحش إذا قوبل هذا الباقي بالثمن .
ولا يجوز وقت النظر في إنقاص التزمات البائع الباهظة أن يعدل القاصي عن إنقاص التزامات البائع إلى الزيادة في التزمات المشتري ، بان يزيد في مقدار الثمن بدلا من أن ينقص في قدر المبيع : فإن نص القانون لا يجير ذلك ، ولانه إذا كان إنقاص مقدار المبيع لا يؤذى البائع بل يرفع عنه الغبن ، فإن الزيادة في الثمن قد تؤذي المشتري إلى حد أن يؤثر العدول عن الصفقة . وإنما تجوز الزيادة في الثمن إذا رغب المشتري نفسه في ذلك بان ترفع عليه دعوى الإبطال فيتوقاها بعرض زيادة في الثمن يراها القاضي كافية لرفع الغبن كما مر .
ويجوز الإنقاص في عقود التبرع التي داخلها الاستغلال كما يجوز الإبطال ، وينقص القاضي التبرع إلى الحد الذي ينتفى معه اثر الاستغلال .
212 – دفع ما وجه من اعتراض على نظرية الاستغلال : خشى كثيرون من هذا النص العام الذي ورد في القانون الجديد عن الاستغلال ، ورأوا فيه ما يعرض التعامل إلى التقلقل وعدم الاستقرار ، وحسبوا أنه سيكون مصدراً لكثير من المنازعات والدعاوى . ولا نرى ما يبرر هذا التخوف ، فإن القضاء المصري قد واجه فعلا اقضية الاستغلال في الأمثلة التي قدمناها ، وعالجها بالقدر الذي استطاع عن طريق تطبيق القواعد العامة . وقد رأينا أن القواعد العامة لا تكفي هنا ، وأن نصاً عاماً في الاستغلال ، لاسيما إذا شمل هذا النص حالات الاستهواء أيضاً ، تفرضه الضرورة وتوجبه مقتضيات التعامل . فيواجه القاضي ما يعرض له فعلا من حالات الاستغلال بنص صالح تنضبط به المعاملات ، وتنقطع معه أسباب الخلاف والتردد .
والغريب أن خصوم نظرية الاستغلال يناقض بعضهم بعضاً . ففريق منهم يرى أن هذا النص العام في الاستغلال سيكون مصدراً لكثرة المنازعات والدعاوى ( [391] ) . وفريق آخر يقول على النقيض من ذلك أن النص نادر التطبيق ، وأن اقضية الاستغلال التي طرحت أمام المحاكم في البلاد التي اشتملت قوانينها على هذا النص كانت من القلة بحيث أصبح النص عديم الجدوى ( [392] ) . وسنرى ما يصير إليه الأمر في مصر بعد أن تطبق المحاكم المصرية النص الذي أشتمل عليه القانون الجديد ( [393] ) .
الفرع الثاني
المحل
( L' Objet )
213 – تعريف محل الالتزام : محل الالتزام هو الشيء الذي يلتزم المدين القيام به . والمدين يلتزم كما قدمنا أما بنقل حق عيني أو بعمل أو بالامتناع عن عمل .
والالتزام بنقل حق عيني إنما هو التزام بعمل . ولكن لما كان الأصل أن هذا لالتزام يتم تنفيذه بمجرد نشوته ، فقد صار من المألوف أن يقال إن محل الالتزام بنقل حق عيني هو هذا الحق العيني ذاته . فإذا كان الحق العيني حق ملكية امتزج بالشيء الملوك وأصبحا شيئاً واحداً ، فصار الالتزام بنقل الملكية محله هو الشيء ذاته الذي تنتقل ملكيته .
214 – الشروط الواجب توافرها في محل الالتزام : يستخلص من نصوص القانون الجديد ( م 131 – 135 ) أن محل الالتزام يجب أن يكون : ( 1 ) موجوداً إذا كان شيئاً ( أي محلا لالتزام بنقل حق عيني ) ، أو ممكناً إذا كان عملا أو امتناعاً عن عمل . ( 2 ) معيناً أو قابلا للتعيين . ( 3 ) قابلا للتعامل فيه ( [394] ) .
المبحث الأول
المحل موجود أو ممكن
1 – المحل موجود
215 – معنى الوجود : إذا كان الالتزام محله نقل حق عيني ، فالشيء الذي تعلق به هذا الحق يجب أن يكون موجوداً . والمعنى المقصود من الوجود هو أن يكون الشيء موجوداً وقت نشوء الالتزام أن أن يكون ممكن الوجود بعد ذلك .
وقد يقصد المتعاقدان أن يقع الالتزام على شيء موجود فعلا لا على شيء ممكن الوجود . فإذا لم يكن الشيء موجوداً في هذه الحالة – حتى لو أمكن وجوده في المستقبل – فإن الالتزام لا يقوم . كذلك يكون الحكم إذا وجد الشيء ثم هلك قبل نشوء الالتزام . أما إذا هلك بعد نشوء الالتزام ، فإن الالتزام يكون قد قام وقت نشوئه على محل موجود ، ويكون العقد بعد ذلك قابلا للفسخ إذا تسبب عن هلاك الشيء عدم قيام أحد المتعاقدين بما التزم به .
فإذا لم يقصد المتعاقدان أن يقع الالتزام على شيء موجود فعلا وقت نشوء الالتزام ، جاز أن يقع الالتزام على شيء يوجد في المستقبل .
216 – المحل المستقبل : رأينا أنه يجوز التعاقد على محل مستقبل . وقد نصت الفقرة الأولى من المادة 131 من القانون المدني الجديد صراحة على ذلك إذ تقول : " يجوز أن يكون محل الالتزام شيئاً مستقبلا ( [395] ) " . وقد يبدو أن هذا النص بديهي ، فهو يردد حكماً تقضي به القواعد العامة ، إذ ليس في هذه القواعد ما يمنع من أن يكون المحل الاقبل للتعيين غير موجود وقت نشوء الالتزام إذا كان من شأنه أن يوجد أو أن يكون من الممكن وجوده في المستقبل . ولكن النص مع ذلك أتى بحكم يخالف المعروف من قواعد الفقه الإسلامي ( [396] ) ، فإن هذه القواعد تقضي بأن التعامل لا يصح إلا في شيء موجود ، فبيع المعدوم باطل ، واستثنى السلم ، وجاء الإيجار وهو بيع منافع مستقبلة على خلاف القياس . وقد تأثر القانون المدني المختلط القديم بقواعد الفقه الإسلامي فنص في المادة 330 على ان " بيع اثمار الشجر قبل انعقادها والزرع قبل نباته باطل ( [397] ) " . من أجل ذلك حرص القانون الجديد على اباحة التعامل في الأشياء المستقبلة بنص صريح ( [398] ) .
ويترتب على ذلك أنه يجوز بيع المحصولات المستقبلة قبل أن تنبت ، بثمن مقدر جزافاً أو بسعر الوحدة . وقد قضى القانون الجديد على أما كان من خلاف في هذا بين القانون الوطني والقانون المختلط ، ويترتب على ذلك أيضاً أنه يصح أن يبيع شخص من آخر منزلا لم يبدأ بناءه على أن تنتقل ملكية المنزل إلى المشتري عند تمام البناء . فهذا بيع شيء مستقبل محقق الوجود . وقد يكون الشيء المستقبل محتمل الوجود كما إذا باع شخص نتاج ماشية قبل وجودها ، فالنتاج قد يوجد وقد لا يوجد ، والبيع هنا يكون معلقاً على شرط يتحقق إذا وجد النتاج ( [399] ) .
والواقع من الأمر أن التعامل في الشيء المستقبل كثير الوقوع في الحياة العملية . فكثيراً ما يقع أن يبيع صاحب مصنع قدراً معيناً من مصنوعاته دون أن يكون قد اتم صنعها ، بل لعله لا يكون قد بدا في ذلك ، وقد يبيع مزارع محصولات أرضه قبل ظهورها كما رأينا . ويبيع مؤلف مؤلفه قبل أن يتمه ، بل قبل أن يبدأه . وينزل مقاول عن الأجر في مقاولة لم ترس عليه بعد . هذه كلها عقود واقعة على شيء مستقبل ، وهي صحيحة .
على أن القانون قد يحرم لاعتبارات خاصة ضروباً من التعامل في الشيء المستقبل ، كما فعل عندما جعل باطلا رهن المال المستقبل رهناً رسمياً ( م 1033 فقرة 2 ) أو رهنا حيازياً ( م 1098 ) وقد يحرم جميع ضروب التعامل في نوع خاص من المال المستقبل كما فعل عند ما حرم التعامل في التركة المستقبلة ، وهذا ما ننتقل الآن إليه .
217 – التركة المستقبلة : نصت الفقرة الثانية من المادة 131 من القانون الجديد على ما يأتي : " غير أن التعامل في تركة إنسان على قيد الحياة باطل ولو كان برضاه ، إلا في الأحوال التي نص عليها في القانون ( [400] ) " . وهذه القاعة ترجع في أصلها الأول إلى القانون الرومانين فقد كان هذا القانون يعد التعامل في التركات المستقبلة مخالفاً للآداب لأن من يتعامل في تركة شخص لا يزال حياً إنما يضارب على موته ، ويعده كذلك مخالفاً للنظام العام إذ هو خليق أن يغري ذا المصلحة بالتعجيل بموت المورث . فالرومان عندما حرموا التعامل في التركة المستقبلة كانوا ينظرون إلى مصلحة المورث ، لذلك كانوا يبيحونه إذا اشترك هذا في العقد . أما القوانين الحديثة فتحرم هذا التعامل لا لمصلحة المورث وحده ، بل لمصلحته ولمصلحة الوارث معاً ، فإن الوارث التي يتعامل في تركة مستقبلة يغلب أن يكون نزفاً لا يقف عند تبديد ما يصل إلى يده من المال في الحال بل يبدد كذلك ما يحتمل أن يملكه في المستقبل . فتحريم هذا التعامل تقرر حماية له من نزقه . لذلك كان التحريم مطلقاً ، لا يرتفع حتى لو رضى المورث خلافاً للقانون الروماني . وجزاء التحريم إذن هو البطلان المطلق بما يستتبعه هذا البطلان من نتائج قانونية .
وكل ضرب من التعامل في تركة مستقبلة باطل ، أياً كان الطرفان ، وأيا كان نوع التعام لز وقد كان هذا هو الحكم أيضاً في القانون المدني القديم ، ولم يستحدث القانون الجديد شيئاً في هذا الصدد . ونعرض الآن لتحديد ما هو المقصود بالتركة المستقبلة ، ومن يكون طرفاً في التعامل فيها ، وضروب التعامل التي ترد عليها .
فالتركة هي مجموع ما للانسان من حقوق وما عليه من ديون وقت موته . فإذا كان الإنسان على قيد الحياة فهذا المجموع من الحقوق والديون منظوراً إليه وقت الموت هو تركته المستقبلة . والتعامل المحرم هو الذي يقع على تركة مستقبلة في مجموعها أو في جزء من هذا المجموع أو في مال معين ينظر فيه إلى أنه يدخل ضمن أموال التركة ( [401] ) . ويستوي أن تأتي التركة من طريق الميراث أو من طريق الوصية ، فكما لا يجوز للوارث أن يتعامل في نصيبه في تركة مستقبلة كذلك لا يجوز للموصى له أن يتعامل فيما أوصى له به مستقبلاً .
أما الطرف الذي يقع منه التعامل في التركة المستقبلة فقد يكون هو الوارث يبيع لأجنبي نصيبه في التركة المستقبلة ( [402] ) . وقد يقع التعامل بين وارث ووارث آخر يتفقان على قسمة ما سيقع في نصيب كل منهما من الميراث ، أو أن يبيع أحدهما نصيبه من الآخر . وقد يكون التعامل بين المورث نفسه ووارث أو أجنبي ، كأن يتفق المورث مع الوارث على إعطائه نصيباً من التركة اكبر أو أقل من نصيبه القانونين ، أو يتفق مع أجنبي على إعطائه نصيباً من التركة يأخذه بعد موته ، إذ أن المورث لا يستطيع أن يفعل هذا أو ذاك إلا عن طريق الوصية وهي تختلف عن هذا الضرب من التعامل في إنها يجوز الرجوع فيها حتى موت الموصى وفي إنها لا تجوز إلا في حدود معينة . والحكمة في تحريم التعامل على الموارث نفسه ترجع إلى أن أحكام الميراث والوصية من النظام العام ، فإذا أبحنا للمورث التعامل في تركته المستقبلة استطاع أن يحيد عن هذه الأحكام ( [403] ) .
وكل ضرب من ضروب التعامل في التركة المستقبلة محرم كما قدمنا . فلا يجوز للوارث أن يبيع ميراثه المستقبل ، أو يهبه ، أو يقسمه ، أو يقايض به ، أو يقدمه نصيباً في شركة ، أو يصالح عليه ، أو ينزل عنه بإرادته المنفردة . بل هو لا يستطيع أن يؤجره ( [404] ) ، أو أن يجري عليه أي نوع من أنواع التعامل إلا ما أجازه القانون بنص صريح ، وذلك كالوصية ( م 915 جديد ) وقسمه المورث ( م 908 – 913 جديد ) .
2 - المحل ممكن
218 – الإمكان يقابل الوجود : رأينا في الالتزام الذي يكون محله نقل حق عيني أن الشيء الذي تعلق به هذا الحق يجب أن يكون موجوداً . أما الالتزام الذي يكون محله عملا أو امتناعاً عن عمل فيجب أن يكون المحل فيه ممكناً . والإمكان هنا يقابل الوجود هناك ، فإذا كان محل الالتزام مستحيلا ، فإن الالتزام لا يقوم ، ويكون العقد باطلا ، لأنه لا التزام بمستحيل . ( a l'impossible nul n'est tenu ) . وقد نصت المادة 132 من القانون المدني الجديد على ذلك إذ تقول : " إذا كان محل الالتزام مستحيلا في ذاته كان العقد باطلا ( [405] ) " .
219 – الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية : والمقصود بالاستحالة هنا الاستحالة المطلقة ، وهي أن يكون الالتزام مستحيلا في ذاته كما تنص المادة 132 ، لا أن يكون مستحيلا بالنسبة إلى الملتزم م فحسب ، فقد يلتزم شخص بعمل فني يكون مستحيلا عليه هو أو يلتزم بأمر يحتاج إلى مقدرة فوق طاقته ، ولكن هذا العمل لا يستحيل القيام به على رجل من أصحاب الفن أو ممن يطيقونه . ففي هذه الحالة يوجد الالتزام ويقوم على محل صحيح ، وإذا كان يستحيل على المدين القيام به فهذه الاستحالة النسبية لا تمنع من قيام الالتزام ، ويكون المدين مسئولا في هذه الحالة عن التعويض لعدم استطاعته القيام بالتزامه ولتسرعه في أن يأخذ على نفسه التزاماً لا يطيقه ، ويجوز فسخ العقد إذا كان ملزماً للجانبين . ولا فرق بين ما إذا كانت هذه الاستحالة النسبية قد سبقت وجود الالتزام أو كانت لاحقة له ، ففي كلتا الحالتين يوجد الالتزام ، ولكن المدين يبرأ من التنفيذ العيني ويكون مسئولا عن التعويض على النحو الذي قدمناه .
أما إذا كانت الاستحالة مطلقة ، وهي ما رجعت إلى الالتزام في ذاته كما رأينا ( [406] ) ، فإنها تمنع من وجود الالتزام إذا كانت سابقة على التعهد بهذا الالتزام ، ولا تمنع من وجوده إذا كانت لاحقة لأن الالتزام قد وجد قبل نشوء الاستحالة وإنما ينقضي بنشوئها بعد أن وجد . فتبرأ ذمة المدين ، ولكن يبقى مسئولا عن التعويض إذا كان هناك تقصير في جانبه ، ويجوز فسخ العقد إذا كان ملزماً للجانبين . ومثل الاستحالة المطلقة أن يتعهد شخص بأن يقوم بعمل يكون قد تم قبل التعهد كما إذا تعهد محام برفع استئناف عن قضية كان الاستئناف قد رفع فيها قبل ذلك ، أو أن يتعهد شخص بالامتناع عن عمل كان قد وقع قبل التعهد .
ويستخلص مما تقدم أن الاستحالة النسبية لا تجعل العقد باطلا سواء أكانت الاستحالة سابقة على وجود العقد أم لاحقة له ، وإنما تجعله في الحالتين قابلا للفسخ إذا كان ملزماً للجانبين لعدم إمكان قيام الملتزم بالتزامه . أما الاستحالة المطلقة فإن كانت سابقة على وجود التعهد فإنها تجعل العقد باطلا ، وإن كانت لاحقة جعلته قابلا للفسخ إذا كان ملزماً للجانبين ( [407] ) .
220 – الاستحالة الطبيعية والاستحالة القانونية : والاستحالة في الأمثلة التي قدمناها استحالة طبيعية – وقد تكون الاستحالة قانونية ، أي ترجع لا إلى طبيعة الالتزام بل إلى سبب في القانون ، كما إذا تعهد محام برفع استئناف عن حكم بعد انقضاء الميعاد القانونين أو نقض في قضية لا يجوز فيها النقض . ففي مثل هذه الفروض ترجع الاستحالة إلى حكم القانون لا إلى طبيعة الالتزام .
والاستحالة القانونية حكمها حكم الاستحالة الطبيعية المطلقة : تمنع وجود لالتزام إذا وجدت قبل التعهد به ، وتنهي الالتزام إذا جدت بعد ذلك وينبني على ما تقدم أن تعهد المحامي برفع الاستئناف إذا صدر بعد انتهاء الميعاد الذي يقبل فيه الاستئناف لا يوجد التزماً في جانبه ، أما إذا صدر قبل الميعاد ولكن المحامي ترك الميعاد ينقضي دون أن يرفع الاستئناف وأصبح رفعه مستحيلا ، فإن الالتزام يوجد أولاً ، ثم يصبح تنفيذه العيني مستحيلا ، فيكون المحامي مسئولا عن التعويض .
المبحث الثاني
المحل معين أو قابل للتعيين
221 – النصوص القانونية : نصت المادة 133 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" 1 - إذا لم يكن محل الالتزام معينا بذاته ، وجب أن يكون معينا بنوعه ومقداره وإلا كان العقد باطلا " .
" 2 - ويكفي أن يكون المحل معينا بنوعه فقط إذا تضمن العقد ا يستطاع به تعيين مقداره . وإذا لم يتفق المتعاقدان على درجة الشيء ، من حيث جودته ، ولم يمكن استخلاص ذلك من العرف أو من أي ظرف آخر ، التزم المدين بأن يسلم شيئا من صنف متوسط ( [408] ) " .
ونصت المادة 134 على ما يأتي :
" إذا كان محل الالتزام نقودا ، التزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي أثر ( [409] ) " .
ويتبين من هذه النصوص أنه يجب في المحل أن يكون معيناً أو قابلا للتعيين . فإذا كان المحل نقوداً . وجب أن تكون هي أيضاً معينة أو قابلة للتعيين ، أما قيمة هذه النقود إذا تغيرت فليس في الأصل لتغيرها أي اعتبار .
فنتكلم : ( أولاً ) في كيفية تعيين المحل ( ثانياً ) في تعيين محل الالتزام إذا كان نقوداً .
كيفية تعيين المحل
222 – تعيين محل الالتزام إذا كان عملا أو امتناعا عن عمل : إذا التزم شخص أن يقوم بعمل أو أن يمتنع عن عمل وجب أن يكون ما التزم به معيناً . فإذا تعهد مقاول ببناء وجب أن يتعين هذا البناء أو وجب على الأقل أن يكون قابلا للتعيين . وقابليته للتعيين ترجع إلى الظروف التي تستخلص منها نية طرفي الالتزام . فإذا التزم المقاول بان يبني مستشفى أو مدرسة أو منزلا للسكنى أو منزلا للاستغلال أو نحو ذلك ، فإن ظروف التعاقد يصح أن يستخلص منها العناصر اللازمة لتعيين البناء المطلوب . أما إذا اقتصر المقاول على أن يلتزم بإقامة بناء ون أن يعين أي نوع من البناء هو ، كان المحل غير معين وغير قابل للتعيين ، فلا يقوم الالتزام على محل كهذا لأنه في حكم المعدوم .
223 – تعيين محل الالتزام في الشيء موضوع الحق العيني : وإذا كان الالتزام محله نقل حق عيني على شيء ، وجب كذلك أن يكون هذا الشيء معيناً أو قابلا للتعيين . وهنا يجب التمييز بين الشيء المعين بالذات والشيء غير المعين .
فإذا وقع العقد على شيء معين بالذات وجب أن تكون ذاتية الشيء معروفة ، فيوصف الشيء وصفاً يكون مانعاً للجهالة . فإذا باع شخص منزلا ، وجب أن يبين موقع هذا المنزل في أية جهة هو وأن يذكر أوصافه الأساسية التي تميزه عن غيره من المنازل الأخرى . وإذا باع أرضا ، وبج تحديد موقعها وبيان مساحتها وتعيين حدودها . وإذا باع سيارة معينة بالذات ، وجب أن يبين أية سيارة يبيعها وأن يذكر أوصافها المميزة . لاسيما إذا كان البائع عنده أكثر من سيارة واحدة . وقد طبقت المادة 419 من القانون الجديد هذه القاعدة في صدد عقد البيع ، فنصت على أنه " يجب أن يكون المشتري علاماً بالمبيع علماً كافياً . ويعتبر العلم كافياً إذا أشتمل العقد على بيان المبيع وأوصافه الأساسية بياناً يمكن من تعرفه " .
أما إذا كان الشيء غير معين بالذات ، وجب أن يكون معيناً بجنسه ونوعه مقداره ، كان يذكر مثلا أن المبيع قطن من نوع الأشموني وأن مقداره عشرون قنطاراً . فإذا لم يحدد المقدار وجب أن يتضمن العقد ما يستطاع به تحديده ، كما إذا تعهد شخص بأن يورد أغذية معينة النوع لمستشفى معين أو لمدرسة معينة ، فالمقدار اللازم من هذه الأغذية وإن لم يحدد في العقد قابل للتحديد وفقاً لحاجة المستشفى أو المدرسة .
وكثيراً ما يترك تعيين المحل للمألوف أو للعرف ، كما إذا قام متجر بتوريد سلعة لعميل له دون أن يبين الثمن ، أو قام صانع بعمل دون أن يحدد اجره .
وقد يقتصر التعيين على بيان الجنس والنوع والمقدار دون أن تذكر درجة الجودة ودون أن يمكن استخلاصها من العرف أو من ظروف التعاقد ، ففي هذه الحالة يجب أن يكون الصنف متوسطاً ، فلا يكون جيداً حتى لا يغبن المدين ، ولا يكون رديئاً حتى لا يغبن الدائن ( [410] ) .
2 – تعيين محل الالتزام إذا كان نقوداً
224 – تعيين النقود – العملة الورقية ذات السعر القانوني : إذا كان محل الالتزام نقوداً ، وجب أن تكون هي أيضاً معينة بنوعها ومقدارها شأن أي محل للالتزام . فيلتزم المدين مثلا أن يؤدي للدائن مقداراً معيناً من الجنيهات المصرية أو من القروش أو من الملاليم . وتقضي المادة 134 ، كما رأينا ، بأنه إذا كان محل الالتزام نقوداً التزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي اثر . ويترتب على ذلك أن المدين يلتزم بأداء المقدار المتفق عليه من النقود ، سواء ارتفعت قيمة النقود أو انخفضت . فإذا ارتفعت كان ارتفاعها لمصلحة الدائن ، وإذا انخفضت كان انخفاضها لمصلحة المدين . وليس من اللازم أن يؤدي المدين النقود من النوع المنصوص عليه في العقد ، جنيهات أو قروشاً أو ملاليم ، بل إن المدين يؤدي دينه عادة بنقد ذى سعر قانوني ( cours legal ) يساوي القدر المتفق عليه ، فيؤديه عملة ورقية إذا تقرر لها سعر قانونين .
والأصل في نظرنا أن العملة الورقية إذا تقرر لها سعر قانونين وجب على الدائن قبولها حتى لو اتفق مع المدين على غير ذلك ، وحتى لو لم يكن لهذه العملة سعر الزامي ( cours force ) . فالسعر القانوني وحده كاف لجعل الدائن يستوفى حقه . ومهما يكن من خلاف في هذه المسألة فإن الخلاف ليست له أهمية عملية إذا لم يكن للعملة الورقية سعر إلزامي ، فإن الدائن الذي يريد الحصول على حقه ذهباً ولا يستوفيه إلا ورقاً يستطيع أن يستبدل الذهب بالورق في أي وقت شاء .
225 – العملة الورقية ذات السعر الالزامي ( شرط الذهب ) : فإذا تقرر للعملة الورقية سعر إلزامي ظهرت خطورة المسألة ، لأن العملة الورقية ذات السعر الالزامي تكون قيمتها الاقتصادية أقل من قيمتها القانونية ، وتنقص هذه القيمة الاقتصادية كلما زاد التضخم ، فإذا استوفى الدائن حقه ورقاً فإنه لا يستطيع أن يستبدل به ذهباً لقيام السعر الالزامي . وقد تكون قيمة الورق قد نزلت نزولا فاحشاً فتصيبه خسارة جسيمة من وراء ذلك . لهذا جرت العادة أن يشترط الدائن استيفاء حقه ذهباً ، وهذا ما يسمى بشرط الذهب ( clause d'or ) . فيكون الدين واجب الوفاء بالذهب ( payable en or ) أو بما يعادل قيمة الذهب ( payable en valeur or ) . فهل يعتبر هذا الشرط صحيحاً ؟ نرى أن ذلك لا يجوز في المعاملات الداخلية . وأن الشرط يكون باطلا لمخالفته للنظام العام . وأن العقد الذي تضمنه هذا الشرط يكون باطلا كذلك إذا تبين أن الشرط كان هو الباعث الرئيسي على التعاقد . ونحن في هذا الرأي نتفق مع القضاء الفرنسي ( [411] ) ومع جمهرة من الفقهاء الفرنسيين ( [412] ) . ومما يؤيد مما ما نذهب إليه أن الغرض من تقرير السعر الإلزامي هو إعطاء الورق قيمة قانونية إلزامية معادلة لقيمة الذهب ، فينعدم الفرق بين الورق والذهب في نظر القانون ، ويجب أيضاً أن ينعدم في نظر الأفراد ، لأن القانون إنما أراد هذا حماية لمصلحة عامة ترجع إلى نظام النقد في البلد وإلى استقرار قيمة العملة وثباتها .
هذا ويلاحظ أن القضاء الفرنسي إنما يبلط " شرط الذهب " في المعاملات الداخلية في فرنسا . أما في المعاملات الخارجية ، وهي التي تقتضي خروج العملة من فرنسا أو دخولها فيها ، كما إذا صدر تاجر في فرنسا بضاعة إلى الخارج أو استورد بضاعة من الخارج ، وكما إذا عقدت دولة قرضاً في أسواق أجنبية ، فإن شرط الذهب " يكون صحيحاً . وذلك لأنه إذا استطاع القانون الفرنسي أن يعتبر قيمة العملة الورقية معادلة لقيمة الذهب فليس هذا التعادل إلا اعتبارياً ، ولا يستقيم هذا الاعتبار إلا في المعاملات الداخلية حيث ينبسط سلطان المشرع ويصبح الأخذ باعتباره واجباً . أما في المعاملات الخارجية فالذهب وحده هو العملة الثابتة ، ولا ينفذ اعتبار المشرع في غير بلده ، وكل اتفاق يشترط الوفاء بالذهب يكون إذن مشروعاً ( [413] ) .
226 – شرط الذهب في القانون المصري : أما في القانون المصري فقد مر القضاء بمرحلتين :
( المرحلة الأولى ) في ظل المرسوم ( القانون ) الصادر في 2 أغسطس سنة 1914 . وقد قضى هذا المرسوم بان يكون للعملة الورقية التي يصدرها البنك الأهلي قيمة الذهب – وهذا هو السعر القانونين – وبأن البنك لا يجبر على إبدال الورق بالذهب – وهذا هو السعر الإلزامي – وبأن ما يدفع من تلك الأوراق ( لا يسبب وبأي مقدار ) يكون دفعاً صحيحاً وموجباً لبراءة الذمة كما لو كان الدفع حاصلا بالعملة الذهبية ، بصرف النظر عما يخالف ذلك من الشروط أو الاتفاقات الحاصلة أو التي تحصل بين أصحاب الشأن ، أي سواء كانت هذه الشروط أو الاتفاقات موجودة قبل صدور المرسوم أو جدت بعد ذلك . والنص كما نرى صريح في أن شرط الذهب باطل إطلاقاً ، ولم يميز المرسوم في ذلك بين المعاملات الداخلية والمعاملة الخارجية ، بل أن هذا التشريع جعل له اثر رجعي ، فهو يبطل شرط الذهب في عقد تم قبل صدوره كما يبطله في عقد تم بعد صدوره .
ولكن بالرغم من صراحة النص انقسم القضاء المصري في شأن شرط الذهب . فبعض الأحكام قضى ببطلانه ، وبعض قضى بصحته ، وبعض جرى على نهج القضاء الفرنسي فميز بين المعاملات الداخلية حيث يكون الشرط باطلا والمعاملات الخارجية حيث يكون الشرط صحيحاً ( [414] ) .
( المرحلة الثانية ) وبقى القضاء المصري يواجه شرط الذهب مضطرباً غير مستقر حتى صدر المرسوم بقانون رقم 45 لسنة 1935 . وقد أراد المشرع المصري بهذا القانون أن يحسم ما نشب من خلاف في تفسير المرسوم الصادر في 2 أغسطس سنة 1914 بصدد المسألة التي قام فيها الخلاف الجوهري ، وهي قيمة شرط الذهب في المعاملات الخارجية أو المعاملات ذات الصبغة الدولية . ذلك لأن المعاملات الداخلية لم يقم في شأنها خلاف جدى ، إذ كان واضحاً أن شرط الذهب يجب أن يكون باطلا في هذه المعاملات . وكذلك يجب أن يكون باطلا في المعاملات الخارجية ، وقد صرح بذلك قانون سنة 1935 ، لأن النص الذي ورد في مرسوم سنة 1914 في بطلان هذا الشرط عام مطلق لا يميز بين المعاملات الداخلية والمعاملات الخارجية كما قدمنا . وتقول المذكرة الإيضاحية لقانون سنة 1935 في هذا الصدد ما يأتي : " . . . ذلك أنه يوجد نص صريح لا يحتمل أي تفرقة بين العقود التي يسري عليها حكمه ، وليس ذلك لأن النص عام فحسب ، بل هو فوق ذلك صريح قاطع . . . فالدفع أياً كان نوعه حتى لو كان سببه التزاماً دولياً داخل بلا شك في عموم هذا النص . وليس من بيل مع مثل هذا النص الذي حدد فيه الشارع مقاصده بكل جلاء ووضوح للأخذ بقضاء المحاكم الفرنسية وقد بنى على اعتبارات خاصة بفرنسا مستمدة من أحوالها الاقتصادية . وذلك هو المعنى والمغزى الصحيح لمرسوم 2 أغسطس سنة 1914 ، ولنفس من شرع حكم ذلك المرسوم أن يزيد مقاصده وضوحاً فيما يتعلق بالاتفاقات الدولية ، وألا يدع أي شك يحوم حول تطبيق القاعدة التي أتى بها مرسوم سنة 1914 والتي تقرر أمراً من أمور النظام العام ، على ذلك النوع من الاتفاقات ، عملا بنص المرسوم المذكور وروحه ، وأخذاً بما اقتضته وتقتضيه مصلحة البلاد العامة ( [415] ) " .
ويتبين من ذلك أن قانون سنة 1935 أراده المشرع أن يكون قانوناً تفسيرياً يسري على الماضي . وهو يتضمن النص الآتي : " تبطل شروط الدفع ذهباً في العقود التي يكون الالتزام بالوفاء فيها ذا صبغة دولية والتي تكون قد قومت بالجنيهات المصرية أو الاسترلينية أو بنقد أجنبي آخر كان متداولا قانوناً في مصر ( الفرنك والجنيه التركي ) ، ولا يترتب عليها أي اثر . ولا يجري هذا الحكم على الالتزام بالوفاء بمقتضى المعاهدات أو الاتفاقات الخاصة بالبريد أو التلغراف أو التليفون " .
ومنذ صدور هذا القانون استقر قضاء المحاكم المصرية على بطلان شرط الذهب في المعاملات الداخلية والمعاملات الخارجية على السواء ( [416] ) .
ولا يزال هذا القانون سارياً إلى اليوم ، لأن القانون المدني الجديد لم يعرض لهذه المسألة ، بل تركها للتشريعات الخاصة باعتبارها من المسائل الاقتصادية المتغيرة ( [417] ) . وقانون سنة 1935 هو التشريع الخاص الذي لا يزال قائماً والذي يرجع إليه في بطلان شرط الذهب ، دون تمييز بين المعاملات الداخلية والمعاملات الخارجية .
المبحث الثالث
المحل قابل للتعامل فيه
( dans le commerce )
( النظام العام والآداب )
227 – متى يعتبر الشيء غير قابل للتعامل فيه : يكون الشيء غير قابل للتعامل فيه ، فلا يصلح أن يكون محلا للالتزام ، إذا كانت طبيعته أو الغرض الذي خصص له يأبى ذلك ، أو إذا كان التعامل فيه غير مشروع .
فالشيء لا يكون قابلا للتعامل فيه بطبيعته إذا كان لا يصلح أن يكون محلا للتعاقد ، كالشمس والهواء والبحر . ويرجع عدم القابلية للتعامل إلى استحالته ( [418] ) .
وقد يصبح التعامل ممكناً في هذه الأشياء من بعض النواحي ، فأشعة الشمس يحصرها المصور ( الفوتوغرافي ) ، والهواء يستعمله الكيمائي في أغراضه ، والبحر يؤخذ من مائة ما يصلح أن يكون محلا للامتلاك . فعند ذلك نصبح الشمس والهواء والبحر قابلة للتعامل فيها من هذه النواحي الخاصة ، وتصلح إذن أن تكون محلا للالتزام .
وقد يكون الشيء غير قابل للتعامل فيه بالنظر إلى الغرض الذي خصص له . فالملك العام لا يصح بيعه ولا التصرف فيه لأنه مخصص لمنفعة عامة ، وتخصيصه هذا يتنافى مع جواز التصرف فيه . والمال الموقوف ، يجعل ريعه لسلسلة من المنتفعين ، يقتضي إلا يجوز التصرف فيه ما دام وقفاً . وعدم القابلية للتعامل هنا نسبي . فالملك العام إذا كان لا يصلح محلا للتصرف فإنه يصلح محلا للإيجار ، كما في شغل جزء من الطريق العام أو منح رخصة لإقامة حمامات أو " كابينات " على شواطئ البحار . والمال الموقوف إذا كان لا يجوز بيعه فإنه يجوز إيجاره . والضابط في كل هذا أن عدم القابلية للتعامل إنما يرجع إلى الغرض الذي خصص الشيء له ، فكل تعامل يتنافى مع هذا الغرض لا يجوز ، أما التعامل الذي لا يتنافى معه فهو جائز .
وقد يكون الشيء غير قابل للتعامل لأن ذلك غير مشروع . وعدم المشروعية يرجع إما إلى نص في القانون أو إلى مخالفة هذا التعامل للنظام العام أو للآداب . على أن نص القانون الذي يمنع من التعامل في الشيء يكون مبنياً على اعتبارات ترجع هي ذاتها إلى النظام العام أو إلى الآداب . فما ورد فيه نص يحرم التعامل فيه إنما هو في الوقت عينه مخالفة للنظام العام أو للآداب أولهما معاً . ووجود النص دليل على عناية المشرع بالأمر فآثر أن يورد له نصاً . أو هو إيضاح في مقام قد يكون عدم النص فيه مؤدياً للغموض ، كالنص الذي يحرم التعامل في التركة المستقبلة . أو هو تحديد لأمر يرى المشرع تحديده ، كما حدد الربا الفاحش . أو هو تحريم لأمر تقضي ظروف البلد الخاصة بتحريمه ، كما حظر المشرع المصري لااتجار في الحشيش والمخدرات وكما حرم ببيع الوفاء . فيمكن القول إذن أن المحل يكون غير مشروع إذا كان مخالفاً للنظام العام أو الآداب ، سواء ورد نص في القانون بتحريمه أو لم يرد . وتقرر المادة 135 من القانون المدني الجديد هذه القاعدة العامة في العبارات الآتية : " إذا كان محل الالتزام مخالفاً للنظام العام أو الآداب كان العقد باطلا ( [419] ) " . فلا يجوز إذن أن يكون الشيء المخالف للنظام العام أو الآداب محلا للالتزام ، ويستتبع ذلك أنه لا يجوز الاتفاق على ما يخالف النظام العام الآداب .
فإذا عرفنا النظام العام والآداب أمكن أن نقرر ما إذا كان نص معين في القانون يعتبر من النظام العام أو الآداب فلا يجوز الاتفاق على ما يخالفه ، وأمكن أيضاً أن نقرر حتى عند انعدام النص ما إذا كان الشيء مخالفاً للنظام العام أو الآداب فلا يصح أن يقوم عليه الالتزام . وهذا ما نتولى الآن بحثه .
228 – النظام العام والآداب ( * ) L'ordre public et les bonnes moeurs : القواعد القانونية التي تعتبر من النظام العام هي قواعد يقصد بها إلى تحقيق مصلحة عامة ، سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ، تتعلق بنظام المجتمع الأعلى وتعلو على مصلحة الأفراد . فيجب على جميع الأفراد مراعاة هذه المصلحة وتحقيقها ، ولا يجوز لهم أن يناهضوها باتفاقات فيما بينهم ، حتى لو حققت هذه الاتفاقات لهم مصالح فردية ، فإن المصالح الفردية لا تقوم أمام المصلحة العامة . ويلاحظ أن دائرة النظام العام تضيق إذا تغلبت نزعة المذاهب الفردية ، فإن هذه المذاهب تطلق الحرية للفرد ، فلا تتدخل الدولة في شؤونه ، ولا تحميه إذا كان ضعيفاً ، ولا تكبح جماحه إذا كان قوياً ، فإذا تغلبت النزعة الاشتراكية ومذاهب التضامن الاجتماعية اتسعت دائرة النظام العام ، وأصبحت الدولة تقوم بشؤون كانت تتركها للفرد ، وتتولى حماية الضعيف ضد القوى . بل هي تحمي الضعيف ضد نفسه ، كما رأينا ذلك في عقود الإذعان وفي نظرية الاستغلال . ولا تستطيع أن نحصر النظام العام في دائرة دون أخرى ، فهو شيء متغير ، يضيق ويتسع حسب ما يعده الناس في حضارة معينة " مصلحة عامة " . ولا توجد قاعدة ثابتة تحدد " النظام العام " تحديداً مطلقاً يتمشى على كل زمان ومكان ، لأن النظام العام شيء نسبي ، وكل ما تستطيع هو أن نضع معياراً مرناً يكون معيار " المصلحة العامة " ، وتطبيق هذا المعيار في حضارة معينة يؤدي إلى نتائج غير التي نصل إليها في حضارة أخرى ( [420] ) .
والآداب ، في امة معينة وفي جيل معين ، هي مجموعة من القواعد وجد الناس أنفسهم ملزمين باتباعها طبقاً لناموس أدبي يسود علاقاتهم الاجتماعية . وهذا الناموس الأدبي هو وليد المعتقدات الموروثة والعادات المتأصلة وما جرى به العرف وتواضع عليه الناس . وللدين اثر كبير في تكييفه . وكلما اقترب الدين من الحضارة ، كلما ارتفع المعيار الخلقي ، وزاد التشدد فيه . ومن هنا نرى أن العوامل التي تكيف الناموس الأدبي كثيرة مختلفة . فالعادات والعرف والدين والتقاليد وإلى جانب ذلك ، بل في الصميم منه ، ميزان إنساني يزن الحسن والقبح ، ونوع من الإلهام البشري يميز بين الخير والشر ، كل هذه العوامل مجتمعة توجد الناموس الأدبي الذي تخضع الناس له ، ولو لم يأمرهم القانون بذلك . ومعيار الآداب أو " الناموس الأدبي " ليس معياراً ذاتياً يرجع فيه كل شخص لنفسه ولتقديره الذاتي ، بل هو معيار اجتماعي يرجع فيه الشخص لما تواضع عليه الناس . وهو في ذات الوقت معيار غير ثابت ، يتطور تبعاً لتطور الفكرة الأدبية في حضارة معينة فهناك أمور كانت تعتبر مخالفة لأداب فيما مضى ، كالتامين على الحياة والوساطة في الزواج والعرى ، أصبحت الآن ينظر لها نظراً آخر . وهناك بالعكس أمور أصبحت الآن مخالفة للآداب ، كالسترقاق وإدخال المهربات في بلاد أجنبية ، وكانت من قبل غير ذلك ( [421] ) .
ونرى من ذلك أن النظام العام والآداب هما الباب الذي تدخل منه العوامل الاجتماعية والاقتصادية والخلقية ، فتؤثر في القانون وروابطه ، وتجعله يتمشى مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية والخلقية في الجيل والبيئة . وتتسع دائرة النظام العام والآداب أو تضيق تبعاً لهذه التطورات ، وطريقة فهم الناس لنظم عصرهم ، وما تواضعوا عليه من آداب ، وتبعاً لتقدم العلوم الاجتماعية . كل هذا يترك للقاضي يفسره التفسير الملائم لروح عصره ، فالقاضي يكاد إذن يكون مشرعاً في هذه الدائرة المرنة ، بل هو مشرع يتقيد بآداب عصره ونظم أمته الأساسية ومصالحها العامة ( [422] ) . ونحن في العصور الحاضرة نشهد تغلب النزعة الاشتراكية واتساع دائرة النظام العام من ناحية ، ونشهد من ناحية أخرى تأثر القانون المضطرد بالعوامل الخلقية ، حتى صح أن يسمى هذا العصر بعصر تغلغل الروح الاشتراكية والروح الخلقية في القانون ( socialization et moralization du droit ) ( [423] ) . على أن الفكرتين اللتين تسودان النظام العام والآداب ، فتبعثان فيهما الخصب والمرونة والقابلية للتطور هما :
( أولاً ) فكرة المعيار ، فمعيار النظام العام هو المصلحة العامة ، ومعيار الآداب هو الناموس الأدبي ، وهما معياران موضوعيان لا ذاتيان .
( وثانياً ) فكرة النسبية ، فلا يمكن تحديد دائرة النظام العام والآداب إلا في امة معينة ، وفي جيل معين .
وخير سبيل لتحديد ما يراد بالنظام العام والآداب أن نورد تطبيقات عملية لذلك ، فنستعرض اتفاقات تخالف النظام العام ، وأخرى تخالف الآداب ، في عصرنا الحاضر .
المطلب الأول
الاتفاقات التي تخالف النظام العام
229 – روابط القانون العام وروابط القانون الخاص : حاول بعض الفقهاء حصر النظام العام في دائرة روابط القانون العام ، وهذه نظرة فردية متطرفة يكذبها الواقع ، فإن النظام العام يدخل دون شك في روابط القانون الخاص ، ولا يقتصر على دائرة القانون العام . وقد أريد التمييز في روابط القانون الخاص بين روابط الأحوال الشخصية وروابط المعاملات المالية ، فالأولى تعتبر من النظام العام والأخرى لا تعتبر كذلك ، وهذه أيضاً نظرة ضيقة للنظام العام ، فمن روابط المعاملات المالية ما يحقق مصلحة عامة كما يتبين ذلك من التطبيقات التي سنوردها .
1 – روابط القانون العام
230 – أنواع هذه الروابط : القانون العام ينظم روابط الأفراد بالهيئات العامة وروابط الهيئات العامة بعضها ببعض . وهذا التنظيم ينظر فيه إلى المصلحة العامة ، فلا يجوز للأفراد أن يتفقوا على ما يتعارض مع هذه المصلحة تحقيقاً لمصالحهم الفردية .
ويشمل القانون العام فيما يشمله : ( 1 ) القواعد الدستورية والحريات العامة . ( 2 ) النظم الإدارية والمالية . ( 3 ) النظام القضائي . ( 4 ) القوانين الجنائية . ونورد أمثلة لكل فرع من هذه الفروع .
231 – القواعد الدستورية والحريات العامة : فالقاعدة الدستورية التي تقرر حرية الترشيح والانتخاب تعتبر من النظام العام ، ولا يجوز لمشرح أن ينزل عن ترشيحه لمرشح آخر بمقابل أو بغير مقابل ، كما لا يجوز لناخب أن يتفق مع مرشح على إعطائه صوته ، وكل اتفاق من هذا القبيل باطل لمخالفته للنظام العام . كذلك النائب في هيئة تشريعية حر في تكوين رأيه في المسائل التي تعرض على الهيئة التي ينتمي إليها ، فلا يجوز أن يقيد نفسه باتفاق على أن يجعل صوته لرأي معين ، كما لا يجوز له النزول عن عضويته .
والحريات العامة التي قررها الدستور هي أيضاً من النظام العام ، وذلك كالحرية الشخصية . وما يتفرع عنها من حرية الإقامة ، وحرية الزواج ، وحرمة النفس والحرمة الأدبية . وحرية الدين والاعتقاد ، وحرية الاجتماع ، وحرية العمل والتجارة .
فلا يجوز لأحد النزول عن حريته الشخصية ( أنظر المادة 49 من القانون المدني الجديد ) . ولا يجوز لأحد أن يتعهد بخدمة آخر طول حياته أو طول حياة المخدوم ، فإذا كان عقد العمل لمدة حياة العامل أو رب العمل أو لأكثر من خمس سنوات ، جاز للعامل بعد انقضاء خمس سنوات أن يفسخ العقد دون تعويض على أن ينظر رب العمل إلى ستة أشهر ( أنظر الفقرة الثانية من المادة 678 من القانون المدني الجديد ) .
وتنص المادة السابعة من الدستور على أنه " لا يجوز إبعاد مصري من الديار المصرية . ولا يجوز أن يحظر على مصري الإقامة في جهة ما ولا أن يلزم الإقامة في مكان معين إلا في الأحوال المبينة في القانون " ومع ذلك يجوز أن يتقيد شخص بتحديد محل إقامته لمدة معينة إذا كان هناك سبب مشروع لذلك ، كما يجوز أن يتعهد شخص بعدم الإقامة في جهة معينة إذا وجد مبرر قوي لهذا التعهد . وفي الحالتين يكون جزاء الإخلال بالالتزام هو التعويض لا التنفيذ العيني .
وحرية الزواج من النظام العام . فإذا تعهد شخص إلا يتزوج مطلقاً ، كان هذا التعهد في الأصل باطلا ، كما إذا تعهدت امرأة لخليلها السابق إلا تتزوج أصلاً . ومع ذلك قد يكون التعهد صحيحاً إذا وجد سبب مشروع يبرره ، كما إذا تعهدت زوجة لزوجها إلا تتزوج بعد ترملها وكان لها من زوجها أولاد يريد الزوج أن يكفل لهم رعاية أمهم بعد موته . وإذا كان التعهد صحيحاً ، فلا يكون جزاء الإخلال به بطلان الزواج ، بل يدفع المتعهد تعويضا عن إخلاله بالتزامه ، ويغلب أن يكون الجزاء هو حرمان المتعهد من الهبة أو الوصية التي أعطيت له أو من المعاش الذي رتب له . وإذا تعهد شخص بان يتزوج من شخص معين ، فهو غير مقيد بتعهده ، ويجوز له العدول عن هذه الخطبة أو عن هذا التعهد ، ولا يكون مسئولا بمقتضى العقد وإن جاز أن يلتزم بالعمل غير المشروع لفسخه الخطبة في وقت غير لائق أو لارتكابه خطأ .
وللنفس حرمة لا يجوز انتهاكها باتفاقات تتعارض مع سلامتها . فيكون باطلا كل اتفاق يتعهد بمقتضاه شخص أن يعرض سلامته لخطر لا توجبه الضرورة ، كالاتفاق على المبارزة أو الملاكمة أو المصارعة ، وأن كان هناك ميل في الوقت الحاضر إلى إباحة التعاقد في الألعاب الرياضية حتى لو كانت عنيفة كالملاكمة والمصارعة لانتشار هذه الألعاب ورضاء الرأي العام عنها . وكحرمة النفس الحرمة الأدبية لا يجوز انتهاكها . فلا يصح أن تنازل مؤلف عن حقه الأدبي في إدخال ما يراه من التعديل على تأليفه ، حتى لو كان قد نزل عن حقوقه المادية في مؤلفه .
ويكون باطلا كل اتفاق يقيد من حرية الشخص في اعتناق الدين الذي يختاره ، وكل اتفاق يقيد الشخص بعقيدة معينة أو بمذهب معين من مذاهب التفكير .
ولكل شخص الحق في أن يجتمع مع غيره ، في هيئة أو جماعة ، وأن ينتمي إلى ما يشاء من الجمعيات ما دام الغرض الذي تألفت من اجله هذه الجمعيات مشروعاً . وأكثر ما يطبق هذا المبدأ في حالة نقابات العمال ، فلكل عامل الحق في الانضمام إلى النقابة التي يختارها ، وهو حر كذلك في إلا ينضم إلى نقابة ما . على أنه قضى بصحة اتفاق تعهد صاحب العمل بمقتضاه إلا يستخدم من العمال إلا من كان منضما إلى نقابة ، فتقيدت بذلك حرية العامل على نحو ما في أن يبقى بعيداً عن النقابات ( [424] ) .
ولكل شخص الحرية الكاملة في اختيار العمل الذي يتخذه حرفة له وفي القيام بما يشاء من أنواع التجارة . ولا يجوز أن يحرم شخص من هذه الحرية ولو رضى بهذا الحرمان . وأكثر ما ترد القيود الاتفاقية على حرية التجارة والعمل في عقود بيع المتاجر وفي عقود العمل . فإذا باع صاحب المتجر متجره ، فهو ملزم بضمان تعرضه الشخصي بمقتضى عقد البيع ذاته . ولا يجوز له بناء على ذلك أن يدير متجراً آخر ينتزع به عملاء المتجر القديم ، وإلا كان متعرضاً للمشتري ووجب الضمان . ولكن المشتري لا يكتفي عادة بهذا الضمان الذي يقرره القانون ، بل يشترط في عقد البيع أن يكف البائع عن العمل في هذا النوع من التجارة . كذلك كثيراً ما يشترط صاحب العمل على من يستخدمه في عمله إلا يلتحق بعمل مماثل إذا انقطع عن عمله الأول ، فيأمن بذلك على اسرار الصنعة أن يستغلها العامل في مناقسته بعد أن يكون قد ألم بها عنده . فإذا تعهد شخص بألا يعمل في تجارة معينة أو يلتحق بفعل معين ، فقد قيد بذلك من حريته في التجارة والعمل . وقد يكون هذا القيد مخالفاً للنظام العام . وكان القضاء في فرنسا وفي مصر يبطل القيد لمخالفته للنظام العام إذا كان مطلقاً غير محدود لا بزمان ولا بمكان . أما إذا قدي بزمان ، كأن يتعهد الشخص بأن يمتنع عن العمل أو التجارة مدة معينة ، أو بمكان ، كان يلتزم المتهم بالامتناع عن العمل أو التجارة في مكان معين ، كان التعهد صحيحا ( [425] ) . تم بدا ميل من جانب القضاء إلى العدول عن هذه القواعد الجامدة واستبدال معيار مرن بها ، فلا يكون المدار في الصحة والبطلان أن يتقيد التعهد بزمان أو بمكان أو لا يتقيد ، بل المهم أن يكون التعهد معقولا ( raisonnable ) لا تعسف فيه . ولا يكون هناك تعسف إذا كان التعهد لازماً لحماية الدائن من منافسة المدين غير المشروعة حتى لو كان هذا التعهد مطلقاً من كل قيد في الزمان أو في المكان ، ويكون التعهد باطلا إذا ما زاد عن الحد اللازم لهذه الحماية المشروعة حتى لو كان مقيداً في الزمان وفي المكان . فالعبرة إذن بمعقولية التعهد لا بتقييده ( [426] ) . وقد جاء القانون المدني الجديد مؤيداً هذا المعيار المرن ، فاشترط لصحة القيد أن يكون مقصوراً من حيث الزمان والمكان ونوع العمل على القدر الضروري لحماية مصالح رب العمل المشروعة ( م 686 ) ، وإذا اتفق على شرط جزائي في حالة الإخلال بالامتناع عن المنافسة وكان في الشرط مبالغة تجعله وسيلة لإجبار العامل على البقاء في خدمة رب العمل مدة أطول من المدة المتفق عليها كان هذا الشرط باطلا وينسحب بطلانه أيضاً إلى شرط عدم المنافسة في جملته ( م 687 ) ( [427] ) .
323 – النظم الإدارية والمالية : كذلك النظم الإدارية والمالية تحقق مصلحة عامة ، فهي إذن من النظام العام . ولا يجوز للأفراد ، باتفاقات خاصة ، أن يعارضوا تحقيق هذه المصلحة .
فيحرم على الموظف أن يبيع وظيفته أو أن ينزل عنها لآخر ، على أن الوظيفة ذاتها شيء لا يجوز التعامل فيه فلا يصح أن يكون محلا لتصرف ما . كذلك لا يجوز للموظف أن يتعهد لشخص آخر بأن يستقيل من وظيفته ، سواء رمى من وراء هذه الاستقالة إلى تحقيق رغبة لدى هذا الشخص ، أو قصد منها أن يترك له وظيفته خالية حتى يتمكن من الحصول عليها . وكل عقد يرمي إلى جعل الموظف يستفيد من وراء وظيفته ، كأن يتعاقد على شيء متصل بأعمال الوظيفة فيجني من وراء ذلك ربحاً ، يكون عقداً باطلاً لمخالفته للنظام العام . وليس الأمر مقصوراً على الموظف ، فكل وسيط يبذل وساطته في نظير مقابل يحصل عليه للوصول إلى نتيجة تحتم النزاهة في الإدارة أن يكون الوصول إليها دون مقابل أو وساطة إنما يقوم بعمل غير مشروع ، ويكون تعاقده باطلا . فاتفاق الوسيط مع شخص على جعل يأخذه الوسيط إذا مكن هذا الشخص من الحصول على وظيفة أو على رتبة أو على وسام أو على امتياز من الحكومة أو " مقاومة " يرسو " العطاء " عليه فيها أو نحو ذلك يكون اتفاقاً باطلا لمخالفته للنظام العام ( [428] ) . كذلك لا يجوز للموظف أن يقوم بعمل تجاري محرم عليه بل إن هناك من المهن ، كالطب والمحاماة ، ما ينظم تنظيماً إدارياً ، ولا يجوز لمن يمارسها أن يخلط بينها وبين أعمال التجارة ( [429] ) .
وإذا فرض قانون ضريبة وجب دفعها دون زيادة أو نقص . فإذا اتفق البائع والمشتري على ذكر ثمن في عقد البيع أقل من الثمن الحقيقي حتى تؤخذ رسوم التسجيل على الثمن المذكور في العقد ، ففي مثل هذه الحالة تكون العبرة بالثمن الحقيقي لا بالثمن الصوري المكتوب . ولا يجوز كذلك الاتفاق على جعل الملزم بدفع الضريبة شخصاً آخر غير الذي عينه القانون . لكن يجوز أن يتفق المؤجر والمستأجر على أن يقوم الثاني بدفع الضريبة المفروضة على العين المؤجرة بشرط أن يدخل ذلك في حساب الأجرة . ولا يمنع هذا الاتفاق من أن يبقى المؤجر ، إذا كان هو مالك العين ، ملزماً بأداء الضريبة لخزينة الدولة .
وقد رأينا فيما تقدم أن القوانين التي تنظم النقد والعملة تعتبر من النظام العام ، وأن شرط الدفع بالذهب باطل في المعاملات الداخلية والمعاملات الخارجية على السواء ( [430] ) .
233 – النظام القضائي : نظم التقاضي تحقق في مجموعها " مصلحة عامة " ، وكثير من هذه النظم لا تجوز معارضته باتفاقات فردية .
فتحديد اختصاص المحاكم – فيما عدا الاختصاص المحلي - يعتبر من النظام العام . ولا يجوز للخصوم أن يتفقوا على اختصاص محكمة تكون غير مختصة بالنسبة إلى ولايتها أو بالنسبة إلى اختصاصها النوعي ، فيرفعوا قضية من اختصاص المحاكم الشرعية إلى محكمة من المحاكم الوطنية أو قضية من اختصاص المحاكم الابتدائية إلى محكمة جزئية . وقد كان قانون المرافعات الوطني القديم لا يعتبر مسائل الاختصاص النوعي من النظام العام .
وقابلية الحكم للطعن فيه بطريق المعارضة أو الاستئناف أو النقص أو التماس إعادة النظر أو نحو ذلك قد تعتبر من النظام العام . فلا يجوز للخصوم أن يتفقوا على أن المعارضة جائزة في حكم حضوري ، أو أن الاستئناف جائز في حكم لا يقبله . ولكن يجوز الاتفاق على أن الحكم الذي يصدر من محكمة أول درجة لا يستأنف ولا يعارض فيه حتى لو كان قابلا للاستئناف أو للمعارضة ( [431] ) .
234 – القوانين الجنائية : ولا تجوز مخالفة القوانين الجنائية باتفاقات خاصة ، لأن هذه القوانين تعتبر من النظام العام . فيعد باطلا الاتفاق على ارتكاب جريمة أو الاتفاق على عدم ارتكاب جريمة لقاء مبلغ من المال . ويعد باطلا أيضاً الاتفاق الذي يلتزم بمقتضاه شخص بان يتحمل عن آخر ما قد عسى أن يتعرض له من مسئولية جنائية ، والاتفاق التي يلتزم بمقتضاه شخص بان يدفع الغرامات التي يحكم بها جنائياً على شخص آخر . ولا يجوز بمقتضى اتفاق خاص أن تخلق جريمة ليست موجودة في القانون ، كأن يتفق الدائن والمدين على اعتبار عدم وفاء المدين بدينه تبديداً ، فالتبديد لا يكون إلا في عقود معينة مبينة على سبيل الحصر ( [432] ) .
2 – روابط القانون الخاص
235 – الأحوال الشخصية والمعاملات المالية : هذه الروابط أما أن تكون متعلقة بالأحوال الشخصية ، أو داخلة في دائرة المعاملات المالية .
236 – الأحوال الشخصية : كثير من روابط الأحوال الشخصية يحقق مصلحة عامة ويعتبر من النظام العام ، فلا يجوز للأفراد تعديلها باتفاقات فيما بينهم . من ذلك الحالة المدنية للشخص وأهليته وعلاقته بأسرته .
فلا يجوز تعديل الحالة المدنية باتفاق خاص ، كان يتفق شخص مع آخر على تعديل جنسيته أو تغيير اسمه أو التنازل عن بنوته لأبيه أو الصلح على شيء من ذلك . بل إن القانون المدني الجديد حمى بنصوص صريحة الحقوق الملازمة للشخصية من أن يعتدى عليها . فنصت المادة 50 على أنه " لكل من وقع عليه اعتداء غير مشروع في حق من الحقوق الملازمة لشخصيته أن يطلب وقف هذا الاعتداء مع التعويض عما يكون قد لحقه من ضرر " . ونصت المادة 51 على أنه " لكل من نازعه الغير في استعمال اسمه بلا مبرر ، ومن انتحل الغير اسمه دون حق أن يطلب وقف هذا الاعتداء مع التعويض عما يكون قد لحقه من ضرر " . أما إذا أصبح اسم الشخص اسما تجارياً فإنه يكون مالا يجوز النزول عنه وبيعه والتصرف فيه .
وقواعد الأهلية من النظام العام . فلا يستطيع شخص أن ينزل عن أهليته أو يزيد فيها أو ينقص منها باتفاق خاص . وقد نصت المادة 48 من القانون المدني الجديد على أنه " ليس لأحد النزول عن أهليته ولا التعديل في أحكامها " . وكالأهلية الولاية ، فلا يجوز للولي أو الوصي أو القيم أن يزيد أو ينقص من حدود ولايته .
وعلاقة الشخص بأسرته وما له من حقوق وما عليه من واجبات كل هذا يعتبر من النظام العام إذا لم يكن حقوقاً مالية محضة . مثل ذلك الحقوق والواجبات التي تنشأ من عقد الزواج ، فلا يجوز الاتفاق ما بين الزوجين على تعديل ما للزوج من حقوق على زوجته في الطاعة والأمانة الزوجية أو تعديل ما للزوجة من حقوق على زوجها من النفقة والرعاية . ولا يجوز للزوج المسلم أن ينزل عن حقه في الطلاق ( [433] ) . كذلك الحقوق والواجبات التي تنشأ من الأبوة تعتبر من النظام العام . فللأب حق تربية أولاده ، فلا يجوز أن يقيد نفسه باتفاق يحدد طريقة تربية الأولاد أو يلزمه مقدماً باختيار دين معين لهم كان تكون الأولاد على دين الأم مثلا . والنفقات بمختلف أنواعها ، من نفقة الزوجة ونفقة الصغير والنفقة ما بين الأصول والفروع والنفقة ما بين ذوى الأرحام ، تعتبر كلها من النظام العام ، فلا يجوز تنازل الشخص مقدماً عن حقه في مطالبة من تجب عليه النفقة له ، وإن كان يجوز التنازل عن النفقة المتجمدة بعد تجمدها .
237 – المعاملات المالية : ومن روابط المعاملات المالية ما يحقق مصلحة عامة فيعتبر من النظام العام . من ذلك الأسس التي يقوم عليها النظام الاقتصادي في البلاد ، فهي تارة تفسح المجال للنشاط الفردي ، وطوراً تحد من هذا النشاط لحماية الجانب الضعيف . ومن ذلك أيضاً الأحكام التي تكفل حماية الغير حسن النية .
فمن الأسس التي تفسح المجال للنشاط الفردي وتكفل تداول المال واستثماره على خير وجه أن حق الملكية لا يجوز أن يقيد المالك في استعماله بغل يده عن التصرف فيه ، وشرط عدم التصرف باطل ما لم يكن مبنياً على باعث مشروع ومقصوراً على مدة معقولة ( م 823 من القانون المدني الجديد ) . ولا يجوز أن يتقيد المالك بالبقاء في الشيوع لمدة تزيد على خمس سنوات ( م 834 من القانون المدني الجديد ) ، لأن الشيوع بعيد عن أن يكون خير الوجوه لاستثمار الملكية .
ومن الأسس التي تكفل حماية الجانب الضعيف ما قرره القانون في صدد عقود الإذعان من جواز تعديل الشروط التعسفية أو الإعفاء منها ، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك ( م 149 من القانون المدني الجديد ) . وما قرره من إبطال العقد أو إنقاص الالتزامات في حالة الاستغلال ( م 129 من القانون المدني الجديد ) . وما قرره من إنقاص الالتزام المرهق في حالة الحوادث الطارئة ( م 147 من القانون المدني الجديد ) . وما قرره من جواز تخفيض الشرط الجزائي ( م 224 من القانون المدني الجديد ) . وما قرره من عدم جواز الاتفاق على سعر للفائدة أعلى من السعر الذي يسمح به القانون ( م 227 من القانون المدني الجديد ) .
ومن الأحكام التي تحمي الغير حسن النية القواعد التي رسمها القانون لشهر الحقوق العينية ، فيكون باطلا اتفاق البائع مع المشتري على أن تعتبر الحقوق العينية المترتبة على العين المبيعة سارية في حق المشتري ولو لم تشهر هذه الحقوق على الوجه الذي يتطلبه القانون . كذلك لا يتقيد الدائن باتفاقه مع المدين على تنازله مقدماً عن الطعن في تصرفات مدينه بالصورية أو بالدعوى البوليصية . ولا يجوز لشخص أن يشترط عدم ضمان تعرضه الشخصي أو عدم مسئوليته عن الغش الذي يصدر منه . ولا يجوز الإعفاء من المسئولية التقصيرية سواء كانت مبنية على غش أو على خطأ ، ولا الإعفاء من المسئولية العقدية إذا كانت مبنية على غش أو على خطأ جسيم .
المطلب الثاني
الاتفاقات التي تخالف الآداب
238 – العلاقات الجنسية : كل اتفاق على إيجاد علاقات جنسية غير مشروعة باطل لمخالفته للآداب . كذلك يكون باطلا كل تعهد يلتزم بمقتضاه شخص أن يؤجر شخصاً آخر في مقابل إيجاد علاقات جنسية معه ، أو في مقابل استمرار هذه العلاقات ، أو العودة إليها إذا كانت قد انقطعت . أما إذا كان المال الذي يتعهد الشخص بدفعه إنما هو على سبيل التعويض لما أصاب الشخص الآخر من ضرر من جراء العلاقات الجنسية ، فالتعهد صحيح ، بل هو اعتراف بالتزام طبيعي .
239 – بيوت العهارة : وكل اتفاق يتعلق باستغلال بيوت العهارة يعتبر باطلا لمخالفته للآداب ، ولو كانت هذه البيوت قد حصلت على ترخيص إداري . فبيع بيت يدار للعهارة ، وإيجاره ، وشراء مفروشات له ، واستئجار أشخاص ليقوموا بالخدمة فيه ، وإنشاء شركة لاستغلاله ، وإقراض مال للإعانة على إدارته ، كل هذه عقود باطلة لمخالفتها لأداب . وسنرى عند الكلام في السبب أن هذه العقود تكون باطلة كذلك حتى لو وقعت على بيت لم يكن معداً للعهارة وقت صدورها ، إذا تبين أن الباعث لأحد المتعاقدين على التعاقد هو أعداد البيت للعهارة وكان المتعاقد الآخر يعلم بهذا الباعث .
240 – المقاصرة : ويكون باطلا كل اتفاق خاص بمقارمة أو رهان لمخالفته للآداب ، ولمن خسر أن يسترد ما دفعه في خلال ثلاث سنوات من الوقت الي أدى فيه ما خسره ولو كان هناك اتفاق يقضي بغير ذلك ( م 739 من القانون المدني الجديد ) . ويستثنى من ذلك الرهان الذي يعقده فيما بينهم المتبارون شخصياً في الألعاب الرياضية ، ولكن للقاضي ان يخفض قيمة هذا الرهان إذا كان مبالغاً فيه ، ويستثنى أيضاً ما رخص فيه قانوناً من أوراق النصيب ( م 740 من القانون المدني الجديد ) . ويعد باطلا بيع بيت يدار للمقامرة وإيجاره وكل ما يقع عليه من العقود بقصد استغلاله للمقامرة ، سواء في ذلك كان البيع معداً للمقامرة قبل صدور العقد ، ويكون المحل في هذه الحالة مخالفاً للآداب ، أو لم يكن معداً لها ما دام الباعث على التعاقد هو أعداد البيت للمقامرة ، ويكون المخالف للآداب في هذه الحالة هو السبب لا المحل كما رأينا في بيوت العهارة .
241 – أمثلة أخرى لاتفاقات مخالفة للآداب : ويعد مخالفاً للآداب كسب المال من طريق غير شريف . فمن يتقاضى أجراً جزاء القيام بعمل كان يجب عليه القيام به دون اجر لا يستحق هذا الأجر ويكون عقده باطلا ، كمن يتعهد برد وديعة عنده أو مال اقترضه أو شيء سرقه في مقابل اجر يأخذه . كذلك لا يجوز أن يتقاضى شخص أجراً للامتناع عن عمر يجب عليه الامتناع عنه دون اجر ، كمن يتعهد بعدم ارتكاب جريمة في مقابل اجر لذلك . ولا تجوز الخديعة ولا الانحراف عن واجب الذمة في التعامل . فالاتفاق على ألا يعترف شخص بمسئوليته ولو أدى ذلك إلى أن يكذب يكون باطلا لأنه مخالف للآداب . وكان القضاء الفرنسي يبطل الاتفاق الذي يتم ما بين مدير المسرح وجماعة من الناس يسمون بالهتافة ( claque ) يستأجرهم المدير للتصفيق وترويج ما يعرض على المسرح ، لأن مثل هذا الاتفاق من شأنه أن يخدع الجمهور . ثم رجع القضاء عن ذلك ، وأصبح الآن يقضي بصحة هذا الاتفاق لأن الهتافة قد يؤدون خدمة للفن بتشجيعهم للممثلين وأصحاب الفن المبتدئين . ولا يعد باطلا اتفاق أحد النسابة ( genealogiste ) مع وارث على أن يكشف له عن نسبه ليحصل على ميراث يستحقه ، مادام النسابة لم يخدع من تعاقد معه ، بل كشف له عن سر حقيقي كان يجهله .
الفرع الثالث
السبب ( * )
( La Cause )
242 – السبب عنصر متميز عن الإرادة ولكنه متلازم معها : نعرف السبب تعريفاً أولياً بأنه هو الغرض المباشر الذي يقصد الملتزم الوصول إليه من وراء التزامه . والفرق بينه وبين المحل – كما يقال عادة – هو أن المحل جواب من يسأل : بماذا التزم المدين ( Quid debetur ) ، أما السبب فجواب من يسال : لماذا التزم المدين ( Cur debetur ) ( [434] ) .
والسبب بهذا المعنى لا يكون عنصرا في كل التزام ، بل يقتصر على الالتزام العقدي إذا الالتزام غير العقدي لم يقم على إرادة الملتزم حتى يصح السؤال عن الغرض المباشر الذي قصد إليه الملتزم من وراء التزامه .
والسبب كعنصر في الالتزام العقدي دون غيره إنما يتصل أوثق الاتصال بالإرادة . والحق أن السبب ليس هو الإرادة ذاتها ، ولكنه هو الغرض المباشر الذي اتجهت إليه الإرادة . فهو ليس عنصراً من عناصر الإرادة يتوحد معها ، بل هو عنصر متميز عن الإرادة . ولكن لما كانت الإرادة البشرية لا يمكن أن تتحرك دون أن تتجه إلى سبب ، أي دون أن ترمي إلى غرض تهدف لتحقيقه ، لذلك كان السبب ، وإن تميز عن الإرادة ، متصلا بها أوثق الاتصال . فحيث توجد الإرادة يوجد السبب . ولا تتصور إرادة لا تتجه إلى سبب إلا إذا صدرت عن غير وعي ، كإرادة المجنون . ولكننا رأينا أن الإرادة لا يعتد بها إلا إذا صدرت عن وعي وتميز ، فالإرادة المعتبرة قانوناً لا بد لها من سبب .
ويمكن إذن أن نستخلص مما تقدم أن السبب ركن في العقد غير ركن الإرادة . ولكن الركنين متلازمان ، لا ينفك أحدهما عن الآخر ( [435] ) .
243 – السبب والإرادة معنيان متلازمان ولسكن السبب والشكل معنيان متعارضان : وتاريخ نظرية السبب يقوم على الحقيقة الآتية : كلما زاد حظ الإرادة في تكوين العقد ، وضعف حظ الشكل ، زادت أهمية السبب . ذلك لأن الإرادة ، من حيث إنها تحدث آثاراً قانونية ، إذا انطلقت من قيود الشكل ، وجب أن تتقيد بالسبب . وعند ما كان الشكل وحده – دون الإرادة – هو الذي يكون العقد ، لم يكن للسبب من اثر . وبدا السبب في الظهور عندما بدأت الإرادة تتحرر متدرجة من قيود الشكل . وكلما زاد تحررها من هذه القيود زاد رطبها بقيود السبب ، إلى أن تم تحريرها ، فوجدت نظرية السبب كاملة تحل محل الشكل .
ونرى مما تقدم أنه حيث يتغلب الشكل يقل شأن السبب ، وحيث يضعف الشكل يقوى أمر السبب . هكذا كانت الحال في القانون الروماني : فقد بدأ هذا القانون شكلياً ، فلم يكن فيه إذ ذاك للسبب نصيب . ولما أخذ الشكل يتقلص وتظهر العقود الرضائية ، بدا السبب يظهر بظهور الإرادة ليكون قيداً لها بدلا من الشكل . وهكذا كانت الحال في القانون الفرنسي القديم : فإن السبب لم يكد يعرف فيه إلا عندما وصل رجال الكنيسة إلى تقرير الرضائية في العقود . فظهر السبب بعد أن كانت الشكلية تستره ، وبرز قوياً ليحوط الإرادة بقيود تحل محل قيود الشكل ، وهكذا هي الحال في القانون الحديث حيث الشكلية تكاد تنعدم ، فأينعت نظرية السبب وتطورت ، بل لعلها رجعت إلى أصلها قوية كما كانت في القانون الكنسي ، لولا أن العقد المجرد حل محل العقد الشكلي في الانتقاص من سلطان السبب .
244 – علاقة السبب بالمشروعية وبعيوب الإرادة : منذ تحررت الإرادة : منذ تحررت الإرادة من الشكل ، حاطها السبب بقيود على ما قدمنا . وبدأ ذلك يكون لحماية المجتمع عن طريق المشروعية وفي صورة السبب المشروع . فالإرادة حتى تنتج أثرها يجب أن تتجه إلى غرض مشروع لا يتعارض مع النظام العام ولا مع الآداب ، وذلك حماية للمجتمع ، ثم اتخذت نظرية السبب لها هدفاً آخر إلى جانب هذا الهدف الأول ، فصارت تحمى المتعاقد نفسه من هزله ونسيانه ومما قد يقع فيه من غلط أو تدليس أو إكراه . وهكذا بعد أن تحررت الإرادة من الشكلية أخذت تتحرر من العيوب عن طريق نظرية السبب . وبعد أن قامت نظرية السبب لحماية المجتمع ، أخذت تقوم لحماية المجتمع والمتعاقدين جميعاً .
ولعل أول صورة تمثلت لعيوب الإرادة انطبعت في نظرية السبب . ثم أخذت عيوب الإرادة تستقل عن السبب شيئاً فشيئاً ، وتكسب لها كياناً ذاتياً خارجاً عن منطقة السبب . فانفصل الإكراه ، ثم انفصل التدليس . وأصبح السبب الآن لا يختلط إلا بالغلط في منطقة مشتركة ، هي منطقة السبب المغلوط أو الغلط في السبب . وقد أتم القانون المدني الجديد هذا التطور ، ففصل بين الغلط والسبب فصلا تاماً . وأصبح السبب في هذه القانون مقصوراً على السبب المشروع . وهذه الدائرة المحدودة – دائرة السبب المشروع – هي الدائرة الأولى التي نشأ فيها السبب عندما بدا يظهر في القانون الكنسي ، وبذلك رجع السبب سيرته الأولى ، وعاد كما بدا .
245 – تطور العقد من عقد شكلي إلى عقد رضائي مسبب إلى عقد رضائي مجرد : وتاريخ نظرية السبب يهدينا إلى حقيقة أخرى . فيسقرئنا هذا التاريخ أن العقد بدأ عقداً شكلياً ( contrat formel ) حيث السبب لا اثر له كما قدمنا . ثم تطور إلى عقد رضائي ( contrat consensual ) حيث السبب له اكبر الأثر ثم تطور اخيراً إلى عقد مجرد ( contrat abstrait ) حيث انفصلت الإرادة عن سببها ولم يعد للسبب إلا اثر غير مباشر . وسنرى أن القانون المصري الجديد لم يماش هذا التطور إلى نهايته ، ولم يسر في ذلك على نهج القوانين الجرمانية ، بل حرص على أن يبقى في دائرة القوانين اللاتينية ، حيث لايزال العقد رضائياً ، وحيث تشغل نظرية السبب في العقد المكان البارز ، وحيث لا يوجد العقد المجرد إلا في دائرة محدودة ضيقة .
246 – خطة البحث في نظرية السبب : ونستعرض نظرية السبب في مبحثين ، نتعقب في المبحث الأول منهما كيف نشأت نظرية السبب وكيف تطورت ، ونبسط في المبحث الثاني نظرية السبب في القانون الحديث .
المبحث الأول
كيف نشأت نظرية السبب
247 - القانون الروماني والقانون الفرنسي القديم : في هذين القانونين يجب أن نتعقب كيف نشأت نظرية السبب . ولعل نظرية قانونية لا يلقى عليها تاريخ تطورها من الضوء بمقدار ما يلقى التاريخ على نظرية السبب . وسنرى أن القانون الروماني ظل بمعزل عن هذه النظرية إلى مدى بعيد إذ غلبت فيه الشكلية . وقد نبتت النظرية ثم ترعرعت منذ تحررت الإرادة من الشكل في عهد القانون الكنسي كما قدمنا . وتطورت النظرية يعد ذلك تطوراً يغاير طبيعتها ، وانقلبت على يد دوما ( Domat ) ومن سبقه وتلاه من الفقهاء من نظرية نفسية إلى نظرية موضوعية . وبقيت كذلك عهوداً طويلة . وانتقلت على هذا النحو إلى القانون الفرنسي الحديث ، ضعيفة الأثر ، قليلة الجدوى . وسنشهد بعد ذلك كيف أن النظرية استردت جدتها في العهد الأخير ، ورجعت خصبة قوية منذ عادت نظرية نفسية .
المطلب الأول
نظرية السبب في القانون الروماني
1 – العهد القديم
248 – العقود كانت شكلية فلم يسكن للسبب فيها أي اثر : كانت العقود في العهد القديم للقانون الروماني شكلية . فكان العقد ينعقد بأوضاع وأشكال خاصة ، ولم يكن للإرادة أي تدخل في تكوينه . وكانت العقود الشكلية ثلاثة : عقد يتم بوزن صوري ( nexum ) ، ثم ظهر إلى جانبه العقد الكتابي ( litteris ) ويتم بكتابة على نحو خاص ، والعقد اللفظي ( verbis ) ويتم بألفاظ معينة . ولم تكن هذه العقود الشكلية عقوداً بالذات ، بل كانت قوالب تصب فيها العقود . فالبيع والإيجار والقرض والشركة وغير ذلك من العقود كانت توضع في شكل من هذه الأشكال الثلاثة حتى يتم انعقادها . وهذه الأشكال هي التي كان الرومان يدعونها " السبب المدني " ( causa civilis ) . فهي ليست سبباً للالتزام العقدي على النحو المعروف في القانون الحديث ، بل هي سبب لانعقاد العقد ، أو هي الشكل القانوني الذي يجعل العقد يتكون ( [436] ) . وهذا الشكل ضروري في انعقاد العقد ، وهو في الوقت ذاته كاف لانعقاده . فهو ضروري لأن العقد بدونه لا ينعقد . وهو كاف لأنه متى وجد انعقد العقد ، سواء قامت إرادة المتعاقدين إلى جانب الشكل أو لم تقم ، وسواء كانت الإرادة إذا قامت صحيحة أو معيبة ، وسواء اتجهت إلى غرض مشروع أو غرض غير مشروع . فالشكل وحده ، لا الإرادة ، هو الي يوجد العقد .
ومن ثم يتبين أن السبب في هذه العقود الشكلية لم يكن له أي اثر في تكوين العقد ، فسواء وجد أن لم يوجد ، وسواء كان مشروعاً أو غير مشروع ، فإنه لا شأن له بالعقد ، مثله في ذلك مثل الإرادة . ومتى توافر للعقد لشكله القانونين انعقد ، دون نظر إلى الإرادة ، ودون نظر إلى السبب .
249 – وكذلك طرق نقل الملكية كانت شكلية ولم يكن للسبب فيها أي اثر : وكما كانت العقود في العهد القديم شكلية مجردة عن السبب ، كذلك كانت طرق نقل الملكية . فلم تكن الملكية تنتقل بالعقد . بل كان العقد يتلوه وضع خاص هو الذي ينقل الملكية . وكانت هذه الأوضاع هي أيضاً ثلاثة : وضع يتم بأشكال عتيقة ( mancipatio ) ، ووضع يتم بدعوى صورية أمام القضاء ( in jure cession ) ، ووضع مادي يتم بالتسليم ( tradition ) وأي وضع من هذه الأوضاع متى تم تنتقل به الملكية ، دون نظر إلى السبب الذي انتقلت من اجله كبيع أو هبة أو شركة . فإذا باع شرخص من آخر شيئا ، وتم وضع من هذه الأوضاع الثلاثة ينقل به البائع ملكية المبيع إلى المشتري ، انتقلت الملكية ، دون نظر إلى ما إذا كان البيع قد تم أو لم يتم ، ودون نظ رالى ما إذا كان قد تم صحيحاً أو كان فيه عيب .
2 – العهد المدرسي
250 – اختفاء أكثر العقود الشكلية : تطور القانون الروماني بانتشار التجارة وتقدم طرق التعامل ، فاختفت أكثر العقود الشكلية . اختفى عقد الوزن الصوري ( nexum ) بزوال الفائدة التي كان يوليها ، وهي دعوى من دعاوى الرومان القديمة تمكن الدائن من السيطرة على جسم المدين ( manus injection ) . واختفى العقد الكتابي ( litteris ) باختفاء السجلات الخاصة التي كان هذا العقد يدون فيها ، وكان الرومان قبلا يحتفظون بها ، ثم اخذوا يهجرون هذه العادة شيئاً فشيئاً حتى انقرضت ، فانقرض بانقراضها العقد الكتابي .
ولم يبق من القيود الشكلية إلا العقد اللفظي ( verves, stipulation ) لسهولته النسبية وللحاجة إليه إذا حرص المتعاقدان على استبقاء مزايا العقد الشكلي .
251 – بدء ظهور السبب في العقد اللفظي : على أن العقد اللفظي مع بقائه شكلياً لم يخل مع تطور القانون الروماني من أن يتأثر بفكرة السبب . تأثر بها تأثراً غير مباشر في ناحيتين ، ثم تأثر بها تأثراً مباشراً في ناحية الثالثة .
فإذا كان العقد اللفظي سببه غير موجود أو غير مشروع ، فإن العلاج لم يكن بطلان العقد كما هو الأمر في القانون الحديث ، بل كان العقد يبقى صحيحاً ، ولكن المدين يعطي دعوى من دعاوى الاسترداد المعروفة في القانون الروماني ( condictiones sine causa ) يستطيع أن يسترد بها أما أعطاه دون سبب أو بسبب غير مشروع . وهذه الدعوى قد يلجأ إليها المدين كدعوى يرفعها على الدائن أو كدفع يدفع به دعوى الدائن . فهو إذا لجأ إليها كدفع يستطيع أن يتوقى مطالبة الدائن له بالتزام قام على سبب غير صحيح أو لسبب غير مشروع . وإذا لجأ إليها كدعوى يستطيع أن يسترد بها ما دفع للدائن وفاء لهذا الالتزام ، أو أن يتخلص من الالتزام ذاته إذا لم يكن قد وفى به . وسنرى عند الكلام في الإثراء بلا سبب الصور المختلفة الدعوى الاسترداد هذه ( [437] ) . ويلاحظ أن هذه الدعوى كانت من خلق القانون الروماني المدني ( Jus civil ) .
أما القانون البريطوري ( droit pretorien ) فقد جعل للمدين في الحالة المتقدمة دفعاً هو الدفع بالغش ( exception doli ) يستطيع به أن يتوقى مطالبة الدائن ، دون أن يستطيع مهاجمته للتخلص من التزامه أو لاسترداد ما دفع .
هاتان هما الناحيتان اللتان تأثر فيهما العقد اللفظي بفكرة السبب تأثراً غير مباشر . ونقول غير مباشر لأن فكرة السبب لم تعترض العقد عند تكوينه ولم تؤثر فيه تأثيرا مباشراً بأن تمنع نفاذه ، بل بقى العقد صحيحاً نافذاً . ولكن عند تنفيذه تظهر فكرة السبب ، فتوجب الاسترداد أو تمنع التنفيذ ، عن طريق الدعوى أو عن طريق الدفع .
على أن هناك ناحية ثالثة تأثر فيها العقد اللفظي بفكرة السبب تأثراً مباشراً كما أسلفنا القول . وقد كان ذلك في ناحية عقد القرض إذا كان واقعاً على مبلغ من النقود . فقد جرت العادة في القانون الروماني بان يتعهد المقترض برد القرض بعقد لفظي ، ثم بعقد مكتوب يكتب فيه الشرط اللفظي بدلا من التفوه به ، وذلك قبل أن يتسلم مبلغ القرض . فهو قد التزم قبل أن يتسلم شيئاً ، والتزامه صحيح ما دام دق استوفى الشكل المطلوب . فإذا أراد أن يستعين بدعوى الاسترداد . فعليه هو أن يثبت أنه لم يتسلم شيئاً حتى يلتزم برده ، ولا يكلف المقرض بإثبات السبب . وكان من وراء ذلك أن تعسف المقرضون بالمقترضين ، إذ كان هؤلاء يلتزمون مقدماً وقد لا يتسلمون شيئاً أو يتسلمون مبلغاً أقل من المذكور بالعقد ، ويقع عليهم مع ذلك عبء الإثبات إذا أرادوا التخلص من هذا الالتزام . فادخل قانون امبراطوري ( constitution imperiale تعديلا في هذه الأحكام يقضي بأنه إذا التزم المقترض ، واعترف كتابة أنه تسلم مبلغ القرض ، فله أن يقرر بطريق الدعوى أو بطريق الدفع أنه لم يتسلم في الواقع شيئاً ( querela non numeratea pecuniae ) ، وعلى المقرض إذا أراد استيفاء الالتزام أن يثبت أن المقترض قد تسلم القرض . ومعنى هذا أن الدائن في هذه الحالة مكلف أن يثبت وجود سبب للالتزام ، وإلا كان العقد غير نافذ . ومن هنا دخلت فكرة السبب في العقد اللفظي عن طريق مباشر ، فانعدام السبب يمنع نفاذ العقد ، ولا يقتصر على إباحة الاسترداد أو على التخلص من الالتزام بعد أن يصير العقد نافذاً ( [438] ) .
ويلاحظ أنه حتى عند ظهور هذا الأثر المباشر لفكرة السبب في العقد اللفظي ، فإن السبب لم يقم على أساس نفسي متصل بإرادة المتعاقدان بل قام على أساس موضوعي لا صلة له بهذه الإرادة . فهو قد قام على واقعة أن المقترض لم يتسلم القرض ، وأن العدالة تقضي في هذه الحالة إلا يلتزم بشيء نحو المقرض . فالسبب هنا كالسبب في الفرضين السابقين – دعوى الاسترداد والدفع بالغش – إنما قام على اعتبارات تتصل بالعدالة لا بالإرادة . وبقيت الشكلية في العقد اللفظي مانعة من ظهور السبب متصلا بالإرادة . ذلك أن الشكلية والإرادة في القانون الروماني ضدان لا يجتمعان ، وإذا طردت الشكلية الإرادة فإنها تطرد في الوقت ذاته السبب بمعناه النفسي وهو المعنى المتصل بالإرادة .
252 – ظهور السبب في العقود غير الشكلية : وقد ظهر إلى جانب العقود الشكلية في القانون الروماني عقود أخرى غير شكلية ، أهمها العقود العينية والعقود الرضائية والعقود غير المسماة وعقود التبرع . ولما كان أكثر هذه العقود تتدخل الإرادة في تكوينه ، فقد بدأت فكرة السبب تظهر بظهور الإرادة في تكوين العقد .
أما في العقود العينية – وهي القرض والعارية والوديعة والرهن – فإن الإرادة لم تكن ظاهرة ، وكان أساس الإلزام في هذه العقود هو تسليم العين إلى الملتزم ، فهو ملزم بردها لأنه تسلمها وإلا كان مثرياً دون سبب .
وعلى النقيض من ذلك العقود الرضائية – وهي البيع والإيجار والشركة والوكالة – فالإرادة فيها تتدخل في تكوين العقد ، بل هي وحدها كافية بتكوينه . ومن ثم ظهرت فكرة السبب في هذه العقود ظهوراً واضحاً . ففي عقد البيع التزام البائع سبب لالتزام المشتري ، بحيث إذا هلك المبيع قبل البيع فامتنع التزام البائع لانعدام المحل لم يقم التزام المشتري لانعدام السبب . ولكن فكرة السبب في عقد البيع كانت تقف عند هذا الحد ، فلا تجاوز مرحلة تكوين العقد إلى مرحلة تنفيذه ، ويظهر ذلك في امتناع الدفع بعدم التنفيذ وفي امتناع الفسخ وفي تبعة هلاك المبيع ، وكلها أمور ترجع إلى تنفيذ العقد وتتصل بفكرة السبب . فكان لا يجوز للمشتري أن يمتنع عن دفع الثمن حتى إذا امتنع البائع عن تسليم المبيع ، ولا يجوز للبائع أن يمتنع عن تسليم المبيع حتى لو امتنع المشتري عن دفع الثمن ، فالتزام كل المتعاقدين مستقل في تنفيذه عن التزام الآخر . ومن ثم امتنع الدفع بعدم التنفيذ . وإذا كان القانون الروماني جعل للمشتري فيما بعد دعوى الغش ليمتنع عن دفع الثمن حتى يتسلم المبيع ، وجعل للبائع الحق في حبس المبيع حتى يقبض الثمن ، فإن ذلك لم يكن أثراً لعقد البيع ذاته ، بل لاعتبارات ترجع للعدالة ، ولو كان البيع يوجد ارتباطاً بين التزامات كل من المتعاقدين لكان المنطق يقضي بأن تكون دعوى كل منهما ناشئة من عقد البيع ( action ex empto ) ( [439] ) . كذلك لم يكن لأحد من المتعاقدين فسخ البيع إذا لم يقم المتعاقد الآخر بتنفيذ التزامه ، بل يبقى البيع ، ويطالب بتنفيذ الالتزام الذي لم ينفذ ، حتى لو كان المتعاقد المطالب بالتنفيذ لم يقم من جانبه بتنفيذ التزامه ، لأن التزام كل من المتعاقدين مستقل في تنفيذه عن التزام الآخر كما قدمنا . وإذا هلك المبيع بعد البيع وقبل التسليم ، كانت تبعة الهلاك على المشتري لا على البائع . وفي هذا إمعان في تأكيد الاستقلال ما بين التزام البائع والتزام المشتري عند التنفيذ . ذلك أنه إذا استحال على البائع لهلاك المبيع تنفيذ التزامه ، بقى المشتري مع ذلك ملزماً بدفع الثمن لاستقلال التزامه عن التزام البائع . ويبدو هذا الحل الروماني قاطعاً في المعنى الذي أسلفناه إذا لاحظنا أن البيع في القانون الروماني لم يكن ينشيء في ذمة البائع التزاماً بنقل الملكية ، ولم يكن المشتري يصبح مالكاً للمبيع بعقد البيع ذاته حتى يقال – كما قيل في القانون الفرنسي – إن المشتري يتحمل تبعة الهلاك لأنه أصبح مالكاً . ومن كل ذلك نرى أنه إذا وجد ارتباط ما بين التزام البائع والتزام المشتري عند تكوين عد البيع حتى صح أن يقال إن كلا منهما سبب للأخر ، فإن هذا الارتباط منعدم عند تنفيذ البيع ، بل يصبح كل التزام في تنفيذه مستقلا كل الاستقلال عن الالتزام الآخر ، وتقف فكرة السبب كما قدمنا عند تكوين البيع ، دون أن تجاوز مرحلة التكوين إلى مرحلة التنفيذ ( [440] ) .
وفي العقود غير المسماة ظهر السبب على الوجه الآتي : في عقد المقايضة مثلا إذا سلم أحد المتقايضين العوض الذي يملكه ، التزم الآخر بتسليم ما يقابله من العوض . وهذا الالتزام الأخير يقوم لا على إرادة الملتزم وحدها ، بل على هذه الإرادة مضافاً إليها أن سببها قد تحقق . ذلك أن سبب إرادة المتعاقد الآخر في أن يلتزم بتسليم ما عنده هو أن يتسلم ما عند المتعاقد الأول ، وقد تسلمه فعلا ، فتحقق السبب . فارادته هنا تؤخذ مقرونة بالسبب لا مجردة عنه ( [441] ) .
وفي الهبة – وهي أهم عقود التبرعات – اعترف القانون الروماني بالسبب إلى حد كبير . فالتبرعات المحضة تقوم على نية التبرع ( animus donandi ) ، وهي السبب في التزام المتبرع . وتترتب على ذلك نتيجة هامة ، هي أنه إذا انعدمت هذه النية انعدم السبب وبطل التبرع . فمن تعهد بوفاء التزام طبيعي معتقداً أنه التزام مدني لا يكون متبرعاً ، ويبطل تعهده لانعدام السبب . والهبة المقترنة بشرط ( donatine sub modo ) يكون الشرط سبباً لها إذا كان هو الدافع إلى التبرع . فإذا لم يقم الموهوب له بتنفيذ الشرط ، كان للواهب أن يسترد هبته بدعوى استرداد ( condition causa data , causa non secuta ) ، وله أيضاً أن يجبر الموهوب له على تنفيذ الشرط . وفي الوصية – وهي إرادة منفردة – اعترف القانون الروماني بالسبب إلى حد أن مزجه بالباعث . فإذا اعتقد الموصى أن وارثه قد مات فأوصى بماله لأجنبي ، وتبين أن الوارث لا يزال حياً ، واستطاع هذا أن يثبت أن الباعث على الوصية هو اعتقاد لموصى أن الوارث قد مات ، فالوصية باطلة لانعدام سببها ( [442] ) .
253 – موقف القانون الروماني من نظرية السبب : ويتبين مماقدمناه أن القانون الروماني اعترف في بعض العقود بفكرة السبب إلى مدى محدود . وهذه العقود هي التي ظهرت فيها الإرادة كعامل من عوامل تكوينها . وحيث تظهر الإرادة يظهر السبب . ولكن الرومان تمثلوا فكرة السبب فكرة موضوعية ( objectif ) لا ذاتية ( subjectif ) ، ونظروا إلى السبب موجوداً في العقد ( intrinseque ) لا خارجاً عنه ( extrinseque ) ، وهو واحد لا يتغير ( invariable ) في النوع الواحد من العقود مهما اختلفت البواعث والدوافع . وإذا كانوا قد توسعوا في السبب فمزجوه بالباعث ، فقد فعلوا ذلك في نطاق ضيق محدود ، وكان ذلك بنوع خاص في بعض التبرعات على النحو الذي بيناه ( [443] ) . وسنرى فيما يلي أن هذا التصوير الروماني هو الذي رجع إليه دوما ( Domat ) ، في صياغته لنظرية السبب .
وننظر الآن كيف تطورت نظرية السبب في القانون الفرنسي القديم ، قبل عهد دوما ومنذ ذلك العهد .
المطلب الثاني
نظرية السبب في القانون الفرنسي القديم
254 – عهدان : بقيت فكرة السبب تتطور تطوراً مستمراً طوال القرون السبعة التي سبقت التقنين المدني الفرنسي ، من القرن الثاني عشر إلى مستهل القرن التاسع عشر .
وفي خلال هذه القرون الطويلة يمكن التمييز بين عهدين يفصل بينهما الفقيه الفرنسي المعروف دوما ( Domat ) في القرن السابع عشر . إذ هو الذي صاغ فكرة السبب نظرية عامة ، بعد أن تهيأت لها عوامل الصياغة طوال القرون التي سبقته . ومنذ صاغ دوما نظرية السبب تبعته الفقهاء في صياغته ، وتناقلت عنه ما كتب ، حتى انتقلت النظرية عن طريق بوتييه ( Pothier ) إلى التقنين المدني الفرنسي .
فنحن نتابع تطور نظرية السبب في كل من هذين العهدين : ( 1 ) عهد ما قبل دوما ( 2 ) العهد الذي بدأه دوما .
1 – نظرية السبب في العهد الذي سبق دوما ( [444] )
255 – الرومانيون والكنسيون : تداول فكرة السبب في هذا العهد فريقان من الفقهاء : فريق الرومانيين ( romanistes ) وفريق الكنسيين ( canonists ) . فالرومانيون رجعوا للفكرة الرومانية في السبب ، وهي فكرة شكلية موضوعية كما قدمنا ، ولذلك لم تتقدم نظرية السبب على أيديهم أكثر مما كانت في القانون الروماني . أما الكنسيون فهم الذين خطوا بفكرة السبب خطوات جبارة ، فانتزعوها من أصلها الروماني إلى أفق أرحب ، وجعلوها فكرة مؤثر فعالة . وننظر الآن كيف كانت فكرة السبب عند كل من الفريقين .
256 – فكرة السبب عند فقهاء الرومانيين : عاد المحشون ( glossateurs ) إلى فكرة السبب الرومانية . وتطلبوا السبب في مختلف العقود . ولكن السبب عندهم كان أمراً شكلياً محضاً ، والمهم ليس هو وجوده بالفعل ، بل هو مجرد ذكره في الورقة المثبته للعقد .
أما البارتوليون ( Bartolistes ) فقد اقتفوا اثر من تقدمهم . وعنوا بنوع خاص بالعقود الملزمة للجانبين ، فأبرزوا الارتباط ما بين الالتزامات المتقابلة في هذه العقود ، ولكنهم مع ذلك التزموا حدود القانون الروماني ، فلم يصلوا إلى حد القول بجواز الفسخ في البيع إذا لم ينفذ أحد المتعاقدين التزامه ، بالرغم من أن منطق الارتباط ما بين الالتزامات المتقابلة كان يقضي عليهم بذلك . وميز البارتوليون ، كما فعل المحشون ، بين السبب والباعث ، فسموا الأول " السبب القريب " ( causa proxima ) وكان المحشون يسمونه " السبب القصدي " ( causa finalis ) ، وسموا الباعث " السبب البعيد " ( causa finalis ) . وجعلوا السبب دون الباعث هو الذي يؤثر في العقد . وهذا التمييز ما بين السبب والباعث غريب عن القانون الروماني ، وقد ابتدعه فريق الفقهاء الرومانيين مستلهمين فيه الفلسفة اليونانية . أما الرومان فكان السبب عندهم هو ما كانوا يسمونه " بالسبب المدني " ( causa civilis ) وهو السبب الإنشائي الذي عرفناه فيما تقدم وهذا شيء آخر غير السبب القصدي الذي عارضه الفقهاء الرومانيون بالباعث .
ويمكن القول بوجه عام إن فريق الفقهاء الرومانيين قد احيوا الفكرة الرومانية في السبب ، ولكنهم كما قدمنا لم يجاوزوا الحدود التي التزمها القانون الروماني . فبقيت فكرة السبب عندهم ، كما كانت عند الرومان ، فكرة موضوعية لا نفسية ، داخلة في العقد لا خارجة عنه ، وهي واحدة لا تتغير في نوع واحد من العقود .
257 – فكرة السبب عند فريق الفقهاء الكنسيين : أما فريق الفقهاء الكنسيين فقد كانوا يقدمون على اعتبارات الصياغة الفنية الرومانية اعتبارات أخرى أولى عندهم بالتقدم ، هي الاعتبارات الأدبية المسيحية . وهذه الاعتبارات الأخيرة كانت تقتضيهم أن يقرروا مبدأين :
المبدأ الأول أن الوفاء بالوعد واجب ، وأن الإخلال به خطيئة . ومن ثم كان المتعاقد يلتزم بمجرد تعهده . فكانت الإرادة عندهم – لا شالك – هي التي تنشئ العقد وتجعله ملزماً . وتدرج الفقهاء الكنسيون في هذا المبدأ حتى اقروا أي عقد يقوم على محض تقابل الإرادتين ، دون حاجة إلى شكل أو تسليم أو تنفيذ أو نحو ذلك مما كان القانون الروماني يتطلبه .
والمبدأ الثاني أن العقد لا يجوز تنفيذه إذا كان يهدف إلى عرض غير مشروع . ذلك أن القيام بعمل غير مشروع يعد خطيئة ، ولا يصح الاحتجاج بان المتعاقد قد ارتبط بالعقد ، والإخلال بما ارتبط به يعد خطيئة هو أيضاً . فالخطيئة ليست في أن يخل بهذا الارتباط ، بل في أن يرتبط بعقد غير مشروع . الارتباط بمثل هذا العقد يعتبر خطيئة ، وتنفيذه يعد خطيئة أخرى . وها نحن نرى إلى أي مدى يسوق هذا المنطق . فالغرض الذي يريد المتعاقد أن يحققه من وراء التزامه هو السبب في تعاقده . وهذا السبب إذا كان غير مشروع جعل العقد باطلا . وإذا كانت الإرادة وحدها تلزم المتعاقد ، إلا أن هذه الإرادة يجب أن تتجه إلى تحقيق غرض مشروع ، وإلا كانت عديمة الأثر . فيبرز أمامنا السبب في صورة أخرى غير الصورة التي ألفناها في القانون الروماني ، شيئاً غير مجرد الصياغة الفنية ، وعاملا نفسياً زاخراً بالقوة ، بعيداً في الأثر . ويبدو لأن في وضوح أن الفقهاء الكنسيين وضعوا إلى جانب الإرادة – بعد أن جردوها من الشكل – الغرض الذي ترمى إلى تحقيقه ، وربطوها به ، فأصبحت الإرادة لا تنفصل عن الغرض الذي تهدف إليه ، وهي إذا تجردت عن الشكل فليست تتجرد عن السبب . والسبب هنا ليس هو هذا السبب الروماني ، الموضوعي ، الداخل في العقد ، والذي يبقى واحداً لا يتغير في نوع واحد من العقود ، بل هو الباعث النفسي ، الخارج عن العقد ، والذي يتغير فيختلف في عقد عنه في العقد الآخر .
ونستطيع أن نستخلص من هذا التحليل الذي ابتدعه الفقهاء الكنسيون أموراً أربعة :
أولاً – أن السبب برز إلى جانب الإرادة بمجرد أن ظهرت الإرادة عاملا أساسياً في تكوين العقد .
ثانياً – أن فكرة السبب تطورت تطوراً خطيراً ، فأصبح السبب هو الباعث الدافع إلى التعاقد .
ثالثاً – أن السبب بهذا المعنى الجديد ل محل الشكل قيداً على الإرادة . فما دام الوعد القائم على الإرادة وحدها ملزماً دون حاجة إلى الشكل ، فلا أقل من أن يكون هذا الوعد متجهاً لتحقيق غاية مشروعة ، ومن هنا استطاع الكنيسون أن يداوروا مبادئ القانون الروماني فلا يتعارضون معه تعارضاً صريحاً ، وأمكنهم أن يتجنبوا ظاهراً القول بأن الاتفاق العاري ( pacte nu ) ملزم وحده ، وأن يستبدلوا بعبارة " الاتفاق العاري " عبارة " الوعد المسبب " ( promesse cause ) فيضيفوا إلى القائمة الرومانية للعقود الملزمة ( pacta vestita ) طائفة جديدة هي طائفة " الوعود المسببة " .
رابعاً – أن السبب إذا كان قد قيد الإرادة من جهة ، فهو قد اطلقها من جهة أخرى ، إذ حررها من الشكل ، وجعلها وحدها ملزمة مادامت تتجه لتحقيق ، غاية مشروعة .
فالكنسيون كما نرى هم الذين ابتدعوا نظرية السبب ، لا بمعناها الروماني الضيق ، بل بمعناها الجديد الواسع .
وإذا كانوا قد جعلوا من نظرية السبب بادئ الأمر أداة قوية لحماية المجتمع عن طريق إبطال العقود التي تتجه لتحقيق أغراض غير مشروعة ، فإنهم ما لبثوا أن جعلوا أيضاً من النظرية ذاتها أداة لحماية الفرد وتحرير اراداته من الغلط والتدليس والغش . ذلك إنهم أضافوا إلى السبب غير المشروع ، في إبطال العقد ، السبب غير الحقيقي . فإذا وقع غلط أو تدليس في الباعث على التعاقد ، كان السبب غير حقيقي ، وبطل العقد . ومن هنا اختلطت نظرية الغلط بنظرية السبب ، وقد أسلفنا الإشارة إلى ذلك عند الكلام في نظرية الغلط .
هذا هو عمل الفقهاء من رجال الكنيسة ، إليه وحده يعود الفضل الأكبر في إيجاد النظرية الصحيحة للسبب . وقد تبع رجال الكنيسة في نظريتهم هذه بعض من الفقهاء المدنيين ( civilistes ) من أمثال لوازيل ( Loysel ) ( [445] ) وديمولان ( Dumoulin ) ، فقالوا بالإرادة وحدها مصدراً لتكوين العقد ، واصلين في هذا ما بين الإرادة والسبب ، وجاعلين للسبب المعنى الذي فهمه الفقهاء الكنسيون . وبقى فقهاء مدنيون آخرون ، من أمثال كونان ( Connan ) ودونو ( Doneau ) محافظين على تقاليد القانون الروماني ، فلا يسلمون بان الاتفاق العاري عقد ملزم ، ولا يفهمون السبب إلا في ضوء الفكرة الرومانية الضيقة . ولكن ما لبث الفريق الأول أن فاز على الفريق الثاني . فاعترف الفقه والقضاء في فرنسا بان الإرادة وحدها ملزمة مادامت الغاية التي تهدف لتحقيقها غاية مشروعة ، فوهم السبب بالمعنى الذي ابتدعه الكنسيون : الباعث الدافع إلى التعاقد . فأبطلت العقود التي تهدف لاستغلال النفوذ ، واعتبرت ديون المقامرة باطلة لعدم مشروعيتها ، وأصبح الباعث يؤثر في التبرعات .
وسارت الأمور على هذا النحو المحمود حتى جاء دوما يصوغ نظرية عامة للسبب . وننظر الآن ماذا فعل هذا الفقيه هو ومن وجاء بعده من الفقهاء .
2 – نظرية السبب منذ عهد دوما إلى عهد التقنين المدني الفرنسي ( [446] )
258 – العوامل الذي أثرت في هذا العهد وفقهاؤه البارزون : جاء دوما في القرن السابع عشر ، وبدأ عهداً جديداً كان من العهود الحاسمة في تاريخ تطور نظرية السبب . والعوامل البارزة التي كانت تؤثر في التفكير القانوني لرجال هذا العهد ثلاثة :
أولاً – انتكاص القانون الروماني وتقلص نفوذه . وقد أصبح تقسيم العقود إلى عقود شكلية وعقود غير شكلية ، وتقسيم العقود غير الشكلية إلى عقود عينية وعقود رضائية وعقود غير مسماة واتفاقات بريطورية واتفاقات شرعية ، كل هذه التقسيمات العتيقة أخذت تهجر فتسير في طريقها إلى الاندثار . على أن فريقاً من الفقهاء المدنيين ( civilistes ) بقوا متأثرين بالنظرية الرومانية في السبب كما قدمنا .
ثانياً – اثر القانون الكنسي . وقد رأينا رجال هذا القانون يتم على أيديهم فتح مبين في ميدان سلطان الإرادة ، فيقولون بان الإرادة وحدها ملزمة ، ويسير وراءهم في ذلك كثير من الفقهاء المدنيين .
ثالثاً – انتشار مبادئ القانون الطبيعي . وقد حمل لواءها جروسييس ( Grctius ) الفقيه الهولندي المعروف . وهي مبادئ توحي بنبذ ما يحوط الإرادة من أوضاع وأشكال رومانية عتيقة ، وتحكم العقل في كل ذلك فلا يتردد في إقصائها وتحرير الإرادة منها .
وهذه العهد الجديد بدأه دوما كما ذكرنا ، وطبعه بطابعه . وبقى اثر هذا الفقيه الفرنسي الكبير حياً في النفوس طوال الاجيال . واقتصر من جاء بعده من الفقهاء على ترديد ما كتبه في نظرية السبب ، دون أن يضيفوا إليها شيئاً يذكر ، غير الاسهاب في بعض التفصيلات . وابرز هؤلاء الفقهاء فقيهان : بريفو دي لاجانيس ( Prevot de la Janes ) وبوتييه ( Pothier ) . ونستعرض أولاً ما كتبه دوما في نظرية السبب ، ثم ننظر ما قاله بعده هذان الفقيهان .
259 – نظرية السبب عند دوما : لم يكن دوما مبتدعاً فيما كتبه في نرظية السبب . بل هو نفسه لم يكن يشعر أنه يقول شيئاً جديداً عندما كان يقرر هذه النظرية في كتابه " القوانين المدنية " . كان يبسطها بسطاً موجزاً ، دون مناقشة أو بحث ، كما يبسط أمراً من الأمور المقررة في عصره ، فلا يرى نفسه في حاجة إلى تمحيص ما يورده من الآراء أو الدفاع عنها باعتبار إنها آراء جديدة . لذلك كان من المبالغة أن يقال – كما قال كثيرون – إن دوما له حظ كبير من الابتداع في نظرية السبب . بل نحن لا نشارك أصحاب النظرية التقليدية في السبب ، من أمثال الفقهي الكبير كابيتان ، رأيهم من أن دوما له فضل عظيم في دعم نظرية السبب على أساس صحيح . فعندنا أن دوما قد أساء إلى نظرية السبب أكثر مما أحسن ، وعاق تطورها الطبيعي ، وأعادها إلى وضعها الروماني نظرية قاحلة مجدبة . والغريب أن دوما قد انقاد في هذا ، لا لحكم العقد وقواعد المنطق التي ألفها وسار عليها في كتابه ( [447] ) ، بل إلى البقية من اثر القانون الروماني التي تسربت إلى القانون الفرنسي القديم على أيدي الفقهاء الرومانيين ( romanistes ) وفريق من الفقهاء المدنيين ( civilistes ) الذين تأثروا بالأولين .
على أن لدوما مزيتين لا ينكران في هذا الشأن : ( اولاهما ) هذه النظرة الشاملة التي احاط بها موضوع السبب ، فصاغ منه نظرية عامة محبوكة الأطراف لم تكن قبله قد نسقت على النحو الذي قام به هو . كانت هناك أحجار مهيأة للبناء ، فشيد منها دوما بناء مدعما متماسكاً ، هو الذي انتقل منه إلى من بعده من الفقهاء ، ثم منهم إلى أصحاب النظرية التقليدية التي ظلت سائدة طوال القرن الماضي . ( والمزية الثانية ) أن دوما سجل في وضوح كامل ما وصل إليه عصره في تحرير الإرادة من الشكل والرسوم والأوضاع . فقد كانت التقسيمات الرومانية العتيقة لأصناف العقود قد دالت دولتها ، وزالت التفرقة بين الاتفاق العاري غير الملزم والعقود والاتفاقات الملزمة ، وأصبح كل اتفاق ملزماً . ويقرر الفقهي الكبير هذه الحقائق في عبارات جلية واضحة فيقول في كتابه " القوانين المدنية " ( [448] ) : " كل اتفاق ، سواء أكان له اسم معين أم لم يكن ، ينتج أثره دائماً ويلزم بما تم الاتفاق عليه . . . ولم يعد هناك محل لأن نبسط ما كان القانون الروماني يقيمه من فروق بين العقود التي لها اسم معين والعقود التي لا اسم لها . فهذه التمييزات التي تنطوي على دقة زائفة لم تعد مقبولة في عرف عصرنا ، وهي مدعاة للاضطراب من غير ما فائدة " . ويلاحظ أن دوما يقرر أن الإرادة وحدها ملزمة على اعتبار إنها حقيقة مقررة في عصره ، لا تحتاج إلى تمحيص أو مناقشة . فقد كانت القاعدة التي تقرر أن " الاتفاق وحده ملزم " ( Solus consensus obligat ) قد ظفرت في النهاية ، وفاز أنصارها على معارضيها من الفقهاء المدنيين المتأثرين بالقانون الروماني .
أما العيب الجوهري في نظرية دوما فهو أنه تأثر في هذه النظرية ، كما قدمنا ، بالفقهاء المدنيين الذين ظلوا أمناء للقانون الرومانين فنقل عنهم النظرية الرومانية الضيقة ( [449] ) . وهنا يتولانا شيء من العجب . فإن دوما ، وهو من أنصار المنطق والقانون الطبيعي ، وقد رأيناه يقول بالإرادة وحدها مصدراً للالتزام فيطاوع في ذلك الفقهاء المدنيين المتأثرين بالقانون الكنسي ، يرجع القهقري عندنا يتولى بسط نظرية السبب ، فلا يسير في منطقة إلى مداه ، ولا يقول مع هؤلاء الفقهاء المدنيين أنفسهم إن الإرادة بعد أن أطلقت من عقال الشكل وجب أن تتقيد بالغرض الذي اتجهت إلى تحقيقه فيكون الباعث هو السبب ، يأبى دوما أن يكون منطقياً في نظرته للإرادة والسبب ، ويرجع إلى الفكرة الرومانية ، فيجعل من السبب أمراً موضوعياً داخلياً لا يتغير في نوع واحد من العقود ! وقد يعلل ذلك أن دوما آثر دقة الصياغة الرومانية فجرى على منوالها ، ولكنه أضاع بذلك على القانون خصوبة النظرية الكنسية في السبب وما لها من مدى بعيد وأثر بالغ .
وهذا ما يقوله دوما وهو يبسط نظرية السبب ، بعد أن يقسم العقود أقساماً أربعة ، الثلاثة الأولى هي عقود معاوضة والقسم الأخير خصص لعقود التبرع : " في الأقسام الثلاثة الأولى من العقود يجري التعامل دو أن يكون فيه أي تبرع ، ويكون التزام أحد المتعاقدين هو الأساس لالتزام الآخر . وحتى في العقود التي يظهر أن شخصاً واحداً فيها قد التزم ، كما في اقتراض مبلغ من النقود ، قد سبق التزام المقترض ما وجب أن يعطيه إياه الطرف الآخر حتى يتكون العقد . وعلى ذلك فالالتزام الذي ينشأ من مثل هذه العقود لمصلحة أحد المتعاقدين يوجد سببه دائماً في جانب الآخر . ويكون الالتزام باطل إذا لم يكن مبنياً في الواقع على سبب " ( [450] ) . ثم يتابع دوما بسط نظريته ، وينتقل إلى عقود التبرع فيقول : " وفي الهبات . . . يكون التزام الواهب أساسه غرض من الأغراض المعقولة الحقة ، كخدمة أسداها الموهوب له أو أية مزية أخرى فيه أو محض الرغبة في عمل الخير من جانب الواهب . وهذا الغرض يقوم مقام السبب بالنسبة إلى الطرف الذي أخذ ولم يعط شيئاً ( [451] ) " . ويقد يفهم من هذه العبارات الأخيرة من دوما يرى أن السبب في التبرعات قد يكون هو الباعث ، كما كان الأمر في القانون الروماني على ما قدمنا . ولكنه في موضع آخر يعود إلى هذه المسألة فيقول : " يجب في الهبات أن نميز تمييزاً واسعاً ما بين البواعث التي يعلن الواهبون إنها هي أسباب تبرعهم وبين الشروط التي يفرضونها في هباتهم . وذلك لأنه بينما أن الإخلال بالشرط في الهبة المقترنة بشرط يبطلها ، فإن الهبة تبقى قائمة حتى لو تبين أن البواعث التي ذكرت فيها ليست صحيحة . فلو أنه ذكر في هبة إنها تمت لخدمات أسديت أو لتمكين الموهوب له من أن يمتلك شيئاً يريده ، فإن الهبة لا تبطل حتى لو ظهر أنه لم تكن هناك خدمات أسديت أو أن الامتلاك لم يتم . وذلك لأن إرادة من وهب تبقى دائماً قائمةً ، وقد تكون له بواعث أخرى غير التي أعلنها ( [452] ) " . ويستخلص الأستاذ كابيتان من هذه العبارات أن دوما يميز في عقود التبرع بين السبب والباعث ، فالسبب هو الذي يؤثر في صحة التبرع ، أما الباعث فلا اثر له ( [453] ) .
ويتبين مما قدمناه أن دوما يشترط قيام السبب في جميع العقود . فالسبب في التزام المتعاقد . فالسبب في التزام المتعاقد في العقود الملزمة للجانبين هو ما يقوم به المتعاقد الآخر ، أي التزامه المقابل ، والسبب في التزام المتعاقد في العقود الملزمة لجانب واحد هو ما قام به المتعاقد الآخر ، أي التسليم التي تم من جانبه في مبدأ الأمر . والسبب في التبرعات هو إرادة المتبرع في أن يتبرع ، أي نية التبرع . ومن ذلك نرى أن نظرية دوما في السبب قامت على الفكرة الرومانية الضيقة ، وتأثرت بأقوال الفقهاء المدنيين احتفظوا بتقاليد القانون الروماني .
260 - نظرية السبب عند خلفاء دوما من الفقهاء : ولم يزد الفقهاء الذين خلفوا دوما في القانون الفرنسي القديم على أن يرددوا ما قاله دوما في نظرية السبب . وابرز هؤلاء الفقهاء ، كما قدمنا ، فقيهان : بريفو دى لا جانس وبوتييه .
كان بريفو دي لاجانس ( Prevot de la Janes ) أستاذاً للقانون في جامعة اورلبان في النصف الأول من القرن الثامن عشر ، وقد توفى في سنة 1749 . ذكر في كتاب له ( [454] ) أن الرضاء يجب أن يكون مبنياً على سبب ( fonde sur quelque cause ) . وعرف السبب بأنه الغرض ( motif ) الذي دفع ا لمتعاقد إلى الالتزام . ولكنه بين ما يريد بكلمة " الغرض " عند الكلام في البيع ، فذكر أن السبب في التزام كل من المتعاقدين هو التزام المتعاقد الآخر المقابل له . فالسبب عنده في العقود الملزمة للجانبين هو السبب ذاته عند دوما ( [455] ) .
أما بوتييه ( Pothier ) الفقيه الفرنسي المعروف – وقد خلف بريفو دي لاجانس في استاذية القانون بجامعة اورليان – فكان أوضح بياناً من سلفه في بسط نظرية السبب ، ولكنه لم يخرج كثيراً عما قاله دوما في هذه النظرية . ذكر في كتاب " الالتزامات " ( [456] ) ما يأتي : " يجب أن يكون لكل التزام سبب شريف ( cause honnete ) . ففي عقود المعاوضة يكون السبب في الالتزام الذي يعقده اد الطرفين هو ما أعطاه له الطرف الآخر ، أو ما يلتزم بإعطائه له ، أو التبعة التي يتحملها . وفي عقود التبرع يكون الجميل الذي يقصد أحد المتعاقدين أن يسديه للأخر سبباً كافياً للالتزام الذي يعقده قبله . أما إذا لم يقم الالتزام على أي سبب ، أو ما يعدل ذلك إذا كان السبب الذي عقد من اجله الالتزام غير صحيح ، فالالتزام باطل ، ويبطل العقد الذي يتضمنه " . ثم ينتقل بوتييه إلى السبب غير المشروع فيقول : " إذا كان السبب الذي عقد من اجله الالتزام سبباً يجرح العدالة أو حسن النية أو الآداب ( cause qui blesse la justice , la bonne foi ou les bonnes moeurs ) ، فالالتزام باطل ، ويبطل العقد الذي يتضمنه ( [457] ) " .
ونرى من ذلك أن بوتييه ردد في وضوح وإسهاب ما سبقه إليه دوما . وإذا كان قد زاد عليه في التفصيل ، ففي المسائل الثلاث الآتية : ( 1 ) لم يكشف بأن يحدد السبب في العقود الملزمة للجانبين والعقود الملزمة لجانب واحد ، بل حدده أيضاً في العقود الاحتمالية وجعله التبعة التي يتحملها المتعاقد . ( 2 ) ذكر في وضوح أن السبب في التبرعات هو نية التبرع ، وكان دوما غير واضح في ذلك وضوحاً كافياً كما رأينا . ( 3 ) أفاض في ذكر السبب غير المشروع وقرنه بالسبب غير الموجود والسبب غير الصحيح ، فوضع الأساس لشروط السبب في النظرية التقليدية ( [458] ) .
وقد نقل قانون نابليون نظرية السبب عن دوما وبوتييه في المواد 1108 و 1131 – 113 . وصارت هذه النصوص هي الأساس الذي تقوم عليه النظرية التقليدية في السبب .
هذا هو تاريخ تطور نظرية السبب ، أوردناه في شيء من التفصيل حتى نتبين أن هذه النظرية قد انتقلت إلى القانون الحديث وهي تحمل أثراً واضحاً من ذكريات ماضيها ، سواء في ذلك النظرية التقليدية أو النظرية الحديثة . وننتقل الآن لبسط نظرية السبب في القانون الحديث .
المبحث الثاني
نظرية السبب في القانون الحديث
261 – ترتيب الموضوع : انتقلت نظرية السبب كما رأينا في القانون الفرنسي القديم إلى قانون نابليون ، فبسطها الفقهاء الفرنسيون على النحو الذي رأيناه عند دوما وبوتييه . وهذه هي النظرية التقليدية في السبب . ولما كانت هذه النظرية عقيمة مجدبة ، إذ هي مشبعة بالفكرة الرومانية الضيقة كما قدمنا ، فقد انتصب لها خصوم اشداء فندوها وزعزعوا الثقة بها وكادوا أن يقضوا على فكرة السبب كركن من أركان اللاتلزام . واثارت هذه الخصومة لنظرية السبب التقليدية فقهاء آخرين قاموا ينتصرون لفكرة السبب في ذاتها ، سواء في صورتها التقليدية أو في صورة أخرى لها معدلة . ولكن القضاء في فرنسا كان بمعزل عن هذه الخصومات الفقهية ، وأخذ من جانبه يعود إلى النظرية الكنسية المخصبة وهي النظرية التي تفسر السبب بالباعث فتجعل للسبب معنى منتجاً فعالا . ومن ثم قامت النظرية الحديثة في السبب على أنقاض النظرية التقليدية ، قامت في أول أمرها على أكتاف القضاء فهو الذي عبد لها الطريق كما رينا ، ثم تبع القه القضاء في ذلك . وقد تلقى القانون المدني الجديد النظرية وهي في مرحلة متقدمة من مراحل تطورها ، فاستكمل حلقات التطور بفصل نظرية السبب عن نظرية الغلط فصلا تاماً وكانا من قبل يتلاقيان في منطقة مشتركة .
فنحن نتكلم : ( أولاً ) في النظرية التقليدية . ( ثانياً ) في النظرية الحديثة . ( ثالثاً ) في نظرية السبب بعد انتقالها إلى القانون المدني الجديد .
المطلب الأول
النظرية التقليدية في السبب
262 – النصوص في القانون المدني الفرنسي وفي القانون المدني المصري القديم : تلقى قانون نابليون نظرية السبب كما بسطها دوما ، وانتقلت منه إلى الفقه الفرنسي . وبقى الفقهاء الفرنسيون يقررون هذه النظرية التقليدية طوال القرن التاسع عشر ( [459] ) . وسنرى ونحن نبسط ما قرروه إنهم لم يبتعدوا عما قرره دوما وبوتييه مما سبق بيانه .
وقد دخلت النظرية التقليدية في نصوص قانون نابليون على النحو الآتي :
نصت المادة 1131 من هذا القانون على أن الالتزام لا ينتج أي اثر إذا لم يكن مبنياً على سبب ( sans cause ) . أو كان مبنياً على سبب غير صحيح ( fausse cause ) ، أو على سبب غير مشروع ( cause illicite ) .
ونصت المادة 1132 على أن الاتفاق يكون صحيحاً ولو لم يذكر سببه .
ونصت المادة 1133 على أن السبب يكون غير مشروع إذا حرمه القانون ، أو إذا كان مخالفاً للآداب أو للنظام العام .
وقد نقل القانون المدني المصري القديم عن قانون نابليون هذه النصوص بعد أن أوجزها في نص واحد على الوجه الآتي :
نصت المادتان 94 / 148 من القانون المدني المصري القديم على أنه " يشترط لصحة التعهدات والعقود أن تكون مبنية على سبب صحيح جائز قانوناً " . والأصل الفرنسي لهذا النص العربي أدق ، فهو يقضي بأن " الالتزام لا يوجد إلا إذا كان له سبب محقق مشروع ( [460] ) " ، فجعل السبب شرطاً في وجود الالتزام لا في صحته فحسب .
ونتناول الآن النظرية التقليدية . فنتكلم أولاً في معنى السبب في هذه النظرية وفي الشروط التي يجب توافرها فيه . ثن نستعرض بعد ذلك الحجج التي تقدم بها خطوء السبب في تقيده ، والحجج التي تقدم بها أنصاره في تأييده .
1 – معنى السبب في النظرية التقليدية والشروط الواجب توافرها فيه
ا - تحديد معنى السبب في النظرية التقليدية
263 – السبب الإنشائي والسبب الدافع والسبب القصدي : تميز النظرية التقليدية بين السبب الإنشائي ( cause efficiente ) والسبب الدافع ( cause impulsive ) والسبب القصدي ( cause finale ) ( [461] ) .
فالسبب الإنشائي هو مصدر الالتزام . وقد عرفنا أن مصادر الالتزام هي العقد والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب والقانون . والسبب بهذا المعنى لا يعنينا هنا ، ويجب أن نستبعده .
والسبب الدافع هو الباعث الذي دفع الملتزم إلى أن يرتب في ذمته الالتزام . فمن يشتري منزلا قد يكون الدافع له على الشراء والالتزام بدفع الثمن هو أن يستغل المنزل ، أو أن يخصصه لسكناه ، أو أن يجعل منه محلا لعمله ، أو أن يديره للعهارة ، أو أن يجعل منه نادياً للمقارمة ، ألخ ألخ . ونرى من ذلك أن الباعث يجمع الخصائص الثلاث الآتية : ( 1 ) هو شيء خارجي عن العقد ( extrinseque ) ، فلا يذكر في الاتفاق ضرورة ، ولا يستخلص حتما من الالتزام . ( 2 ) هو شيء ذاتي للملتزم ( subjectif ) ، إذ يرجع إلى نواياه وما يتأثر به من دوافع . ( 3 ) هو شيء متغير ( variable ) ، لا في كل نوع من العقود فحسب ، بل في كل عقد علىحدة ، فالباعث للمشتري في عقد غير الباعث للمشتري في عقد آخر . ولما كان الباعث لا يمكن ضبطه على وجه التحديد ، فإن النظرية التقليدية تذهب إلى أنه لا تأثير له في وجود العقد ولا في قيام الالتزام . فمهما كان هذا الباعث شريفاً أو غير شريف ، متفقاً مع النظام العام أو مخالفاً له ، فإن العقد صحيح والالتزام قائم .
والسبب القصدي – وهو السبب الذي تقف عنده النظرية التقليدية واذ اطلقت كلمة السبب عنته بهذه الكلمة – يعرف عادة بأنه هو الغاية المباشرة ( fin directe ) أو الغرض المباشر ( but immediate ) الذي يقصد الملتزم الوصول إليه من وراء التزامه . فيختلف السبب عن الباعث في أن السبب هو أول نتيجة يصل إليها الملتزم ( causa proxima ) ، أما الباعث فغاية غير مباشرة ( causa remota ) تتحقق بعد أن يتحقق السبب ، و لا يصل إليها الملتزم مباشرة من وراء الالتزام .
264 – السبب في الطوائف المختلفة للعقود : وتستعرض النظرية التقليدية الطوائف المختلفة للعقود لتحدد السبب – ويفهم دائماً بمعنى السبب القصدي – في كل طائفة منها ، على النحو الذي جرى عليه دوما وبوتييه .
ففي العقود الملزمة للجانبين سبب التزام كل من المتعاقدين هو التزام الآخر . مثل ذلك عقد البيع ، يلتزم البائع فيه بنقل ملكية المبيع ، وسبب هذا الالتزام – أي الغرض المباشر الذي قصد البائع أن يحققه من وراء التزامه بنقل ملكية المبيع – هو التزام المشتري بدفع الثمن . ويلتزم المشتري بدفع الثمن ، وسبب هذا الالتزام – أي الغرض المباشر الذي قصد المشتري أن يحققه من وراء التزامه بدفع الثمن – هو التزام البائع بنقل ملكية المبيع . وقل مثل ذلك في العقود الأخرى الملزمة للجانبين ، كالمقايضة والإيجار وعقد المقاولة وعقد العمل .
وفي العقود الملزمة لجانب واحد ، إذا كان العقد عينياً ، قرضاً كان أو عارية أو وديعة أو رهن حيازة ( [462] ) ، يكون سبب الالتزام المتعاقد الملتزم هو تسلمه الشيء محل التعاقد . فالمقترض يلتزم برد القرض لأنه تسلمه ، وهذا هو الغرض المباشر الذي قصد إلى تحقيقه من وراء التزامه .
وإذا كان العقد الملزم لجانب واحد عقداً رضائياً ، كالوعد بالبيع ، فالظاهر أن سبب الالتزام هو إتمام العقد النهائي ، وهو الغرض المباشر الذي قصد إلى تحقيقه ، وهو بعد سبب محتمل قد يتحقق وقد لا يتحقق ( [463] ) .
وفي عقود التبرع السبب في التزام المتبرع هو نية التبرع ذاتها . فالمتبرع يقصد من وراء التزامه غرضاً مباشراً هو إسداء يمد للموهوب له ، وهذا هو السبب في تبرعه .
265 – خصائص السبب : ويتبين مما تقدم أن خصائص السبب في النظرية التقليدية هي عكس خصائص الباعث . فالسبب شيء داخلي في العقد ( intrinseque ) يستخلص حتما من نوع العقد ومن طبيعة الالتزام ذاته . وهو شيء موضوعي ( objectif ) لا تؤثر فيه نوايا الملتزم . وهو غير متغير ( invariable ) ، فيبقى واحداً في نوع واحد من العقود ، ولا يتغير بتغير البواعث والدوافع .
وهذه الخصائص الثلاث هي عين الخصائص التي رأيناها لصيقة بالسبب في الفكرة الرومانية القديمة .
266 – قيام السبب من وقت تكوين العقد إلى حين تنفيذه : وتحرص النظرية التقليدية على أن تقرر أن قيام السبب واجب من وقت تكوين العقد إلى حين تنفيذه . فإذا قام السبب عند تكوين العقد ، ثم انقطع قبل التنفيذ ، سقط الالتزام . وتظهر أهمية هذا الحكم في العقود الملزمة للجانبين . فإن هذه العقود تتميز بأمور ثلاثة : ( 1 ) إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه جاز للمتعاقد الآخر أن يمتنع عن تنفيذ ما ترتب في ذمته من التزام ، وهذا هو الدفع بعدم التنفيذ . ( 2 ) إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه جاز للمتعاقدين الآخر أن يطلب فسخ العقد ، وهذه هي نظرية الفسخ . ( 3 ) إذا استحال على أحد المتعاقدين تنفيذ التزامه لقوة قاهرة تحمل هو تبعة هذه الاستحالة وسقط التزام المتعاقد الآخر ، وهذه هي نظرية تحمل التبعة . وسنعرض لهذه النظريات بالتفصيل في مواضعها . ويكفي أن نشير هنا إلى أن أصحاب النظرية التقليدية يبنون هذه النظريات الثلاث على فكرة السبب ووجوب بقائه قائماً إلى أن يتم تنفيذ العقد . فإذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه ، أو استحال عليه هذا التنفيذ لقوة قاهرة ، فإن التزام المتعاقد الآخر ينقطع سببه ، ومن ثم يستطيع هذا المتعاقد أن يمتنع عن تنفيذ التزامه ، أو أن يطلب فسخ العقد ، أو أن يجعل المتعاقد الذي استحال تنفيذ التزامه يحمل تبعة هذه الاستحالة بعد سقوط الالتزام الذي انقطع سببه ( [464] ) .
ب – الشروط الواجب توافرها في السبب
267 – شروط ثلاثة : يخلص من النصوص التي أوردناها في القانون المدني الفرنسي وفي القانون المدني المصري القديم أن السبب يجب أن تتوافر فيه شروط ثلاثة : ( 1 ) أن يكون موجوداً . ( 2 ) وأن يكون صحيحاً . ( 3 ) وأن يكون مشروعاً .
268 - وجود السبب : تقول النظرية التقليدية إن كل التزام يجب أن يكون له سبب . ووجود السبب ليس في الواقع شرطاً يجب توافره في شيء ، بل هو الشيء ذاته . وإنما يثار وجود السبب حتى يتقرر أن كل التزام لا يكون له سبب يكون التزاماً غير قائم .
ويغلب في السبب غير الموجود أن يكون سبباً موهوماً وقع غلط في وجوده ، فظن المتعاقدان أن موجود وهو غير موجود . ولكن السبب الموهوم لا يدخل في دائرة هذا الشرط الأول ، بل يدخل في دائرة الشرط الثاني كما سنرى . أما هنا فالمراد بالسبب غير الموجود أن يكون المتعاقدان على بينة من أنه غير موجود ، أي غير واهمين في وجوده . ويصح التساؤل إذن كيف يقدم المتعاقدان على التعاقد لسبب غير موجود وهما عالمان بذلك ؟ تجيب النظرية التقليدية أن هذا يمكن أن يتحقق عند التعاقد وبعد التعاقد .
فهو يتحقق عند التعاقد في فروض مختلفة نذكر منها فرضين : ( 1 ) قد يكره أحد المتعاقدين على إمضاء إقرار بمديونيته وهو غير مدين ، أي لسبب لا وجود له ، كقرض لم يتم ، فيكون كل من المتعاقدين على بينة من أن سبب المديونية غير موجود . وفي هذه الحالة يكون العقد الذي يقر فيه المتعاقد المكره بمديونيته باطلا لانعدام السبب ، ولا يكفي أن يقال أنه قابل للإبطال لما وقع فيه من إكراه ، بل قد لا يكون هناك إكراه ويصدر الإقرار بالمديونية قبل تسلم القرض ، ثم يثبت المقر أنه لم يتسلم القرض أصلاً ، فيكون الإقرار في هذه الحالة باطلا لانعدام السبب . ويستقيم الفرض حتى لو اعتبر الإقرار إرادة منفردة لا عقداً ، فإذن السبب ركن في كل التزام إرادي ولو لم يكن الزاماً عقدياً . ( 2 ) يكون السبب غير موجود ، دون أن يكون هناك وهم أو إكراه ، فيما يسمى بسند المجاملة ( effet de complaisance ) . وصورته أن يلتزم شخص نحو آخر التزاماً صورياً ، فيمضي سنداً لمصلحته ، ويقصد من ذلك أن يعطي الدائن الصوري سنداً يحصل على قيمته من طريق تحويله ، حتى إذا حل ميعاد دفع السند قام الدائن الصوري بتوريد قيمته إلى المدين ، فيدفعها هذا لحامل السند . وبذلك يستطيع الدائن الصوري أن يحصل على ما هو في حاجة إليه من النقود إلى أجل معلوم ، لا من مدينه بالذات ، بل بفضل إمضاء هذا المدين على سند المجاملة . ولا يحتج بانعدام السبب على حامل السند إذا كان حسن النية ، ولكن في العلاقة ما بين المدين ودائنه الصوري يستطيع الأول أن يتمسك ببطلان السند لانعدام السبب ( [465] ) .
ويتحقق انعدام السبب بنوع خاص بعد التعاقد . ويقع ذلك في العقود الملزمة للجانبين إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه أو استحال عليه هذا التنفيذ لقوة قاهرة ، فإن سبب التزام المتعاقد الآخر يصبح غير موجود بعد أن كان موجوداً عند التعاقد ، وانعدام السبب بعد وجوده في هذه الأحوال هو الذي يبرر نظرية الدفع بعدم التنفيذ ونظرية الفسخ ونظرية تحمل التبعة على ما بينا .
269 – صحة السبب : ويجب أيضاً أن يكون السبب صحيحاً . فالسبب غير الصحيح ( fausse cause ) لا يصلح أن يقوم عليه التزام ، ويرجع عدم صحة السبب إلى أحد أمرين : ( 1 ) إما لأن السبب الظاهر – وهو السبب غير الصحيح – هو سبب موهوم أو مغلوط ( cause erronee ) ( 2 ) وإما لأن السبب الظاهر هو سبب صوري ( cause simulee ) .
والأمثلة على السبب الموهوم كثيرة : وارث يتخارج مع شخص يعتقد أنه وارث معه وهو ليس بوارث ، فيعطيه مبلغاً من النقود حتى يتخلى عن نصيبه في الميراث ، فهذا التخارج باطل لأن سببه موهوم . وارث يمضي إقرارا بدين على التركة ويتبين أن الدائن كان قد استوفى الدين من المورث ، فهذا الإقرار باطل لأن سببه موهوم . وارث يتعهد لموصى له بعين في التركة أن يعطيه مبلغاً من المال في نظير نزوله عن الوصية ، ويتبين بعد ذلك أن الوصية باطلة أو أن الموصى قد عدل عنها ، فتعهد الوارث باطل لأن سببه موهوم . مدين يتفق مع دائنه على تجديد الدين ، فيتبين أن الدين القديم باطل أو أن الدائن قد استوفاه ، فالتجديد باطل لأن سببه موهوم .
بقى السبب الصوري ، والعقد الذي يقوم على سبب صوري لا يكون باطلا لصورية السبب ، فإن الصورية في ذاتها ليست سبباً في البطلان . ولكن إذا اثبت المدين صورية السبب ، فعلى الدائن أن يثبت السبب الحقيقي . ويكون الالتزام قائماً أو غير قائم تبعاً لهذا السبب الحقيقي . فإن كان هذا السبب موهوماً سقط الالتزام لأن السبب الحقيقي موهوم لا لأن السبب الظاهر صوري . وإن كان السبب الحقيقي غير مشروع ، وقد أخفى تحت ستار سبب مشروع كما هو الغالب ، سقط الالتزام أيضاً ، لا لصورية السبب الظاهر ، بل لعدم مشروعية السبب الحقيقي . أما إذا كان السبب الحقيقي مشروعاً غير موهوم ، فإن الالتزام يقوم بالرغم من صورية السبب الظاهر ( [466] ) .
270 – مشروعية السبب : ويجب أخيراً أن يكون السبب مشروعاً . والسبب المشروع هو الذي لا يحرمه القانون ولا يكون مخالفاً للنظام العام ولا للآداب ( [467] ) . وقد بينا معنى المخالفة للقانون أو للنظام العام أو للآداب عند الكلام في المحل غير المشروع . ونبين هنا أن مشروعية السبب ، عند أصحاب النظرية التقليدية ، شرط متميز عن مشروعية المحل ، فقد يكون المحل مشروعاً والسبب غير مشروع . ويتحقق ذلك في فروض مختلفة ، نذكر منها لفروض الثلاثة الآتية :
( أولاً ) إذا تعهد شخص لآخر بارتكاب جريمة في مقابل مبلغ من النقود يأخذه منه ، فإن التزام الشخص الآخر بدفع النقود محله مشروع ، ولكن سببه – وهو التزام الشخص الأول بارتكاب الجريمة – غير مشروع . فلا يقوم هذا الالتزام ، لا لعدم مشروعية المحل ، بل لعدم مشروعية السبب .
( ثانياً ) كذلك إذا تعهد شخص لآخر بعدم ارتكاب جريمة في مقابل مبلغ من النقود ، فإن التزام كل من المتعاقدين محله مشروع . فقد تعهد الأول بعدم ارتكاب الجريمة ، وتعهد الثاني بدفع مبلغ من النقود ، وكلا المحلين مشروع . ولكن سبب التزام الأول بالامتناع عن ارتكاب الجريمة هو التزام الثاني بدفع النقود ، وهذا سبب غير مشروع . وسبب التزام الثاني بدفع النقود هو التزام الأول بالامتناع هو ارتكاب الجريمة ، وهذا أيضاً سبب غير مشروع . ومن ذلك نرى أن كلا من الالتزامين لا يقوم لعدم مشروعية السبب ، وهذا بالرغم من أن محل كل منهما مشروع . وكذلك الأمر في كل عقد يلتزم فيه شخص باجازة آخر ليحمله على الالتزام بما يجب عليه دون إجازة ، كالمودع يجيز المودع عنده حتى يرد الوديعة ، وكالمسروق منه يجيز السارق حتى يرد المسروق ، وكالمخطوف وله يجيز الخاطف حتى يرد الولد ، وكمن يخشى أذى دون حق من شخص يجيز هذا الشخص حتى يكف عنه أذاه .
( ثالثاً ) عقد الوساطة في الزواج ( courtage matrimonial ) هو أيضاً عقد سببه غير مشروع ، على أي ، وإن كان المحل مشروعاً . فإذا التزم شخص أن يدفع أجراً لوسيط يبحث له عن زوج يرضاه ، فإن كثيراً من الفقهاء ( [468] ) يقولون إن العقد غير مشروع لأنه يجعل الزواج ضرباً من التجارة . إلا أن محكمة النقض الفرنسية ميزت بين فرضين . فإذا اشترط الوسيط الأجر تم الزواج أو لم يتم ، كان هذا أجراً على العمل لا جائزة على النجاح ، فيكون العقد مشروعاً . أما إذا اشترط الأجر على إلا يأخذه إلا إذا تم الزواج ، فهذا هو الاتفاق الباطل ، لأن الوسيط في هذه الحالة قد يحمل على ركوب طرق من الغش والخديعة حتى يتم زواجاً قد لا يكون في مصلحة الزوجين أن يتم ، ولا مصلحة فيه إلا للوسيط يحصل على أجره الموعود ( [469] ) . والقضاء في مصر غير مستقر ، فقد قضت إحدى المحاكم الوطنية ( [470] ) ببطلان العقد ، لا سيما في بلد كمصر حيث يسهل على " الخاطبة " أن تخدع الزوج ، في أمر زوجته بسبب انعزال المرأة عن الرجل ( [471] ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة ( [472] ) بصحة العقد إذ أن الغرض الذي يرمى إليه مشروع ، فهو ييسر أمر الزواج ، وإذا وقع غش من الوسيط أمكن الرجوع عليه بالطرق القانونية . ونحن نؤثر الأخذ برأي محكمة النقض الفرنسية ، فيكون العقد صحيحاً إذا أخذ الوسيط أجراً على عمله تم الزواج أو لم يتم ، ويكون باطلا إذا لم يأخذ الأجر إلا إذا تم الزواج . فإذا أخذ بهذا الرأي كان الاتفاق مع الوسيط على إعطائه أجراً إذا نجحت وساطته اتفاقاً غير مشروع . وعدم المشروعية هنا يرجع إلى السبب لا إلى المحل ، فإن التزام كل من الفريقين محله مشروع ، أحدهما يلتزم بإعطاء الأجر والثاني يلتزم بالعثور على زوج صالح ، ولكن سبب كل من الالتزامين غير مشروع ، لأنه مما يخالف الآداب والنظام العام أن يلتزم الوسيط بتزويج الطرف الآخر في مقابل اجر ، وأن يلتزم الطرف الآخر بإعطاء الوسيط أجراً في مقابل هذا الزواج .
2 - خصوم السبب وأنصاره .
ا – خصوم السبب
271 – الهجوم على النظرية التقليدية : منذ أن استقرت النظرية التقليدية ، منقولة عن دوما وبوتييه على النحو الذي بسطناه ، بقيت مبعثاً لقلق الفقهاء ، يرون فيها ضيق الأفق وقصور المدى وعقم الإنتاج . وأول من جاهر من الفقهاء بذلك كان الفقيه البلجيكي إرنست ( Ernst ) وكان أستاذاً في جامعة ليبج ، كتب مقالا في سنة 1826 في مجلة ( Bibliotheque du jurisconsulte et do publiciste ) ( [473] ) يبين فيه أن السبب في النظرية التقليدية ليس ركنا متميزاً ، فهو يختلط إما بالمحل في العقود الملزمة للجانبين ، وإما بالرضاء في عقود التبرع ، ويستخلص من ذلك أن السبب لا ضرورة له ، وتغني عنه أركان الالتزام الأخرى . ثم هاجم النظرية بعد ذلك لوران ( Laurent ) ( [474] ) وكورنيل ( cornil ) ( [475] ) ، وهما أيضاً فقيهان بلجيكيان . وتابعهما عدد من الفقهاء الفرنسيين ، هاجموا النرظية مهاجمة عنيفة في رسائلهم ( [476] ) .
ولكن الحملة على نظرية السبب لفتت النظر بنوع خاص عندما انحاز بلانيول إلى خصوم السب ( [477] ) ، ورد الأستاذان بودري وبارد صدرى هذه الحملة ( [478] ) . وكذلك فعل دابان ( Babin ) ( [479] ) ووالتون ( [480] ) .
ونقف عند نقد بلانيول لنظرية السبب التقليدية ، ففيه خلاصة واضحة للحملات التي قام بها خصوم السبب ، وكان هو المعول الفعال في هدمها .
272 – نقد بلانيول لنظرية السبب التقليدية : يقول بلانيول إن نظرية السبب التقليدية نظرية غير صحيحة ، ثم هي غير ذات فائدة .
أما أنها غير صحيحة ، فذلك يظهر إذا استعرضنا السبب في فروضه الثلاثة : العقد الملزم للجانبين والعقد العيني وعقد التبرع . ففي العقد الملزم للجانبين لا يجوز القول ، كما تزعم النظرية التقليدية ، إن سبب أحد الالتزامين المتقابلين هو الالتزام الآخر ، فإن هذا استحالة منطقية ، ذلك أن الالتزامين يولدان في وقت واحد من مصدر واحد هو العقد ، فلا يمكن أن يكون أحدهما سبباً للآخر . لأن السبب يتقدم المسبب ، وهما قد نشأ معاً كما رأينا . وفي العقد العيني يقولون إن سبب الالتزام هو تسليم العين ، ولكن التسليم ليس إلا المصدر الذي كون العقد فأنشأ الالتزام ، فيختلط هنا السبب بالمصدر ويصبحان شيئاً واحداً . وفي عقد التبرع يقولون إن سبب الالتزام هو نية التبرع ، وهذا قول خال من المعنى ، وإلا فأية قيمة لنية التبرع في ذاتها إذا لم تقرن بالعوامل التي دفعت إليها !
وأما أن النظرية غير ذات فائدة ، فلأننا نستطيع الاستغناء عنها بشيء آخر . ففي العقود الملزمة للجانبين يكفي أن نقول إن الالتزامين المتقابلين مرتبطان أحدهما بالاخر بحيث يتوقف مصير كل منهما على مصير الثاني ، وتغني فكرة الارتباط في هذه العقود عن فكرة السبب . وفي العقود العينية وعقود التبرع انعدام السبب بالمعنى المفهوم من النظرية التقليدية هو انعدام التسليم في العقد العيني وانعدام نية التبرع في الهبة ، وهذا معناه انعدام العقد ذاته ، فلسنا إذن في حاجة إلى تعليل عدم قيام الالتزام بانعدام السبب مادام العقد ذاته غير موجود .
ب – أنصار السبب
273 – الدفاع عن فكرة السبب : أما أنصار السبب فكثيرون . منهم من يدافع عن النظرية التقليدية بعد تحويرها ، وعلى رأس هؤلاء كابيتان في كتابه المعروف " السبب في الالتزامات " ( [481] ) . ومنهم من يدافع عن فكرة السبب في ذاتها ، ولكنه يهجر في الدفاع عنها النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة التي وضع القضاء أسسها على ما سنرى .
ونبسط هنا دفاع كابيتان عن النظرية التقليدية ، ثم نشير في ايجاز إلى بعض الفقهاء الذين هجروا النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة .
274 – دفاع كابيتان عن نظرية السبب التقليدية : يمكن القول إن كابيتان هو عميد أنصار النظرية التقليدية للسبب . ولكنه هو في صدد الدفاع عنها قد حورها تحويراً جوهرياً في بعض نواحيها .
فعند كابيتان أن السبب في العقد الملزم للجانبين ليس هو الالتزام المقابل ذاته ، بل هو تنفيذ هذا الالتزام ( [482] ) . ويقول ، رداً على ما أخذه بلانيول على النظرية التقليدية من أن الالتزام الواحد لا يمكن أن يكون سبباً ومسبباً ، إن تنفيذ الالتزام هو السبب فلا يجوز الاعتراض بعد ذلك بأن الالتزام هو السبب والمسبب . ثم يضيف إلى ذلك أنه حتى لو فرض طبقاً للنظرية التقليدية أن سبب الالتزام هو الالتزام المقابل ذاته ، فلا يصح أن يقال مع ذلك إن الشيء الواحد يعتبر سبباً ومسبباً ، إلا إذا فهم السبب بمعنى " السبب الإنشائي " ، فعند ذلك يستحيل منطقياً أن يكون الشيء منشئاً لشيء آخر وناشئاً عنه في أن واحد . ولكن السبب هنا معناه " السبب القصدي " أي الغرض المباشر الذي قصد إليه الملتزم من وراء التزامه ، ويسهل مع هذا المعنى أن نفهم أن الغرض الذي قصد إليه أحد المتعاقدين من وراء التزامه هو التزام المتعاقد الآخر بالذات ، فكل من المتعاقدين قد التزم حتى يلتزم الآخر ، ولا يكون في هذا خروج على المنطق .
أما الالتزام الذي ينشأ من عقد عيني فسببه هو تسليم الشيء كما تقرر النظرية التقليدية . وهذا صحيح في نظر كابيتان في عقود عينية ثلاثة هي القرض والعارية ورهن الحيازة . فإن هذه العقود إذا كانت عينية من حيث الصياغة ، فهي من حيث طبيعتها عقود رضائية ملزمة للجانبين . فالمقرض والمقترض مثلا يتفقان على القرض ، ويتم العقد بالاتفاق ، فيلتزم المقرض بتسليم القرض كما يلتزم المقترض برد مثله . ومن هنا نرى أن التسليم ، إذا رجعنا إلى طبيعة العقد ، ليس هو حتما السبب المنشيء للالتزام ، بل هو الغرض الذي يسعى إليه المقترض من وراء التزامه برد الشيء . فلا يختلط في هذه العقود الثلاثة " السبب الإنشائي " و " السبب القصدي " كما يزعم خصوم نظرية السبب زولا يبقى من العقود العينية إلا الوديعة . وهنا يسلم كابيتان أن الوديعة بطبيعتها عقد عيني ملزم لجانب واحد إذا كانت بغير اجر ، ويرى أن سبب التزام المودع عنده ليس هو تسليم الشيء ، إذ يختلط بذلك السبب الإنشائي بالسبب القصدي ، بل هو رغبة المودع عنده ، وقد قبل أن يحفظ الشيء دون مقابل ، في أن يسدي جميلا للمودع . أما إذا كانت الوديعة باجر فقد أصبحت عقداً ملزماً للجانبين ، وصار سبب كل التزام هو تنفيذ الالتزام الآخر ( [483] ) .
أما في عقود التبرع ، فسبب الالتزام هو نية التبرع ذاتها ( animus donandi ) كما تقرر النظرية التقليدية . ولا تختلط هذه النية بالرضاء كما يقول خصوم السبب . فإن إرادة الواهب يمكن تحليلها على عنصرين : العنصر الأول هو إرادته أن يلتزم ، وهذا هو الرضاء . والعنصر الثاني هو إرادته أن يكون هذا الالتزام دون مقابل على سبيل التبرع ، وهذا هو السبب يتميز عن الرضاء كما نرى . والدليل على ذلك أن العنصر الأول ، وهو الرضاء بالالتزام ، قد يثبت وجوده دون أن يثبت وجود السبب وهو نية التبرع ، كما إذا كتب شخص سنداً بدين في ذمته لآخر ، ثم استطاع أن يثبت أن هذا الدين لا وجود له ، فإنه يبقى بعد ذلك أن يثبت الدائن نية التبرع في جانب المدين حتى يستوفى منه قيمة السند . فهذا مثل نرى فيه رضاء المدين بالالتزام ثابتاً دون أن تكون نية التبرع عنده ثابتة . وعلى أن كابيتان لا يقف عند نية التبرع بل يجاوزها إلى الباعث الدافع فيجعله هو السبب في حالتين : ( 1 ) التبرع إذا اقترن بشرط يتبين أنه هو الذي دفع المتبرع إلى تبرعه ، كما إذا وهب شخص مالا لجمعية خيرية واشترط على الجمعية أن تنشيء بهذا المال مستشفى أو ملجأ ، فإن سبب الهبة في هذه الحالة لا يكون نية التبرع بل هو القيام بالشرط الذي اقترن به التبرع . ( 2 ) الوصية حيث لا توجد إلا إرادة واحدة هي إرادة الموصى ، فلا يجوز الوقوف فيها عند نية التبرع ، بل إن الباعث الذي دفع الموصى إلى تبرعه هو الذي يجب اعتباره سبباً للوصية ، وفي هاتين الحالتين يسلم كابيتان باختلاط الباعث بالسبب .
ومن ذلك نرى أن كابيتان أدخل تحويراً في النظرية التقليدية ، حيث يجعل الباعث يختلط بالسبب في الحالتين المتقدمتين ، وحيث يحدد السبب في العقد الملزم للجانبين بأنه هو تنفيذ الالتزام لا وجوده ، وحيث يحدد السبب في عقد الوديعة غير المأجورة بأنه نية التبرع عند حافظ الوديعة . ولكنه مع ذلك يحتفظ بجوهر النظرية التقليدية ، فيستبقى التمييز بين السبب والباعث ولا يخلط بينهما إلا في فروض نادرة ( [484] ) ، ويجعل المعيار في تحديد السبب موضوعياً لا ذاتياً ، فيكون السبب عنده شيئاً داخلا في العقد لا منفصلا عنه ، وهو واحد لا يتغير في أي نوع من العقود .
275 – أنصار السبب الذين هجروا النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة : وإلى جانب كابيتان قام فقهاء يدافعون عن فكرة السبب ، وينادون بوجوب الاحتفاظ بها ، ويخالفون بذلك بلانيول وغيره من خصوم السبب الذين يقولون بوجوب حذف هذه الفكرة من القانون .
ولكن هؤلاء الفقهاء الذين ينتصرون للسبب ، ومن أبرزهم جوسران وريبير وديموج وبنكاز ، لا يدافعون عن السبب كما هو مبسوط في النظرية التقليدية ، بل يتوسعون فيه ويخلطونه بالباعث ، ويهجرون النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة التي وضع أساسها القضاء الفرنسي ، والتي نتولى الآن بسطها .
المطلب الثاني
النظرية الحديثة في السبب
276 – وجوب التوسع في تحديد السبب : لم يرض القضاء ، وهو الذي يواجه الحياة العملية ، عن النظرية التقليدية في السبب . فهي نظرية ضيقة عقيمة لا غناء فيها . وسار في طريق غير طريق الفقه التقليدي ، وتوسع في تحديد السبب ، فجعله هو الباعث الدافع إلى التعاقد . وقد عاد القضاء بذلك عن غير قصد إلى نظرية السبب عند الكنسيين ، لأنها هي النظرية التي تنتج في العمل . وما لبث الفقه الحديث أن انضم إلى القضاء في نظريته الجديدة ، إذ أدرك مدى ما فيها من خصوبة ومرونة . ولم يكن بد من أن تقترن الإرادة بالباعث الذي يحركها – وهذا هو التصرف المسبب وهو الأصل والقاعدة – أو أن تتجرد عن هذا الباعث . وهذا هو التصرف المجرد ولا يرد إلا على سبيل الاستثناء .
فنحن نتكلم إذن في مسائل ثلاث : ( 1 ) استبعاد النظرية التقليدية . ( 2 ) الأخذ بالنظرية الحديثة وهي تقوم على الباعث الدافع إلى التعاقد . ( 3 ) التصرف المجرد ( acte abstrait ) .
1 – استبعاد النظرية التقليدية
277 – العيب الجوهري في النظرية التقليدية : رأينا أن الصياغة الرومانية الشكلية هي التي ساهمت كثيراً في تكييف نظرية السبب التي نقلها دوما عن الفقهاء المدنيين فأصبحت هي النظرية التقليدية . والعيب الجوهري في هذه النظرية ليس في إنها غير صحيحة . فهي ، حتى لو كانت صحيحة ، عقيمة على كل حال . وهي لا تضيف شيئاً إلى الثروة القانونية ، إذ هي تحدد السبب في أنواع العقود المختلفة تحديداً آلياً . وتتطلب فيه شروطاً ثلاثة . ونستعرض هذه الشروط مطبقة على السبب في صوره المختلفة ، لنثبت أن السبب بهذا المعنى التقليدي الضيق يمكن الاستغناء عنه دون عناء .
278 - كيف نستغني عن السبب الموجود : تحرص النظرية التقليدية على أن تشترط وجود السبب ، وتستخلص من ذلك أن السبب إذا لم يكن موجوداً فإن الالتزام لا يقوم . وتأتي لذلك بمثلين : مثل من أكره على إمضاء التزام ليس له سبب ، ومثل من امضى سند مجاملة عن بينة واختيار .
فإذا اكره شخص على إمضاء سند لسبب لا وجود له ، كقرض لم يتم ، فإن العقد يكون باطلا . ولا يكفي هنا استظهار الإكراه ، فإنه يقتصر على جعل العقد قابلا للإبطال بينما العقد باطل كما قدمنا . ولكن على أي أساس يقوم بطلان العقد ؟ تقول النظرية التقليدية إن الأساس هو انعدام السبب ، إذ الالتزام بالمديونية سببه القرض والقرض لم يتم . على أنه من اليسير أن نصل إلى النتيجة ذاتها عن طريق غير طريق السبب . ذلك إننا إذا اعتبرنا السند تصرفاً صادراً عن إرادة منفردة ، فهو التزام بدفع مبلغ واجب بعقد القرض ، ولما كان هذا المبلغ لا وجود له لأن القرض لم يتم ، فمحل الالتزام معدوم ، ويسقط الالتزام لا لانعدام السبب بل لانعدام المحل . وإذا اعتبرنا السند هو عقد القرض ذاته ، فالتزام المقترض لا يقوم هنا أيضاً لأنه لم يتسلم مبلغ القرض ، ولا بد من أن يتسلم المقترض مبلغ القرض حتى يلتزم برده ، إما لأن القرض عقد عيني لم يتم بالتسليم ، وإما لأن القرض عقد رضائي ( وفقاً للقانون الجديد ) لم يقم فيه المقرض بتنفيذ التزامه ( [485] ) . وفي الحالين يسقط التزام من أمضى السند ، لا لانعدام السبب ، بل لعدم انعقاد القرض أو لعدم تنفيذ الالتزام المقابل .
أما إذا أمضى شخص سند مجاملة لدائن صوري ، فإن قواعد الصورية هنا تكفي وتغنينا عن نظرية السبب . فالسند الصوري . والدين لا وجود له فيما بين الطرفين . أما بالنسبة إلى الغير ( حامل السند ) فيؤخذ بالعقد الظاهر .
على إننا إذا تركنا هذه الأمثلة التفصيلية جانباً ، وأستعرضنا طوائف العقود المختلفة ، زدنا يقيناً أن السبب بالمعنى التقليدي يسهل الاستغناء عنه .
فالالتزام في العقد الملزم للجانبين سببه ، كما تقوم النظرية التقليدية ، الالتزام المقابل . ولكن ما أيسر علينا أن نستبدل بفكرة السبب هذه فكرة الارتباط التي قال بها بلانيول . بل لعل فكرة الارتباط من الناحية الفنية أدق من فكرة السبب . ذلك أن انعدام السبب جزاؤه البطلان كما هو معروف ، فإذا انعدام السبب عند تكوين العقد أو بعد تكوينه كان من الواجب أن يكون الجزاء واحداً في الحالتين . ولكننا نرى أن العقد يبطل في الحالة الأولى ويفسخ في الحالة الثانية ، وفي هذا التفريق عيب فني واضح . أما فكرة الارتباط فأكثر مرونة من فكرة السبب . وهي تسمح بان نقول بالبطلان إذا انعدم أحد الالتزامين المتقابلين عند تكوين العقد ، إذ منطق الارتباط يقضي بأن العقد لا يوجد . وتسمح فكرة الارتباط في الوقت ذاته أن نقول إن نقول إن العقد ينقضي بعد وجوده – أن يفسخ – إذا انقطع أحد الالتزامين المتقابلين بعد أن واجد .
أما في العقود العينية وفي التبرعات فالنظرية التقليدية أقل تماسكاً . إذ تقول هذه النظرية إن العقد العيني سببه التسليم ، فإذا لم يتم التسليم لم يقم الالتزام لانعدام سببه . ومن السهل هنا أن يقال إن الالتزام لا يقوم ، لا لانعدام السبب ، بل لعدم انعقاد العقد العيني . وتقول النظرية التقليدية إن السبب في التبرعات هو نية التبرع ، فإذا لم تكن هذه النية موجودة لم يقم التزام المتبرع لانعدام السبب . ولكن متى ثبت أن المتبرع قد رضى أن يتبرع ، فرضاؤه يتضمن حتمانية التبرع . فإذا تبين أن هذه النية منعدمة ، فذلك لا يكون إلا لأن الرضاء بالتبرع منعدم ، وتكون الهبة باطلة في هذه الحالة لانعدام الرضاء لا لانعدام السبب .
279 – كيف تستغنى عن السبب الصحيح : ومن السهل أيضاً أن تستغني عن السبب الصحيح كما استغنينا عن السبب الموجود . فالسبب غير الصحيح ، كما رأينا ، إما سبب موهوم أو سبب صوري .
وإذا استعرضنا أمثلة السبب الموهوم ، وجدنا أنه يمكن الاستغناء فيها جميعاً عن نظرية السبب بنظرية المحل . فالشخص غير الوارث الذي يتخارج مع وارث يتعامل في حق معدوم . وهذا هو حال دائن التركة الذي يحصل على إقرار بالدين بعد أن استوفاه ، وحال الموصي له الذي يتعامل في الموصى به إذا كانت الوصية باطلة أو كان الموصى قد عدل عنها ، وحال الدائن الذي يجدد ديناً قديماً بعد أن يستوفيه .
أما السبب الصوري فقد رأينا أنه لا يبطل العقد إلا إذا كان يخفي سبباً موهوماً أو سبباً غير مشروع . وقد فرغنا من السبب الموهوم ، فننتقل الآن إلى السبب غير المشروع .
280 – كيف تستغني عن نظرية السبب المشروع : ومن السهل أن نستغنى عن السبب المشروع في العقود الملزمة للجانبين بفكرة الارتباط التي قدمناها . فمن يتعهد بارتكاب جريمة في مقابل مبلغ من النقود لا يقوم التزامه لعدم مشروعية المحل ، وكذلك لا يقوم الالتزام المقابل لا لعدم مشروعية سببه بل لارتباطه بالتزام غير مشروع . ومن يتعهد بعدم ارتكاب جريمة في مقابل مبلغ من النقود لا يقوم التزامه لاستحالة المحل ، إذ هو لا يستطيع إنشاء التزام قد وجد بحكم القانون قبل هذا الإنشاء ، وكذلك لا يقوم الالتزام المقابل لا لعدم مشروعية سببه بل لارتباطه بالتزام مستحيل . والتوسيط الذي يتعهد بالنجاح في العثور على زوج صالح في مقابل مبلغ من النقود قد تعهد بأمر غير مشروع لا يتفق مع الآداب ، وكذلك لا يقوم الالتزام المقابل لا لعدم مشروعية سببه بل لارتباطه بالتزام غير مشروع .
أما في العقود العينية والتبرعات ، فإن اشتراط مشروعية السبب غير مفهوم . فالسبب في العقود العينية هو التسليم ، ولا يتصور أن يكون التسليم غير مشروع إلا إذا وقع على محل غير مشروع ، وعند ذلك لا ينعقد العقد لعدم مشروعية المحل لا لعدم مشروعية السبب . والسبب في التبرعات هو نية التبرع ، وكيف يتصور أن يتكون نية التبرع في ذاتها غير مشروعة ! إن وجه الاستحالة في ذلك هو الذي يفسر أن بعض أنصار النظرية التقليدية ، ومنهم كابيتان ، يجنحون إلى اعتبار السبب في التبرعات هو الباعث الدافع إلى التبرع . بل إن القانون الروماني ذاته يعتد بالباعث في الوصايا وبعض الهبات كما أسلفنا .
281 – وجوب استبعاد النظرية التقليدية في أية صورة من صورها : ويتبين مما قدمناه ، أن النظرية التقليدية في السبب نظرية عقيمة . وهي نظرية يمكن استبعادها دون أية خسارة تلحق القانون ، إذ يسهل تخريج جميع النتائج التي يراد أن تترتب عليها وذلك بالرجوع إلى أساس قانونين آخر لا علاقة له بالسبب .
ويستوى في ذلك أن تكون النظرية التقليدية كما هي على أصلها ، أو أن تكون محورة على النحو الذي يقول به كابيتان . وهناك من الفقهاء من يستبقى النظرية التقليدية ، ويقصرها على السبب في الالتزام ، ويضع إلى جانبها نظرية القضاء ، ويجعلها في العقد لا في الالتزام ، وبذلك تمكن المقابلة بين السبب في الالتزام والباعث في العقد ( [486] ) . فهذه صور ثلاث للنظريات التقليدية .
وفي أية صورة من هذه الصور الثلاث لا نرى للنظرية التقليدية نفعاً يخول لها حق البقاء ، إذ يمكن الاستغناء عنها كما رأينا أياً كان الثقوب الذي تلبسه . وما هي إلا اثر من آثار الصياغة الرومانية القديمة ، وقد زالت مقتضيات هذه الصياغة ، فوجب أن تزول معها . ووجب في الوقت الذي تنبذ فيه النظرية التقليدية ألا تنبذ فكرة السبب في ذاتها ، على أن تكون هي الفكرة الخصبة المنتجة التي تقوم على الباعث الدافع إلى التعاقد ، وهي النظرية التي قال بها القضاء الفرنسي . وننتقل الآن إليها .
2 - الأخذ بالنظرية الحديثة آلتي تقوم على الباعث الدافع إلى التعاقد
282 – السبب هو الباعث الدافع إلى التعاقد : لم تستطع النظرية التقليدية أن تواجه الحياة العملية ولم يستطع القضاء وهو الذي يعيش في غمار العمل أن ينتفع بها . لذلك لم يلبث القضاء الفرنسي أن خرج عليها خروجاً صريحاً ، فكسر الحواجز التي إقامتها هذه النظرية ما بين السبب والباعث ، وخلط بينهما خلطاً تاماً ، لا في التبرعات فحسب ، بل فيها وفي سائر العقود . وقد اكسب القضاء نظرية السبب بهذا المنهج مرونة لم تكن لها ، وأصبحت النظرية في يده منتجة نافعة لا غنى عنها ( [487] ) .
فالسبب في نظر القضاء هو الباعث الدافع الموجه ( mobile impulsive et determinant ) للملتزم في أن يلتزم . وما دامت الإرادة قد أصبحت حرة طليقة في أن تنشيء ما تشاء من الالتزامات ، وما دامت الإرادة لا بد لها من باعث يدفعها ، فلا أقل من أن يشترط القانون أن يكون هذا الباعث مشروعاً ، وأن يكون الغرض الذي ترمي الإرادة إلى تحقيقه غرضاً لا يحرمه القانون ولا يتعارض مع النظام العام ولا يتنافى مع الآداب . وبواعث الإرادة كثيرة متنوعة ، منها الدافع وغير الدافع ، ومنها الرئيسي وغير الرئيسي ، فالباعث الدافع الرئيسي هو الذي يعتد به ، ومتى أمكن الكشف عنه وجب الوقوف عنده ، إذ يكون هو السبب . بهذا المنطق الصحيح شق القضاء طريقه إلى النظرية الحديثة ( [488] ) ، وساير الفقه الحديث القضاء في هذا الطريق ( [489] ) .
وها نحن رجعنا ، بفضل ما عند القضاء من إحساس عملي ، إلى نظرية الفقهاء الكنسيين في السبب . وهي النظرية الخصبة المنتجة التي انحرف عنها دوما إلى النظرية التقليدية ، فكان هذا الانحراف سبباً في كل ما أحاط نظرية السبب من اضطراب وما أصابها من عقم طوال القرون الماضية ( [490] ) .
283 – مرونة الباعث وكيف ينضبط : والباعث بالتحديد الذي أسلفناه أكثر مرونة من السبب في النظرية التقليدية . ويكفي أن نعود إلى خصائص السبب ، نضعها إلى جانب خصائص الباعث ، لنرى النقيض إلى جانب النقيض . فقد قدمنا أن السبب معياره موضوعي وهو داخل في العقد لا يتغير في النوع الواحد من العقود ، أما الباعث فمعياره ذاتي وهو خارج عن العقد ويتغير من عقد إلى عقد بتغير المتعاقدين وما يدفعهم من البواعث . وما دام الباعث على هذا القدر من الذاتية والانفصال والتغير ، كان من الواجب أن ينظر كيف ينضبط ، حتى لا يكون مثاراً للتزعزع والقلقلة في التعامل .
ولا يجوز بداهة أن يعتد بالباعث الذي دفع أحد المتعاقدين إلى التعاقد إذا كان هذا الباعث مجهولا من المتعاقد الآخر ، وإلا استطاع أي متعاقد أن يتخلص من التزاماته بدعوى أن الباعث له على التعاقد – وهو أمر مستكن في خفايا الضمير – من شأنه أن يجعل العقد باطلا . فلا بد إذن من صلة وثيقة تربط كلا من المتعاقدين بالباعث ، ولا بد من ضابط يرجع إليه في ذلك . وقد رأينا مثل هذا في الغلط .
فما هو هذا الضابط ؟ أيكفي أن يكون الباعث معلوماً من الطرف الآخر ؟ أو يجب أن يكون متفقاً عليه بين المتعاقدين ؟ أو يصح التوسط بين هذين الحدين ، فيشترط أن يكون الطرف الآخر مساهما في الباعث الذي دفع الطرف الأول إلى التعاقد ، دون أن يصل إلى حد الاتفاق معه عليه ، ودون أن يقف عند حد مجرد العلم به ؟
ونأتي بمثل يوضح هذه المراتب المتدرجة . شخص يقترض نقوداً من آخر ليقامر بها . فالمقرض قد يجهل الغرض الذي أخذ المقترض النقود من اجله ، وفي هذه الحالة لا يعتد بالباعث الذي دفع المقترض إلى التعاقد ( [491] ) . وقد يكون المقرض صديقاً للمقترض ، عالماً بغرضه ، دون أن يقصد بالاقراض تمكين المقترض من الماقمرة ، وهذه هي مرتبة العلم . وقد يكون المقرض مرابياً يستثمر ماله في اقراض المقامرين ، فيكون قد قصد إلى تمكين المقترض من الماقمرة ، وهذه هي مرتبة المساهمة . وقد يكون المقرض هو الشخص الآخر الذي يقامر المقترض معه . فيتفقان على القرض للاستمرار في المقارمة ، وهذه هي مرتبة الاتفاق . فاية مرتبة من هذه المراتب الثلاث يتطلبها القانون حتى يعتد بالباعث ؟
رأينا كابيتان يقول بوجوب الوصول إلى مرتبة الاتفاق ، فلا يعتد بالباعث إلا إذا كان متفقاً عليه بين المتعاقدين ، والاتفاق وحده في نظر كابيتان هو الذي يدخل الباعث في دائرة التعاقد ( dans le champ contractual ) ( [492] ) . ولا شك في أن الفقيه الفرنسي الكبير قد اقترب بهذا القول من النظرية الحديثة في السبب ، ولكن دون أن يدخل في نطاقها ، فإن احداً من أنصار النظرية الحديثة لا يشترط وجوب الاتفاق على الباعث فيما بين المتعاقدين . وإنما هم منقسمون بين مرتبة العلم ومرتبة المساهمة .
أما القضاء الفرنسي فيكتفي بمرتبة العلم ، ويعتد بالباعث الذي دفع المتعاقد إلى التعاقد ، ما دام المتعاقد الآخر يعلم أو يستطيع أن يعلم بهذا الباعث ، كما هي الحال في الغلط . وسنرى بعد قليل تطبيقات مختلفة للقضاء الفرنسي تدور كلها في هذا النطاق .
والفقه يميز بين المعاوضات والتبرعات ، فيتطلب في الأولى مرتبة أعلى . ولكن الفقهاء يختلفون في تحديد هذه المرتبة .
فيذهب جويران إلى أنه يكفي أن يكون الباعث في المعاوضات معلوماً من المتعاقد الآخر ، حتى يكون في هذا وقاية للتعامل من أن يتزعزع . أما في التبرعات فإن الإرادة التي نقف عندها هي إرادة المتبرع وحده ، فهي الإرادة التي تسيطر على التصرف ، سواء في ذلك أن يتم التبرع بتقابل إرادتين كالهبة أو بإرادة واحدة كالوصية . وهو لذلك يعتد بالباعث الذي دفع المتبرع إلى تبرعه ، سواء كان معلوماً من الطرف الآخر أو كان مجهولا منه ( [493] ) .
ويذهب بواجيزان ( Bois - Juzan ) إلى وجوب الوصول إلى مرتبة المساهمة في المعاوضات والاكتفاء بمرتبة العلم في التبرعات . ذلك أن المعاوضات تختلف عن التبرعات في أن الأولى بذل فيها كل من المتعاوضين شيئاً من عنده ، فإرادة كل منهما تقوم بدور أساسي في تكوين العقد . ومن ثم وجب أن تساهم كل إرادة من هاتين الإرادتين في الباعث الذي دفع إلى التعاقد مساهمة ايجابية ، وأن تتعاون الارادتان معاً في تحقيق الغرض غير المشروع . أما في التبرعات فإرادة المتبرع وحدها هي الأساسية ، إذ المتبرع وحده هو الذي بذل . ومن ثم جاز الاقتصار على هذه المرتبة السلبية وهي مرتبة العلم ، فهي كافية لاستقرار التعامل ( [494] ) .
وإذا كان الذي يعنينا في انضباط معيار الباعث هو استقرار التعامل ، فالقضاء الفرنسي على حق فيما ذهب إليه من الاكتفاء بمرتبة العلم ، سواء كان التصرف تبرعاً أو معاوضة .
284 – تطبيقات مقتبسة من القضاء الفرنسي : نستعرض القضاء الفرنسي بعض تطبيقات للسبب مفهوماً بمعنى الباعث الذي دفع إلى التعاقد ، مرجئين القضاء المصري إلى حين الكلام في نظرية السبب في القانون المدني الجديد . ونتبع في هذا الاستعراض التقسيم الثلاثي المعروف للتصرفات إلى عقود ملزمة للجانبين وعقود عينية وتبرعات .
ففي العقود الملزمة للجانبين ، كثيراً ما يبطل القضاء في فرنسا عقوداً يكون الباعث إلى التعاقد فيها غير مشروع ، وإن كان السبب ، بالمعنى الذي تقول به النظرية التقليدية ، مشروعاً في هذه العقود . فالبيع أو الإيجار ، إذا وقع أي منهما على منزل يريد المشتري أو المستأجر إدارته للعهارة ، وكان البائع أو المؤجر عالماً بقصد المشتري أو المستأجر ، يكون باطلا طبقاً لأحكام القضاء الفرنسي . وقد أراد بعض الفقهاء التمييز بين فرضين : ( 19 منزل معد للعهارة يباع أو يؤجر بعد اعداده ، فيعتبر متجراً ( fonds de commerce ) لا مجرد مكان ، وفي هذه الحالة يكون البيع أو الإيجار باطلا لعدم مشروعية السبب وعدم مشروعية المحل معاً . ( 2 ) ومنزل يباع أو يؤجر قبل أن يعد للعهارة ، باعتبار أنه مكان لا متجر منه ولو كان قصد المشتري أو المستأجر أن يديره للعهارة ، وفي هذه الحالة لا يكون العقد باطلا طبقاً للنظرية التقليدية التي تميز بين السبب والباعث ( [495] ) . ولكن القضاء الفرنسي لمي أخذ بهذا التمييز ، فهو يبطل العقد في الفرضين ، جاعلا السبب هو الباعث ، جرياً على النظرية التي يأخذ بها ( [496] ) . ويفعل القضاء الفرنسي ذلك أيضاً في الإمكان الآتي تدار للمقارمة ، فبيع أو إيجار مبنى يراد به أن يكون مكاناً للمقامرة باطل ( [497] ) .
وفي العقود العينية ، يبطل القضاء الفرنسي قرضاً يكون قصد المقترض منه أن يتمكن من المقامرة ويكون المقرض عالماً بهذا القصد ، سواء كان مشتركا معه في المقارمة أو لم يكن ، وسواء كان يفيد منهذه المقارمة أو لم يكن يفيد ( [498] ) . ويبطل القرض أيضاً إذا كان الغرض منه أن يتمكن المقترض من الحصول علىمنزل يديره للعهارة ( [499] ) . أو أن يستبقى صلات غير شريفة تربطه بخليلة له ( [500] ) . وكالقرض رهن الحيازة ( [501] ) .
أما في التبرعات فقد كان القضاء الفرنسي اشد إمعاناً في جعل الباعث هو السبب . ولم يقف عند نية التبرع ، بل اعتد بالباعث على التبرع ، ونقب عن العوامل النفسية التي دفعت المتبرع إلى التجرد عن ماله دون مقابل ، أكان يريد الخير في ذاته ، أم يريد مصلحة خاصة مشروعة ، أم يرمى إلى غرض غير مشروع . فإذا تبين أن الباعث الذي دفع إلى التبرع غير شريف أو غير مشروع أبطل التبرع . والتطبيقات على هذا المبدأ كثيرة متنوعة نذكر أهمها : ( أولاً ) التبرع لولد غير شرعي : يقضي بالقانون المدني الفرنسي بان يكون نصيب الولد غير الشرعي في مال أبويه ، تبرعاً أو ميراثاً ، محصوراً في حدود ضيقة . فإذا زاد التبرع على الحد المفروض كان الإنقاص إلى هذا الحد واجباً .
أما إذا كانت البنوة غير الشرعية ليست ثابتة قانوناً ، فالتبرع جائز ولو زاد على الحد ، ما دام لم يثبت أن التبرع قد كان لولد غير شرعي . ولكن القضاء الفرنسي يبطل التبرع إذا ظهر أن الباعث للمتبرع على تبرعه هي علاقة بنوة غير شرعية ، فيجعل الباعث هو السبب ، ولا يكتفي بإنقاص التبرع إلى الحد الجائز ، بل يبطله جميعه ( [502] ) . ( ثانياً ) تبرع الخليل لخليلته : ويبطل القضاء الفرنسي تبرع الخليل لخليته إذا ثبت أن الباعث على هذا التبرع قد كان لإيجاد هذه العلاقة غير الشريفة أو لاستبقائها أو لإعادتها ( [503] ) . أما إذا كان الباعث على التبرع إنما هو تعويض الخليلة عما أصابها من الضرر بسبب هذه المعاشرة غير الشرعية بعد أن انقطعت ، فالباعث يكون مشروعاً والتبرع يكون صحيحاً ، بل هو في الواقع يعتبر وفاء الالتزام طبيعي ( [504] ) . وقد سبق بيان ذلك عند الكلام في محل الالتزام المخالف للآداب . ( ثالثاً ) تبرع الزوج لزوجته حتى يحملها على أن تنفصل عنه انفصالا ودياً : انفصال الزوجة عن زوجها ( separation des corps ) في القانون الفرنسي لا يكون إلا بعد إتباع إجراءات خاصة ، نص عليها هذا القانون ، أو يكون بالطلاق . وفيما عدا هاتين الحالتين فالاتفاق ما بين الزوجين على أن ينفصل أحدهما عن الآخر ( separation de fait ) دون إتباع الإجراءات المرسومة لذلك يكون غير مشروع . فإذا تبرع الزوج لزوجته حتى يحملها على الرضاء بهذا الانفصال الودي يكون سبب تبرعه ، أو الباعث عليه ، غير مشروع ، ويبطل التبرع ( [505] ) . ( رابعاً ) التبرع المقرون بشرط : إذا اقترن التبرع بشرط غير مشروع ، بطل الشرط ، وبقى التبرع ، وهذا ما تنص عليه المادة 900 من القانون المدني الفرنسي . إلا أن القضاء الفرنسي قد من هذا الحكم بفضل نظريته في السبب . فقد ميز في الشرط الذي يقترن به التبرع بين شرط دافع وشرط غير دافع ، فالثاني وحده هو الذي يطبق عليه نص المادة 900 ويبطل إذا كان غير مشروع مع بقاء التبرع قائماً . أما الشرط الدافع إلى التبرع ، أي الباعث على هذا التبرع ، فقد اعتبره القضاء سبباً لالتزام المتبرع ، ويترتب على ذلك أنه إذا كان غير مشروع ، فإن التبرع جميعه يكون باطلا ، ولا يقتصر الأمر على بطلان الشرط ( [506] ) .
3 – التصرف المجرد
( L'acte abstrait )
285 – التصرف المسبب والتصرف المجرد : قدمنا أن السبب ركن من أركان الالتزام ، لا يقوم الالتزام إلا به ، على فرق ما بين معنى السبب في النظرية التقليدية ومعناه في النظرية الحديثة . وقد كان القانون الروماني لا يعتد بالسبب ولا بالإرادة ذاتها في العقود الشكلية . ثم انتصر مذهب الرضائية في القرون الوسطى على يد الكنسيين ، فأصبحت الإرادة وحدها – مجردة من الشكل – ملزمة . ولكن الإرادة إذا كانت من جهة قد تجردت من الشكل فتحللت من هذا القيد ، فهي من جهة أخرى قد اقترنت بالسبب فاستبدلت قيد السبب بقيد الشكل .
أما الإرادة مجردة من الشكل ومن السبب معاً فلا يمكن أن يسلم بها كقاعدة في قوانين تأخذ بالإرادة الباطنة كالقوانين اللاتينية . فإن الأخذ بالإرادة الباطنة معناه أن تحرر الإرادة من عيوبها وأن تقترن بسببها . ولكن الأخذ بالإرادة الظاهرة يجعل من اليسير أن تباعد ما بينها وبين الإرادة الباطنة ، فتتجرد الإرادة الظاهرة من عيوب الإرادة الباطنة كما تتجرد من السبب الذي حرك هذه الإرادة ، ولا يبقى في مجال التعامل إلا هذه الإرادة الظاهرة المجردة ، وهذا ما يسمى بالتصرف المجرد .
وهناك فائدة كبيرة من تجريد الإرادة الظاهرة على هذا النحو ، إذ بهذا التجريد يصبح التصرف غير قابل للإبطال لا من طريق عيوب الإرادة ولا من طريق عيوب السبب . فالدائن في التصرف المجرد يستطيع أن يتمسك بحقه دون أن يستطيع المدين الدفع بإبطال التصرف لعيب في الإرادة أو لعيب في السبب . وكل ما يستطيع المدين هو أن يرجع بدعوى الإثراء على دائنه ، فيدفع دعواه إذا لم يكن قد وفى الدين ، أو يسترد ما دفع إذا كان قد وفى . ومن ثم يكون التصرف المجرد أداة قوية من أدوات الائتمان ، تشتد حاجة التعامل إليها كلما اشتدت الحاجة إلى الاستقرار . وإذا كان التعامل بتنازعه عاملان ، عامل احترام الإرادة وعامل الاستقرار ، فإن التصرف المسبب يستجيب للعامل الأول ، ويستجيب التصرف المجرد للعامل الثاني . ومنذ انتكصت الشكلية في العقود وساد مذهب الرضائية ، انتصر عامل الإرادة على عامل الاستقرار ، ولم يستطع عامل الاستقرار أن يسترد ما فقد إلا بظهور التصرف المجرد ففيه ينتصر على الإرادة كما رأينا . ومن هنا كان تطور العقد من تصرف شكلي إلى تصرف رضائي ، ثم من تصرف رضائي إلى تصرف مجرد ، تطوراً تعاقب فيه عاملا الاستقرار والإرادة على مراحل متتابعة ، كان الظفر في كل مرحلة منها لأحد العاملين على الآخر . ومن هنا أيضاً كان التصرف المجرد رجوعاً مهذباً إلى التصرف الشكلي ، كلاهما يستجيب لعامل الاستقرار ، ولكن التصرف الشكلي يستجيب إليه في جمعية بدائية ، ويستجيب إليه التصرف المجرد في جمعية متحضرة .
على أن التصرف المجرد – على شدة الحاجة إليه في استقرار التعامل وبخاصة إذا تقدمت التجارة وتشعبت سبلها واحتيج إلى أدوات ائتمان ثابتة – لم يظفر من القوانين اللاتينية ، وهي التي تأخذ بالإرادة الباطنة ، إلا بمكان ضيق محدود . وعلى النقيض من ذلك ظفر التصرف المجرد في القوانين الجرمانية ، وهي التي تأخذ بالإرادة الظاهرة ، بمكان رحب سما فيه إلى مرتبة القاعدة . ولا غرابة في ذلك ، فقد بينا أن التصرف المجرد يتمشى مع الإرادة الظاهرة التي تأخذ بها القوانين الجرمانية ( [507] ) . ويتعارض مع الإرادة الباطنة التي تأخذ بها القوانين اللاتينية .
ويبقى أن نستعرض حظ التصرف المجرد في كل من القوانين الجرمانية والقوانين اللاتينية ويدخل القانون المصري في هذه القوانين الأخيرة .
286 – التصرف المجرد في القوانين الجرمانية : لا نجد في التقنينات الجرمانية نصوصاً تعرض لنظرية السبب عرضاً مباشراً كما تفعل التقنينات اللاتينية . فالتقنين النمساوي لا يشير إلى السبب إلا في المادة 901 ليقرر أن الباعث لا اثر له في صحة عقود المعاوضات إلا إذا جعل منه المتعاقدان شرطاً صريحاً لصحة العقد . والتقنين الألماني لا يعرض للنظرية بنص صريح . وتقنين الالتزامات السويسري لا يعرض لها إلا في صورة عرضية عندما ينص في المادة 17 على أن الاعتراف بالدين صحيح حتى لو لم يذكر سببه . ويعلل ذلك عادة بان هذه التقنينات تأثرت بالقانون الروماني ، وهذا القانون كما رأينا لا يفسح مجالا واسعاً لنظرية السبب إذ أن فكرة السبب فيه فكرة مادية لا تتبين لها نتائج علية إلا في نطاق محدود ، وبخاصة في نطاق دعاوي الإثراء . ولكن بالرغم من أن هذه التقنينات لا تنص على نظرية السبب نرى التصرفات فيها نوعين : النوع الأول هو التصرفات السمببة ( Kausale Rechtsgeschaefte ) وهي اغلب التصرفات المدنية وفيها السبب ركن يجب أن تتوافر فيه شروطه المعروفة فيكون صحيحاً مشروعاً ، والنوع الثاني هو التصرفات المجردة ( Abstrakte Rechtsgeschaefte ) لا يعتد فيها بالسبب ولا بعيوب الإرادة وقد وضعت لها قواعد عامة سيأتي بيانها .
فالسبب لا يزال إذن موجوداً في القوانين الجرمانية ، ولكنه سبب بالمعنى المفهوم في النظرية التقليدية يراد به الغرض الموضوعي المباشر من التعاقد تمييزاً له عن الباعث ، ويشترط فيه أن يكون صحيحاً مشروعاً وإلا بطل العقد . أما الباعث فلا اثر له في صحة العقد ولو كان هو الذي دفع إلى التعاقد ( [508] ) .
وإلى جانب التصرفات المسببة توجد التصرفات المجردة ، وقد أفسح لها مجال واسع كما قدمنا . وهي طائفتان : طائفة عقود انتقال الملكية وطائفة العقود المنشئة للالتزامات .
فالأولى تنتقل بها الملكية – والحق العيني بوجه عام – دون اعتبار للسبب . ذلك أن الملكية في هذه التقنينات لا تنتقل بمجرد نشوء الالتزامات بنقلها ، بل لا بد من تنفيذ هذا الالتزام بطريق عقد آخر هو عقد انتقال الملكية ، فيذهب المتعاقدان إلى المكتب العقاري ويعلنان اتفاقهما ويسجلان هذا الاتفاق في السجل العقاري ( Livre Foncier ) . وعقد انتقال الملكية ، في القانون الألماني بنوع خاص ، عقد مجرد ، تنتقل به الملكية سواء كان العقد المنشيء للالتزام بنقلها صحيحاً أو معيباً . وإذا أتضح بعد ذلك أن العقد كان معيباً وأن الملكية انتقلت دون سبب ، فليس لمن خرج عنها إلا الرجوع بدعوى شخصية على من تلقاها هي دعوى الإثراء بلا سبب . وبذلك يتوافر لهذا العقد مزية الاستقرار والثبات . فما على الشخص حتى يثبت أنه يتعامل مع مالك العقار إلا أن يرجع إلى السجل العقار ، فمن كان اسمه مسجلا فيه كان هو المالك ، ولو كان في ذلك تضحية للمالك الحقيقي – أما التقنين السويسري فلا يمحي الغير الذي اعتمد على السجل العقاري إلا إذا كان حسن النية ( م 973 من التقنين المدني السوري ) . ومن ثم نرى أن التجريد يحتمل التدرج . وتأييداً لذلك نسوق مثلا آخر نأتي به من القانون المصري . فقد قضت المادة 15 من قانون رقم 114 لسنة 1946 الخاص بتنظيم الشهر العقاري بوجوب تسجيل دعاوي استحقاق أي حق من الحقوق العينية أو التأشير بها ، ويترتب على هذا التسجيل أو التأشير أن حق المدعى إذا تقرر بحكم يكون حجة على من ترتبت لهم حقوق عينية ابتداء من تاريخ تسجيل الدعاوى أو التأشير بها ، ولا يكون هذا الحق حجة على الغير الذي كسب حقه بحسن نية قبل التأشير أو التسجيل المشار إليهما . ويتبين من ذلك أن من يتعامل مع غير المالك في عقار وهو حسن النية ، ويسجل عقده قبل أن يسجل المالك دعوى الاستحقاق ، يفضل على المالك وتخلص له ملكية العقار . والقاعدة كما نرى تنطوي على ضرب من التجريد .
والطائفة الأخرى من التصرفات المجردة عقود منشئة للالتزامات . وتشمل : ( أولاً ) حالات معينة بذاتها ، منصوصاً عليها . وهي – عدا الأوراق التجارية والسندات – حوالة الحق وحوالة الدين والتنازل عن الحق الشخصي والإنابة في الوفاء . وفي هذه الحالات يكون العقد مجرداً على النحو الذي رأيناه في عقود انتقال الملكية . فيتم نقل الحق أو الدين ويتحقق التنازل عن الحق الشخصي دون اعتبار للسبب في هذه الحوالة أو في هذا التنازل ، فإذا تبين أن السبب غير موجود أو غير مشروع فليس ثمة إلا الرجوع بدعوى الإثراء . كذلك التزام المناب للمناب لديه بالوفاء التزام مجرد عن السبب ، فلا يستطيع المناب أن يحتج على المناب لديه بما كان له أن يحتج به من دفوع ضد المنيب ( أنظر في التقنين الألماني : م 398 و م 413 لحوالة الحق ، وم 414 وما بعدها لحوالة الدين ، وم 397 للتنازل عن الحق الشخصي ، وم 784 للانابة في الوفاء – وانظر في تقنين الالتزامات السويسري : م 164 وما بعدها لحوالة الحق ، وم 179 فقرة ثالثة لحوالة الدين ، وم 115 للتنازل عن الحق الشخصي ، وم 468 للانابة في الوفاء ) . ( ثانياً ) التعهد المجرد بالوفاء ( promesse abstraite de payer ) والاعتراف المجرد بالدين ( reconnaissance abstraite de dette ) ، وهما الصورتان العامتان للتصرف المجرد . فتضع التقنينات الجرمانية هنا قاعدة عامة للتصرف المجرد ، وتجيز أن يتفق الدائن مع مدينه على أن يكون التزام المدين أو اعترافه بالدين مجرداً . فيوجد الالتزام في ذمته منفصلا عن السبب ، ويقوم هذا الالتزام حتى لو كان السبب غير موجود أو غير مشروع . وليس للمدين إلا دعوى الإثراء إزاء الدائن إذا تبين أن التزامه لم يكن مبنياً على سبب صحيح ، فيتخلص بذلك من التزام موجود أو يسترد ما دفعه وفاء لهذا الالتزام ( [509] ) . واشترطت المادة 780 من التقنين الألماني لصحة الالتزام المجرد أن يكون في ورقة مكتوبة ، إلا إذا كان تصفية لحساب أو عن صلح فلا تشترط الكتابة زولا يشترط تقنين الالتزامات السويسري الكتابة إطلاقاً ( م 17 ) ( [510] ) .
287 - التصرف المجرد في القوانين اللاتينية وفي القانون المصري : أما القوانين اللاتينية ، وهي مشبعة بنظرية السبب كما رأينا ، فلا تسلم بالتصرف المجرد . أو هي على الأقل لا تضع له قاعدة عامة كما فعلت التقنينات الجرمانية . وإذا كان هناك نص في كل من القانونين المصري والفرنسي يقضي بقيام الالتزام ولو لم يذكر سببه ( م 137 من القانون المصري الجديد و م 1132 من القانون الفرنسي ) ، فسنرى أن هذا النص لا يعرض إلا لمسالة من مسائل الإثبات ليلقى عبء الإثبات في السبب على عاتق المدين . وهناك فرق بين التزام مسبب ، يلقى على المدين فيه عبء إثبات انعدام السبب ، والتزام مجرد عن السبب . فالالتزام الأول ، إذا اثبت المدين أنه لا يقوم على سبب مشروع ، يكون العقد فيه باطلا . أما في الالتزام الثاني ، وهو الالتزام المجرد ، فيبقى العقد صحيحاً حتى لو اثبت المدين انعدام السبب أو عدم مشروعيته ، وليس أمام هذا إلا دعوى الإثراء كما سبق القول .
فالالتزام في القوانين اللاتينية هو إذن التزام مسبب . على أن هذه القوانين تقر الالتزام المجرد في حالات معينة منصوص عليها بذاتها ، وهي قليلة العدد . وقد نص القانون التجاري – حيث تشتد الحاجة للالتزام المجرد لاستقرار التعامل وسرعته – على عدد منها ، هي الكمبيالات والسندات تحت الإذن والسندات لحاملها . أما القانون المدني فقد نص على حالتين : التزام المناسب في الوفاء نحو المناب لديه والتزام الكفيل نحو الدائن .
ونقتصر هنا على ما ورد في هذا الصدد في القانون المدني المصري الجديد . فقد نصت المادة 361 على أن " يكون التزام المناب قبل المناب لديه صحيحاً ولو كان التزامه قبل المنيب باطلا أو كان هذا الالتزام خاضعاً لدفع من الدفوع ، ولا يبقى للمناب إلا حق الرجوع على المنيب . كل هذا ما لم يوجد اتفاق يقضي بغيره " ( [511] ) . أما في الكفالة فللكفيل أن يتمسك بجميع الأوجه التي حتج بها المدين ( م 782 مصري جديد ) ، ولكن التزام الكفيل نحو الدائن التزام مجرد لا يتأثر بالعلاقة مابين الكفيل والمدين ، ولا يجوز للكفيل أن يتمسك ضد الدائن بالدفوع التي له أن يتمسك بها ضد المدين . فإذا كفل الكفيل المدين في نظير أن يوفى المدين ديناً آخر عليه مضموناً برهن يثقل عقار الكفيل ، ولم يوف المدين بهذا الدين الآخر ، فإن التزام الكفيل نحو الدائن يبقى قائماً ، ولا يجوز للكفيل أن يدفع دعوى الدائن بان المدين لم يوف بما تعهد به من تخليص عقار الكفيل من الرهن ( [512] ) .
ويتبين مما قدمناه أن القانون المصري قد انحاز انحيازاً تاماً إلى القوانين اللاتينية ، وبقى في حظيرتها كما أسلفنا الإشارة . فاشترط في التصرفات أن تكون مسببة ، ولم يسلم بالتصرف المجرد إلا في حالات معينة بذواتها ( [513] ) .
المطلب الثالث
نظرية السبب في القانون المصري الجديد
288 – مسائل ثلاث : تلقى القانون الجديد النظرية الحديثة في السبب ميراثاً عن القانون القديم والقضاء المصري ، فقد كان الفقه والقضاء في مصر ، قبل صدور القانون الجديد ، قد عبد الطريق لنبذ النظرية التقليدية الضيقة وتلقى النظرية الحديثة الخصبة . ولكن القانون الجديد خطأ خطوة أخرى إلى الإمام ، إذ ارجع السبب سيرته الأولى عندما كان في يد الفقهاء الكنسيين عاملا لحماية المشروعية قبل أن يكون عاملا لتحصين الإرادة من عيوبها . ففصل ما بين منطقة السبب ومنطقة الغلط ، واقتصر في شروط السبب على المشروعية دون الصحة . ثم عرض في نص هام لإثبات السبب .
فنحن نستعرض هنا مسائل ثلاث : ( 1 ) اعتناق القانون الجديد للنظرية الحديثة في السبب . ( 2 ) الفصل ماب ين منطقة السبب ومنطقة الغلط في القانون الجديد . ( 3 ) إثبات السبب .
1 – اعتناق القانون الجديد للنظرية الحديثة في السبب
289 – النصوص القانونية : نص القانون الجديد في المادة 136 على ما يأتي :
" إذا لم يكن للالتزام سبب ، أو كان سببه مخالفا للنظام العام أو الآداب ، كان العقد باطلا ( [514] ) " .
وكان القانون القديم ينص في المادتين 94 / 148 على أنه " يشترط لصحة التعهدات أن تكون مبنية على سبب صحيح جائز قانوناً " .
ونلاحظ منذ الآن الفرق ما بين النصين . فنص القانون القديم يشترط في السبب الصحة والمشروعية . أما نص القانون الجديد فلا يشترط إلا المشروعية ، إذ السبب غير الصحيح يدخل في منطقة الغلط كما قدمنا .
ولم يصرح القانون الجديد فيما أورده من نص بالمعنى الذي يقصده من " السبب " . ولكن لا شك في أنه يعتنق النظرية الحديثة ، وينبذ النظرية التقليدية . فقد كان هذا هو شان القانون القديم ، وهو لا يزيد في صراحة التعبير عن القانون الجديد . وكان الفقه والقضاء في مصر يفسران عبارات القانون القديم على معنى النظرية الحديثة لا على معنى النظرية التقليدية . ولم يقطع القانون الجديد صلته بهذه التقاليد ، بل هو قد تأثر بنوع خاص بتقاليد القضائين المصري والفرنسي . وقد ذكر ذلك صراحة في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي إذ ورد فيها ما يأتي : " لم ينهج المشروع نهج التقنينات الجرمانية بشان نظرية السبب ، بل اختار على النقيض من ذلك مذهب التقنينات اللاتينية وانتصر معها لهذه النظرية . والواقع أن السبب كما يصوره القضاءان الفرنسي والمصري بمعنى الباعث المستحث يدخل في نطاق القانون المدني عنصراً نفسياً من عناصر الأخلاق يحد من نزعته المادية ، وهي بعد نزعة يشتد طغيانها في بعض الأحيان " ( [515] ) . وجاء في موضع آخر من المذكرة الإيضاحية ما يأتي : " يقصد بالسبب معناه الحديث كما يتمثله القضاءان المصري والفرنسي في العصر الحاضر . فهو بهذه المثابة الباعث المستحث في التصرفات القانونية عامة لا فرق في ذلك بين التبرعات والمعاوضات " ( [516] ) .
فالسبب إذن ، في نظر القانون الجديد ، هو الباعث الدافع إلى التعاقد ( cause impulsive ) لا مجرد الغرض المباشر المقصود في العقد ( cause finale ) . وهو أمر نفسي خارج عن العقد يتغير بتغير البواعث . وكل ما أوردناه عن النظرية الحديثة في السبب ينطبق في القانون الجديد . و لا بد في القانون الجديد أيضاً من أن يكون السبب معلوماً من المتعاقد الآخر ، فإذا كان الباعث الذي دفع أحد المتعاقدين إلى التعاقد غير مشروع ، ولم يكن المتعاقد الآخر يعلم بهذا الباعث وليس في استطاعته أن يعلم به ، فعدم المشروعية هنا لا يعتد به ، ويكون العقد صحيحاً ، ويقوم لا على الإرادة الحقيقية فهي غير مشروعة ، ولكن على الإرادة الظاهرة ، شأنه في ذلك شأن العقد الذي يقوم على إرادة معيبة بغلط أو تدليس أو إكراه ولا يعلم المتعاقد الآخر بالعيب ولا يستطيع أن يعلم به ، وقد مر بنا ذلك ( [517] ) .
وهذه النظرية الحدية التي أخذ بها القانون الجديد سبقه إليها ، كما قدمنا ، الفقه والقضاء في مصر . ونعرض الآن لكل منهما .
290 – الفقه في مصر : أخذ بعض الفقهاء في مصر بالنظرية التقليدية في السبب ، ونقولها عن الفقهاء الفرنسيين كما أوردناها فيما تقدم ( [518] ) .
ولكن كثرة الفقهاء جاوزوا النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة ، وهي نظرية القضاء الفرنسي ، فأثروها على النظرية التقليدية ( [519] ) .
وهناك من الفقهاء من قال بازدواج السبب ، فاستبقى النظرية التقليدية وأكملها بالنظرية بالحديثة على غرار التقنين اللبناني ( [520] ) .
ونحن لا نرى مقتضياً لا ستبقاء النظرية التقليدية وتكميلها بالنظرية الحديثة . وقد رأينا فيما قدمناه أن النظرية التقليدية لا نفع فيها والاستغناء عنها ميسور . هذا إلى أن ربط النظريتين إحداهما بالأخرى هو ربط بين نظريتين يختلفان كل الاختلاف في النزعة وفي الأصل التاريخي . وقد رأينا أن إحداهما تسربت إلينا عن الفقهاء الرومانيين في القرون الوسطى وهي تحمل اثر الصنعة الرومانية ، والأخرى تلقيناها عن الفقهاء الكنسيين وقد بنوها على أصول خلقية دينية وبعدوا بها عن الصياغة الرومانية بعد أن حرروا الإرادة من قيودها الشكلية . ففيم إذن الربط بين نظريتين متنافرتين كل هذا التنافر ! وما الجدوى في هذا الربط ، والنظرية التقليدية يمكن الاستغناء عنها ، والنظرية الحديثة فيها وحدها كل الغناء !
291 – القضاء في مصر : والقضاء في مصر كان أكثر تمشياً مع الفقه مع النظرية الحديثة ، فأخذ بها في كثير من أحكامه ، وقد اقتفى في ذلك اثر القضاء في فرنسا .
فقضت محكمة الاستئناف الوطنية في دعوى ثبت فيها أن شخصاً أودع عقداً عند رجل يأتمنه ، فاتفق ابن المودع مع الأمين على أن يسلمه العقد المذكور في مقابل أن يكتب له عقداً ببيع سبعة أفدنة – بان هذا البيع باطل لأن السبب فيه غير مشروع ، وأن الأمين الخائن لا حق له في طلب ملكية العين ولا في الثمن ( [521] ) . ويلاحظ في هذه القضية أن البيع إذا كان جدياً دفع المشتري فيه ثمناً ، كان عقداً ملزماً للجانبين اعتبر السبب فيه هو الباعث الدافع . أما إذا كان ، كما هو الغالب ، هبة في صورة بيع ، كان تبرعاً أبطله القضاء لعدم مشروعية الباعث على اعتبار أن الباعث هو السبب – وقضت هذه المحكمة أيضاً بأنه إذا كان الباعث لتبرع الخليل لخليلته هو استبقاء العلاقة غير الشريفة بينهما كان العقد باطلا ، أما إذا . كان الباعث هو تعويض الخليلة عما أصابها من الضرر بسبب هذه المعاشرة غير الشرعية بعد أن انقطعت فالباعث يكون مشروعاً والتبرع يكون صحيحاً ( [522] ) - وقضت محكمة الزقازيق الكلية بأن القضاء قد جرى على اعتبار الباعث في مرتبة واحدة مع السبب المباشر وذلك في حالة ما إذا كان العاقد الآخر يعلم بهذا الباعث ، ويعتبر الباعث في هذه الحالة أمراً ملاحظاً في العقد وانه بدونه لا يمكن أن يتم العقد ( [523] ) .
على أن النظرية التقليدية في السبب لم تعدم لها مكاناً في القضاء الوطني ، وقد تردد صداها في بعض الأحكام . فقد قضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأنه لا محل للبحث في عقد البيع في الأسباب التي يدعيها البائع كباعث على صدور العقد ، لأن الباعث من الأمور التي لا يلتفت إليها في صحة العقد ، وهو والسبب الصحيح أمران مختلفان لا يصح الخلط بينهما ( [524] ) . وقضت محكمة النقض بان السبب القانونين في عقد القرض هو دفع المقرض نقداً إلى المقترض ، ومن هذا الدفع يتولد الالتزام برد المقابل ، فإذا انتفى السبب هذا المعنى بطل العقد ( [525] ) . ويجوز أن يؤول حكم محكمة استئناف مصر بأن الباعث لم يكن معلوماً من الطرف الآخر فلا يعتد به ، وأن يؤول حكم محكمة النقض بان السبب الذي عنته في حكمها هو السبب المنشيء لعقد القرض .
وقد كان القضاء المختلط أكثر إمعاناً من القضاء الوطني في الأخذ بالنظرية الحديثة في السبب . وإذا كانت محكمة الاستئناف المختلطة قضت في حكم قديم لها ( [526] ) بان الإيجار أو القرض لا يكون باطلا حتى لو كان المستأجر أو المقترض قصد إدارة العين للعهارة أو استعمال المبلغ المقترض في إدارة العين للعهارة ، وحتى لو كان المؤجر أو المقترض عالماً بذلك ، فقد هجرت بعد ذلك هذه النظرية التقليدية ، وأخذت في أحكام كثيرة بالنظرية الحديثة . فقضت بان بيع اسلحة محرم استيرداها إلى مصر يكون باطلا لعدم مشروعية السبب متى كان البائع عالماً بهذا التحريم ( [527] ) . وقضت بان اتفاق البائع والمشتري على الثامن الحقيقي للصفقة ، مع بقائه مخفياً حتى يذكرا ثمناً صورياً أقل من الثمن الحقيقي ، فيتمكن المشتري بذلك من تخفيض رسوم التسجيل بطريق الغش ، يكون اتفاقاً باطلاً لعدم مشروعية السبب ، ولا يستطيع المشتري التمسك بالثمن الحقيقي في مواجهة الشفيع ، كما لا يستطيع البائع التمسك بهذا الثمن في مواجهة المشتري ( [528] ) . وقضت بان عقد القرض يكون باطلا إذا قصد المقترض منه أن يتمكن من المقامرة وكان المقرض عالماً بهذا القصد ( [529] ) ، لكن إذا ثبت أن المقترض لم يستعمل القرض فعلا ي المقامرة فإن الدليل على القصد غير المشروع لا يقوم ويكون عقد القرض صحيحا ( [530] ) . وقضت بان التوكيل المعطي لسمسار لعقد صفقات بقصد المضاربة في البورصة عقد باطل لعدم مشروعية السبب ( [531] ) ، ولكن قصد المضاربة يجب أن يكون معلوماً من السمسار وإلا فلا يعتد به ( [532] ) . وقضت محكمة الإسكندرية التجارية المختلطة بأنه إذا كان الباعث على التبرع استبقاء العلاقة ما بين الخليل وخليلته كان العقد باطلا ، أما إذا كان هو التعويض عما أصاب الخليلة من الضرر بسبب المعاشرة فالباعث مشروع والعقد صحيح ( [533] ) . ولم يكن القضاء المختلط يعتبر التبرع لولد غير شرعي باطلا ، بل يعتبره وفاء لا لتزام طبيعي ، ويعطيه حكم الوصية فيجوز فيما لا يزيد عن الثلث ( [534] ) .
وإذا كان القاضي المصري – لا سيما القضاء الوطني – قد أخذ في الماضي بالنظرية التقليدية في بعض أحكامه ، فلم يعد بعد صدور القانون الجديد محل للأخذ بهذه النظرية . وأصبح من المتعين الآن الأخذ بالنظرية الحديثة التي اعتنقها القانون الجديد ، على ما تصرح به الأعمال التحضيرية فيما قدمناه .
2 – الفصل ما بين منطقة السبب ومنطقة الغلط في القانون الجديد
292 – إبعاد " السبب غير الصحيح " من دائرة السبب إلى دائرة الغلط : قدمنا عند الكلام في نظرية الغلط أن التمييز بين السبب غير الصحيح والغلط في الباعث كان مفهوماً وقت أن كانت النظرية التقليدية في كل من الغلط والسبب قائمة . فالنظرية التقليدية في الغلط كانت تميز بين الغلط في السبب وهو يجعل العقد باطلا ، وبين الغلط في الباعث وهو لا يؤثر في صحة العقد ، والنظرية التقليدية في السبب كانت تميز بين السبب أي الغرض المباشر من الالتزام وهو الذي يعتد به ، وبين الباعث وهو عديم الأثر ، ومن ثم كان مفهوماً أن الغلط في السبب يجعل العقد باطلا وأن الغلط في الباعث لا يؤثر في صحة العقد ، لأن السبب بالمعنى التقليدي ألصق بالعقد من الباعث فالغلط فيه أمر خطير من شأنه أن يعدم العقد ، أما الباعث فأمر خارجي عن العقد فلا يعتد بالغلط فيه .
ثم تطورت نظرية الغلط ، فاستبدلنا بالنظرية التقليدية النظرية الحديثة . وأصبح الغلط في الباعث طبقاً لهذه النظرية الأخيرة يجعل العقد قابلا للإبطال . فإذا نحن واجهنا هذه النظرية الحديثة في الغلط بالنظرية التقليدية في السبب ، بقى الفرق قائماً بين الغلط في السبب بمعناه التقليدي وهو الغرض المباشر من الالتزام وبين الغلط في الباعث وهو أمر خارجي عن العقد ، وأمكن تبرير الفرق في الحكم : فالغلط في السبب اللصيق بالعقد يجعل العقد باطلا ، أما الغلط في الباعث الخارج عن العقد فلا يجعل العقد إلا قابلا للإبطال .
ولكن لما تطورت نظرية السبب هي الأخرى واستبدلنا بالنظرية التقليدية النظرية الحديثة ، وأصبح السبب هو عين الباعث ، لم يعد هناك محل للتمييز بين الغلط في السبب بهذا المعنى الجديد وبين الغلط في الباعث . فكلاهما غلط في الباعث . ووجب إذن أن ندرك أن نظرية الغلط قد اتسعت دائرتها كما اتسعت دائرة نظرية السبب ، حتى تدخلت كل دائرة في الأخرى ، فأصبحت هناك منطقة مشتركة بين الدائرتين يتعين أن نستخلصها لاحداهما ، وإلا وقعنا في المحظور الذي أشرنا إليه عند الكلام في نظرية الغلط ، ووقع خلط عجيب ما بين نظريتي السبب والغلط ، إذ تبقى هذه المنطقة المشتركة فيما بينهما يتنازعها كل منهما ، فإذا سميناها بالسبب غير الصحيح أو السبب المغلوط ( cause erronee ) كان العقد باطلا ، وإذا سميناها بالغلط في الباعث ( erreur sur le motif ) كان العقد قابلا للإبطال ( [535] ) .
لذلك كان لا بد من التأمل فيما صارت إليه الأمور بعد تطور نظرية السبب ونظرية الغلط واستبدال النظرية الحديثة في كل منهما بالنظرية التقليدية . وقد لفت ذلك نظر بعض الفقهاء ، ولكنهم لم يشيروا في ذلك برأي حاسم ( [536] ) .
أما القانون الجديد فقد وقف موقفاً صريحاً من هذه المنطقة المشتركة ما بين السبب والغلط ، واعتبر أن السبب غير الصحيح ( أو السبب المغلوط ) هو والغلط في الباعث شيء واحد ، كلاهما غلط في الباعث كما قدمنا ، وكلاهما يجعل العقد قابلا للإبطال . وبعد أن كانت المنطقة المشتركة المشار إليها يتنازعها كل من السبب والغلط على النحو الذي بيناه ، استخلصها القانون الجديد للغلط ، واختفى من نصوص السبب في القانون الجديد النص الخاص بالسبب غير الصحيح . وهذا النظر تبرره اعتبارات منطقية واعتبارات تاريخية .
أما الاعتبارات المنطقية فترجع إلى أنه بعد أن اتسعت فكرة السبب فأصبح السبب هو الباعث ، فإن الغلط فيه لم يعد هو الغلط في السبب الضيق اللصيق بالعقد الذي تقول به النظرية التقليدية في السبب ، بل صار هو عين الغلط في الباعث الذي تقول به النظرية الحديثة في الغلط . ووجب أن يعطي الغلط في السبب إلى دائرة الغلط ، ولا يصبح هناك محل للكلام عن السبب غير الصحيح في نظرية السبب ، فهو لا يزيد على أن يكون غلطاً في الباعث ، ومحل الكلام عنه إنما يكون في نظرية الغلط . أما الغلط في السبب بمعناه التقليدي فقد قدمنا أنه غلط يمنع من تكوين العقد لانعدام الرضاء أو لانعدام المحل ، فالكلام فيه هو أيضاً لا يكون في نظرية السبب ( [537] ) .
وأما الاعتبارات التاريخية فترجع إلى تاريخ نظرية السبب ، وكيف استخدم الفقهاء الكنسيون هذه الفكرة بعد أن حرروا الإرادة من قيود الشكل على ما قدمنا . فقد رأينا إنهم هم الذين صنعوا نظرية السبب ، وجعلوا منها نظرية خصبة منتجة . وقد استخدموها بادئ الأمر لحماية مصلحة عامة هي المشروعية . ثم أقحموا بعد ذلك على السبب غرضاً آخر بعيداً عن الغرض الأول ، فاستخدموا نظرية السبب لحماية مصلحة خاصة فردية هي تحرير الإرادة من عيب الغلط . فمن وقع في غلط فعه إلى التعاقد ، كمن تعاقد لسبب غير مشروع ، يستطيع أن يتمسك بنظرية السبب . وظاهر أن فكرة الغلط دخيلة على نظرية السبب ، فالأولى تحمي مصلحة خاصة للأفراد ، أما الأخرى فتحمي مصلحة عامة للجماعة . والأولى إلى رجاع نظرية السبب سيرتها الأولى ، فتتمحض لحماية المصلحة العامة . وينتقل السبب غير الصحيح إلى دائرة الغلط ، ولا يبقى في دائرة السبب إلا السبب غير المشروع . وهذا ما فعله القانون الجديد .
293 – لا يوجد للسبب في القانون الجديد إلا شرط واحد هو أن يكون مشروعاً : ومن ثم لا نجد في القانون الجديد عبارة " السبب الصحيح " التي كنا نقرأها في القانون القديم ، فقد اختفت وأخلت باختفائها الميدان للسبب المشروع وحده . وقد رأينا أن المادة 136 من القانون الجديد تنص على أنه إذا لم يكن للالتزام سبب أو كان سببه مخالفاً للنظام العام أو الآداب ، كان العقد باطلا . وكان القانون القديم في المادتين 94 / 148 يتطلب لصحة التعهدات والعقود أن تكون مبنية على سبب صحيح جائز قانوناً .
فلا يشترط إذن في السبب إلا شرط واحد هو أن يكون مشروعاً . ومن أجل المشروعية وحدها قامت نظرية السبب أول ما قامت ، واليها وحدها عادت في القانون الجديد .
والواقع من الأمر أن السبب ، بمعنى الباعث الدافع على التعاقد ، يجب استبقاؤه ، على إلا يستخدم إلا لحماية المشروعية في التعاقد . ذلك أنه هو وحده الذي يستطيع أن يقوم بهذه الحماية في صورة السبب المشروع ، ولا يغني عنه ركن آخر ، لا ركن المحل ولا ركن الرضاء ( [538] ) . ولكن عند هذا الحد يجب أن تقف مهمته ، فلا تجاوز ذلك إلى حماية العاقد ضد الغلط في صورة السبب الصحيح ، فإن نظرية الغلط تغني عندئذ عن نظرية السبب ، بل وتفضلها من حيث الجزاء .
وقد فهم القضاء ، في مصر وفي فرنسا ، وهو يلامس الحياة العملية ، مهمة السبب على هذا الوجه فتراه يكاد يقتصر على السبب غير المشروع في إبطال العقد . وقل أن تجد تطبيقاً قضائياً لما يدعى بالسبب غير الصحيح إذ هو يختلط في العمل بالغلط . ويكفي للتثبت من ذلك استظهار ما أوردناه من أحكام القضاء المصري والفرنسي في السبب لنراها جميعاً قد عرضت للسبب غير المشروع لا للسبب غير الصحيح ( [539] ) . وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن القضاء قد اتجه اتجاهاً عملياً منتجاً في نظرية السبب . وقد قام على هذا النحو بمهمته خير قيام . أما الفقه فلا يزال مطلوباً منه أن يقوم بمهمته هو الآخر ، فيعين القضاء على شق طريقه ، ويصوغ له نظرية جديدة في السبب تتمشى مع مقتضيات العمل . وقد سبق القانون الجديد الفقه إلى ذلك ، فخطا بنظرية السبب خطوة جديدة حاسمة في تاريخ تطوره الحديث . فاتسع أفق السبب بعد هذا الضيق الذي كان ملحوظاً في النظرية التقليدية ، وخلص من الشوائب التي كانت تعتريه من جراء اختلاطه بنظرية غريبة عنه هي نظرية الغلط .
294 – مأخذان على القانون الجديد : على أن هناك مأخذين على القانون الجديد ، تمعا في العبارة التي صدرت بها المادة 136 . فقد جاء في صدر هذه المادة : " إذا لم يكن للالتزام سبب " . فالسبب قد نسب إلى الالتزام ، وكان الأولى أن ينسب إلى العقد إذ هو متلازم مع الإرادة كما رأينا . ثم افترض النص احتمال أن يكون هناك التزام دون سبب ، وهذا احتمال لا يتصور ، فما دمنا نجعل السبب هو الباعث ، فكل إرادة لا بد أن يكون لها باعث إلا إذا صدرت من غير ذي تمييز ( [540] ) .
والعبارة التي ننتقدها أليق بالنظرية التقليدية ، ففي هذه النظرية ينسب السبب إلى الالتزام ويتصور أن يكون غير موجود . ولكن لا يجوز أن يفهم منذ لك أن القانون الجديد قد استبقى النظرية التقليدية ، فإن الأعمال التحضيرية صريحة في أنه قد نبذها واعتنق النظرية الحديثة ( [541] ) .
3 – إثبات السبب
295 – النصوص القانونية : نصت المادة 137 من القانون الجديد على ما يأتي :
" 1 - كل الالتزام لم يذكر له سبب في العقد يفترض أن له سببا مشروعا ، ما لم يقم الدليل على غير ذلك " .
" 2 - ويعتبر السبب المذكور في العقد هو السبب الحقيقي حتى يقوم الدليل على ما يخالف ذلك ، فإذا قام الدليل على صورية السبب فعلي من يدعي أن للالتزام سببا أخر مشروعا أن يثبت ما يدعيه " ( [542] ) .
وهذا النص لا مقابل له في القانون القديم ، ولكنه يقرر أحكاماً غير مستحدثة . فقد كان القضاء المصري يطبقها من قبل . ولم يفعل القانون الجديد إلا أن قننها لما لها من أهمية عملية .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " أما فيما يتعلق بإثبات السبب فثمة قاعدتان اساسيتان : ( أولاهما ) افتراض توافر السبب المشروع في الالتزام ولو اغفل ذكره في العقد إلى أن يقوم الدليل على خلاف ذلك . ويكون عبء إثبات عدم وجود السبب أو عدم مشروعيته على عاتق المدين الذي يطعن في العقد . ( والثانية ) افتراض مطابقة السبب المذكور في العقد للحقيقة إلى أن يقيم المدين الدليل على صوريته . فإذا أقيم هذا الدليل وجب على الدائن أن يثبت توافر الالتزام على سبب حقيقي تلحق به صفة المشروعية " ( [543] ) .
ويتبين مما تقدم أن هناك فرضين : ( الأول ) أن يكون السبب غير مذكور في العقد . ( والثاني ) أن يكون هناك سبب ذكر في العقد ( [544] ) . ونستعرض كلا من الفرضين .
296 – السبب غير مذكور في العقد : وهذا هو الفرض الوارد في الفقرة الأولى من المادة 137 . وقد كان المنطق القانوني يقضي بأن الدائن ، وهو المكلف بإثبات الدين ، هو الذي يثبت السبب لأن الدين لا يقوم بدونه . ولكن القانون الجديد وضع قرينة قانونية يفترض بمقتضاها أن للعقد سبباً مشروعاً ولو لم يذكر هذا السبب . على أن القرينة قابلة لإثبات العكس . فإذا ادعى المدين أن للعقد سبباً غير مشروع سمع منه ذلك وكلف هو بإثباته . وله الإثبات بجميع الطرق ، بما في ذلك البينة والقرائن ( [545] ) . وقد كان الفقه ( [546] ) والقضاء ( [547] ) في مصر يأخذان بهذه الأحكام دون نص ، فجاء القانون الجديد مؤيداً لها كما قدمنا .
ويلاحظ أنه إذا ادعى المدين أن للعقد سبباً غير مشروع واثبت ذلك ، فعليه أيضاً أن يثبت علم الدائن بهذا السبب . وله إثبات هذا العلم بجميع الطرق لأنه واقعة مادية . ويستوي في ذلك إلا يكون السبب مذكوراً في العقد أو أن يكون قد ذكر سبب صوري وثبت أن السبب الحقيقي غير مشروع كما سيأتي :
297 – السبب مذكور في العقد : وهذا هو الفرض الوارد في الفقرة الثانية من المادة 137 . وقد وضع النص هنا أيضاً قرينة قانونية على أن السبب المذكور في العقد هو السبب الحقيقي الذي رضى المدين أن يلتزم من اجله . والقرينة قابلة لإثبات العكس . فإذا ادعى المدين أن السبب المذكور في العقد ليس هو السبب الحقيقي ، بل هو سبب صوري يستر سبباً غير مشروع ، فله أن يتخذ أحد موقفين : ( 1 ) إما أن يقتصر على إثبات الصورية ، وفي هذه الحالة ينتقل عبء إثبات السبب الحقيقي ومشروعيته إلى الدائن ( [548] ) ، ( 2 ) وإما أن يثبت رأساً أن السبب الحقيقي للعقد غير مشروع .
فإذا أراد أن يثبت صورية السبب . وكانت قيمة التزامه تزيد على عشرة جنيهات ، وجب أن يثبت ذلك بالكتابة أو بما يقوم مقامها ( [549] ) . ويكون الأمر كذلك أيضاً حتى لو لم تزد قيمة الالتزام على عشرة جنيهات إذا كان السبب الضروري مكتوباً ، لأنه لا يجوز إثبات عكس المكتوب إلا بالكتابة .
وإذا أراد المدين أن يثبت رأساً عدم مشروعية السبب ، فله أن يثبت ذلك بجميع الطرق ومنها البينة والقرائن ، حتى لو كان السبب الصوري مكتوباً ، ومهما بلغت قيمة الالتزام ، لأن إخفاء عدم المشروعية غش ، والغش يجوز إثباته بجميع الطرق ( [550] ) .
الفرع الرابع
الجزاء : نظرية البطلان ( * )
298 – نظرية البطلان في القانون القديم وفي القانون الجديد : بطلان العقد هو الجزاء القانوني على عدم استجماع العقد لأركانه كاملة مستوفية لشروطها ، على النحو الذي بيناه فيما تقدم . ولذلك كان منطقياً أن نتكلم في بطلان العقد على اثر الفراغ ، الكلام في أركانه .
ولم يكن القانون القديم يفرد مكاناً لنظرية البطلان ، بل كنا نجد القواعد العامة في البطلان تحتويها نصوص متناثرة في أمكنة متفرقة متباعدة ، كما هو شأن القانون المدني الفرنسي . أما القانون الجديد فقد عنى بأن يفرد لنظرية البطلان مكاناً خاصاً ، جمع فيه النصوص الرئيسية التي ترسم القواعد العامة في بطلان العقد ( م 138 – 144 ) . ونحن نبسط نظرية البطلان في هدى هذه النصوص ( [551] ) .
299 – ضرورة تمييز البطلان عما يقاربه من النظم : ويحسن منذ البداية أن نميز البطلان ( nullite ) عما يقاربه من النظم . نميز بينه وبين عدم السريان ( inopposabilite ) ، وبينه وبين الفسخ ( resolution ) .
فالبطلان هو إعدام اثر العقد بالنسبة إلى المتعاقدين ، وبالنسبة إلى الغير تبعاً لذلك .
وقد يكون العقد صحيحاً ينتج أثره فيما بين المتعاقدين ، ولكنه لا يسري في حق الغير . فالعقد الحقيقي في الصورية صحيح فيما بين المتعاقدين ، غير نافذ في حق الغير . والعقد غير المسجل صحيح فيما بين المتعاقدين ، ولكن لا يحتج به على الغير . والعقد غير ثابت التاريخ تاريخه حجة على المتعاقدين دون أن يكون حجة على الغير . والعقد الذي أبرمه المدين المعسر إضراراً بحق دائنه صحيح فيما بين المتعاقدين ، ولكن لا يسري في حق الدائن إذا طعن فيه بالدعوى البوليصية . والبيع في مرض الموت صحيح فيما بين المتعاقدين ، ولكن لا يسري في حق الورثة فيما يجاوز ثلث التركة . بل قد يكون العقد ثابت للإبطال فيما بين المتعاقدين وهو في الوقت ذاته لا يسري في حق الغير . فبيع ملك الغير قابل للإبطال فيما بين البائع والمشتري ، ثم هو لا يسري في حق المالك الحقيقي ، وقد يجيز المشتري العقد فيزول البطلان ويبقى عدم السريان . والبطلان إذا كان قابلا للزوال يزول بالاجازة ( confirmation ) على ما سنرى . أما عدم السران فيزول بإقرار الغير للعقد ( ratification ) على ما سنرى . أما عدم السريان فيزول بإقرار الغير للعقد ( ratification ) . ويلاحظ فيما قدمناه من الأمثلة أن " الغير " ليس له مدلول واحد ، فيختلف مدلوله في مثل عنه في المثل الآخر .
والفرق بين البطلان والفسخ أن البطلان يرجع إلى عيب في ركن من أركان العقد ، أما في الفسخ فاركان العقد سليمة مستوفية لشروطها ، فينشأ العقد صحيحاً ، ثم لا ينفذ أحد المتعاقدين التزامه فيسقط التزام المتعاقد الآخر ، ولذلك لا يكون الفسخ إلا في العقد الملزم للجانبين .
300 – أنواع البطلان : لما كان البطلان يعد العقد ، فإن المنطق يقضي بأن يكون البطلان درجة واحدة لا تقبل الدرج ، إذ العدم لا تفاوت فيه . ولكن نظرية البطلان ، مع هذه البساطة النقطة ، قد تعقدت لاعتبارات تاريخية ، ولاعتبارات ترجع إلى النصوص التشريعية ، ثم لمحاولة الفقهاء أن يقسموا البطلان تبعاً لذلك إلى مراتب متدرجة . ومن ثم قالت النظرية التقليدية بتقسيم ثلاثي للبطلان . وقد هوجمت من ناحيتين مختلفتين : فكثرة الفقهاء يكتفون بتقسيم ثنائي ، وبعضهم لا يكفيهم التقسيم الثلاثي ويذهب إلى تنويع البطلان مراتب متعددة .
فالنظرية التقليدية تقسم البطلان كما قدمنا إلى مراتب ثلاث : الانعدام ( inexistence ) والبطلان المطلب ( nullite absolue ) والبطلان النسبي ( nullite relative ) . وأساس التقسيم هو وجود أركان للعقد لا بد من قيامها حتى يتكون . ولهذه الأركان شروط لا بد من توافرها حتى لا تختلف . وركن من هذه الأركان – وهو الرضاء – لا بد أن يصدر من ذي أهلية كاملة وألا يكون مشوباً بعيب حتى يكون صحيحاً . وأركان العقد الرضاء والمحل والسبب ، وكذلك الشكل في العقود الشكلية ، فإذا انعدم ركن منها أكان العقد منعدماً . وشروط المحل أن يكون ممكناً معيناً مشروعاً ، وشرط السبب أن يكون مشروعاً ، فإذا اختل شرط من هذه الشروط كان العقد باطلا بطلاناً مطلقاً . وإذا صدر الرضاء من ناقص الأهلية أو شابه عيب كغلط أو تدليس أو إكراه ، كان العقد باطلا بطلاناً نسبياً .
وكثرة الفقهاء تنعي على النظرية التقليدية تمييزها بين العقد المنعدم والعقد الباطل بطلاناً مطلقاً . إذ التمييز يصطدم من المنطق ، وليس بذي فائدة . أما أنه يصطدم من المنطق فلأن العقد الباطل بطلاناً مطلقاً ليس له وجود قانونين ، فهو يستوي في الانعدام مع العقد المنعدم ، ولا يمكن أن يقال إن العقد المنعدم اشد انعداماً من العقد الباطل بطلاناً مطلقاً إذ لا تفاوت في العدم كما قدمنا . وأما أن التمييز غير ذي فائدة فلأن أحكام العقد الباطل بطلاناً مطلقاً هي عين أحكام العقد المنعدم : كلا العقدين لا ينتج أثراً ، ولا تلحقه الإجازة ، ولا يرد عليه التقادم . والواقع أن التمييز بين الانعدام والبطلان المطلق خلقه الفقه الفرنسي في مناسبة عقد الزواج ، إذ قرر هذا الفقه ألا بطلان في هذا العقد دون نص ، صيانة له من التزعزع . فقامت حالات بطلان لا شك فيها ، ولكن لم يرد في شأنها نص ، كما إذا كان الزوجان من جنس واحد ، وكما إذا تولى العقد من ليست له الصفة الرسمية في توليه . فخلقت نظرية الانعدام حتى تغطى هذه الحالات . وكان الأولى عدم التقيد بالقاعدة الضيقة التي تقضي بان الطبلان لا يكون بغير نص في عقد الزواج ، أو في القليل قصر هذه القاعدة على الزواج فإن طبيعته تغاير طبيعة العقود في دائرة المعاملات المالية .
وهناك من الفقها من يذهب ، على النقيض مما تقدم ، إلى عدم الاقتصار على مراتب البطلان الثلاث التي تقول بها النظرية التقليدية . فإن هذا التقسيم الثلاثي في نظرهم تقسيم ضيق جامد لا يتسع لمختلف الحاجات . وأصحاب هذا الرأي يقولون إن القانون عين شروطاً للعقد حتى ينتج آثاراً معينة ، وكل شرط من هذه الشروط يتطلبه القانون للوفاء بغرض معين ، فإذا اختل شرط كان العقد باطلا في الناحية التي تتلاءم مع هذا الشرط ، فتتعدد وجوه البطلان وتتنوع مراتبه تبعاً للأغراض التي تواخها القانون ( [552] ) . ومهما قيل في مرونة هذا الرأي وفي أنه يفسر استعصاء بعض مسائل البطلان على الخضوع للقواعد التقليدية ، كما في إجازة الواهب أو ورثته لهبة لم يتوافر فيها شرط الشكل ( م 489 جديد ) ، وكما في شذوذ بيع ملك الغير وإمكان إجازته بإقرار المالك وهو أجنبي ( م 467 جديد ) ، وكما في بطلان عقد الشركة الذي لم يستوف الشكل مع عدم جواز أن يحتج الشركاء بهذا البطلان على الغير ( م 507 جديد ) ، إلا أن هذه الحالات الخاصة لها ما يفسرها تفسيراً ملائماً ، وهي لا تسوغ نقض القواعد الثابتة المستقرة في البطلان لتحل محلها قواعد ليس لها من الثبات والاستقرار ما يبرر الاطمئنان إليها ( [553] ) .
فالوقوف عند التقسيم الثلاثي خير من تشتت قواعد البطلان في غير ثبات ولا استقرار . وخير من التقسيم الثلاثي التقسيم الثنائي إلى عقد باطل بطلاناً مطلقاً ( ويدخل فيه العقد المنعدم ) وعقد باطل بطلاناً نسبياً ، لما قدمناه من عيب التمييز ما بين العقد المنعدم والعقد الباطل بطلاناً مطلقاً . بل خير من التقسيم الثنائي الرجوع إلى المنطق الصحيح وجعل البطلان درجة واحدة لا تفاوت فيها هي البطلان المطلق . ذلك لأن العقد الباطل بطلاناً نسبياً يمر كما سنرى على مرحلتين : ( المرحلة الأولى ) قبل أن يتعين مصيره بالاجازة أو بالإبطال ، ويكون له في هذه المرحلة وجود قانونين كامل ، فينتج كل الآثار القانونية التي كانت تترتب عليه لو نشأ صحيحاً . ( والمرحلة الثانية ) يلقى فيها العقد أحد مصيرين ، فإما أن تلحقه الإجازة أو يتم في شأنه التقادم فيزول البطلان ويستمر العقد صحيحاً منشئاً لجميع آثاره ، فلا يعود هناك فرق بينه وبين العقد الصحيح ، وإما أن يتقرر بطلانه فينعدم وجوده القانونين انعداما تاماً وتزول جميع الآثار القانونية التي أنشأها ويكون لهذا كله اثر رجعي ، فلا يعود هناك فرق بينه وبين العقد الباطل بطلاناً مطلقاً . فالعقد الباطل بطلاناً نسبياً كما نرى لا يعدو في مآله أن يكون عقداً صحيحاً إذا لحقته الإجازة أو ورد عليه التقادم ، أو عقداً باطلا بطلاناً مطلقاً إذا تقرر بطلانه . فهو إما عقد صحيح على الدوام ، وإما عقد باطل بطلاناً مطلقاً منذ البداية . والواقع من الأمر أن البطلان النسبي ليس شيئاً مستقلا يقوم إلى جانب البطلان المطلق ، وما هو إلا تعبير مناسب عن حالة عقد يمر على المرحلتين المتقدم ذكرهما ، فيؤول أمره في النهاية إلى الصحة التامة أو إلى البطلان المطلق . ومن ثم فليس هناك إلا نوع واحد من البطلان ، يندمج فيها البطلان النسبي ، كما اندمج فيه الانعدام ( [554] ) .
301 – تأصيل البطلان : على أن إرجاع أنواع البطلان كلها إلى البطلان المطلق إذا كان يرضى المنطق القانونين فهو لا ييسر الصياغة الفنية لنظرية البطلان وما تواجهه من حالات متغايرة تقتضي شيئاً من التنوع . والأولى من ناحية الصياغة المحضة الرجوع إلى التقسيم الثنائي ، فيكون العقد باطلا بطلاناً مطلقاً أو باطلا بطلاناً نسبياً ، أو كما يقول القانون الجديد يكون العقد باطلا أو قابلا للإبطال . ونقف عند هذا التقسيم ، على أن نتولى تأصيله .
فالبطلان إما أن يرجع إلى اعتبارات شكلية أو إلى اعتبارات موضوعية . ففي الحالة الأولى يكون العقد الشكلي الذي لا يتوافر ركن الشكل فيه باطلا ، ولكن بالقدر الذي يتطلبه القانون من الشكل . وقد أسلفنا أن الشكل إنما هو من صنع القانون ، والقانون هو الذي يعين له الجزاء الكافي في حالة الإخلال به . فقد يجعل العقد الذي لم يستوف الشكل المطلوب باطلا لا تحلقه الإجازة . وقد يسمح باجازته كما في الهبة الباطلة شكلا ( م 489 جديد ) وكما في الشركة التي لم تستوف الشكل المطلوب ( م 507 جديد ) . وقد يجعل الشكل من المرونة بحيث يقبل أن يستكمل وأن يحتج به فرض دون فرض كما في شركات التضامن والتوصية . فالشكل كما قدمنا من خلق القانون ، صنعه على عينه ، ويقده على القالب الذي يختاره ( [555] ) . ونحن في هذه الدائرة وحدها – دائرة البطلان لعدم استيفاء الشكل المطلوب – نتمشى مع القائلين بتنوع مراتب البطلان .
أما إذا رجع البطلان إلى اعتبارات موضوعية ، فهنا يجب التأصيل عن طريق تحليل عناصر العقد . وقبل ذلك نقول أن البطلان قد يرجع إلى نص في القانون لحكمة يتوخاها المشرع ، كما في بطلان بيع ملك الغير ( م 466 جديد ) وفي بطلان تصرف السفيه الصادر قبل تسجيل قرار الحجر ( م 115 جديد ) . وهذا النوع من البطلان هو بطلان خاص يتبع في شأنه النص الذي يعالجه . ولكن البطلان الذي يخضع للقواعد العامة يرجع أكثر ما يرجع إلى اعتبارات موضوعية نتولى الآن تقعيدها .
ذلك أن للعقد أركاناً ثلاثة هي الرضاء والمحل والسبب . فإذا انعدم أي ركن منها فإن العقد لا يقوم طبيعة ، ويكون باطلا . ومثل انعدام الركن اختلال شرطه . فالرضاء يشترط فيه التمييز وتقابل الإيجاب والقبول مع تطابقهما ، والمحل يشترط فيه الإمكان والتعيين والمشروعية ، والسبب تشترط فيه المشروعية . فشروط التمييز والتقابل والتطابق في الرضاء ، وشرط الإمكان والتعيين في المحل هي شروط طبيعية لا يقوم العقد بدونها . وشرط المشروعية في المحل وفي السبب هو شرط قانونين لا يقوم العقد أيضاً بدونه . فإذا اختل شرط من هذه الشروط كان العقد باطلا ( [556] ) . والبطلان هنا تمليه طبيعة الأشياء أو يفرضه القانون حماية لمصلحة عامة . والعقد الباطل منعدم طبيعة أو شرعاً ، فلا ينتج أثراً ، ويجوز لكل ذي مصلحة أن يتمسك ببطلانه ، وللمحكمة أن تقضي بالبطلان من تلقاء نفسها ، ولا تصح إجازته ، ولا يرد عليه التقادم .
وهناك ركن في العقد قد يقع أن يكون قائماً مستوفياً لشروطه ولكن لا تتوافر له أسباب الصحة ، وهذا هو الرضاء . فالرضاء كما رأينا يكون موجوداً مستوفياً لشروطه حتى لو صدر من ناقص الأهلية وحتى لو صدر عن غلط أو تدليس أو إكراه أو استغلال ، ولكنه يكون رضاء معيباً غير صحيح . وفي هذه الحالة يقوم العقد مستوفياً أركانه ، فهو منعقد تترتب عليه آثاره . ويبقى أن المتعاقد الذي صدر منه رضاء مختل أو رضاء معيب يكون من حقه أن يحميه القانون إذا هو طلب هذه الحماية . فله وحده أن يطلب إبطال العقد ، كما له أن يجيزه ، وإذا سكت سقط حقه في إبطال العقد بالتقادم . ذلك أن هذا الحق في إبطال العقد إنما قرره القانون لا لحماية مصلحة عامة ، بل لحماية مصلحة المتعاقد الخاصة ، يعالج به ما اعتور رضاءه من نقص ( [557] ) .
وليس فيما قدمناه من تأصيل للبطلان إلا نتائج منطقية لمقدمات تؤدى إليها ، ومعلولات معقولة لعلل ظاهرة ( [558] ) .
302 – خطة البحث : والآن نستطيع أن نرسم خطة لبحث نظرية البطلان . فالعقد الباطل والعقد القابل للإبطال يمران بأدوار مختلفة منذ نشأتهما إلى أن يتقرر بطلانهما . فقد يترتب عليهما بعض الآثار ، وقد يرد على العقد القابل للإبطال الإجازة أو التقادم فينقلب صحيحاً . ولكن في أكثر الأحوال يطلب ذو الشأن تقرير بطلان العقد فينعدم .
فالأدوار إذن ثلاثة : ( 1 ) ترتيب الآثار . ( 2 ) الإجازة والتقادم . ( 3 ) تقرير البطلان . ونتولى بحث كل من هذه الأدوار .
المبحث الأول
الآثار التي تترتب على العقد الباطل والعقد القابل للإبطال
303 – الآثار العرضية والآثار الأصلية : العقد الباطل ليس عملا قانونياً ( acte juridique ) إذ هو كعقد لا وجود له ، ولكنه عمل مادي ( acte materiel ) أو واقعة قانونية ( fait juridique ) . وهو بهذه المثابة قد ينتج أثراً قانونياً ، ليس هو الأثر الأصلي الذي يترتب على العمل القانونين باعتباره عقداً ، بل هي اثر عرضي يترتب على العمل المادي باعتباره واقعة قانونية . على أن العقد الباطل قد ينتج في حالات الاستثنائية أثره الأصلي باعتباره عقداً ، وهذا شذوذ تقتضيه تارة ضرورة استقرار التعامل ، وطوراً وجوب حماية حسن النية .
والعقد القابل للإبطال إذا تقرر بطلانه انعدم منذ البداية ، وصار هو والعقد الباطل بمنزلة سواء . فإذا قلنا العقد الباطل ، كان المقصود أن يدخل في مضمونه العقد القابل للإبطال بعد أن يتقرر إبطاله ( [559] ) .
ونتناول الآن كلا من الآثار العرضية والآثار الأصلية للعقد الباطل .
المطلب الأول
الآثار العرضية للعقد الباطل
304 – استعراض بعض هذه الآثار : قد ينتج العقد الباطل آثاراً باعتباره واقعة مادية كما قدمنا . من ذلك الزواج غير الصحيح ، فهو في الشريعة الإسلامية لا ينتج آثاره الأصلية كحل التمتع ووجوب النفقة والتوارث ما بين الزوجين ، ولكنه ينتج آثاراً عرضية كوجوب العدة في بعض الأحوال ووجوب المهر بعد الدخول وثبوت النسب احتياطاً وسقوط الحد ولو مع العلم بالبطلان على خلاف في الرأي ( [560] ) . وهذه الآثار لا تترتب على الزواج باعتباره عقداً ، فهو بهذا الاعتبار باطل لا ينتج أثراً ، ولكنها تترتب عليه باعتباره واقعة مادية . فإذا وقع أن رجلا وامرأة ارتبط أحدهما بالآخر كما لو كانا زوجين ، فالعدة واجبة على اثر هذا الاتصال الفعلي ، والبنوة تابتة بطبيعة الأشياء ، والمهر بمثابة تعويض عن الدخول ، وسقوط الحد عند من يقولون به يكون للشبهة لا لقيام رباطة الزوجية .
وهناك من الإجراءات ما يكون باطلا ، ولكنه ينتج بعض الآثار . من ذلك صحيفة الدعوى إذا كلف فيها المدعى عليه بالحضور أمام محكمة غير مختصة ، فتكون باطلة وهي مع ذلك تقطع التقادم ( م 383 جديد ) . ومن ذلك أيضاً العطاء اللحق في المزايدة يسقط العطاء السابق حتى لو كان العطاء اللاحق باطلا ( م 99 جديد ) .
ومن أهم الآثار العرضية التي ينتجها العقد الباطل أثران يستخلصان من تطبيق نظريتين معروفتين ، إحداهما نظرية تحول العقد ، والأخرى نظرية الخطأ عند تكوين العقد . ونقول كلمة موجزة عن كل منهما .
1 – نظرية تحول العقد ( * )
( Conversicn du contrat )
( ونظرية انتقاص العقد Reduction du contrat )
305 – النصوص القانونية : لم يكن القانون القديم يتضمن نصاً يقرر النظرية كمبدا عام ولكن القضاء كان يطبقها في بعض الحالات . أما القانون الجديد فقد أورد فيها نصاً صريحاً هو المادة 144 ، وهي تجري على الوجه الآتي :
" إذا كان العقد باطلا أو قابلا للإبطال وتوافرت فيه أركان عقد أخر ، فان العقد يكون صحيحا باعتباره العقد الذي توافرت أركانه ، إذا تبين أن نية المتعاقدين كانت تنصرف إلى إبرام هذا العقد ( [561] ) " .
ونظرية تحول العقد نظرية ألمانية ، صاغها الفقهاء الألمان في القرن التاسع عشر ، واخذ بها التقنين الألماني كقاعدة عامة في نص صريح هو المادة 140 ( [562] ) . وعلى نهج التقنين الألماني سار القانون المدني الجديد .
306 – كيف يتحول لتصرف الباطل إلى تصرف آخر صحيح : وتتلخص النظرية في أن التصرف الباطل قد يتضمن رغم بطلانه عناصر تصرف آخر ، فيتحول التصرف الذي قصد إليه المتعاقدان وهو التصرف الباطل ، إلى التصرف الذي توافرت عناصره وهو التصرف الصحيح . وبذلك يكون التصرف الباطل قد أنتج أثراً قانونياً عرضياً لا أصلياً .
ومن الأمثلة على تحول التصرف الباطل إلى تصرف آخر صحيح " كمبيالة " لم تستوف الشكل الواجب فتتحول من كمبيالة باطلة إلى سند عادي صحيح . ومن الأمثلة أيضاً شخص يتعهد تعهداً لا رجوع فيه أن يجعل آخر وارثا ً له ، فيكون التعهد باطلا لأن الشريعة الإسلامية لا تعرف عقد إقامة الوارث ( institution d'heritier ) ، ولكنه يتحول إلى وصية صحيحة يجوز الرجوع فيها . ومن أمثلة التحول كذلك وصية لاحقة لوصية سابقة ، فإذا كانت الوصية اللاحقة باطلة تحولت إلى عدول صحيح عن الوصية السابقة . ومثل هذا تصرف باطل في شيء كان قد أوصى به المتصرف قبل صدور التصرف ، فيتحول التصرف الباطل إلى عدول صحيح عن الوصية .
307 – شروط تحول العقد : ويتبين مما تقدم أن هناك شروطاً ثلاثة لتحول التصرف الباطل إلى تصرف آخر صحيح : ( 1 ) بطلان التصرف الأصلي . ( 2 ) وتضمنه لعناصر تصرف آخر . ( 3 ) وانصراف إرادة المتعاقدين المحتملة إلى هذا التصرف الآخر ( [563] ) .
فيجب أولاً أن يوجد تصرف أصلي باطل . وتترتب على هذا الشرط نتيجتان : ( 1 ) لو أن التصرف الأصلي كان صحيحا؟ً ، فلا يتحول إلى تصرف آخر كان المتعاقدان يؤثرانه على التصرف الأول ، حتى لو تضمن التصرف الصحيح عناصر هذا التصرف الآخر . مثل ذلك هبة صحيحة تتضمن عناصر الوصية ، ويتبين أن كلا من الواهب والموهوب له كان يفضل الوصية على الهبة ، فلا تتحول الهبة إلى وصية في هذه الحالة ، لأن الهبة وقعت صحيحة ، ولا يتحول إلا التصرف الباطل . ( 2 ) يجب أن يكون التصرف الأصلي باطلا بأكمله . أما إذا كان جزء منه باطلا وكان التصرف قابلا للانقسام ، فلا يكون هناك محل لتحول التصرف ، بل لانتقاصه ( reduction ) ، فيزول الجزء الباطل ويبقى الجزء الصحيح . وقد نصت المادة 143 من القانون المدني الجديد صراحة على هذا الحكم ، فقضت بأنه " إذا كان العقد في شق منه باطلا أو قابلا للأبطال فهذا الشق وحده هو الذي يبطل ، إلا إذا تبين أن العقد ما كان ليتم بغير الشق الذي وقع أو قابلا للأبطال فيبطل العقد كله " ( [564] ) . مثل ذلك قسمة أعيان بعضها موقوف وبعضها مملوك ، فتقع قسمة الموقوف باطلة ، وتبقى قسمة المملوك صحيحة ، إلا إذا اثبت من يطعن في القسمة كلها إنها ما كانت لتتم في المملوك دون الموقوف . ويتبين من ذلك أن وجود شرط باطل في وصية ، يكون من شأنه أن يبطل الوصية كلها إذا كان هو الدافع إلى التصرف ، أو يبطل هو وحده إذا لم يكن هو الدافع ، يدخل في نطاق قاعدة انتقاص العقد . ويدخل في نطاق هذه القاعدة أيضاً ما يشترط فيه القانون أن يقف عند رقم محدود على أن ينقص ما يزيد على هذا الرقم ، كعقد بقاء في الشيوع اتفق على أن تكون مدته أكثر من خمس سنوات فتنقص المدة إلى خمس ( م 834 جديد ) ، أو عقد قرض بفوائد تزيد على 7 في المائة فتنقص الفوائد إلى 7 في المائة ( م 227 جديد ) . في مثل هذه الأحوال ينتقص العقد لا يتحول ما دام قابلا للتجزئة . أما إذا لم يكن قابلا لها فإنه يبطل بأكمله . وقد يكون هناك محل في هذه الحالة لتحوله إلى عقد آخر صحيح ، كما قدم يكون هناك محل في حالة الانتقاص لتحول الجزء الباطل وحده إلى عقد آخر صحيح . وانتقاص العقد ليس إلا تطبيقاً للقواعد العامة ، وكان القضاء يأخذ به في ظل القانون القديم ( [565] ) .
ويجب ثانياً أن يتضمن التصرف الباطل جميع عناصر التصرف الآخر الذي يتحول إليه دون أن يضاف إلى هذا التصرف الآخر عنصر جديد . فإذا اختل هذا الشرط لم يجز التحول . مثل ذلك شخص باع أرضا من آخر ، وتبين أن الأرض غير مملوكة للبائع ، فلا يتحول العقد إلى بيع يقع على منزل مملوك للبائع ، حتى لو ثبت أن المتعاقدين كانا يقبلان ذلك لو علما بأن البائع لا يملك الأرض ( [566] ) .
ويجب أخيراً أن تنصرف إرادة المتعاقدين المحتملة إلى التصرف الآخر الذي تحول إليه التصرف الأصلي . وليس معنى ذلك أن المتعاقدين أرادا التصرف الآخر إرادة حقيقية ، بل معناها إنهما كانا يريدانه لو إنهما علما بان التصرف الأصلي باطل . فإرادتهما الواقعية انصرفت إلى التصرف الأصلي ، وانصرفت ارادتهما المحتملة إلى التصرف الآخر . ومن هنا نرى أن القاضي قد ا ستخلص من التصرف الباطل – باعتباره واقعة مادية – عناصر تصرف صحيح انصرفت إليه الإرادة المحتملة للمتعاقدين ، فأقام هذا التصرف الصحيح مقام التصرف الباطل ، وجعل ذاك أثراً عرضياً لهذا ( [567] ) .
نظرية الخطأ عند تكوين العقد ( * )
( Culpa in contrahendo )
308 - كيف يكون هناك خطأ عند تكوين العقد – وما هو جزاء هذا الخطأ : قد يكون العقد باطلا أو قابلا للإبطال ، ويكون سبب البطلان آتياً من جهة أحد المتعاقدين ، أما المتعاقد الآخر فيعتقد صحة العقد ، ويطمئن إلى ذلك ، ويبني تعامله على هذا الاعتقاد . فإذا تقرر بطلان العقد ، ناله من وراء ذلك ضرر لم يكن في حسابه . فهل يرجع بالتعويض على من كان سبب البطلان آتياً من جهته ، وعلى أي أساس قانونين يكون هذا الرجوع ؟
هذا هو وضع المسألة في نظرية الخطأ عند تكوين العقد . ووجه الصعوبة فيها أن العقد باطل ، فليس هناك إن عقد تؤسس عليه مسئولية المتعاقد الذي أتى سبب البطلان من جهته ، فكيف إذن يمكن الرجوع عليه ؟
ونأتي بأمثلة توضح ما أسلفناه . قد يكون العقد باطلا لا نعدام الرضاء ، كشخص يترك خاتمه عند آخر فيوقع هذا به عقداً يطمئن إليه الطرف الآخر ، وكمدير شركة يصدر سندات غير صحيحة يطمئن إليها من يشتريها ، وكالموجب يعدل عن إيجابه قبل أن يتلاقى بالقبول ولكن المتعاقد الآخر يطمئن إلى أن العقد قد تم . وقد يرجع سبب البطلان للمحل أو السبب ، كأن يبيع شخص شيئاً غير موجود أن لم تتوافر فيه شروط المحل ، وكأن يلتزم البائع لسبب غير مشروع ، ولكن المشتري لا يعلم سبب البطلان ويطمئن إلى قيام العقد . وقد يكون العقد قابلا للإبطال ، كأن يتقدم قاصر إلى التعاقد ويطمئن من يتعاقد معه إلى صحة العقد ، وكأن يقع أحد المتعاقدين في غلط لا يشترك معه فيه الطرف الآخر بل يطمئن إلى أن التعاقد صحيح ، وكمن يشتري من غير المالك معتقداً أنه المالك .
ومن هذه الأمثلة ما عالجه القانون بنصوص خاصة . فالموجب الذي يعدل عن إيجابه إذا وصل عدوله إلى الطرف الآخر بعد وصول الإيجاب لم يعتد بالعدول ( م 91 جدي ) . ولا يعتد بعدم مشروعية السبب إذا كان الطرف الآخر لا يعلم بذلك كما أسلفنا . ويلزم ناقص الأهلية بالتعويض إذا لجأ إلى طرق إحتيالية ليخفي نقص أهليته ( م 119 جديد ) . وإذا شاب التعاقد غلط لم يشترط فيه الطرف الآخر ولم يعلم به ، فالغط لا يؤثر في صحة العقد ( م 120 جديد ) . وإذا حكم للمشتري بإبطال البيع وكان يجهل أن المبيع غير مملوك للبائع ، فله أن يطالب بتعويض ولو كان البائع حسن النية ( م 468 جديد ) .
ولكن في غير الأمثلة التي ورد فيها نص خاص كيف يستطيع المتعاقد الذي اطمأن إلى صحة العقد أن يرجع على المتعاقد الذي أتى سبب البطلان من جهته ؟ يمكن القول منذ الآن إن العقد الباطل يعتبر واقعة مادية ، إذا توافرت فيها شروط الخطأ التقصيري ، رجع المتعاقد الذي اطمأن إلى صحة العقد بالتعويض عن هذا الخطأ على المتعاقد الذي أتى من جهته سبب البطلان . ومن ثم يكون العقد الباطل قد أنتج أثراً قانونيناً عرضياً ، لا على أساس أنه عقد ، بل على أساس أنه واقعة مادية .
309 – نظرية إهرنج في الخطأ عند تكوين العقد : على أن إهرنج ( Ihering ) الفقيه الألماني المعروف واجه هذا الفرض في صوره المتعددة ، فوضع له نظرية معروفة بنظرية الخطأ عند تكوين العقد ( Culpa in contrahendo ) . ودعاه إلى ذلك أن القانون الروماني كان في ألمانيا هو القانون المعمول به في عهده . ولم يكن هذا القانون يسلم بأن كل خطأ يرتب مسئولية مدنية ، بل كانت الأعمال الضارة التي توجب التعويض مقيدة بشروط معينة يقضي بها قانون أكيليا ( Aquilia ) المعروف . فلم يستطيع إهرنج أن يقرر أن العقد الباطل ، كواقعة مادية ، يعتبر خطأ يوجب التعويض . ولكنه نقب في نصوص القانون الروماني فعثر على بعض النصوص التي تقضي برجوع أحد المتعاقدين على الآخر في العقد الباطل بمقتضى دعوى العقد ذاتها ( [568] ) . واستخلص من ذلك أن العقد بالرغم من بطلانه ينشيء التزاماً بالتعويض كعقد لا كواقعة مادية . ولم يرد الاقتصار على التطبيقات التي وجدها في القانون الرومانين بل رسم مبدأ عاماً يقضى بأن كل متعاقد تسبب ، ولو بحسن نية ، في إيجاد مظهر تعاقدي اطمأن إليه المتعاقد الآخر بالرغم من بطلان العقد الذي قام عليه هذا المظهر ، يلتزم بمقتضى العقد الباطل ذاته أن يعوض المتعاقد الآخر ما أصابه من الضرر بسبب اطمئنانه إلى العقد ، بحيث يرجع إلى الحالة التي كان يصير إليها لو لم يتعاقد ( [569] ) .
وتتميز نظرية إهرنج هذه بان كلا من المقومات الثلاثة للمسئولية – الخطأ والعقد والتعويض – يتلون فيها بلون خاص .
أما الخطأ فينحصر في إقدام المتعاقد الذي أتى سبب البطلان من جهته على التعاقد ، وكان واجباً عليه أن يعلم بما يحول دون هذا التعاقد من أسباب توجب بطلان العقد . على أنه حتى لو فرض أن هذا المتعاقد كان لا يستطيع أن يعلم بسبب البطلان ، فإنه يبقى أن ضرراً قد وقع ، وأن من العدل أن يتحمله هو وقد وجد سبب البطلان في جانبه ، لا أن يتحمله المتعاقد الآخر وهو حسن النية ولم يكن في موقف يستطيع فيه أن يكشف عن هذا السبب . فوجود سبب البطلان في جانب أحد المتعاقدين هو في ذاته خطأ ( culpa ) يوجب التعويض .
وأما العقد الذي اخل به المتعاقد المسئول فقد كان من الممكن تصويره على أنه عقد ضمان التزم بمقتضاه هذا المتعاقد أن يكفل للمتعاقد الآخر صحة التعاقد . ووجه ذلك أن كل شخص أقدم على التعاقد يتعهد ضمناً ألا يقوم من جانبه سبب يوجب بطلان العقد ، ورضاء المتعاقد الآخر أن يتعاقد معه إنما هو قبول ضمني لهذا التعهد ، فيتم عقد الضمان بإيجاب وقبول ضمنيين . ولكن إهرنج يصطدم هنا أيضاً بقواعد القانون الرومانين فهذه القواعد ضيقة في العقد كما هي ضيقة في الخطأ . وليس كل إيجاب وقبول في القانون الروماني يعتبر عقداً . لذلك لا يقيم إهرنج مسئولية المتعاقد على عقد الضمان هذا ، إذ هو لا يعتبر عقداً كما قدمنا ، بل يقيمها على العقد الباطل ذاته ، ولكن لا كواقعة مادية فليس كل عمل ضار يعتبر خطأ في القانون الروماني ، بل كعقد حيث تسعفه مجموعة من النصوص استخلص منها إهرنج قاعدة عامة كما أسلفنا . فإذا قيل إن العقد باطل فرضاً فكيف ينتج أثراً ، أجاب إهرنج بأنه لا يجوز أن يجرد العقد الباطل من كلا آثاره ، وإذا نقص العقد ركن أو شرط فأصبح باطلا ، كان معنى البطلان أن العقد لا ينتج من الآثار القانونية ما يقابل هذا الركن أو هذا الشرط . واستشهد إهرنج على صحة هذا الرأي بتطبيقات مختلفة في القانون الروماني ( [570] ) . وهذا رأي يقرب كثيراً من نظرية تنوع مراتب البطلان التي سبقت الإشارة إليها . ونرى من ذلك أن إهرنج يرتب على العقد الباطل أثراً أصلياً ، لا باعتباره واقعة مادة ، بل على أساس أنه عقد . وهذه الحصيصة هي أبرز خصائص نظريته .
وأما التعويض فلونه الخاص في نظرية إهرنج هو ألا يكون تعويضاً كاملا كما في التعويض عن عقد صحيح . فالتعويض عن العقد الصحيح يكون عن المصلحة الايجابية ( interet positif – Erfullungs Interesse ) . أما التعويض عن العقد الباطل فيكون عن المصلحة السلبية ( interet negative – negative Vertrugs Interesse ) . ويأتي إهرنج بمثل يبين الفرق بين التعويضين : شخص احتج . غرفة في فندق وتخلف عن الحضور . فإذا كان العقد صحيحاً كان مسئولا عن تعويض المصلحة الايجابية ، أي عن الضرر الذي أصاب صاحب الفندق من عدم تنفيذ العقد ، فيدفع اجرة الغرفة . أما إذا كان العقد باطلا ومع ذلك اطمأن صاحب الفندق إلى صحة التعاقد ، فلا يرجع إلا بالمصلحة السلبية ، فيطلب تعويضاً عن الضرر الذي أصابه من جراء توهمه صحة العقد ليعود بهذا التعويض إلى الحالة التي كان عليها لو لم يوجد هذا المظهر الخداع من التعاقد . ويترتب على ذلك أنه لا يرجع بتعويض إلا إذا اثبت أن الغرفة قد طلبها آخرون فرفض الطلب لاعتقاده أن الغرفة محتجزة . وقد رأينا في الحالة الأولى أنه يرجع بأجرة الغرفة سواء طلب الغرفة آخرون أو لم يطلبها أحد . – ويكون التعويض عن المصلحة السلبية أقل عادة من التعويض عن المصلحة الايجابية . ويضرب إهرنج لذلك مثلا : تاجر باع عشرة صناديق من " السجاير " ، وكان العقد صحيحاً ولكن المشتري لم ينفذه ، فللبائع أن يطلب تعويضاً عن المصلحة الايجابية ، أي الربح الذي كان يجنبه من الصفقة والخسارة التي لحقته من عدم تنفيذ العقد كما لو تكبد نفقات في إرسال الصناديق واستردادها . أما إذا كان العقد باطلا ، بأن كان المشتري لم يطلب إلا صندوقاً واحداً مثلا ولكن وقع خطأ مادي في الرسالة جعل البائع يعتقد أن المطلوب هو عشرة صناديق ، فإن التعويض الذي يطلبه البائع يكون عن المصلحة السلبية حتى يعود للحالة التي كان عليها لو لم يوجد مظهر هذا التعاقد ، فيرجع بنفقات إرسال الصناديق واستردادها دون المكسب الذي كان يربحه لو تمت الصفقة . فالتعويض عن المصلحة السلبية هنا أقل التعويض عن المصلحة الايجابية . – وقد يكون مساوياً له ، وذلك أن التعويض عن المصلحة السلبية ينطوي هو أيضاً على عنصرين : الخسارة التي لحقت الدائن والمكسب الذي فاته . فإذا فرض أنه عرض على التاجر صفقة لبيع الصناديق العشرة بالثمن ذاته وامتنع عن إتمامها ظناً منه أن الصفقة الأولى قد تمت ، ففي هذه الحالة يرجع أيضاً بالمكسب الذي فاته إلى المصروفات التي أنفقها ، فيستوي التعويضان – وإذا فرض أن الصفقة التي امتنع عن إتمامها كانت تدر عليه ربحاً أكثر من ربح الصفقة الأولى ولكنه رفضها احتراماً لتعاقده الأول ، فإن التعويض عن المصلحة السلبية يكون في هذه الحالة اكبر من التعويض عن المصلحة الايجابية . ولكن الظاهر أن الدائن إذا تقاضى تعويضاً عن المصلحة السلبية ، فلا يصح أن يجاوز هذا التعويض حدود التعويض عن المصلحة الايجابية ، وإلا استفاد دون حق من بطلان العقد . – على أن التعويض عن المصلحة السلبية قد يكون في بعض الفروض منعدماً ، ففي المثال الذي نحن بصدده إذا فرض أن التاجر تبين بطلان العقد قبل أن يرسل الصناديق إلى المشتري وقبل أن تعرض عليه صفقة أخرى ، فإنه لا يتقاضى تعويضاً ما ، إذ لم يفته مكسب ولم يتكبد خسارة ( [571] ) .
310 – اثر نظرية إهرنج في القوانين الحديثة : وقد تأثرت بعض القوانين الحديثة بنظرية إهرنج سالفة الذكر . ونتعقب هذا الأثر في القانون الألماني بنوع خاص . ثم نرى إلى أي حد أخذ بالنظرية كل من القانون الفرنسي والقانون المصري القديم والقانون المصري الجديد .
أما في القانون الألماني فقد أخذ المشرع بنظرية الخطأ عند تكوين العقد ، ولكن لا كنظرية عامة ، بل في مواطن متفرقة . فنص في المادة 122 على أنه إذا كان إعلان الارادةب اطلا وفقاً للمادة 118 ( إرادة غير جدية ) ، أو طعن فيه بالبطلان على أساس المادتين 119 ( الغلط ) و 120 ( الخطأ في نقل الإرادة ) ، فعلى من صدرت منه هذه الإرادة إذا كانت موجهة إلى شخص معين أن يعوض هذا الشخص ، وإذا لم تكن موجهة لشخص ما أن يعوض أي شخص ، عن الضرر الذي أصابه لاعتقاده صحة الإرادة ، دون أن يجاوز مقدار التعويض حد ماله من المصلحة في أن تكون الإرادة صحيحة . وينقطع الالتزام بالتعويض إذا كان من أصابه الضرر يعلم أو يجب ضرورة أن يعلم سبب البطلان أو القابلية للإبطال . وهذا النص تطبيق لنظرية الخطأ عند تكوين العقد في فروض معينة : فرض الإرادة غير الجدية وفروض الغلط . ونصت المادة 307 من القانون الألماني على أن الطرف الذي يعلم ، أو يجب ضرورة أن يعلم ، عند إتمام عقد يرمى إلى عمل مستحيل ، باستحالة هذا العمل ، يلتزم بتعويض الطرف الآخر عن الضرر الذي أصابه من جراء اعتقاده بصحة العقد ، دون أن يجاوز مبلغ التعويض حد المصلحة التي لهذا الطرف في صحة العقد . على أنه لا محل للالتزام بالتعويض إذا كان الطرف الآخر يعلم ، أو يجب ضرورة أن يعلم ، بهذه الاستحالة . وهذا النص تطبيق آخر للنظرية في فرض بطلان العقد لاستحالة المحل ، ويتميز بأنه يشترط فيه خطأ من جانب الطرف المسئول ، فهو إما أن يكون عالماً باستحالة تنفيذ العقد وفي هذه الحالة يكون سيء النية ، وإما أن يكون في استطاعته أن يعلم بهذه الاستحالة وفي هذه الحالة يكون مقصراً ، فهو مخطئ في الحالتين ومسئوليته مبنية على هذا الخطأ . ونلاحظ أن القانون الألماني إذا كان قد أخذ بنظرية الخطأ عند تكوين العقد في الفروض التي قدمناها ، فإنه لم يبين المسئولية على خطأ عقدي كما فعل إهرنج ، فقد جعل المسئولية تقصيرية في الفرض كما رأينا ، وجعلها مسئولية مادية في الفروض الأولى .
أما في القانون الفرنسي فقد ذهبت بعض الفقهاء الفرنسيين إلى الأخذ بنظرية الخطأ عند تكوين العقد . واستند سالي في ذلك إلى نص المادة 1599 من القانون الفرنسي ، وهوي قضي بان بيع ملك الغير باطل ويترتب عليه الحكم بالتعويض إذا كان المشتري يجهل أن الشيء مملوك للغير . فمصدر التعويض في هذه الحال . في نظر سالي ، لا يمكن أن يكون خطأ من البائع فقد يكون حسن النية ، وإنما هو عقد ضمان يستخلص من ظروف التعاقد ، إذ أن البائع بإقدامه على البيع يكون قد تعهد ضمناً بكفالة صحة العقد ( [572] ) . على أن جمهرة الفقهاء الفرنسيين لا تأخذ بنظرية الخطأ عند تكوين العقد ، ونرى في حالة ما إذا كان العقد باطلا أن من أتى سبب البطلان من جهته لا يكون مسئولا إلا إذا ثبت خطأ في جانبه طبقاً لقواعد المسئولية التقصيرية ( [573] ) .
والقانون المصري القديم كالقانون الفرنسي لم يؤخذ فيه بنظرية الخطأ عند تكوين العقد ( [574] ) .
وكذلك هو الأمر في القانون الجديد . بل إن المشروع التمهيدي لهذا القانون كان قد تضمن نصاً يقرر هذا النظرية ، فحذف النص في المشروع النهائي " لأن نظرية الخطأ عند تكوين العقد نظرية ألمانية دقيقة يحسن عدم الأخذ بها " ( [575] ) . وإذا كانت الفقرة الأولى من المادة 142 من القانون الجديد تنص على أنه " في حالتي إبطال العقد وبطلانه يعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كان عليها قبل العقد " ، فليس المقصود من هذا كما سنرى التعويض عن المصلحة السلبية المعروفة في نظرية الخطأ في تكوين العقد ، بل أن يرد كل من المتعاقدين ما تسلمه من الآخر ، دون تعويض عن أية مصلحة ايجابية أو سلبية ، إلا إذا ثبت في جانب المسئول خطأ تقصيري ، وإذا تعذر الرد حكم بتعويض معادل . وإذا كانت المادة 119 تنص على أنه " يجوز لناقص الأهلية أن يطلب إبطال العقد ، وهذا مع عدم الإخلال بالزامه بالتعويض إذا لجأ إلى طرق إحتيالية ليخفي نقص أهليته " . فالتعويض هنا ، كما هو ظاهر ، مبنى على أساس المسئولية التقصيرية ، وهي ترجع إلى الطرق الإحتيالية التي استعملها القاصر ، بحيث لو لم يستعملها لما ألزم بتعويض لا عن مصلحة ايجابية ولا عن مصلحة سلبية . وإذا كانت المادة 468 في بيع ملك الغير قد نصت على أنه " إذا حكم للمشتري بإبطال البيع ، وكان يجهل أن المبيع غير مملوك للبائع ، فله أن يطالب بتعويض ولو كان البائع حسن النية " ، فذلك لأن المشرع قد اعتبر أن بيع الشخص لشيء غير مملوك له يعتبر في ذاته خطأ تقصيرياً يوجب التعويض ، ولو كان هذا الشخص حسن النية .
311 – رفض نظرية إهرنج والرجوع إلى فكرة الخطأ التقصيري دون الخطأ العقدي : والواقع من الأمر أن نظرية إهرنج كانت من نظريات الضرورة ، قال بها اضطراراً لما ضاق القانون الرومانين عن أن يتسع لحاجات التعامل ، فوسع من فكرة الخطأ ومن فكرة العقد كما رأينا . أما الآن فنحن في سعة من امرنا بعد أن تحررنا من قيود القانون الرومانين وأصبح كل خطأ موجباً للمسئولية أياً كان هذا الخطأ . فإذا ثبت في جانب من أتى سبب البطلان من جهته تقصير كان مسئولا ، ولن نحار في تكييف هذه المسئولية ، فهي مسئولية تقصيرية مبنية على الخطأ الثابت .
على أن نظرية الخطأ عند تكوين العقد نظرية غير صحيحة . فهي بين أمرين . إما أن تجعل قيام سبب البطلان في جانب المتعاقد خطأ حتما ، وقد يكون هذا المتعاقد يجهل كل الجهل سبب البطلان ولم يرتكب أي تقصير في ذلك ، فالخطأ هنا أقرب إلى فكرة تحمل التبعة منه إلى الخطأ التقصيري . وإما أن تفرض عقداً ضمنياً بكفالة التعاقد ، ونحن إنما نتناول هذا العقد ونقسر عليه المتعاقد قسراً ولا نتمشى في ذلك مع نيته الحقيقية . على أن هذا العقد الضمني لا يستقيم لنا في كل الأحوال . فلو أن سبب البطلان كان القصر ، أيكون القاصر ، وهو غير ملتزم بالعقد الصريح الذي تقرر إبطاله لنقص أهليته ، ملتزماً بالعقد الضمني الذي يكفل به صحة التعاقد ! وأين نقص الأهلية ! ألا يؤثر في العقد الضمني كما اثر في العقد الصريح ! وقل مثل ذلك في حالة بطلان العقد لعدم جدية الإرادة ، فمن كان هازلا في العقد الصريح إلا يكون أكثر هزلا في العقد الضمني ! ثم إن التعويض عن المصلحة السلبية دون المصلحة الايجابية ينطوي على شيء من التحكم قد يصعب تبريره في بعض الحالات . كذلك الباقي من المقومات الثلاثة للنظرية – الخطأ والعقد – في كل منهما انحراف غير مستساغ عن القواعد العامة ، وهو انحراف لم نعد الضرورة تبرره . والقانون الألماني ذاته لم يأخذ ، كما رأينا ، بالنظرية كقاعدة عامة ، بل قصر النص فيها على حالات معينة ، وهو في هذه الحالات حاد عن النظرية في الصميم منها ، فلم يجعل المسئولية عقدية ، بل جعلها تقوم تارة على تحمل التبعة وطوراً على التقصير ، وقد تقدم بيان ذلك .
فالأولى إذن الرجوع إلى فكرة المسئولية التقصيرية في الخطأ عند تكوين العقد ، واعتبار العقد الباطل واقعة مادية قد تستكمل عناصر الخطأ التقصيرى فتوجب التعويض . ويكون العقد الباطل ، في هذه الحالة أيضاً ، قد أنتج أثراً عرضياً ، لا باعتباره عقداً ، بل باعتباره واقعة مادية ( [576] ) .
المطلب الثاني
الآثار الأصلية للعقد الباطل
312 – لأي غرض يرتب العقد الباطل آثاره الأصلية : قد يرتب القانون في بعض الحالات على العقد الباطل آثاره الأصلية ، لا باعتباره واقعة مادية كما هو الأمر في الآثار العرضية ، بل باعتباره عقداً ، فيكون هو والعقد الصحيح بمنزلة سواء . وفي هذا خروج صريح على القواعد العامة ، يبرره أن هذه الحالات ترجع بوجه عام إلى فكرة حماية القانون للظاهر ( apparence ) لا سيما إذا اصطحب بحسن النية ( bonne foi ) ، وهذه رعاية واجبة لاستقرار التعامل .
فالظاهر المستقر الذي اطمأنت إليه الناس في تعاملهم يبقى ي حماية القانون حتى لو خالف الحقيقة ، ويقوم كما لو كان هو الحقيقة ذاتها . هذا الأصل الجوهري من أصول القانون ، الذي تندرج تحته نظرية الإرادة الظاهرة ونظرية التصرف المجرد ونظرية الصورية في مختلف تطبيقاتها ، يمتد أيضاً ليشمل العقد الباطل فيرتب عليه آثاره الأصلية كما لو كان عقداً صحيحاً .
313 – أمثلة من عقود باطلة ترتب آثارها الأصلية : ونورد بعض الأمثلة على ما قدمناه . فمن ذلك الشركة التجارية التي لم تستوف الإجراءات الواجبة قانوناً ، فإنها تقع باطلة ، ومع هذا فقد قضت المادة 54 من القانون التجارية بأنه إذا قضى ببطلان الشركة ، فإن تصفية حقوق الشركاء عن المعاملات التي تمت قبل طلب البطلان تجري وفقاً لشروط الشركة التي قضى ببطلانها . وهذا الحكم يجعل عقد الشركة الباطل ينتج آثاره الأصلية كما لو كان عقداً صحيحاً . ووجه ذلك أن الشركة التي قضى ببطلانها تعتبر في المدة السابقة على الحكم بالبطلان شركة واقعية ( societe de fait ) ، تنتج الآثار التي تنتجها الشركة الصحيحة ، ويعتبر تعامل الغير مع الشركة صحيحاً ، ويجني الشركاء الربح ويتحملون الخسارة ، ويقتسمون مال الشركة طبقاً للشروط التي اتفقوا عليها في العقد الباطل .
ومنذ لك ما نصت عليه المادة 1034 من القانون الجديد من أنه " يبقى قائماً لمصلحة الدائن المرتهن الرهن الصادر من المالك الذى تقرر إبطال سند ملكيته أو فسخه أو إلغائه أو زواله لأى سبب آخر ، إذا كان هذا الدائن حسن النية فى الوقت الذى ابرم فيه الرهن " . ويتبين من هذا النص أن عقد الرهن الصادر من شخص لا يملك العقار المرهون – إذ أن سند ملكيته قد أبطل أو فسخ أو ألغى أو زال لأي سبب – يبقى بالرغم من بطلانه مترتباً عليه آثاره الأصلية ، ومن أهمها قيام حق الرهن لمصلحة الدائن المرتهن .
وشبيه بذلك المالك إذا فسخ سند ملكيته ، فإن أعمال الإدارة التي صدرت من قبل الفسخ ، وبخاصة عقود الإيجار التي لا تزيد مدتها على ثلاث سنوات ، تبقى قائمة بالرغم من فسخ سند الملكية بأثر رجعي ، وذلك حماية لاستقرار التعامل في أعمال الإدارة .
ويتصل بذلك العقد الصوري ، وهو عقد لا وجود له ، ومع ذلك يقوم بالنسبة إلى الغير حسن النية إذا تعامل على مقتضاه . وكالعقد الصوري تصرفات الوارث الظاهر ، فإنها تبقى رعاية لاستقرار التعامل ، وهناك تطبيقات أخرى كثيرة للمبدأ القاضي بأن الخطأ الشائع يقوم مقام القانون ( error communis facit jus ) .
المبحث الثاني
الإجازة والتقادم
314 – مقارنة بين العقد الباطل والعقد القابل للإبطال من حيث الإجازة والتقادم : العقد الباطل لا وجود له منذ البداية . فلا يتصور أن تلحقه الإجازة أو أن يتقادم الدفع ببطلان أن العقد القابل للإبطال فهو في مرحلته الأولى ، كما رأينا ، يرتب جميع آثاره كالعقد الصحيح ، وإنما يكون لأحد المتعاقدين الحق في طلب إبطاله . ويزول هذا الحق بالنزول عنه ، وهذه هي الإجازة ، أو باقتضاء مدة معينة دون أن يستعمل ، وهذا هو التقادم . فالعقد القابل للإبطال إذن ، خلافاً للعقد الباطل ، تلحقه الإجازة ويرد عليه التقادم ( [577] ) .
ونفصل الآن ما أجملناه .
المطلب الأول
الإجازة ( Confirmation )
1 - العقد الباطل
315 – العقد الباطل لا تلحقه الإجازة : نصت الفقرة الأولى من المادة 141 من القانون الجديد على أنه " إذا كان العقد باطلا جاز لكل ذى مصلحة أن يتمسك بالبطلان ، وللمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها ، ولا يزول البطلان بالاجازة " ( [578] ) .
والعقد الباطل لا تلحقه الإجازة لأنه معدوم ، والعدم لايصير وجوداً ولو أجيز . وإذا كانت المادة 498 من القانون الجديد قد نصت على أنه " إذا قام الواهب أو ورثته مختارين بتنفيذ هبة باطلة لعيب في الشكل ، فلا يجوز لهم أن يستردوا ما سلموه " ، فإن ذلك يحمل على أن القانون هو الذي بعين الجزاء على مخالفة الشكل كما قدمنا ، فيجوز أن يجعل العقد الباطل لعيب في الشكل قابلا لأن تلحقه الإجازة . أو يقال إن الهبة الباطلة من ناحية الشكل يتخلف عنها ، بالنسبة إلى الواهب وإلى ورثته ، التزم طبيعي ، إذا قام أحد منهم بتنفيذه مختاراً كان هذا وفاء لا يسترد طبقاً لقواعد الالتزام الطبيعي ( [579] ) .
316 – ولكن يجوز عمله من جديد : وإذا كان العقد الباطل لا تلحقه الإجازة ، فإن هذا لا يمنع من أن يعاد عمله من جديد . وهناك فرق بين الإجازة ( confirmation ) وعمل العقد من جديد ( refection ) ( [580] ) . فالاجازة ، كما نسرى ، عمل قانونين صادر من جانب واحد هو المجيز ، ولها اثر رجعي يستند إلى وقت نشوء العقد المجاز . أما عمل العقد من جديد فيقتضي توافق الإرادتين لأنه عقد جديد ، ويكون تاريخ هذا العقد من وقت صدوره لا من وقت صدور العقد الباطل . ولذلك يجب توافر الأهلية في كل من المتعاقدين وقت عمل العقد الجديد ، ويكتفي بتوافرها في المجيز وقت الإجازة .
2 - العقد القابل للإبطال
317 – العقد القابل للإبطال تحلقه الإجازة : نصت المادة 139 من القانون الجديد على ما يأتي :
" 1 - يزول حق إبطال العقد بالإجازة الصريحة أو الضمنية " .
" 2 - وتستند الإجازة إلى التاريخ الذي تم فيه العقد ، دون إجلال بحقوق الغير ( [581] ) " .
وقد قدمنا أن الإجازة تلحق العقد القابل للإبطال لأن له وجوداً قانونياً ما دام بطلانه لم يتقرر ، وإن كان هذا الوجود مهدداً بالزوال ، فإذا لحقته الإجازة استقر .
والاجازة عمل قانونين صادر من جانب واحد ، فلا حاجة لاقتران قبول بها ، ولا يمكن الرجوع فيها بحجة أن القبول لم يصدر ( [582] ) .
والذي يجيز العقد هو الذي يثبت له الحق في التمسك بالطبلان . فناقص الأهلية و من شاب رضاءه عيب هما اللذان تصدر منهما الإجازة . وهذا ما يقضي به المنطق القانونين ، لأن الإجازة نزول عن التمسك بالبطلان ، ولا ينزل عن الحق إلا من يملكه ( [583] ) . ويجب في المجيز وقت الإجازة أن يكون كامل الأهلية بالنسبة إلى العقد الذي يجيزه ، وإلا تشوب الإجازة – وهي عمل قانونين كما قدمنا – عيب من عيوب الإرادة ، غلط أو تدليس أو إكراه أو استغلال . ومن أجل ذلك لا تصح الإجازة إلا إذا زال السبب الذي قرر القانون من اجله البطلان . فناقص الأهلية لا يستطيع إجازة العقد ما دام ناقص الأهلية ، فإذا استكمل أهليته جاز له ذلك . ومن شاب رضاءه عيب لا تكون إجازته صحيحة ما دام تحت تأثير هذا العيب ، حتى إذا انكشف الغلط أو افتضح التدليس أو ارتفع الإكراه صحت الإجازة بعد ذلك .
وتكون الإجازة صريحة أو ضمنية . ولا يشترط في الإجازة الصريحة أن تشتمل على بيانات معينة ( قارن م 1338 من القانون المدني الفرنسي ) ، بل كل عبارة يفهم منها الإجازة تصح ، بشرط أن تكون نية المجيز في الإجازة واضحة ( [584] ) . والاجازة الضمنية تكون بتنفيذ العقد من جانب من له الحق في التمسك بالبطلان ( [585] ) ، أو بإتيانه عملا مادياً يدل على نزوله عن التمسك بالبطلان ( [586] ) ، أو بتصرفه تصرفاً يفهم منه بوضوح أنه أجاز العقد كما إذا اشترى قاصر عيناً وبعد البلوغ تصرف فيها باعتباره مالكاً وهو عالم بأن له حق إبطال العقد الذي اشترى به العين ( [587] ) . وعبء إثبات الإجازة يقع على الطرف الآخر غير المجيز ، ولما كانت الإجازة غير صادرة منه فله أن يثبتها بجميع الطرق ولو بالبينة أو بالقرائن ( [588] ) .
318 – اثر الإجازة : وإذا أجيز العقد القابل للإبطال ، زال حق المتعاقد في التمسك بإبطال العقد ، واستقر وجود العقد نهائياً غير مهدد بالزوال . وهذا معناه أن العقد ينقلب صحيحاً بوجه بات . ويعتبر صحيحاً من وقت صدوره لا من وقت الإجازة ، لأن للاجازة أثراً رجعياً . ولكن هذا الأثر لا يكون إلا فيما بين المتعاقدين ، لا بالنسبة إلى الغير ممن كسب حقاً عينياً على الشيء موضوع العقد . فلو أن قاصراً باع عيناً ، وبعد بلوغه سن الرشد وقبل إجازته للبيع رهن العين ، فإن إجازته للبيع بعد ذلك لا تضر الدائن المرتهن ، وتنتقل العين إلى المشتري مثقلة بحق الرهن ( [589] ) .
والاجازة لا تتناول إلا العيب المقصود بهذه الإجازة . فإن كانت هناك عيوب أخرى بقى باب الطعن مفتوحا؟ً من اجلها . ومن ثم إذا تعاقد قاصر وكان وقاعاً في غلط ، وأجاز العقد بعد بلوغ سن الرشد فيما يتعلق بنقص الأهلية ، بقى له الحق في إبطال العقد للغلط .
المطلب الثاني
التقادم
1 - العقد الباطل
319 – دعوى البطلان تسقط بالتقادم : نصت الفقرة الثانية من المادة 141 من القانون الجديد على ما يأتي : " وتسقط دعوى البطلان بمضي خمس عشرة سنة من وقت العقد " ( [590] ) .
وكان المنطق يقضي بأن البطلان المطلق لا يزول بالتقادم ، لأن العقد الباطل معدوم ، والعدم لا ينقلب وجوداً مهما طال عليه الامد . وقد كان هذا رأينا في عهد القانون القديم ( [591] ) . ولكن القانون الجديد ، تمشياً مع محكمة النقض الفرنسية ( [592] ) ومع بعض الفقهاء الفرنسيين ( [593] ) ، قرر أن دعوى البطلان المطلق تسقط بالتقادم بانقضاء خمس عشرة سنة من وقت العقد ( [594] ) . وكان المشروع التمهيدي للقانون الجديد ( م 194 ) يقضي بان البطلان المطلق لا يزول بالتقادم . فعكس المشروع النهائي الحكم ، وانتقل الحكم معكوساً إلى القانون الجديد على النحو المبين في الأعمال التحضيرية ( [595] ) .
فإذا مضى على صدور العقد الباطل خمس عشرة سنة ، ثم رفع ذوى مصلحة دعوى البطلان ، أمكن دفعها بالتقادم . ذلك أن أوضاعاً قد استقرت منذ صدور العقد الباطل ، وبقيت دهراً طويلاً ، فوجب احترامها عن طريق إسقاط دعوى البطلان . ولكن هذا لا يعني أن العقد الباطل ذاته قد انقلب صحيحاً ، فهو لا يزال باطلا ، ولكن الدعوى ببطلانه لا تسمع لسقوطها بالتقادم .
320 – ولكن الدفع بالبطلان لا يسقط بالتقادم : ولأن العقد الباطل لا ينقلب صحيحاً بالتقادم ، بل يبقى كما كان دائماً معدوماً ، فالدفع بالبطلان لا يسقط بالتقادم مهما طالت المدة . فإذا باع شخص أرضا ، وكان البيع باطلا ، ولم يسلم الأرض للمشتري ، ومضى على صدور البيع خمس عشرة سنة ، فهو لا يستطيع أن يرفع دعوى بطلان البيع لسقوطها بالتقادم . ولكن ما دامت الأرض في يده ولم يسلمها للمشتري ، فهو في غير حاجة إلى رفع دعوى البطلان . وإذا رفع المشتري دعوى على البائع يطالبه بتسليم الأرض ، استطاع البائع أن يدفع الدعوى ببطلان البيع حتى بعد انقضاء خس عشرة سنة ، لأن الدفع بالبطلان لا يسقط كما قدمنا .
وحتى إذا سلم البائع الأرض للمشتري ، ومضى على صدور البيع خمس عشرة سنة ، فإن البائع يستطيع أن يسترد الأرض من المشتري ، لا بدوى بطلان البيع فقد سقطت هذه الدعوى بالتقادم ، ولكن بدعوى الاستحقاق وهي لا تسقط أبداً . فإذا تمسك المشتري في دعوى الاستحقاق بالبيع الباطل ، دفع البائع ببطلان البيع والدفع بالبطلان لا يسقط بالتقادم كما رأينا . فيتمكن البائع عن طريق دعوى الاستحقاق أن يسترد الأرض ، ما لم يكن المشتري قد كسب ملكيتها بالتقادم المكسب ، وهذا شيء آخر لا علاقة له بالتقادم المسقط لدعوى البطلان ( [596] ) . على أنه يلاحظ ، من الناحية العملية المحضة ، أن البائع يرى نفسه بعد تقادم دعوى البطلان ، وهي دعوى شخصية يسيرة الإثبات ، مضطراً لأن ينتقل إلى دعوى الاستحقاق ، وهي دعوى عينية أكثر تعقيداً وأصعب إثباتاً .
وكذلك المشتري إذا كان قد دفع الثمن في بيع باطل ، وأراد استرداده بعد انقضاء خمس عشرة سنة من صدور البيع ، جاز أن يسترده ، لا بدعوى بطلان البيع ، ولكن بدعوى استرداد ما دفع دون حق . فإذا تمسك البائع في دعوى الاسترداد بالبيع الباطل دفع المشتري ببطلانه وهو دفع لا يسقط . فيتمكن المشتري عن طريق دعوى استرداد ما دفع دون حق أن يسترد الثمن ، ما لم تسقط دعوى الاسترداد ذاتها بانقضاء خمس عشرة سنة تبدأ من وقت دفع الثمن لا من وقت صدور البيع .
ويتبين من ذلك أن سقوط دعوى البطلان بالتقادم ليس بذي اثر كبي رز فقد رأينا أن تقادم هذه الدعوى لا يمنع البائع من استرداد المبيع إذا كان قد سلمه ولا من استبقائه إذا كان لم يسلمه ، ولا يمنع المشتري من استرداد الثمن إذا كان قد دفعه ولا من الامتناع عن دفعه إذا كان لم يدفعه . أما إذا فقد البائع حقه في استرداد المبيع ، أوضاع على المشتري حقه في استرداد الثمن . فإن ذلك لا يرجع إلى التقادم المسقط لدعوى البطلان ، بل إلى التقادم المكسب لحق الملكية أو التقادم المسقط لدعوى الاسترداد ( [597] ) .
2 - العقد القابل للإبطال
321 – الدعوى والدفع يسقطان بالتقادم : نصت المادة 140 من القانون الجديد على ما يأتي :
" 1 - يسقط الحق في إبطال العقد إذا لم يتمسك به صاحبه خلال ثلاث سنوات " .
" 2 - ويبدأ سريان هذه المدة ، في حالة نقض الأهلية ، من اليوم الذي يزول فيه هذا السبب ، وفي حالة الغلط أو التدليس ، من اليوم الذي ينكشف فيه ، وفي حالة الإكراه من يوم انقطاعه ، وفي كل حال لا يجوز التمسك بحق الأبطال لغلط أو تدليس أو إكراه إذا انقضت خمس عشرة سنة من وقت تمام العقد " ( [598] ) .
ومن هذا النص يتبين أن الحق في إبطال العقد يسقط بثلاث سنوات أو بخمس عشرة سنة حسب الأحوال . فإذا انقضت هذه المدة انقلب العقد صحيحاً ، لا يجوز بعد ذلك إبطاله لا عن طريق الدعوى ولا عن طريق الدفع ( [599] ) . وهكذا يستقر الوجود القانونين للعقد بعد أن كان مهدداً بالزوال . ويصبح العقد في حكم المجاز ، يثبت وجوده منذ صدوره ، إذ للتقادم اثر رجعي كما للاجازة . ولكن هناك فرقاً بين عقد لحقته الإجازة وعقد زال بطلانه بالتقادم ، حيث حقوق الغير . فقد قدمنا أن الإجازة لا تضر بحقوق الغير ، أما في زوال البطلان بالتقادم فحقوق الغير تتأثر . مثل ذلاك أن يبيع قاصر عيناً ، ولا يتمسك بعد بلوغه سن الرشد بإبطال العقد ، فيتقادم البطلان ويزول ، ويعتبر البيع صحيحاً منذ صدوره . فلو أن البائع بعد أن بلغ سن الرشد وقبل تقادم البطلان رتب على العين رهناً ، ثم تم التقادم ، فإن ملكية العين تخلص للمشتري غير مثقلة بحق الرهن ، وهذا عكس ما قررناه في حالة الإجازة .
ويلاحظ أن هناك فرقاً جوهرياً بين تقادم دعوى البطلان في العقد الباطل وتقادمها في العقد القابل للإبطال . فقد قدمنا أن تقادم دعوى البطلان في العقد الباطل لا يقلب العقد صحيحاً ، بل يبقى العقد باطلا ، ولكن دعوى البطلان هي التي لا يجوز سماعها لتقادمها . أما تقادم البطلان في العقد القابل للإبطال فيقلب العقد صحيحاً كما رأينا ، ويبقى العقد مرتباً لجميع آثاره بوجه بات .
322 – مدة التقادم : وقد كانت مدة التقادم في العقد القابل للإبطال في القانون القديم خمس عشرة سنة تسري من وقت صدور العقد . وقد رأى القانون الجديد أن هذه مدة طويلة يبقى في خلالها العقد غير مستقر ، ومن أجل ذلك جعل المدة ثلاث سنوات فقط ، يبدأ سريانها من وقت استكمال ناقص الأهلية لأهليته ، أو من وقت انكشاف الغلط أو التدليس ، أو من وقت انقطاع الإكراه ، بحسب الأحوال . فإذا تعطل بدء سريان التقادم مدة طويلة ، بأن لم ينكشف الغلط مثلا إلا بعد أربع عشرة سنة ، فإن الحق في إبطال العقد يتقادم في هذه الحالة بانقضاء خمس عشرة سنة من وقت صدور العقد ، لا بانقضاء ثلاث سنوات من وقت انكشاف الغلط ، لأن المدة الأولى هي الأقصر . فالتقادم يكون إذن بأقصر الأجلين : ثلاث سنوات من وقت زوال العيب أو خمس عشرة سنة من وقت صدور العقد . ولا تكون المدة الثانية اقصر من المدة الأولى إلا في حالات استثنائية كالحالة التي تقدم ذكرها . وأياً كانت مدة التقادم ، فإنها توقف وتنقطع وفقاً للقواعد المقررة في التقادم .
وقد حذا القانون الجديد في تقصير مدة تقادم البطلان حذو القوانين الحديثة . أما القانون السوري الجديد فقد أمعن ، كالقانون السويسري ، في تقصير مدة التقادم في البطلان ، فنصت المادة 141 من هذا القانون على أن تكون هذه المدة سنة واحدة . وسنرى أن القانون المصري الجديد جعل مدة التقادم ثلاث سنوات أيضاً في الدعاوى التي تنشأ عن العمل غير المشروع وعن الإثراء بلا سبب . ولكن العلة تختلف هنا عنها هناك . فقد روعى في تقصير المدة في تقادم البطلان أن يستقر العقد في خلال مدة معقولة ، فلا يبقى مزعزعاً مدة طويلة . وروعى في تقصير المدة في تقادم الدعاوى التي تنشأ عن العمل غير المشروع وعن الإثراء بلا سبب أن الالتزامات في هذه الدعاوى لم يكن مصدرها إرادة الملتزم ، فهي تختلف من هذه الناحية عن الالتزامات العقدية التي تنشئها إرادة المدين ولا تتقادم إلا بخمس عشرة سنة . وسنعود إلى هذه المسألة عند الكلام في العمل غير المشروع وفي الإثراء بلا سبب . ويلاحظ أن مدة التقادم في الاستغلال – وهو عيب من عيوب الرضاء – اقصر من مدته في العيوب الأخرى . فقد مر بنا أن دعوى الاستغلال يجب أن ترفع في خلال سنة من تاريخ العقد ( م 129 فقرة 2 ) ، فتكون المدة في الاستغلال اقصر من ناحيتين : ناحية القياس الزمني وناحية مبدأ السريان .
323 – سريان مدة التقادم الجديدة على العقود المبرمة قبل نفاذ القانون الجديد : ولما كان القانون الجديد قد قصر مدة التقادم في البطلان على النحو الذي قررناه ، فإن هذه المدة القصيرة هي التي تسري بالنسبة إلى العقود التي أبرمت قبل نفاذ القانون الجديد إذا كان التقادم فيها لم يكتمل وقت نفاذ هذا القانون ، وذلك ما لم يكن الباقي من مدة التقادم المقررة في القانون القديم اقصر من المدة لتي قررها القانون الجديد ( م 8 جديد ) . ويتضح ذلك في المثل الآتي : قاصر ابرم عقداً في أول يناير سنة 1948 ، وبلغ سن الرشد في 15 يناير سنة 1949 . فيدرك القانون الجديد ، في 15 أكتوبر سنة 1949 ، هذا العقد وتقادم البطلان فيه لا يزال سارياً ، إذ بدأ هذا السريان منذ بلوغ القاصر سن الرشد في 15 يناير سنة 1949 . ولا يتم التقادم بحسب القانون القديم إلا بانقضاء خمس عشرة سنة ، أي في 14 يناير سنة 1946 . فيجب في هذه الحالة أن تسري المدة القصيرة التي قررها القانون الجديد ، وهي ثلاث سنوات ، ويكون مبدأ سريانها من وقت العمل بالقانون الجديد ، أي من 15 أكتوبر سنة 1949 . فيتم التقادم في 14 أكتوبر سنة 1952 وفقاً للقانون الجديد ، لا في 14 يناير سنة 1964 وفقاً للقانون القديم .
أما إذا كان القاصر قد بلغ سن الرشد في 15 يناير سنة 1936 ، وكان قد ابرم العقد قبل ذلك ، فإن التقادم يتم في هذه الحالة في 14 يناير سنة 1951 وفقاً للقانون القديم ، لا في 14 أكتوبر سنة 1952 وفقاً للقانون الجديد ( [600] ) .
المبحث الثالث
تقرير البطلان
( دعوى البطلان )
324 – مسائل ثلاث : يعنينا في تقرير البطلان أن نبحث مسائل ثلاثا : ( 1 ) من الذي يتمسك ببطلان العقد . ( 29 وكيف يتقرر البطلان . ( 3 ) وما الأثر الذي يترتب على تقريرها .
المطلب الأول
من الذي يتمسك بالبطلان
325 – العقد الباطل والعقد القابل للإبطال : في العقد الباطل يجوز أن يتمسك بالبطلان كل من له مصلحة في ذلك ، بل وللمحكمة أن تقضي بالبطلان من تلقاء نفسها . أما في العقد القابل للإبطال ، فلا يتمسك بالبطلان إلا المتعاقد الذي تقرر البطلان لمصلحته دون المتعاقد الآخر ( [601] ) .
ونفصل ما أجملناه .
1 - العقد الباطل
326 – النصوص القانونية : نصت الفقرة الأولى من المادة 141 على ما يأتي :
" إذا كان العقد باطلا جاز لكل ذي مصلحة أن يتمسك بالبطلان ، وللمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها ولا يزول البطلان بالإجازة " ( [602] ) .
وقد كان المشروع التمهيدي أوضح بياناً في تعيين ذوى المصلحة الذين لهم أن يتمسكو بالبطلان . فكانت المادة 194 من هذا المشروع تنص على أن " للمتعاقدين وللخلف العام والخاص وللدائنين التمسك بأوجه البطلان الواردة في المادة السابقة " .
327 - يتمسك بالبطلان كل ذي مصلحة وللمحكمة من تلقاء نفسها أن تقضي به : العقد الباطل لا وجود له كما قدمنا . وسنري أن بطلانه يتقرر عادة عن طريق الدفع ، وقد تقضي الضرورة العملية في بعض الحالات أن يكون تقرير البطلان عن طريق الدعوى . وسواء كان تقرير البطلان عن طريق الدفع أو عن طريق الدعوى ، فإن الذي يستطيع أن يتمسك بالبطلان هو كل شخص له مصلحة في ذلك ( [603] ) .
والمصلحة هنا يراد بها حق يؤثر فيه صحة العقد أو بطلانه . ويترتب على ذلك أن مجرد المصلحة . دون قيام هذا الحق . لا يكفي . فلا يجوز مثلا أن يتمسك الجار ببطلان ببيع صدر من جاره لآخر بحجة أن له مصلحة في التخلص من الجوار المشتري الجديد . ولا يحق لتاجر أن يطلب تقرير بطلان شركة ليتخلص من منافستها له .
ولكن إذا كان صاحب المصلحة له حق يؤثر فيه بطلان العقد جاز له التمسك بالبطلان . ففي البيع الباطل يستطيع كل من المتعاقدين أن يتمسك بالبطلان : البائع حتى يسترد المبيع ، والمشتري حتى يسترد الثمن . ودائنو كل من البائع والمشتري لهم أن يتمسكوا بالبطلان ، لا بطريق الدعوى غير المباشرة فحسب ، بل أيضاً بطريق مباشر ، وذلك ليستردوا المبيع أو الثمن فينفذوا عليه بحقوقهم . وورثة كل من البائع والمشتري يتمسكون بالبطلان لرد المبيع أو الثمن إلى التركة ، ولذلك أيضاً بمقتضى حق مباشر لهم ، وكل شخص رتب له البائع أو المشتري حقاً عينياً أو حقاً شخصياً بالنسبة إلى العين المبيعة يجوز له أن يتمسك بالبطلان ، فالمرتهن من البائع يطلب البطلان حتى يسلم له حق الرهن ، والمرتهن من المشتري يطلب البطلان حتى يسترد الدين ، ومستأجر العين المبيعة من البائع يطلب البطلان حتى يبقى في العين ولو كان عقد الإيجار غير ثابت التاريخ ، ومستأجرها من المشتري يطلب البطلان حتى يسترد الأجرة . وكل هؤلاء يطلبون البطلان ، لا عن طريق استعمال حق مدينهم بالدعوى غير المباشرة . بل بمقتضى حق مباشر لهم .
فالذين يجوز لهم التمسك بالبطلان إذن هم المتعاقدان والدائنون والخلف العام والخلف الخاص .
بل للمحكمة أيضاً أن تقضي بالبطلان من تلقاء نفسها ، لأن العقد الباطل ليس له وجود قانونين ، والقاضي لا يستطيع إلا أن يقرر ذلك .
328 – متى يجوز التمسك بالبطلان : إذا كان التمسك بالبطلان عن طريق الدعوى ، فلا بد من رفعها في خلال خمس عشرة سنة من وقت صدور العقد ، وإلا سقطت بالتقادم ، أما إذا كان التمسك بالبطلان عن طريق الدفع ، فيجوز ذلك في أي وقت كما سبق القول ، ويجوز إبداء الدفع في أية حالة كانت عليها الدعوى ، كما يجوز إبداؤه لأول مرة أمام محكمة الاستئناف ( [604] ) .
2 – العقد القابل للإبطال
329 – النصوص القانونية : نصت المادة 138 من القانون الجديد على ما يأتي :
" إذا جعل القانون لأحد المتعاقدين حقا في إبطال العقد فليس للمتعاقد الآخر أن يتمسك بهذا الحق " ( [605] ) .
وقد كان المشروع التمهيدي يورد هذا النص على وجه يبين الحكمة فيه ، فكانت المادة 196 من هذا المشروع تنص على أنه " ليس لغير الأشخاص الذين تقرر البطلان النسبي لمصلحتهم أن يتمسكوا بأوجه البطلان الواردة في المادة السابقة " .
330 – لا يتمسك بالبطلان إلا المتعاقد الذي تقرر البطلان لمصلحته : العقد القابل للإبطال لم تتقرر قابليته للإبطال إلا لمصلحة أحد المتعاقدين . فهذا المتعاقد وحده ، دون المتعاقد الآخر ، هو الذي يجوز له أن يتمسك بالبطلان . فإذا كان سبب القابلية للإبطال نقص الأهلية ، فناقص الأهلية وحده هو الذي يتمسك بالبطلان ( [606] ) . وإذا كان السبب هو عيب شاب الإرادة ، فمن شاب إرادته العيب هو الذي يتمسك بإبطال العقد . وفي بيع ملك الغير المشتري وحده هو الذي يتمسك بالبطلان .
ولا يستطيع أن يطلب إبطال العقد لا الدائن ولا الخلف العام ولا الخلف الخاص بمقتضى حق مباشر لهم ، ولكن يستطيعون ذلك باعتبارهم دائنين للمتعاقد ، فيستعملون حقه في طلب إبطال العقد عن طريق الدعوى غير المباشرة .
كذلك لا تستطيع المحكمة أن تقضي بإبطال العقد من تلقاء نفسها إذا لم تتمسك بالإبطال المتعاقد ذو المصلحة .
331 – متى يجوز التمسك بالبطلان : ويجوز التمسك بالبطلان ، دعوى أو دفعا ، ما دام البطلان لم يسقط بالتقادم بانقضاء المدة المقررة ، ثلاث سنوات من وقت زوال العيب أو خمس عشرة سنة من وقت نشوء العقد . ويجوز إبداء الدفع بالبطلان في أية حالة كانت عليها الدعوى على النحو الذي بيناه في العقد الباطل .
المطلب الثاني
كيف يتقرر البطلان
1 – العقد الباطل
332 – لا حاجة إلى حكم لتقرير البطلان : لما كان العقد الباطل ليس له وجود قانونين ، فلا حاجة إذن لصدور حكم بابطاله ، ولا ضرورة للحكم بالعدم على معدوم . وهذه نتيجة منطقية تستقيم في كثير من الأحوال ، فلا يحتاج من له مصلحة في تقرير البطلان أن يرفع دعوى بذلك ، وما عليه إلا أن يعتبر العقد الباطل معدوماً ، ويصدر في تصرفه عن هذا الاعتبار . فلو كان العقد الباطل بيعاً ، كان للبائع دون أن يحصل على حكم ببطلان البيع أن يتصرف في المبيع ، فهو لا يزال في ملكه ، ويكون بيعه صحيحا ًز وإذا رفع المشتري في هذا المثل دعوى يطالب فيها بالمبيع ، أمكن البائع أن يدفع هذه الدعوى ببطلان البيع .
فالذي يتمسك بالبطلان في العقد الباطل يفعل ذلك في أكثر الأحوال عن طريق الدفع لا عن طريق الدعوى .
333 – ولكن قد تقضي ا لضرورة ؟؟؟ بالحصول على حكم : وذلك يتحقق إذا قضت الضرورة على المتمسك ببطلان عقد باطل أن يبادر إلى رفع دعوى البطلان . ويعرض هذا في بعض فروض عملية . منها أن يكون البائع في بيع باطل قد سلم المبيع إلى المشتري ، وأراد أن سترده ، فهو بين أن يرفع دعوى البطلان في مدى خمس عشرة سنة أو يرفع دعوى الاستحقاق في أي وقت ، فإذا رفع دعوى البطلان حصل على حكم ببطلان العقد . ومنها أن يكون وجه البطلان فيها خفاء ، لا سيما إذا كان البطلان يرجع إلى تقدير القاضي كما إذا كان سببه مخالفة النظام العام أو الآداب ، ففي مثل هذه الحالة تدعو الضرورة من له مصلحة في التمسك بالبطلان أن يرفع دعوى بذلك حتى يطمئن إلى تقدير المحكمة فيما ذهب إليه .
والحكم الذي يصدر في دعوى البطلان لا يبطل العقد الباطل ، بل يقتصر على الكشف عن بطلانه .
2 – العقد القابل للإبطال
334 – لا يتقرر البطلان إلا بالاتفاق أو بالقضاء : أما العقد القابل للإبطال فله وجود قانونين إلى أن يتقرر بطلانه . ومن ثم لا بد في تقرير البطلان من التراضي أو التقاضي . أما التراضي فيتم بين المتعاقدين بشرط أن يتتوافر الأهلية في كل منهما . فإذا لم يتم الاتفاق على إبطال العقد ، فالعقد لا يبطل حتى يرفع ذو المصلحة من المتعاقدين دعوى البطلان ويحصل على حكم بذلك . وحكم القاضي هو الذي يبطل العقد ، أي ينشيء البطلان ، ولا يقتصر على الكشف عنه كما في العقد الباطل . ولكن إذا رفعت دعوى الإبطال ووجد سببه قائماً ، فالقاضي لا يملك إلا أن يبطل العقد ، وليس له حق التقدير الذي سنراه له في حالة الفسخ ( [607] ) .
335 – فلا يتقرر بإرادة منفردة : ويتبين من ذلك أن المتعاقد ذا المصلحة إذا لم يستطيع الاتفاق مع المتعاقد الآخر على إبطال العقد ، فليس امامه إلا أن يرفع دعوى البطلان ليحصل على حكم بإبطال العقد . ولا يجوز له أن يستقل بإعلان البطلان بإرادته المنفردة ، كما أجاز لذلك كل من القانون الألماني وقانون الالتزامات السويسري ( [608] ) . وقد كان المشروع النهائي للقانون الجديد يتضمن نصاً يجيز إبطال العقد في حالة نقص الأهلية عن طريق الإعلان بالإرادة المنفردة ، فكانت الفقرة الثانية من المادة 142 من هذا المشروع تنص على ما يأتي : " ويكفي لإبطال العقد بسبب نقص الأهلية إعلان المتعاقد الآخر بذلك إعلاناً رسمياً يبين فيه سبب البطلان وأدلته ، فإذا تم الإعلان على هذا الوجه اعتبر العقد باطلا من وقت صدوره ، دون إخلال بحق المتعاقد الآخر في التمسك بصحة العقد بدعوى يرفعها في خلال سنة من وقت وصول الإعلان " . وقد حذفت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ هذا النص " توخياً لتعميم القواعد المتعلقة بطلب الإبطال ، وتجنباً لما يحتمل أن ينشأ عن تطبيق النص المقترح من صعوبات عملية " ( [609] ) .
المطلب الثالث
اثر تقرير البطلان
336 - النصوص القانونية : نصت المادة 142 من القانون الجديد على ما يأتي :
" 1 - في حالتي إبطال العقد وبطلانه يعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد ، فإذا كان هذا مستحيلا جاز الحكم بتعويض معادل " .
" 2 - ومع ذلك لا يلزم ناقص الأهلية ، إذا أبطل العقد لنقص أهليته ، أن يرد غير ما عاد عليه من منفعة بسبب تنفيذ العقد " ( [610] ) .
ويتبين من ذلك أن العقد الباطل أو القابل للإبطال ، إذا تقرر بطلانه ، يعتبر كأن لم يكن فيما بين المتعاقدين وبالنسبة إلى الغير . ونستعرض كلا من هاتين الحالتين .
1 – فيما بين المتعاقدين
337 - زوال كل اثر للعقد : إذا تقرر بطلان العقد زال كل اثر له ( [611] ) ، وارجع كل شيء إلى أصله . وجاز الحكم بتعويض على أساس المسئولية التقصيرية لا المسئولية العقدية .
فإذا كان العقد بيعاً وتقرر بطلانه ، رد المشتري المبيع إلى البائع ، ورد البائع الثمن إلى المشتري . ويرد المشتري المبيع بثمراته من وقت المطالبة القضائية إذا كان حسن النية ، وفي مقابل ذلك لا يلتزم البائع بالفوائد عن الثمن الذي يرده إلا من وقت المطالبة القضائية كذلك . وهكذا يعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد . واسترداد كل متعاقد لما أعطاه إنما يكون على أساس استرداد ما دفع دون حق بعد أن تقرر بطلان العقد .
أما إذا أصبح الاسترداد مستحيلا بأن هلك المبيع مثلا في يد المشتري وبخ " ا منه ( [612] ) ، حكم القاضي بتعويض معادل ، فألزم المشتري برد قيمة المبيع وقت الهلاك طبقاً لقواعد المسئولية التقصيرية لا على أساس العقد الذي تقرر بطلانه ، وألزم البائع برد الثمن على أساس دفع غير المستحق .
وإذا كان العقد زمنيا كالإيجار وتقرر بطلانه ، فالمنفعة التي استوفاها المستأجر قبل تقرير البطلان يجب أن يعوض عنها . وقد يقدر التعويض بمقدار الأجرة ولكنه لأي كون أجرة فلا يكفله حق الامتياز .
بقى أن نشير إلى حالتين خاصتين : ( 1 ) حالة عدم المشروعية ( 2 ) وحالة نقص الأهلية .
338 – حالة عدم المشروعية : ( * ) أشتمل المشروع التمهيدي للقانون الجديد على نص في هذا الصدد . فقضت الفقرة الثالثة من المادة 201 من هذا المشروع بأنه " لا يجوز لمن وفى بالتزام مخالف للآداب أن يسترد ما دفعه إلا إذا كان هو في التزامه لم يخالف الآداب " . فحذفت هذه الفقرة في المشروع النهائي " لا نها لا تتمشى مع منطق البطلان " . ذلك أن منطق البطلان تقضي في العقد الباطل ، أي أكان سبب البطلان ، بإعادة كل شيء إلى أصله ، فإذا كان أحد المتعاقدين سلم شيئاً للأخر تنفيذاً للعقد الباطل جاز له استرداده .
إلا أن قاعدة رومانية قديمة كانت لا تسلم بهذه النتيجة المنطقية في العقد الباطل لعدم المشروعية . فإذا سلم أحد المتعاقدين للأخر شيئاً تنفيذاً لعقد غير مشروع ، لم يكن له أن يسترد ما سلم إلا إذا كان عدم المشروعية غير ات من جهته . مثل ذلك شخص يعطي للأخر مالا ليرد له ما سرقه منه ، فيستطيع أن يسترد المال لأن عدم المشروعية غير ات من جهته . أما في الرشوة والاتصال الجنسي غير المشروع والمقامرة وما إلى ذلك ، فمن أعطى المال لا يستطيع أن يسترده ، لأن عدم المشروعة ات من جهته أو هو شريك فيه ، فهو طرف ملوث لا يجوز له أن يحتج بغش صدر من جانبه ( Nemo auditor propriam turpitudenem allegans ) . وقد احترم الفقه الفرنسي هذه القاعدة بادئ الأمر ( [613] ) . ثم تحول عنها لأن المشرع الفرنسي لم ينقلها إلى نصوصه ( [614] ) . أما القضاء الفرنسي فقد كان يحترمها كذلك ، ثم أخذ هو أيضاً يتحول عنها ، وأصبح الآن لا يطبقها إلا في العقود المخالفة للآداب ( [615] ) .
ولا يزال القضاء المصري يحترم القاعدة ( [616] ) ، ولم يخرج عليها إلا في الحكام قليلة ( [617] ) .
وقد أخذت التقنينات الحديثة بالقاعدة الرومانية ، من ذلك التقنين الألماني ( م 817 ) وتقنين الالتزامات السويسري ( م 66 ) والمشروع الفرنسي الإيطالي ( م 27 فقرة 2 ) ( [618] ) .
ومهما يكن من أمر فإن القاعدة الرومانية التي كانت أساساً لهذه الحركة الفقهية والقضائية والتشريعية هي قاعدة معيبة من الوجهتين المنطقية والعملية ، فمنطق البطلان يفضي بأن يكون الاسترداد جائزاً في كل الأحوال ، حتى لا يترتب اثر على العقد الباطل . وإذا كان الرومان يأبون الاسترداد على من كان ملوثاُ من الطرفين ، فذلك يرجع إلى خاصية في القانون الروماني قد زالت . وذلك أن العقد في هذا القانون كان يستمد قوته الملزمة من شكليته ، فإذا أعطى المتعاقد الذي سلم الشيء حق استرداده ، فلم يكن ذلك لأن العقد الشكلي غير ملزم ، بل كان عن طريق إعطاء المتعاقد دعوى خاصة ( condictio ob turpem causam ) ، من العدل أن تنكر على من كان ملوثاُ من الطرفين إذ لا يصبح جديراً بها . أما الآن فالوضع القانونين للمسالة قد يتغير ، وأصبح العقد غير المشروع ليست له قوة ملزمة حتى بالنسبة إلى الطرف الملوث ، ولم يعد هناك محل للنظر في إعطائه دعوى الاسترداد أو إنكارها عليه ما دام العقد غير ملزم له . والوجه العملي للمسالة ، كوجهها المنطقي ، يقضي هو أيضاً بأن يكون الاسترداد جائزاً في كل الأحوال . فما دام الغرض محاربة العقود غير المشروعة ، فلن يكون ذلك بمنع الطرف الملوث من استرداد ما سلمه لطرف ملوث مثله ، إذ يكون بقاء المال في يد هذا الطرف الآخر – كالموظف يستبقى الرشوة ، والمأجور على جريمة يستبقى الأجر – ابلغ في التشجيع على الفساد من سلبه إياه . وما على المجرمين إذن إلا أن يتعاملوا نقداً حتى يأمنوا غائلة القانون !!
لذلك أحسن القانون الجديد صنعاً في إغفاله النص الذي كان المشروع التمهيدي يشتمل عليه ، وقد حذف في المشروع النهائي كما قدمنا ، لأنه نص لا يتمشى مع منطق البطلان . وإذا كانت هناك أحوال تقتضي النظر ، فإن القواعد العامة تكفي في معالجتها ، كما إذا كان هناك ضرر أحدثه الطرف الذي يريد الاسترداد بالطرف الآخر . مثل ذلك شخص اتصل بامرأة اتصالا غير مشروع في مقابل مال أعطاه إياه ، وهو يريد الآن استرداد هذا المال . في مثل هذه الحالة لا نتردد في إنكار الاسترداد عليه ، وتستبقى المرأة المال ، ولا بمقتضى العقد فهو باطل لا ينتج أثراً ، ولا بمقتضى القاعدة الرومانية فهي قاعدة عتيقة لا يجوز الأخذ بها بعد أن زالت مقتضياتها ، بل على سبيل التعويض عن الضرر الذي أصاب المرأة من هذا الاتصال غير المشروع ( [619] ) .
339 – حالة نقص الأهلية : وإذا كان العقد قابلا للإبطال لنقص أهلية أحد المتعاقدين ، وأبطل ، فإن ناقص الأهلية يسترد ما دفع تطبيقاً للقواعد التي قدمناها . أما المتعاقد الآخر فلا يسترد من ناقص الأهلية إلا مقدار ما عاد عليه من منفعة بسبب تنفيذ العقد ، كما تقول الفقرة الثانية من المادة 142 وقد تقدم ذكرها . والأصل في ذلك قاعدة عامة قررتها المادة 186 من القانون الجديد في دعوى غير المستحق ، إذ قضت بأنه " إذا لم تتوافر أهلية التعاقد فيمن تسلم غير المستحق فلا يكون ملتزماً إلا بالقدر الذي أثرى به " . وسيأتي بيان ذلك تفصيلا عند الكلام في حالة الوفاء لناقص الأهلية في دعوى غير المستحق .
2 - بالنسبة إلى الغير
340 – تأثر حق الغير بالبطلان : ولا يقتصر اثر البطلان على العلاقة اشتراها بعقد باطل أو قابل للإبطال حقاً عينياً ، رهناً أو حق ارتفاق مثلا ، ثم تقرر بطلان البيع ، فإن البائع يسترد العين خالية من الحقوق العينية التي رتبها المشتري . كذلك لو باع المشتري العين من آخر ، فإن البائع بعد تقرير البطلان يستردها من المشتري الثاني .
341 – وجوب تسجيل دعوى البطلان : على أن البائع في المثل المتقدم ، حتى يستوثق من الوصول إلى هذه النتيجة ، يجب عليه أن يسجل دعوى البطلان أو أن يؤشر بها على هامش تسجيل العقد الباطل . فقد نصت المادة 15 من قانون الشهر العقاري على أنه " يجب التأشير في هامش سجل المحررات واجبة الشهر بما يقدم ضدها من الدعاوى التي يكون الغرض منها الطعن في التصرف الذي يتضمنه المحرر وجوداً أو صحة أو نفاذاً ، كدعاوى البطلان أو الفسخ أو الإلغاء أو الرجوع ، فإذا كان المحرر الأصلي لم يشهر تسجل تلك الدعاوى " . وتنص المادة 17 من هذا القانون على أنه " يترتب على تسجيل الدعاوى المذكورة بالمادة الخامسة عشرة أو التأشير بها أن حق المدعى إذا تقرر بحكم مؤشر به طبق القانون يكون حجة على من ترتبت لهم حقوق عينية ابتداء من تاريخ تسجيل تلك الدعاوى أو التأشير بها . ولا يكون هذا الحق حجة على الغير الذي كسب حقه بحسن نية قبل التأشير أو التسجيل المشار إليهما " .
ويتبين من ذلك أن الغير إذا تلقى حقاً عينياً بعد تسجيل دعوى البطلان ، فإن حقه يزول بتقرير بطلان العقد ، سواء كان سيء النية أو كان حسن النية . أما إذا تلقى الحق العيني قبل تسجيل دعوى البطلان ، فالظاهر من نص المادة 17 أن حقه يزول إذا كان سيء النية ، ويبقى إذا كان حسن النية . ومهما يكن من أمر – وليس هنا مجال التفصيل في ذلك – فإن القانون أورد حكماً خاصاً لمصلحة الدائن المرتهن رهناً رسمياً ، فنص في المادة 1034 على أن " يبقى قائماً لمصلحة الدائن المرتهن الرهن الصادر من المالك الذي تقرر إبطال سند ملكيته أو فسخه أو الغاؤه أو زواله لأي سبب آخر ، إذا كان هذا الدائن حسن النية في الوقت الذي أبرم فيه الرهن " .
الفصل الثاني
آثار العقد
342 – نسبية آثار العقد من حيث الأشخاص ومن حيث الموضوع : إذا نشا العقد صحيحاً فقد خلصت له قوته الملزمة ، ووجب على المتعاقدين تنفيذ ما التزما به .
فالمتعاقدان دون غيرهما هما اللذان يلتزمان بالعقد : ومن هنا نرى نسبية آثار العقد من حيث الأشخاص . ويلتزمان بما تضمنه العقد من التزامات دون غيرها : ومن ثم نرى النسبية من حيث الموضوع .
فالعقد النسبي إذن في قوته الملزمة ( أولاً ) من حيث الأشخاص . ( ثانياً ) ومن حيث الموضوع .
ونبحث كلا من هذين الأمرين .
الفرع الأول
قوة العقد الملزمة بالنسبة إلى الأشخاص
343 – المتعاقدان والغير : العقد لا يتناول أثره بوجه عام إلا المتعاقدين . ولا يجاوزهما إلى الغير إلا في حالة الاشتراط لمصلحة الغير . فنحن نبحث : ( أولاً ) اثر العقد بالنسبة إلى المتعاقدين . ( ثانياً ) اثر العقد بالنسبة إلى الغير .
المبحث الأول
اثر العقد بالنسبة إلى المتعاقدين
344 – الخلف العام والخلف الخاص : إذا قلنا إن العقد لا يتناول أثره إلا المتعاقدين فيجب أن يكون ذلك مقروناً بالتوسع في فهم كلمة " المتعاقدين " . فليس المقصود بهذه الكلمة المتعاقدين فحسب ، بل المقصود هما ومن يمثلانه في التعاقد . فالمتعاقدان إذا تعاقدا انصرف اثر العقد إليهما ، وانصرف كذلك إلى الخلف العام ، وقد ينصرف إلى الخلف الخاص ( [620] ) .
والخلف العام ( ayant – cause a titre universel ) هو من يخلف الشخص في ذمته المالية من حقوق والتزامات ، أو في جزء منها باعتبارها مجموعاً من المال ، كالوارث والموصى له بجزء من التركة في مجموعها . والخلف الخاص ( ayant – cause a titre particulier ) هو من يخلف الشخص في عين معينة بالذات أو في حق عيني عليها ، كالمشتري يخلف البائع في المبيع ، والموصى له بعين في التركة يخلف فيها الموصى ، والمنتفع يخلف المالك في حق الانتفاع . والخلف ، عاماً كان أو خاصاً ، لا يعتبر من الغير في العقد ، فينصرف إليه أثره على التفصيل الذي نذكره فيما يلي :
المطلب الأول
الخلف العام
345 – النصوص القانونية : نصت المادة 145 من القانون الجديد على ما يأتي :
" يتصرف أثر العقد إلى المتعاقدين والخلف العام ، دون إخلال بالقواعد المتعلقة بالميراث ، ما لم يتبن من العقد أو من طبيعة التعامل أو من نص القانون أن هذا الأثر لا ينصرف إلى الخلف العام " ( [621] ) .
346 - انصراف اثر العقد إلى الخلف العام : ويتبين من النص المتقدم أن اثر العقد ينصرف إلى الخلف العام . ومعنى ذلك أن الحقوق التي ينشئها العقد تنتقل إلى الوارث بعد موت المورث المتعاقد . أن الالتزامات فيلاحظ في شأنها أن في الشريعة الإسلامية – وهي الشريعة التي تطبق في مصر في أكثر الأحوال في مسائل الميراث – مبدأ خاصاً يقضي بألا تركة إلا بعد سداد الدين . ومقتضى هذا المبدأ أن يبقى الالتزام في التركة ، دون أن ينتقل إلى ذمة الوارث ، حتى ينقضى . ومتى أصبحت التركة خالية من الديون انتقلت ملكيتها إلى الوارث . ومن ثم عنى القانون الجديد بتنظيم تصفية التركة ، فأورد نصوصاً هامة في هذا الشأن ( م 875 – 914 ) تنظم سداد ديون التركة ، وتكفل حقوق دائنيها ، وتحمي الغير الذي يتعامل مع الوارث .
ويترتب على انصراف اثر العقد إلى الخلف العام أنه يسري في حقه ما يسري في حق السلف بشأن هذا العقد ، فلا يشترط ثبوت تاريخ العقد حتى يكون هذا التاريخ حجة له وعليه ( [622] ) ، وفي الصورية يسري في حقه العقد الحقيقي دون العقد الصوري .
347 – متى لا ينصرف اثر العقد إلى الخلف العام مع بقائه خلفا . على أنه يستثنى من القاعدة المتقدمة أحوال اشير إليها في المادة 145 ، وفيها لا ينصرف اثر العقد إلى الخلف العام مع بقائه خلفاً ، وهي ثلاث :
( الحالة الأولى ) إذا اتفق المتعاقدان على ذلك لأن العقد شريعة المتعاقدين ، فإذا أرادا حقاً أن التزاماً نشأ من العقد يقتصر أثره على شخص المتعاقد ، فلا ينتقل إلى الوارث من بعده ، صح الشرط إذا لم يكن مخالفاً للنظام العام أو للآداب . فيجوز مثلا أن يتفق المتعاقدان في بيع على أن يمنح المشتري أجلاً لسداد الثمن دون أن ينتقل هذا الحق إلى ورثته ، فإذا مات المشتري وجب على الورثة دفع الثمن في الحال من التركة . كذلك يجوز الاتفاق على أن يكون للبائع الحق في استئجار العين المبيعة بأجرة معينة لمدة معينة ، على إلا ينتقل هذا الحق إلى ورثة البائع ( [623] ) .
( الحالة الثانية ) إذا كانت طبيعة الحق أو الالتزام الناشيء من العقد تأبى أن ينتقل من المتعاقد إلى خلفه العام . وقد يكون المانع من الانتقال قانونياً أو مادياً . فإذا حصل شخص على حق انتفاع بموجب عقد ، فإن هذا الحق لا ينتقل من بعده إلى ورثته ، لأن حق الانتفاع تقضي طبيعته القانونية بأن ينقضي بموت صاحبه . وإذا حصل شخص بمقتضى عقد على إيراد مرتب طول الحياة ، فهذا الإيراد لا ينتقل إلى ورثته ، لأن طبيعة الإيراد القانونية والمادية معاً تقضي بانتهائه بموت صاحب الإيراد . كذلك كل التزام نشأ من عقد ، ولوحظت فيه شخصية الملتزم أو صفة خاصة به ، ينقضي بموت الملتزم ولا ينتقل إلى الورثة نظراً لطبيعة الالتزام المادية ، كفنان أو جراح أو مهندس أو محام يلتزم بالعقد أن يقوم بعمل من أعمال مهنته ، فلا ينتقل التزامه هذا إلى ورثته ولو في التركة .
( الحالة الثالثة ) إذا كان هناك نص في القانون يقضي بألا ينصرف اثر العقد إلى الخلف العام . والقانون ينص على ذلك في مسائل يفهم من ظروفها أن المتعاقدين قد أرادا هذا ضمناً . من ذلك ما قضت به المادة 528 من أن الشركة تنقضي بموت أحد الشركاء ، وما قضت به المادة 602 من أن لايجار ينقضي بموت المستأجر إذا لم يعقد إلا بسبب حرفته أو لاعتبارات أخرى تتعلق بشخصه ، وما قضت به المادة 626 من أن المزارعة تنقضي بموت المزارع ، وما قضت به المادة 714 من أن الوكالة تنقضي بموت الموكل أو الوكيل .
348 – متى لا ينصرف اثر العقد إلى الخلف العام باعتباره من الغير : وهناك فرض ينظر فيه إلى الخلف العام باعتباره من الغير . وذلك أن القانون يعطي للوارث حقوقاً يتلقاها منه مباشرة لا بطريق الميراث عن سلفه ، ويقصد بها حماية الوارث من تصرفات مورثه الضارة به . ولذلك ويعتبر الوارث في هذه الفروض من الغير بالنسبة إلى هذه التصرفات . فالقانون يبيح للمورث التصرف في جميع أمواله حال حياته ، معاوضة أو تبرعاً ، حتى لو أضر هذا التصرف بالورثة ، وحتى لو تعمد المورث هذا الأضرار . أما إذا تصرف في ماله لما بعد الموت بطريق الوصية ، وهو تصرف لا يكلفه شيئاً في حياته ، فيتحكم بذلك في حظوظ ورثته تحكماً يأباه النظام العام ، فإن القانون – والمقصود به هنا الشريعة الإسلامية إذ هي التي تطبق في مصر غالباً في هذه المسألة – يتقدم لحماية الوارث ، ويقيد من تصرفات المورث ، فلا يبيح له أن يتصرف في ماله بطريق الوصية إلا بقدر الثلث . وكالوصية كل تصرف صدر في مرض الموت ويكون مقصوداً به التبرع ( م 916 جديد ) ( [624] ) .
ويترتب على ذلك أنه إذا باع المورث عينا وهو في مرض موته لوارث أو لغير وارث ، وكانت العين تزيد على ثلث التركة ، فإن البيع لا يسري في حق الورثة فيما يزيد على الثلث إلا إذا أجازوه ، ومن ثم لا يكون عقد البيع حجة عليهم إلا إذا كان ثابت التاريخ . فلو أن تاريخ العقد العرفي يرجع إلى عهد كان المورث فيه غير مريض ، لم يكن هذا التاريخ حجة عليهم ، ولهم أن يثبتوا بجميع طرق الإثبات أن هذا التاريخ قد قدم عمداً حتى لا يظهر أن العقد قدر صدر في مرض الموت . وقد نص القانون الجديد على ذلك صراحة في الفقرة الثانية من المادة 916 إذ يقول : " وعلى ورثة من تصرف أن يثبتوا أن العمل القانونى قد صدر من مورثهم وهو فى مرض الموت ، ولهم إثبات بجميع الطرق ، ولا يحتج على الورثة بتاريخ السند إذا لم يكن هذا التاريخ ثابتا " ( [625] ) .
المطلب الثاني
الخلف الخاص ( * )
349 – النصوص القانونية : نصت المادة 146 من القانون الجديد على ما يأتي :
" إذا أنشأ العقد التزامات وحقوقا شخصية تتصل بشيء انتقل بعد ذلك إلى خلف خاص ، فان هذه الالتزامات والحقوق تنتقل إلى هذا الخلف في الوقت الذي ينتقل فيه الشيء ، إذا كانت من مستلزماته وكان الخلف الخاص يعلم بها وقت انتقال الشيء إليه " ( [626] ) .
وإذا كان هذا النص قد استحدثه القانون الجديد ، فإنه – كما تقول المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي – ليس إلا " تأصيلاً لتطبيقات القضائين المصري والفرنسي في هذا الشأن " .
350 – وضع المسألة بالنسبة إلى الخلف الخاص : انصراف اثر العقد إلى الخلف الخاص يختلف في الوضع عن انصراف هذا الأثر إلى الخلف العام ويحسن بادئ الأمر أن نحدد تحديداً دقيقاً من هو الخلف الخاص . فقد قدمنا أنه هو من يتلقى من سلفه ملكية شيء معين بالذات أو حقاً عينياً على هذا الشيء . والشيء الذي يتلقاه الخلف قد يكون هو ذاته حقاً عينياً كما هو الغالب ، وقد يكون حقاً شخصياً . فالمشتري خلف خاص للبائع في الشيء المبيع ، وهذا استخلاف في ملكية عين معينة . وصاحب حق الانتفاع خلف خاص لمن تلقى منه هذا الحق ، وهذا استخلاف في حق عيني واقع على عين معينة . والمحال له خلف للمحيل في الحق المحال به ، وهذا استخلاف في حق شخصي . والمرتهن لدين خلف لصاحب هذا الدين الذي رهنه ، وهذا استخلاف في حق عيني واقع على حق شخصي . ويخلص من هذا أن الخلف الخاص هو من يتلقى شيئاً ، سواء كان هذا الشيء حقاً عينياً أو حقاً شخصياً ، أو يتلقى حقاً عينياً على هذا الشيء . أما من يترتب له حق شخصي في ذمة شخص آخر فلا يكون خلفاً خاصاً له ، بل يكون دائناً . فالمستأجر ليس بخلف للمؤجر ، بل هو دائن له ( [627] ) . والمستأجر من الباطن ليس بخلف للمستأجر الأصلي . إنما خلف المستأجر الأصلي هو المتنازل له عن الإيجار ، لأنه تلقى عنه حقاً شخصياً ، ولم يقتصر كالمستأجر من الباطن على أن يترتب له في ذمته حق شخصي . ولا يعتبر البائع الذي يسترد العين من المشتري بعد فسخ البيع أو إبطاله خلفاً خاصاً للمشتري ، لأن كلا من الفسخ والإبطال له اثر رجعي ، فلا يكون البائع متلقياً الملكية من المشتري كما في المقايلة ، بل تعتبر الملكية لم تنتقل منه أصلاً إلى المشتري فلا يصح أن يقال إنه تلقاها منه ثانية ( [628] ) .
والمثل المألوف في الخلف الخاص هو من يتلقى عيناً من سلفه ، كالمشتري يخلف البائع في العين المبيعة . فإذا كان البائع قد ابرم عقداً بشأن العين التي باعها ، فهل ينصرف اثر هذا العقد إلى المشتري ؟ بديهي أن العقد إذا كان قد ابرم بعد انتقال المبيع إلى المشتري فإن أثره لا ينصرف إلى المشتري إذ يعتبر من الغير . أما إذا كان العقد قد ابرم قبل انتقال البيع إلى المشتري ، فهنا يختلف الوضع . إذ يصح التساؤل هل ينصرف اثر هذا العقد إلى المشتري وقد تلقى المبيع والعقد في شأنه قائم ؟ فلا تعرض إذن مسألة انصراف اثر العقد إلى الخلف الخاص إلا إذا توافر شرطان : ( أولاً ) أن يكون العقد قد ابرم في شأن الشيء المستخلف فيه . أما إذا كان قد ابرم في شان آخر فلا تعرض المسألة ، كما إذا باع شخص عيناً وأصبح المشتري خلفاً خاصاً له في هذه العين ، فلا محل للتساؤل عما إذا كان هذا الخلف ينصرف إليه اثر قرض عقده البائع حتى لو كان هذا القرض سابقاً على البيع مما جعل العين المبيعة تدخل في الضمان العام للمقرض ، وليس للمقرض في هذه الحالة إلا الطعن في البيع بالدعوى البوليصية إذا توافرت شروطها . ( ثانياً ) أن يكون العقد قد ابرم قبل انتقال الشيء المستخلف فيه للخف الخاص . فيجب إذن أن يكون هذا العقد ثابت التاريخ وسابقاً على التاريخ الذي انتقل فيه الشيء إلى الخلف ( [629] ) .
ونأتي بمثلين يبينان الأهمية العملية للمسألة التي نحن بصددها : امن شخص على منزله من الحريق ثم باعه . فهل ينتقل للمشتري حق البائع في التأمين ؟ باعت شركة أرضا واشترطت على المشتري أن يكون البناء على نحو معين ، ثم باع المشتري الأرض لمشتر ثان ، فهل ينتقل إلى المشتري الثاني التزام المشتري الأول بالبناء على نحو معين ؟
351 – متى ينصرف اثر العقد إلى الخلف الخاص : وقد وضع القانون الجديد معياراً يعرف به متى ينصرف اثر العقد إلى الخلف الخاص . فذكر أن الحقوق والالتزامات التي تنشأ من العقد تنتقل إلى الخلف الخاص في الوقت الذي ينتقل فيه الشيء " إذا كانت من مستلزماته وكان الخلف الخاص يعلم بها وقت انتقال الشيء إليه " . وقد قدمنا أن هذا المعيار ليس إلا تأصيلا لما جرى عليه القضاء في مصر وفي فرنسا قبل صدور القانون الجديد .
وتعتبر الحقوق من مستلزمات الشيء إذا كانت مكملة له . كما تعتبر الالتزامات من مستلزمات الشيء إذا كانت محددة له . يبرر ذلك أن الحقوق المكملة للشيء إنما هي في الواقع من الأمر تعتبر من توابع هذا الشيء ، والتابع ينتقل مع الأصل . أما الالتزامات التي تحدد الشيء فيجب أن تنتقل أيضاً معه ، لأن السلف لا يستطيع أن ينقل إلى الخلف أكثر مما يملك . ومن ثم كانت الحقوق المكملة للشيء والالتزامات المحددة له هي من مستلزمات هذا الشيء ، تنتقل معه إلى الخلف الخاص . وننظر الآن في تطبيقات عملية لهذين المعيارين الفرعيين .
352 – الحقوق المكملة للشيء : الحق ، حتى ينتقل من السلف إلى الخلف ، يجب أن يكون مكملا للشيء الذي انتقل إلى الخلف كما قدمنا . وعلى ذلك ينتقل إلى الخلف .
( 1 ) الحقوق العينية التي ترتبت لمصلحة الشيء . فإذا كان السلف قد رتب بمقتضى عقد حق ارتفاق للعين ، فإن الخلف الذي تنتقل إليه العين يتلقاها متمتعة بهذا الحق ( [630] ) .
( 2 ) الحق الذي يكون تأميناً للشيء ، سواء كان هذا التأمين عينياً أو شخصياً ، لأن التأمين يعد مكملا للشيء ، إذا هو يحفظه ويقويه . فإذا حول الدائن حقه ، انتقل للمحال له مع هذا الحق تأميناته من كفالة أو رهن أو غير ذلك ( [631] ) .
( 3 ) وينتقل أيضاً إلى الخلف الحقوق الشخصية التي يكون الغرض منها درء ضرر عن الشيء ، لأن الحق الذي يقصد به وقاية الشيء من الضرر يعد مكملا لهذا الشيء إذ هو يحفظه كما في التأمينات . فإذا تعاقد شخص مع شركة لتأمين منزله من الحريق ، ثم باع المنزل ، فإن حقه قبل شركة التأمين ينتقل مع المنزل المشتري ( [632] ) . وينتقل تبعاً لذلك التزام البائع بدفع أقساط التأمين ( [633] ) . ومثل حق البائع في التأمين حقه قبل البائع له في ضمان الشيء ضمان استحقاق أو ضمان عيب ، فالبائع لشيء ينقل ع هذا الشيء إلى المشتري حقه في الضمان ( [634] ) . ومثل هذا أيضاً حق بائع المتجر في عدم منافسة شخص آخر للمتجر أو في تقييد موظف قديم في حريته في العمل حتى يمتنع عن هذه المنافسة ، هذه الحقوق كسبها صاحب المتجر ليردأ خطر المنافسة عن متجره فهي مكملة للمتجر وتنتقل معه إلى المشتري .
أما إذا كان الحق لا يمكن اعتباره مكملا للشيء فإنه لا ينتقل إلى الخلف . وعلى ذلك لا ينتقل :
( 1 ) حق السلف إذا لم يكن من شأنه تقوية الشيء الذي انتقل إلى الخلف أو درء الخطر عنه . فإذا تعاقد السلف مع مقاول لإقامة بناء على الأرض التي انتقلت إلى الخلف لم ينتقل حق السلف إلى الخلف ز ومثل هذا حق صاحب السيارة إذا استأجر مكانا تأوى إليه السيارة ( جراج ) ، فإذا باعها لم ينتقل هذا الحق إلى المشتري .
( 2 ) حق السلف إذا اعتبرت فيه شخصيته . فإذا اشترى طبيب أرضا يقيم عليها مستشفى منتقلا ، وتعاقد مع بعض المعامل على توريد أدوية معينة في أوقات محددة لهذا المستشفى ، فحقه قبل هذه المعامل لا ينتقل إلى المشتري للأرض بعد نقل المستشفى ، لأن هذا الحق متصل بشخص الطبيب وبالمستشفى لا بالأرض التي بيعت . وإذا باع شخص جزءاً من قطعة أرض وبني المشتري على هذا الجزء مصنعاً لتوليد الكهرباء ، واشترط البائع على المشتري أن يورد الكهرباء لبقية الأرض بسعر مخفض ، فإن هذا الشرط لا ينتفع به المشتري لبقية الأرض لأنه شرط خاص بشخص البائع .
353 – الالتزامات المحددة للشيء . والالتزام ، حتى ينتقل من السلف إلى الخلف ، يجب أن يكون محدداً للشيء ( [635] ) . وعلى ذلك ينتقل إلى الخلف :
( 1 ) الإرتفاقات العينية التي ترتبت على الشيء إذا كانت قد شهرت طبقاً لما يقتضيه القانون . فإذا كان السلف قد رتب بمقتضى عقد حق إرتفاق على العين ، فإن العين تنتقل مثقلة بهذا الحق إلى الخلف ، أما إذا كان ما رتبه السلف التزاماً شخصياً كالتزام المؤجر ، بأن يكون قد اجر العين قبل بيعها ، فلا تنتقل التزاماته إلى المشتري إلا بنص في القانون أو باتفاق خاص بين السلف والخلف ( [636] ) .
( 2 ) الالتزام الذي يقيد من استعمال ملكية العين ويكيف هذا الاستعمال . فإذا التزم السلف بعقد إلا يستعمل المنزل الذي يملكه في حي للسكنى مقهى أو مطعماً ، انتقل هذا الالتزام إلى الخلف . كذلك إذا فرضت قيود معينة تحد من حق مالك العقار في البناء عليه كيف شاء ، كأن يمنع من تجاوز حد معين في الارتفاع بالبناء أو في مساحة رقعته ، فإن هذه القيود ، سواء اعتبرت التزامات شخصية أو ارتفاقات عينية ، تنتقل إلى المشتري بمقتضى هذه القاعدة أو بمقتضى القاعدة السابقة . وقد اعتبرها القانون الجديد ( م 1018 ) ارتفاقات عينية ما لم يوجد اتفاق يقضي بغير ذلك .
( 3 ) التزام السلف الذي يغل يده عن استعمال بعض حقوق المالك ، كمن اشترى أرضا من شركة تعمل في استخراج المعادن فاشترطت عليه الشركة إلا يرجع عليها بتعويض إذا أصابه ضرر بسبب ما تقوم به الشركة من الأعمال ، وكصاحب المتجر يلتزم أن يمتنع عن مباشرة التجارة في جهة معينة كفاً للمنافسة ( [637] ) .
أما إذا كان الالتزام لا يحدد الشيء الذي ا نتقل إلى الخلف ، فلا ينتقل مع الشيء إلى الخلف . وعلى ذلك لا ينتقل :
( 1 ) التزام السلف إذا كان لا يثقل العين أو يكيف من استعمالها أو يمنع من استعمال بعض حقوقها . فالتزام بائع الأرض الذي اتفق مع مقاول على البناء لا ينتقل إلى مشتري الأرض كما لا ينتقل الحق على النحو الذي قدمناه . والتزام بائع السيارة نحو صاحب " الجراج " لا ينتقل إلى من اشترى السيارة كما لا ينتقل الحق ( [638] ) . كذلك لا ينتقل التزام السلف بتعويض ما أحدثه الشيء الذي انتقل إلى الخلف من الضرر ، سواء كان هذا التعويض ناشئاً عن عقد قدر فيه الضرر أو كان ناشئاً عن العمل الضار ذاته ( [639] ) .
( 2 ) التزام السلف إذا اعتبرت فيه شخصيته . فليس على من اشترى ما وهب لبائعه ، على أن يقوم البائع بالنفقة على الواهب أو بخدمته ، قضاء شيء من ذلك .
354 – وجوب علم الخلف بالالتزامات والحقوق حتى تنتقل إليه : وغنى ، البيان أن الخلف لا تنتقل إليه التزامات سلفه أو حقوقه إلا إذا كان عالماً بها وقت انتقال الشيء إليه . وأهمية هذا العلم تظهر بنوع خاص في انتقال الالتزامات ، لأنها قيود تنتقل إلى الخلف فمن العدل أن يكون عالماً بها وقت انتقالها إليه .
ويشترط العلم اليقيني لا مجرد استطاعة العلم . وقد كان كل من المشروع التمهيدي والمشروع النهائي للقانون الجديد يكتفي باستطاعة العلم ، ولكن لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ عدلت النص حتى يقتصر حكمه على ما يعلم به الخلف من الحقوق والالتزامات دون أن يجاوزه إلى ما كان يستطيع أن يعلم به ( [640] ) .
ويغني عن العلم التسجيل أو القيد في الحقوق العينية التي يجب شهرها ، طبقاً للقواعد المقررة في هذا الشأن .
المبحث الثاني
اثر العقد بالنسبة إلى الغير
355 – الخلف قد يكون من الغير : قدمنا أن كلا من الخلف العام والخلف الخاص ينصرف إليه اثر العقد ، إلا في أحوال معينة يصبح فيها من الغير .
فالخلف العام يكون من الغير ، كما رأينا ، إذا اثبت أن التصرف الذي صدر من سلفه قد صدر في مرض الموت ، فلا يسري التصرف في حقه إلا على اعتبار أنه وصية .
والخلف الخاص يكون من الغير ، ولا ينصرف إليه اثر العقد ، إذا كان هذا العقد غير سابق على انتقال الشيء إلى الخلف ، أو كان الحق أو الالتزام الناشيء من العقد غير مكمل للشيء أو غير محدد له .
ونتبين من ذلك أنه إذا كانت القاعدة هي إلا يكون الخلف من الغير ، فينصرف إليه اثر العقد ، إلا أن الخلف ، عاما كان أو خاصا ، يصبح في أحوال معينة من الغير ، فلا ينصرف إليه اثر العقد أصلاً ، أو ينصرف إليه على اعتبار أنه وصية .
356 - الغير الأجنبي أصلاً عن العقد : أما الغير ، الذي لم يكن طرفاً في العقد ولا خلفاً لأحد من المتعاقدين ، وهو ما يسمى بالغير الأجنبي أصلاً عن العقد ( penitus extranei ) ، فلا ينصرف إليه اثر العقد ما دام بعيداً عن دائرة التعاقد . فالصلح الذي يقع بين الدائن وأحد الورثة لا يسري في حق بقية الورثة . والعقد الذي يصدر من أحد الشركاء في الشيوع لا يقيد بقية الشركاء إلا في حدود الفضالة . وبيع ملك الغير لا يسري في حق المالك الحقيقي الذي لم يكن طرفاً في العقد .
على أن اعتبارات ترجع إلى العدالة أو إلى استقرار التعامل قد تقضي بانصراف اثر العقد إلى الغير .
فالعدالة قد تقضي بأن يكون للغير دعوى مباشرة ( action directe ) هي دعوى أحد المتعاقدين على الآخر في عقد لم يكن هذا الغير طرفاً فيه . ولا يكون ذلك إلا بنص خاص في القانون . من هذا ما تقضي به المادة 596 من أن يكون المستأجر من الباطن ملزماً بان يؤدي للمؤجر مباشرة ما يكون ثابتاً في ذمته للمستأجر الأصلي وقت أن ينذره المؤجر . فللمؤجر يرجع إذن بدعوى مباشرة على المستأجر من الباطن ، هي دعوى المستأجر الأصلي في عقد الإيجار من الباطن ، مع أن المؤجر لم يكن طرفاً في هذا العقد . وكذلك يكون للمقاولين من الباطن وللعمال الذين يشتغلون لحساب المقاول في تنفيذ العمل حق مطالبة رب العمل مباشرة بما لا يجاوز المقدار الذي يكون مديناً به للمقاول الأصلي وقت رفع الدعوى ( م 662 ) . وللموكل ونائب الوكيل أن يرجع كل منهما مباشرة على الآخر ( م 708 ) . وسنعرض تفصيلا للدعوى المباشرة عند الكلام في الدعوى غير المباشرة .
واستقرار التعامل قد يقضي بأن ينصرف اثر العقد لمن لم يكن طرفاً فيه ، كالتصرف الذي يصدر من الوارث الظاهر فإنه يسري في حق الوارث الحقيقي مع أن هذا لم يكن طرفاً فيه ، وكالإيجار الذي يصدر من غير المالك دون غش لمستأجر حسن النية فإنه يسري في حق المالك الحقيقي في بعض الأحوال .
ولكن الأثر الذي انصرف إلى الغير في الأحوال المتقدمة اثر غير مقصود ، لم يرده المتعاقدان وقت التعاقد ، فهو مبنى على اعتبارات لا دخل للإرادة فيها .
أما أن العقد ينتج أثراً ينصرف إلى الغير ويكون أثراً مقصوداً أراده المتعاقدان ، فذلك ما تكفلت ببيان الحكم فيه المادة 152 من القانون الجديد ، إذ تقول :
" لا يرتب العقد التزاما في ذمة الغير ، ولكن يجوز أن يكسبه حقاً " ( [641] ) .
فالتعهد عن الغير لا ينصرف أثره إلى اليغر ، ولا يرتب في ذمته التزاماً . والاشتراط لمصلحة الغير ينصرف أثره إلى الغير ، ويكسبه حقاً .
ونبحث الآن كلا من هاتين المسألتين : ( 1 ) التعهد عن الغير . ( 2 ) والاشتراط لمصلحة الغير .
المطلب الأول
التعهد عن الغير ( * )
( Promesse de porte – fort )
357 – النصوص القانونية : نصت المادة 153 من القانون الجديد على ما يأتي :
" 1 - إذا تعهد شخص بأن يجعل الغير يلتزم بأمر فلا يلزم الغير بتعهده . فإذا رفض الغير أن يلتزم ، وجب على المتعهد أن يعوض من تعاقد معه ، ويجوز له مع ذلك أن يتخلص من التعويض بأن يقوم هو بنفسه الالتزام الذي تعهد به " .
" 2 - أما إذا قبل الغير هذا التعهد ، فان قبوله لا ينتج أثرا غلا من وقت صدروه ، ما لم يتبين أنه قصد صراحة أو ضمنا أن يستند أثر هذا القبول إلى الوقت الذي صدر فيه التعهد " ( [642] ) .
ولا مقابل لهذا النص في القانون القديم . إلا أن النص لا يستحدث حكماً جديداً ، فقد كان الفقه والقضاء يجريان على مقتضاه قبل صدور القانون الجديد .
358 – الصور العملية للتعهد عن الغير : والتعهد عن الغير غير نادر الوقوع في الحياة العملية . ويراد به في الغالب علاج موقف لا يمكن فيه الحصول على رضاء ذى الشأن لسبب ، فيلتزم عنه غيره . مثل ذلك شركاء في الشيوع يتصرفون في الشيء الشائع وفيهم قاصر ويردون تجنب إجراءات المحكمة الحسبية ، أو كان أحدهم غير حاضر وقت العقد ولا يستطاع انتظاره خوف ضياع الصفقة ، أو كانوا يقتسمون الشيء الشائع وفيهم من هو ناقص الأهلية ويبغون توقى الإجراءات المعقدة للقسمة القضائية . في مثل هذه الأحوال يتعاقد الشركاء الذين يصح لهم التعاقد عن أنفسهم وملتزمين عن غيرهم من لا يستطيع التعاقد لسبب من الأسباب المتقدمة . كذلك الوكيل إذا رأى أن يجاوز حدود الوكالة ، ولم يتمكن من الحصول على إذن في ذلك من الموكل ، يستطيع فيما يجاوز فيه حدود الوكالة أن يتعاقد باسمه متعهداً عن الموكل .
359 – مقومات التعهد عن الغير وتمييزه عما يقاربه : ويجب حق يقوم التعهد عن الغير أن تتوافر المقومات الثلاثة الآتية :
( أولاً ) أن يتعاقد المتعهد باسمه لا باسم الغير الذي يتعهد عنه . ومن هنا كان الفرق بين المتعهد عن الغير وبين الوكيل والفضولي ، فالوكيل يعمل باسم الأصيل ، وينصرف اثر العقد إلى الأصيل لا إليه . والفضولي يعمل باسم رب العمل ولمصلحته ، فيلزمه بعمله . أما المتعهد عن الغير فيعمل باسمه ، وينصرف إليه هو اثر العقد .
( ثانياً ) أن يريد المتعهد من الغير أن يلزم نفسه بهذا التعهد لا أن يلزم الغير . ذلك أنه إذا تعاقد باسمه وأراد إلزام الغير بتعاقده ، فإن العقد يكون باطلا لاستحالة المحل ، إذ أنه لا يمكن قانوناً أن يلزم شخص آخر بعقد لم يكن المتزم طرفاً فيه . والتزام الغير إنما يأتي لا من تعاقد المتعهد بل من عقد آخر يتم بقبول الغير للتعهد كما سنرى . ومن هنا كان الفرق بين المتعهد عن الغير والمشترط لمصلحة الغير . فالمشترط لمصلحة الغير يريد أن يجعل للغير حقاً مباشراً يكسبه من ذات العقد الذي ابرمه المشترط ، وهذا ما يجعل الاشتراط لمصلحة الغير استثناء من القاعدة التي تقضي بأن العقد لا ينصرف أثره إلى الغير ، ويجعل التعهد عن الغير لا خروج فيه على هذه القاعدة ( [643] ) .
( ثالثاً ) أن يكون الالتزام الذي أخذه المتعهد على نفسه هو القيام بحمل الغير الذي تعهد عنه على قبول هذا التعهد . فالمتعهد إذن يلتزم دائماً بعمل شيء ( obligation de faire ) . أما الغير إذا قبل التعهد ، فإنه يلتزم بهذا التعهد . وقد يكون محله عمل شيء كأن يقوم ببناء منزل ، أو الامتناع عن شيء كأن يمتنع عن منافسة متجر ، أو نقل حق عيني كما إذا تعاقد الشركاء في الشيوع متعهدين عن شريك لهم على بيع الشيء الشائع . والتزام المتعهد بحمل الغير على قبول التعهد هو التزام بالوصول إلى غاية ( obligation de resultat ) وليس التزاماً ببذل عناية ( obligation de moyen ) . فليس يكفي أن يبذل المتعهد ما في وسعه لحمل الغير على قبول التعهد ، بل يجب أن يصل فعلا إلى هذه الغاية فيقبل الغير التعهد . ولكن إذا قبل الغير التعهد ، وقف التزام المتعهد عند هذا ، فلا يكفل تنفيذ الغير للتعهد . ومن هنا كان الفرق بين المتعهد عن الغير والكفيل . فالكفيل يكفل تنفيذ التزام المدين بعد أن يوجد ، ولا يكفل ايجاده أما المتعهد عن الغير فكيفل إيجاد الالتزام في ذمة الغير ولا يكفل تنفيذه ( [644] ) .
360 – للغير أن يقبل التعهد أو برفضه : والغير حر في قبول التعهد أو رفضه . ذلك أن التعهد لم يلزمه بشيء كما قدمنا . فهو أجنبي عن العقد أصلاً ( penitus extranei ) ، فلا ينصرف إليه أثره . وهذا ما يجعل التعهد عن الغير مجرد تطبيق للقواعد العامة كما مر .
ويبقى أن نستعرض الحالتين : ( 1 ) قبول الغير للتعهد . ( 2 ) ورفضه إياه .
1 – قبول الغير للتعهد
361 – كيف يكون القبول : يكون القبول صريحاً أو ضمنياً . ومثل القبول الضمني أن يقوم الغير بتنفيذ التعهد . والقبول تصرف قانونين ، فتشترط فيه الأهلية . ولا يشترط فيه شكل خاص إلا إذا اشترط القانون ذلك ، كما في الرهن الرسمي والهبة .
362 – اثر القبول : يعتبر التعهد – وهو عقد بين المتعهد والمتعاقد معه – بمثابة إيجاب معروض على الغير من جانب المتعاقد مع المتعهد . فإذا قبل الغير التعهد فقد قبل هذا الإيجاب ، وتم عقد جديد بين الغير والمتعاقد مع المتعهد ، وهذا العقد الجديد هو غير العقد الذي تم أولاً بين المتعهد والمتعاقد معه .
ويختلف العقدان من حيث أطراف التعاقد ، ومن حيث الالتزامات التي تنشأ ، ومن حيث الوقت الذي يتم فيه كل منهما .
أما من حيث أطراف التعاقد . فالعقد الأول طرفاه المتعهد والمتعاقد معه . والعقد الثاني طرفاه المتعاقد مع المتعهد والغير . فهناك طرف مشترك في العقدين ، هو المتعاقد من المتعهد . أما الطرف الآخر فمختلف ، وهو المتعهد فيا لعقد الأول والغير في العقد الثاني .
وأما من حيث الالتزامات ، فالعقد الأول ينشيء التزاماً بعمل شيء في ذمة المتعهد ، هو حمل الغير على قبول التعهد . والعقد الثاني ينشيء التزاما في جانب الغير قد يكون محله نقل حق عيني أو عملا أو امتناعاً عن عمل . وقد مر بيان ذلك .
وأما من حيث وقت تمام العقد ، فالعقد الأول يتم عند تلاقي الإيجاب والقبول من المتعهد والمتعاقد معه . والعقد الثاني لا يتم إلا عند صدور القبول من الغير . فليس للقبول إذن اثر رجعي ، إلا إذا تبين أن الغير قصد صراحة أو ضمناً أن يستند اثر القبول إلى الوقت الذي صدر فيه التعهد ، كما هو صريح نص الفقرة الثانية من المادة 153 وقد مر ذكرها . فإذا تعاقد شركاء في الشيوع متعهدين عن قاصر فيهم ، وقبل القاصر التعهد بعد بلوغه سن الرشد ، فالمفهوم ضمناً أن القاصر قصد أن يكون لقبوله اثر رجعي ، يستند إلى وقت تعاقد الشركاء . وإذا قصد الغير أن يكون لقبوله اثر رجعي ، فإن هذا الأثر ينتفي بالنسبة إلى أي شخص كسب حقاً يؤثر فيه الأثر الرجعي . فإذا تعهد ( ا ) أن ( ب ) يبيع منقولا يملكه إلى ( ج ) ، ولكن ( ب ) باع المنقول إلى ( د ) ، ثم قبل التعهد الصادر من ( ا ) ، فإن ( ب ) يكون قد باع المنقول مرتين متتاليتين ، المرة الأولى إلى ( د ) ، والمرة الثانية إلى ( ج ) . فإذا كان قبوله للتعهد ذا أثر رجعي أضر هذا بالمشتري ( د ) إذا يتأخر عن المشتري ( ج ) . لذلك لا يكون للقبول اثر رجعي بالنسبة إلى ( د ) فيتقدم على ( ج ) . أما إذا كان المبيع عقاراً ، فالتفاضل يكون بالأسبقية إلى التسجيل ( [645] ) .
وإذا كان صدور القبول من الغير يرتب في ذمته التزاماً على النحو الذي بيناه ، فهذا الالتزام قد نشا من العقد الثاني كان هو طرفاً فيه . ومن ثم لا يكون التعهد عن الغير إلا محض تطبيق للقواعد العامة كما قدمنا ، فإن الغير لم يلتزم بالعقد الأول الذي كان أجنبياً عنه ، بل التزم بالعقد الثاني الذي كان طرفاً فيه . والتزام الغير بالعقد الثاني يقضي التزام المتعهد بالعقد الأول ، إذ أن المتعهد يكون نفذ التزامه بحمل الغير على قبول التعهد .
2 – رفض الغير للتعهد
363 – عدم مسئولية الغير : قدمنا أن الغير حرفي قبول التعهد أو رفضه . فإذا رفضه كان غير مسئول ، لأن التعهد لم يرتب في جانبه أي التزام ( [646] ) .
364 – مسئولية المتعهد : ولكن المتعهد يبقى مسئولا عن العقد الذي تم بينه وبين المتعاقد معه ( [647] ) . وهو لا يتخلص من التزامه العقدي إلا إذا اثبت أنه لم يستطع القيام به لسبب أجنبي . ولا يعتبر امتناع الغير عن قبول التعهد سبباً أجنبياً ( [648] ) . فإذا لم يستطع المتعهد إثبات السبب الأجنبي كان مسئولا . وجزاء هذه المسئولية دفع تعويض للطرف الآخر المتعاقد معه عما أصاب هذا من الضرر من جراء رفض الغير للتعهد . ويقدر التعويض طبقاً للقواعد العامة .
ولا يمكن إجبار المتعهد على تنفيذ الالتزام الذي كان يراد من الغير أن يقبله . ولكن يجوز للمتعهد إن شاء أن يقوم بتنفيذ هذا الالتزام ، إذا كان تنفذه ممكناً ولم يكن متصلا بشخص الغير . فالتزام المتعهد بتنفيذ هذا الالتزام هو إذن التزام بدلي . إذ التزامه الأصلي هو دفع التعويض ، ولكن يستطيع أن يبرئ ذمته من التعويض بأن ينفذ الالتزام المشار إليه ( م 278 ) ( [649] ) .
المطلب الثاني
الاشتراط لمصلحة الغير ( * )
( Stipulation pour autrui )
365 – النصوص القانونية : نصت المادة 154 من القانون الجديد على ما يأتي :
" 1 - يجوز للشخص أن يتعاقد باسمه على التزامات يشترطها لمصلحة الغير ، إذا كان له في تنفيذ هذه الالتزامات مصلحة شخصية مادية كانت أو أدبية " .
" 2 - ويترتب على هذا الاشتراط أن يكسب الغير حقا مباشرا قبل المتعهد بتنفيذ الاشتراط يستطيع أن يطالبه بوفائه ، ما لم يتفق على خلاف ذلك . ويكون لهذا المتعهد أن يتمسك قبل المنتفع بالدفوع التي تنشأ عن العقد " .
" 3 - ويجوز كذلك للمشترط أن يطالب بتنفيذ ما اشتراط لمصلحة المنتفع ، إلا إذا تبين من العقد أن المنتفع وحده هو الذي يجوز له ذلك ( [650] ) " .
ونصت المادة 155 على ما يأتي :
" 1 - يجوز للمشترط دون دائنيه أو ورثته أن ينقض المشارطة قبل أن يعلن المنتفع إلى المتعهد أو إلى المشترط رغبته في الاستفادة منها ، ما لم يكن مخالفا لما يقتضيه العقد .
2 - ولا يترتب على نقض المشارطة أن تبرأ ذمة المتعهد قبل المشترط ، إلا إذا اتفق صراحة أو ضمنا على خلاف ذلك وللمشترط إخلال منتفع آخر محل المنتفع الأول ، كما له أن يستأثر لنفسه بالانتفاع من المشارطة ( [651] ) " .
ونصت المادة 156 على ما يأتي :
" يجوز في الاشتراط لمصلحة الغير أن يكون المنتفع شخصا مستقبلا أو جهة مستقبلة ، كما يجوز أن يكون شخصا أو جهة لم يعينا وقت العقد ، متى كان تعيينهما مستطاعا وقت أن ينتج العقد أثره طبقا للمشارطة ( [652] ) " .
أما القانون القديم فقد أشتمل على نص واحد في موضوع الاشتراط لمصلحة الغير هو نص المادتين 137 / 198 ويجري بما يأتي :
" من عقدت على ذمته مشارطة بدون توكيل منه ، فله الخيار بين قبولها أو رفضها ( [653] ) " .
وبالرغم مما يسود نص القانون القديم من اضطراب وغموض ، وما تتميز به نصوص القانون الجديد من جلاء ووضوح ، فإن القانون الجديد لم يستحدث شيئاً في موضوع الاشتراط لمصلحة الغير ، ولم يفعل إلا أن قنن في نصوص واضحة ما جرى عليه القضاء والفقه في ظل القانون القديم ( [654] ) .
366 – وضع المسألة : ونبدأ بوضع المسألة على نحو يبين مكان الاشتراط لمصلحة الغير من النظم المدنية . فلو أننا سرنا في الاشتراط لمصلحة الغير على القواعد العامة كما فعلنا في التعهد عن الغير ، لترتب على ذلك أن الاشتراط لمصلحة الغير يتكون من عقدين : العقد الأول ما بين المشترط والمتعهد ، يلتزم فيه المتعهد أن يتعاقد مع المنتفع . والعقد الثاني ما بين المتعهد والمنتفع ، يلتزم فيه المتعهد نحو المنتفع . ويكون الأساس القانونين واحداً في الاشتراط لمصلحة الغير والتعهد عن الغير : في كليهما يكسب الغير حقاً أو يترتب في ذمته التزام ، لا بمقتضى العقد الذي لم يكن طرفاً فيه ، بل بمقتضى عقد جديد كان أحد طرفيه .
ولو كان الأمر هو ذلك في الاشتراط لمصلحة الغير لما احتاج إلى كبير عناء ، ولكنا عالجنا الاشتراط مع التعهد في مكان واحد لوحدة الأساس القانوني . ولكن الأساس القانونين في الاشتراط لمصلحة الغير غيره في التعهد عن الغير . ذلك أن الاشتراط لمصلحة الغير لا يتضمن عقدين كالتعهد عن الغير ، بل هو لا يشتمل إلا على عقد واد ، تم بين المشترط والمتعهد ، والمنتفع إنما يكسب حقه من هذا العقد بالذات ، أي من عقد لم يكن هو طرفاً فيه . فكيف ثار المشرع المصري ، في القانونين القديم والجديد ، هذه الثورة على القواعد التقليدية ؟ وأجاز أن ينشيء العقد حقاً للغير ؟
الواقع من الأمر أن المشرع المصري لم يكن مبتدعاً عندما قرر ذلك . فقد سبقه القانون الروماني في هذا الطريق ، ومن بعده القانون الفرنسي القديم ، ومن بعدهما القانون الفرنسي الحديث . ثم إن القاعدة لم نقف عندما قرره المشرع الفرنسي الحديث ، بل تطورت على يد القضاء والفقه تطوراً سريعاً حتى وصلت إلى أن تكون مبدأ عاما قرره القانون المصري الجديد في صراحة ووضوح على النحو الذي رأيناه في النصوص التي نقلناها عن هذا القانون . فنحن نبحث : ( أولاً ) كيف تطورت القاعدة وما وصلت إليه في تطبيقاتها العملية . ( ثانياً ) شروط تحققها . ( ثالثاً ) أحكامها .
1 – كيف تطورت قاعدة الاشتراط لمصلحة الغير وما وصلت إليه في تطبيقاتها العملية
367 – القانون الروماني : بدا القانون الروماني في عهوده الأولى أمينا على القاعدة على تقضى بان العقد لا ينشيء حقاً للغير . ووصل في ذلك إلى حد أن منع النيابة في التعاقد . فكما لا يجوز للمتعاقد أن يشترط حقاً للغير إذا تعاقد باسمه الشخصي ، كذلك هو لا يستطيع إيجاد حق للغير حتى لو تعاقد باعتباره نائباً عن هذا الغير . ولكن كلا من نظرية الاشتراط لمصلحة الغير ونظرية النيابة تطورت في القانون الروماني . ويعنينا هنا تطور نظرية الاشتراط لمصلحة الغير .
فإن القيود التي ترجع إلى الصياغة الرومانية ما لبثت أن تصدعت أمام الضرورات العملية . فالمدين الذي يبيع عيناً ويريد أن يشترط على المشتري دفع الثمن لدائنه سداداً للدين ، لا شك في أن له في هذا الاشتراط مصلحة مادية . والابن الذي يريد أن يجعل ثمن ما باعه إيراداً مرتباً يدفع لأبيه ما دام هذا حياً ، لا شك في أن له في هذا الاشتراط مصلحة أدبية . وكلتا المصلحتين ، المادية والأدبية ، جديرة برعاية القانون . فعالج الرومان هذا الأمر على أساس أن جعلوا المشترط لمصلحة الغير يصطنع لنفسه حقاً شخصياً في العقد ، وذلك بان يضع شرطاً جزائياً ( stipulation poene ) يطالب به المتعهد إذا لم يقم هذا بما تعهد به لمصلحة المنتفع . ثم انقلب الشرط الجزائي الصريح إلى شرط جزائي مفروض ، فأعطى المشترط دعوى تعويض قبل المتعهد إذا لم يقم هذا بالتزامه لمصلحة المنتفع دون حاجة لوضع شرط جزائي . ويكفي لتبرير دعوى التعويض هذه قيام مصلحة مادية أو أدبية . ولكن لم يكن للمنتفع حق مباشر يكسبه من التعهد ، يستطيع أن يطالب به المتعهد .
واستمر القانون الروماني في تطوره . فأعطى للمنتفع حقاً مباشراً يكسبه من العقد ، ولكن في صورة دفع ( exception ) . ثم أعطاه الحق المباشر في صورة دعوى ( action ) ، ولكن في حالات استثنائية معدودة دعت إليها الضرورات العملية . وهذه الحالات هي : ( 1 ) الهبة إذا اشترط فيها الواهب على الموهوب له حقاً لمصلحة الغير ( donation sub modo ) . ( 2 ) اشتراط المورث لمصلحة ورثته . ( 3 ) اشتراط المتعاقد حقاً للغير في عقود معينة : عقد المهر يوجب فيه المشترط على المتعهد أن يعطي مهراً للمنتفع ، وعقدا الوديعة والعارية يلزم فيهما المودع والمعير حافظ الوديعة والمستعير بأن يردا العين للمنتفع ، وعقد رهن الحيازة إذا باع الدائن المرتهن العين لاستيفاء حقه من ثمنها فيشترط على المشتري رد العين إلى الراهن إذا رد هذا إليه الثمن .
368 – القانون الفرنسي القديم : وورث القانون الفرنسي القديم هذه الاستثناءات عن القانون الروماني . وأضاف إليها استثناء جديداً ، كان الرومان لا يعطون فيه للمنتفع إلا دفعاً فأعطى دعوى بدل الدفع . وهذه هي حالة اشتراط البائع على المشتري أن يدفع الثمن لشخص ثالث .
369 – قانون نابليون : واحتفظ قانون نابليون بالقاعدة الرومانية ، إذ قرر في المادة 1119 أنه لا يجوز لمتعاقد أن يشترط باسمه إلا لنفسه . ثم استثنى من هذه القاعدة حالتين أجاز فيهما الاشتراط لمصلحة الغير ، وهاتان الحالتان ، على ما تقرر المادة 1121 من هذا القانون ، هما : ( 1 ) إذا وهب المشترط شيئاً للمتعهد ، واشترط عليه في مقابل ذلك حقاً لأجنبي عن العقد هو المنتفع . وهذه هي الهبة بشرط ( donation sub modo ) التي عرفها كل من القانون الروماني والقانون الفرنسي القديم . ( 2 ) إذا صدر من المشترط عقد معاوضة اشترط فيه أولاً حقاً لنفسه ، ثم قرن ذلك بان اشترط حقاً للغير . وهنا نجد شيئاً من التجديد لم نعهده لا في القانون الروماني ولا في القانون الفرنسي القديم . فإن هذين القانونين كانا يستثنيان من القاعدة التي تقضي بأن العقد لا ينشيء حقاً للغير عقوداً معينة بالذات ذكرناها فيما تقدم . أما المشرع الفرنسي فقد وسع من جهة ، وضيق من جهة أخرى . وسع في أنه لم يخص عقوداً دون أخرى بالاستثناء . وضيق في أنه لم يجز للمتعاقد أن يشترط لغيره حقاً إلا إذا كان مقروناً باشتراطه حقاً لنفسه .
370 – القضاء والفقه : على أن تطور القاعدة بقى مستمراً يواجه الحاجات العملية المتجددة ، وبخاصة ما تقتضيه عقود التأمين التي كان لها اكبر الأثر في تطور قاعدة الاشتراط لمصلحة الغير . ففسر الفقه والقضاء في فرنسا كلمة ( stipulation ) الواردة في المادة 1121 ، لا بالاشتراط كما هو معناها الدقيق ، بل بالتعاقد بوجه عام ، سواء كان المتعاقد مشترطاً حقاً لنفسه أو مرتباً التزاماً في ذمته . فيكفي أن " يتعاقد " المشترط لنفسه ، ويستطيع بعد ذلك أن يشترط للغير حقاً دون أن يشترط حقاً لنفسه . والمهم توافر شرطين : ( 1 ) أن يتعاقد لنفسه مشترطاً حقاً أو مرتباً التزاماً كما قدمنا . فإذا كان لم يشترط شيئاً لنفسه ، فيكفي أن يلتزم بشيء عن نفسه . وبذلك يتسع صدر الاستثناء لأن يضم ما استجد من الحاجات . ففي عقد التأمين على الحياة لمصلحة الغير ، وفي عقد التأمين الذي يبرمه رب العمل لمصلحة عماله ، نرى المتعاقد لمصلحة الغير لم يشترط لنفسه حقاً ، ولكنه رتب في ذمته التزاماً هو دفع أقساط التأمين . ( 2 ) أن يكون للمتعاقد مصلحة مادية أو أدبية تدفعه إلى الاشتراط لمصلحة الغير . لأن محل التعاقد يشترط أن تكون فيه فائدة شخصية للمتعاقد ، والمشترط قد تعاقد على منفعة تؤدي للغير ، فيبج أن تكون له في هذه المنفعة مصلحة شخصية ، مادية أو أدبية ، وإلا بطل التعاقد .
على أن الشرط الأول من هذين الشرطين – وهو أن يكون للمشترط دور شخصي في التعاقد مشترطاً حقاً لنفسه أو مرتباً التزاماً في ذمته – لم يلبث أن اختفى هو أيضاً ( [655] ) . وأصبح يكفي أن يكون للمشترط مصلحة مادية أو أدبية في الاشتراط لمصلحة المنتفع ، وليس من الضروري أن يشترط لنفسه أو يلتزم عن نفسه .
بل إن القضاء والفقه وصلا في التطور إلى حد أن أجازا الاشتراط لمصلحة شخص غير معين ، بل لمصلحة شخص غير موجود . فرب العمل الذي يؤمن من مخاطر العمل لمصلحة عماله إنما يؤمن لمصلحة أي عامل يدخل في خدمته . فالمنتفع هنا بالتأمين أشخاص غير معينين ، ولكن تعيينهم مستطاع وقت أن ينتج العقد أثره ( [656] ) . وكثيراً ما يؤمن الشخص لمصلحة أولاده الموجودين ومن سيوجد منهم ( enfants nes et a naitre ) . بل قد لا يكون له أولاد ومع ذلك يؤمن لمصلحة ما عسى أن يوجد له من أولاد في المستقبل . فالمنتفع هنا أشخاص غير موجودين وقت إبرام عقد التأمين ، ولكنهم لا ينالون حقاً إلا إذا وجدوا معينين بالذات وقت أن ينتج عقد التأمين أثره . وهذا الوضع يتمشى مع النظرية المادية للالتزام التي لا تشترط وجود الدائن وقت صدور العقد ، وتكتفي بوجوده وقت تنفذ العقد ( [657] ) .
371 – القانون المصري القديم والجديد : هذا هو التطور الذي وصلت إليه قاعدة الاشتراط لمصلحة الغير ، فانقلبت من استنثاء محدود إلى قاعدة عامة . وهذا ما عبر عنه القانون القديم في عبارات غامضة مضطربة سبق إيرادها ، وما عبر عنه القانون الجديد في عبارات صريحة واضحة ، فقال في المادة 152 إن العقد لا يرتب التزاماً في ذمة الغير ولكن يجوز أن يكسبه حقا . ثم طبق القاعدة في المادة 154 ، فأجاز للشخص أن يتعاقد باسمه على التزامات يشترطها لمصلحة الغير إذا كان له في تنفيذ هذه الالتزامات مصلحة شخصية ، مادية كانت أو ادبية . فلم يستبق من القيود التي كانت تحيط بالقاعدة في خلال تطورها إلا الشرط الأخير ، وهو وجود مصلحة شخصية للمشترط ، وأجاز في المادة 156 للمشترط أن يشترط لمصلحة شخص غير معين ولمصلحة شخص غير موجود على النحو الذي رأيناه في النصوص التي أوردناها . فيكون القانون المدني الجديد قد سجل في نصوصه آخر مراحل التطور لقاعدة الاشتراط لمصلحة الغير .
372 – التطبيقات العملية لقاعدة الاشتراط لمصلحة الغير : والقاعدة ، في آخر تطور لها على النحو الذي بيناه ، لها تطبيقات عملية كثيرة نذكر منها ما يأتي :
1 - التطبيقات التقليدية : ومن هذه التطبيقات الهبة أو البيع مع اشتراط الواهب أو البائع على الموهوب له أو المشتري ترتيب ايراد أو حق ما للغير . ومنها بيع العين المرهونة مع اشتراط البائع على المشتري أن يدفع أقساط الدين إلى الدائن المرتهن ( [658] ) ، ويلاحظ في هذه الحالة أن المشتري وقد أصبح ملتزماً بالدين التزاماً شخصياً لا يستطيع تطهير العقار ( [659] ) . وقد طبقت محكمة الاستئناف المختلطة قاعدة الاشتراط لمصلحة الغير في حالة اشتراط فيها البائع على الجار إلا يأخذ بالشفعة رعاية لمصلحة المشتري ، فكسب المشتري حقاً من هذتا العقد الذي لم يكن طرفاً فيه ( [660] ) . كذلك قد يشترط صاحب المتجر إذا باع متجره لمصلحة العمال والمستخدمين ، فيأخذ على المشتري عهداً أن يبقيهم في العمل أو إلا ينقص من اجورهم . وفي عقود النقل يتم العقد بين شركة النقل ومرسل البضاعة ، فيتولد عن هذا العقد حق مباشر للمرسل إليه يستطيع بمقتضاه أن يطالب شركة النقل بتنفيذ شروط العقد ، كتسليم البضاعة في حالة جيدة وفي مكان معين ( [661] ) .
2 - عقود التأمين : عقد التأمين على الحياة هو خير مثل للاشتراط لمصلحة الغير . والمتعاقد تارة يؤمن لمصلحته ولمصلحة ورثته من بعده إذا مات قبل مدة معينة ، وطواراً يؤمن لمصلحة أقارب له معينين دون أن يشترط لنفسه شيئاً . وفي الحالتين يوجد اشتراط لمصلحة اليغر يكسب المنتفع بمقتضاه حقاً مباشراً من عقد التأمين . وقد يؤمن المستحق في وقف على حياته لمصلحته دائنه . حتى إذا مات وانقطع استحقاقه استطاع الدائن أن يستولى على حقه من مبلغ التأمين . وعلى العكس من ذلك قد يؤمن الدائن على حياة مدينه ضماناً لحقه ( [662] ) . وعدا التأمين على الحياة توجد عقود تأمين أخرى يشترط فيها المؤمن لمصلحة الغير . فكثيراً ما يؤمن رب العمل لمصلحة عماله مما يصيبهم من الضرر أثناء العمل ، فيكون الغير هنا هم العمال يكسبون حقاً مباشراً قبل شركة التأمين عماً يصيبهم من الضرر ( [663] ) . ويقرب من هذا أن يتفق رب العمل مع طبيب لعلاج العمال مجاناً ، ففي هذه الحالة يكون للعمال حق مباشر قبل الطبيب إذا أهمل علاجهم أو رفض ذلك ( [664] ) . وقد يؤمن عامل النقل لمصلحة مرسل البضاعة ، ويكون هذا اشتراطاً لمصلحة الغير ( [665] ) . وقد يؤمن المدين الراهن على المنزل المرهون من الحريق لمصلحة الدائن المرتهن . وعقد التأمين لحساب من يملك الشيء المؤمن عليه ( assurance pour le compte de qui il appartiendra ) فيه اشتراط للغير ، فقد يكون الشيء منزلا يؤمن صاحبه من الحريق أو بضاعة يؤمنها من التلف أو الغرق أو نحو ذلك من المخاطر ، ويشترط على شركة التأمين أن تدفع التعويض في حالة تحقق الخطر لأي شخص يكون مالكاً في ذلك الوقت للشيء المؤمن عليه .
3 - عقود الاحتكار والتزام المرافق العامة : إذا حصلت شركة على احتكار تلتزم به مرفاقً من المرافق العامة ، كالاحتكار الذي يمنح لشركات المياه والنور والغاز والنقل ونحو ذلك ، فإن مانح الاحتكار – الحكومة أو أحد المجالس البلدية – يشترط عادة على المحتكر شروطاً لمصلحة المنتفعين من الجمهور . فيشترط مثلا حداً معيناً من الأجور لا يجوز للمحتكر أن يجاوزه . في مثل هذه الحالة يوجد اشتراط لمصلحة الغير ، ويكون لكل فرد من الجمهور حق مباشر يكسبه من عقد الاحتكار ، ويستطيع بمقتضاه أن يقاضي المحتكر ويطالبه بتنفيذ الشروط التي فرضت لمصلحته ( [666] ) . وقد أكد هذا المبدأ القانون المدني الجديد في النصوص التي أفردها لعقد التزام المرافق العامة ، فنص في المادة 669 على أن ملتزم المرفق العام يتعهد بمقتضى العقد الذي يبرمه مع عميله بأني ؤدي لهذا العميل على الوجه المألوف الخدمات المقابلة للأجر الذي يقبضه ، وفقاً للشروط المنصوص عليها في عقد الالتزام وملحقاته ، وللشروط التي تقتضيها طبيعة العمل ويقتضيها ما ينظم هذا العمل من القوانين ( أنظر أيضاً المادتين 670 و 671 ) .
4 - عقود المقاولات : وكثيراً ما يفرض رب العمل في عقود المقاولات على المقاول شروطاً لمصلحة العمال . لاسيما إذا كان رب العمل هذا هو الحكومة أو شخص معنوي عام أو إحدى الشركات . ويثبت ذلك في دفتر الشروط ( cahier des charges ) ، فيضع حداً معيناً للأجور لا يجوز أن تنزل عنه . وشروطاً معينة من حيث ساعات العمل والتعويض عن الاصابات ونحو ذلك . فيصبح للعمال قبل المقاول حق مباشر استمدوه من عقد المقاولة التي لم يكونوا طرفاً فيها ، طبقاً لقواعد الاشتراط لمصلحة الغير ( [667] ) .
2 - شروط تحقق قاعدة الاشتراط لمصلحة الغير
373 – متى يتحقق الاشتراط لمصلحة الغير : الاشتراط لمصلحة الغير يتفرض وجود أشخاص ثلاثة : المشترط ( stipulant ) ، والمتعهد ( promettant ) ، والمنتفع ( beneficiaire ) . ولكي يتحقق يجب أن تتوافر الشروط الثلاثة الآتية :
( 1 ) أن يتعاقد المشترط باسمه لا باسم المنتفع ، دون أن يدخل المنتفع طرفاً في العقد .
( 2 ) أن يشترط المشترط على المتعهد حقاً مباشراً للمنتفع .
( 3 ) أن يكون للمشترط من وراء هذا الاشتراط مصلحة شخصية ، مادية كانت أو ادبية .
وهذا ما أجملته الفقرة الأولى من المادة 154 من القانون الجديد إذ تقول : " يجوز للشخص أن يتعاقد باسمه على التزامات يشترطها لمصلحة الغير ، إذا كان له في تنفيذ هذه الالتزامات مصلحة شخصية مادية كانت أو أدبية " .
374 – المشترط يتعاقد باسمه أو باسم المنتفع : وهذا الذي يميز الاشتراط لمصلحة الغير عن النيابة ، اتفاقية كانت أو قانونية . فالنائب ، وكيلا كان أو ولياً أو وصياً أو قيماً أو فضولياً أو غير ذلك ، يتعاقد بامس الأصيل لا باسمه . أما المشترط فيتعاقد باسمه لا باسم المنتفع . والاصيل لا النائب هو الطرف في العقد . ورضاء النائب يغني عن رضائه . أما في الاشتراط لمصلحة الغير فالمشترط لا المنتفع هو الطرف في العقد ، وقبول المنتفع للاشتراط ضروري حتى يتأكد في شخصه حق كسبه من عقد لم يكن طرفاً فيه .
ويترتب على ما تقدم أن المشترط يختلف عن الفضولي اختلافاً جوهرياً . فالفضولي نائب عن رب العمل ، بخلاف المشترط فلا ينوب عن المنتفع . وقد كان هناك رأي ، تبين الآن فساده ، يجعل المشترط فضولياً يتعاقد لمصلحة المنتفع ، وقبول المنتفع يعتبر إقراراً لعمل الفضولي فينقلب هذا وكيلا ، وعن طريق الفضالة والوكالة ينصرف أثر العقد إلى المنتفع . أما فساد هذا الرأي فراجع إلى أن المشترط إنما يتعاقد باسمه كما قدمنا ، في حين أن الفضولي يتعاقد نيابة عن رب العمل . وهذا الفرق بين الوضعين تنبني عليه نتائج عملية هامة ، نذكر منها ما يأتي :
1 - لما كان المشترط ليس بنائب عن المنتفع ، فإن كل شخص يستطيع أن يشترط لمصلحة الغير ما دامت له مصلحة شخصية في ذلك ، وليس كل شخص يستطيع أن يدير عمل الغير عن طريق الفضالة إذ لا بد من وجود ضرورة تقضي بذلك كما سنرى عند الكلام في الفضالة .
2 - يجب في الاشتراط لمصلحة الغير أن تكون للمشترط مصلحة شخصية ، لأنه يتعاقد باسمه . أما الفضولي فهو ، على النقيض من ذلك ، يجب إلا تكون له مصلحة شخصية في ادارته لشئون رب العمل .
3 - الفضولي ، وهو يعمل لحساب رب العمل ، يلتزم بالمضي فيما بدأ به ، ولا يجوز له الرجوع فيه . أما المشترط ، وهو يعمل حسابه ، لا يلتزم بالمضى في عمله ، بل هو ، على النقيض من ذلك ، يجوز له الرجوع في الاشتراط للمنتفع وإضافة الحق لنفسه أو لشخص آخر غير المنتفع .
375 – المشترط يشترط حقا مباشرا للمنتفع : فإذا كان الحق الذي اشترطه المشترط إنما اشترطه لنفسه . ولكن تعود منه فائدة على الغير ، فلا يكون هذا اشتراطاً لمصلحة الغير . مثل ذلك أن يؤمن شخص على مسئوليته عما ينجم من الضرر للغير ، فلا يعد هذا اشتراطاً لمصلحة الغير ، لأن المؤمن له إنما أراد أن يشترط لنفسه هو لا للمصاب ، وإن كان التعويض الذي يأخذه من شركة التأمين يعود لفائدة على المصاب إذ يستطيع أن يستوفى منه حقه وإن زاحمه في ذلك سائر دائني المؤمن له . وعلى ذلك لا يكون للمصاب حق مباشر من عقد التأمين ، فلا يرجع على الشركة التأمين إلا بدعوى مدينه .
ولا يكفي إعطاء حق المنتفع : بل يجب أن يكون هذا الحق قد نشأ مباشرة من العقد الذي تم ما بين المشترط والمتعهد . فإذا كان المشترط قد اشترطا هذا الحق الذي نشأ من العقد لنفسه أولاً ، ثم جحوله بعد ذلك أو انتقل عنه إلى شخص آخر ، لم يكن في هذا اشتراط لمصلحة اليغر . ويترتب على ذلك أنه لو باع شخص منزلا ، ثم حول الثمن إلى دائن له ، كان هناك عقدان : عقد البيع بين البائع والمشتري ، وعقد الحوالة بين هذا البائع وهو المحيل ودائنه وهو المحال له . ولو أمن شخص لمصلحة نفسه ، ثم مات وانتقل حق التعويض إلى ورثته ، فإن هؤلاء يتلقون الحق عن مورثهم بالميراث ، ولا يكسبون حقاً مباشراً من عقد التأمين ذاته . وليس في كل ذلك اشتراط لمصلحة الغير . كذلك لا يقصد المشترط أن يلتزم المتعهد قبل المنتفع بعقد جديد يتم بينهما ، ولا أن يعرض ايجاباً على المنتفع ليقبله هذا فيتم عقد جديد بينه وبين المنتفع ، ويتبين مما تقدم أن الحق المباشر الذي يكسبه المنتفع لا يتلقاه عن المشترط عن طريق الحوالة أو عن طريق الميراث أو عن طريق عقد جديد ، ولا يتلقاه عن المتعهد عن طريق عقد جديد ، وإنما يتلقاه مباشرة من العقد ذاته الذي تم بين المشترط والمتعهد .
ولا يشترط في المنتفع أن يكون موجوداً وقت صدور هذا العقد ، أو أن يكون معيناً في ذلك الوقت ، بل يجوز ، كما رأينا في الأمثلة التي قدمناها ، وكما تقرر المادة 156 التي أسلفنا ذكرها ، أن يكون شخصاً مستقبلا أو شخصاً غير معين وقت عقد الاشتراط ، متى وجد أو كان مستطاع التعيين وقت أن ينتج العقد أثره طبقاً للمشارطة . وهذه هي ميزة كبيرة ، تطور الاشتراط لمصلحة الغير حتى وصل إليها كما رأينا .
376 – المشترط له مصلحة شخصية في الاشتراط للغير : ذلك أن المشترط إنما يعمل لحسابه ويتعاقد باسمه ، فلا بد أن تكون له مصلحة شخصية في الاشتراط للغير ، وغلا كان فضولياً . والمصلحة الشخصية هي الفرق الجوهري ما بين الفضالة والاشتراط لمصلحة الغير كما قدمنا .
ولا يشترط أن تكون المصلحة مادية ، بل يجوز أن تكون ادبية . فيصح التأمين لمصلحة الزوجة والأولاد ، والاشتراط لمصلحة الفقراء أو العجزة أو اللقطاء أو لأي عمل آخر من أعمال البر .
ولكن يكفي أن يكون للمشترط مصلحة شخصية ، مادية أو ادبية ، وليس من الضروري أن يكون له دور شخصي في العقد . وقد رأينا في تطور قاعدة الاشتراط لمصلحة الغير أن للمشترط أن يشترط لمصلحة المنتفع دون أن يكون له دور شخصي في هذا الاشتراط ، لا مشترطاً لنفسه ولا متعهداً عنها . مثل ذلك أم تتعاقد مع والد ابنها على أن يتعهد الأب بترتيب ايراد للابن دون أن تلتزم الأم بشيء قبل الأب . ففي هذا الفرض نرى الأم قد اشترطت حقاً لصالح ابنها . أن أن تشترط لنفسها حقاً أو ترتب في ذمتها التزاماً ، وليست الأم تقوم هنا بعمل الفضولي لأن لها مصلحة شخصية في الاشتراط ، وهي مصلحة ادبية ، فهي مدفوعة بعامل الامومة لا بعامل المرؤوة ومثل ذلك أيضاً أن تمنح البلدية احتكاراً لاحدى الشركات ، ثم تعود فتشترط عليها في عقد مستقل شروطاً لمصلحة الجمهور . وتقبل الشركة هذه الشروط دون مقابل ، فيتحقق في هذا الفرض اشتراط لمصلحة الغير دون أن يكون للمشترط دور شخصي .
3 - أحكام الاشتراط لمصلحة الغير
377 – العلاقات المختلفة في الاشتراط لمصلحة الغير : قدمنا أن هناك اشخاصا ثلاثة في الاشتراط لمصلحة الغير : المشترط والمتعهد والمنتفع . وعلينا أن نبحث علاقاتهم بعضهم ببعض . فنتكلم في مسائل ثلاث : ( أولاً ) علاقة المشترط بالمتعهد . ( ثانياً ) علاقة المشترط بالمنتفع . ( ثالثاً ) علاقة المتعهد بالمنتفع .
378 – علاقة المشترط بالمتعهد : هذه يحددها العقد الذي تم فيما بينهما . ففي عقد التامين مثلا يلتزم المشترط بأن يدفع للمتعهد ( شركة التأمين ) أقساط التأمين في مواعيدها ، وتلتزم شركة التأمين في حالة ما إذا كان المشترط قد اشترط لنفسه إلى جانب اشتراطه للغير بأن تقوم بما عليها من التزام نحو المشترط فتدفع له مثلا المبلغ المتفق عليه إذا تبقى حياً إلى المدة المتفق عليها . ولكن من المتعاقدين أن يتمسك قبل الآخر بأوجه الدفع الجائز التمسك بها بالنسبة إلى هذا القعد الذي تم بينهما من أوجه بطلان أو أسباب انقضاء .
وإذا لم يقم أحد المتعاقدين بما عليه من التزامات قبل الآخر وجب تطبيق القواعد العامة . فيجوز للمتعاقد الذي لم يحصل على حقه أن يطلب التنفيذ عيناً إذا كان هذا ممكناً ، أو أن يطلب تعويضاً عن عدم التنفيذ . وله أيضاً أن يطلب فسخ العقد أو وقف تنفيذه .
ولما كان للمشترط مصلحة شخصية في التزام المتعهد نحو المنتفع كما قدمنا ن فإن للمشترط ان يراقب تنفيذ المتعهد لهذا الالتزام لأنه ليس أجنبياً عنه . وعلى هذه المصلحة الشخصية بنينا قيام الاشتراط لمصلحة الغير ن وعليها الان نبني حق المشترط في مراقبة تنفيذ المتعهد لالتزامه نحو المنتفع ز فللمشترط ان يطالب المتعهد بتنفيذ هذا الالتزام للمنتفع ، وأن يرفع دعوى باسمه لا باسم المنتفع للمطالبة بذلك . وهي دعوى قوامها المصلحة الشخصية الثابتة للمشترط . بل قد تنصرف نية المشترط إلى أن يحتفظ لنفسه وحده بدعوى مطالبة المتعهد بتنفيذ التزامه نحو المنتفع . دون أن يكون للمنتفع نفسه دعوى للمطالبة بهذا التنفيذ ، كما إذا اشترطت الحكومة على إحدى شركات الاحتكار شروطاً لمصلحة الجمهور واحتفظت لنفسها وحدها ، دون أفراد الجمهور ، بالحق في مطالبة الشركة بتنفيذ هذه الشروط . وعلى العكس من ذلك يجوز أن يتبين من العقد أن المنتفع وحده دون المشترط هو الذي تجوز له المطالبة بتنفيذ المتعهد لالتزامه نحوه ، كما إذا اشترط رب العمل على مصحة أن تنزل من يشاء من عماله لقضاء دور النقاهة فيها على أن يترك ذلك لاختيار العامل . وإلى هذا تشير الفقرة الثالثة من المادة 154 إذ تقول : " ويجوز كذلك للمشترط أن يطالب بتنفيذ ما اشترط لمصلحة المنتفع ، إلا إذا تبين من العقد أن المنتفع وحده هو الذي يجوز له ذلك " .
كذلك للمشترط ، إذا لم يقم المتعهد بتنفيذ التزامه نحو المنتفع ، أن يطلب فسخ العقد أو وقف تنفيذه وفقاً للقواعد العامة . يلاحظ أن المشترط إذا فسخ العقد بعد صدور قبول المنتفع ، سواء كان ذلك لعدم تنفيذ المتعهد لالتزامه نحو المنتفع أو لالتزامه نحو المشترط ، فإن الفسخ لا يضيع على المنتفع حقه ، فيرجع هذا به على المشترط إلا إذا كان الاشتراط تبرعاً يجوز الرجوع فيه ( [668] ) .
379 – علاقة المشترط بالمنتفع : قد تكون هذه العلاقة عرقة تبرع ، وقد تكون علاقة معاوضة .
فإذا كان المشترط أراد التبرع للمنتفع ، لم يحل دون ذلك عدم استيفاء الهبة للشكل ، لأن الهبة هنا غير مباشرة . وسنرى أن للمشترط نقض لااشتراط ، سواء كان تبرعاً أو معاوضة ، مدام المنتفع لمي صدر منه إقرار لما اشترط لمصلحته . أما إذا كان الاشتراط تبرعاً للمنتفع ، جاز للمشترط ، حتى بعد أن يقر المنتفع هذا الاشتراط ، أن ينقض حق المنتفع طبقاً لقواعد الرجوع في الهبة ( [669] ) . ذلك أن العلاقة التبرعية فيما بين المشترط والمنتفع . إذا كانت لا تخضع لأحكام الهبة من حيث الشكل ، فهي تخضع لها من حيث الموضوع . فيجب توافر أهلية التبرع في المشترط ، وتعتبر الهبة قد صدرت من وقت صدور العقد ، فإذا صدرت من المشترط وهو في مرض موته أخذت حكم الوصية . ويجوز الطعن فيها بالدعوى البوليصية ولا يشترط أن يكون المنتفع سيء النية لأنه موهوب له . ويلاحظ أن المقدار الموهوب بالنسبة إلى المشترط ليس هو مقدار ما التزم به المتعهد نحو المنتفع ، بل هو مقدار ما دفعه المشترط للمتعهد بشرط إلا يزيد عما التزم به المتعد نحو المنتفع . فلو أن شخصاً امن على حياته لمصلحة اولاده تبرعاً منه لهم ، فإن مقدار ما تبرع به لا يكون المبلغ الذي تدفعه شركة التأمين للأولاد بعد موت المؤمن له ، بل هو مقدار الاقساط التي دفعها المؤمن له لشركة التأمين حال حياته بشرط إلا تزيد على مبلغ التأمين . أما إذا أعطى شخص آخر شيئاً قيمته ألف ، واشترط عليه التزاماً لمصلحة الغير قيمته خمسمائة ، فإن المقدار الذي وهبه المشترط للمنتفع هو خمسمائة لا ألف ( [670] ) .
أما إذا كان المشترط لم يرد التبرع ، فالعلاقة بينه وبين المنتفع يحددها موقف الأول من الثاني بحسب الأحوال . فقد يكون المشترط ميدناً للمنتفع ، واشترط له وفاء لدينه . وقد يكون أراد إقراض المنتفع من طريق الاشتراط لمصلحته ، ويكون القرض تبرعاً إذا كان بغير فوائد ومعاوضة إذا كان بفوائد . ومثل القرض الوديعة ، فإذا تسلم المنتفع العين من المتعهد أصبح بالنسبة إلى المشترط حافظاً لوديعته وطبقت أحكام الوديعة فيما بينهما ، وهكذا .
380 – علاقة المتعهد بالمنتفع – حق مباشر مصدره عقد الاشتراط : وعلاقة المتعهد بالمنتفع هي اخص ما في الاشتراط لمصلحة الغير من طابع يتميز به عن غيره من ضروب التعاقد . ذلك أن المنتفع – ولم يكن طرفاً في العقد الذي التزم به المتعهج – يكسب من هذا العقد حقاً شخصياً مباشراً ( droit proper ) يستطيع أن يطالب به المتعهد . وهكذا يتحقق ما في الاشتراط لمصلحة الغير من خروج على القاعدة العتيقة التي كانت تقضي بأن العقد لا ينشيء حقاً للغير . وهذا هو ما تصرح به الفقرة الثانية من المادة 154 من القانون المدني الجديد في هذا الصدد : " ويترتب على هذا الاشتراط أن يكسب الغير حقاً مباشراً قبل المتعهد بتنفيذ الاشتراط يستطيع أن يطالبه بوفاء ، ما لم يتفق على خلاف ذلك " . فالعقد الذي تم ما بين المشترط والمتعهد هو إذن مصدر الحق المباشر الذي ثبت للغير ، وهذا العقد هو الذي أنشأ هذا الحق . وإذا قيل كيف ينشيء العقد حقاً للغير ؟ قلنا ولهذا قامت قاعدة الاشتراط لمصلحة الغير . ثم ما الذي يمنع من ذلك ؟ ولماذا لا ينشيء العقد حقاً للغير ما دام هذا الغير يرضى بأن يكون هذا الحق له ! ليس في المنطق القانونين ما يجعل هذا متعذراً ، وإنما هي القاعدة الرومانية العتيقة التي كانت تحول دون التسليم بهذا المبدأ . وقد قضت ، نزولا عند اعتبارات ترجع للصياغة القانونية عند الرومان ، بأن العقد يقتصر أثره على المتعاقدين . ولا معنى لبقاء هذه القاعدة بعد زوال مقتضياتها . وليس ثمة ما يمنع من التسليم بان العقد قد ينشيء حقاً للغير . وهذا ما صرح به القانون المدني الجديد ( [671] ) .
ما كنا لنسهب في تقرير ذلك مع وضوحه ، لولا أن الفقهاء يعتقدون عادة بحثاً تقليدياً يتساءلون فيه أين مصدر الحق الذي ثبت للمنتفع؟ لعله يكون في عقد جديد تم بين المشترط والمنتفع ، أو بين المتعهد والمنتفع . أو لعل الحق قد نشأ من عمل المشترط على أساس أنه فضولي يعمل لمصلحة المنتفع . أو لعله يكون هو حق المشترط كسبه من العقد وحوله بعد ذلك للمنتفع . ولكل نظرية من هذه النرظيات أنصار يدافعون عنها . على أنه من اليسير تفنيدها جميعاً . فقد قدمنا أن الاشتراط لمصلحة الغير ليس معناه أن المتعهد أو المشترط يعرض إيجاباً على المنتفع ليقبله أو يرفضه كما تذهب إلى ذلك نظرية الإيجاب المعروض ( theorie de l’offre ) ، لأن حق المنتفع إنما ينشأ من العقد الذي تم ما بين المشترط والمتعهد لا من عقد جديد بين المنتفع والمتعهد أو بين المنتفع والمشترط . وليس معناه أن المشترط يقوم بعمل من أعمال الفضالة للمنتفع ( theorie de la gestion d’affaire ) ، لأن هناك فرقاً جوهريا ما بين الاشتراط لمصلحة الغير والفضالة هو وجود المصلحة الشخصية في الحالة الأولى وانعدامها في الحالة الثانية ، وليس معناه أن المشترط يكسب الحق لنفسه أولاً ثم يحوله بعد ذلك للمنتفع ( theorie de la gestion d’affaire ) ، لأن هناك فرقاً جوهرياً ما بين الاشتراط لمصلحة الغير والفضالة هو وجود المصلحة الشخصية في الحالة الأولى وانعدامها في الحالة الثانية ، وليس معناه أن المشترط يكسب الحق لنفسه أولاً ثم يحوله بعد ذلك للمنتفع ( theorie de la cession ) ، لأن المنتفع لا يتلقى الحق عن المشترط ولا يعتبر خلفاً له فيه ، بل هو حق كسبه مباشرة من عقد الاشتراط . سبق أن فندنا كل هذا ، ونفند الآن كذلك نظرية أخرى لجأ إليها بعض الفقهاء ( [672] ) أخيراً يذهبون فيها إلى أن حق المنتفع مصدره إرادة المتعهد المنفردة ( theorie de la volonte unilaterale ) ، ولو كان هذا صحيحاً لما أمكن أن يتمسك المتعهد قبل المنتفع بالدفوع الواردة على عقد الاشتراط ، ولكان للمتعهد وحده لا للمشترط حق النقض إلى أن يصدر إقرار المنتفع .
والواقع من الأمر أن الفقهاء يناقضون أنفسهم عندما يقررون أن الاشتراط لمصلحة الغير لا يتفق مع القاعدة القديمة التي كانت تقضي بأن العقد لا ينشيء حقاً للغير ، ثم إذا وصلوا إلى المكان الذي يبحثون فيه عن مصدر حق المنتفع نسوا ما قرروه من قبل ، وحاولوا أن يخضعوا حق المنتفع لهذه القاعدة القديمة ذاتها التي سبق لهم أن أنكروها ! فلا يجرؤ فقيه على أن يرجع هذا الحق إلى عقد الاشتراط خوفاً من أن يصطدم بهذه القاعدة ! أما نحن فلا نتردد في أن نقرر أن حق المنتفع مصدره عقد الاشتراط ، وليس للحق مصدر غير هذا العقد ( [673] ) . ونقرر كذلك أن هذا الحق مباشر ، لم يتلفه المنتفع من المشترط . ولكل من هاتين الخاصتين – حق مباشر ، وحق مصدره عقد الاشتراط – نتائج عملية هامة تترتب عليها .
381 – علاقة المتعهد بالمنتفع ( تتمة ) – ما يترتب من النتائج على أن حق المنتفع حق مباشر مصدره عقد الاشتراط : أما النتائج التي ترتب على أن حق المنتفع حق مباشر لا يتلقاه من المشترط فهي ما يأتي :
( 1 ) لا شأن لدائني المشترط بهذا الحق بعد موته ، بل يخلص الحق للمنتفع وحده لأنه لم يتلقه من المشترط . ولو كان قد تلقاه منه بطريق الميراث لتلقاه مثقلا بديون التركة . وأهم تطبيق لهذا المبدأ هو عقد التأمين على الحياة . فإذا تعاقد المؤمن له مشترطاً لمصلحة أولاده ثم مات ، فإن الأولاد لا يتلقون الحق في تركة ابيهم ، بل هو حقهم المباشر قبل شركة التأمين . ويترتب على ذلك أن دائني المؤمن له ليس لهم أن يعتبروا حق الأولاد داخلا في تركة مدينهم حتى يرجعوا عليه كما يرجعون على جميع حقوق التركة ، بل تأخذ الأولاد مبلغ التأمين من الشركة خالصاً لهم ، ولا يدفعون منه شيئاً لسداد ديوان ابيهم ، وهذه هي أهم مزية للتأمين ، وقد استقر الفقه والقضاء على هذا المبدأ في فرنسا وفي مصر ( [674] ) .
( 2 ) كذلك لا شأن لدائني المشترط بهذا الحق حال حياته ، فإن الحق لم يدخل يوماً ما في مال المشترط حتى يكون داخلا في ضمانهم العام . وينبني على ذلك أنه لا يجوز للدائنين التنفيذ على هذا الحق ، وليس لهم أن يستعملوه باسم مدينهم لأنه ليس حقاً لهذا الدين .
( 3 ) وإذا كان لدائني المشترط أن يطعنوا في اشتراطه بالدعوى البوليصية عند توافر شروطها ، فالواجب مع ذلك إلا نعتبر المنتفع في مركز من تلقى الحق عمن تصرف له المدين . ولتوضيح ذلك نفرض أن ( أ ) أعطى ( ب ) منزلا قيمته ألف ، واشترط عليه أن يعطي ( ج ) مبلغاً مقداره خمسمائة . وأراد دائن ( أ ) أن يطعن بالدعوى البوليصية في هذا العقد . في هذه الحالة يجب التمييز بين تصرفين : ( التصرف الأول ) هو الصادر من ( أ ) إلى ( ب ) ، هو معاوضة بالنسبة إلى ( ب ) ، فيشترط التواطؤ بين ( أ ) و ( ب ) لنجاح الدعوى البوليصية ، دون أن يشترط تواطؤ ( ج ) لأنه تلقى حقاً مباشراً ولم يخلف ( ب ) في حق انتقل إليه من ( ا ) . وإذا ثبت التواطؤ بين ( ا ) و ( ب ) اعتبر التصرف غير نافذ في حق الدائن ، وكان لهذا أن ينفذ بحقه على المنزل ، ويرجع ( ب ) على ( ا ) بما اعطاه إلى ( ج ) أو يسفخ العقد فيزول التزامه نحو ( ج ) . ( والتصرف الثاني ) هو الصادر من ( ا ) إلى ( ج ) عن طريق الاشتراط ، فإذا كانت العلاقة بين ( ا ) و ( ج ) هي علاقة تبرع . فإن دائن ( ا ) يستطيع بالدعوى البوليصية أن يجعل هذه الهبة ومقدارها خمسمائة غير نافذة في حقه حتى لو كان ( ج ) حسن النية . أما إذا كانت العلاقة بين ( ا ) و ( ج ) هي علاقة معارضة ، فليس للدائن حق الطعن إلا إذا اثبت التواطؤ فيما بينهما .
( 4 ) ولما كان المنتفع لا يتلقى حقه من المشترط بل يكسبه مباشرة من عقد الاشتراط ، فيصبح دائناً للمتعهد ، فإنه يترتب على ذلك أن دائنى المتعهد ، وقد أصبح المنتفع واحداً منهم ، يشتركون مع المنتفع شركة غرماء في استيفاء حقوقهم من مال المتعهد ، ولهم أن يستعملوا حق مدينهم في التمسك قبل المنتفع بأي دفع من الدفوع الواردة على عقد الاشتراط ، ولهم أن يطعنوا في التزام ميدنهم نحو المنتفع بالدعوى البوليصية لأن هذه الدعوى تجوز في القانون الجديد في عمل يزيد به المدين من التزاماته ( م 237 جديد ) ( [675] ) .
أما النتائج التي تترتب على أن حق المنتفع المباشر مصدره العقد الذي تم ما بين المشترط والمتعهد فهي ما يأتي :
( 1 ) لما كان حق المنتفع مصدره عقد الاشتراط ، فهو يوجد منذ صدور هذا العقد ( [676] ) ، لا من وقت إعلان المنتفع لرغبته في الاستفادة من الاشتراط ويترتب على ذلك أنه إذا فقد المتعهد أهليته في الفترة ما بين صدور العقد وصدور رغبة المنتفع ، فلا يكون هذا مانعاً للمنتفع من أن يعلن عن رغبته . ويترتب على ذلك أيضاً أن المنتفع إذا رفض الاشتراط ، جاز الطعن في رفضه بالدعوى البوليصية ، لأنه يكسب الحق منذ صدور عقد الاشتراط ، فرفضه إياه بعد ذلك يعتبرإنقاصاً من حقوقه ( م 237 جديد ) .
( 2 ) لما كان حق المنتفع مصدره عقد الاشتراط ، فإن المتعهد يستطيع أن يتمسك قبل المنتفع بجميع الدفوع الجائزة في هذا العقد ، فله أن يطعن فيه بأي وجه من وجوه البطلان ، وله أن يتمسك بفسخه إذا تحقق ما يوجب الفسخ ( [677] ) . وهذا ما تنص عليه صراحة الفقرة الثانية من المادة 154 من القانون المدني الجديد إذ تقول : " ويكون لهذا المتعهد اني تمسك قبل المنتفع بالدفوع التي تنشأ عن العقد " ( [678] ) .
( 3 ) لما كان حق المنتفع مصدره عقد الاشتراط الذي تم بين المشترط والمتعهد ، فلهذين المتعاقدين أن يكيفا هذا الحق طبقاً لما يتم عليه الاتفاق بينهما . ويترتب على ذلك أنه يجوز للمشترط أن يتفق مع المتعهد على أن يكون للمشترط وحده دون المنتفع حق المطالبة بتنفيذ التزام المتعهد نحو المنتفع ، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك ( [679] ) . ويترتب علىذ لك أيضاً أنه يجوز للمتعاقدين – المشترط والمتعهد – أن يجعلا حق المنتفع غير قابل للنقض أو قابلا للنقض بعد الاتفاق مع المتعهد على ذلك . وهذا الشرط الأخير مفهوم ضمناً إذا ثبت أن للمتعهد مصلحة في الاشتراط ، فلا يجوز للمشترط في هذه الحالة أن يستقل بنقض حق المنتفع ، كما إذا تعهد أحد المتقايضين بأن يدفع المستحق عليه من فرق البدل في نصيب المتقايض الآخر من دين على اطيان هو شريك له فيها على الشيوع ( [680] ) .
382 – علاقة المتعهد بالمنتفع ( تتمة ) – جواز نقص حق المنتفع : وحق المنتفع المباشر الذي يكسبه من عقد الاشتراط قابل للنقض إلى أن يصدر منه إقرار لهذا الحق . وهذا ما تنص عليه صراحة الفقرة الأولى من المادة 155 من القانون المدني الجديد إذ تقول : " يجوز للمشترط دون دائنيه أو ورثته أو ينقض المشارطة قبل اني علن المنتفع إلى المتعهد أو إلى المشترط رغبته في الاستفادة منها ، ما لم يكن ذلك مخالفاً لما يقتضيه العقد " .
والذي يثبت له حق النقض هو المشترط ، إلا إذا نزل عن هذا الحق . وقد يكون حق النقض مخالفاً لما يقتضيه العقد فلا يقوم ، كما إذا كان حق المنتفع هبة من المشترط لا يجوز فيها الرجوع ( [681] ) . وقد يشترط المتعهد أن المشترط لا يستعمل حق النقض إلا بموافقته إذا كانت له مصلحة في تنفيذ الالتزام للمنتفع ، وقد سبق بيان ذلك . بل قد يشترط المتعهد أن يكون له هو أيضاً حق النقض بشرط أن يحل محل المنتفع المشترط أو منتفعاً آخر حتى لا يتحلل من التزامه بمحض إرادته ( [682] ) . وحق النقض حق شخصي يرجع لاعتبارات خاصة بالمشترط أو بمن يملك هذا الحق معه ، لذلك لا يجوز للدائنين استعماله باسم المدين ، ولا ينتقل إلى الورثة . فإذا مات المشترط دون أن ينقض الحق ، فليس للورثة حق النقض ولو لم يصدر إقرار المنتفع ، وإلا لاندفعت الورثة بعامل مصلحتهم إلى نقض حق لم ينقضه مورثهم .
ويوجه المشترط النقض إلى المنتفع أو إلى المتعهد ، ولكن يجب إعلان المتعهد دائماً بالنقض حتى يمتنع عن تنفيذ التزامه نحو المنتفع ( [683] ) . وليس للنقض شكل مخصوص ، وكما يقع صريحاً يصح أن يكون ضمنياً ( [684] ) .
وإذا نقض المشترط حق المنتفع ولم يعين منتفعاً آخر ولم يبرئ ذمة المتعهد فإن الحق ينصرف إليه هو ، ويعتبر أنه ثابت له من وقت العقد لا من وقت النقض ، وقد ثبت له بموجب العقد ولم ينتقل إليه من المنتفع ، ولذلك ينقلب الاشتراط لمصلحة اليغر إلى عقد عادي لا ينصرف أثره إلا إلى المتعاقدين . ويجوز للمشترط عند النقض أن يعين منتفعاً آخر يحل محل المنتفع الأول ، ويثبت له الحق من وقت العقد كذكل ولا يتلقاه من المنتفع الأول . وإلى هذا تشير الفقرة الثانية من المادة 155 إذ تقول : " ولا يترتب على نقض المشارطة أن تبرأ ذمة المتعهد قبل المشترط ، إلا إذا اتفق صراحة أو ضمنا على خلاف ذلك وللمشترط إخلال منتفع آخر محل المنتفع الأول ، كما له أن يستأثر لنفسه بالانتفاع من المشارطة " . وإذا نقض المشترط حق المنتفع وأضافه إلى نفسه ، فإنه يجوز له أن يعدل عن ذلك ويعين منتفعاً آخر ، سواء كان هو المنتفع الأول أو غيره ، ويعتبر حق أي من هؤلاء ثابتاً من وقت العقد دائماً ، ويعود العقد كما كان اشتراطاً لمصلحة الغير ( [685] ) .
383 – علاقة المتعهد بالمنتفع ( خاتمة ) – وجوب إقرار المنتفع لحقه : ولا ينطقع حق النقض إلا إذا صدر إقرار المنتفع ( [686] ) . فإقرار المنتفع إذن هو تثبيت لحقه ، وليس قبولا لإيجاب معروض عليه من المتعهد أو من المشترط كما بينا . ولا بد من صدور إقرار من المنتفع كي لا يثبت له حق بدون رضاه . فإذا صدر الإقرار تثبت الحق ، واعتبر موجوداً من وقت العقد لا من وقت الإقرار كما أسلفنا الإشارة .
ويستطيع المنتفع أن يصدر إقراره في أي وقت شاء ما دام المشترط لم ينقض الحق ( [687] ) . ولا يسقط حقه في إصدار الإقرار إلا بالتقادم . والذي يسقط بالتقادم هنا هو حق المنتفع الذي لم يثبت بالإقرار ولم يستعمل في خلال مدة التقادم .
والإقرار قد يكون صريحاً أو ضمنياً ، ولا يشترط له شكل مخصوص حتى لو تلقى المنتفع الحق تبرعاً ، فإن التبرع هنا ليس هبة مباشرة تستلزم الشكل ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك . ويعلن المنتفع إقراره للمتعهد أو للمشترط ، ولكن لا بد من إعلان المتعهد بالإقرار حتى يسري في حقه . والإقرار كالنقض تصرف قانونين ينعقد بارادة منفردة .
فإذا صدر الإقرار وصار الحق غير قابل للنقض ، كان المدين بهذا الحق هو المتعهد أو ورثته . فإذا استحال التنفيذ جازت المطالبة بالتعويض . ولكن لا يجوز للمنتفع أن يطلب فسخ العقد ، لأنه ليس طرفاً فيه . والذي تجوز له المطالبة بالفسخ هو المشترط كما قدمنا ( [688] ) .
وقد يرفض المنتفع ، صراحة أو ضمناً ، الحق الذي اشترط لمصلحته . وفي هذه الحالة ينصرف الحق إلى المشترط أو إلى ورثته من وقت العقد لا من وقت الرفض . والرفض ، كالنقض والإقرار ، تصرف قانونين ينعقد بارادة منفردة . ويجوز لدائني المنتفع الطعن فيه بالدعوى البوليصية إذا توافرت شروطها كما قدمنا . وغنى عن البيان أن المشترط يجوز له ، عند رفض المنتفع ، أن يعين منتفعاً آخر يحل محل المنتفع الذي رفض ، ويثبت حق هذا المنتفع الآخر من وقت العقد لا من وقت تعيينه .
الفرع الثاني
قوة العقد الملزمة بالنسبة إلى الموضوع
384 – نسبة العقد من حيث الموضوع : العقد نسبي أيضاً في أثر قوته الملزمة من حيث موضوع التعاقد . والملتزم بالعقد مسئول عن ذلك ، وهذه المسئولية هي التي نسميها بالمسئولية العقدية ، وهي الجزاء الذي يكفل قوة العقد الملزمة .
فنحن نبحث إذن أمرين : ( أولاً ) تحديد موضوع التعاقد ( ثانياً ) المسئولية العقدية .
المبحث الأول
تحديد موضوع التعاقد
385 – كيف يكون تحديد موضوع التعاقد : لا يلتزم المتعاقد إلا بما ورد في العقد . وقد يرى القاضي العقد في حاجة إلى التفسير . فإذا فسره وجب عليه بعد ذلك أن يحدد نطاقه ، ليعين مدى ما أنشأ من الالتزامات . ثم وجب على الملتزم أن يقوم بالتزامه كما تحدد في العقد دون نقص أو زيادة ، لأن العقد شريعة المتعاقدين .
فنحن نتكلم إذن في مسائل ثلاث : ( 1 ) تفسير العقد . ( 2 ) تحديد نطاق العقد . ( 3 ) إلزام المتعاقدين بتنفيذ العقد على أساس أنه شريعة المتعاقدين .
المطلب الأول
تفسير العقد ( [689] )
( Interpretation du contrat )
386 – النصوص القانونية : نصت المادة 150 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" 1 - إذا كانت عبارة العقد واضحة ، فلا يجوز الانحراف عنها من طريق تفسيرها للتعرف على إرادة المتعاقدين " .
" 2 - أما إذا كان هناك محل لتفسير العقد ، فيجب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين دون الوقوف عند المعني الحرفي للألفاظ ، مع الاستهداء في ذلك بطبيعة التعامل ، وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين ، وفقا للعرف الجاري في المعاملات ( [690] ) " .
ونصت المادة 151 على ما يأتي :
" 1 - يفسر الشك في مصلحة المدين " .
" 2 - ومع ذلك لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان ضارا بمصلحة الطرف المذعن ( [691] ) " .
ويقابل هذه النصوص ، النصوص الآتية في القانون المدني القديم :
م 138 / 199 : " يجب أن تفسر المشارطات علىحسبالغرض الذي يظهر أن المتعاقدين قصدوه مهما كان المعنى اللغوي للألفاظ المستعملة فيها مع ما يقتضيه نوع المشارطة والعرف الجاري " .
م 139 / 200 : " وهكذا يكون التفسير في الشروط المعلق عليها إبقاء المشارطة أو تأييدها " .
م 140 / 201 : " في حالة الاشتباه يكون التفسير بما فيه الفائدة للمتعهد " .
ولم يستحدث القانون الجديد في تفسير العقد قواعد لم تكن في القانون القديم . ولم يعد أن قنن القضاء المصري فيما جاوز النصوص القديمة . فأورد الفقرة الأولى من المادة 150 ملزمة بعدم الانحراف عن عبارة العقد إذا كانت واضحة ، وقضاء محكمة النقض جرى على هذا المبدأ كما سنرى . واورد الفقرة الثانية من المادة 151 في تفسير عقود الاذعان ، وقد جرى القضاء المصري على هذا المبدأ كما رأينا عند الكلام في عقود الاذعان .
ولكن القانون الجديد ، مع ذلك ، أبرز في وضوح أن التفسير يتجه إلى الإرادة الظاهرة أكثر من اتجاهه إلى الإرادة الباطنة ، بان أوجب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين والاستهداء في ذلك بتطبيعة التعامل والعرف الجاري ، وهذه عوامل موضوعية تجعل الإرادة الظاهرة هي المصدر الذي تستخلص منه الإرادة الباطنة .
387 – البحث في تفسير العقد يأتي بعد البحث في انعقاد العقد وفي صحته : ويلاحظ بادئ الأمر أن البحث في تفسير العقد إنما يأتي بعد البحث في انعقاد العقد والبحث في صحته . إذ لا جدوى من تفسير العقد إلا إذا كان صحيحاً ، حتى يكون قابلا للتنفيذ ( [692] ) .
ونطاق البحث في انعقاد العقد وصحته غير نطاق البحث في تفسير العقد لتحديد اثاره . ففي انعقاد العقد وصحته يدور البحث حول الإرادة التي يؤخذ بها هل هي الإرادة الباطنة أو الإرادة الظاهرة ، فإذا كانت هي الإرادة الباطنة فهل اتفقت أو انحرفت عن الإرادة الظاهرة لنتعرف هل هي صحيحة أو معيبة ، وهل تطابقت الارادتان تطابقاً تاماً حتى تخلص منهما إرادة مشتركة للمتعاقدين . أما في تفسير العقد لتحديد اثاره . فنحن بعد أن نكون قد استخلصنا الإرادة المشتركة للمتعاقدين ، نقف عند هذه الإرادة الظاهرة لتفسير معانيها ، ما وضح منها وما غمض ، مفترضين أن هناك تطابقاً بينها وبين الإرادة الباطنة حتى يقوم الدليل على العكس . وسنعود إلى هذه المسألة بتفصيل أو فيما يلي .
388 – القانون والواقع في تفسير العقد : ويعنينا أن نبين منذ الآن ما يعتبر في تفسير العقد قانوناً يخضع لرقابة محكمة النقض ، وما يعتبر واقعاً لا يخضع لرقابتها .
ويمكن حصر مسائل القانون في تفسير العقد في المسائل الثلاث الآتية :
( أولاً ) هناك قواعد نص عليها القانون في تفسير العقد . وهذه القواعد يلتزم القاضي باتباعها تحت رقابة محكمة النقض ، فإذا خرج عليها نقض حكمه لمخالفته للقانون . ويستخلص من نصوص القانون الجديد المتقدم ذكرها أن قواعد التفسير الملزمة قانوناً ثلاث :
( 1 ) ما نص عليه القانون ( م 150 فقرة 1 ) من أنه إذا كانت عبارة العقد واضحة فلا يجوز الانحراف عنها من طريق تفسيرها للتعرف على إرادة المتعاقدين . فالانحراف عن عبارة العقد الواضحة فيه مخالفة للقانون . وسنعرض فيما يلي لهذه القاعدة تفصيلا ، ونبين إلى أي حد تنبسط رقابة محكمة النقض في ذلك .
( 2 ) ما نص عليه القانون ( م 150 فقرة 2 ) من أنه إذا كان هناك محل لتفسير العقد وجب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ . فالعبرة بالإرادة الحقيقية ( الباطنة ) على أن يكون ههذ الإرادة هي الإرادة المشتركة للمتعاقدين ( [693] ) على النحو الذي سنفصله فيما يلي . وهذه قاعدة قانونية ملزمة لا يجوز الخروج عليها عند تفسير العقد . فالقاضي الذي يقرر في حكمه أن المتعاقدين ارادا شيئاً معيناً ، وكان هذا الشيء جائزاً قانوناً ، ثم يصرح بعد ذلك بأنه لا يقضي بما أراد المتعاقدان بل بما تقضي به العدالة ، يكون قد خالف القانون وينقض حكمه ( [694] ) . أما ما ذكره النص بعد ذلك من الاستهداء في تعرف النية المشتركة للمتعاقدين بطبيعة التعامل وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين وفقاً للعرف الجاري في المعاملات ، فهذه قواعد ليست ملزمة وإنما يستأنس بها القاضي . وهو حر في إلا يتبعها إذا رأى أن اتباعها لا يجدي ولا يؤدي به إلى تعرف نية المتعاقدين . وهو إذا جهر بذلك لا ينقض حكمه .
( 3 ) ما نص عليه القانون ( م 151 ) من أن الشك يفسر في مصلحة المدين ، مع استثناء عقود الاذعان ففيها لا يجوز أن يكون التفسير ضاراً بمصلحة الطرف المذعن . فهذه هي أيضاً قاعدة قانونية ملزمة في تفسير العقد ، إذا خالفها القاضي نقض حكمه . وسنرى فيما يلي مدى تطبيق القاعدة ، ومتى يمكن القول بأن هناك شكاً في إرادة المتعاقدين ، ولكن نلاحظ منذ الآن أن تحديد معنى الشك ومتى يمكن القول بأن الشك موجود هو أيضاً من مسائل القانون يخضع لرقابة محكمة النقض .
( ثانياً ) إذا التزم القاضي في تفسير إرادة المتعاقدين القواعد القانونية الملزمة التي تقدم ذكرها ، فهو يكشف عن هذه الإرادة وله سلطة التقدير في الكشف عنها ، وهذه سلطة موضوعية لا تخضع لرقابة محكمة النقض كما سنرى . ولكنه يتقيد قانوناً – ويخضع في ذلك لرقابة محكمة النقض – بقاعدة جوهرية بسطتها محكمة النقض في كثير من أحكامها . ذلك أن قاضي الموضوع عندما يستخلص إرادة المتعاقدين من الواقع الذي ثبت عنه ، يجب أن يكون هذا الواقع ثابتاً من مصادر موحجودة فعلا لا وهما ، غير مناقضة للثابت في الدعوى ، وتؤدى عقلا لاستخلاص الواقعة التي ثبتت عند القاضي . فإذا اثبت القاضي مصدراً للواقعة وهمياً لا وجود له ، أو موجوداً ولكنه مناقض لوقائع أخرى ثابتة ، أو غير مناقض ولكن يستحيل عقلا استخلاص الواقعة منه كما فعل هو ، كان حكمه مخالفاً للقواعد القانونية في الإثبات ووجب نقضه ( [695] ) .
( ثالثاً ) متى كشف القاضي عن إرادة المتعاقدين ، ملتزماً في ذلك القواعد القانونية التي تقدم ذكرها ، كيفها بعد ذلك التكييف القانونين الصحيح غير متقيد بتكييف المتعاقدين ، ثم رتب على هذا التكييف اثاره القانونية . وهو خاضع في التكييف ومارتبه عليه من آثار الرقابة محكمة النقض . لأنه يطبق ا لقانون على الواقع ، وتطبيق القانون يعد من المسائل القانونية ( [696] ) .
أما ما يعتبر من الواقع في تفسير العقد ولا يخضع لرقابة محكمة النقض ، فهو هذه السلطة التقديرية التي للقاضي في الكشف عن إرادة المتعاقدين واستخلاصها من الوقائع الثابتة أمامه في الدعوى . وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ( [697] ) .
إلى حالات ثلاث في تفسير العقد ، ووضع لكل حالة قاعدة قانونية ملزمة . فإذا كان تعبارة العقد واضحة لم يجز الانحراف عن المعنى الظاهر . أما إذا كانت غير واضحة فيجب تبين الإرادة المشتركة للمتعاقدين . فإذا قام شك في تبين هذه الإرادة فسر الشك لمصلحة الملتزم في غير عقود الإذعان .
ونبحث الآن بالتفصيل كلا من هذه الحالات الثلاث .
1- عبارة العقد واضحة
390 - القاعدة آلت تتبع في التفسير : رأينا أن الفقرة الأولى من المادة 150 تقضي بأنه إذا كانت عبارة العقد واضحة فلا يجوز الانحراف عنها من طريق تفسيرها للتعرف على إرادة المتعاقدين . وهذا النص ليس إلا تقنيناً لقضاء محكمة النقض عندنا . فإن هذه المحكمة ، وقد جرت في ذلك على نهج محكمة النقض الفرنسية ، تفرق في العقد بين الشرط الظاهر والشروط الغامضة ليستخلص منها إرادة المتعاقدين على الوجه الذي يؤدي إليه اجتهاده . أما في تفسير شروط الظاهرة فلا تجيز محكمة النقض لقاضي الموضوع أن ينحرف عن معناها الظاهر إلى معنى آخر . ويعتبر الانحراف عن عبارة العقد الواضحة تحريفاً لها ومسخاً وتشويهاً مما يوجب نقض الحكم .
391 – العبارة الواضحة قد تكون محلا للتفسير : ولا يفهم من ذلك أن العبارة إذا كانت واضحة فلا يجوز تفسيرها . بل إن القاضي قد يجد نفسه في حاجة إلى تفسير العبارات الواضحة ، مهما بلغ وضوحها ، وسلس معناها ، وارتفع عنها اللبس والابهام ، ذلك أن وضوح العبارة غير وضوح الإرادة . فقد تكون العبارة في ذاتها واضحة ، ولكن الظروف تدل على أن المتعاقدين أساء استعمال هذا التعبير الواضح ، فقصدا معنى وعبرا عنه بلفظ لا يستقيم له هذا المعنى بل هو واضح في معنى الآخر . ففي هذه الحالة لا يأخذ القاضي بالمعنى الواضح للفظ ، ويجب عليه أن يعدل عنه إلى المعنى الذي قصد إليه المتعاقدان . وهو بذلك يفسر اللفظ الواضح ، بل وينحرف عن معناه الظاهر دون أن يحرفه أو يمسحه أو يشوهه . ولكن لا يجوز للقاضي أن يفعل ذلك إلا بشرطين :
( الشرط الأول ) هو أن يفرض بادئ الأمر أن المعنى الواضح من اللفظ هو ذات المعنى الذي قصد إليه المتعاقدان ، فلا ينحرف عنه إلى غيره من المعاني إلا إذا قام أمامه من ظروف الدعوى ما يبرر ذلك .
( والشرط الثاني ) هو أنه إذا عدل عن المعنى الواضح إلى غيره من المعاني لقيام أسباب تبرر ذلك ، رجب عليه أن يبين في حكمه هذه الأسباب . وفي هذا تقول محكمة النقض : " لمحكمة الموضوع السلطة التامة في تفسير صيغ العقود والشروط والقيود المختلف عليها بما تراه هي أوفى بمقصود المتعاقدين ، مستعينة في ذلك بجميع ظروف الدعوى وملابساتها . ولها بهذه السلطة أن تعدل عن المدلول الظاهر إلى خلافه ، بشرط أن تبين في أسباب حكمها لما عدلت عن هذا الظاهر إلى خلافه ، وكيف أفادت تلك الصيغ هذا المعنى الذي اقتنعت به ورجحت أنه هو مقصود العاقدين ، بحيث يتضح من هذا البيان إنها قد أخذت في تفسيرها باعتبارات مقبولة يصح عقلا استخلاص ما استخلصته منها . فإن قصر حكمها في ذلك كان باطلا لعدم اشتماله على الأسباب الكافية التي يجب قانوناً أن ينبني عليها ( [698] ) " .
392 – رقابة محكمة النقض في تفسير العبارات الواضحة : ويتبين مما قدمناه أن محكمة النقض تبسط رقابتها على محكمة الموضوع في تفسير العبارات الواضحة عن طريق رقابة أسباب الحكم . فإذا التزمت محكمة الموضوع المعنى الواضح للفظ الظاهر لم تكن في حاجة إلى تسبيب حكمها بأكثر من أن تذكر أن هذا هو المعنى الواضح وهو الذي يعبر عن مقصود العاقدين . أما إذا عدلت عن هذا المعنى الواضح إلى معنى آخر تعتبر أنه هو الذي قصد إليه المتعاقدان ، وجب عليها أن تبين في أسباب الحكم لم كان هذا العدول . ومحكمة النقض تراقب الأسباب ، فإن اقتنعت بأن العدول قد قام على اعتبارات تسوغه سلم الحكم من النقض ، وإلا نقض لقصور التسبيب ( [699] ) .
ويبدو أن تقدير ما إذا كانت العبارة واضحة أو غامضة يدخل أيضاً في رقابة محكمة النقض ، وإلا جاز للقاضي أن يفسر العبارة الواضحة بما يخرجها عن معناها الظاهر دون أن يذكر الأسباب التي تبرر ذلك ، بل يكتفي بتقرير أن العبارة غامضة ، وأن المعنى الذي استخلصه هو مقصود المتعاقدين ، وأن هذا وذاك يدخل في سلطان تقديره الموضوعي دون تعقيب عليه من محكمة النقض .
393 – هل الأخذ بالمعنى الظاهر للفظ الواضح اخذ بالإرادة الظاهرة : وبعد أن بسطنا القاعدة في تفسر العبارة الواضحة للعقد ، يحق لنا أن نتساءل : ما دام القاضي لا ينحرف عن المعنى الظاهر للفظ الواضح ، وقد ألزمه القانون ذلك بصريح النص ( [700] ) ، فهل لنا أن نفهم أن القانون قد أخذ في هذه الحالة بالإرادة الظاهرة دون الإرادة الباطنة ، ما دام لا يجيز الانحراف عن الأولى ؟
إن الإطلاق الذي رأيناه في نص القانون قد تقيد بما قدمناه من أن القاضي له أن يعدل عن المعنى الظاهر للفظ الواضح إلى معنى آخر يقتنع بأنه هو المعنى الذي قصد إليه المتعاقدان ، ما دام يورد الأسباب المعقولة التي تبرر ذلك . ويستخلص من هذا أن القاضي لا يأخذ في العبارة الواضحة بالإرادة الظاهرة إلا على أساس أن هذه الإرادة هي ذات الإرادة الباطنة . وإذا قام دليل على أن هناك تغايراً ما بين الإرادتين ، وجب عليه أن يأخذ بالإرادة الباطنة دون الإرادة الظاهرة مع ذكر هذا الدليل في أسباب الحكم .
ومن ذلك نرى أن القانون المدني الجديد – وقد نهج في هذا نهج محكمة النقض كما قدمنا – لم يأخذ بالإرادة الظاهرة إلا مفترضاً إنها هي ذاتها الإرادة الباطنة . فالإرادة الظاهرة عنده هي الدليل على الإرادة الباطنة ، ولكنها دليل يقبل إثبات العكس ، ومتى ثبت العكس فالعبرة بالإرادة الباطنة .
2 - عبارة العقد غير واضحة
394 – البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين : تقول الفقرة الثانية من المادة 150 : " أما إذا كان هناك محل لتفسير العقد ، فيجب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ " .
أما أنه لا يجوز الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ فواضح . وإذا كنا لا نقف عند هذا المعنى وعبارة العقد واضحة كما رأينا ، فأولى بنا إلا نقف عنده وعبارة العقد غير واضحة ، لا تنصرف إلى معنى واحد ظاهر ، بل تحتمل أكثر من معنى . وأما أن العبرة إنما تكون بالإرادة المشتركة للمتعاقدين ، لا بالإرادة الفردية لكل منهما ، فهذا واضح أيضاً ، لأن الإرادة المشتركة هي التي التقى عندها المتعاقدان ، فهي التي يؤخذ بها ، دون اعتداد بما لأي متعاقد منهما من إرادة فردية لم يتلاق معه المتعاقد الآخر فيها ( [701] ) .
ولكن أين نجد هذه الإرادة المشتركة ، أو النية المشتركة ؟ تشعبت الآراء في ذلك . فمن الفقهاء من يرى أن هذه النية المشتركة التي تكون محلا للتفسير لا يمكن إلا أن تكون الإرادة الظاهرة التي توافق عليها طرفا العقد . وذلك أن التسفير لا يكون إلا في العقد الصحيح كما قدمنا ، وما دام العقد صحيحا فلا بد أن تكون الإرادة الظاهرة التي توافق عليها طرفا العقد مطابقة للإرادة الباطنة ، وإلا لداخل العقد عيب من عيوب الإرادة ولما كان صحيحاً . فلا يجوز إذن أن يكون تفسير العقد وسيلة لتغليب الإرادة الباطنة على الإرادة الظاهرة ، وإنما يكون التفسير وسيلة لاستخلاص الإرادة الباطنة من الإرادة الظاهرة ، فالإرادة الظاهرة وحدها هي التي تكون محلا للتفسير على أساس إنها مطابقة للإرادة الباطنة ( [702] ) . ويؤخذ على هذا الرأي أنه يفترض عند تفسير العقد أن تكون الإرادة الظاهرة مطابقة حتما للإرادة الباطنة . وهذا إن صح في الكثرة الغالبة من الأحوال ، إلا أنه يقع أحياناً أن يكون المتعاقدان قد قصدا أمراً متفقاً عليه ، ولكن عبرا عنه تعبيراً غير دقيق ، فتنحرف هنا الإرادة الظاهرة المشتركة عن الإرادة الباطنة المشتركة ، ولا نكون في هذا الفرض في منطقة صحة العقد ، فالعقد صحيح والمتعاقدان متوافقان تمام التوافق على أمر واحد . وإنما نكون في منطقة تفسير العقد ، مع ما بين الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة في تفسير العقد . ومن ثم يكون الرأي الذي يذهب إلى وجوب اعتبار الإرادة الظاهرة عند تفسير العقد مطابقة حتما للإرادة الباطنة ، وجعل الإرادة الظاهرة على هذا الأساس هي دائماً محل التفسير ، رأياً فيه إطلاق يجدر تقييده . والصحيح أن يقال إ ، الإرادة الظاهرة هي التي تعبر في العادة عن الإرادة الباطنة ، والمفروض عند تفسير العقد أن الارادتين متحدتان ، فيكون الأصل أن الإرادة الظاهرة هي محل التفسير ، ما لم يقم الدليل على أن الإرادة الظاهرة لا تعبر تعبيراً دقيقاً عن الإرادة الباطنة . وأن بين الإرادتين تغايراً ، فتكون العبرة في هذه الحالة بالإرادة الباطنة لا بالإرادة الظاهرة ، وتكون الأولى لا الثانية هي محل التفسير .
ومن الفقهاء من يرى أن النية المشتركة للمتعاقدين تتمثل في الإيجاب الموجه من الموجب إلى الطرف الآخر ، مفهوماً على النحو الذي اخذ به الطرف الآخر أو كان يستطيع أن يأخذ به ( [703] ) . فالإيجاب يصدر من الموجب ، ويتلقاه الطرف الآخر ، ويفهمه أو كان يستطيع أن يفهمه على نحو معين . فهذا الفهم الحصل فعلا أو المستطاع تحصيله هو الذي نقف عنده لأنه هو القدر المتيقن الذي تلاقى عنده المتعاقدان . وعيب هذا الرأي أنه يفترض أن التعاقد يتم عن طريق تعبير تام نهائي يتلقاه من وجه إليه هذا التعبير . ولكن الذي يقع في العمل غير ذلك . فالمتعاقدان يتفاوضان ، ويتساومان ، ويتبادلان تعبيرات غير نهائية ، ثم ينتهيان آخر الأمر إلى تعبير واحد يرتضيانه معاً ، ولسنا نعلم من منهما صاحبه ، فهو ثمرة مفاوضات دارت بينهما ، ولكن منهما نصيبه فيه .
ويذهب سالي ( Saleilles ) إلى أن الإرادة المشتركة للمتعاقدين هي هذه الإرادة القانوينة التي يجمع القاضي عندها إرادة كل من المتعاقدين ، بعد أن يقارب ما استطاع ما بين الإرادتين ، دون أن يضحى إحداهما لمصلحة الأخرى . وظاهر أن هذا الرأي يستبدل بالإرادة الحقيقية للمتعاقدين الرادة ليست لهما ، بل هي إرادة من صنع القاضي ، هو الذي يقوم بنسج خيوطها ثم يفرضها عليهما فرضاً ( [704] ) .
ونحن نؤثر إلا ننحاز لرأي من هذه الآراء ، وأن نستبقى للمسألة بساطتها الأولى . فنقول إن الأمر لا يعدو أن يكون هناك مظهر خارجي للتعبير عن إرادة مشتركة للمتعاقدين ، أي إرادة ظاهرة المفروض فيها أنه تكشف عن إرادة باطنة . فإذا لم يقم دليل على غير ذلك ، وجب أن نستخلص الإرادة الحقيقية للمتعاقدين – وهي النية المشتركة التي نبح عنها – من هذه الإرادة الظاهرة عن طريق معايير نستهدي بها ، هي التي نتولى الآن الكلام فيها .
395 – العوامل التي يستهدي بها القاضي للكشف عن النية المشتركة للمتعاقدين : ويستهدي القاضي للكشف عن هذه النية المشتركة بعوامل مختلفة ذكر القانون الجديد بعضاً منها لأهميته ، فهو يستهدي " بطبيعة التعامل ، وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين ، وفقاً للعرف الجاري في المعاملات " ( م 150 فقرة 2 ) . وغنى عن البيان أن القانون الجديد لم يذكر ما ذكر من هذه العوامل على سبيل الحصر . فإلى جانب ما ذكر توجد عوامل أخرى لم يذكرها ويصح أن يستهدي بها القاضي .
ويمكن بوجه عام أن نميز بين عوامل يفسر بها القاضي عبارات العقد بالرجوع إلى العقد ذاته ونسميها بالعوامل الداخلية ، وأخرى يفسر بها العقد وهي خارجة عنه ونسميها بالعوامل الخارجية . والكثرة الغالبة من هذه العوامل هي عوامل موضوعية لا عوامل ذاتية ، يطمئن إليها القاضي في تفسير العقد التماساً لاستقرار التعامل . إذ هو يستدل على النية المشتركة للمتعاقدين – وهذه مسألة نفسية خفية – بعوامل مادية ظاهرة . ونتكلم في كل من العوامل الداخلية والعوامل الخارجية .
396 – العوامل الداخلية في تفسير العقد : ذكر القانون منها طبيعة التعامل وما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين ، ونضيف إلى هذين قواعد أخرى يستأنس بها القاضي في تفسير العقد بالرجوع إلى العقد ذاته ، ذكرها القانون المدني الفرنسي لا على سبيل الإلزام بل على سبيل الإرشاد . من ذلك ما إذا تحملت العبارة أكثر من معنى واحد ، فتحمل على المعنى الذي يجعلها تنتج أثراً قانونياً ( م 1157 مدني فرنسي ) . ومن ذلك أيضاً أن عبارات العقد يفسر بعضها بعضاً ( م 1161 مدني فرنسي ) . ومن ذلك أخيراً أن تخصيص حالة بالذكر لا يجعلها تنفرد بالحكم ( م 1164 مدني فرنسي ) . ونقول كلمة موجزة في كل من هذه العوامل .
فالعقد يفسر بحسب طبيعة التعامل ، أي بحسب طبيعة العقد وموضوعه . فإذا احتسب العبارة معاني مختلفة ، اختار القاضي المعنى الذي تقتضيه طبيعة العقد أو نوع المشارطة . إذ المعقول أن المتعاقدين قصدا أن العقد محكوماً بالقواعد التي تقضتيها طبيعته ما لم يصرحا بخلاف ذلك . فإذا اشترط المعير في عارية الاستعمال أن يرد المستعير الشيء أو مثله ، فلا يفسر ذلك على أن المتعاقدين أرادا عارية استهلاك ، بل قصد المعير أن يلزم المستعير في حالة هلاك الشيء برد مثله لا بأن يدفع تعويضاً ( [705] ) . وإذا كانت العبارة عامة ، فإنها تحدد بالرجوع إلى الموضوع الذي تم التعاقد عليه . إذ المعقول أن المتعاقدين لا يريدان أن يخرجا عن هذا الموضوع إلا إذا كانت عبارتهما صريحة في مجاوزته . فإذا تخارج أحد الورثة عن نصيبه في الميراث ، فسر ذلك بأنه يتنازل عن جميع حقوقه في التركة التي يتخارج فيها حتى لو كان بعض هذه الحقوق مجهولا منه ، ولكن لا يشمل التخارج حقوقاً موروثة من تركة أخرى ( [706] ) .
ويستهدي القاضي بما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين . والأمانة ( loyaute ) واجب على المتعاقد ، والثقة ( confiance ) حق له . وبيان ذلك أن من وجه إليه الإيجاب يجب أن يفهم عبارته بما تقتضيه الأمانة في التعامل . فإذا كان هناك خطأ في التعبير أو لبس ، واستطاع أن يتبين ذلك أو كان يستطيع أن يتبينه ، فالأمانة في التعامل تقضي عليه إلا يستغل ما وقع من ابهام في التعبير ، ما دام أنه قد فهمه على حقيقته أو كان يستطيع أن يفهمه . ويقابل هذا الواجب حق . فلمن وجه إليه الإيجاب أن يطمئن إلى العبارة بحسب ظاهرها ، وأن يعتبر هذا المعنى الظاهر هو المعنى الذي قصد إليه الموجب . وهذه هي الثقة المشروعة ، وتنطوي على معنى الأخذ بالإرادة الظاهرة في تفسير العقد .
وإذا احتملت العبارة أكثر من معنى واحد ، وكان أحد هذه المعاني هو الذي ينتج أثراً قانونياً ، حملت العبارة على هذا المعنى ، إذ إعمال الكلام خير من إهماله . فإذا سلم شخص لآخر أرضاً مملوكة له في مقابل دين ، واشترط الدائن أن يستولى على ريع الأرض في نظير الفوائد وألا يرد الأرض إلى صاحبها إلا عند سداد الدين ، فإذا فسر هذا العقد بأنه غاروقة – إذ هو يجمع خصائصها – فإنه لا ينتج أثراً قانونياً ، لأن الغاروقة قد ألغيت بإلغاء الأراضي الخراجية . فيفسر على أنه رهن حيازة ، ولا يسمح للدائن أن يستولى على ما يزيد عن الحد الأقصى الذي يجوز الاتفاق عليه في الفوائد ( [707] ) .
وعبارات العقد يفسر بعضها بعضاً . فلا يجوز عزل العباراة الواحدة عن بقية العبارات ، بل يجب تفسيرها باعتبارها جزءاً من كل هو العقد . فقد تكون هناك عبارة مطلقة ، وتحددها عبارة سابقة أو لاحقة . وقد تقرر العبارة أصلاً يرد عليه استثناء يذكر قبلها أو بعدها . وقد تكون العبارة مبهمة ، وتفسرها عبارة وردت في موضع آخر . فإذا باع شخص مفروشات منزله ، ثم عين هذه المفروشات في مكان آخر من العقد ، فإن خصوص العبارة الثانية يحدد من عموم العبارة الأولى ، إذ الخاص يقيد العام . ولا يدخل في المبيع ما لم يذكر في المفروضات المعينة ، حتى لو كان داخلا ضمن مفروشات المنزل . وإذا قام التناقض بين عبارتين ، اجتهد القاضي في التوفيق بينهما . فلو أمكنه أعمال العبارتين معاً فعل ، وإلا اجتهد في إعمالهما إلى أقصى حد دون إرهاق للفظ أو قسر له على غيره معناه . فإذا كان التناقض يستعصى معه الجمع بين العبارتين على أية صورة ، اختار العبارة التي يظهر له أن المتعاقدين كانا يريدانها دون الأخرى ( [708] ) .
وتخصيص حالة بالذكر لا يجعلها تنفرد بالحكم . فإذا باع شخص أرضا زراعية ، وكان من توابعها مواش خصت بالذكر في عقد البيع ، فليس هذا معناه أن المواشي وحدها هي التي تدخل ضمن الشيء المبيع ، فكل التوابع الأخرى من آلات زراعية ومخازن ومبان ونحو ذلك يدخل أيضاً . أما تخصيص المواشي بالذكر فقد يكون لأن المتعاقدين خشيا أن يقوم شك في أن المبيع يشملها فصرحا بذلك حسما للنزاع ، أو لأنهما يعلقان أهمية خاصة على هذه المواشي فأفرداها بالذكر . ونرى من ذلك أن هذه القاعدة نقيض للقاعدة السابقة التي تقضي بأن الخاص يقيد العام . فقواعد التفسير قد تتضارب ، وعلى القاضي أن يختار القاعدة الملائمة لتفسير العقد الذي يدعى لتفسيره .
397 - العوامل الخارجية في تفسير العقد : ذكر القانون منها العرف الجاري في المعاملات ، ونضيف إليه الطريقة التي ينفذ بها العقد .
فالعقد يفسر طبقاً لما يقتضيه العرف الجاري في التعامل . إذ المعقول في المسائل التي توطد فيها عرف أن يفرض في المتعاقدين انهما عالمان به وقد ارتضياه ، وإلا لصرحا بمخالفته . فإذا كانت عبارات العقد مبهمة وجب تفسيرها في ضوء هذا العرف . وقد قضت محكمة النقض بأن القاضي يفسر العقد مع مراعاة ما يقتضيه نو عالمشارطة والعرف الجاري ، فله أن يقضي بأن إنشاء بلكون من حديد مفرغ في طبقة ثانية من منزل لا يعتبر بناء معطلا لحق ارتفاق الجار المرتفق بالمطل والنور والهواء ( [709] ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن العرف يقضي بأن يكون اجر السمسار 2 .5 % من قيمة الصفقة ( [710] ) . والعرف يكون عاماً ( [711] ) ، لكن إذا تنازع عرف عام مع عرف خاص تغلب العرف الخاص ( [712] ) . ويجب أن يكون العرف مستقراً ( [713] ) . وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بان العادة التي تقضي بأن يكون نزح البئر في جهة رمل الإسكندرية على المستأجر ليست عادة مستقرة فلا يحكم بها ( [714] ) . ويجب أن يكون العرف غير مخالف لا للقانون ولا للنظام العام ولا للآداب ( [715] ) . ولا يطبق العرف ، كما تقول محكمة النقض ( [716] ) ، إلا عندما تستغلق نصوص القانون أو يسكت المتعاقدون عن تنظيم في ناحية مما تعاقدوا عليه أو ينظمونه في غموض . وهناك مسائل يجري فيها العرف مجرى القانون ، كما في المسائل التجارية والمعاملات البحرية وعقود التأمين والحساب الجاري ونحو ذلك ، ففي هذه المسائل يرجع القاضي إلى العرف لا لتفسير نية المتعاقدين فحسبن بل أيضاً لتكملة العقد ذاته وتحديد نطاقه كما سنرى . ويلاحظ أن العرف عندما يكون عاملا من عوامل تفسير العقد غير العرف عندما يكون مصدراً من مصادر القانون ، فإن القاضي إذا خالف العرف في الحالة الأولى لم يكن حكمه عرضة للنقض ، أما العرف في الحالة الثانية فهو قانون إذا خالفه القاضي نقض حكمه .
وقد تتضح إرادة المتعاقدين من الطريقة التي ينفذان بها العقد . فإذا قاما بتنفيذ العقد على نحو معين مدة من الزمن ، فسرت إراداتهما المشتركة في ضوء طريقة التنفيذ التي تراضيا عليها . مثل ذلك أن يغفل عقد الإيجار ذكر مكان دفع الأجرة ، وتقضي القواعد العامة في هذه الحالة بأن الأجرة تدفع في محل المستأجر ، ولكن المستأجر يعاد مدة كافية من الزمن أن يدفع الأجرة في محل المؤجر ، فيحمل ذلك على أن المتعاقدين أرادا أن تدفع الأجرة في هذا المحل ( [717] ) .
398 - بأية إرادة يؤخذ في تفسير العقد : ويخلص مما قدمناه أن القاضي في تفسير العقد الغامض يأخذ بالنية المشتركة للمتعاقدين ، ويستخلصها عن طريق معايير موضوعية تمكنه من الكشف عنها . فلا هو يأخذ بالإرادة الظاهرة المحضة . ولا هو لا يأخذ بالإرادة الباطنة المحضة . وإنما يأخذ بالإرادة الباطنة التي يستطيع التعرف عليها ( volonte reconnaissable ) ( [718] ) .
ونرى من ذلك أن القانون الجديد ، في حالتي العقد الواضح والعقد الغامض ، لا يعتد بالإرادة الظاهرة إلا على اعتبار إنها دليل على الإرادة الباطنة . وهو على كل حال دليل يقبل إثبات العكس .
3 – قيام الشك في التعرف على إرادة المتعاقدين
398 – يفسر الشك في مصلحة المدين – مبررات هذه القاعدة : وضع القانون نصاً ريحاً في هذه الحالة – الفقرة الأولى من المادة 1512 – بقضى بأن يفسر الشك في مصلحة المدين . فإذا قام شاك في مدى التزام المدين بعقد ، فسر هذا الشك في مصلحته ، واخذ بالتفسير الأضيق في تحديد هذا المدى . ويبرر هذه القاعدة الاعتبارات الآتية :
( أولاً ) إذا كنا نأخذ بالتفسير الأضيق في تحديد مدى التزام المدين ، فذلك لأن الأصل براءة الذمة ، والالتزام هو الاستثناء ، والاستثناء إلا يتوسع فيه . هذا إلى أن النية المعقولة عند الملتزم هو أن يلتزم إلى أضيق مدى تتحمله عبارات العقد ، فلا يمكن إن يكون هناك توافق بين إرادة الدائن وارادة المدين إلا في حدود هذا المدى الضيق .
( ثانياً ) ثم إن الدائن هو المكلف بإثبات الالتزام ، فإذا كان هناك شك في الالتزام من حيث مداه ، واراد الدائن الأخذ بمدى واسع ، كان عاجزاً عن إثبات ذلك ، فلا يبقى إلا الأخذ بالمدى الضيق لأنه هو وحده الذي قام عليه الدليل . فتكون القاعدة على هذا الاعتبار قاعدة في الإثبات لا قاعدة في التفسير ( [719] ) .
( ثالثاً ) ويقال أيضاً في تبرير القاعدة إن الالتزام يمليه الدائن لا المدين . فإذا املاه مبهماً يحوم حوله الشك فالخطأ خطاه ، ووجب أن يفسر الالتزام لمصلحة المدين ، إذ كان في مقدور الدائن أن يجعل الالتزام واضحاً لا يجول الشك فيه . ومزية هذا الاعتبار أنه يفسر لم نص القانون على أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان لمصلحة الطرف المذعن حتى لو كان دائناً . فإن عقد الإذعان يمليه الطرف القوي على الطرف المذعن في جميع مشتملاته ، فتكون التزامات هذا الطرف القوي هي أيضاً من إملائه ، فتفسر هذه الالتزامات لا لمصلحته بل لمصلحة الطرف المذعن وهو هنا الدائن .
399 – نطاق تطبيق القاعدة : وللقاعدة المتقدمة نطاق محدد تطبق فيه ، ويرد عليها في حدود هذا النطاق استثناء معين .
أما نطاقها فهو أن يكون هناك شك في التعرف على النية المشتركة للمتعاقدين : مجرد شك ، بأن يتراوح تفسر العقد بين وجوه متعددة كل وجه منها محتمل ، ولا تريح لوجه على وجه . أما إذا استحال التفسير ، ولم يستطع القاضي أن يتبين ولو وجها واحداً لتفسير العقد مهما كان جانب الشك فيه ، فهذه قرينة على أنه ليست هناك نية مشتركة للمتعاقدين التقيا عندها ، بل أراد كل منهما شيئا لم يرده الآخر ، فلم ينعقد العقد . ولا بد ، من وجهة أخرى ، أن يكون الشك مما يتعذر جلاؤه . فإذا أمكن القاضي أن يكشف عن النية المشتركة للمتعاقدين – مهما كان هذا عسيراً – واستطاع أن يزيح عنها ، وجب عليه تفسير العقد بمقتضى هذه النية المشتركة ، ولو كان التفسير في غير مصلحة المدين ( [720] ) .
أما الاستثناء الذي يرد على القاعدة فهو ما ورد في الفقرة الثانية من المادة 151 من أنه " لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان ضاراً بمصلحة الطرف المذعن " . فيجب إذ أن يكون التفسير لمصلحته دائماً ، ولو كان دائناً ، على خلاف القاعدة التي نحن بصددها من أن التفسير عند الشك لا يكون لمصلحة المتعاقد إلا إذا كان مديناً . وقد مر بيان ذلك عند الكلام في عقود الإذعان ( [721] ) .
400 – تطبيقات للقاعدة : فإذا وجد القاضي نفسه في نطاق تطبيق القاعدة طبقها . وفسر العقد الملزم لجانب واحد لمصلحة الجانب الملتزم . وفسر العقد الملزم للجانبين لمصلحة أي من المتعاقدين يكون مديناً في الالتزام الذي يفسره ، فيكون التفسير تارة لمصلحة أحد المتعاقدين وطوراً لمصلحة الآخر .
فإذا كان هناك شك في وجوب إعذار المدين ، فسر هذا الشك في مصلحته ووجب الإعذار ( [722] ) . وإذا قام شك فيما إذا كان الشرط الجزائي مستحقا في حالة التأخر عن التنفيذ أو هو غير مستحق إلا في حالة عدم التنفيذ ، كان الشرط غير مستحق إلا في حالة عدم التنفيذ ( [723] ) . وإذا كان المدين ملتزماً بإنشاء طرق معينة دون تحديد لكيفية إنشاء هذه الطرق ومن يلتزم بصيانتها ، كان المدين أن يتبع ما هو أيسر عليه واخذ مؤونة ( [724] ) . وإذا اشترطت العمولة عند تمام كل صفقة ولم يذكر متى تدفع ، كان الدفع عند تنفيذ الصفقة لا عند عقدها ( [725] ) .
المطلب الثاني
تحديد نطاق العقد
401 – النصوص القانونية : نصت المادة 148 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" 1 - يجب تنفيذ العقد طبقا لما اشتمل عليه وبطريقه تتفق مع ما يوجبه حسن النية " .
" 2 - ولا يقتصر العقد على إلزام المتعاقد بما ورد فيه ، ولكن يتناول أيضا ما هو من مستلزماته ، وفقا للقانون والعرف والعدالة بحسب طبيعة الالتزام " ( [726] ) .
وهذا النص يبين في الفقرة الأولى منه كيف ينفذ العقد ، وفي الفقرة الثانية كيف يحدد نطاقه .
402 – التمييز بين تفسير العقد وتحديد نطاقه وكيفية تنفيذه : وهناك مسائل ثلاث يجب تمييزها بعضها عن بعض : تفسير العقد وتحديد نطاقه وكيفية تنفيذه . وأول مسألة تعرض من هذه المسائل الثلاث هي تفسير العقد . فإذا فرغ القاضي من التفسير واستخلص النية المشتركة للمتعاقدين ، انتقل إلى تحديد نطاق العقد . فلا يقتصر في هذا التحديد على ما ورد في العقد وفقاً للنية المشتركة للمتعاقدين ، بل يجاوز ذلك إلى ما هو من مستلزمات العقد وفقاً للقانون والعرف والعدالة بحسب طبيعة الالتزام . ثم ينتقل القاضي ، بعد تفسير العقد وتحديد نطاقه ، إلى المسألة الثالثة وهي تنفيذ العقد . فيلزم المتعاقدين بتنفيذه طبقاً لما أشتمل عليه – والمشتملات يعرفها القاضي عن طريق التفسير وتحديد النطاق – ويكون التنفيذ بطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية ( م 148 فقرة أولى ) ( [727] ) .
وقد فرغنا من الكلام في تفسير العقد ، فننتقل الآن إلى الكلام في تحديد نطاقه .
403 – العوامل التي يسترشد بها القاضي في تحديد نطاق العقد : لا يقتصر القاضي ، كما قدمنا ، في تحديد نطاق العقد على ما اتجهت إليه النية المشتركة للمتعاقدين ، بل يضيف إلى ذلك ما يعتبر من مستلزمات العقد . وقد ذكر القانون لا على سبيل الحصر ، أهم العوامل التي يسترشد بها القاضي في تحديد هذه المستلزمات ، ومن ثم في تحديد نطاق العقد . وهذه هي : ( 1 ) طبيعة الالتزام . ( 2 ) القانون في أحكامه التكميلية والمفسرة . ( 3 ) العرف ويضاف إليه الشروط المألوفة ( clauses de style ) . ( 4 ) العدالة .
404 – طبيعة الالتزام : وطبيعة الالتزام ( nature de l’obligation ) تملي على القاضي أن يستكمل نطاق العقد بما تقتضيه هذه الطبيعة وفقاً للقانون والعرف والعدالة ( [728] ) . فمن باع عيناً يعتبر أنه قد باع بالإضافة إلى أصل العين ملقحاته الضرورية وكل ما أعد بصفة دائمة لاستعمالها طبقاً لما تقضي به طبيعة الأشياء ( م 432 جديد ) . ومن باع حقاً يعتبر أنه قد باع بالإضافة إليه ما يكفله ويؤيده كرهن وكفالة أو دعوى ضمان . ومن باع سيارة يعتبر أنه قد باع معها جميع الأدوات الإضافية ( accessories ) التي لا غنى عنها في تسييرها . ومن باع متجراً وجب عليه أن يسلم للمشتري السجلات التي تبين ما على المتجر من ديون وما له من حقوق وما يتصل به من عملاء ونحو ذلك ( [729] ) .
405 – القوانين التكميلية والمفسرة : والقوانين التكميلية والمفسرة ( lois suppletives , interperetatives ) تعين القاضي إلى حد كبير ؟؟؟ استكمال نطاق العقد . ذلك أنه يصعب في كثير من الأحوال أن ينظم المتعاقدان العلاقة فيما بينهما في جميع تفصيلاتها فهما في الغالب يتركان بعض التفصيلات ، إما لأنهما لم يتوقعها ، وإما اعتماداً على أحكام القانون ( [730] ) . وهنا تأتي الأحكام القانونية المفسرة تكمل العقد . مثل ذلك أن يتعاقد شخصان على بيع ، فيعينا المبيع والثمن ، وقد يغفلان بعض التفصيلات كتعيين ميعاد تسليم المبيع ومكانه وميعاد الوفاء بالثمن ومكانه وما يلتزم به البائع من ضمان تعرض واستحقاق وعيوب خفية وما إلى ذلك كل هذه التفصيلات بين القانون أحكامها في نصوص عقد البيع ، وجعل هذه الأحكام أحكاماً تكميلية تحدد نطاق العق إذا كان المتعاقدان لم يتوقعا ما يعرض منها ، وأحكاماً تفسيرية تكشف عن إرادة المتعاقدين إذا كان المتعاقدان قد توقعا ما يعرض لهما من ذلك واعتمدا على هذه الأحكام المفسرة . وتكون هذه الأحكام جزءاً من العقد . وهذا ما يعلل أن ليس له أثر رجعي ينسحب على العقود التي أبرمت قبل صدورها ، لأن هذه العقود وجدت في وقت كانت أحكام أخرى تكمل فيه إرادة المتعاقدين وكانت هذه الأحكام جزءاً من العقد ، فلا يجوز أن ينسخ جزء من العقد بقوانين لاحقة . فلو أن شخصاً اقترض مبلغاً من النقود بالسعر القانونين في ظل القانون القديم ( وكان السعر القانونين 5 في المائة ) ، فإن القانون الجديد ، وقد نزل بالسعر القانوني إلى 4 في المائة ، لا يسرى على هذا القرض ويبقى السعر 5 % .
ولما كانت هذه الأحكام التكميلية والمفسرة ليست إلا إرادة المتعاقدين التي افترضها القانون أو كشف عنها ، فإن المتعاقدين يستطيعان أن يتفقا صراحة أو ضمناً على استبعادها أو تعديلها أو تقييدها على النحو الذي يريانه ، فهي ليست من النظام العام . وإذا كانت تعتبر إنها إرادة المتعاقدين فهذا الاعتبار يزول إذا قام الدليل على العكس .
406 – العرف والشروط المألوفة : رأينا أن العرف يجري مجرى القانون في المسائل التجارية والمعاملات البحرية وعقود التأمين والحساب الجاري . وكما يكون العرف من عوامل تفسير العقد كذلك يكون من عوامل تحديد نطاقه . ويتصل بالعرف الشروط المألوفة ( clauses de style ) . فتضاف إلى العقد الشروط التي جرت العادة بادراجها فيه ، وهي شروط أكثر تحديداً من العرف . ذلك أن هناك عقوداً أصبح من المألوف فيها أن تشتمل على عبارات معينة ، حتى صار تكرا هذه العبارات غير ذى فائدة . وأصبح لكل من المتعاقدين مطالبة الآخر بتنفذ ما تقضي به هذه الشروط ولو لم تذكر ، لأنها أصبحت عرفاً خاصاً بهذا لاعقد . مثل ذلك ما جرت به العادة في الفنادق والمطاعم والمقاهى من أن يضاف إلى حساب العميل نسبة مئوية تنفح بها الخدم ، فهذا شرط ينفذ حتى لو لم يذكر ذلك للعميل وحتى لو لم يره مكتوباً . ولكن عند تعارض شرط مألوف مع شرط خاص ادرج في العقد ، فالشرط الخاص هو الذي يعمل به ( [731] ) .
407 – العدالة : وقد يسترشد القاضي بقواعد العدالة في استكمال شروط العقد لتحديد نطاقه . فالبائع لا يلتزم فحسب أن يقوم بما هو ضروري لنقل الحق المبيع إلى المشتري . بل يجب عليه أيضاً أن يكف عن أي عمل من شأنه أن يجعل نقل الحق مستحيلا أو عسيراً . وهذا التزام تقتضيه العدالة وإن لم يذكر في العقد ، وقد يورد القانون في شأنه نصوصاً صريحة ( أنظر م 428 من القانون المدني الجديد ) . وبائع المتجر يلتزم نحو المشتري إلا ينافسه منافسة ينتزع بها عملاء المتجر ، وهذا التزام تقتضيه العدالة وإن لم يذكر في العقد . والعامل الفني إذا عمل في مصنع فاطلع على أسراره الصناعية بحكم عمله يلتزم إلا يبوح بهذه الأسرار لمصنع منافس ولو لم يشترط عليه ذلك ( قارن م 686 جديد ) . وما يستنبطه العامل من اختراعات ف أثناء عمله يكون من حق رب العمل ، إذا كانت طبيعة الأعمال التي تعهد بها العامل تقتضي منه إفراغ جهده في الابتداع ، ولو لم يشترط رب العمل في العقد أن يكون له الحق فيما يهتدى إليه من المخترعات ( م 688 فقرة 2 جديد ) . وفي عقد التأمين على الحياة يجب على المؤمن له إلا يكتم عن شركة التأمين ما أصيب ه من أمراض خطيرة خفية ، إذا كان من شأنها أن تؤثر في التبعة التي تتحملها الشركة . هذا وليست نظرية الحوادث الطارئة – وقد وضع لها القانون الجديد نصا عاماً وطبقها في عقود مختلفة – إلا تطبيقاً لمبدأ العدالة في تحديد نطاق العقد وقياس مدى ما يلتزم به المتعاقد إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها ، وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام صار مرقهاً للمدين إلى حد يخل بالعدالة الواجبة .
408 – تحديد نطاق العقد هو من مسائل القانون : وإذا حدد القاضي نطاق العقد ، خضع في هذا التحديد لرقابة محكمة النقض ، فتستطيع هذه المحكمة أن تعقب على حكمه ، وأن تأخذ عليه أنه انتقص من نطاق العقد أو زاد فيه . فإذا طبق القاضي بعض شروط العقد دون بعضها الآخر ، كان في ذلك انتقاص من نطاق العقد ووجب نقض الحكم ( [732] ) .
المطلب الثالث
إلزام المتعاقدين بتنفيذ العقد
( العقد شريعة المتعاقدين )
409 – القاعدة العامة والاستثناء منها : القاعدة العامة هي أن العقد شريعة المتعاقدين ، فالواجب تنفيذ العقد في جميع ما أشتمل عليه . وقد أورد القانون الجديد ، عند الكلام في آثار العقد ( [733] ) ، على هذه القاعدة استثنائيين . الاستثناء الأول ما تقضي به نظرية الحوادث الطارئة من جواز تعديل القاضي للعقد ( م 147 فقرة 2 ) ، والاستثناء الثاني ما تقضي به نظرية عقود الإذعان من جواز تعديل القاضي للشروط التعسفية أو الإعفاء منها ( م 149 ) .
ولا نعود إلى عقود الإذعان فقد سبق الكلام فيها ( [734] ) . ونقتصر هنا على ملاحظة أن العقد إذا تم بطريق الإذعان وأشتمل على شروط تعسفية ، فإن العيب الذي يلحق العقد في هذه الحالة يلحقه منذ تكوينه ، لا عند تنفيذه كما هو الأمر في نظرية الحوادث الطارئة . فنظرية عقود الإذعان أقرب إلى نظرية عيوب الرضاء . وما الإذعان إلا ضرب من الإكراه أو الاستغلال يرتب عليه القانون نتائج محدودة . وكان المنطق يقضي بأن يوضع النص الخاص بعقود الإذعان في المكان الذي وضع فيه النص الخاص بنظرية الاستغلال ، فهذه أشكل بتلك .
فإذا تركنا عقود الإذعان بقى أن نبحث مسالتين : ( 1 ) القاعدة وهي تنفيذ العقد في جميع ما أشتمل عليه ( 2 ) ثم الاستثناء وهو ما تقضي به نظرية الحوادث الطارئة .
1 - تنفيذ العقد في جميع ما أشتمل عليه
410 – النصوص القانونية : نصت الفقرة الأولى من المادة 147 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" 1 - العقد شريعة المتعاقدين ، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين ، أو للأسباب التي يقررها القانون ( [735] ) " .
ونصت الفقرة الأولى من المادة 148 على ما يأتي :
" يجب تنفيذ العقد طبقاً لما أشتمل عليه وبطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية ( [736] ) " .
411 – العقد شريعة المتعاقدين : بعد أن يفسر القاضي العقد ويحدد نطاقه ، لا يبقى إلا أن يلزم المتعاقدين بتنفيذ جميع ما أشتمل عليه ، مادام العقد قد نشأ صحيحاً ملزماً . وهو لا يكون صحيحاً ملزماً إلا في الدائرة التي يجيزها القانون ، أي في نطاق لا يصطدم فيه مع النظام العام ولا مع الآداب .
ويطبق القاضي العقد كما لو كان يطبق قانونا ، لأن العقد يقوم مقام القانون في تنظيم العلاقة التعاقدية فيما بين المتعاقدين . بل هو ينسخ القانون في دائرة النظام العام والآداب ، وقد رأينا أن الحكام القانونية التي تخرج عن هذه الدائرة ليست إلا أحكاماً تكميلية أو تفسيرية لإرادة المتعاقدين ، فإذا تولى المتعاقدان بارادتهما تنظيم العلاقة فيما بينهما في العقد ، كان العقد هو القانون الذي يسري عليهما ، وتوارى البديل أمام الأصيل . وهذا هو المعنى الذي قصدت إليه الفقرة الأولى من المادة 147 حين قالت : " العقد شريعة المتعاقدين " . وتقول المادة 1134 من القانون المدني الفرنسي في هذا المعنى : " الاتفاقات التي تمت على وجه شرعي تقوم بالنسبة إلى من عقدوها مقام القانون " . ( Les conventions legalement formees tiennent lieu de loi a ceux qui les not faites ) . وقد نقل المشرع الفرنسي هذا النص عن دوما ( Domat ) كما قدمنا ( [737] ) .
412 – فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين أو للأسباب التي يقررها القانون : " والنتيجة المباشرة للمبدأ القاضي بأن العقد شريعة المتعاقدين ، هي أن العقد لا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين أو للأسباب التي يقررها القانون .
لا يجوز نقض العقد ولا تعديله من جهة القاضي ، فلا يجوز لهذا أن ينقض عقداً صحيحاً أو يعدله بدعوى أن النقض أو التعديل تقتضيه العدالة ، فالعدالة تكمل إرادة المتعاقدين ولكن لا تنسخها . ولا يجوز نقض العقد ولا تعديله من جهة أي من المتعاقدين فإن العقد وليد إرادتين ، وما تعقده إرادتان لا تحله إرادة واحدة .
هذا هو الأصل . ومع ذلك يجوز نقض العقد أو تعديله باتفاق المتعاقدين أو الأسباب يقررها القانون .
فيكون نقض العقد أو تعديله من عمل المتعاقدين معاً ، إما باتفاقهما على ذلك عند النقض أو التعديل ، أو باتفاقهما عند التعاقد على إعطاء هذا الحق لأحدهما . والقواعد التي تطبق على توافق الإرادتين في إيجاد العقد هي ذاتها التي تطبق على توافق الإرادتين في نقضه أو في تعديله .
وقد يكون نقض العقد أو تعديله لسبب يقرره القانون . فهناك عقود ينص القانون على أنه يجوز لأحد المتعاقدين أن يستقل بإلغائها ، كالوكالة والوديعة والعقود الزمنية التي لم تحدد لها مدة كالشركة والايجار وعقد العمل . وقد ينص القانون في بعض الأحوال الاستثنائية على جواز تعديل العقد نزولا عند اعتبارات عادلة ، كما فعل في جواز تعديل الشرط الجزائي ( م 224 ) ، وفي جواز منح المدين نظرة الميسرة ( م 346 ) . وفي جواز الرجوع في الهبة ( م 500 ) ، وفي جواز تعديل اجر الوكيل ( م 709 ) ، وفي جواز رد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول في نظرية الحوادث الطارئة التي سنتناولها بالبحث بعد قليل ( [738] ) .
413 – ولكن يجب تنفيذ العقد بطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية : كان المشروع التمهيدي للقانون الجديد ينص على أنه يجب تنفيذ العقد بطريقة تتفق ما يفرضه حسن النية وما يقتضيه شرف التعامل . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لهذا المشروع في هذا الصدد ما يأتي : " فإذا تعين مضمون العقد وجب تنفيذه على وجه يتفق مع ما يفرضه حسن النية وما يقتضيه العرف في شرف التعامل . وبهذا يجمع المشروع بين معيارين : أحدهما ذاتي قوامه نية العاقد وقد اختاره التقنين الفرنسي ، والآخر مادي يعتد بعرف التعامل وقد اخذ به التقنين الألماني " . ( [739] ) ومن ثم نرى أن لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، عندما حذفت المعيار الثاني الخاص بنزاهة التعامل من المشروع النهائي ، قد استبقت في الواقع المعيار الذاتي دون المعيار المادي . أما ما ذكرته في تقريرها من إنها حذفت العبارة التي تقرر المعيار المادي " لأن في عموم تعبير حسن النية ( وهذا هو المعيار الذاتي ) ما يغني عنها " ( [740] ) فغير صحيح ، لأن المعيار الذاتي لا يغني عن المعيار المادي . لذلك يجب ، بعد هذا التعديل ، الاقتصار على المعيار الذاتي ، وهو معيار حسن النية .
فالقاضي عندما يلزم المتعاقدين بتنفيذ العقد يقتضي منهما أن ينفذاه بطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية . ذلك أن حسن النية هو الذي يسود في تنفيذ جميع العقود . ولم يعد هناك ، كما كان الأمر في القانون الروماني ، عقود حرفية التنفيذ ( contrats de droit strict ) وعقود رائدها حسن النية ( contrats de bonne foi ) بل العقود جميعها في القانون الحديث قوامها في التنفيذ حسن النية ( [741] ) .
ويرتب القضاء الفرنسي على وجوب مراعاة حسن النية في تنفيذ العقد أن المقاول إذا تعهد بتوصيل أسلاك الكهرباء وجب عليه أن يقوم بتوصيلها من اقصر طريق ممكن ( [742] ) ، وأن أمين النقل يجب عليه أن ينقل البضاعة من الطريق الأصلح بالنسبة إلى صاحبها ( [743] ) .
ويجزى القانون حسن النية فيما يتعلق بتنفيذ العقد ، فيمنح المدين نظرة الميسرة إذا كان في عدم تنفيذه للعقد حسن النية ( م 346 فقرة 2 ) . ويجازي سوء النية في عدم تنفيذ العقد ، فيلزم المدين في المسئولية العقدية بالتعويض عن الضرر الذي كان لا يمكن توقعه وقت التعاقد إذا كان هذا المدين في عدم تنفيذه للعقد في ارتكب غشاً أو خطأ جسيما ( م 221 فقرة 2 ) . وهذا وذاك ينمان عما وراءهما من قاعدة مستترة تنهي عن البش وتأمر حسن النية في تنفيذ العقد .
وهناك عقود يتجلى فيها واجب حسن النية في التنفيذ في صورة التزام بالتعاون ، وهو التزام يقضي على كل من المتعاقدين أن يتعاون مع صاحبه في تنفيذ العقد . ففي عقد الشركة واجب التعاون ما بين الشركاء في تنفيذ العقد أمر ملحوظ ، حتى أن القانون يجيز حل الشركة لو أخل أحد الشركاء بهذا الواجب ( م 530 – 531 من القانون المدني الجديد والمادة 1871 من القانون المدني الفرنسي ) . وفي عقد التأمين يلزم واجب التعاون المؤمن له أن يخطر المؤمن بما يقع من حوادث أثناء سريان العقد وأن يبذل ما في وسعه للتخفيف من الضرر المؤمن عليه إذا وقع ( قانون 13 يولية سنة 1930 في فرنسا : م 17 و 19 و 21 ) . ويقضي واجب التعاون على الناشر أن يخطر المؤلف عما تم في بيع كتابه . وعلى المشتري أن يخطر البائع بدعوى استحقاق المبيع في وقت ملائم ( م 440 جديد ) . وإذا كشف عيباً في المبيع وجب عليه أن يخطر البائع به في خلال مدة معقولة ( م 449 ) . ولا يجوز للمستأجر أن يمنع المؤجر من إجراء الترميمات المستعجلة التي تكون ضرورية لحفظ العين المؤجرة ( م 570 ) . ويجوز للمستأجر أن يضع بالعين المؤجرة أجهزة لتوصيل المياه والنور الكهربائي والغاز والتليفون والراديو وما إلى ذلك ، فإذا كان تدخل المؤجر لازماً فتمام شيء من ذلك جاز للمستأجر أن يقتضى منه هذا التدخل ( م 581 ) . ويجب على المستأجر أن يبادر إلى إخطار المؤجر بكل أمر يستوجب تدخله ، كأن تحتاج العين إلى ترميمات مستعجلة أو ينكشف عيب فيها أو يقع اغتصاب عليها أو يعتدى أجنبي بالتعرض لها أو بإحداث ضرر بها ( م 585 ) . وعلى الوكيل أن يوافى الموكل بالمعومات الضرورية عما وصل إليه في تنفيذ الوكالة ( م 705 ) . وعلى أن ي وجه كان انتهاء الوكالة يجب على الوكيل أن يصل بالأعمال التي بدأها إلى حالة لا تتعرض معها للتلف ( م 717 ) ( [744] ) .
ويمكن القول بوجه عام إن التزام المتعاقد بتنفيذ العقد بطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية يغني في بعض الأحوال عن الالتجاء إلى نظرية التعسف في استعمال الحق . فإن المتعاقد الذي يحيد عن حسن النية في المطالبة بحقه يكون مسئولا على أساس المسئولية العقدية لإخلاله بالتزامه العقدي من وجوب مراعاة حسن النية في تنفيذ العقد ، قبل أن يكون مسئولا على أساس المسئولية التقصيرية للتعسف في استعمال الحق ( [745] ) .
2 – نظرية الحوادث الطارئة ( * )
( Theorie de l’imprevision )
414 – النصوص القانونية : نصت الفقرة الثانية من المادة 147 من القانون المدني الجديد على ما يأتي : " ومع ذلك إذا طرأت حوادث استئنافية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي ، وأن لم يصبح مستحيلا ، صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة ، جاز للقاضي تبعا للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول . ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك ( [746] ) " . وهذا نص مستحدث لم يكن له نظير في القانون القديم .
415 – وضع النظرية : ونظرية الحوادث الطارئة تفترض الوضع الآتي : عقد يتراخى وقت تنفيذه إلى أجل أو إلى آجال ، كعقد نوريد . ويحل أجل التنفيذ ، فإذا بالظروف الاقتصادية التي كان توازن العقد يقوم عليها وقت تكوينه قد تغيرت تغيراً فجائياً لحادث لم يكن في الحسبان ، فيختل التوازن الاقتصادي للعقد اختلالا خطيراً . وليكن الحادث خروج السلعة التي تعهد المدين بتوريدها من التسعيرة ، فيرتفع سعرها ارتفاعاً فاحشاً بحيث يصبح تنفذ المدين لعقد التوريد يتهدده بخسارة فادحة تخرج عن الحد المألوف في خسائر التجار . فهل يؤخذ المدين في هذه الحالة بتنفيذ التزامه مهما بلغت الخسارة ؟
لو أن هذا الحادث الطارئ قد جعل تنفيذ الالتزام مستحيلا ، لكان قوة قاهرة ينقضي بها الالتزام أو لو أنه لم يكن من شأنه إلا أن يجعل تنفيذ الالتزام يعود بخسارة على التجار لا تخرج عن الحد المألوف .في التجارة ، لما كان له من أثر ، فالتاجر يكسب ويخسر ، وكل من الكسب والخسارة أمر متوقع ، ولالتزام المدين بتنفيذ التزامه كاملا . ولكنا نفرض فيما قدمناه أن تنفيذ الالتزام من جهة لم يصبح مستحيلا ، ومن جهة أخرى صار مرهقاً يهدد التاجر بخسارة تخرج عن الحد المألوف . ثم إننا نفرض أن هذا كله لم يكن قائماً وقت نشوء العقد ، بل جد عند تنفيذه ( [747] ) . فماذا يكون الحكم ؟ تقول نظرية الحوادث الطارئة : لا ينقضي التزام المدين لأن الحادث الطارئ ليس قوة قاهرة ، ولا يبقى التزامه كما هو لأنه مرهق ، ولكن يرد القاضي الالتزام إلى الحد المعقول حتى يطيق المدين تنفيذه ، يطيقه بمشقة ولكن في غير إرهاق .
هذه هي نظرية الحوادث الطارئة . وتراها وهي تقوم في مرحلة تنفيذ العقد تقابل نظرتي الاستغلال والاذعان في مرحلة تكوين العقد ( [748] ) . فهي مثل نظيرتيها تصلح اختلال التوازن : هاتان يصلحان التوازن عن طريق الضرب على يد المتعاقد القوى أثناء تكوين العقد ، وهذه تصلح التوازن عن طريق الأخذ بيد المتعاقد الضعيف أثناء تنفيذ العقد . على أن اختلال التوازن في نظرية الحوادث الطارئة يرجع إلى حادث لا يد فيه لأي من المتعاقدين ، ومن ثم تتوزع تبعته بينهما . وفي النظريتين الأخريين يرجع اختلال التوازن إلى استغلال القوى من المتعاقدين للضعيف منهما ، ومن ثم يرفع عن الضعيف كل ما أصابه من الغبن ( [749] ) .
ونظرية الحوادث الطارئة لها تطور معروف ، وقد أخذ بها القانون المدني . الجديد نظرية عامة وطبقها تطبيقاً تشريعياً في حالات معينة . فنحن نتكلم : ( أولاً ) في التطور التاريخي لنظرية الحوادث الطارئة . ( ثانياً ) في نظرية الحوادث الطارئة في القانون المدني الجديد .
1 - التطور التاريخي لنظرية الحوادث الطائرة
416 – النظرية في العصور الوسطى : لما كانت نظرية الحوادث الطارئة ذات جانب أدبي بارر . فهي تعسف المتعاقد المنكوب عندما يختل التوازن الاقتصادي للعقد ، فإن ظهورها لا يستغرب في القوانين المشبعة بالروح الدينية . ظهرت في العصور الوسطى في القانون الكنسي ، ولها أثر ملحوظ في الفقه الإسلامي ( [750] ) .
فقد كان رجال الكنيسة في العصور الوسطى يرتبون على الحوادث الطارئة التي تجعل تنفيذ الالتزام مرهقاً للمدين أثراً قانونياً . فهنك غبن يقع على المدين المرهق ، والغبن لا يجوز سواء عاصر تكوين العقد أوجد عند تنفذه . إذ هو ضرب من الربا المحرم لا يحل أكله ، وهو إثراء دون حق للدانئ على حساب المدين المرهق . وقامت الصياغة الفنية للنظرية في القانون الكنسي على أساس قاعدة تغير الظروف ( rebus sic stantibus ) . فالعقد يفترض فيه شرط ضمني هو أن الظروف الاقتصادية التي عقد في ظلها تبقى عند تنفذه ولا تتغير تغيراً جوهرياً . فإذا ما تغيرت بحيث يصبح تنفيذ العقد جائراً بالنسبة إلى أحد المتعاقدين ، وجب تعديل العقد ليزول الحيف الناشيء من هذا التغيير المفاجئ في الظروف الاقتصادية .
وسم رجال الفقه الإسلامي بنظرية الحوادث الطارئة في بعض العقود ، وبخاصة في عقد الإيجار . فيتفسخ الإيجار بالعذر في مذهب الحنفية ، لأنه لو لزم العقد عند تحقق العذر للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد ، فكان الفسخ في الحقيقة امتناعاً من التزام الضرر ( [751] ) .
417 – النظرية في القانون الحديث – اندثارها في القانون الخاص : ولما كانت نظرية الحوادث الطارئة ثغرة ينفذ منها القاضي إلى العقد فينال من قوته الملزمة ، إذ هو يعدل العقد بطلب من أحد المتعاقدين دون رضاء الآخر ، لم تلبث النظرية أن انتكصت على أيدي المدنين من رجال القانون الفرنسي القديم ، واندثرت بعد ذلك أمام النظرية المعارضة ، نظرية القوة الملزمة للعقد . وثبت القانون المدني الحديث على هذا الموقف ، فلم يقر النظرية لافقهاً – على خلاف في الرأي – ولا قضاء .
أما في الفقه فقد انبرى لتأييدها بعض الفقهاء ، وحاولوا أن يجدوا لها سنداً في المبادئ العامة للقانون المدني . فقيل إن النظرية تقوم على أساس المبدأ القاضي بأن العقود يجب تنفذها بحسن نية ، وليس من حسن النية أن يتعسف الدائن بالمدين إذا أصبح التزام هذا مرهقاً لظروف طارئة لم تكن في حسبانه ( [752] ) . ولكن خصوم النظرية يردون بأن حسن النية يقضي بأن ينفذ المتعاقدان ما اتفقا عليه ، لا أن يعدل القاضي هذا الاتفاق ، فينفتح الباب واسعاً للتحكم – وقيل إن النظرية تفسر في ضوء المبدأ القاضي بأن المدين في التزام تعاقدي لا يدفع تعويضاً إلا عن الضرر المتوقع ، فلا يجوز إذن أن يحاسب المدين عن ظروف طارئة سببت ضرراً جيماً لم يكن متوقعاً وقت التعاقد ( [753] ) . ويرد الخصوم بأن هذا حكم لا يطبق إلا عند عدم تنفذ العقد بخطأ المدين ، لا عند تنفيذه كما هي الحال في نظرية الحوادث الطارئة – وقيل إن النظرية ترجع إلى مبدأ الإثراء بلا سبب ، فالقاضي بتعديله العقد المرهق يمنع الدائن من أن يثري على حساب المدين ( [754] ) . ويرد على ذلك بأن الدائن لم يثر بلا سبب ، بل إن هناك سبباً لاثرائه هو العقد – وفيل إن نظرية السبب تصلح سنداً ، إذ متى وصل التزام المدين إلى حد الإرهاق أصبح لا يستند إلى سبب كامل ووجب إنقاصه . ولكن نظرية السبب لا تشترط وجود التعادل الاقتصادي ولا استمراره إذا وجد ، وإلا لكان الغبن سبباً في بطلان العقد – وقيل أخيراً إن نظرية الحوادث الطارئة يمكن اسنادها إلى مبدأ التعسف في استعمال الحق ، فالدائن يتعسف في استعمال حقه إذا طلب المدين بتنفيذ التزام أصبح مرهقاً لظروف طارئة لم يكن أحد يتوقعها . ويرد خصوصم النظرية بأن الدائن قد أراد بتراخي التعاقد إلى مدة من الزمن أن يأمن جانب تغير الظروف ، فإذا هي تغيرت وطالب بحقه الذي تعاقد من أجله كان متبصراً لا متعسفاً ( [755] ) - ثم تقول جمهرة رجال الفقه إن نظرية الحوادث الطائرة مكانها هو التشريع . فإذا جدت أحوال تقتضي تدخل المشرع ، عولجت بالتشريع المناسب وبقدر الحاجة . وهذا ما فعله المشرع في مصر وفي فرنسا على اثر الحربين العالميتين في تأجيل الديون ( moratorium ) ، وفي عقود الإيجار ، وفي تحديد أسعار الحاجيات والمواد الغذائية ، وفي بعض العقود التجارية ( [756] ) .
أما القضاء المدني فلم يقر النظرية ، لا في فرنسا ولا في مصر .
وقد أبدت محكمة النقض الفرنسية أن تعدل عقداً يرجع إلى القرن السادس عشر حيث كان متفقاً أن تروى مياه ترعة الأراضي المجاورة بمقابل أصبح بعد أن تغيرت الظروف الاقتصادية تافهاً كل التفاهة ( [757] ) . وأبت أيضاً أن تعدل عقود التامين من خطر التجنيد وقت أن كانت الجندية في فرنسا بالاقتراح ، ثم زيد عدد الجيش إلى النصف تقريباً مما جعل التجنيد بطريق الاقتراع أكثر احتمالا ، فزاد الخطر الذي تتعرض له شركة التأمين زيادة جسيمة بسبب هذا الحادث الطارئ ( [758] ) .
والقضاء المصري ، في ظل القانون القديم ، كالقضاء الفرنسي لم يأخذ بنرظية الحوادث الطارئة . وقد اضطرد القضاء المختلط في هذا المعنى فعنده أن الالتزام لا ينقضي إلا إذا صار تنفيذه مستحيلا ، أما إذا كان التنفيذ ممكناً فإنه يجب القيام به حتى لو كان مرهقاً للمدين ( [759] ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة في حكم أخير بأن التعاقد وقت الحرب يجعل صعوبات التنفيذ متوقعة ، فلا يجوز الاحتجاج بها للتخلص من الالتزام ( [760] ) .
والقضاء الوطني أيضاً لم يقر نظرية الحوادث الطارئة . وقد كانت محكمة استئناف مصر الوطنية أخذت بالنظرية في حكم لها معروف ، ثبت فيه من وقائع القضية أن مصلحة الحدود تعاقدت مع شخص على أن يورد لها كمية من " الذرة العويجة " بسعر معين ، فورد بعض ما تعهد به ، ثم طالبته المصلحة بتوريد جزء آخر ، فامتنع بعد أن ارتفع سعر هذا الصنف من الاذرة على اثر إلغاء التسعيرة الجبرية من جنيهين وربع إلى ما فوق الخمسة الجنيهات وقد قررت المحكمة في حكمها : " أنه وإن كان من المقرر احترام العقود باعتبارها قانون المتعاقدين مادام لم يصبح تنفيذها مستحيلا استحالة مطلقة لحادث قهري ، إلا أنه يجب أن يكون ذلك مقيداً بمقتضيات العدالة وروح الإنصاف . فإذا طرأت عند التنفيذ ظروف لم تكن في حسبان المتعاقدين وقت التعاقد ، وكان من شأنها أن تؤثر على حقوق الطرفين وواجباتهما بحيث تخل بتوازنها في العقد إخلالاً خطيراً ، وتجعل التنفيذ مرهقاً لدرجة لم يكن يتوقعها بحال من الأحوال ، فإنه يكون من الظلم احترام العقد في مثل هذه الظروف ، ويجب عدلا العمل على مساعدة المدين وإنقاذه من الخراب . وإن نظرية الطارئ بما لم يكن في حسبان المتعاقدين تختلف عن نظرية الحادث الجبري ، إذ أن هذه تتطلب لأجل أن تتحقق استحالة التنفيذ كلية ، وتلك تتطلب استحالة نسبية ، أو بالأحرى ظرفاً يجعل التنفيذ أفدح خسارة وأعظم إرهاقا للمدين . وإن الروح التي أملت نظرية الإثراء على حساب الغير بغير سبب مشروع ونظرية الأفراط في استعمال الحق مع عدم وجود نصوص في القانون خاصة بهما هي نفسها التي تملي نظرية احترام الظروف الطارئة التي لم يكن يتوقعها المتعاقدان وقت التعاقد . وقد أخذ بتطبيقاتها في نظرة الميسرة وفي الضرر غير المتوقع " ( [761] ) . ونرى من ذلك أن محكمة الاستئناف أسندت النظرية إلى مبادئ العدالة ، وقرنتها بنظريتي الإثراء بلا سبب والتعسف في استعمال الحق من حيث أن النظريات الثلاث لم ترد فيها نصوص في القانون القديم ومع ذلك أخذ القضاء بها . ولكن هذا الحكم الفذ ما لبث أن نقضته محكمة النقض . وقد قررت هذه المحكمة في حكمها : " أنه لا ينقضي الالتزام العقدي بالفسخ إلا إذا أصبح الوفاء غير ممكن لطروء حادث جبري لا قبل للملتزم بدفعه أو التحرز منه ، فإن كان الحادث الطارئ لا يبلغ أن يكون كذلك ، بل كان كل أثره هو أن يجعل التنفيذ مرهقاً للمدين فحسب ، فلا ينقضي الالتزام . وإذن فالحكم الذي يقرر المساواة بين هاذين الحادثين من حيث أخذه بالفسخ في كليهما ، زعماً بأن القانون المصري ، وإن لم يقرر نظرية انفساخ الالتزام بالظروف الطارئة التي لم يكن يتوقعها المتعاقدان وإن جعل التنفيذ مرهقاً للمدين ، إلا أنه قد أباح الأخذ بها في بعض الحالات حيث تدعو مقتضيات العدالة وروح الإنصاف إلى ذلك ، وبأن في نظريتي الإثراء على حساب الغير والافراط في استعمال الحق ما يؤكد هذا النظر – الحكم بذلك على هذا الزعم مخالف للقانون متعين نقضه ، لأن الشارع وإن كان قد أخذ نظرية حساب الطوارئ في بعض الأحيان ، إلا أنه قد استبقى زمامها بيده ، يتدخل به فيما يشاء وقت الحاجة ، وبالقدر المناسب ، ولمصلحة العاقدين كليهما ، فما يكون للقضاء بعد ذلك إلا أن يطبق القانون على ما هو عليه " ( [762] ) . ويلاحظ أن محكمة النقض أبت الأخذ بنظرية الحوادث الطارئة كسبب لانقضاء الالتزام ، لا لرده إلى الحد المعقول ، وعلى أساس أن نصوص القانون المدني القديم تتعارض مع إقرار النظرية . فهي إذن لا تأبى أن يوضع للنظرية نص تشريعي عام يجعل الجزاء إنقاص الالتزام لا انقضاءه . بل هي تصرح بذلك في الحكم ذاته إذ تقول : " ومن حيث إنه وإن كانت هذه النظرية تقوم على أساس من العدل والعفو والإحسان ، إلا أنه لا يصح لهذه المحكمة أن تستبق الشارع إلى ابتداعها ، فيكون عليها هي وضعها وتبيان الظروف الواجب تطبيقها فيها ، وتحديد ما ينبغي على قاضي الموضوع اتخاذه من الوسائل القانونية في حق العاقدين كليهما توزيعاً للغرم بينهما " . وقد رأينا أن القانون المدني الجديد قد سد هذا النقص ، وأتى بالتشريع الذي كانت محكمة النقض تبتغيه . ومهما يكن أمر ، فإن القضاء الوطني بقي ، في ظل القانون القديم ، عند موقفه من نظرية الحوادث الطارئة . فقضت محكمة استئناف أسيوط بأنه ليس للمحاكم في مصر أن تأخذ بنظرية الطوارئ ، بل عليها أن تحكم بتنفيذ العقود كما هي وتفسيرها ، لا إدخال أي تعديل في الشروط المتفق عليها بين الطرفين ( [763] ) . وعادت محكمة النقض إلى رفض النظرية مرة أخرى ، فقضت بأنه " ليس في أحكام القانون المدني ( القديم ) ما يسوغ للقاضي نقض الالتزام التي ربتها العقد ، بل إن هذا مناف للأصل العام القائل بأن العقد شريعة المتعاقدين . ولئن كان هذا القانون في المادة 168 قد أجاز للقاضي في أحوال استثنائية أن يأذن في الوفاء على أقساط أو بميعاد لائق إذا لم يترتب على ذلك ضرر جسيم لرب الدين ، وأجاز له في المادة 514 أن ينظر في اجر الوكيل المتفق عليه وتقديره بحسب ما يستوصبه ، فهذا وذاك استثناء من الأصل كان لا بد لتقريره من النص عليه . ثم إن ما كان من الشارع المصري إبان الحرب العالمية الأولى وفي اعقابها وفي أثناء الحرب الثانية وعقب انتهائها من إصدار تشريعات مختلفة بوقف الآجال وإعطاء المهل والتدخل في عقود الإجارة وتحديد أسعار الحاجيات والمواد الغذائية – ذلك يدل على أنه أراد أن يستبقى بيده زمام نظرية الطوارئ ، فيتدخل فيما شاء وقت الحاجة ، وبالقدر المناسب ، ولهذا فليس للقضاء ، يسبق الشارع إلى ابتداع هذه النظرية ، بل عليه أن يطبق القانون كما هو . وعلى ذلك فالحكم الذي يرفض القضاء بفسخ العقد بالرغم من أن ظروف الحرب العالمية وطوارئها قد جعلت تنفيذ التزام العاقد عسيراً عليه مرهقاً له ، لا يكون مخطئاً في تطبيق القانون ( [764] ) " .
418 – ازدهارها في القانون العام : على أن نظرية الحوادث الطارئة إذا كانت قد اندثرت في القانون الخاص ، فقد ازدهرت في القانون العام . بدأت في القانون الدولي العام شرطاً ضمنياً مفروضاً في المعاهدات الدولية ، فهي تنقضي بتغير الظروف ( rebus sic stantibus ) ، على ما هو معروف في هذا القانون .
ثم انتقلت من القانون الدولي العام إلى القانون الإداري . وكانت الحرب العالمية الأولى هي المناسبة التي وافت مجلس الدولة الفرنسي للأخذ بها في قضية معروفة ، ثبت فيها أن شركة الغاز في مدينة بوردو كانت ملزمة بتوريد الغاز للمدينة بسعر معين ، ثم ارتفع سعر الغاز عقب نشوب الحرب من ثمانية وعشرين فرنكاً للطن في سنة 1913 إلى ثلاثة وسبعين فرنكاً في سنة 1915 ولما رفع الأمر إلى مجلس الدولة قضى بتعديل العقد بما يتناسب مع السعر الجديد ( [765] ) . ثم أعقب هذا الحكم أحكام أخرى من القضاء الإداري في هذا المعنى ( [766] ) .
وقد أخذ القضاء الإداري – دون القضاء المدني – بنظرية الحوادث الطارئة لسببين :
( السبب الأول ) أن الاقضية التي تعرض على القضاء الإداري تتصل اتصالا وثيقاً بالصالح العام . ولذلك يحرص القضاء الإداري على أن يوفق في أحكامه بين تطبيق القواعد القانونية الصحيحة والمصلحة العامة . فإذا نظر قضية كقضية شركة الغاز التي اشرنا إليها ، وجب أن يحسب حساباً للخدمة العامة التي تقدمها الشركة للجمهور ، إذ هي تقوم بمرفق عام ، فلا يجوز أخذها بالعنت وإلا أفلست ، وقاسي الجمهور من ذلك أكثر مما يقاسيه لو عدل عقد الالتزام نزولا على حكم الحوادث الطارئة . أما القضاء المدني فالكثرة الغالبة من أقضيته تتعلق بمصالح الأفراد دون أن يكون لها مساس بالمصلحة العامة . فليس أمامه هذا الاعتبار الذي يصرفه على التطبيق الدقيق للقواعد القانونية إلى ما تقتضيه المصلحة العامة .
( والسبب الثاني ) أن القضاء الإداري ليس مقيداً بنصوص تشريعية كالقانون المدني . فهو يتمتع بكثير من الحرية تجعل بعض أحكامه أقرب إلى التشريع ، وتيسر له على كل حال أن يماشي تطور الظروف . أما القضاء المدني فمقيد بنصوص لا يستطيع الانحراف عنها إلا في كثير من الجهد والمداورة . وهو يعرف القوة القاهرة ، ويعرف أن أهم شرط لها هو أن تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا ، وإلا فإن الالتزام يبقى كما هو دون أن يعدل . فلا يسهل على القضاء المدني أن يغير من هذه القواعد حتى يدخل شيئاً من المرونة على فكرة القوة القاهرة ، ويتدرج بها من المستحيل إلى المرهق ، ويجعل لكل منزلة حكمها . وحتى إذا كان هذا القضاء المدني يختص بالنظر في اقضية إدارية – كما كانت الحال في مصر قبل إنشاء مجلس الدولة ، بل كما هي الحال الآن إذ القضاء المدني في مصر لا يزال مختص بالنظر في أقضية إدارية مشتركاً في ذلك مع مجلس الدولة – فإنه ينزع إلى تطبيق نصوص القانون المدني على هذه الاقضية الإدارية . وهذا ما فعلته محكمة النقض المصرية في قضية توريد الأذرة إلى مصلحة الحدود وهي القضية التي سبقت الإشارة إليها . فقد كان من حق محكمة النقض بل من واجبها – والقضية التي تنظرها قضية إدارية – أن تسير وراء مجلس الدولة في فرنسا فتأخذ بنظرية الحوادث الطارئة . ولكنها سارت وراء محكمة النقض الفرنسية فلم تأخذ بها .
وقد جد في مصر ، لمصلحة تطبيق نظرية الحوادث الطارئة ، أمران : ( أولهما ) إنشاء القضاء الإداري ، وهو أكثر استعداداً لقبول هذه النظرية من القضاء المدني . ( والثاني ) ظهور القانون المدني الجديد ، وقد وجد فيه القضاء المدني ذاته النص الذي كان يتلسمه للأخذ بالنظرية .
419 – ظهورها أخيراً في القانون الخاص : ومن ثم أخذت نظرية الحوادث الطارئة تنتعش في السنين الأخيرة ، حتى في دائرة القانون الخاص . فبدأت تظهر في التقنينات الحديثة . ظهرت في قانون الالتزامات البولوني ، ثم في القانون المدني الإيطالي الجديد ، ثم في القانون المدني المصري الجديد ( [767] ) .
أما قانون الالتزامات البولوني فهو أول تقنين حديث أشتمل على نص عام في نظرية الحوادث الطارئة . فقد نص في المادة 269 على ما يأتي : " إذا جدت حوادث استثنائية ، كحرب أو وباء أو هلاك المحصول هلاكاً كلياً أو غير ذلك من النوازل الطبيعية ، فأصبح تنفيذ الالتزام محوطاً بصعوبات شديدة أو صار يهدد أحد المتعاقدين بخسارة فادحة لم يكن المتعاقدان يستطيعان توقعها وقت إبرام العقد ، جاز للمحكمة ، إذا رأت ضرورة لذلك ، تطبيقاً لمبادئ حسن النية ، وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين ، أن تعين طريقة تنفيذ الالتزام ، أو أن تحدد مقداره ، بل وأن تقضي بفسخ العقد " .
ثم تلى قانون الالتزامات البولوني القانون المدني الإيطالي الجديد ، فنص في المادة 1467 على ما يأتي : " في العقود ذات التنفيذ المستمر أو التنفيذ الدوري أو التنفيذ المؤجل إذا أصبح التزام أحد المتعاقدين مرهقاً على اثر ظروف استثنائية ، جاز للمتعاقد المدين بهذا الالتزام أن يطلب فسخ العقد . وللمتعاقد الآخر أن يدرأ طلب الفسخ بأن يعرض تعديلا لشروط العقد بما يتفق مع العدالة " .
وثالث التقنينات الحديثة التي اشتملت على نص عام في نظرية الحوادث الطارئة هو القانون المدني المصري الجديد . وقد مر بنا النص الذي وضعه لهذه النظرية في الفقرة الثانية من المادة 147 .
وترى من ذلك أن نظرية الحوادث الطارئة أخذت تسلك طريقها إلى التقنينات الحديثة ، وأن ثلاثة من أحدث هذه التقنينات أو ردت نصاً عاماً يقررها ( [768] ) .
4 - نظرية الحوادث الطارئة في القانون المدني الجديد
420 – شروط تطبيق النظرية : لنظرية الحوادث الطارئة شروط أربعة ، نسبطها فيما يلي ، ولم يأخذ القانون المدني الجديد بالشرط الأول منها :
( أولاً ) أن يكون العقد الذي تثار النظرية في شأنه متراخياً : ذلك أن طروء حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وقت التعاقد – وهذا هو الأساس الذي تقوم عليه النظرية – يقتضي أن تكون هناك فترة من الزمن تفصل ما بين صدور العقد وتنفيذه . على أن العقد إذا كان غير متراخ ، وطرأت مع ذلك هذه الحوادث الاستثنائية عقب صدوره مباشرة وإن كان ذلك لا يقع إلا نادراً ، فليس يوجد ما يمنع من تطبيق النظرية . ولهذا اثر القانون المصر ي - مقتدياً في ذلك بالقانون البولوني – أن يسكت عن شرط التراخي فهو شرط غالب ، لا شرط ضروري . أما القانون الإيطالي فقد نص على الشرط ، بل عدد أنواع العقود التي تطبق فيها النظرية ، فهي العقود ذات التنفيذ المستمر أو ذات التنفيذ الدوري ( وهذه هي العقود الزمنية التي مر ذكرها ) والعقود ذات التنفيذ المؤجل . وتجتمع هذه العقود في أن هناك فاصلا زمنياً ما بين صدور العقد وتنفيذه ، فهي عقود متراخية ( [769] ) .
( ثانياً ) أن تجد بعد صدور العقد حوادث استثنائية عامة . مثل ذلك زلزال ، أو حرب ، أو اضراب مفاجئ ، أو قيام تسعيرة رسمية ، أو الغاؤها ، أو ارتفاع باهظ في الاسعار ، أو نزول فاحش فيها ، أو استيلاء إداري ، أو وباء ينتشر ، أو جردا يزحف اسراباً . ونرى من هذه الأمثلة أن الحوادث لا بد أن تكون استثنائية يندر وقوعها . ولم يأت النص المصري بأمثلة ، تاركاً ذلك للفقه والعمل . وكذلك فعل القانون الإيطالي . أما القانون البولوني فقد مثل للحوادث الاستثنائية بالحرب والوباء وهلاك المحصول هلاكاً كلياً .
وقد كان المشروع التمهيدي للقانون المصري الجديد يقتصر على اشتراط أن تكون الحوادث استثنائية ، كما فعل القانونان البولوني والايطالي . ولكن لجنة المراجعة ، رغبة منها في تضييق نطاق نظرية الحوادث الطارئة حتى لا تزعزع كثيراً من القوة الملزمة للعقد ، اشترطت أن تكون الحوادث الاستثنائية عامة . " والمراد بإضافة هذا الوصف – كما قيل في اللجنة – أن الحوادث الاستثنائية ينبغي ألا تكون خاصة بالمدين ، بل يجب أن تكون عامة شاملة لطائفة من الناس ، كفيضان عال غير منتظر يكون قد أغرق مساحة واسعة من الأرض ، أو غارة غير منتظرة للجراد ، أو انتشار وباء ( [770] ) " . ويتبين من ذلك أن الحوادث الاستثنائية الخاصة بالمدين – كإفلاسه أو موته أو اضطراب أعماله أو حريق محصوله – لا تكفى لتطبيق نظرية الحوادث الطارئة ( [771] ) .
( ثالثاً ) أن تكون هذه الحوادث الاستثنائية ليس في الوسع توقعها : فإذا كانت متوقعة أو كان يمكن توقعها ، فلا سبيل لتطبيق نظرية الحوادث الطارئة ، ففيضان النيل ( إلا إذا كان فيضاناً استثنائياً ) ، واختلاف سعر العملة ( [772] ) ، وانتشار دودة القطن ، كل هذه حوادث في الوسع توقعها ( [773] ) . ويتفرع على أن الحادث لا يمكن توقعه أن يكون أيضاً مما لا يستطاع دفعه ، فإن الحادث الذي يستطاع دفعه يستوي في شأنه أن يكون متوقعاً أو غير متوقع .
( رابعاً ) أن تجعل هذه الحوادث تنفيذ الالتزام مرهقاً لا مستحيلا : وهنا نرى الفرق بين الحادث الطارئ والقوة القاهرة . فهما إذا كان يشتركان في أن كلا منهما لا يمكن توقعه ولا يستطاع دفعه ، إلا إنهما يختلفان في أن القوة القاهرة تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا أما الحادث الطارئ فيجعل التنفيذ مرهقاً فحسب . ويترتب على هذا الفرق في الشروط فرق في الأثر . إذ القوة القاهرة تجعل الالتزام ينقضي فلا يتحمل المدين تبعة عدم تنفيذه ( [774] ) ، أما الحادث الطارئ فلا يقضي الالتزام بل يرده إلى الحد المعقول فتتوزع الخسارة بين المدين والدائن ويتحمل المدين شيئاً من تبعة الحادث ( [775] ) .
والإرهاق الذي يقع فيه المدين من جراء الحادث الطارئ معيار مرن ليس له مقدار ثابت ، بل يتغير بتغير الظروف . فما يكون مرهقاً لمدين قد لا يكون مرهقاً لمدين الآخر . وما يكون مرهقاً لمدين في ظروف معينة قد لا يكون مرهقاً لنفس المدين في ظروف أخرى . والمهم أن تنفيذ الالتزام يكون بحيث يهدد المدين بخسارة فادحة . فالخسارة المألوفة في التعامل لا تكفي ، فإن التعامل مكسب وخسارة .
وإرهاق المدين لا ينظر فيه إلا للصفقة التي ابرم في شأنها العقد . فلو أن المدين تهددته خسارة من جراء هذه الصفقة تبلغ أضعاف الخسارة المألوفة ، كانت الخسارة فادحة حتى لو كانت لا تعد شيئاً كبيراً بالنسبة إلى مجموع ثروته . نعم إن ثروة المدين تكون إلى حد معين محل اعتبار في تقدير الخسارة الفادحة ، فمن كان فقيراً كانت خسارته فادحة ولو لم تبلغ أضعاف الخسارة المألوفة ، ومن كان ثرياً وجب أن تبلغ الخسارة الفادحة بالنسبة إليه أضعاف الخسارة المألوفة ، ولكن حساب الخسارة يقتصر فيه على الصفقة التي أصبحت مرهقة ، فنتسب الخسارة إلى هذه الصفقة لا إلى مجموع ثروة المدين . فإذا تعاقد الفرد مع الحكومة ، وكان له أن يتمسك قبلها بنظرية الظروف الطارئة إذا توافرت شروطها بالنسبة إليه ، فللحكومة أيضاً أن تتمسك قبله بهذه النظرية إذا كانت الصفقة التي عقدتها تهددها بخسارة فادحة بالنسبة إلى الصفقة في ذاتها ، ولا يعتد بأن الحكومة لا يرهقها أن تتحمل هذه الخسارة إذ هي شيء هين بالنسبة إلى ميزانيتها الضخمة . بل إن الإرهاق لا ينتفى حتى لو كان المدين قد أسعفته ظروف مواتية لا تتصل بالصفقة التي أصبحت مرهقة في ذاتها . فإذا التزم تاجر بتوريد قمح ، وخزن منه كميات كبيرة دون أن يتوقع علو السعر ودون أن تكون هناك صلة بين هذا التخزين وبين التزامه بتوريد القمح ، ثم علا سعر القمح لحادث طارئ أضعافاً مضاعفة ، جاز له أن يتمسك بنظرية الظروف الطارئة لتوافر شروطها في الصفقة التي ابرمها . أما المكسب الذي يجنيه من القمح المخزون لعلو السعر فيكون له هو ، ولا شأن للدائن به . ومن ثم نرى أن الإرهاق معياره موضوعي بالنسبة إلى الصفقة المعقودة ، لا ذاتي بالنسبة إلى شخص المدين ( [776] ) .
421 – الجزاء في نظرية الظروف الطارئة : إذا توافرت الشروط المتقدمة الذكر ، " جاز للقاضي تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول ، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك " ( [777] ) . وكان المشروع النهائي للقانون الجديد ينص على أن القاضي " ينقص " الالتزام المرهق إلى الحد المعقول . ولما كان الإنقاص لم يقصد به الإنقاص المادي وإنما قصد به تعديل الالتزام بتخفيف عبئه ، فقد رأت لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ ، توخياً للدقة في تحري هذا المعنى ، أن تعدل نص المشروع النهائي ، فيصبح على القاضي أن " يرد " الالتزام المرهق إلى الحد المعقول ( [778] ) . وهذا التعديل قد ازال كل شك في أن القاضي مطلق اليد في معالجة الموقف الذي يواجهه . فهو قد يرى أن الظروف لا تقتضي إنقاص الالتزام المرهق ، ولا زيادة الالتزام المقابل ، بل وقف تنفيذ العقد حتى يزول الحادث الطارئ . وقد يرى زيادة الالتزام المقابل . وقد يرى إنقاص الالتزام المرهق .
قد يرى القاضي وقف تنفيذ العقد حتى يزول الحادث الطارئ إذا كان الحادث وقتياً يقدر له الزوال في وقت قصير ( [779] ) . مثل ذلك أن يتعهد مقاول بإقامة مبنى ، وترتفع أسعار بعض مواد البناء لحادث طارئ ارتفاعاً فاحشاً ولكنه ارتفاع يوشك أن يزول لقرب انفتاح باب الاستيراد ، فيقف القاضي التزام المقاول بتسليم المبنى في الموعد المتفق عليه ، حتى يتمكن المقاول من القيام بالتزامه دون إرهاق ، إذا لم يكن في هذا الوقف ضرر جسيم يلحق صاحب المبنى ( [780] ) .
وقد يرى القاضي زيادة الالتزام المقابل للالتزام المرهق . وقد ضرب لذلك مثل في لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ : " تعهد تاجر بأن يورد ألف أردب من الشعير بسعر ستين قرشاً للأردب ، فيرتفع السعر إلى أربعة جنيهات ، فيرفع القاضي السعر الوارد في العقد ( [781] ) " . ولكن يلاحظ هنا أمران : ( الأمر الأول ) أن القاضي لا يرفع السعر الوارد في العقد إلى أربعة جنيهات ، وإلا كان في ذلك تحميل للطرف الآخر ، ليس فحسب تبعة الارتفاع الفاحش للأسعار بأكمله ، بل أيضاً تبعة الارتفاع المألوف . والأصل أن الارتفاع المألوف للأسعار يتحمله المدين ، كما يتحمل الدائن انخفاض الأسعار المألوف . فإذا فرضنا في المثل الذي نحن بصدده أن الارتفاع المألوف في سعر الشعير هو عشرون قرشاً ، وجب أن يتحمل المتعهد هذا المقدار دون أن يشترك معه فيه الطرف الآخر . وما زاد على ذلك – ويبلغ في مثلنا ثلثمائة وعشرين قرشاً – هو ارتفاع غير مألوف يقسمه القاضي بين المتعاقدين ، حتى يتحمل كل منهما نصيبه في الخسارة غير المتوقعة ، فيصيب المتعهد منه مائة وستون قرشاً . ويرفع القاضي السعر ، ومقداره ستون ، بنصف الزيادة غير المألوفة ومقداره مائة وستون ، فيصل إلى مائتين وعشرين . وعلى الطرف الآخر أن يدفع للتاجر هذا السعر المعدل بدلا من السعر المتفق عليه . ( والأمر الثاني ) أن القاضي عندما يرفع السعر من ستين إلى مائتين وعشرين ، لا يفرض على الطرف الآخر أن يشتري بهذا السعر ، بل يخيره بين أن يشتري به أو أن يفسخ العقد . فإذا اختار الفسخ كان هذا أصلح للمدين ، إذ يرتفع عن عاتقه كل أثر للحادث الطارئ .
وقد يرى القاضي إنقاص الالتزام المرهق . مثل ذلك أن يتعهد تاجر بتوريد كميات كبيرة من السكر لمصنع من مصانع الحلوى بالتسعيرة الرسمية . ثم يقل المتداول في السوق من السكر إلى حد كبير لحادث طارئ : حرب منعت استيراد السكر ، أو إغلاق بعض مصانع السكر ، أو نحو ذلك . فيصبح من العسير على التاجر أن يورد لمصنع الحلوى جميع الكميات المتفق عليها . فيجوز في هذه الحالة للقاضي أن ينقص من هذه الكميات بالمقدار الذي يراه ، حتى يرد التزام التاجر إلى الحد المعقول . فإذا فعل أصبح التاجر ملتزماً بتوريد الكميات التي عينها القاضي لا أكثر ، وجرى حكم العقد بهذا التعديل بين الطرفين . فيجوز لمصنع الحلوى أن يتقاضى الالتزام عيناً أو تعويضاً طبقاً للقواعد العامة . ويجوز له كذلك ، إذا امتنع التاجر عن تنفيذ التزامه المعدل ، أن يطلب فسخ العقد مع التعويض .
ويلاحظ في حالتي إنقاص الالتزام المرهق وزيادة الالتزام المقابل أن القاضي لا يرد الالتزام إلى الحد المعقول إلا بالنسبة إلى الحاضر ، ولا شأن له بالمستقبل لأنه غير معروف . فقد يزول أثر الحادث الطارئ ، فيرجع العقد إلى ما كان عليه قبل التعديل ، وتعود له قوته الملزمة كاملة كما كان ف الأصل ( [782] ) .
وإذا جاز للقاضي أن يقف تنفيذ الالتزام المرهق أو ينقص منه أو يزيد في الالتزام المقابل ، فإنه لا يجوز له فسخ العقد . ذلك أن النص لا يجعل له إلا أن " يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول " . فالالتزام المرهق يبقى ولا ينقضي ، ولكن يرد إلى الحد المعقول . فتتوزع بذلك تبعة الحادث الطارئ بين المدين والدائن ، ولا يتحملها الدائن وحده بفسخ العقد ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ( [783] ) . أما القانون البولوني فقد أجاز للقاضي فسخ العقد إذا رأى ضرورة لذلك ، كما يتبين من نص المادة 269 من هذا القانون وقد مر ذكرها . ويعالج القانون الإيطالي المسألة بطريقة أخرى . فهو يقضي – كما رينا من نص المادة 1467 من هذا القانون – بفسخ العقد لمصلحة المدين المرهق ، ولكن يجعل للمتعاقد الآخر الحق في أن يردأ طلب الفسخ بأن يعرض تعديلا لشروط العقد بما يتفق مع العدالة . وقد أراد القانون الإيطالي بالطريقة التي اختراها أن يجعل تعديل العقد من عمل المتعاقد لا من عمل القاضي ، ولكنه يفرض عليه هذا التعديل عن طريق تهديده بفسخ العقد ( [784] ) .
ويبقى أن نلاحظ في شأن الجزاء الذي قرره القانون المصري الجديد لنظرية الظروف الطارئة أمرين : ( 1 ) هو أنه مع مرونته يعتبر من النظام العام . فلا يجوز للمتعاقدين أن يتفقا مقدماً على ما يخالفه . وقد صرح النص بهذا الحكم إذ قال . " ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك ( [785] ) " . ( 2 ) أن مهمة القاضي في توقيع هذا الجزاء المرن تختلف عن مهمته المألوفة . فهو لا يقتصر على تفسير العقد ، بل يجاوز ذلك إلى تعديله ( [786] ) .
422 – تطبيقات تشريعية لنظرية الظروف الطارئة في القانون الجديد : ولم يقتصر القانون الجديد على إيراد نص عام يقرر فيه نظرية الظروف الطارئة ، بل أورد إلى جانب هذا النص العام نصوصاً أخرى تطبق النظرية في حالات خاصة .
ومن هذه النصوص نصان لم يستحدثهما القانون الجديد ، بل كان القانون القديم يشتمل عليهما ، نص في نظرة الميسرة ( [787] ) ، والآخر في جواز تخفيض أجر الوكيل ( [788] ) .
واستحدث القانون الجديد نصوصاً أخرى ، سبقت الإشارة إليها ، وهي تطبيقات صريحة لنظرية الظروف الطارئة . من ذلك ما نراه في عقد الإيجار ( [789] ) ، وفي عقد المقاولة ( [790] ) ، وفي حق الارتفاق ( [791] ) .
وهذه الحالات الخاصة يجب أن تخضع للنصوص التشريعية التي وردت في شأنها ، حتى لو خرجت هذه النصوص على القواعد المقررة في نظرية الظروف الطارئة . من ذلك أنه لا يشترط في أكثر هذه الحالات أن يكون الحادث الطارئ حادثاً عاماً ، بل يجوز أن يكون حادثاً شخصياً . ومن ذلك أيضاً أن الجزاء في أكثر هذه الحالات قد يصل إلى حد فسخ العقد .
423 – سريان الفقرة الثانية من المادة 147 من حيث الزمان : وقد رأينا فيما قدمناه أن القانون القديم لم يكن يشتمل على نص في نظرية الحوادث الطارئة ، وأن القانون الجديد هو الذي استحدث هذا النص . ولما كان النص جديداً . وجب البحث عن مدى سريانه من حيث الزمان لأهمية ذلك من الناحية العملية . ونميز في هذا الصدد بين أحوال ثلاث .
الحالة الأولى – عقد أبرم وينتهي تنفيذه قبل نفاذ القانون الجديد ( 15 أكتوبر سنة 1949 ) : لا شك أن القانون القديم هو الذي يسري على هذا العقد . فلا تطبق نظرية الظروف الطارئة في شأنه ، وهذا ما كان القضاء يجري عليه في ظل القانون القديم .
الحالة الثانية – عقد أبرم بعد نفاذ القانون الجديد : لا شك هنا أيضاً في أن القانون الجديد هو الذي يسري ، وتطبق في شأن هذا العقد نظرية الحوادث الطارئة على النحو الذي فصلناه .
الحالة الثالثة – عقد أبرم قبل نفاذ القانون الجديد وتراخى تنفيذه إلى ما بعد نفاذ هذا القانون : كانت قاعدة استمرار القانون القديم ( survie de la loi ancienne ) تقضى بسريان القانون القديم على هذا العقد ، فلا يكون هناك محل لتطبيق نظرية الحوادث الطارئة ( [792] ) . ولكن لما كانت أحكام هذه النظرية تعتبر من النظام العام كما قدمنا ، فإنها تسرى بأثر فوري ( effet imediat ) على وقائع التنفيذ التي تستجد منذ نفاذ القانون الجديد ، ولا تسري بأثر رجعي ( effet retro - actif ) على وقائع التنفيذ التي تمت قبل نفاذ هذا القانون ( [793] ) .
المبحث الثاني
المسئولية العقدية ( جزاء العقد ) ( [794] )
( La responsabilite Contractuelle )
424 - نطاق المسئولية العقدية ( [795] ) : المسئولية العقدية تقابل المسئولية التقصيرية . فالأولى جزاء العقد ، والثانية جزاء العمل غير المشروع : ويعنينا هنا المسئولية العقدية ، أما المسئولية التقصيرية فستكون محل البحث عند الانتقال إلى العمل غير المشروع كمصدر للالتزام .
وقيام المسئولية العقدية يفترض أن هناك عقداً صحيحاً واجب التنفيذ لم يقم المدين بتنفيذه . ففي هذه الحالة تقول الفقرة الأولى من المادة 199 : " ينفذ الالتزام جبراً على المدين " . وتقول الفقرة الأولى من المادة 203 : " يجبر المدين بعد إعذاره طبقاً للمادتين 219 و 220 على تنفيذ التزامه تنفيذاً عينياً متى كان ذلك ممكناً " فإذا أمكن التنفيذ العيني - وطلبه الدائن – أجبر المدين عليه . وإلى هنا لا تقوم المسئولية العقدية ، إذ نحن في صدد التنفيذ العيني للالتزام لا في صدد التعويض عن عدم تنفيذه . أما إذا لم يكن التنفيذ العيني – أو أمكن ولكن الدائن طلب التعويض ولم يبد المدين استعداده للتنفيذ العيني – ففي هذه الحالة لا يسع القاضي إلا أن يحكم بالتعويض إذا توافرت شروطه ، جزاء عدم تنفيذ الالتزام . وهنا تقوم المسئولية العقدية . فالدائن يطالب المدين بالتعويض . فعلى القاضي أن يبحث هل المدين مسئول حقاً عن عدم تنفيذ التزامه العقدي . وتجيب المادة 215 – وهي نص جوهري في كل من المسئولية العقدية والمسئولية التقصيرية ومن ثم وضعت في الباب المعقود لآثار الالتزام – بأنه " إذا استحال على المدين أن ينفذ الالتزام عيناً حكم عليه بالتعويض لعدم الوفاء بالتزامه ، ما لم يثبت أن استحالة التنفيذ قد نشأت عن سبب أجنبي لا يد له فيه " . فما هي إذن الأركان التي تقوم عليها المسئولية العقدية؟ وما هي الآثار التي تترتب عليها إذا قامت أركانها؟ هذه هي في إيجاز المسائل التي تشتمل عليها المسئولية العقدية .
ويتبين مما تقدم أن المسئولية العقدية لا شأن لها بالتنفيذ العيني للالتزام العقدي ( [796] ) . وهي أيضاً لا تتحقق إذا أثبت المدين أن الالتزام قد استحال تنفيذه بسبب أجنبي . وإنما تتحقق المسئولية العقدية إذا لم ينفذ المدين التزامه العقدي تنفيذاً عينياً ولم يستطع أن يثبت أن التنفيذ قد استحال بسبب أجنبي .
425 - تشتت مسائل المسئولية العقدية – خطة البحث : ومسائل المسئولية العقدية على النحو الذي بسطناه موزعة في أمكنة متفرقة ونحن قلم شتاتها هنا . ولكنا مع ذلك نترك الكلام في التمييز بينها وبين المسئولية التقصيرية . وهل تتعدد المسئوليتان . وهل تجوز الخيرة بينهما إذا تعددتا ، إلى باب العمل غير المشروع . ونترك كذلك الكلام في تقدير التعويض تقديراً قضائياً أو اتفاقياً أو قانونياً . وما يسبق استحقاق التعويض من إعذار ، إلى الجزء الذي نتناول فيه الكلام في آثار الالتزام ( [797] ) .
ويبقى بعد ذلك من مسائل المسئولية العقدية أركانها وآثارها كما قدمنا . ولكنا – توخياً للإيجاز – سندمج آثار المسئولية العقدية في أركانها ، على خلاف الخطة التي سنتبعها في المسئولية التقصيرية إذ يقتضي المقام هناك الإسهاب والتبسيط .
وأركان المسئولية العقدية – كأركان المسئولية التقصيرية – ثلاثة : ( 1 ) الخطأ العقدي . ( 2 ) الضرر . ( 3 ) علاقة السببية ما بين الخطأ والضرر . ونبحثها الآن ركناً ركناً .
المطلب الأول
الخطأ العقدي
( La faute contractuelle )
426 - مسائل ثلاث : الأصل أن يكون المدين مسئولاً عن خطأه الشخصي . ولكنه قد يكون مسئولاً عن عمل الغير أو عن الأشياء التي في حراسته ، كما هو الأمر في المسئولية التقصيرية . وقد تعدل قواعد المسئولية العقدية بالاتفاق أو عن طريق التأمين .
فنحن نبحث إذن مسائل ثلاثاً : ( 1 ) الخطأ العقدي في مسئولية المدين عن عمله الشخصي . ( 2 ) المسئولية عن الغير أو عن الأشياء . ( 3 ) تعديل قواعد المسئولية العقدية بالاتفاق أو عن طريق التأمين .
$ 1 - الخطأ العقدي في مسئولية المدين عن عمله الشخصي
427 – ما هو الخطأ العقدي : نبادر إلى القول بأن الخطأ العقدي هو عدم تنفيذ المدين لالتزامه الناشئ من العقد . فالمدين قد التزم بالعقد . فيجب عليه تنفيذ التزامه . والنصوص كثيرة في هذا المعنى . تقول المادة 147 فقرة أولى : " العقد شريعة المتعاقدين " . وتقول المادة 148 فقرة أولى : " يجب تنفيذ العقد طبقاً لما أشتمل عليه " . وتقول المادة 199 فقرة أولى : " ينفذ الالتزام جبراً على المدين " . وتقول المادة 203 فقرة أولى : " يجبر المدين بعد إعذاره طبقاً للمادتين 219 و 220 على تنفيذ التزامه تنفيذاً عينياً متى كان ذلك ممكناً " . وتقول المادة 215 : " إذا استحال على المدين أن ينفذ التزامه عيناً حكم عليه بالتعويض لعدم الوفاء بالتزامه " .
فإذا لم يقم المدين في العقد بالتزامه كان هذا هو الخطأ العقدي . ويستوي في ذلك أن يكون عدم قيام المدين بالالتزام ناشئاً عن عمده ، أو عن إهماله ، أو عن فعله ( أي دون عمد أو إهمال ) . بل إن الخطأ العقدي يتحقق حتى لو كان عدم قيام المدين بالالتزام ناشئاً عن سبب أجنبي لا يد له فيه كالقوة القاهرة . ولكن يلاحظ في هذه الحالة الأخيرة أنه إذا تحقق الخطأ العقدي ، فإن علاقة السببية – وهي ركن في المسئولية العقدية – تنعدم ، ولا تتحقق المسئولية على ما سنرى . وعلى هذا الوجه ينبغي فهم المادة 373 ، وهي تنص على أنه " ينقضي الالتزام إذا أثبت المدين أن الوفاء أصبح مستحيلاً عليه لسبب أجنبي لا يد له فيه " . فانقضاء الالتزام هنا إنما يكون نتيجة لاستحالة تنفيذه عيناً ولعدم تحقق المسئولية العقدية بانعدام أحد أركانها .
ويتبين مما قدمناه أن الخطأ العقدي ليس هو إلا عدم قيام المدين بالتزامه الناشئ عن العقد ، أيا كان السبب في ذلك .
428 – نوعان من الالتزامات : الالتزام بتحقيق غاية والالتزام ببدل عناية : ولكن يجب في هذا الصدد أن نميز بين نوعين من الالتزامات .
فهناك التزام تنفيذه لا يكون إلا بتحقيق غاية معينة هي محل الالتزام . فالالتزام بنقل حق عيني – أياً كان محل الحق – والالتزام بعمل معين – تسليم عين أو إقامة مبنى أو نحو ذلك – والالتزام بالامتناع عن مل معين ، كل هذه الالتزامات يقصد بها تحقيق غاية معينة ، هي نقل الحق أو القيام بالعمل أو الامتناع عن العمل ، فتنفيذها لا يكون إلا بتحقيق هذه الغاية . فإذا لم تتحقق الغاية – أياً كان السبب في ذلك – بقى الالتزام غير منفذ . وقد اصطلح على تسمية هذا النوع من الالتزام في الفقه الفرنسي بعبارة ( Obligation de resultat ) ونسميه نحن " الالتزام بتحقيق غاية " .
وهناك التزام لا يرمي إلى تحقيق غاية معينة ، بل هو التزام ببذل الجهد للوصول إلى غرض ، تحقق الغرض أو لم يتحقق . فهو إذن التزام بعمل ، ولكنه عمل لا تضمن نتيجته . والمهم فيه أن يبذل المدين لتنفيذه مقداراً معيناً من العناية . والأصل أن يكون هذا المقدار هو العناية التي يبذلها الشخص العادي ، ويزيد هذا المقدار و ينقص تبعاً لما ينص عليه القانون أو يقضي به الاتفاق . فمتى بذل المدين العناية المطلوبة منه ، يكون قد نفذ التزامه ، حتى لو لم يتحقق الغرض المقصود . فالمستأجر يجب عليه أن يبذل من العناية في استعمال العين المؤجرة وفي المحافظة عليها ما يبذل الشخص المعتاد ( م 583 فقرة أولى ) . وعلى المستعير أ ،يبذل في المحافظة على الشيء العناية التي يبذلها في المحافظة على ماله دون أن ينزل في ذلك عن عناية الرجل المعتاد ( م 641 فقرة أولى ) . وإذا كانت الوديعة بغير أجر وجب على المودع عنده أ ، يبذل من العناية في حفظ الشيء ما يبذله في حفظ ماله دون أن يكلف في ذلك أزيد من عناية الرجل المعتاد ، أما إذا كانت الوديعة بأجر فيجب أ ، يبذل في حفظ الوديعة عناية الرجل المعتاد ( م 720 ) . وإذا كانت الوكالة بلا أجر وجب على الوكيل أ ، يبذل دائماً في تنفيذها عناية الرجل المعتاد ( م 704 ) . وقد عرضت المادة 211 لهذا النوع من الالتزام في عمومه ، فنصت على ما يأتي : " 1 - في الالتزام يعمل ، إذا كان المطلوب من المدين هو أن يحافظ على الشيء أو أن يقوم بإدارته أو أن يتوخى الحيطة في تنفيذ التزامه ، فإن المدين يكون قد وفى بالالتزام إذا بذل في تنفيذه من العناية كل ما يبذله الشخص العادي . ولو لم يتحقق الغرض المقصود . هذا ما لم ينص القانون أو الاتفاق على غيره . 2 – وفي كل حالة يبقى المدين مسئولاً عما يأتيه من غش أو خطأ جسيم ( [798] ) " . وقد اصطلح على تسمية هذا النوع من الالتزام في الفقه الفرنسي بعبارة ( Obligation de moyen ) أو بعبارة ( obligation generale de prudence et diligence ) ونسميه نحن " الالتزام ببذل عناية ( [799] ) " .
فإذا قلنا بعد ذلك إن الخطأ العقدي هو عدم تنفيذ المدين لالتزامه الناشئ من العقد ، وجب أن نميز في هذا الصدد بين هذين النوعين من الالتزام . فالالتزام بتحقيق غاية يكون الخطأ العقدي فيه هو عدم تحقيق هذه الغاية ( [800] ) . والالتزام ببذل عناية يكون الخطأ العقدي فيه هو عدم بذل العناية المطلوبة ( [801] ) .
429 – إثبات الخطأ العقدي : والأصل أن الدائن هو المكلف بإثبات الدين ، والمدين هو المكلف بإثبات التخلص منه ( م 389 ) . ولكن مجال تطبيق هذه القاعدة يكون ندما يطالب الدائن المدين بتنفيذ التزامه عيناً فعلى الدائن في هذه الحالة أن يثبت مصدر الالتزام ( العقد مثلاً ) ، فإذا أدعى المدين أنه نفذه فعليه هو أن يثبت ذلك . وإلا حكم عليه بالتنفيذ العيني . أما في إثبات الخطأ العقدي فالأمر مختلف : الدائن لا يطالب المدين بتنفيذ الالتزام عيناً ، بل يطالبه بتعويض لعدم تنفيذ الالتزام . فالدائن هو الذي يدعى أن المدين لم ينفذ التزامه ومن أجل ذلك يطالبه بالتعويض . فعلى الدائن إذن يقع عبء إثبات أن المدين لم ينفذ التزامه ( [802] ) . فإذا أثبت ذلك كان هذا إثباتاً للخطأ العقدي على النحو الذي أسلفناه . ولما كان على الدائن أيضاً أن يثبت الضرر ، وكانت علاقة السببية ما بين الخطأ والضرر مفروضة كما سنرى ، فإن الدائن متى أثبت عدم تنفيذ الالتزام وأثبت الضرر الذي أصابه يكون قد اضطلع بما يقع على عاتقه من إثبات . فاستحق التعويض . وهذا ما لم ينف المدين السببية المفترضة بإثبات السبب الأجنبي .
ونطبق هذه القواعد على الالتزام بغاية والالتزام بعناية .
ففي الالتزام بغاية ، كالتزام البائع بنقل ملكية المبيع ، يثبت الدائن – وهو هنا المشتري – عقد البيع وعدم انتقال ملكية المبيع إليه . فيثبت بذلك في جانب البائع خطأ عقدياً ، لا يستطيع هذا أ ، ينفيه بإثبات أن بذل كل ما في وسعه لنقل ملكية المبيع إلى المشتري فلم يستطع . لأنه ملزم بتحقيق غاية . وليس أمامه إلا أ ، يثبت السبب الأجنبي لنفي علاقة السببية ، وإلا فالخطأ ثابت في جانبه ومسئوليته العقدية متحققة . ولا نقول هنا – كما كان يقال عادة – إن عدم تنفيذ البائع لالتزامه يجعل الخطأ العقدي مفروضاً في جانبه ، بل نقول إن عدم تنفيذ الالتزام هو بعينه الخطأ العقدي ، وقد أثبته الدائن ، فليس هو بالخطأ المفروض في جانب المدين ، بل هو خطأ ثابت ( [803] ) . وللبائع ، عند ما يثبت المشتري عقد البيع ، ألا يقف موقفاً سلبياً ويترك المشتري يثبت الخطأ العقدي على النحو الذي بيناه ، بل يقف موقفاً إيجابياً ويثبت أنه قد قام بتنفيذ التزامه عيناً ونقل ملكية المبيع إلى المشتري فلا محل إذن لمطالبته بالتعويض ، فنخرج بذلك من نطاق المسئولية العقدية إلى نطاق التنفيذ العيني .
وفي الالتزام بعناية . كالتزام الطبيب بعلاج المريض ( [804] ) ، يثبت المريض أن الطبيب التزم بعلاجه - وهذا هو العقد الصريح أو الضمني – ويثبت إلى جانب ذلك أن الطبيب لم ينفذ التزامه فلم يبذل في علاجه العناية المطلوبة ، بأن يثبت على الطبيب إهمالاً معيناً أو انحرافاً على أصول الصنعة . فإذا أثبت ذلك كان هذا إثباتاً لخطأ الطبيب العقدي . وما على المريض بعد ذلك إلا أن يثبت الضرر ليستحق التعويض ، ما لم يثبت الطبيب أن عدم تنفيذه لالتزامه وقعوده عن بذل العناية المطلوبة إنما يرجع إلى سبب أجنبي ، فتنعدم علاقة السببية ، ولا تتحقق المسئولية العقدية . وللطبيب هنا أيضاً ، عندما يثبت المريض العقد ، ألا يقف موقفاً سلبياً ويترك المريض يثبت عليه الخطأ العقدي ، بل ينتقل من نطاق المسئولية العقدية إلى نطاق التنفيذ العيني ، فيثبت أنه قد نفذ التزامه تنفيذاً عينياً وبذل كل العناية المطلوبة منه في علاج المريض ( [805] ) .
430 - نظرية مهجورة – تدرج الخطأ ( gradation des fautes ) : وهناك نظرية قديمة مهجورة تقسم الخطأ العقدي غير العمد إلى أقسام ثلاثة : خطأ جسيم ( culpa lata ) وهو الخطأ الذي لا يرتكبه حتى الشخص المهمل ، وهو خطأ أقرب ما يكون إلى العمد ويلحق به – وخطأ يسير ( culpa levis ) وهو الخطأ الذي لا يرتكبه شخص معتاد – وخطأ تافه ( culpa levissima ) وهو الخطأ الذي لا يرتكبه شخص حازم حريص . وهذه النظرية تقسم أيضاً العقود إلى طوائف ثلاث : عقد لمنفعة الدائن وحده كالوديعة ، وفيه لا يسأل المدين إلا عن الخطأ الجسيم - وعقد لمنفعة المتعاقدين معاً كالإيجار ، وفيه يسأل المدين عن الخطأ اليسير – وعقد لمنفعة المدين وحده ، وفيه يسأل المدين حتى عن الخطأ التافه .
وقد نسبت هذه النظرية خطأ إلى القانون الروماني ، وهي ليست منه ، بل هي من خلق القانون الفرنسي القديم . نرى دوماً يرسم خطوطها الرئيسية ( [806] ) ، ونراها مبسوطة بوضوح عند بوتييه ( [807] ) . ولكنها هجرت في القانون الجديد . وهي نظرية منتقدة من ناحيتين : ما تشتمل عليه من العموم ، وما تقول به من التدرج .
أما من ناحية العموم فالنظرية ليست صحيحة؛ فهي لا محل لتطبيقها في الالتزام بتحقيق غاية . وقد رأينا أن الخطأ العقدي في هذه الطائفة من الالتزامات ليس إلا عدم تنفيذ الالتزام . فإذا لم ينفذ المدين التزامه العقدي ، ولم يحقق الغاية المتفق على تحقيقها ، فهناك خطأ عقدي في جانبه ، أياً كانت درجة تقصيره . فقد يكون معتمداً ألا ينفذ التزامه . وقد يكون مقصراً تقصيراً جسيماً . وقد يكون مقصراً تقصيراً يسيراً . وقد يكون مقصراً تقصيراً تافهاً بل قد لا يكون هناك أي تقصير في جانبه . فالخطأ العقدي قائم ما دام المدين لم ينفذ التزامه ، وهو مسئول عن خطأه في جميع هذه الأحوال . وقد ذهبنا إلى أبعد من ذلك ، فقلنا إن المدين قدي منعه من تنفيذ التزامه سبب أجنبي كالقوة القاهرة ، ومع ذلك يبقى خطأه العقدي قائماً لأنه لم ينفذ إلتزامه ، وإن كانت رابطة السببية تنتفي بوجود السبب الأجنبي ، فتنعدم المسئولية لانعدام السببية لا لانعدام الخطأ ، ومن هنا نرى أن التناقض الذي يستظهره الفقه عادة بين نصين من نصوص القانون المدني الفرنسي ، هما المادتان 1147 و1137 ، تناقض ظاهري لا حقيقة له . فالمادة 1147 من هذا القانون تقرر أن المدين مسئول عن تنفيذ التزامه حتى يثبت أنه امتنع عليه ذلك لسبب أجنبي لا يد له فيه . والمادة 1137 تقضي بأن الالتزام بالعناية في المحافظة على الشيء يلزم الشخص الموكول إليه ذلك أن يبذل فيه عناية الشخص المعتاد . ولا تناقض ما بين النصين كما قدمنا . فلكل نص نطاق خاص به . فالمادة 1147 تقرر في عبارة عامة أن عدم تنفيذ المدين لالتزامه هو خطأ عقدي . وهذا صحيح وهو يصدق في الالتزام بغاية وفي الالتزام بعناية . ويكون المدين مسئولاً عن هذا الخطأ إلا إذا نفى علاقة السببية بإثبات السبب الأجنبي . أما المادة 1137 فهي لا تعرض لشيء مما تعرض له المادة 1147 ، بل هي تحدد مدى التزام المدين في الالتزام ببذل عناية ، وتقرر أن العناية المطلوبة هي في الأصل عناية الرجل المعتاد . فالمادة 1147 تنطبق إذن على جميع الالتزامات ، سواء ما كان منها التزاماً بغاية أو كان التزاماً بعناية ، وتعرض للمسئولية العقدية في ركنين من أركانها ، ركن الخطأ وركن السببية . والمادة 1137 لا تتناول إلا طائفة الالتزام ببذل عناية ، وتتناولها لا لتحديد المسئولية العقدية ، بل لتحديد مدى الالتزام ( [808] ) . وقد أتى القانون المصري الجديد بنصين يقابلان المادتين 1147 و1137 من القانون المدني الفرنسي ( [809] ) . فالمادة 215 تقضي بأن المدين يحكم عليه بالتعويض لعدم الوفاء بالتزامه ما لم يثبت أن استحالة التنفيذ قد نشأت عن سبب أجنبيه لا يلد له فيه ، فهي تقابل المادة 1147 من القانون المدني الفرنسي . والمادة 211 ، وتقابل المادة 1137 من القانون المدني الفرنسي ، توجب في الالتزام بعناية أن تكون العناية المبذولة هي عناية الرجل المعتاد ولو لم يتحقق الغرض المقصود . ولا تناقض ما بين هذين النصين ، كما لا تناقض ما بين نصي القانوني الفرنسي .
وأما من ناحية التدرج فالنظرية أيضاً ليست صحيحة . فنحن ، حتى إذا قصرنا نظرية تدرج الخطأ على الالتزام بعناية ، لا نتبين أن الخطأ يتدرج من خطأ جسيم إلى خطأ يسير إلى خطأ تافه تبعاً لما إذا كان العقد لمصلحة الدائن وحده أو لمصلحة المتعاقدين معاً أو لمصلحة المدين وحده . وقد هدم القانون المدني الفرنسي في المادة 1137 التي سبق ذكرها هذه التقسيمات جملة واحدة فقال إن الالتزام بالعناية في المحافظة على الشيء ، سواء كان الغرض من العقد مصلحة أحد المتعاقدين أو مصلحة الاثنين معاً ، يلزم المدين ببذل عناية الرجل المعتاد . فقضى هذا النص على التقسيم في شقيه ، تقسيم العقود إلى طوائف ثلاث وتقسيم الخطأ إلى أنواع ثلاثة . وأوجب في جميع العقود ، كأصل عام ، أن تكون العناية المطلوبة هي عناية الرجل المعتاد . وذلك هو شأن القانون المصري الجديد ( [810] ) . فقد جاء واضحاً كل الوضوح في نفي نظرية تدرج الخطأ . والأصل عنده أن العناية المطلوبة هي عناية الرجل المعتاد ( م 211 ) . ولكن يجوز الخروج على هذا الأصل إما بنص القانون وإما بالاتفاق . وقد نص القانون فعلاً في بعض العقود على عناية تزيد أو تقل عن عناية الرجل .المعتاد كما رأينا فيما تقدم ( [811] ) . كذلك يجوز للمتعاقدين أن يتفقا على مقدار من العناية أزيد أو أقل . بل يجوز لهما الاتفاق على الإعفاء من المسئولية العقدية إلا إذا ثبت في جانب المدين غش أو خطأ جسيم ( م 217 فقرة 2 ) . وسنرى تفصيل ذلك عند الكلام في الإعفاء من المسئولية ( [812] ) .
$ 2 - المسئولية العقدية عن الغير وعن الأشياء
1 - المسئولية العقدية عن الغير :
431 - نطاق المسئولية العقدية عن الغير : المسئولية العقدية عن الغير قد تتحقق إذا استخدم المدين أشخاصاً غيره في تنفيذ التزامه العقدي ، فيكون مسئولاً مسئولية عقدية عن خطأ هؤلاء الأشخاص الذي أضر بالدائن في الالتزام العقدي . فيوجد إذن : 1 ) المسئول وهو المدين في الالتزام العقدي . 2 ) والمضرور وهو الدائن في هذا الالتزام . 3 ) والغير وهم الذين استخدمهم المدين في تنفيذ التزامه . وتقوم المسئولية العقدية عن الغير حيث يوجد عقد صحيح بين المسئول والمضرور وحيث يكون الغير مكلفاً بتنفيذ هذا العقد . فالمستأجر مسئول عن المستأجر من الباطن قبل المؤجر : المسئول هنا هو المستأجر ، والمضرور هو المؤجر ، وقد قام بينهما عقد صحيح هو عقد الإيجار الأصلي ، والغير المكلف بتنفيذ هذا العقد من قبل المسئول هو المستأجر من الباطن . ويتبين من ذلك أن هناك حدين لنطاق المسئولية العقدية عن الغير : الحد الأول أن يكون هناك بين المسئول والمضرور عقد صحيح ، والحد والثاني أن يكون الغير معهوداً إليه في تنفيذ هذا العقد .
أما أن يكون هناك بين المسئول والمضرور عقد صحيح ، فذلك لأن مسئولية المسئول نحو المضرور هي مسئولية عقدية ، فوجب أ ، تنشأ هذه المسئولية عن عقد تم بينهما . فإذا كان العقد قد تم بين المسئول والغير الذي أحدث الضرر ، لا بين المسئول والمضرور ، كالتابع يربطه بمتبوعه عقد ثم يلحق الضرر بالمضرور في أثناء تأدية وظيفته ، فهذه مسئولية تقصيرية لا عقدية ،سنفصلها في مكانها . كذلك المؤجر لا يكون مسئولاً مسئولية عقدية عما يحدثه مستأجرة من الضرر لشخص لا يربطه عقد بالمؤجر . وإذا تولى الغير ، نيابة عن المسئول ، المفاوضة في عقد ثم قطعت المفاوضة ، فأصاب قطعها الطرف الآخر بالضرر ، فالمسئولية عن الغير هنا لا تكون عقدية ، لأن العقد بين المسئول والمضرور لميتم إذ هو لمي جاوز مرحلة المفاوضات . ويجوز أ ، تقوم في هذا المثل مسئولية تقصيرية ، هي مسئولية المتبوع عن تابعه ، إذا توافرت أركانها . وإذا انعقد العقد غير صحيح في المثل الذي نحن بصدده ، فإن المسئولية لا تكون هنا أيضاً مسئولية عقدية . إذ أن العقد غير الصحيح يزول بإبطاله ، فلا تنشأ المسئولية – إذا تحققت – من العقد ، بل تكون مسئولية تقصيرية . ويتحقق ذلك بأن يكون الغير الذي أبرم العقد غير الصحيح نيابة عن المسئول هو المتسبب في البطلان ، فيكون مسئولاً مسئولية تقصيرية نحو الطرف الآخر ، ويكون من أبرم العقد باسمه مسئولاً عنه مسئولية تقصيرية هي مسئولية المتبوع عن التابع ، فلا بد إذن لقيام المسئولية العقدية عن الغير أن يكون هناك عقد صحيح بين المسئول والمضرور .
ويجب أيضاً أن يكون الغير قد عهد إليه في تنفيذ هذا العقد . فلو كان الغير لم يعهد إليه في ذلك ، فإن تدخله في الإخلال بتنفيذ العقد قد يحقق مسئولية المدين ، ولكن هذه المسئولية تكون مسئولية شخصية لا مسئولية عن الغير . فالمؤجر يلتزم بعقد الإيجار أن يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين الانتفاع المقصود من العقد ، فإذا تدخل جيران المستأجر من تلقاء أنفسهم ، حتى لو كانوا مستأجرين من نفس المؤجر ( [813] ) ، في انتفاع المستأجر بالعين ومنعوه من ذلك ، فإن مسئولية المؤجر نحو المستأجر تكون مسئولية عقدية ، ولكنها مسئولية شخصية لا مسئولية عن الغير ، إلا أن يثبت المؤجر أن تدخل الجيران هو سبب أجنبي ، فعندئذ تنتفي مسئولية المؤجر بتاتاً . كذلك المستأجر يلتزم بعقد الإيجار نحو المؤجر أن يحافظ على العين ، وهو مسئول عما يصيب العين من تلف بفعله أو بفعل أحد ممن يسكن معه ، ومسئوليته في الحالتين مسئولية عقدية عن عمله الشخصي لا عن عمل الغير . فلا بد إذن لقيام المسئولية العقدية عن الغير أ ، يكون هذا الغير مكلفاً من المدين بتنفيذ العقد ، فيصبح المدين بهذا التكليف مسئولاً عن الغير مسئولية عقدية . مثل ذلك المقاول مسئول عن عماله وعن المقاول من الباطن نحو رب العمل ، والمستأجر مسئول عن المستأجر من الباطن نحو المؤجر ، والوكيل مسئول عن نائبه في تنفيذ الوكالة نحو الموكل وقد يكون التكليف بتنفيذ العقد غير آت من قبل المدين بل من القانون ، كالولي أو الوصي أو القيم يقوم بتنفيذ عقد أحد طرفيه الصغير أو المحجور ، فهنا أيضاً تكون مسئولية الصغير أو المحجور عن الولي أو الوصي أو القيم مسئولية عقدية عن عمل الغير .
432 - نصوص القانون المدني الجديد الواردة في المسئولية العقدية عن الغير : لا يوجد نص يقرر بطريق مباشر القاعدة العامة في المسئولية العقدية عن الغير ، على غرار النص الذي يقرر القاعدة العامة في المسئولية التقصيرية عن عمل الغير ( [814] ) . ولكن يوجد نص يقرر بطريق غير مباشر مبدأ المسئولية العقدية عن الغير ، وهذا النص هو الفقرة الثانية من المادة 217 وتجري بما يأتي : " وكذلك يجوز الاتفاق على إعفاء المدين من أية مسئولية تترتب على عدم تنفيذ التزامه العاقدين إلا ما ينشأ عن غشه أو عن خطأه الجسيم . ومع ذلك يجوز للمدين أن يشترط عدم مسئوليته عن الغش أو الخطأ الجسيم الذي يقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه " . ونقول بطريق غير مباشر ، لأن مبدأ المسئولية العقدية عن الغير إنما يستخلص ضمناً من هذا النص ، فما دام أنه يجوز للمدين أن يشترط عدم مسئوليته عن الخطأ الذي يقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه ، فذلك لا يستقيم إلا إذا كان هو في الأصل مسئولاً عن خطأ هؤلاء الأشخاص ، فيستطيع بالاتفاق أن ينفي عن هذه المسئولية . ومن ثم يمكن القول بأن الفقرة الثانية من المادة 217 تقرر مبدأ عاماً ، هو أن المذين مسئول مسئولية عقدية عن خطأ الأشخاص الذين يستخدمهم في تنفيذ التزامه العقدي .
وقد ورد تطبيقات تشريعية متعددة لهذا المبدأ في صدد عقود مختلفة :
من ذلك عقد الإيجار . فقد نصت المادة 571 على ما يأتي : " 1 - على المؤجر أن يمتنع عن كل ما من شأنه أن يحول دون انتفاع المستأجر بالعين المؤجرة ، ولا يجوز له أن يحدث بالعين أو بملحقاتها أي تغيير يخل بهذا الانتفاع . 2 – ولا يقتصر ضمان المؤجر على الأعمال التي تصدر منه أو من أتباعه ، بل يمتد هذا الضمان إلى كل تعرض أو إضرار مبني على سبب قانوني يصدر من أي مستأجرآخر أو من أي شخص تلقي الحق عن المؤجر ) ومسئولية المؤجر عن أعمال المستأجرين الآخرين أو عمن تلقوا الحق منه إنما هي مسئولية عقدية عن عمل شخصي ، أما مسئوليته عن الأعمال التي تصدر من أتباعه ممن يكلفهم بتنفيذ عقد الإيجار فهي مسئولية عقدية عن عمل الغير ( [815] ) .
وفي عقد المقاولة نصت المادة 661 على ما يأتي : " 1 - يجوز للمقاول أ ، يكل تنفيذ العمل في جملته أو في جزء منه إلى مقاول من الباطن إذا لم يمنعه من ذلك شرط في العقد أو لم تكن طبيعة العمل تفترض الاعتماد على كفايته الشخصية . 2 - ولكنه يبقى في هذه الحالة مسئولاً عن المقاول من الباطن قبل رب العمل " . فهذا نص صريح في مسئولية المقاول نحو رب العمل عن عمل المقاول من الباطن ، وهي مسئولية عقدية عن عمل الغير .
وفي عقد الوكالة نصت الفقرة الأولى من المادة 708 على ما يأتي : " إذا أناب الوكيل عن غيره في تنفيذ الوكالة دون أن يكون مرخصاً له في ذلك كان مسئولاً عن عمل النائب كما لو كان هذا العمل قد صدر منه هو ، ويكون الوكيل ونائبه في هذه الحالة متضامنين في المسئولية " وهنا أيضاً نص صريح في مسئولية الوكيل عن عمل نائبه نحو الموكل ، وهي مسئولية عقدية عن عمل الغير .
433 – شروط المسئولية العقدية عن الغير وأحكامها : ويتبين مما تقدم أن الغير الذي يكون المدين مسئولاً عنه هو كل من كان مكلفاً – اتفاقاً؟ قانوناً – بتنفيذ العقد . فالعمال والمقاولون من الباطن يكون المقاول مسئولاً عنها نحو رب العمل . والمستأجرم ، الباطن والمتنازل له عن الإيجار يكون المستأجر مسئولاً عنهما نحو المؤجر . وعمال أمين النقل وأمناء النقل المتتابعون يكون أمين النقل الأصلي مسئولاً عنهم نحو العميل . والبواب يكون صاحب المنزل مسئولاً عنه نحو المستأجرين ( [816] ) . ونائب الوكيل يكون الوكيل مسئولاً عنه نحو الموكل . والولي والوصي والقيم يكون الصغير أو المحجور مسئولاً عنه نحو المتعاقد الآخر . وبوجه عام كل من كلف ، اتفاقاً أو قانوناً ، بال؟ محل المدين في تنفيذ الالتزام ، كالمستأجر من الباطن ونائب الوكيل والوصي أو بمساعدته في تنفيذه . كالعمال وأمناء النقل المتتابعين ، يكون هو " ؟ في المسئولية العقدية عن الغير . ولا يشترط في الغير هنا ، كما يشترط في المسئولية التقصيرية ، أن يكون تابعاً . فقد رأينا أن الولي والوصي ؟ يعتبرون " غيراً " في هذه المسئولية العقدية ولا يعتبرون " تابعين " في المسئولية التقصيرية .
ويجب أن يكون الغير قد أحدث الضرر في حال تنفيذ العقد أو ؟؟ تنفيذه ، على النحو الذي سنراه في مسئولية المتبوع عن التابع . وخطأ في الالتزام بغاية يكون بعدم تحقيق الغاية المتفق عليها ، وفي الالتزام يكون بعدم بذل العناية المطلوبة ، فخطأه هو وخطأ الأصيل سواء .
فإذا توافرت هذه الشروط تحققت المسئولية العقدية عن الغير ، ؟ المدين مسئولاً عن خطأ الغير الذي استخدمه في تنفيذ التزامه ، واختلف الأساس الذي تبنى عليه هذه المسئولية . فمنهم من يقيمها على خطأ؟ فرضاً غير قابل لإثبات العكس . ومنهم من يرتبها على فكرة تحمل التبعة . ومنهم من بينها على فكرة حلول الغير محل الأصيل فيعتبر نائباً عنه فيما ارتكب من خطأ . ومنهم من يؤسسها على فكرة الضمان . وهذا الخلاف عينه نجده في تأصيل مسئولية المتبوع عن التابع . وسنتكلم فيه هناك بالتفصيل .
وغني عن البيان أنه إذا تحققت مسئولية المدين عن الغير ، جاز للأول أ ، يرجع على الثاني إما بالمسئولية العقدية إذا كان هو الذي كلفه بتنفيذ العقد ، وإما بالمسئولية التقصيرية إذاك أن الثاني مكلفاً بتنفيذ العقد بمقتضى القانون .
ب - المسئولية العقدية عن الأشياء :
434 - نطاق المسئولية العقدية عن الأشياء : إذا لم يقم المدين بتنفيذ العقد كان هذا خطأ عقدياً كما قدمنا . فإذا كان عدم تنفيذه للعقد راجعاً لا إلى فعله الشخصي بل إلى " فعل الشيء " ( fait de la chose ) ،أي إلى تدخل إيجابي من شيء أفلت من حراسته على النحو الذي سنبينه في المسئولية التقصيرية عن الأشياء ، كان المدين مسئولاً مسئولية عقدية ولكن لا عن " فعله الشخصي " بل عن " فعل الشيء " . ويتحقق ذلك في الفروض الآتية :
( 1 ) يسلم المدين الشيء محل العقد للدائن – البائع يسلم الآلة المبيعة للمشتري فتنفجر الآلة في يد المشتري وتصيبه بضرر في نفسه أو في ماله . هنا يصبح البائع مسئولاً بمقتضى التزامه العقدي من ضمان العيوب الخفية . ولم ينشأ هذا الضمان عن حالة سلبية للآلة المبيعة كوجود عيب فيها ، بل عن حالة إيجابية هي انفجار الآلة . فيكون البائع مسئولاً مسئولية عقدية ، ولكن لا عن ف عله الشخصي ، بل عن فعل الشيء .
( 2 ) يكون المدين مسئولاً عن رد الشيء محل العقد للدائن ، كالمستأجر يلتزم برد العين المؤجرة ، فيتدخل شيء آخر في حراسة المستأجر - كمواد متفجرة – تدخلاً إيجابياً يتسبب عنه حريق العين . فهنا لم ينفذ المستأجر التزامه العقدي برد الشيء ، فيكون مسئولاً مسئولية عقدية ، ولكن لا عن فعله الشخصي ، بل عن فعل الشيء ، والشيء هنا هو المواد المتفجرة لا العين المؤجرة .
( 3 ) يقوم المدين بتنفيذ العقد عن طريق استعمال شيئا ، فيؤذي هذا الشيء الدائن ، ويكون المدين مسئولاً عن سلامة الدائن بمقتضى العقد . مثل ذلك عقد النقل . ينفذه أمين النقل بوسائل المواصلات المختلفة ، قطار أو سيارة أو طيارة أو غير يذلك ، فيصطدم القطار أو تنفجر السيارة أو تسقط الطيارة ، فيصاب الراكب بالضرر . هنا أيضاً لم ينفذ أمين النقل التزامه نحو الراكب ، إذ هو ملتزم بسلامته ، فيكون مسئولاً مسئولية عقدية ، ولكن لا عن فعله الشخصي ، بل عن فعل الشيء .
435 - المسئولية العقدية عن الأشياء كالمسئولية العقدية عن الفعل الشخصي تحكمها قواعد واحدة : والفروض الثلاثة التي قدمناها لا فرق في الحكم بينها وبين المسئولية عن الفعل الشخصي . فالمدين بالعقد مسئول عن عدم تنفيذ التزامه مسئولية عقدية . وسواء كان هذا راجعاً إلى فعله الشخصي أو إلى فعل شيء في حراسته ، فمسئوليته متحققة في الحالتين ، وتطبق القواعد ذاتها في كل منهما . ويعتبر " فعل الشيء " في الفروض المتقدمة هو فعل شخصي للمتعاقد . لأن الشيء في حراسته ، وهو مسئول عنه . فالمسئولية العقدية عن الأشياء هي كالمسئولية العقدية عن الأعمال الشخصية تقوم على خطأ شخصي ( [817] ) .
$ 3 – تعديل قواعد المسئولية العقدية
436 - تعديل قواعد المسئولية العقدية عن طريق التأمين على المسئولية : يستطيع المدين أن يؤمن على مسئوليته العقدية كما يؤمن على مسئوليته التقصيرية . ويؤمن على كل خطأ يصدر منه عدا الفعل العمد ، وعلى كل خطأ يصدر من أتباعه أو ممن يستخدمهم في تنفيذ التزامه حتى عن الفعل العمد . فيستوي التأمين في المسئوليتين . وتستوي قواعد التأمين أيضاً ، وسنفصلها عند الكلام في المسئولية التقصيرية .
437 - تعديل قواعد المسئولية العقدية عن طريق الاتفاق – النصوص القانونية : تنص المادة 217 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" 1 - يجوز الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة الحادث المفاجئ والقوة القاهرة " .
" 2 - وكذلك يجوز الاتفاق على إعفاء المدين من أية مسئولية تترتب على عدم تنفيذ التزامه التعاقدي إلا ما ينشأ عن غشه أو عن خطأه الجسيم . ومع ذلك يجوز للمدين أن يشترط عدم مسئوليته عن الغش أو الخطأ الجسيم الذي يقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه " .
" 3 - ويقع باطلاً كل شرط يقضي بالإعفاء من المسئولية المترتبة على العمل غير المشروع ( [818] ) " .
ونصت الفقرة الثانية من المادة 211 – بعد أن قضت الفقرة الأولى بأن مدى العناية الواجبة في الالتزام ببذل عناية هي عناية الشخص المعتاد ما لم يوجد اتفاق مخالف – على ما يأتي : " وفي كل حال يبقى المدين مسئولاً عما يأتيه من غش أو خطأ جسيم " . وقد سبق ذكر النص بأكمله ( [819] ) .
ولم يستحدث القانون الجديد شيئاً فيما نص عليه من الأحكام المتقدمة ، بل اقتصر على تقنين ما كان الفقه والقضاء في مصر يجريان عليه من المبادئ في شأن التعديل الاتفاقي من قواعد المسئولية العقدية ، وعلى تثبيت هذه المبادئ وتأكيدها في نصوص تشريعية .
438 - الأصل هو الحرية في تعديل قواعد المسئولية العقدية بالاتفاق : ولما كانت المسئولية العقدية منشأها العقد ، وكان العقد وليد إرادة المتعاقدين ، فالإرادة الحرة هي إذن أساس المسئولية العقدية . وغذا كانت الإرادة الحرة هي التي أنشأت قواعد هذه المسئولية ، فإن لها أن تعدلها . فالأصل إذن هو حرية المتعاقدين ، في تعديل قواعد المسئولية العقدية ، وذلك في حدود القانون والنظام العام والآداب .
أما المسئولية التقصيرية فهي ليست وليدة الإرادة الحربة ، بل هي حكم القانون . وسنرى لذلك أنه لا يجوز تعديل قواعدها بالاتفاق ، كما جاز في المسئولية العقدية .
439 – الأحكام التي قررها النصوص في جواز تعديل المسئولية العقدية بالاتفاق : والأحكام التي قررتها النصوص . والتي كان الفقه والقضاء في مصر يجريان عليها في غير اضطراد فاستقرت بعد أن قننتها نصوص تشريعية ، يمكن ردها إلى مبدأين رئيسيين :
المبدأ الأول : يقضي بحرية المتعاقدين في التعديل من قواعد المسئولية العقدية فلهما أن يتفقا على التشديد من هذه المسئولية ، بأن يجعل المدين مسئولاً حتى عن السبب الأجنبي ، ويكون هذا بمثابة تأمين للدائن ( [820] ) . ولهما أن يتفقا على التخفيف منها بألا يجعل المدين مسئولاً حتى عن تقصيره .
والمبدأ الثاني : يقضي بأن النظام العام يقيد من حرية المتعاقدين ، فلا يجوز التخفيف من المسئولية العقدية إلى حد الإعفاء من الفعل العمد أو ما يلحق بالفعل العمد وهو الخطأ الجسيم ، وذلك أنه لو صح للمدين أن يعفى نفسه من المسئولية عن الفعل العمد في عدم تنفيذ التزامه العقدي ، لكان التزامه معلقاً على شرط إرادي محض . وهذا لا يجوز . والخطأ الجسيم ملحق بالفعل العمد ، ويأخذ حكمه . ولكن يجوز للمدين أن يعفى نفسه من المسئولية عن عمل الغير ، حتى لو كان هذا العمل عمداً أو خطأ جسيماً ، فإن عمد الغير لا ينزل منزلة الشرط الإرادي المحض ( [821] ) .
440 - تحليل لهذه الأحكام وتطبيقها على الالتزام بغاية والالتزام بعناية : وإذا حللنا الأحكام التي قدمناها في ضوء ما عرفناه من قواعد المسئولية العقدية ، رأينا أن الأمر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمقدار العناية المطلوبة من المدين في تنفيذ التزامه العقدي . تتدرج هذه العناية تدرجاً ملحوظاً ( [822] ) .
ففي الالتزام بغاية ، حيث يبلغ مقدار العناية المطلوبة الدرجة القصوى . إذ يطلب دائماً تحقيق الغاية المتعاقد عليها ، لا ترفع مسئولية المدين إلا في حالة السبب الأجنبي . ويكون المدين مسئولاً عن الفعل العمد . وعن أي خطأ . جسيماً كان أو يسيراً أو تافهاً ، بل وعن الفعل مجرداً من أي خطأ . ويمكن تبعاً لهذا التدرج أن نتصور الاتفاق على تشديد المسئولية العقدية حتى تشمل المسئولية عن السبب الأجنبي ، وهذا كما قدمنا ضرب من التأمين يلتزم به المدين نحو الدائن . كذلك يمكن أن نتصور الاتفاق على تخفيف المسئولية العقدية في أدنى صورة من صوره ، فلا يكون المدين مسئولاً عن فعله المجرد من الخطأ . وعن ذلك ينقلب الالتزام بغاية إلى التزام بعناية ، ولا يكون المدين مسئولاً إلا إذا أثبت الدائن أنه ارتكب خطأ ولو تافهاً ( [823] ) . وقد يتدرج المدين في التخفف من المسئولية ، فيشترط إعفاءه من المسئولية عن الخطأ التافه . ثم عن الخطأ اليسير . فإذا وصل إلى هذا المدى لا يكون مسئولاً إلا إذا أثبت الدائن في جانبه العمد أو الخطأ الجسيم . ولكن إلى هنا يستطيع أن يصل في التخفف من مسئوليته . ولا يستطيع أن يصل إلى مدى أبعد . فلا يجوز أن يشترط إعفاءه من المسئولية عن فعله العمد أو عن خطأه الجسيم ، ما لمت كن المسئولية مترتبة على فعل الغير فيجوز له ذلك ( [824] ) . وقد ورد نص تشريعي في ضمان استحقاق المبيع ، وهو التزام بغاية ، يعتبر تطبيقاً لهذه الأحكام . إذ نصت الفقرة الأولى من المادة 445 على أنه " يجوز للمتعاقدين باتفاق خاص أن يزيدا ضمان الاستحقاق ، أو أن ينقصا منه ، أو أ ، يسقطا هذا الضمان " . ثم نصت الفقرة الثالثة من المادة ذاتها على أنه " يقع باطلاً كل شرط يسقط الضمان أو ينقصه إذا كان البائع قد تعمد إخفاء حق الأجنبي " . وكذلك الأمر في ضمان العيوب الخفية في المبيع ، حيث نصت المادة 453 على أنه " يجوز للمتعاقدين باتفاق خاص أ ، يزيدا في الضمان أو ينقصا منه أو أن يسقطا هذا الضمان ، على أن كل شرط يسقط الضمان أو ينقصه يقع باطلاً إذا كان البائع قد تعمد إخفاء العيب في المبيع غشاً منه " .
وفي الالتزام بعناية تكون درجة العناية المطلوبة . حيث لا يوجد نص أو اتفاق خاص ، هي عناية الشخص المعتاد . فلا يكون المدين مسئولاً عن السبب الأجنبي ، ولا عن الفعل المجرد من الخطأ . ولا عن الخطأ التافه . ويكون مسئولاً عن فعله العمد ، وعن خطأه الجسيم ، وعن خطأه اليسير . وقد يشدد باتفاق خاص من هذه المسئولية ، فيصبح مسئولاً عن الخطأ التافه ، ثم عن الفعل المجرد من الخطأ . وهنا ينقلب الالتزام بعناية إلى التزام بغاية ، إذ يصبح المدين مسئولاً عن تحقيق غاية لا يتخلص من المسئولية عنها إلا بإثبات السبب الأجنبي . وقد يشدد في مسئوليته إلى مدى أبعد فيصبح مسئولاً حتى عن السبب الأجنبي ، وهذا ضرب من التأمين كما قدمنا . وقد يتخفف من مسئوليه ، فلا يكون مسئولاً عن الخطأ اليسير ، ويبقى مسئولاً عن الفعل العمد وعن الخطأ الجسيم ، فلا يستطيع أن يعفى نفسه بشرط خاص من المسئولية عنهما ، ما لم تكن المسئولية مترتبة على فعل الغير .
ونرى من ذلك أن الالتزام بغاية قد ينقلب إلى التزام بعناية ، وأن الالتزام بعناية قد ينقلب إلى التزام بغاية ، وأن المهم في كل ذلك هو مقدار العناية المطلوبة من المدين . فمن السبب الأجنبي ، إلى الفعل المجرد من الخطأ ، إلى الخطأ التافه ، إلى الخطأ اليسير ، إلى الخطأ الجسيم ، إلى الفعل العمد ، يتدرج المدين في مسئوليته العقدية عن نفسه أو عن الغير ، وفقاً لما ينص عليه القانون أو يقضي به الاتفاق . ولا يقف دون ذلك حتى هذا التقسيم الجوهري للالتزام إلى التزام بغاية والتزام بعناية ( [825] ) .
441 - الآثار التي تترتب على شروط الإعفاء من المسئولية العقدية : إذا كان شرط الإعفاء من المسئولية العقدية صحيحاً على النحو الذي فصلناه ، فإنه يعفى المدين من المسئولية بالقدر الذي يتسع له الشرط . ويبقى المدين مسئولاً فيما وراء ذلك . ولكن القضاء الفرنسي – واقتدى به القضاء المصري في ظل القانون القديم – يضيق من أثر شرط الإعفاء . فعنده أن المسئولية التقصيرية تجتمع مع المسئولية العقدية ، وللدائن الخيرة بين هاتين المسئوليتين . فإذا كان هناك شرط يعفى من المسئولية العقدية ، بقيت المسئولية التقصيرية ، وعلى الدائن أن يثبت خطأ في جانب المدين حتى يطالبه بالتعويض ، لا على أساس المسئولية العقدية وقد أعفى المدين منها ، بل على أساس المسئولية التقصيرية وشرط الإعفاء لا يتناولها ولا يجوز أن يتناولها لأن الإعفاء من المسئولية التقصيرية يتعارض مع النظام العام . فكأن شرط الإعفاء من المسئولية العقدية لم يفعل إلا أن نقل عبء الإثبات من المدين إلى الدائن . وهذه النتيجة تلزم من يقول بالخيرة بين المسئوليتين العقدية والتقصيرية . أما نحن فلا نقول بالخيرة كما سنبين عند الكلام في المسئولية التقصيرية . ولذلك نرى أن شرط الإعفاء إذا كان صحيحاً أعفى المدين من المسئولية العقدية ، ولا محل للمسئولية التقصيرية إذ أن هذه لا تجتمع مع تلك ( [826] ) .
وعلى المدين الذي يتمسك بشرط الإعفاء أن يثبت وجود هذا الشرط . ويصعب في كثير الأحوال على المدين إثبات أن الدائن قبل شرط الإعفاء ، لا سيما إذا كان هذا الشرط منزوياً في ورقة مطبوعة هي " بوليصة شحن " أو " تذكرة سفر " ، أو في ورقة موضوعة في مكان غير ظاهر في فندق أو مطعم أو نحو ذلك . وتقوم صعوبتان في مثل هذه الحالات لقبول شرط الإعفاء : أولاهما احتمال أن يكون الدائن لم ير هذا الشرط فلا يعتبر قابلاً له وفقاً لنظرية الإرادة الباطنة ، والثانية أن الشرط – بفرض أن الدائن قد رآه ولم يعترض عليه – قد يعتبر شرط إذعان تعسفى للقاضي أن يبطله .
أما إذا كان شرط الإعفاء من المسئولية العقدية باطلاً وفقاً للقواعد التي تقدم ذكرها ، فشرط الإعفاء وحده هو الذي يبطل ويبقى العقد قائماً دون شرط الإعفاء ( [827] ) .
المطلب الثاني
الضرر
( Le prejudice )
442 - عبُ إثبات الضرر : الركن الثاني في المسئولية العقدية هو الضرر . فلا بد من وجود ضرر حتى تترتب هذه المسئولية في ذمة المدين . والدائن هو الذي يحمل عبء إثبات الضرر ، لأنه هو الذي يدعيه . ولا يفترض وجود الضرر لمجرد أن المدين لم يقم بالتزامه العقدي ، فقد لا ينفذ المدين التزامه ولا يصيب الدائن ضرر من ذلك . ففي عقد النقل مثلاً ، إذا تأخر أمين النقل في تسليم البضاعة ، أو تأخر الراكب عن الوصول في الميعاد ، فإن مجرد التأخر لا يكفي لاستخلاص وجود الضرر ، بل يجب على الدائن أن يثبت أنه قد أصابه ضرر معين من جراء هذا التأخر ( [828] ) .
ويستثنى من ذلك فوائد النقود . فإذا استحقت فوائد عن التأخير ، قانونية كانت أو اتفاقية ، فإن الضرر مفترض ولا يكلف الدائن إثباته . بل لا يجوز للمدين أ ، يثبت أن الدائن لم يلحق به ضرر ليتخلص من المسئولية . وقد نصت المادة 228 على هذا الحكم فقالت : " لا يشترط لاستحقاق فوائد التأخير ، قانونية كانت أو اتفاقية ، أن يثبت الدائن ضرراً لحقه من هذا التأخير " .
أما الشرط الجزائي فلا يغني عن إثبات الضرر . ولكنه ينقل عبء الإثبات من الدائن إلى المدين . فالضرر مفروض إلا إذا أثبت المدين أنه لم يقع . وقد نصت الفقرة الأولى من المادة 224 على هذا الحكم إذ تقول : " لا يكون التعويض الاتفاقي مستحقاً إذا أثبت المدين أن الدائن لم يلحقه أي ضرر " .
443 – مسألتان للبحث : والضرر إما أن يكون مادياً أو أدبياً . والتعويض عن الضرر في المسئولية العقدية محدود المدى ، فلا تعويض إلا عن الضرر المتوقع .
فنبحث إذن مسألتين : ( 1 ) الضرر المادي والضرر الأدبي . ( 2 ) مدى التعويض عن الضرر .
$ 1 - الضرر المادي والضرر الأدبي
444 - كيف يتحقق كل من الضرر المادي والضرر الأدبي : قد يصيب الدائن في المسئولية العقدية ضرر مادي في ماله أو في جسمه ، كالمعير لا يستطيع استرداد الشيء المعار ، وكالراكب يؤذي في سلامته عند النقل . والضرر المادي هو الأكثر الأغلب . ولكن قد يكون الضرر ، وهذا نادر في المسئولية العقدية ، أدبياً يصيب الدائن في شعوره أو عاطفته أو كرامته أو شرفه أو نحو ذلك .
ويجب على كل حال في الضرر أن يكون واقعاً أو محقق الوقوع . ونبحث هذا الشرط في الضرر المادي لأن ظهور الحاجة إليه أكثر وضوحاً فيه . ثم نبحث الضرر الأدبي .
أ - الضرر المادي ( prejudice materiel ) :
445 - الضرر الحال ( prejudice actuel ) : الضرر الحال هو الضرر الذي وقع فعلاً . والأصل أن التعويض يكون عن الضرر الحال . ويعوض عن الضرر المستقبل إذا كان محقق الوقوع كما سنرى .
أما إذا لم يقع أصلاً فلا تعويض . مثل ذلك تأخر الراكب في الوصول قد لا ينجم عنه ضرر ، فلا يرجع الراكب بتعويض على أمين النقل . وإذا كلف الموكل وكيله أن يقيد رهناً لمصلحته ، فلا يقوم الوكيل بقيد الرهن ، ويتبين بعد ذلك أن العقار المرهون كان قبل الرهن مستغرقاً بالدين ، فلا تعويض للموكل إذا لم يلحقه ضرر .
446 - الضرر المستقبل ( Prejudice futur ) : وقد لا يقع الضرر في الحال ، ولكن يكون محقق الوقوع في المستقبل . مثل ذلك مصنع يتعاقد على استيراد خامات يدخرها للمقبل من الأيام ، فيخل المورد بالتزامه نحوه . فالضرر هنا لا يلحق المصنع في الحال إذ عنده خامات كافية ، ولكن يلحق به الضرر مستقبلاً عندما ينفذ ما عنده ويصبح في حاجة إلى الجديد الذي تعاقد على استيراده . ولما كان الضرر في هذا المثل محقق الوقوع في المستقبل ، ويستطاع تقدير التعويض عنه في الحال ، فإن للمصنع أن يرجع فوراً بالتعويض على المورد . ولكن قد يحث أن الضرر المستقبل يكون محقق الوقوع ولا يستطاع تقدير التعويض عنه في الحال ، إذ يتوقف مدى الضرر على عامل مجهول لما يعرف . مثل ذلك راكب يصاب بحادث في أثناء النقل ولا تعرف مدى إصابته إلا بعد وقت غير قصير ، فإذا رجع على أمين النقل بتعويض ، وجب التربص حتى يعرف مدى الضرر ليتقاضى عنه تعويضاً كافياً . وسنعالج هذه المسألة بتفصيل أو في المسئولية التقصيرية .
447 - الضرر المحتمل ( prejudice eventuel ) : وقد يكون الضرر محتملاً : لا هو قد تحقق فعلاً ، ولا هو محقق الوقوع في المستقبل . مثل ذلك أن يحدث المستأجر بالعين المؤجرة خللاً يخشى معه أن تتهدم العين . فالخلل ضرر حال ، ولكن تهدم العين ضرر محتمل . ويعوض المؤجر عن الضرر الحال فوراً . أما الضرر المحتمل فلا يعوض عنه إلا إذا تحقق . وسنرى عند الكلام في المسئولية التقصيرية أنه يجب التمييز أيضاً بين الضرر المحتمل ، ولا يعوض عنه إلا إذا تحقق كما قدمنا ، وتفويت الفرصة ، ويعوض عنه في الحال .
ب - الضرر الأدبي ( prejudice moral ) :
448 – أمثلة على الضرر الأدبي في المسئولية العقدية : سنرى عند الكلام في المسئولية التقصيرية أن الضرر الأدبي قد يصيب الجسم فيما يلحق به من ألم أو يحدث فيه من تشويه ، وقد يصيب الشرف والاعتبار والعرض ، وقد يصيب العاطفة والحنان والشعور . وهو إذا كان يقع كثيراً في المسئولية التقصيرية ، فإن وقوعه في المسئولية العقدية نادر . إذ الأصل أن الشخص يتعاقد على شيء ذي قيمة مالية .
ولكن هذا لا يمنع من أن تكون هناك مصلحة أدبية للمتعاقد في تنفيذ العقد ، فإذا أخل المدين بالتزامه لحق الدائن من ذلك ضرر أدبي . فالراكب إذا أصيب بجرح في أثناء النقل لحقه من ذلك ضرر أدبي في جسمه . والطبيب إذا أساء علاج المريض أصابه كذلك بضرر أدبي في صحته . وقد يذيع الطبيب سراً للمريض لا تجوز إذاعته ، فيصيب المريض بضرر أدبي في سمعته . كذلك قد يذيع الوكيل عن موكله ما يؤذيه في اعتباره . وقد يشتري شخص تذكاراً عائلياً ليست له إلا قيمة أدبية محضة بالنسبة إليه ، فإذا أخل البائع بتنفيذ التزامه كان الضرر الذي يصيب المشتري من جراء ذلك ضرراً أدبياً . والناشر إذا نشر كتاباً لمؤلف فشوهه ، قد يصيب المؤلف بضرر مادي ، ولكن المحقق أن يصيبه بضرر أدبي . والفنان إذا تعاقد مع شخص على عمل فني ، ففسخ المتعاقد معه العقد فسخاً تعسفياً ، قد يرى في هذا الفسخ إضراراً أدبياً بسمعته . والقطار إذا تأخر عن الوصول في ميعاده ، فلم يستطع أحد الركاب أن يشيع جنازة عزيز عنده بسبب هذا التأخر ، يكون قد أحدث ضرراً أدبياً للراكب في عاطفته . بل إن امتناع المدين عمداً عن تنفيذ العقد يجعل التعويض أوسع مدى ، إذ يمتد إلى الضرر غير المتوقع ، وليس هذا إلا ضرباً من التعويض عن ضرر أدبي أصاب الدائن بسبب سوء نية المدين .
449 - جواز التعويض عن الضرر الأدبي في المسئولية العقدية : وقد ناقش الفقهاء في فرنسا جواز التعويض عن الضرر الأدبي بوجه عام ، وعن الضرر الأدبي في المسئولية العقدية بوجه خاص . وإذا لم يكن الآن لجواز التعويض عن الضرر الأدبي في المسئولية التقصيرية خصوم يعتد بهم ، فإن بعضاً من الفقهاء لا يجيز التعويض عن الضرر الأدبي في المسئولية العقدية . ويرجع السبب في ذلك إلى أن تقاليد القانون الفرنسي القديم كانت لا تجيز هذا التعويض ، وقد ردد دوماً وبوتييه هذا الحكم زاعمين خطأ أنه هو حكم .القانون الروماني . ولكن الكثرة في الفقهاء الفرنسيين تجيز التعويض عن الضرر الأدبي في المسئولية العقدية ( [829] ) .
أما في القانون المصري ، فقد كان التعويض عن الضرر الأدبي في المسئولية العقدية جائزاً فقهاً وقضاء ( [830] ) . وأورد القانون الجديد نصاً صريحاً في جواز التعويض عن الضرر الأدبي في كل من المسئوليتين التقصيرية والعقدية ، فنصت الفقرة الأولى من المادة 222 من هذا القانون على ما يأتي : " يشمل التعويض الضرر الأدبي أيضاً ، ولكن لا يجوز في هذه الحالة أن ينتقل إلى الغير إلا إذا تحدد بمقتضى اتفاق أو طالب الدائن به أمام القضاء " .
450 - إحالة : وسنستوفى بحث التعويض عن الضرر الأدبي عند الكلام في المسئولية التقصيرية . فما يقال هناك ينطبق هنا ، وبخاصة في تعيين من له حق المطالبة بتعويض عن الضرر الأدبي ومتى يمكن انتقال هذا الحق .
$ 2 – مدى التعويض عن الضرر
451 - الضرر المباشر المتوقع هو الذي يعوض عنه في المسئولية العقدية : الضرر غير المباشر ( indirect ) لا يعوض عنه أصلاً ، لا في المسئولية العقدية ولا في المسئولية التقصيرية ، فلا يعوض إذن في المسئوليتين إلا عن الضرر المباشر ( direct ) .
ولكن في المسئولية التقصيرية يعوض عن كل ضرر مباشر ، متوقعاً كان ( previsible ) أو غير متوقع ( imprevisible ) أما في المسئولية العقدية فلا يعوض إلا عن الضرر المباشر المتوقع في غير حالتي الغش والخطأ الجسيم . وقد نصت الفقرة الثانية من المادة 221 صراحة على هذا الحكم إذ تقول :
" ومع ذلك إذا كان الالتزام مصدره العقد ، فلا يلتزم المدين الذي لم يرتكب غشاً أو خطأ جسيماً إلا بتعويض الضرر الذي كان يمكن توقعه عادة وقت التعاقد ( [831] ) " .
ونأتي بمثال يوضح ذلك ننقله عن " نظرية العقد ( [832] ) " : يضطر المستأجر لإخلاء المنزل قبل انقضاء مدة الإيجار لعدم قيام المؤجر بالتزامه من ترميم اشترطه عليه المستأجر . فينتقل إلى منزل مساو للمنزل الأول ولكنه أعلى اجرة ، وتتلف بعض المفروشات في أثناء النقل . ثم يكون في المنزل الجديد " ميكروب " مرض معد ينقل إليه هذا المرض . فالفرق في الأجرة ما بين المنزلين هو الضرر المباشر المتوقع . وقيمة المفروشات التي تلفت هي الضرر المباشر غير المتوقع . وما يتسبب عن المرض هو الضرر غير المباشر . والمؤجر لا يكون مسئولا إلا عن الضرر المباشر المتوقع ، ما لم يكن قد أخل بالتزامه عمداً أو عن خطأ جسيم فيكون مسئولا عن الضرر المباشر المتوقع . وقيمة المفروشات التي تلفت هي الضرر المباشر غير المتوقع . وما يتسبب عن المرض هو الضرر غير المباشر . والمؤجر لا يكون مسئولا إلا عن الضرر المباشر المتوقع ، ما لم يكن قد أخل بالتزامه عمداً أو عن خطأ جسيم فيكون مسئولا عن الضرر المباشر المتوقع وغير المتوقع كما في المسئولية التقصيرية . ولا يكون المدين مسئولا عن الضرر غير المباشر أصلاً حتى في المسئولية التقصيرية ( [833] ) " .
ومن المهم إذن أن نحدد عند اللبس ما إذا كانت المسئولية عقدية لا تعويض فيها إلا عن الضرر المتوقع ، أو هي مسئولية تقصيرية يكون التعويض فيها حتى عن الضرر غير المتوقع . فإذا أصيب الراكب في حادث وتحققت مسئولية أمين النقل العقدية ، لم يكن أمين النقل مسئولا قبل الراكب وورثته من بعده إلا عن الضرر المتوقع عن هذا الحادث . أما إذا طالبت الورثة بتعويض باسمهم الشخصي ، لا باعتبارهم ورثة ، فإن ذلك يكون على أساس المسئولية التقصيرية ، ويستطيعون على هذا الأساس أن يحصلوا على تعويض ما أصابهم هم ، لا ما أصاب مورثهم من ضرر متوقع أو غير متوقع ( [834] ) .
452 – ماذا يبرر قصر التعويض في المسئولية العقدية على الضرر المتوقع : ويقال عادة في تبرير قصر التعويض على الضرر المتوقع إن المتعاقدين لم يتعاقدا إلا على ما يتوقعانه من الضرر . فالضرر غير المتوقع لا يدخل في دائرة التعاقد ، فلا تعويض عنه . أما إذا كان هناك غش – أو ما يعادل الغش من خطأ جسيم – في جانب المدين ، فمسئولية المدين تنقلب إلى مسئولية تقصيرية تشمل الضرر غير المتوقع . وينتقد الاستاذان هنري وليون مازو فكرة انقلاب المسئولية العقدية بالغش إلى مسئولية تقصيرية ، إذ لا يزال المدين مسئولا بالعقد ، حتى لو كان سيء النية في عدم تنفيذه . ويريان أن المسئولية عن الضرر غير المتوقع في هذه الحالة ليست إلا عقوبة مدنية نص عليها القانون ( [835] ) .
ونرى من جانبنا أن تلمس مبرراً للقاعدة في الاعتبارات الآتية : الأصل في المسئولية ، عقدية كانت أو تقصيرية ، وجوب التعويض عن الضرر المباشر أكمله ، حتى لو كان غير متوقع . ذلك أن المدين مسئول عن كل هذا الضرر ، فهو الذي أحدثه مباشرة بخطأه . إلا أن المسئولية العقدية تتميز بأنها تقوم على العقد ، فإرادة المتعاقدين هي التي تحدد مداها . وقد افترض القانون أن هذه الإرادة قد انصرفت إلى جعل المسئولية عن الضرر مقصورة على المقدار الذي يتوقعه المدين ، فهذا هو المقدار الذي يمكن اني فترض افتراضاً معقولاً أن المدين قد ارتضاه . ويكون هذا الافتراض المعقول بمثابة شرط اتفاقي يعدل من مقدار المسئولية بقصرها على مقدار معين هو مقدار الضرر المتوقع . ولكن لما كان هذا الشرط باطلا في حالتي غش المدين وخطأه الجسيم كما قدمنا ، أصبح المدين في هاتين الحالتين ملتزماً بالتعويض عن كل الضرر ، متوقعاً كان أو غير متوقع ، لأنه رجع إلى الأصل بعد أبطال الشرط الاتفاقي الذي يعدل من مقدار المسئولية . ولعل هذا التبرير يعين على تفسير القواعد التي سنبسطها الآن في تحديد الضرر المتوقع .
453 – تحديد الضرر المتوقع – توقع سبب الضرر ومقداره – معيار موضوعي : لما كان مفروضاً أن المدين في المسئولية العقدية لم يزم نفسه إلا بالضرر المتوقع كما قدمنا ، وجب ، جرياً وراء هذا القرض المعقول ، أن يكون المدين قد توقع الضرر ، لا في سببه فحسب ، بل أيضا في مقداره . فإذا تعهدت شركة نقل ينقل " طرد " ، ثم ضاع " الطرد " في الطريق ، وتبين أنه يحتوى على أشياء ثمينة لم تكن الشركة تتوقعها عند إبرام العقد ، فلا تكون الشركة مسئولة عن كل القيمة بدعوى إنها كانت تتوقع سبب الضرر ، وهو وقع خطأ من عمالها قد يسبب ضياع " الطرد " ، بل لا تكون مسئولة إلا عن القيمة المعقولة " للطرد " ، إذ هي لا تسأل إلا عن الضرر الذي كانت تتوقعه في سببه وفي مقداره ( [836] ) .
وينبني أيضاً على هذا الفرض المعقول من أن المدين لم يلتزم إلا بالضرر المتوقع ، أن الوقت الذي ينظر فيه إلى توقع الضرر هو وقت إبرام العقد فلو أن المدين لم يتوقع الضرر في هذا الوقت ، ثم توقعه بعد ذلك ، فإنه لا يكون مسئولا عنه ، لأنه لم يلتزم به وقت إبرام العقد . وهذا هو ما ورد صراحة في الفقرة الثانية من المادة 221 ، إذ تنص على أن المدين الذي لم يرتكب غشاً أو خطا جسيما لا يلتزم " إلا بتعويض الضرر الذي كان يمكن توقعه عادة وقت التعاقد " .
وتوقع المدين للضرر يقاس بمعيار موضوعي لا بمعيار ذاتي . فالضرر المتوقع هو – كما يقول النص – الضرر الذي كان يمكن توقعه عادة ، أي الضرر الذي يتوقعه الشخص المعتاد في مثل الظروف الخارجية التي وجد فيها المدين ، لا الضرر الذي يتوقعه هذا المدين بالذات . فإذا أهمل المدين في تبين الظروف التي كان من شأنها أن تجعله يتوقع الضرر ، فإن الضرر يعتبر متوقعاً . لأن الشخص المعتاد لا يهمل في تبين هذه الظروف . أما إذا كان عدم توقع المدين للضر يرجع إلى فعل الدائن ، كأن سكت الدائن عن إخطار شركة النقل بأن " الطرد " يحتوى على أشياء ثمينة بالرغم من مظهره ، فإن الشركة لا تكون مسئولة عن هذا الضرر ، إذ من حقها إلا تتوقعه ، وهذا ما كان الشخص المعتاد يفعله ، كذلك إذا أعطى الدائن للمدين ببيانات غير صحيحة ، للحصول مثلا على تعريفة مخفضة للنقل ، فلا ينتظر من المدين أن يتوقع الضرر الذي يترتب على عدم صحة هذه البيانات . بل إن سكوت المدين عن إعطاء بيانات لازمة قد يعتبر في بعض الأحوال إخفاء للضرر ، فيكون المدين معذوراً إذا لم يتوقعه . فإذا سكت الراكب عن أن يبين لأمين النقل أنه يريد الوصول في الميعاد لأنه سيشترك في سباق ، أو سيؤدي امتحاناً ، أو سيحضر اجتماعاً هاماً ، أو سيمضي عقداً ، أو سيتقدم في مزاد ، أو نحو ذلك من الأشياء العاجلة التي يجب أن تتم في وقت محدد ، فلا يكون أمين النقل مسئولا عما يقع من ضرر لم يكن يتوقعه إذا وصل الراكب متأخراً عن الميعاد ، وإنما يكون مسئولا عن الضرر الذي ينجم عن التأخر في الظروف المعتادة . أما إذا رجع عدم توقع الضرر لا إلى فعل المدين ولا إلى فعل الدائن ، بل إلى سبب أجنبي عنهما معاً ، فإن المعيار الموضوعي للشخص المعتاد هو الذي يطبق في هذه الحالة ، وينظر هل كان الشخص المعتاد في مثل هذه الظروف الخارجية يتوقع الضرر أو لا يتوقعه ( [837] ) .
المطلب الثالث
علاقة السببية بين الخطأ والضرر
( Lien de causalite )
454 – عب الإثبات : لا يكفي أن يكون هناك خطأ وضرر ، بل يجب أيضاً أن يكون الخطأ هو السبب في الضرر ، أي أن تكون هناك علاقة سببية ما بين الخطأ والضرر . فقد يكون هناك خطأ من المدين ، كما قد يكون هناك ضرر أصاب الدائن ، دون أن يكون ذلك الخطأ هو السبب في هذا الضرر . مثل ذلك أن يقود عامل النقل المركبة التي ينقل فيها بضائع الدائن بسرعة أكبر مما يجب ، ولكن البضائع كانت قابلة للكسر ولم يصفها صاحبها بحيث يأمن عليها من التلف حتى لو كان عامل النقل يسير بسرعة معتدلة ، فتتكسر البضائع ، فيكون الضرر الذي أصاب الدائن في هذه الحالة غير ناشيء من خطأ المدين بل من خطأ الدائن نفسه .
والمفروض أن علاقة السببية ما بين الخطأ والضرر قائمة ، فلا يكلف الدائن إثباتها . بل إن المدين هو الذي يكلف بنفي هذه العلاقة إذا ادعى إنها غير موجودة فعبء الإثبات يقع عليه لا على الدائن . والمدين لا يستطيع نفي علاقة السببية إلا بإثبات السبب الأجنبي ، وذلك بأن يثبت أن الضرر يرجع إلى قوة قاهرة أو حادث فجائي ، أو يرجع إلى خطأ الدائن ، أو يرجع إلى فعل الغير . والنص صريح في هذا المعنى . فقد قضت المادة 215 بأنه " إذا استحال على المدين أن ينفذ الالتزام عينا حكم عليه بالتعويض لعدم الوفاء بالتزامه ، ما لم يثبت أن استحالة التنفيذ قد نشأت عن سبب أجنبي لا يد له فيه ( [838] ) .
455 – إحالة : يبين مما تقدم أن السببية ركن مستقل عن الخطأ ، وينعدم ركن السببية مع بقاء ركن الخطأ قائماً ، إذا كان الضرر لا يرجع إلى الخطأ ، بل يرجع كما قدمنا إلى سبب أجنبي . كذلك ينعدم ركن السببية حتى لو كان الخطأ هو السبب ولكنه لم يكن السبب المنتج ، أو كان السبب المنتج ، ولكنهن لم يكن السبب المباشر .
والكلام في السبب الأجنبي ، وفي السبب المنتج والسبب المباشر ، تشترك فيه المسئوليتان العقدية والتقصيرية . لذلك نرجئ بحث هذه المسائل حتى نعرض للمسئولية التقصيرية ، فنستوفى هناك بحثها تفصيلاً .
الفصل الثالث
زوال العقد
456 – كيف يزول العقد : العقد يزول بالانقضاء ( extinction ) والانحلال ( dissolution ) والإبطال ( annulation ) .
فهو ينقضي بتنفيذ الالتزامات التي ينشئها ، وهذا هو مصيره المألوف .
ولكنه قد يزول قبل تمام تنفيذه ، أو قبل البدء في تنفيذه ، فينحل ، الفرق إذن بين انحلال العقد وانقضائه أن الانحلال يكون قبل أن ينفذ العقد أو قبل أن يتم تنفيذه ، والانقضاء لا يكون إلا عند تمام التنفيذ .
وانحلال العقد غير إبطاله ، كلاهما زوال ( disparition ) للعقد ، ولكن الانحلال يرد على عقد ولد صحيحاً ثم ينحل بأثر رجعي أو دون أثر رجعي ، أما الإبطال فيرد على عقد ولد غير صحيح ثم يبطل بأثر رجعي في جميع الأحوال . والعقد ، في حالة الأبطال وفي حالة الانحلال بأثر رجعي ، لا يزول فحسب ، بل يعتبر كأن لم يكن .
وقد رأينا فيما مر كيف يبطل العقد . ونبحث الآن كيف ينقضي وكيف ينحل .
457 – انقضاء العقد : يجب التمييز هنا بين العقد الفوري والعقد الزمني .
فالعقد الفوري ، ولو كان مؤجل التنفيذ ، ينقضي بتنفيذ ما ينشأ عنه من الالتزامات . فالبيع مثلا ينقضي بنقل ملكية المبيع إلى المشتري وتسلمه للعين ودفع الثمن والوفاء بالضمان وجميع ا لالتزامات الأخرى التي تنشأ عن العقد . وكل هذه الالتزامات ، عندما يحل وقت الوفاء بها ، تنفذ فوراً ، جملة واحدة أو على أقساط .
والعقد الزمني انقضاؤه معقود بانقضاء الزمن ، لأن الزمن كما قدمنا عنصر جوهري فيه . فالإيجار ينقضي بانتهاء المدة المحددة ، فإذا لم تحدد له مدة انقضى بإنهائه من أحد المتعقادين مع مراعاة ميعاد الأخطار الذي يعينه القانون أو الاتفاق . وكالإيجار الشركة وعقد العمل ( [839] ) .
458 – انحلال العقد : وينحل العقد قبل انقضائه ، بل وقبل البدء في تنفيذه في كثير من الأحيان ، باتفاق الطرفين أو للأسباب التي يقررها القانون . فالانحلال باتفاق الطرفين هو التقايل ( resiliation conventionnelel ) . أما الأسباب التي يقررها القانون لانحلال العقد فأهمها الإلغاء بارادة منفردة ( resiliation unilaterale ) والفسخ ( resolution ) .
459 – التقايل : قد يتقايل المتعاقدان بأن يتفقا على إلغاء العقد . والتقايل يكون بإيجاب وقبول ، صريحين أو ضمنيين كما هو الأمر في العقد الأصلي ( [840] ) . والأصل أن التقايل ليس له أثر رجعي ، فيكون هناك عقدان متقابلان . فإذا تقايل المتبايعان البيع ، كان هناك عقد بيع أول من البائع إلى المشتري ، يعقبه عقد بيع ثان من المشتري إلى البائع . وقد يتراضى المتبايعان على أن يكون للتقايل أثر رجعي ، فيعتبر البيع بهذا التقايل كأن لم يكن .
وسواء كان للتقايل أثر رجعي أو لم يكن له هذا الأثر ، فهو على كل حال ، بالنسبة إلى الغير ثم بالنسبة إلى التسجيل ، عقد ثان اعقب العقد الأول . ويترتب على ذلك إنه إذا كان العقد الذي حصل التقايل فيه قد نقل ملكية عين ورتب من انتقلت إليه الملكية حقوقاً للغير على هذه العين ، فالتقايل لا يمس حقوق الغير ، وترجع العين إلى مالكها الأصلي مثقلة بهذه الحقوق . كذلك يجب تسجيل التقايل كما سجل العقد الأصلي حتى تعود الملكية إلى صاحبها الأول .
460 – الالغاء بارادة منفردة : وقد يجعل القانون لأحد المتعاقدين الحق في أن يستقل بإلغاء العقد . نص القانون على ذلك في عقود نذكر منها الوكالة والعارية والوديعة والمقاولة والقرض والايراد المؤبد وعقد التأمين والهبة والشركة .
ففي الوكالة ، يجوز للموكل في أي وقت أن ينهي الوكالة ( م 715 ) ، كما يجوز للوكيل أن ينزل في أي وقت عن التوكيل ( م 716 ) .
وفي العارية ، يجوز للمستعير أن يرد الشيء المعار قبل انقضاء العارية ( م 643 فقرة 3 ) ، ويجوز للمعاير أن يطلب إنهاء العارية قبل انقضائها في أحوال معينة ( م 644 ) .
وفي الوديعة ، يجب على المودع عنده أن يسلم الشيء إلى المودع بمجرد طلبه إلا إذا ظهر في العقد أن الأجل عين لمصلحة المودع عنده ، وللمودع عنده أن يلزم المودع بتسليم الشيء في أي وقت إلا إذا ظهر من العقد أن الأجل عين لمصلحة المودع ( م 722 ) .
وفي المقاولة ، لرب العمل أن يتحلل من العقد ويقف التنفيذ في أي وقت قبل اتمامه ، على أن يعوض المقاول عن جميع ما انفقه من المصروفات وما أنجزه من الأعمال وما كان يستطيع كسبه لو أنه اتم العمل ( م 663 فقرة 1 ) .
وفي القرض ، إذا اتفق على الفوائد كان للمدين إذا انقضت ستة أشهر على القرض أن يعلن رغبته في إلغاء العقد ورد ما اقترضه ، على أن يتم الرد في أجل لا يجاوز ستة أشهر من تاريخ هذا الإعلان ، وفي هذه الحالة يلزم المدين باداء الفوائد المستحقة عن ستة الأشهر التالية للإعلان ( م 544 ) .
وفي الدخل الدائن ، يجوز استبدال الدخل في أي وقت شاء المدين بعد انقضاء سنة على إعلانه الرغبة في ذلك ( م 546 ) .
وفي عقد التأمين على الحياة ، يجوز للمؤمن له الذي التزم بدفع أقساط دورية اني تحلل في أي وقت من العقد باخطار كتابي يرسله إلى المؤمن قبل انتهاء الفترة الجارية ، وفي هذه الحالة تبرأ ذمته من الاقساط اللاحقة ( م 759 ) . ويجوز له أيضاً ، متى كاىن قد دفع ثلاثة أقساط سنوية على الأقل . أن يصفى التأمين بشرط أن يكون الحادث المؤمن منه محقق الوقوع ، هذا ما لم يكن التأمين مؤقتاً ( م 762 ) .
وفي الهبة ، يجوز للواهب أن يرجع إذا قبل الموهوب له ذلك ، وهذا يعتبر تقايلا . فإذا لم يقبل الموهوب له ، جاز للواهب أن يطلب من لاقضاء الترخيص له في الرجوع ، متى كان يستند في ذلك إلى عذر مقبول ، ولم يوجد مانع من الرجوع ( م 500 – 503 ) . والرجوع في هذه الحالة الأخيرة أقرب إلى الفسخ ، لأنه يقع بترخيص من القضاء ويترتب عليه أن تعتبر الهبة كأن لم يكن .
وفي الشركة . يجوز للمحكمة أن تقضي بحلها بناء على طلب أحد الشركاء لسبب خطير يسوغ الحل ، وهذا ضرب من الفسخ كما يجوز لاي شريك إذا كانت الشركة معينة المدة أن يطلب من القضاءي اخراجه من الشركة متى استند في ذلك إلى أسباب معقولة ، وفي هذه الحالة تنحل الشركة ما لم يتفق الشركاء على استمرارها ( م 531 ) ، وهذا أيضاً ضرب من الفسخ لأنه لا يتم إلا بحكم القضاء ( [841] ) .
461 – الفسخ ووقف التنفيذ : وفي العقود الملزمة للجانبين . إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه ، جاز للمتعاقد الآخر أن يطلب من القاضي فسخ العقد ، وللقاضي سلطة تقدير هذا الطلب ( [842] ) . ويجوز للمتعاقد أيضاً أن يقف تنفيذ العقد من جانبه حتى يوقم الطرف الآخر بالتنفيذ ، وهذا هو الدفع بعدم تنفيذ العقد .
ونقف عند الفسخ والدفع بعدم التنفيذ لاهميتها ، ونفصل ما يتعلق بهما من الأحكام .
الفرع الأول
فسخ العقد ( [843] )
462 – الفسخ والمسئولية العقدية : هناك اتصال بين الفسخ والمسئولية العقدية ، فكلاهما جزاء لعدم قيام المدين بتنفيذ التزامه العقدي . فإذا كان العقد ملزماً للجانبين جاز للدائن أن يطلب فسخ العقد جزاء عدم تنفيذ المدين لالتزامه كما قدمنا . وجاز له أيضاً أن يطالب بالتعويض ، ولكن لا على أساس فسخ العقد بل على أساس استبقائه والمطالبة بتنفيذه عن طريق التعويض ، وهذه هي المسئولية العقدية التي فصلنا أحكامها فيما تقدم .
على أنه إذا صح لأحد المتعاقدين أن يحاسب الآخر على عدم القيام بالتزاماته إما من طريق الفسخ وإما من طريق المسئولية العقدية ، فإن الطريق الأول مفتوح دائماً حيث يسد الطريق الثاني في بعض الأحوال . إذ يتفق أن يكون عدم قيام المدين بالتزامه إنما يرجع إلى سبب أجنبي لا يد له فيه . فتنتفي مسئوليته العقدية ، ولكن يبقى الفسخ ، بل إن العقد في هذه الحالة ينفسخ بحكم القانون كما سنرى .
463 – أساس نظرية الفسخ : وليست نظرية الفسخ بالنظرية التي تبده العقل القانوني ، فسلم بها بادئ ذى بدء ، بل هو ثمرة تطور طويل . فقد كان القانون الروماني يأبى التسليم بها . وكان العقد الملزم للجانبين في هذا القانون ينشيء التزامات مستقلة بعضها عن بعض ، ولا تقابل بينها ، كما قدمنا في نظرية السبب . فإذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه ، لم يكن أمام المتعاقد الآخر إلا أن يطالب بالتفنيذ ، ولا يستطيع أن يتحلل هو من التزامه عن طريق الفسخ . ولكن الرومان بعد تطور افسحوا لفكرة الفسخ مجالا ضيقاً في قعد البيع بعد أن أصبح هذا العقد رضائياً . فأدخلوا فيه شرطاً صريحاً يجعل الحق للبائع في فسخ البيع إذا لم يدفع المشتري الثمن ( [844] ) . وفي الفقه الإسلامي لا يعرف الفسخ نظرية عامة ، وإنما أعطى للبائع خيار النقد كشرط لفسخ البيع إذا لم يستوف الثمن . وكذلك فعل فقهاء القانون الفرنسي القديم ، فقالوا بجواز الفسخ حتى لو لم يوجد شرط صريح ، ولكن الفسخ كان لا يتم إلا بحكم قضائي . وساعد على ذلك ظهور نظرية السبب في القانون الكنسي على النحو الذي قدمناه ، وقد ربطت فكرة السبب مابين الالتزامات المتقابلة في العقد الملزم للجانبين ، لا عند تكوين العقد فحسب ، بل أيضاً عند تنفيذه ومن ثم يكون الفسخ . ثم أخذت فكرة الارتباط ما بين الالتزامات المتقابلة تبرز بوضوح على أيدى فقهاء القانون الطبيعي حتى أصبحت أمراً مسلماً ، وقامت نظرية الفسخ على أساسها . ولكن القانون المدني الفرنسي عندما نقل قاعدة الفسخ نقلها متأثرة بالصياغة الرومانية ، فذكر في المادة 1184 على أن الشرط الفاسخ مفهوم مضناً في العقود الملزمة للجانبين في حالة ما إذا لم يقم أحد المتعاقدين بما في ذمته من التزام . وهو لم يرد بهذا أكثر من أن يقرر القاعدة التي تقضي بجواز فسخ العقد إذا لم يقم المدين بالتزامه . أما ذكر الشرط الفاسخ فهو مجرد تشبيه حملته عليه الاعتبارات الترايخية التي قدمناها .
وليس صحيحاً أن أساس الفسخ هو نظرية الشرط الفاسخ الضمني . ولو صح هذا لترتب عليه أن بمجرد عدم قيام المدين بالتزامه يتحقق الشرط فينفسخ العقد من تلقاء نفسه . وهذا غير صحيح لأن الفسخ لا يكون إلا بحكم قضائي أو باتفاق ، وللقاضي حق التقدير فيجيب طلب الفسخ أو يرفضه ، وللمدين أن يقوم بتنفيذ العقد فيتوقى الحكم بالفسخ ، وللدائن أن يعدل عن المطالبة بفسخ العقد إلى المطالبة بتفنيذه ، كل ذلك على النحو الذي سنبينه فيما يلي ( [845] ) .
ولا نميل إلى اتخاذ نظرية السبب أساساً لنظرية الفسخ ، كما تذهب جمهرة الفقهاء . ونؤثر ، كما بينا في نظرية السبب ، أن نجعل نظرية الفسخ مبينة على فكرة الارتباط ( interdependence ) ما بين الالتزامات المتقابلة في العقود الملزمة للجانبين ، إذ أن طبيعة هذه العقود تقتضى أن يكون التزام أحد المتعاقدين مرتبطاً بالتزام المتعاقد الآخر فيبدو أمراً طبيعياً عادلا أنه إذا لم يقم أحد المتعاقدين بالتزامه ، جاز للمتعاقد الآخر اني وقف هو من جانبه تنفيذ ما في ذمته من التزام ، وهذا هو الدفع بعدم التنفيذ ، أو أن يتحلل نهائياً من هذا الالتزام ، وهذا هو الفسخ ( [846] ) .
464 – خطة البحث : والفسخ يكون بحكم القاضي ، وهذا هو الأصل . وقد يكون باتفاق المتعاقدين . ويكون في بعض الأحوال بحكم القانون ويسمى عند ذلك انفساخاً .
فنحن نبحث : ( 1 ) فسخ العقد بحكم القضاء ( 2 ) فسخ العقد بحكم الاتفاق ( 3 ) انفساخ العقد بحكم القانون .
المبحث الأول
الفسخ بحكم القضاء
465 – مسائل ثلاث : نتكلم في مسائل ثلاث : ( 1 ) شروط المطالبة بالفسخ ( 2 ) كيف يستعمل حق الفسخ ( 3 ) ما يترتب على الفسخ من أثر .
المطلب الأول
شروط المطالبة بالفسخ
466 – النصوص القانونية : نصت المادة 157 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" 1 - في العقود الملزمة للجانبين ، إذا لم يوف أحد المتعاقدين بالتزامه جاز للمتعاقد الأخر بعد أعذاره المدين أن يطالب بتنفيذ العقد أو بفسخه ، مع التعويض في الحالتين إن كان له مقتض " .
" 2 - ويجوز للقاضي أن تمنح المدين أجلا إذا اقتضت الظروف ذلك ، كما يجوز له أن رفض الفسخ إذا كان ما لم يوف به المدين قليل الأهمية بالنسبة إلى الالتزام في حملته ( [847] ) " .
ولم يستحدث القانون الجديد شيئاً في هذا الموضوع . وقد كان القانون القديم ينص في المادتين 117 / 173 على ما يأتي : " إذا امتنع المدين من وفاء ما هو ملزم به بالتمام ، فللدائن الخيار بين أن يطلب فسخ العقد مع اخذ التضمينات ، وبين أن يطلب التضمينات عن الجزءا الذي لم يقم المدين بوفائه فقط " .
على أن نص القانون الجديد أكثر احاطة بالموضوع وأوضح بياناً . ومنه يتبين أن هناك شروطاً ثلاثة يجب توافرها حتى يثبت للدائن حق المطالبة بفسخ العقد ، اثنين منها يصرح بهما النص ، والشرط الثالث تقتضيه طبيعة المطالبة بالفسخ . وهذه الشروط هي : ( 1 ) أن يكون العقد ملزماً للجانبين ( 2 ) إلا يقوم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه ( 3 ) أن يكون المتعاقد الآخر الذي يطلب الفسخ مستعداً للقيام بالتزامه من جهة ، وقادراً على إعادة الحال إلى أصلها إذا حكم الفسخ من جهة أخرى .
1 - لا يكون الفسخ إلا في العقود الملزمة للجانبين
467 – العقود الملزمة للجانبين هي وحدها التي يرد عليها الفسخ بمجميع أنواعه ، القضائي والاتفاقي والقانون : أن يكون العقد ملزماً للجانبين هو شرط عام في جميع أنواع الفسخ ، سواء كان الفسخ بحكم القاضي أو بحكم الاتفاق أو بحكم القانون . ذلك أن الفسخ ، بأنواعه الثلاثة ، مبنى على فكرة الارتباط ما بين الالتزامات المتقابلة كما قدمنا . وليس يوجد إلا العقود الملزمة للجانبين التي ينشأ عنها التزامات متقابلة . فهي وحدها التي تتوافر فيها حكمة الفسخ .
وقد قدمنا عند الكلام في تقسيم العقد إلى عقد ملزم للجانبين وعقد ملزم لجانب واحد أن بعض العقود التي كانت تعتبر عقوداً ملزمة لجانب واحد في عهد القانون المدني القديم ، كالعارية والقرض ورهن الحيازة ، يرد عليها الفسخ . وقدمنا أن الفقهاء اختلفت في أمر هذه العقود مذاهب شتى . فمنهم من ينكر فيها حق الفسخ . ومنهم من يقره ولكن يسميه اسقاطاً ( decheance ) لا فسخاً ( resolution ) . ومنهم من يقره على أنه فسخ ويذهب إلى أن حق الفسخ يكون في العقود الملزمة لجانب واحد . وعندنا أن الفسخ جائز في هذه العقود لأنها عقود ملزمة للجانبين حتى في عهد القانون المدني القديم ، وقد سبق لنا بيان ذلك .
أما العقود التي لا يمكن أن تكون إلا ملزمة لجانب واحد ، كالوديعة والكفالة إذا كانتا بغير أجر والهبة إذا كانت بغير عوض ، فقد قدمنا أنه لا يمكن تصور الفسخ فيها ، فإن طرفاً واحداً هو الملتزم ، فإذا لم يقم بتنفيذ التزامه لم يكن للطرف الآخر أية مصلحة في طلب الفسخ إذ ليس في ذمته أي التزام يتحلل منه بالفسخ ، بل مصلحته هي في أن يطلب تنفيذ العقد .
468 – وكل العقود الملزمة للجانبين برد عليها الفسخ : وإذا كانت العقود الملزمة للجانبين هي وحدها التي يرد عليها الفسخ من جهة أخرى يرد عليها جميعاً . وسنرى أن العقد الزمني يرد عليه الفسخ باثر يختلف عن أثر الفسخ في العقد الفوري .
وقد كان القانون المدني القديم يستثنى عقداً واحداً ملزماً للجانبين يمنع فيه الفسخ هو عقد الايراد المرتب مدى الحياة . فكانت المادتان 480 / 588 تنصان على أنه " يجوز لصاحب الايراد في حالة عدم الوفاء أو عدم أداء التأمينات أو إعدامها أو إظهار إفلاس المدين بالايراد أن يتحصل فقط على بيع أموال هذا المدين وتخصيص مبلغ من أثمانها كاف لأداء المرتبات المتفق عليها " ( [848] ) . فالدائن صاحب الايراد لا يجوز له أن يطلب فسخ العقد إذا اخل المدين بالتزامه ، وليس له إلا المطالبة بالتفنيذ العيني ، فيبيع من أموال المدين ما يكفي ريع ثمنه لأداء المرتب المتفق عليه . وقد كنا انتقدنا هذا النص في عهد القانون القديم ( [849] ) ، ورأيناه نصاً غريباً يخرج على القواعد العامة دون سبب ظاهر . وقد نقله المشرع المصري عن المشروع الفرنسي ( [850] ) . ومن أجل ذلك ورد القانون المدني الجديد قاطعاً في هذه المسألة ، وقد رد عقد الايراد المرتب مدى الحياة إلى القواعد العامة ، ولم يمنع فيه الفسخ ، فنصت المادة 746 على أنه " إذا لم يقم المدين بالتزامه ، كان للمستحق أن يطلب تنفيذ العقد ، فإن كان العقد بعوض جاز له أيضاً أن يطلب فسخه مع التعويض إن كان له محل " .
وذهب القضاء الفرنسي إلى أن عقد القسمة لا يجوز فيه طلب الفسخ إذا لم يقم أحد المتقاسمين بتنفذ التزامه من الوفاء بمعدل القسمة مثلا ، وإنما يطالب المتقاسم الذي اخل بالتزامه أن ينفذ هذا الالتزام . ويريد القضاء الفرنسي من ذلك أن يحافظ على مصلحة بقية المتقاسمين الذين يضرهم نقض القسمة بالفسخ ( [851] ) . وهذا القضاء أيضاً محل للنظر . والأولى أن يترك الأمر لتقدير القاضي ، وهو الذي يغلب المصلحة الراجحة فيقضي بالفسخ أو لا يقضي ، وهذه هي القاعدة العامة في الفسخ فلا محل لاستثناء عقد القسمة منها ( [852] ) .
2 - لا يكون الفسخ إلا إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه
469 – عدم التنفيذ يرجع إلى سبب أجنبي : إذا كان عدم التنفيذ يرجع إلى استحالته لسبب أجنبي ، فإن التزام المدين ينقضي فينقضي الالتزام المقابل له ، وينفسخ العقد بحكم القانون . وهذا ما سنعرض له بعد قليل .
ومن ذلك نرى أنه إذا أصبح التنفيذ مستحيلا لسبب أجنبي خرجنا من نطاق الفسخ إلى نطاق الانفساخ ( [853] ) .
470 – عدم التنفيذ يرجع إلى فعل المدين : فيجب إذن أن يكون عدم التنفيذ راجعاً إلى غير السبب الأجنبي ، بان يكون التنفيذ العيني أصبح مستحيلا بفعل المدين ، أو لا يزال ممكناً ولكن المدين لم يقم بالتنفيذ . ففي هذه الحالة يجوز للدائن أن يطالب بفسخ العقد . وقد رأينا أن المسئولية العقدية تتحقق أيضاً في هذا الفرض ، فيكون للدائن الخيار بين المطالبة بالتعويض على أساس المسئولية العقدية أو المطالبة بفسخ العقد . بل يجوز أن يتفق المتعاقدان على أن العقد لا يفسخ عند عدم التنفيذ ، وأن يقتصر الدائن على المطالبة بالتعويض على أساس المسئولية العقدية .
471 – عدم التنفيذ الجزئي : وإذا كان عدم التنفيذ جزئياً – ويعتبر في حكم عدم التنفيذ الجزئي أن يكون التنفيذ معيباً – فلا يزال للدائن حق المطالبة بالفسخ . والقاضي في استعمال حقه في التقدير ينظر فيما إذا كان الجزء الباقي دون تنفيذ يبرر الحكم بالفسخ ، أو يكفي إعطاء مهلة للمدين لتكملة التنفيذ . فإذا رأي القاضي أن عدم التنفيذ خطير بحيث يبرر الفسخ ، بقى عليه أن يرى هل يقصى بفسخ العقد كله أو يقتصر على فسخ جزء منه مع بقاء الجزء الآخر . ويقضي بفسخ العقد كله إذا أن التزام المدين لا يحتمل التجزئة ، أو كان يتحملها ولكن الجزء الباقي دون تنفيذ هو الجزء الأساسي من الالتزام .
3 - لا يكون الفسخ إلا إذا كان الدائن مستعداً للقيام بالتزامه وقادراً على إعادة الحال إلى أصلها
472 – وجوب أن يكون الدائن مستعدا للقيام بالتزامه وأن يكون من الممكن إعادة الشيء إلى أصله : ويجب أيضاً أن يكون الدائن طالب الفسخ مستعداً للقيام بالتزامه الذي نشأ من العقد الملزم للجانبين . فليس من العدل أن يخل هو بالتزامه ثم يطلب الفسخ لعدم قيام المدين بتنفيذ ما في ذمته من التزام .
أما إذا استحال على الدائن تنفيذ التزامه لسبب أجنبي ، فإن العقد ينفسخ بحكم القانون انفساخه فيما إذا كانت الاستحالة في جانب المدين .
ولما كان فسخ العقد من شأنه أن يعيد الشيء إلى أصله ، فلا بد للحكم بالفسخ أن يكون الدائن الذي يطلب ذلك قادراً على رد ما أخذ . فإذا كان قد تسلم شيئاً بمقتضى العقد ، وباعه من آخر ، فالتزامه بالضمان يحرمه من حق المطالبة بالفسخ ، لأنه لا يستطيع أن بنزع الشيء من يد المشترى ليرده إلى من تعاقد معه إذ في هذا إخلال بالتزام الضمان . وسنرى في العقود الزمنية أن الفسخ فيها لا يمس ما سبق تنفيذه من هذه العقود ، فليس من الضروري إذن للمطالبة بفسخها أن يرد ما سبق تنفيذه .
أما إذا كان المدين هو الذي استحال عليه أن يرد الشيء إلى أصله ، فإن ذلك لا يمنع من الفسخ ، ويقضي على المدين في هذه الحالة بالتعويض ( م 160 ) . وسيأتي بيان ذلك .
المطلب الثاني
كيف يستعمل حق الفسخ
473 – إعذار المدين : قضت الفقرة الأولى من المادة 157 بأن الدائن ، حتى يطالب بفسخ العقد ، يعذر المدين مطالباً إياه بالتنفيذ . ولم يكن في القانون القديم نص على الإعذار ، ومع ذلك كانت بعض المحاكم تقضي بضرورته ( [854] ) . على أن مجرد رفع الدعوى بالفسخ يعد إعذاراً ( [855] ) .
وإعذاراً الدائن للمدين قبل المطالبة بالفسخ له على كل حال أهمية عملية نظهر في أمرين : ( 1 ) يجعل القاضي أسرع استجابة لطلب الفسخ . ( 2 ) ويجعله أقرب إلى الحكم على المدين بتعويض فوق الحكم بالفسخ ( [856] ) .
ويلاحظ أنه لا ضرورة لاعذار المدين قبل المطالبة بالفسخ إذا صرح المدين كتابة أنه لا يريد القيام بالتزامه ، أو إذا أصبح تنفيذ الالتزام غير ممكن أو غير مجد بفعل المدين بأن كان التنفيذ قد فات ميعاده أو بأن كان الالتزام هو امتناع عن عمل شيء وعمله المدين ( م 200 ) .
474 – صدور حكم بالفسخ : ولابد من رفع دعوى وصدور حكم بفسخ العقد . ونص المادة 157 من القانون الجديد صريح في هذا المعنى ، وقضاء المحاكم في عهد القانون القديم مضطرد في وجوب صدور حكم بالفسخ ( [857] ) .
وهنا يتجلى الفرق ما بين الفسخ بحكم القضاء والفسخ بحكم الاتفاق . ففي الفسخ بحكم الاتفاق ( وكذلك الانفساخ بحكم القانون ) يكون الحكم مقرراً للفسخ لا منشئاً له ، أما الفسخ بحكم القضاء فالحكم فيه منشيء للفسخ ومن ثم تعتبر المطالبة بالفسخ في هذه الحالة من أعمال التصرف ، وإذا رفع الوصى دعوى بالفسخ بدون إذن المحكمة الحسبية كانت الدعوى غير مقبولة ( [858] ) .
475 – الخيار بين الفسخ والتنفيذ : فإذا ما رفع الدائن دعوى الفسخ ، فإن الحكم بالفسخ لا يكون حتمياً ، بل يكون هناك خيار بين الفسخ والتنفيذ . وهذا الخيار يكون لكل ، الدائن والمدين والقاضي .
فالدائن بعد أن يرفع دعوى الفسخ له أن يعدل ، قبل الحكم ، عن طلب الفسخ إلى طلب التنفيذ . كما أنه إذا رفع دعوى التنفيذ فله أن يعدل عنه إلى الفسخ ( [859] ) . على أنه لا يجوز الجمع بين الفسخ والتنفيذ في طلب واحد ( [860] ) . كل هذا ما لم يكن قد نزل عن أحد الطلبين ، ولا يعتبر مجرد رفعه الدعوى بطلب منهما نزولا منه على الطلب الآخر ( [861] ) .
وللمدن كذلك ، قبل النطق بالحكم النهائي ، أن ينفذ التزامه فيتجنب الفسخ ( [862] ) . ولا يبقى في هذه الحالة إلا أن يقدر القاضي ما إذا كان هناك محل للحكم بتعويض للدائن عن تأخر المدين في تنفيذ التزامه . ومما يساعد على الحكم بالتعويض أن يكون الدائن قد أعذر المدين قبل رفع الدعوى ، وقد سبت الإشارة إلى ذلك .
كذلك القاضي ليس محتماً عليه أن يحكم بالفسخ . بل إن له في ذلك سلطة تقديرية . فقد يحكم بالفسخ إذا رأى الظروف تبرر ذلك . وقد لا يحكم به ويعطي المدين مهلة لتنفيذ التزامه ( [863] ) . وتنص الفقرة الثانية من المادة 157 على هذا الحكم صراحة إذ تقول : " ويجوز للقاضي أن تمنح المدين أجلا إذا اقتضت الظروف ذلك ، كما يجوز له أن رفض الفسخ إذا كان ما لم يوف به المدين قليل الأهمية بالنسبة إلى الالتزام في حملته " . ومما يحمل القاضي على الحكم بالفسخ أن يتضح له تعمد المدين عدم التنفيذ أو إهماله في ذلك إهمالا واضحاً رغماً من إعذار الدائن له قبل رفع الدعوى ( [864] ) . ومما يحمله على استبقاء العقد أن يكون ما لم يوف به المدين قليل الأهمية بالنسبة إلى الالتزام في جملته كما يقول النص ( [865] ) . ومما يحمله على إعطاء المدين أجلاً للتنفيذ أن يكون للمدين عذر في تأخره عن التنفيذ ، أو أن يكون الدائن لم يصبه إلا ضرر بسيط من جراء هذا التأخر ( [866] ) ، أو أن يكون الضرر الذي أصاب الدائن إنما نجم عن فعله هو لا عن فعل المدين ( [867] ) . ولا يمنع القاضي أن يعطي مهلة للمدين أن يكون الدائن قد اعذره قبل رفع الدعوى ( [868] ) . وإذا أعطى المدين مهلة وجب عليه القيام بتنفيذ الالتزام في غضونها ، وليس له أن يتعداها ، بل ليس للقاضي أن يعطيه مهلة أخرى ( [869] ) . ويعتبر العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه بعد انقضاء المهلة حتى لو لم ينص القاضي في حكمه على ذلك ( [870] ) . وهذا بخلاف الأجل الذي يمنحه القاضي في دعوى التنفيذ ، فإنه يجوز للقاضي في هذا الصدد – طبقاً للفقرة الثانية من المادة 346 – في حالات استثنائية إذا لم يمنعه نص في القانون ، أن ينظر المدين إلى أجل معقول أو آجال ينفذ فيها التزامه إذا استدعت حالته ذلك ولم يلحق الدائن من هذا التأجيل ضرر جسيم ( [871] ) .
476 – تقادم دعوى الفسخ : ودعوى الفسخ ليست لها مدة خاصة تتقادم بها . فتقادمها إذن يكون بخمس عشرة سنة من وقت ثبوت الحق بالفسخ ، ويكون ذلك عادة عند الإعذار ، طبقاً للقواعد العامة في التقادم المسقط . وهذا بخلاف دعوى الإبطال ، فقد رأينا إنها تتقادم بثلاث سنوات أو بخمس عشرة سنة على حسب الأحوال ( [872] ) .
المطلب الثالث
ما يترتب على الفسخ من اثر
477 – النصوص القانونية : نصت المادة 160 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" إذا فسخ العقد أعيد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد ، فإذا استحال ذلك جاز الحكم بالتعويض ( [873] ) " .
ويلاحظ أن هذا النص عام ، يبين ما يترتب على الفسخ من اثر ، سواء كان الفسخ بحكم القاضي أو بحكم الاتفاق أو بحكم القانون . ويتبين من النص أيضاً أنه إذا حكم القاضي بفسخ العقد فإن العقد ينحل ، لا من وقت النطق بالحكم فحسب ، بل من وقت نشوء العقد . فالفسخ له اثر رجعي ، ويعتبر العقد المفسوخ كأن لم يكن ، ويسقط أثره حتى في الماضي . وإذا كان هذا مفهوماً في الفسخ بحكم الاتفاق أو بحكم القانون ، حيث يقتصر الحكم على تقرير أن العقد مفسوخ ولا ينشيء الفسخ . فإنه أيضاً مفهوم في الفسخ بحكم القاضي ولو أن الحكم هنا منشيء للفسخ لا مقرر له . ولا يوجد ما يمنع من أن يكون الحكم منشئاً للفسخ وأن يكون له اثر رجعي ، فالحكم بالشفعة حكم منشيء ولكنه ينقل ملكية العقار المشفوع فيه من وقت البيع لا من وقت النطق بالحكم .
والحكم بالفسخ له هذا الأثر الرجعي فيما بين المتعاقدين وبالنسبة إلى الغير .
478 – اثر الفسخ فيما بين المتعاقدين : ينحل العقد ويعتبر كأن لم يكن . وتجب إعادة كل شيء إلى ما كان عليه قبل العقد .
فإذا كان العقد بيعاً وفسخ ، رد المشتري المبيع إلى البائع ، ورد البائع الثمن إلى المشتري . ويرد المبيع بثمراته والثمن بفوائده القانونية ، وذلك كله من وقت المطالبة القضائية طبقاً للقواعد العامة ( [874] ) . واسترداد كل متعاقد لما أعطاه إنما يكون على أساس استرداد ما دفع دون حق ، كما رأينا في البطلان ويسترد المتعاقد ما أعطاه لا ما يقابله ( [875] ) .
وإذا بنى المشتري أو غرس في العين المبيعة طبقت القواعد العامة ( م 924 – 925 ) ، ويعتبر المشتري في هذا الخصوص حسن النية أو سيئها تبعاً لما إذا كان الفسخ حكم به له أو عليه ( [876] ) .
وإذا هلك المبيع ، وكان المشتري هو الذي يطالب بالفسخ ، لم يجب إلى طلبه إذ تتعذر عليه إعادة الشيء إلى أصله كما قدمنا ، ولكنه يستطيع المطالبة بتعويض على أساس المسئولية العقدية . أما إذا كان البائع هو الذي يطالب بالفسخ ، وهلك المبيع في يد المشتري ، فإن كان الهلاك بخطأ المشتري حكم عليه بالتعويض ، وقد قضت المادة 160 بأنه إذا استحال الرد حكم بالتعويض كما رأينا . فإذا كان الهلاك بسبب أجنبي ، وطبقت قواعد دفع غير المستحق في هذه الحالة كما طبقناها في حالة البطلان ، وجب القول بأن المشتري وقت أن تسلم المبيع ، والعقد قائم لم يفسخ ، كان حسن النية ، فلا يكون مسئولا عن هلاك المبيع إلا بقدر ما عاد عليه من منفعة ، كما إذا انتفع بأنقاض منزل في بناء منزل آخر . وللبائع أن يسترد الشيء التالف في الصورة التي آل إليها دون أن يتقاضى تعويضاً عن التلف . غير أنه لا يتصور أن البائع يبقى على طلب الفسخ بعد أن يعلم أن المبيع قد هلك بسبب أجنبي ، فخير له في هذه الحالة أن يستبقى البيع ، فيطالب بالثمن ، وبذلك يتحمل المشتري تبعة الهلاك ( [877] ) .
وللدائن الذي أجيب إلى فسخ العقد أن يرجع بالتعويض على المدين إذا كان عدم قيام المدين بتنفيذ التزامه راجعاً إلى خطئه ، لإهمال أو تعمد ( [878] ) . والتعويض هنا يبني على المسئولية التقصيرية لا المسئولية العقدية ، فإن العقد بعد أن فسخ لا يصلح أن يكون أساساً للتعويض ، وإنما أساس التعويض هو خطأ المدين ، ويعتبر العقد هنا واقعة مادية لا عملا قانونيناً كما في البطلان . أما العاقد الذي لم يقم بتنفيذ التزامه فليس له أن يطالب بالتعويض ( [879] ) . وإذا كان ما طلبه الدائن هو تنفيذ العقد لا فسخه ، جاز الحكم له بالتعويض على أساس المسئولية العقدية كما قدمنا ، لأن العقد في هذه الحالة بقى قائماً ولم يفسخ . فيصح إذن للدائن أن يحصل على تعويض ، إما مع بقاء العقد على أساس المسئولية العقدية ، وإما بعد فسخ العقد على أساس المسئولية التقصيرية . وهذا هو ما عنته الفقرة الأولى من المادة 157 حين قضت بان اللدائن أن يطالب بتنفيذ العقد أو بفسخه " مع التعويض في الحالتين إن كان له مقتض " .
وإذا كان العقد زمنياً ، كالإيجار ، وفسخ ، لم يكن لفسخه اثر رجعي ، لأن طبيعة العقود الزمنية تستعصى على هذا الأثر . ذلك أن العقد الزمني يقصد الزمن فيه لذاته ، فالزمن معقود عليه ، وما انقضى منه لا يمكن الرجوع فيه ( [880] ) . ويترتب على ذلك أن المدة التي انقضت من عقد الإيجار قبل فسخه تبقى محتفظة باثارها ، ويبقى عد الإيجار قائماً طول هذه المدة ، ويعتبر العقد مفسوخاً من وقت الحكم النهائي بفسخه لا قبل ذلك . وتكون الأجرة المستحقة اعن المدة السابقة على الفسخ لها صفة الأجرة لا التعويض ( [881] ) ، فيبقى لها ضمان امتياز المؤجر ( [882] ) .
وليس فيما قررناه إلا تطبيق للقواعد العامة . وقد تحرينا أن نطبق هذه القواعد في حالة الفسخ كما طبقناها في حالة البطلان ( [883] ) .
479 – اثر الفسخ بالنسبة إلى الغير : ينحل العقد بالنسبة إلى الغير بأثر رجعي أيضاً . فإذا كان العقد بيعاً ، وباع المشتري العين إلى مشتر ثان أو رتب عليها حقاً عينياً كحق إرتفاق أو حق انتفاع ، ثم طالب البائع بفسخ البيع وأجيب إلى طلبه ، رجعت العين إليه خالية من هذه الحقوق .
على أنه يجب ، للوصول إلى هذه النتيجة ، تسجيل دعوى الفسخ على غرار تسجيل دعوى البطلان . وقد نصت المادة 15 من قانون الشعر العقاري على أنه " يجب التأشير في هامش سجل المحررات واجبة الشهر بما يقدم ضدها من الدعاوى التي يكون الغرض منها الطعن في التصرف الذي تضمنه المحرر وجوداً أو صحة أو نفاذاً ، كدعاوى البطلان أو الفسخ أو الإلغاء أو الرجوع . فإذا كان المحرر الأصلي لم يشهر تسجل تلك الدعاوى " . وتنص المادة 17 من هذا القانون على أنه " يترتب على تسجيل الدعاوى المذكورة بالمادة الخامسة عشرة أو التأشير بها أن حق المدعى إذا تقرر بحكم مؤشر به طبق القانون يكون حجة على من ترتبت لهم حقوق عينية ابتداء من تاريخ تسجيل تلك الدعاوى أو التأشير بها . ولا يكون هذا الحق حجة على الغير الذي كسب حقه بحسن نية قبل التأشير أو التسجيل المشار إليهما " .
ويتبين من ذلك أن الغير إذا تلقى حقاً عينياً بعد تسجيل دعوى الفسخ أو التأشير بها ، فإن حقه يزول بفسخ العقد ، سواء كان سيء النية أو حسنها . أما إذا تلقى الحق العيني قبل تسجيل دعوى الفسخ أو التأشير بها ، بأي سبب من أسباب كسب الحقوق العينية ، فإن حقه يزول إذا كان سيء النية ، ويبقى إذا كان حسن النية .
وقد ورد نص خاص لمصلحة الدائن المرتهن رهناً رسمياً ، هو المادة 1034 ، وتقضي بأنه " يبقى قائماً لمصلحة الدائن المرتهن الرهن الصادر من المالك الذي تقرر إبطال سند ملكيته أو فسخه أو إلغاؤه أو زواله لأي سبب آخر ، إذا كان هذا الدائن حسن النية في الوقت الذي ابرم فيه الرهن " . ويعتبر هذا النص تطبيقاً خاصاً للقاعدة العامة التي وردت في المادة 17 من قانون الشهر العقاري .
وقد سبق بيان كل ذلك في البطلان ، والفسخ مثل البطلان في الأثر .
المبحث الثاني
الفسخ بحكم الاتفاق
480 – النصوص القانونية : نصت المادة 158 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" يجوز الاتفاق على أن يعتبر العقد مفسوخا من تلقاء نفسه دون حاجة إلى حكم قضائي عند عدم الوفاء بالالتزامات الناشئة عنه ، وهذا الاتفاق لا يعفي من الأعذار ، إلا إذا اتفق المتعاقدان صراحة على الإعفاء منه ( [884] ) " . ولا يقابل هذا النص في القانون القديم إلا نص ورد في عقد البيع ، هو المادتان 334 / 416 ، جرتا على النحو الآتي :
" إذا اشترط فسخ البيع عند عدم دفع الثمن ، فليس للمحكمة في هذه الحالة أن تعطي ميعاداً للمشتري ، بل ينفسخ البيع إذا لم يدفع المشتري الثمن بعد التنبيه عليه بذلك تنبيهاً رسمياً ، إلا إذا اشترط في العقد أن البيع يكون مفسوخاً بدون احتياج إلى التنبيه الرسمي "
ولم يستحدث القانون الجديد في هذا الصدد شيئاً إلا أنه عمم القاعدة التي وردت في عقد البيع ، وهذا ما كان القضاء المصري يجري عليه من قبل دون حاجة إلى نص .
481 – متى يكون الاتفاق على الفسخ – التدرج في هذا الاتفاق : قد يتفق المتعاقدان على فسخ العقد عند إخلال أحد المتعاقدين بالتزامه . فإذا تم هذا الاتفاق بعد أن يخل المتعاقد بالتزامه فعلا – ويقع ذلك غالباً في ثنايا إجراءات التقاضي بأن يرفع الدائن دعوى الفسخ فيعلنه المدين بقبول الفسخ قبل صدور حكم في الدعوى – كان هذا بمثابة تقايل ذى اثر رجعي ( [885] ) . ويحل الاتفاق في هذه الحالة محل الحكم وله أثره ، ما لم يكن هناك تواطؤ بين المتعاقدين للإضرار بحقوق الغير ( [886] ) . ولكن الغالب في العمل أن المتعاقدين يتفقان على الفسخ مقدماً وقت صدور العقد .
وقد اظهر العمل أن المتعاقدين يتدرجان في اشتراط الفسخ وقت صدور العقد . فأدنى مراتب هذا الشرط هو الاتفاق على أن يكون العقد مفسوخاً إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزاماته ، وقد يزيدان في قوة هذا الشرط بأن يتفقا على أن يكون العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه . بل قد يتدرجان في القوة إلى حد الاتفاق على أن يكون العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه دون حاجة إلى حكم . ثم قد يصلان إلى الذروة فيتفقان على أن يكون العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه دون حاجة إلى حكم . ثم قد يصلان إلى الذروة فيتفقان على أن يكون العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه دون حاجة إلى حكم أو إنذار أو دون حاجة إلى إنذار .
ونبحث الآن في حكم كل شرط من هذه الشروط ، مستهدين في ذلك بما جرى عليه القضاء في عهد القانون القديم ، إذ لم يغير القانون الجديد من ذلك شيئاً كما قدمنا .
482 – الاتفاق على أن يكون العقد مفسوخاً : حكم هذا الشرط يتوقف على نية المتعاقدين . فقد يكونان أرادا به تحتيم الفسخ إذا اخل المدين بالتزامه ، فيتحتم على القاضي في هذه الحالة أن يحكم بالفسخ . ولكن هذا لا يغني عن رفع الدعوى بالفسخ ولا عن الإعذار ( [887] ) .
إلا أنه من الصعب استخلاص نية كهذه من مجرد ورود شرط على هذا النحو . والغالب أن المتعاقدين لا يريدان بمثل هذا الشرط إلا أن يقررا في ألفاظ صريحة القاعدة العامة المتعلقة بالفسخ لعدم التنفيذ . وعلى ذلك لا يغني الشرط عن الإعذار ، ولا عن الالتجاء للقضاء للحصول على حكم بالفسخ ، ولا يسلب القاضي سلطته التقديرية ، فلا يتحتم عليه الحكم بالفسخ ، وله أن يعطي للمدين مهلة لتنفيذ التزامه إذا وجد من الظروف ما يبرر ذلك . بل هو لا يسلب المدين حقه من توقى الفسخ بدفع الثمن إلى أن يصدر الحكم النهائي بالفسخ . وهذا هو ما قررته محكمة النقض في أحكامها الأخيرة . فقد قضت بان شرط الفسخ لا يعتبر صريحاً في معنى المادة 334 من القانون المدني ( القديم ) إلا إذا كان يفيد انفساخ عقد البيع من تلقاء نفسه . أما إذا تعهد المشتري بأداء باقي ثمن المبيع في ميعاد عينه ، فإن لم يؤده في هذا الميعاد كان للبائع الحق في فسخ البعي ولو كان قد سجل ، فهذا ليس إلا ترديداً للشرط الفاسخ الضمني المنصوص عليه في المادة 332 من القانون المدني ( القديم ) ( [888] ) .
ويفسر هذا الشرط في اغلب الأحوال على أنه يسلب القاضي سلطته التقديرية ، فلا يستطيع إعطاء مهلة للمدين لتنفيذ التزامه ، ولا يملك إلا الحكم بلا فسخ . فيصبح الحكم بالفسخ محتماً كالحكم بالإبطال . ولكن الشرط لا يغني عن إعذار المدين ، ولا عن رفع الدعوى بالفسخ . ويكون الحكم منشئاً للفسخ لا مقرراً له ، كما هو الأمر في القاعدة العامة للفسخ .
ولا تعارض في هذه الحالة بين إعذار الدائن المدين وتكليفه بالتنفيذ ، وبين المطالبة بفسخ العقد بعد ذلك . فإن الإعذار لا يعتبر تنازلا عن المطالبة بفسخ العقد ، بل هو شرط واجب لرفع دعوى الفسخ . وهذا هو ما قررته محكمة النقض ، إذ قضت " بأن المادة 334 من القانون المدني ( القديم ) تقتضي أنه إذا اشترط فسخ البيع من تلقاء نفسه عند عدم دفع الثمن ، كان على القاضي إيقاع الفسخ على المشتري إذا لم يدفع الثمن بعد إعذاره بإنذار ، ما لم يعف البائع بمقتضى العقد من هذا الإعذار . ومفهوم هذا بلا شبهة أن البائع يجب عليه إذا اختار الفسخ أن يعذر المشتري بإنذاره أي يكلفه الوفاء ، فإذا لم يدفع كان البائع في حل من إعمال خيراه في الفسخ . وإذن فباطل زعم المشتري أن الإنذار الموجه إليه من البائع بوفاء التزاماته في مدى أسبوع وإلا عد العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه يجب اعتباره تنازلا من البائع عن خيار الفسخ ، فإن ذلك الإنذار واجب قانوناً لاستعمال الشرط الفاسخ الصريح ( [889] ) " .
484 – الاتفاق على أن يكون العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه دون حاجة إلى حكم : وهذا الشرط معناه أن فسخ العقد يقع من تلقاء نفسه إذا اخل المدين بالتزامه . فلا حاجة لرفع دعوى بالفسخ ولا لحكم ينشيء فسخ العقد . وإنما ترفع الدعوى إذا نازع المدين في أعمال الشرط وادعى أنه قام بتنفيذ التزامه . فيقتصر القاضي في هذه الحالة على التحقق من أن المدين لم ينفذ التزامه . فإذا تحقق من ذلك حكم بالفسخ ، ولكن حكمه يكون مقرراً للفسخ لا منشئاً له .
ولا يعفى الشرط من إعذار المدين . فإذا أراد الدائن إعمال الشرط ، وجب عليه تكليف المدين بالوفاءز فإذا لم يقم المدين بتنفذ التزامه بعد هذا الإعذار ، انفسخ العقد من تلقاء نفسه على النحو الذي بيناه فيما تقدم .
على أنه لا شيء يمنع الدائن من مطالبة المدين بتنفيذ العقد بدلا من فسخه ، فإن الفسخ لا يقع من تلقاء نفسه إلا إذا أراد الدائن ذلك ، ويبقى هذا بالخيار بين الفسخ والتنفيذ .
وتطبيقاً لما تقدم قضت محكمة مصر الكلية الوطنية بأن " الاتفاق في عقد الإيجار علىان يفسخه تأخر المستأجر في دفع الأجرة ليس تعليقا للعقد على شرط فاسخ بكل معناه ، فإن النتيجة اللازمة لهذا التعليق هي أن يقع الفسخ بقوة القانون بمجرد التأخر في سداد الأجرة بغير خيار للدائن ، وقد يرغب الاستمرار في تنفذ العقد عيناً رغم التأخر في السداد ، وبذلك يكون فسخ العقد خاضعاً لمطل المستأجر ورغبته . إنما هو اتفاق مقصود به تحسين مركز المؤجر وتقوية ضمانه قبل المستأجر . فالفسخ هو حق له ، يجوز أن يتمسك به أو يتنازل عنه . وبذلك لا يقع الفسخ إلا إذا اختاره بالتنبيه على المستأجر بذلك ، إلا إذا اتفق على إعفائه من هذا التنبيه بنص صريح في العقد . وهذه الفكرة هي رجوع عن قاعدة الفسخ القضائي ، وهي قاعدة القانون الفرنسي المعروفة ، إلى قاعدة التشريع الألماني الذي يعلق فسخ العقد لا على قضاء القاضي ، بل على خيار الدائن وإعلان هذا الخيار للمدين ( [890] ) " .
485 – الاتفاق على أن يكون العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه دون حاجة إلى حكم أو إنذار : وهذا هو أقصى ما يصل إليه اشتراط الفسخ من قوة . وفي هذه الحالة يكون العقد مفسوخاً بمجرد حلول ميعاد التنفيذ وعدم قيام المدين به دون حاجة إلى إعذار المدين ، ولا إلى حكم بالفسخ إلا ليقرر أعمال الشرط على النحو الذي بيناه فيما تقدم ، ويكون الحكم إذن مقرراً للفسخ لا منشئاً له ( [891] ) . وهذا هو الحكم أيضاً فيما إذا اتفق على أن يكون العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه دون حاجة إلى إنذار . والاتفاق على الإعفاء من شرط الإعذار يجب أن يكون صريحاً ، كما يقضي نص المادة 158 ، فلا يجوز أن يستخلص ضمناً من عبارات العقد لما ينطوي عليه من خطورة بالنسبة إلى المدين .
ويلاحظ هنا أيضاً أن الشرط لا يمنع الدائن من طلب تنفيذ العقد دون فسخه ، وإلا كان تحت رحمة المدين ، إذا شاء هذا جعل العقد مفسوخاً بامتناعه عن تنفيذ التزامه . ويترتب على ذلك أن العقد لا يعتبر مفسوخاً إلا إذا اظهر الدائن رغبته في ذلك ، ولا يقبل من المدين التمسك بالفسخ إذا كان الدائن لم يتمسك به ( [892] ) .
ومن ثم نرى أن هذا الشرط هو وسط بين الفسخ القضائي والانفساخ بحكم القانون . فهو أعلى من الفسخ القضائي – وكذلك أعلى من اشتراط أن يكون العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه – في أن الحكم بالفسخ فيه ، إذا قامت حاجة لصدوره ، يكون مقرراً للفسخ لا منشئاً له . وهو أدنى من الانفساخ بحكم القانون في أن العقد لا ينفسخ فيه إلا إذا اظهر الدائن رغبته في ذلك .
وهذه المبادئ قررتها محكمة لانقض . فقد قضت بأنه " إذا كان العقد مشروطاً فيه أنه إذا خالف المستأجر أي شرط من شروطه ، فللمؤجر اعتبار العقد مفسوخاً بمجرد حصول هذه المخالفة بدون احتياج إلى تنبيه رسمي أو تكليف بالوفاء ، وله الحق في تسلم العين المؤجرة بحكم يصدر من قاضي الأمور المستعجلة ، فهذا شرط فاسخ صريح يسلب القاضي كل سلطة تقديرية في صدد الفسخ . ولا يبقى له في اعتبار الفسخ حاصلا فعلا إلا أن يتحقق من حصول المخالفة التي يترتب عليها . ولا يؤثر في مدلول هذا الشرط واثره القانونين أن يكون التمسك به من حق المؤجر وحده ، لأنه في الواقع موضوع لمصلحته هو دون المستأجر . والقول بأن نية المؤجر قد انصرفت عن الفسخ باقتصاره على طلب الأجرة في دعوى سابقة هو قول مردود ، لأن التنازل الضمني عن الحق لا يثبت بطريق الاستنتاج إلا من أفعال لا يشك في أنه قصد بها التنازل عنه . وليس في المطالب بالأجرة ما يدل على ذلك ، إذ لا تعارض بين التمسك بحق الفسخ والمطالبة بالأجرة التي يترتب الفسخ على التأخر في دفعها ( [893] ) " .
486 – ما يترتب على الفسخ الاتفاقي من اثر : ذكرنا فيما تقدم أن نص المادة 160 هو نص عام يبين ما يترتب على الفسخ من اثر ، سواء كان الفسخ بحكم القاضي أو باتفاق المتعاقدين أو بمقتضى القانون .
فإذا فسخ العقد بحكم الاتفاق ، في أية صورة من الصور التي تقدم ذكرها ، سواء كان الفسخ بحكم منشيء أو بحكم مقرر أو بغير حكم أصلاً ، أعيد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد ، فإذا استحال ذلك جاز الحكم بتعويض ( م 160 ) .
وينحل العقد باثر رجعي ، سواء فيما بين المتعاقدين أو بالنسبة إلى الغير ، وذلك فيما عدا العقود الزمنية ، كل هذا على التفصيل الذي تقدم بيانه عند الكلام في اثر الفسخ بحكم القاضي .
المبحث الثالث
انفساخ العقد بحكم القانون
487 – النصوص القانونية : نصت المادة 159 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" في العقود الملزمة للجانبين إذا انقضي التزام بسبب استحالة تنفيذه انقضت معه الالتزامات المقابلة له وينفسخ العقد من تلقاء نفسه ( [894] ) " .
ويجب أن يقرا مع هذا النص نصان اخران متصلان به أوثق الاتصال ، هما المادتان 373 و215 .
فالمادة 373 تنص على ما يأتي : " ينقضي الالتزام إذا أثبت المدين أن الوفاء به أصبح مستحيلا عليه لسبب أجنبي لا يد له فيه " .
والمادة 215 ، وقد سبق ذكرها ، تنص على ما يأتي : " إذا استحال على المدين أن ينفذ الالتزام عينا حكم عليه بالتعويض لعدم الوفاء بالتزامه ، ما لم يثبت أن استحالة التنفيذ قد نشأت عن سبب أجنبي لا يد له فيه " .
ونرى من مجموع هذه النصوص أن الالتزام لا ينقضي بسبب استحالة تنفيذه إلا إذا كانت هذه الاستحالة ترجع إلى سبب أجنبي ، وأن العقد لا ينفسخ من تلقاء نفسه بحكم القانون إلا إذا انقضى الالتزام . فالعقد إذن لا ينفسخ إلا إذا استحال تنفيذ الالتزام بسبب أجنبي ، وما لم يثبت المدين هذا السبب الأجنبي بقى ملزماً بالعقد وحكم عليه بالتعويض .
ولم يستحدث القانون الجديد في هذه المسألة شيئاً ، فقد كان هذا هو أيضاً حكم القانون القديم ، إذ نصت المادتان 179 / 242 من هذا القانون على ما يأتي : " إذا انفسخ التعهد بسبب عدم إمكان الوفاء تنفسخ أيضاً كافة التعهدات المتعلقة به بدون إخلال بما يلزم من التضمينات لمستحقيها في نظير ما حصل عليه غيرهم من المنفعة بغير حق . ولا يترتب على الفسخ إخلال بحقوق الدائنين المرتهنين الحسني النية " .
ويتبين مما قدمناه أن استحالة تنفيذ الالتزام إذا لم ترجع إلى سبب أجنبي بقى المدين ملتزماً بالعقد . أما إذا رجعت الاستحالة إلى سبب أجنبي ، فإن العقد يفسخ من تلقاء نفسه بحكم لاقانون . وسنتعرض كلا من الحالتين .
488 – استحالة التنفيذ لا ترجع إلى سبب أجنبي : إذا استحال على المدين في العقد الملزم للجانبين تنفيذ التزامه ، ولم يستطيع أن يثبت أن استحالة التنفيذ قد نشأت عن سبب أجنبي لا يد له فيه ، فإن المادة 215 تقضي كما أسلفنا بأن المدين يحكم عليه بالتعويض لعدم الوفاء بالتزامه . وهذه هي المسئولية العقدية التي فصلنا قواعدها فيما تقدم . فالمدين الذي لم ينفذ التزامه يكون قد ارتكب خطأ عقدياً ، وهو لم يثبت السبب الأجنبي فتبقى علاقة السببية مفروضة ، وبذلك تتحقق مسئوليته العقدية على أساس قيام العقد . ويتبين من ذلك أن العقد لم ينفسخ في هذه الحالة ، بل على النقيض من ذلك قد بقى وتأكد وجوده ، إذا أصبح هو الأساس للمطالبة بالتعويض .
ولكن ذلك لا يمنع من تطبيق قواعد الفسخ القضائي . فالمدائن ، وقد أصبح تنفيذ التزام المدين مستحيلا ، أن يطلب فسخ العقد لعدم وفاء المدين بالتزامه ، بدلا من أن يطلب التعويض على أساس المسئولية التقصيرية . وفي هذه الحالة لا يسع القاضي إلا أن يجيبه إلى طلبه ، إذ لا محل لإمهال المدين لتنفيذ التزامه بعد أن أصبح هذا التنفيذ مستحيلا ، فيحكم بفسخ العقد . والحكم هنا منشئ للفسخ لا مقرر له ، والعقد لم ينفسخ بحكم القانون بل فسخ بحكم القاضي .
489 – استحالة التنفيذ ترجع إلى سبب أجنبي : أما إذا كانت استحالة التنفيذ ترجع إلى سبب أجنبي ، فإن الالتزام ينقضي طبقاً للمادة 373 التي تقدم ذكرها ، وينفسخ العقد من تلقاء نفسه طبقاً للمادة 159 ( [895] ) . والعلة في هذا واضحة ، فقد انقضى التزام المدين لاستحالة تنفيذه بسبب أجنبي ، فلم يعد ثمة محل للمسئولية العقدية ليختار الدائن بينها وبين فسخ لاعقد كما كان يفعل لو أن الاستحالة لا ترجع إلى سبب أجنبي . فلم يبق إلا فسخ العقد . ولذلك نص القانون على أن العقد ينفسخ من تلقاء نفسه ولا محل هنا للاعذار لأن الإعذار لا يتصور إلا إذا كان التنفيذ لا يزال ممكناً ولأن التنفيذ لم يعد ممكناً لا يكون هناك خيار للدائن بين التنفيذ والفسخ – وقد رأينا أن هذا الخيار يثبت للدائن في جميع صور الفسخ القضائي والاتفاقي – ولا يبقى ممكناً إلا فسخ العقد . كذلك لا ضرورة لحكم قضائي بالفسخ ، فالعقد ينفسخ من تلقاءنفسه بحكم القانون كما قررنا . وإذا التجأ الدائن للقضاء فإنما يكون ذلك ليتقرر أن استحالة التنفيذ بسبب أجنبي أمر محقق – فقد يقوم نزاع في ذلك – وأن العقد قد انفسخ ، فالحكم هنا يقرر الفسخ لا ينشئه ، على النحو الذي رأيناه في بعض صور الفسخ الاتفاقي ( [896] ) .
490 – مبدأ تحمل التبعة : فإذا انفسخ العقد بحكم القانون ، كانت التبعة في انقضاء الالتزام الذي استحال تنفيذه واقعة على المدين بهذا الالتزام . فهو لا يد له في استحالة التنفيذ لأن استحالة راجعة إلى سبب أجنبي ، ومع لك لا يستطيع أن يطالب الدائن بتنفيذه الالتزام المقابل . فالخسارة في نهاية الأمر تقع عليه وهو الذي يتحملها . وهذا هو مبدأ تحمل التبعة في العقد الملزم للجانبين .
ويرجع هذا إلى فكرة الارتباط ما بين الالتزامات المتقابلة في العقود الملزمة للجانبين ، وهي الفكرة التي انبنى عليها انفساخ العقد ( [897] ) . ولو أن العقد كان ملزماً لجانب واحد ، كالوديعة غير المأجورة ، واستحال تنفيذ التزام المودع عنده لسبب أجنبي ، بان هلك الشيء في يده بقوة قاهرة فاستحال عليه رده إلى الودع ، فإن الذي يتحمل التبعة هو الدائن لا المدين . والسبب في ذلك واضح ، إذ الدائن – وهو هنا المودع – ليس في ذمته التزام يتحلل منه في مقابل تحل المدين – وهو هنا المودع عنده – من التزامه . فالدائن هو الذي يتحمل الخسارة في آخر الأمر من جراء استحالة تنفيذ التزام المدين ، وهو الذي يتحمل تبعة هذه الاستحالة .
فيمكن القول إذن بوجه عام إن المدين هو الذي يتحمل التبعة في العقود الملزمة للجانبين ، والدائن هو الذي يتحملها في العقود الملزمة لجانب واحد ( [898] ) .
491 – الأثر الذي يترتب على إنفساخ العقد بحكم القانون : وإذا انفسخ العقد بحكم القانون ، ترتب على إنفساخه من الأثر ما يترتب على فسخه بحكم القاضي أو بحكم الاتفاق كما سبق القول . فيعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العد ( م 160 ) . ولا محل للتعويض لأن المدين قد انقضى التزامه بقوة قاهرة .
وكل ما سبق أن قررناه في هذا الصدد ، فيما عدا التعويض ، من انحلال العقد بأثر رجعي ، ومن أثر الفسخ فيما يبني المتعاقدين وبالنسبة إلى الغير ، ومن انعدام الأثر الرجعي بالنسبة إلى العقود الزمنية ، ينطبق هنا . فلا حاجة إلى التكرار ( [899] ) .
الفرع الثاني
الدفع بعدم تنفيذ العقد ( * )
( أو الامتناع المشروع عن الوفاء بالعقد )
( Exceptio non adimpleti contractus )
492 – النصوص القانونية : نصت المادة 161 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" في العقود الملزمة للجانبين إذا كانت الالتزامات المتقابلة التزامه إذا لم يقيم المتعاقد الأخر بتنفيذ ما التزم به ( [900] ) " .
ولم يشتمل القانون المدني القديم على نص مقابل لهذا النص ، ولكن قاعدة الدفع بعدم تنفيذ العقد كانت مسلماً بها في ظله فقهاء وقضاء ، وانطوت نصوصه على تطبيقات تشريعية لها ( مثلا م 274 / 345 و م 279 / 350 و م 331 / 411 ) .
493 – تاريخ القاعدة : وتقوم قاعدة الدفع بعدم تنفيذ العقد على الاعتبار الآتي : إذا كان للدائن في العقد الملزم للجانبين أن يطلب فسخ العقد إذا لم يقم المدين بتنفيذ التزامه ، فيتحلل الدائن بذلك من تنفيذ ما ترتب في ذمته من التزامه ، فله من باب أولى ، بدلا من أن يتحلل من تنفيذ التزامه ، أن يقتصر على وقف تنفيذه حتى ينفذ المدين التزامه . والفكرة التي بنى عليها الدفع بعدم التنفيذ هي عين الفكرة التي بنى عليها فسخ العقد : الارتباط فيما بين الالتزامات المتقابلة في العقد الملزم للجانبين ، مما يجعل التنفيذ من جهة مقابلا للتنفيذ من جهة أخرى ( [901] ) .
ولم يكن المبدأ معروفاً في القانون الروماني على النحو الذي عرف به فيما بعد . وإنما كان الرومان يقتصرون على إعطاء المدين الذي يطالبه الدائن بتنفيذ التزامه ، دون أن يقوم هو بما في ذمته من التزام بمقتضى عقد ملزم للجانبين ، دفعا بالغش ( exception de dol ) . ولم يكن لهذا الدفع قوام ذاتي نب ل كان هو الدفع بالغش المعروف في كل العقود المبنية على حسن النية . فلم يكن له اسم خاص ، ولم يطلق عليه اسم الدفع بعدم تنفيذ العقد ( exception non adimpleti contractus ) إلا في القانون الفرنسي القديم . فالاصطلاح لم يكن إذن رومانياً وإن كان لاتينياً . وقد وضعه المتأخرون من شراح القانون الروماني ( Postglossateurs ) في العصور الوسطى بعد أن صاغوا القاعدة ونسبوها إلى القانون الروماني ( [902] ) .
ولم يضع القانون المدني الفرنسي نصاً عاماً يقرر به القاعدة ، بل اقتصر على تطبيقات متفرقة للمبدأ . ونهج القانون المدني المصري القديم على منواله كما قدمنا .
أما التقنينات الحديثة فقد صاغت المبدأ في نص عام . فعل ذلك القانون الألماني ( م 320 ) ، وقانون الالتزامات السويسري ( م 82 ) ، والمشروع الفرنسي الإيطالي ( م 48 ) وسار القانون المدني المصري الجديد على نهج التقنينات الحديثة فأورد النص الذي قدمناه . كما صاغ نظرية الحبس في نصوص عامة ستبحث في مكانها ( [903] ) .
ونفصل قواعد الدفع بعدم تنفيذ العقد متبعين الخطة التي اتبعناها عند الكلام في الفسخ القضائي فنبحث : ( 1 ) متى يمكن التمسك بالدفع . ( 2 ) كيف يكون التمسك به . ( 3 ) ما يترتب على التمسك به من أثر .
المبحث الأول
متى يمكن التمسك بالدفع بعدم تنفيذ العقد
494 – نطاق الدفع بعدم التنفيذ ونطاق الحق في الحبس : جعل القانون الجديد الحق في الحبس هو الأصل ، وجعل الدفع بعدم التنفيذ هو تطبيق هذا الأصل في دائرة العقود الملزمة للجانبين ( [904] ) .
فالأصل إذن هو الحق في الحبس . قررته المادة 246 مبدأ عاماً ، فجرت على الوجه الآتي :
" 1 - لكل من ألتزم بأداء شيء أن يمتنع عن الوفاء به ، مادام الدائن لم يعرض الوفاء بالتزام مترتب عليه بسبب التزام المدين ومرتبط به ، أو مادام الدائن لم يقم بتقديم تامين كاف للوفاء بالتزامه هذا " .
" 2 - ويكون ذلك بوجه خاص لحائز الشيء أو محرزه ، إذا هو أنفق عليه مصروفات ضرورية أو نافعة ، فان له أن يمتنع عن رد هذا الشيء حتى يستوفي ما هو مستحق له ، إلا أن يكون الالتزام بالرد ناشئا عن عمل غير مشروع " .
فالنص يفترض شخصين ، كل منهما دائن للأخر ومدين له ، والتزام كل منهما مترتب على التزام الآخر ومرتبط به . فيكون هذا الارتباط أساساً للحق في الحبس . فمن حاز بعقد أو بغير عقد شيئاً مملوكاً للغير ، كالمودع عنده والمستعير والمرتهن رهن حيازة والمغتصب والحائز بحسن نية ، وأنفق عليه مصروفات ضرورية أو نافعة ، كان له أن يرجع بهذه المصروفات على الوجه الذي بينه القانون . ومن ثم يوجد حائز الشيء ومالكه . والحائز مدين للمالك يرد الشيء ودائن له باسترداد المصروفات . والارتباط واضح ما بين الالتزام برد الشيء والالتزام باسترداد المصروفات . لذلك يجوز للحائز أن يمتنع عن تنفيذ التزامه حتى يتقاضى من المالك حقه . وهذا هو الحق في الحبس . وهو بهذا العموم يتسع ليدخل في نطاقه الدفع بعدم تنفيذ العقد . فالبائع مدين بتسليم المبيع ودائن بالثمن ، فمن حقه أن يحبس العين حتى يستوفى الثمن . وهذا تطبيق للحق في الحبس في عقد ملزم للجانبين ، وهو في الوقت ذاته تطبيق للدفع بعدم تنفيذ العقد ( [905] ) .
ومن ثم يكون الدفع بعدم التنفيذ فرعاً عن الحق في الحبس . فحيث يطبق الحق في الحبس في نطاق العد الملزم للجانبين كان هذا هو الدفع بعدم التنفيذ . فإذا خرج عن هذا النطاق عاد حقاً في الحبس لا دفعاً بعدم تنفيذ العقد . فالحبس للمصروفات الضرورية أو النافعة في عقود العارية والوديعة ورهن الحيازة وفي غير عقد أصلاً لا يكون دفعاً بعدم التنفيذ بل حقاً في الحبس . وإذا زال العقد بسبب البطلان أو الفسخ أو بأي سبب آخر ، وتعين على كل من المتعاقدين أن يرد ما استولى عليه ، جاز لكل منهما أن يحبس ما أخذه ما دام المتعاقد الآخر لم يرد إليه ما تسلمه منه أو يقدم ضماناً لهذا الرد . وهذا هو أيضاً حق في الحبس لا دفع بعدم التنفيذ لأن العقد قد زال ( [906] ) .
فالدفع بعدم التنفيذ ، كالفسخ ، محصور إذن في العقود الملزمة للجانبين ، وقد صرحت بذلك المادة 161 التي تقدم ذكرها ( [907] ) .
495 – الالتزام الذي يدفع بعدم تنفيذه يجب أن يكون واجب التنفيذ حالا : ولا يكفي أن يكون هناك عقد ملزم للجانبين ، بل يجب أيضاً أن يكون الالتزام الذي يدفع بعدم تنفيذه التزاماً واجب التنفيذ حالاً .
فالدفع بعدم تنفيذ التزام طبيعي – كما إذا سقط بالتقادم أحد الالتزامين المتقابلين في عقد ملزم للجانبين – لا يجوز ، لأن في هذا إجباراً بطريق غير مباشر على تنفيذ التزام طبيعي غير واجب التنفيذ .
كذلك لا يجوز الدفع بعدم تنفيذ التزام مدني غير حال . فالبائع لا يستطيع أن يحبس العين لعدم استيفاء الثمن إذا كان الثمن مؤجلا ، إلا إذا كان الأجل قد سقط طبقاً لأحكام المادة 273 ( أنظر المادة 459 ) . ولا يمنع حلول الالتزام أن يكون القاضي قد منح المدين نظرة الميسرة ( delai de grace ) ، فللبائع أن يحبس المبيع حتى يستوفى الثمن من المشتري حتى لو منح القاضي للمشتري أجلا لدفع الثمن ، ولا يمتنع الحبس إلا إذا كان الأجل ثابتاً باتفاق الطرفين ( [908] ) . أما إذا كان العقد يوجب على أحد المتعاقدين أن يبدأ بتنفيذ التزامه قبل المتعاقد الآخر ، فلا يحق له أن ينتفع من هذا الدفع إذ يتعين عليه أن يفي بما التزم به دون أن ينتظر وفاء المتعاقد الآخر ( [909] ) .
المبحث الثاني
كيف يمكن التمسك بالدفع بعدم تنفيذ العقد
496 – عدم ضرورة الإعذار : لا يحتاج المتمسك بالدفع إلى إعذار المتعاقد الآخر قبل أن يتمسك بالدفع وهذا بخلاف المطالبة بفسخ العقد فإن الإعذار قبلها واجب على التفصيل الذي بيناه فيما تقدم . على أن التمسك بالدفع معناه امتناع المتمسك عن تنفيذ التزامه ، وفي هذا إعذار كاف للمتعاقد الآخر بوجوب تنفذ الالتزام الذي في ذمته ( [910] ) . وقد يكون الإعذار واجباً لا للتمسك بالدفع ، بل لتوليد الالتزام الذي يخول عدم تنفيذه حق التمسك بالدفع ، كما إذا كان هذا الالتزام هو التزام بتعويض عن التأخر لا ينشأ إلا بالاعذار طبقاً للقواعد العامة .
497 – ترك الأمر إلى تقدير المتمسك بالدفع تحت رقابة القضاء : ويترك الدفع بعدم التنفيذ لتقدير المتعاقد الذي يتمسك به ، وذلك بخلاف الفسخ فقد تقدم أنه موكول لتقدير القضاء . ذلك أن الدفع بعدم التنفيذ أقل خطراً من الفسخ ، فهو لا يحل العقد ، بل يقتصر على وقت تنفيذه .
على أن الدفع بعدم التنفيذ قد يكون مرده في آخر الأمر إلى القضاء . ذلك أنه إذا تمسك أحد الطرفين بالدفع وامتنع عن تنفيذ التزامه ، فإن الطرف الآخر يستطيع أن يرفع الأمر إلى القضاء ، وللقاضي تقدير موقف من يتمسك بالدفع فيقره أو لا يقره . ويتبين من ذلك أنه إذا لم يلجأ المتمسك بالدفع إلى القضاء منذ البداية ، فذلك يرجع في الواقع إلى أنه يتمسك بدفع لا بدعوى ، وطبيعة الدفع تجعل المتمسك به في غير حاجة إلى رفع دعوى ، بل هو الذي ترفع عليه الدعوى فيتمسك عند ذلك بالدفع .
فالتمسك بالدفع يمر إذن على دورين : الدور الأول وهو دور غير قضائي يمتنع فيه المتمسك بالدفع عن تنفيذ التزامه ، وهذا مجرد امتناع لا يحتاج فيه إلى عمل ايجابي . والدور الثاني وهو الدور القضائي لا يتحقق إلا إذا رفع المتعاقد الآخر دعوى يطلب فيها تنفيذ التزام المتعاقد الأول . ففي هذا الدور تتحقق رقابة القضاء . فإذا اقر القاضي المتمسك بالدفع على دفعه ، فإن هذا لا يمنعه من الحكم عليه بالتنفيذ ، ولكن يقرن الحكم بشرط هو أن يقوم المدعى بتنفيذ التزامه في الوقت ذاته . وقد يأخذ الدفع صورة أشكال في التنفيذ إذا ما أراد المحكوم له تنفيذ الحكم قبل أن يقوم بتنفيذ التزامه .
498 – تمسك كل ، المتعاقدين بالدفع : وقد يتمسك كل من المتعاقدين بالدفع ويمتنع عن تنفيذ التزامه حتى يقوم المتعاقد الآخر بالتنفيذ . فإذا رفع أحدهما دعوى على الآخر يطالبه بالتنفيذ ، حكم القاضي على المدعى عليه بأن ينفذ التزامه بشرط أن يقوم المدعى من جانبه بتنفيذ التزامه .
498 – تمسك كل من المتعاقدين بالدفع : وقد يتمسك : لمن المتعاقدين بالدفع ويمتنع عن تنفيذ التزامه حتى يقوم المتعاقد الآخر بالتنفيذ . فإذا رفع أحدهما دعوى على الآخر يطالبه بالتنفيذ ، حكم القاضي على المدعى عليه بأن ينفذ التزامه بشرط أن يقوم المدعى من جانبه بتنفيذ التزامه .
وتجوز الاستعانة بإجراءات العرض الحقيقي لمعرفة المتخلف عن الوفاء من المتعاقدين ( [911] ) . فإذا تبين القاضي أن أحد المتعاقدين متعنت ، فإن كان المدعى رفض دعواه ، وإن كان المدعى عليه حكم عليه بالتنفذ دون شرط . أما إذا كان كل من المتعاقدين متعتناً ، أو ظهر ألا أحد مهما متعنت ولكن لا يثق أحدهما بالآخر ، ولم يلجأ أحد لإجراءات العرض الحقيقي ، لم يبق للخلاص من هذا الموقف إلا أن يحكم القاضي بأن يودع كل من المتعاقدين ما التزم به في خزانة المحكمة أو تحت يد شخص ثالث ، وفي هذا ما يجعلهما ينفذان التزاميهما في وقت واحد .
المبحث الثالث
ما يترتب من الأثر على الدفع لعدم تنفيذ العقد
أ - فيما بين المتعاقدين :
499 – وقف التنفيذ في غير الالتزام بتسليم عين : إذا توافرت شروط الدفع بعدم التنفيذ ، فإن المتمسك بالدفع لا يجبر على تنفيذه التزامه ، بل يبقى هذا الالتزام موقوفاً ، دون أن يزول كما في الفسخ .
فإذا كان الالتزام الموقوف هو التزام بنقل حق عيني ، كالتزام البائع بنقل الملكية ، كان البائع أن يمتنع عن مساعدة المشتري في تسجيل العقد حتى لا تنتقل الملكية إليه ، وإذا كان التزاماً بعمل ، كالتزام المقاول بإقامة مبنى ، كان للمقاول أن يتوقف عن أعمال البناء . وإذا كان التزاماً بامتناع عن عمل كتعهد تاجر بالكف عن مباشرة التجارة في حي معين منعاً للمزاحمة ، كان للتاجر أن يستمر في مباشرة التجارة في هذا الحي .
ويلاحظ في الالتزام بالامتناع عن عمل أن هناك أحوالاً لا يتصور فيها وقف الالتزام ، كما إذا تعهد ممثل أو مغن أن يمتنع عن أحياء حفلة معينة لقاء مبلغ من المال . فإذا تأخر المدين عن دفع هذا المال ، فإنه لا يسع الدائن إلا خرق هذا الالتزام فيحيي الحفلة إذا استطاع ذلك ، ويكون هذا فسخاً للعقد لا وقفاً له ، لأن طبيعة الالتزام لا تتحمل الوقف . وهذا الحكم ينطبق أيضاً في الالتزام بعمل إذا كان القيام بهذا العمل واجباً في وقت معين وإلا فات الغرض المقصود منه ، كما إذا تعهد صانع بإنجاز مصنوعات لعرضها في معرض عام يقام في وقت معين ، فإذا وقف الصانع تنفيذ التزامه إلى أن يفوت ميعاد المعرض لأنه لم يستوف أجره ، كان هذا بمثابة الفسخ .
500 – وقف التنفيذ في الالتزام بتسليم عين : وإذا كان الالتزام الموقوف هو التزام بتسليم عين ، حبس المتمسك بالدفع العين حتى يستوفى حقه من المتعاقد الآخر . مثل ذلك البائع لا يسلم العين المبيعة حتى يستوفى الثمن . وهنا يختلط الدفع بعدم التنفيذ بالحق في الحبس . وقد قضت المادة 247 بما يأتي : " 1 - مجرد الحق في حبس الشيء لا يثبت حق امتياز عليه . 2 - وعلى الحابس أن يحافظ على الشيء وفقا لأحكام رهن الحيازة وعليه أن يقدم حسابا عن غلته . 3 - وإذا كان الشيء المحبوس يخشى عليه الهلاك أو التلف ، فللحابس أن يحصل على إذن من القضاء في بيعه وفقا للأحكام المنصوص عيها في المادة 119 ، وينتقل الحق في الحبس من الشيء إلى ثمنه " . هذا ويتحمل المالك تبعة التلف أو الهلاك بسبب أجنبي ، وقد نصت المادة 460 على أنه " إذا هلك المبيع في يد البائع وهو حابس له كان الهلاك على المشتري ما لم يكن المبيع قد هلك بفعل البائع " . وإذا انفق الحابس مصروفات ضرورية أو نافعة استردها طبقاً لأحكام المواد 980 – 982 .
ويبقى الحق في الحبس حتى لو قام المتعاقد الآخر بتنفيذ جزء من التزامه ، وهذا ما يعبر عنه بان الحق في الحبس لا يقبل التجزئة . ومع ذلك يجب إلا يتعسف من له الحق في الحبس فيستمر حابساً للعين إذا كان الجزء الباقي من الالتزام دون تنفيذ من التفاهة بحيث لا يبرر استمرار الحبس ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
وينقضي الحق في الحبس إذا قام المتعاقد الآخر بالتزامه أو إذا خرج الشيء من حيازة الحابس باختياره .
وقد قضت المادة 248 بما يأتي : " 1 - ينقضي الحق في الحبس بخروج الشيء من يد حائزة أو محرزه . 2 - ومع ذلك يجوز لحابس الشيء ، إذا خرج الشيء من يده خفية أو بالرغم من معارضته ، أن يطلب استرداده ، إذا هو قام بهذا الطلب خلال ثلاثين يوما من الوقت الذي علم فيه بخروج الشيء من يده وقبل انقضاء سنة من وقت خروجه " .
501 – وقف التنفيذ في العقود الزمنية : وليس هناك ما يمنع من التمسك بالدفع بعدم تنفيذ العقد في العقود الزمنية . فيجوز للمستأجر أن يمتنع عن دفع الأجرة عن المدة التي حرم فيها الانتفاع بالعين المؤجرة ( أنظر م 565 و م 568 و م 569 و م 570 و م 572 ألخ ألخ ) . وكل وقف في تنفيذ التزام المؤجر يحدث نقصاً في مقدار هذا الالتزام زف إذا تأخر المستأجر في دفع الأجرة ، فتمسك المؤجر بالدفع بعدم التنفيذ ومنع المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة مدة من الزمان ، اعتبر المؤجر أنه لم ينفذ نهائياً – لا مؤقتاً – التزامه في حدود المدة التي منع فيها المستأجر من الانتفاع ، فينقص التزامه بهذا المقدار ، ولا يمتد عقد الإيجار مدة تقابل المدة التي وقف فيها المؤجر تنفيذ العقد ( [912] ) .
ب - بالنسبة إلى الغير :
502 – متى يسري الدفع في حق الغير : يسري الدفع في حق الغير إذا كان هذا الغير قد كسب حقه بعد ثبوت الحق في التمسك بالدفع . مثل ذلك أن يتأخر المشتري عن دفع الثمن ، فيتمسك البائع بالدفع ويحبس العين المبيعة . فكل من كسب حقاً من المشتري على العين المبيعة بعد التمسك بالدفع يسري في حقه الدفع . فإذا باع المشتري العين إلى مشتر ثان أو رهنها لدائن مرتهن ، جاز للبائع أن يبقى حابساً للعين في مواجهة المشتري الثاني أو الدائن المرتهن ( [913] ) .
ويمكن تعليل ذلك بأن المشتري لم ينقل إلى خلفه حقوقاً أكثر مما له ، وقد كانت حقوقه خاضعة لحق البائع في حبس العين ، فتنتقل هذه الحقوق إلى الخلف خاضعة لهذا الحق . ولا يستطيع المشتري أن ينقل حقاً لا يملكه ، وفاقد الشيء لا يعطيه . وهذا هو المبدأ الذي قررناه في انتقال الالتزام إلى الخلف الخاص .
503 – متى لا يسري الدفع في حق الغير . ولا يسري الدفع في حق الغير إذا كان الغير قد كسب حقه قبل ثبوت الحق في التمسك بالدفع . فإذا فرض أن شخصاً ، بعد أن رهن منزله رهناً رسمياً ، سلمه إلى مستأجر بعقد إيجار غير ثابت التاريخ ، ثم باعه ، وأراد المشتري تسلم المنزل قبل إنتهاء عقد الإيجار ، فإن للمستأجر أن يرجع بالتعويض على المؤجر وأن يحبس العين في مواجهة المشتري ( م 605 فقرة 2 ) ، ولكن حقه في الحبس لا يسري في مواجهة الدائن المرتهن لأن حق الرهن قد ثبت قبل ثبوت الحق في الحبس ( [914] ) .
الباب الثاني
العمل غير المشروع
( المسئولية التقصيرية )
L'ACTE ILLICITE
( La responsabilite delictuelle )
تمهيد ( * )
504 – مسائل أربع : نمهد للكلام في العلم غير المشروع ، أو المسئولية التقصيرية ، بوضع هذه المسئولية في مكانها بالنسبة إلى غيرها من أنواع المسئولية ، وتحديد دائرتها في وسط دوائر أوسع منها للمسئولية الأدبية والمسئولية الجنائية والمسئولية المدنية .
فنتكلم في مسائل أربع : ( 1 ) التمييز بين المسئولية الأدبية والمسئولية القانونية . ( 2 ) وفي المسئولية القانونية التمييز بين المسئولية الجنائية والمسئولية المدنية . ( 3 ) وفي المسئولية المدنية التمييز بين المسئولية العقدية والمسئولية التقصيرية ( 4 ) وفي المسئولية التقصيرية تطور هذه المسئولية .
* * *
1 – التمييز بين المسئولية الأدبية والمسئولية القانونية
( Distinction entre la responsabilite morale et la responsabilite legale )
505 – الفروق ما بين المسئولية الأدبية والمسئولية القانونية : المسئولية الأدبية لا تدخل في دائرة القانون ، ولا يترتب عليها جزاء قانوني ، وأمرها موكول إلى الضمير . أما المسئولية القانونية فتدخل في دائرة القانون ، ويترتب عليها جزاء قانوني .
وأهم الفروق ما بين هذين النوعين من المسئولية ثلاثة :
( 1 ) المسئولية الأدبية تقوم على أساس ذاتي محض ، فهي مسئولية أمام الله أو مسئولية أمام الضمير . أما المسئولية القانونية فيدخلها عنصر موضوعي ، وهي مسئولية شخص أمام شخص آخر .
( 2 ) ومن ثم تتحقق المسئولية الأدبية حتى لو لم يوجد ضرر ، أو وجد ولكنه نزل بالمسئول نفسه فيكون هو المسئول والمضرور في وقت واحد . بل إن هواجس النفس وخلجات الضمير قد تحقق المسئولية الأدبية ، ولو لم يكن لها مظهر خارجي . أما المسئولية القانونية فلا تتحقق إلا إذا وجد ضرر ، وأحاق هذا الضرر بشخص آخر غير المسئول .
( 3 ) وينبني على ذلك أن المسئولية الأدبية أوسع نطاقاً من المسئولية القانونية ، فهي تتصل بعلاقة الإنسان بربه ، وبعلاقته بنفسه ، وبعلاقته بغيره من الناس . أما المسئولية القانونية فلا تتصل إلا بعلاقة الإنسان بغيره من الناس .
وإذا تركنا المسئولية الأدبية ووقفنا عند المسئولية القانونية ، نراها نوعين : مسئولية جنائية ومسئولية مدنية .
2 - التمييز بين المسئولية الجنائية والمسئولية المدنية
( Distinction entre la responsabilite penale et la responsabilite civile )
506 – الفروق ما بين الميئولية الجنائية والمسئولية المدنية : هناك فرقان جوهريان ما بين المسئوليتين الجنائية والمدنية :
( أولاً ) تقوم المسئولية الجنائية على أن هناك ضرراً أصاب المجتمع . أما المسئولية المدنية فتقوم على أن هناك ضرراً أصاب الفرد . وتترتب على ذلك النتائج الآتية : ( 1 ) جزاء المسئولية الجنائية عقوبة ، أما جزاء المسئولية المدنية فتعويض . ( 2 ) الذي يطالب بالجزاء في المسئولية الجنائية هو النيابة العامة باعتبارها ممثلة للمجتمع ، أما الذي يطالب بالجزاء في المسئولية المدنية فالمضرور نفسه لأن الجزاء حقه هو . ( 3 ) لا يجوز الصلح ولا التنازل في المسئولية الجنائية لأن الحق فيها عام للمجتمع ، ويجوز الصلح والتنازل في المسئولية المدنية لأن الحق فيها خاص للفرد . ( 4 ) لما كانت العقوبة في المسئولية الجنائية تنطوي على معنى الإيلام كان من الواجب حصر الجرائم والعقوبات ، فلا عقوبة بلا جريمة ولا جريمة بلا نص ، أما المسئولية المدنية فتترتب على أي عمل غير مشروع دون حاجة لنصوص تبين الأعمال غير المشروعة عملا عملا .
( ثانياً ) النية ركن في المسئولية الجنائية . وهنا تقترب المسئولية الجنائية من المسئولية الأدبية . ولكن إذا كان محض النية يكفي في المسئولية الأدبية ، فهو لا يكفي في المسئولية الجنائية . بل يجب أن يكون للنية مظهر خارجي يصل إلى حد معين من الجسامة : فالتصميم والأعمال التحضيرية لا عقاب عليها ، والشروع قد يعاقب ، ويعاقب الفعل التام . وإلى جانب هذا المظهر الخارجي يغلب أن تكون الجريمة الجنائية عملا يلحق الضرر بالمجتمع . بل إن جسامة الضرر قد يكون لها أثر في العقوبة ، فتشتد في الضرب الذي يفضي إلى موت أو الذي يحدث عاهة مستديمة عما هي في الضرب البسيط ، مع أن النية واحدة في هذه الأعمال . وقد تزداد أهمية الضرر إلى حد أن يجب الضرر النية ، فهناك أعمال تعد جرائم لأنها ضارة بالمجتمع سواء صحبتها النية أو لم تصحبها ، كالمخالفات التي لا تشترط فيها النية والجرائم التي يكفي فيها مجرد الإهمال . ولكن ، من جهة أخرى ، قد يكفي في المسئولية الجنائية احتمال وقوع الضرر لا وقوعه بالفعل ، كما هو الأمر فيما يسمى الآن في القانون الجنائي بالتدابير المانعة ( measures de surete ) . ومهما يكن من أمر ، فالنية في المسئولية الجنائية إذا لم تكن وحدها كافية فإن وجودها ضروري في أكثر الجرائم .
أما في المسئولية المدنية فالنية لا تشترط . وأكثر ما يكون الخطأ المدني إهمال لا عمد . وسواء كان العمل غير المشروع عمداً أو غير عمد ، فإن الضرر الذي يحدثه يجب أن يعوض كاملا دون تفريق ما بين الحالتين ، وإن كان القضاء يميل ميلا طبيعياً إلى زيادة التعويض في الفعل العمد وإلى قياس التعويض بجسامة الخطأ في الفعل غير العمد .
507 – العمل الواحد قد تترتب عليه المسئوليتان معاً وقد تترتب عليه مسئولية دون الأخرى : ويتبين مما تقدم أن قيام إحدى المسئوليتين لا يتعارض مع قيام المسئولية الأخرى . وقد يترتب على العمل الواحد مسئولية جنائية مسئولية مدنية في وقت معاً ، كالقتل والسرقة والضرب والسب والقذف . فكل عمل من هذه الأعمال يحدث ضرراً بالمجتمع وبالفرد في وقت واحد . فيكون من ارتكب هذا العمل مسئولا مسئولية جنائية جزاؤها العقوبة ، ومسئولا مسئولية مدنية جزاءها التعويض .
ولكن يصح ألا يترتب على العمل إلا إحدى المسئوليتين دون الأخرى . فتتحقق المسئولية الجنائية دون المسئولية المدنية إذا لم يلحق العمل ضرراً بأحد ، كما في بعض جرائم الشروع وجرائم أخرى كالتشرد ومخالفات المرور وحمل السلاح والاتفاق الجنائي . وتتحقق المسئولية المدنية دون المسئولية الجنائية إذا الحق العمل ضرراً بالغير دون أن يدخل ضمن الأعمال المعاقب عليها في القوانين الجنائية ، كإتلاف مال الغير عن غير عمد وإغواء امرأة غير قاصر وسوء العلاج والمنافسة غير المشروعة وفصل العامل في وقت غير لائق وجميع المسئوليات التي تقوم على خطأ مفروض ( [915] ) .
508 – الآثار التي تترتب على اجتماع المسئوليتين في عمل واحد : إذا ترتب على العمل الواحد المسئوليتان الجنائية والمدنية معاً ، أثرت المسئولية الجنائية ، وهي أقوى لأنها حق المجتمع ، في المسئولية المدنية ، وهي أضعف لأنها حق الفرد ، ويظهر ذلك فيما يأتي :
( أولاً ) التقادم : تقضي المادة 172 من القانون الجديد بأن دعوى التعويض المدنية لا تسقط إلا بسقوط الدعوى الجنائية . فإذا ترتب على العمل الواحد دعويان ، الدعوى المدنية والدعوى الجنائية ، فإن عدم تقادم الدعوى الجنائية يقف تقادم الدعوى المدنية .
ويستخلص من هذا أن الدعوى الجنائية تبعث في الدعوى المدنية ، فتبقى هذه ما دامت تلك باقية . ولا عكس . فبقاء الدعوى المدنية قائمة لا يمنع من تقادم الدعوى الجنائية . وسيأتي تفصيل ذلك .
( ثانياً ) الاختصاص : إذا ترتب على العمل الواحد المسئوليتان الجنائية والمدنية ، أمكن رفع الدعوى المدنية أمام المحكمة الجنائية ، لأن الدعوى المدنية هي التي تتبع الدعوى الجنائية .
( ثالثاً ) وقف الدعوى : إذا ترتب على العمل الواحد المسئوليتان الجنائية والمدنية ، ورفعت الدعوى المدنية أمام المحكمة المدنية ، فرفع الدعوى الجنائية أمام المحكمة الجنائية يقف سير الدعوى المدنية ، وعلى المحكمة المدنية أن تامر بوقف الدعوى حتى يبت في الدعوى الجنائية . ولا يجوز عندئذ الرجوع عن الطريق المدني ورفع الدعوى المدنية من جديد أمام المحكمة الجنائية . ومن ثم نرى أن الدعوى الجنائية تقف الدعوى المدنية ( Le criminal tient le civil en etat ) .
( رابعاً ) قوة الأمر المقضي : وإذا بتت المحكمة الجنائية في الدعوى بحكم ، حاز هذا الحكم قوة الأمر المقضي . وتتقيد المحكمة المدنية عندئذ بما اثبتته المحكمة الجنائية في حكمها من وقائع ، دون أن تتقيد بالتكييف القانونين لهذه الوقائع ، فقد يختلف التكييف من الناحية المدنية عنه من الناحية الجنائية . وينبني على ذلك أنه إذا حكم القاضي الجنائي بالبراءة أو بالإدانة لأسباب ترجع إلى الوقائع ، بأن أثبت في حكمه أن العمل المسند إلى المتهم لم يثبت وقوعه منه أو ثبت وقوعه ، تقيد القاضي المدني بالوقائع التي أثبتها الحكم الجنائي . فلا يجوز أن يقول إن العمل قد ثبت حيث لم يثبت أو لم يثبت حيث قد ثبت ، ولكن يجوز أن يكيف الوقائع الثابتة تكييفاً مدنياً غير التكييف الجنائي . أما إذا حكم القاضي الجنائي بالبراءة لأسباب ترجع إلى التكييف القانونين ، كأن كان الإهمال الثابت صدوره من المتهم لا يصل إلى درجة الإهمال الجنائي ( [916] ) ، أو كانت الدعوى العمومية قد سقطت بموت المهم ، أو كان هناك مانع من توقيع العقوبة الجنائية لأن السارق ابن للمجني عليه أو صدر لمصلحته عفو شامل ، فإن ذلك لا يمنع القاضي المدني من الحكم بالمسئولية المدنية .
ونقف الآن عند المسئولية المدنية ، وهي أيضاً نوعان : مسئولية عقدية ومسئولية تقصيرية .
* * *
3 – التمييز بين المسئولية العقدية والمسئولية التقصيرية
( Distinction entre la responsabilite contractuelle et la responsabilite delictuelle )
509 – المسئوليتان العقدية والتقصيرية – ازدواج المسئولية أو وحدتها : المسئولية العقدية تقوم على الإخلال بالتزام عقدي يختلف باختلاف ما أشتمل عليه العقد من التزامات . والمسئولية التقصيرية تقوم على الإخلال بالتزام قانونين واحد لا يتغير هو الالتزام بعدم الأضرار بالغير . فالدائن والمدين في المسئولية العقدية كانا مرتبطين بعقد قبل تحقق المسئولية ، أما في المسئولية التقصيرية قبل أن تتحقق فقد كان المدين أجنبياً عن الدائن . مثل المسئولية العقدية أن يبرم عقد بيع ، ثم يتعرض البائع للمشتري في العين المبيعة ، فيخل بالتزامه العقدي من عدم التعرض . ومثل المسئولية التقصيرية أن تكون العين في يد مالكها ، ويتعرض لها فيها أجنبي ، فتتحقق مسئولية المتعرض ، ولكن مسئوليته هنا تقصيرية لا عقدية ، إذ هو لم يخل بالتزام عقدي يوجب عليه عدم التعرض للعين ، بل أخل بالتزام قانوني عام يفرض عليه عدم الأضرار بالغير ويدخل في هذا الغير مالك العين .
هذا كله لا خلاف فيه . وإنما الخلاف في تكييفه . فمن الفقهاء من يذهب إلى وجوب التمييز ما بين المسئولية العقدية والمسئولية التقصيرية لوجود فروق هامة بينهما تقتضي هذا التمييز ، وهؤلاء هم أنصار ازدواج المسئولية ( dualite de responsabilite ) . ومنهم من يرى إلا محل لهذا التمييز بين المسئوليتين . فإن إحداهما لا تختلف عن الأخرى في طبيعتها . وهؤلاء هم أنصار وحدة المسئولية ( unite de responsabilite ) .
510 – أنصار ازدواج المسئولية : وهلاء هم كثرة الفقهاء . يقولون إن هناك فروقاً هامة ما بين المسئوليتين العقدية والتقصيرية تقتضي وجوب التمييز بينهما حتى يطبق على : لمنهما ما يخصه من أحكام . ويجملون هذه الفروق في الوجوه الآتية :
1 –الأهلية : في المسئولية العقدية تشترط أهلية الرشد في أكثر العقود . أما في المسئولية التقصيرية فتكفي أهلية التمييز .
2 - الإثبات : في المسئولية العقدية يتحمل المدين عبء إثبات أنه قام بالتزامه العقدي بعد أن يثبت الدائن وجود العقد . أما في المسئولية التقصيرية فالدائن هو الذي يثبت أن المدين قد خرق التزامه القانونين وارتكب عملا غير مشروع .
3 - الإعذار : في المسئولية العقدية يشترط إعذار المدين إلا في حالات استثنائية . أما في المسئولية التقصيرية فلا إعذار ( [917] ) .
4 - مدى تعويض الضرر : في المسئولية العقدية لا يكون التعويض إلا عن الضرر المباشر متوقع الحصول . أما في المسئولية التقصيرية فيكون التعويض عن أي ضرر مباشر . سواء كان متوقعاً أو غير متوقع ( [918] ) .
5 – التضامن : في المسئولية العقدية لا يثبت التضامن إلا باتفاق أما في المسئولية التقصيرية فالتضامن ثابت بحكم القانون .
6 - الإعفاء الاتفاقي من المسئولية : يجوز هذا الإعفاء بوجه عام في المسئولية العقدية . ولا يجوز في المسئولية التقصيرية .
7 - التقادم : تتقادم المسئولية العقدية بخمس عشرة سنة . أما المسئولية التقصيرية فتتقادم بثلاث سنوات أو بخمس عشرة سنة على حسب الأحوال .
511 – أنصار وحدة المسئولية : وابرز هؤلاء الأنصار الأستاذ بلانيول . وهم يقولون بألا فرق في الطبيعة ما بين المسئولية العقدية والمسئولية التقصيرية . كلتاهما جزاء لالتزام سابق : المسئولية العقدية جزاء لالتزام عقدي لم يقم به الملتزم ، والمسئولية التقصيرية جزاء لالتزام قانوني اخل به المسئول . والمدين في الحالتين تحققت مسئوليته لسبب واحد هو إخلاله بهذا الالتزام العقدي أو القانوني . فالمسئوليتان إذن تتحدان في السبب وفي النتيجة ، فتكون طبيعتهما واحدة ، ولا محل للتفريق بينهما . أما ما استظهره انصار ازدواج المسئولية من فروق ما بين المسئوليتين ، فهي فروق ظاهرية لا تثبت عند التعمق في النظر . ويستعرضون هذه الفروق على النحو الآتي :
1 - الأهلية : ليس صحيحاً أن يقال إن أهلية الرشد تشترط في المسئولية العقدية وتكفي أهلية التمييز في المسئولية التقصيرية . والصحيح إلا أهلية في كلتا المسئوليتين . إنما الأهلية في العقد دون غيره . فيشترط الرشد في أكثر العقود . إذا تم العقد صحيحاً كان على المدين أن ينفذ التزامه العقدي ، وإلا كان مسئول مسئولية عقدية . ولا يشترط في هذه المسئولية العقدية أية أهلية ، حتى لو أن المدين زالت أهليته بعد أن كان أهلاً وقت التعاقد ، بقى ملتزماً بالعقد ، وبقيت مسئوليته العقدية قائمة بعد زوال أهليته ، ولا يخليه من هذه المسئولية إلا القوة القاهرة أو نحوها . وفي المسئولية التقصيرية لا محل للكلام في الأهلية ، وليس صحيحاً أن يقال إن أهلية التمييز واجبة في هذه المسئولية . والصحيح أن المسئول يشترط لتحقق مسئوليته أن يرتكب خطأ . ونسبة الخطأ إلى المسئول تقتضي أن يكون مميزاً . فالتمييز إذن هو شرط لتحقق المسئولية ، وليس أهلية في المسئولية .
2 - الإثبات : ولا فرق بين المسئوليتين فيمن يحمل عبء الإثبات . ففي كلتيهما يحمله الدائن . يثبت في المسئولية العقدية العقد ، وهو مصدر الالتزام السابق الذي ترتب على الإخلال به تحقق المسئولية العقدية . أما في المسئولية التقصيرية فلا حاجة به إلى إثبات الالتزام القانوني بعدم الأضرار بالغير ، هو الالتزام السابق الذي ترتب على الإخلال به تحقق المسئولية التقصيرية ، لأنه التزام مقرر على الكافة فرضه القانون ، فإذا ثبت الالتزام السابق في كلتا المسئولية على هذا الوجه ، بقى إثبات الإخلال به . وهنا يحمل الدائن عبء الإثبات أو يحمله المدين ، لا تبعاً لما إذا كانت المسئولية تقصيرية أو عقدية ، بل تبعاً الما إذا كان الالتزام السابق هو التزام بعمل أو التزام بامتناع عن عمل . فالمدين هو الذي يثبت أنه قام بالعمل الذي التزم بالقيام به ، والدائن هو الذي يثبت أن المدين قد أتى العمل الذي التزام بالامتناع عنه . ففي المسئولية لعقدية إذا كان الالتزام العقدي عملا – ويدخل في ذلك نقل الحق العيني – فعلى المدين أن يثبت أنه قام به ، وهو يحمل عبء الإثبات لا لأن المسئولية عقدية بل لأن الالتزام الذي أخل به هو التزام بعمل . أما إذا كان الالتزام امتناعاً عن عمل ، فالدائن هو الذي يثبت أن المدين قد أخل بالتزامه وكذلك الحال في المسئولية التقصيرية . ولكن لما كان الالتزام القانوني السابق في هذه المسئولية دائما ًهو الالتزام بالامتناع عن عمل – عدم الأضرار بالغير – فالدائن إذن هو الذي يثبت في المسئولية التقصيرية أن المدين قد أخل بالتزامه وأحدث الضرر بخطأه ولكن ليس ذلك لأن المسئولية تقصيرية ، بل لأن الالتزام الذي أخل به المدين هو التزام بالامتناع عن عمل . ومن هنا يتبين أن عبء الإثبات في المسئولية العقدية يحمله المدين تارة وطوراً يحمله الدائن تبعاً لما إذا كان الالتزام العقدي السابق هو التزام إيجابي أو التزام سلبي ، وعبء الإثبات في المسئولية التقصيرية يحمله الدائن في جميع الأحوال لأن الالتزام القانوني السابق هو دائماً التزام سلبي . فالعبرة إذن فيمن يحمل عبء الإثبات ، لا بنوع المسئولية هل هي عقدية أو تقصيرية ، بل بالالتزام السابق هل هو إيجابي أو سلبي .
3 - الإعذار : وليس صحيحاً أن الإعذار يشترط في المسئولية العقدية دون المسئولية التقصيرية . فالإعذار لا يشترط في الالتزامات السلبية إذا أخل بها المدين ، سواء كانت المسئولية عقدية أو تقصيرية . ولما كان الالتزام في المسئولية التقصيرية هو دائماً التزام سلبي ، لذلك لا يشترط الإعذار . وهو أيضاً لا يشترط في المسئولية العقدية إذا كان الالتزام العقدي التزاماً سلبياً كما هو معروف . فالعبرة هنا أيضاً بما إذا كان الالتزام ايجابياً أو سلبياً ، لا بما إذا كانت المسئولية عقدية أو تقصيرية .
4 - مدى تعويض الضرر : والسبب في أن التعويض في المسئولية العقدية لا يتناول الضرر غير المتوقع ولو كان مباشراً أن هذا الضرر لم يدخل في حساب المتعاقدين لأنهما لم يكونا يتوقعانه .
5 - التضامن : والسبب في أن التضامن يثبت بمقتضى القانون في المسئولية التقصيرية أن الخطأ هو السبب في الضرر ، فإذا ارتكب الخطأ اثنان كان خطا كل منهما هو السبب في الضرر فوجب عليه التعويض كاملا ، ومن ثم قام التضامن .
6 - الإعفاء الاتفاقي من المسئولية : والسبب في أن هذا الإعفاء لا يجوز في المسئولية التقصيرية أن القانون هو الذي قرر أحكام هذه المسئولية ، فهي من النظام العام .
7 - التقادم : وإذا كانت المسئولية التقصيرية تتقادم بثلاث سنوات في بعض الأحوال ، فهذا أمر لا يرجع إلى طبيعة المسئولية ، بل أن المشرع قرر ذلك لحكمة ارتآها هو ، وقد لا يرتئيها مشرع آخر . وكان القانون القديم يجعل مدة التقادم في المسئولية التقصيرية خمس عشرة سنة كما في المسئولية العقدية .
512 – الوضع الصحيح للمسالة – وجوب التمييز بين المسئولية العقدية والمسئولية التقصيرية : لا شك في أن المسئوليتين العقدية والتقصيرية تقومان على مبدأ واحد . فكلتاهما جزاء للإخلال بالتزام السابق . ولا فرق بينهما في هذه الناحية ، لا من حيث الأهلية ولا من حيث الإثبات ولا من حيث الإعذار . وقد استطاع أنصار وحدة المسئولية أن يثبتوا ذلك . فالأهلية لا تكون إلا في العقد ، ولا محل للكلام فيها لا في المسئولية العقدية ولا في المسئولية التقصيرية ، وعبء الإثبات وضرورة الإعذار العبرة فيهما لا بأن المسئولية عقدية أو تقصيرية ، بل بأن الالتزام السابق إيجابي أو سلبي .
ولكن إلى هنا تتفق المسئوليتان . وهما تختلفان بعد ذلك . تختلفان في أن الالتزام السابق الذي ترتب على الإخلال به تحقق المسئولية هو التزام عقدي في المسئولية العقدية ، وهو التزام قانوني في المسئولية التقصيرية . وهذا الاختلاف تترتب عليه فروق جوهرية لا فروق عرضية .
ففي المسئولية العقدية الدائن والمدين هما اللذان بإرادتهما أنشآ هذا الالتزام السابق وحددا مداه . ومن ثم رسما مدى التعويض عن الضرر ، فلم يدخل في حسابهما الضرر غير المتوقع ، ولم تنصرف إرادتهما إلى التعويض عنه ، فلا تعويض . ومن كانت إرادة المتعاقدين ، إذا تعدد المدين هي التي تحدد مدى اشتراك كل مدين في المسئولية ، والأصل ألا تضامن بين المدينين ، فإذا أريد التضامن وجب أن تتجه إرادة المتعاقدين إلى اشتراطه . ومن ثم جاز للمتعاقدين ، وهما اللذان بارادتهما حددا مدى الالتزام ، أن يتراضيا على الإعفاء منه في حالات معينة . ومن ثم أخيراً لا يتقادم الالتزام ، وهما اللذان ارتضياه ، إلا بمدة طويلة هي خمس عشرة سنة .
ولا كذلك في المسئولية التقصيرية . فإن الالتزام الذي ترتب على الإخلال به تحقق هذه المسئولية هو التزام قانوني ، أي التزام القانون هو الذي أنشأه وحدد مداه ، ولم تدخل إرادة الطرفين في شيء من ذلك . ومن ثم وجب التعويض عن كل الضرر ، سواء توقعه الطرفان أو لم يتوقعاه ، ما دام مباشراً ، لأن هذا هو الأصل في التعويض . ولم تتدخل إرادة الطرفين لتوقي التعويض عن الضرر غير المتوقع . ومن ثم إذا اشترك أكثر من واحد في إحداث الضرر ، كان كل منهم متسبباً فيه ، ووجب عليه التعويض كاملاً ، ومن هنا قام التضامن . ومن ثم لا يجوز للطرفين أن يتراضيا على الإعفاء من المسئولية التقصيرية ، فإن الالتزام الذي اخل به المدين هو التزام فرضه القانون ، ولا دخل فيه لإرادة الطرفين ، فالقانون هو الذي يعفي منه في الحالات التي ينص عليها . ومن ثم رأى المشرع في المسئولية التقصيرية ، والالتزام مفروض على المدين دون أن يرتضيه ، أن يكون التقادم بمدة اقصر من مدة التقادم في المسئولية العقدية وفيها ارتضى المدين الالتزام عن طواعية واختيار ولم يفرضه عليه القانون فرضاً .
إذن توجد فروق جوهرية بين المسئولية العقدية ، والمسئولية التقصيرية ، ترجع إلى طبيعة كل من المسئوليتين . فالمسئولية العقدية جزاء للإخلال بالتزام عقدي ، والطبيعة العقدية لهذا الالتزام هي التي أملت الحلول العملية التي تتفق معها . والمسئولية التقصيرية جزاء للإخلال بالتزام قانونين ، وطبيعة هذا الالتزام هي التي أملت الحلول العملية التي تلائمها والتي تخالف الحلول العملية الأولى . فلا بد إذن من التمييز بين المسئولية العقدية والمسئولية التقصيرية ، لأن التمييز بينهما تتطلبه طبيعة كل منهما ، وتترتب عليه فروق جوهرية فيما بينهما ، هي التي ذكرناها فيما تقدم ( [919] ) .
513 – تحديد نطاق كل من المسئوليتين : أما وقد وجب التمييز بين المسئولية العقدية والمسئولية التقصيرية ، وثبت أن هناك فروقاً جوهرية بينهما ، فإنه يتعين أن نحدد نطاق كل منهما ، حتى ترتيب على كل مسئولية ما يتعلق بها من الأحكام .
نطاق المسئولية التقصيرية حدوده واضحة . فإن هذه المسئولية تتحقق حيث يرتكب شخص خطأ يصيب الغير بضرر . فالدائن المضرور هنا أجنبي عن المدين ، لا يرتبط بعقد معه .
أما المسئولية العقدية فيحدد نطاقها شرطان : أولهما أن يقوم عقد صحيح ما بين الدائن والمدين ، والثاني أن يكون الضرر الذي أصاب الدائن قد وقع بسبب عدم تنفيذ هذا العقد . ونبحث كلا من الشرطين .
فالشرط الأول هو أن يقوم عقد صحيح ما بين الدائن والمدين . فإذا لم يكن هناك عقد أصلاً ، ولو وجدت شبهة عقد ، فالمسئولية لا تكون عقدية . مثل ذلك أن يدعو صديق صديقه للركوب معه في عربته مجاملة ( [920] ) ، أو بدعوه للغذاء أو للسهرة ، أو يخطب رجل امرأة ، فلا عقد في مثل هذه الأحوال ، والمسئولية لا تكون إلا تقصيرية بأن يثبت المضرور أن هناك خطأ ارتكبه المسئول ، كأن يرتكب الصديق خطأ في قيادة العربة ، أو يتعمد الإخلال بالدعوة إضراراً بصديقه ، أو يعدل الخاطب عن الزواج إضراراً بخطيبته فإذا قام عقد بين الدائن والمدين أمكن أن تتحقق المسئولية العقدية . ولكن المدة السابقة على تكوين العقد لا يتحقق فيها إلا مسئولية تقصيرية ، كما هي الحال في نظرية الخطأ عند تكوين العقد وقد مر بيانها ، وكما في قطع المفاوضات للتعاقد في وقت غير لائق ، وكما في رفض شخص للتعاقد بعد أن دعا هو إليه . كذلك المدة التالية لانقضاء العقد لا تتحقق فيها إلا مسئولية تقصيرية ، كما إذا دخل مهندس في خدمة مصنع واطلع على أسراره ولما انقضى عقد خدمته دخل في خدمة مصنع منافس وأفضى بالأسرار التي وقف عليها في المصنع الأول – ويجب أن يكون العقد القائم بين الدائن والمدين عقداً صحيحاً ، فإن كان باطلا أو قابلا للإبطال فالمسئولية العقدية لا تتحقق . وقد ورد تطبيق لهذا الحكم في المادة 119 من القانون المدني الجديد ، وهي تقضي بأنه " يجوز لناقص الأهلية أن يطلب أبطال العقد ، وهذا مع عدم الإخلال بإلزامه بالتعويض ، إذا لجأ إلى طرق احتيالية ليخفي نقص أهليته " . ففي هذه الحالة ، بعد أن يبطل ناقص الأهلية العقد ، يكون مسئولا مسئولية تقصيرية عن استعماله للطرق الاحتيالية التي قادت إلى التعاقد – والمسئولية العقدية لا تتحقق إلا فيما بين الدائن والمدين اللذين يربطهما العقد . فإذا دفع أجنبي أحد المتعاقدين على أن يخل بتعاقده ، كصاحب مصنع يحرض مستخدماً في مصنع آخر على الخروج من هذا المصنع قبل انتهاء عقد الاستخدام للدخول في خدمة المصنع الأول ، تحققت المسئولية العقدية فيما بين صاحب المصنع الثاني والمستخدم لارتباطهما بالعقد ، ولكن لا تتحقق إلا مسئولية تقصيرية فيما بين صاحب المصنع الثاني وصاحب المصنع الأول ، لأن هذا لم يرتبط بعقد الاستخدام . وإذا أمن شخص على مسئوليته ثم تحققت هذه المسئولية ، فإن مسئولية شركة التأمين نحو المؤمن له تكون مسئولية عقدية لارتباطهما بعقد التأمين ، ولكن مسئولية المؤمن له نحو المصاب تكون مسئولية تقصيرية لأن عند التأمين لم يكن المصاب طرفاً فيه . أما إذا اشترط المؤمن له في عقد التامين لمصلحة المصاب ، فإن شركة التامين تكون مسئولة نحو المصاب مسئولية عقدية دون أن يكون المصاب طرفاً في عقد التأمين ، ويعد هذا استثناء من القاعدة إلى تقضي بان المسئولية العقدية لا تتحقق إلا فيما بين طرفي العقد ، نزولا على أحكام الاشتراط لمصلحة الغير .
والشرط الثاني أن يكون الضرر الذي أصاب الدائن قد وقع بسبب عدم تنفيذ العقد . فإذا كان الضرر قد حدث من عمل لا يعتبر عدم تنفيذ للعقد ، فإن المسئولية العقدية لا تتحقق ، بل تتحقق المسئولية التقصيرية . مثل ذلك الهبة ، فإن الواهب لا يضمن خلو الشيء الموهوب من العيب إلا إذا تعدم إخفاء العيب أو ضمنه ، فإن كان الشيء الموهوب معيباً ولم يضمن الواهب العيب ولم يتعمد إخفاءه ، وتسبب عن العيب ضرر للموهوب له ، فإن مسئولية الواهب تكون هنا مسئولية تقصيرية ، ويكون على الموهوب له أن يثبت خطأ في جانب الواهب . أما إذا وقع الضرر بسبب عدم تنفيذ العقد فإن المسئولية العقدية تتحقق ، كما إذا امتنع البائع عن تسليم المبيع إلى المشتري بالرغم من إعذاره وهلك المبيع في يد البائع . ومن ثم وجب تحديد الالتزامات التي تنشأ من العقد حتى يعد عدم تنفيذها سبباً لتحقق المسئولية العقدية . وهناك عقود يصعب فيها تحديد هذه الالتزامات ( [921] ) . ويرجع في التحديد إلى نية المتعاقدين الصريحة أو الضمنية . وعلى القاضي أن يكشف عن هذه النية بطرق التفسير المعتادة ( [922] ) .
514 – عدم جواز الجمع ما بين المسئولية العقدية والمسئولية التقصيرية : بعد أن بينا وجوب التمييز بين المسئولية العقدية والمسئولية التقصيرية ، وحددنا نطاق كل من المسئوليتين ، وجب أن نواجه فرضاً يتحقق في كثيرة عمل الأحيان ، وهو أن يتوافر في العمل الواحد شروط المسئولية العقدية وشروط المسئولية التقصيرية في وقت معاً . ويعرض في صدد هذا الفرض سؤال أول لا يحوم أي شك في الجواب عليه ، هو هل يجوز للدائن الذي أصابه الضرر بسبب هذا العمل أن يجمع بين المسئوليتين في الرجوع على المدين ؟
لا شك في أن الدائن لا يجوز له الجمع بين المسئوليتين في الرجوع على المدين ، إذ الجمع ، بأي معنى فهم هذا اللفظ ، غير مستساغ .
قد يفهم الجمع بمعنى أن الدائن يطالب بتعويضين . تعويض عن المسئولية العقدية وآخر عن المسئولين التقصيرية . وهذا غير مستساغ ، لأن الضرر الواحد لا يجوز تعويضه مرتين .
وقد يفهم الجمع بمعنى أن الدائن يطالب بتعويض واحد ، ولكن يجمع في دعوى التعويض بين ما يختاره من خصائص المسئولية العقدية ، كأن يطالب المدين بإثبات أنه قام بتنفيذ التزامه ، ومن خصائص المسئولية التقصيرية ، كأن يطالب المدين بتعويض عن الضرر غير المتوقع أن يتمسك ببطلان الإعفاء الاتفاقي من المسئولية . وهذا أيضاً غير مستساغ . فإن كلا من دعوى التعويض العقدية ودعوى التعويض التقصيرية لها خصائصها . والدائن لا يستطيع أن يرفع إلا إحدى الدعويين . أما الدعوى التي يخلط فيها ما بين خصائص كلتا الدعويين فهي ليست بالدعوى العقدية ولا بالدعوى التقصيرية ، بل هي دعوى ثالثة لا يعرفها القانون .
وقد يفهم الجمع بمعنى ثالث ، هو أن الدائن إذا رفع إحدى الدعويين فخسرها يستطيع أن يرفع الدعوى الأخرى . ولكن الفقه – بخلاف القضاء الفرنسي – مجمع على أن قوة الشيء المقضي يحول دون ذلك . فلا يسوغ الجمع حتى بهذا المعنى ( [923] ) .
515 – عدم جواز الخيرة ما بين المسئولية العقدية والمسئولية التقصيرية : الجمع إذن غير مستساغ في أي معنى من معانيه . ومن ثم نرى عدم الدقة في التعبير عندما يقال هل يجوز الجمع بين المسئوليتين أو لا يجوز ؟ فهذا السؤال لا يحتمل الجواب عليه شكا ، إذا الجمع قطعاً لا يجوز . ولكن الشك يقوم إذا أبدل بلفظ " الجمع " ( cumul ) لفظ " الخيرة " ( option ) ، فقيل هل تجوز الخيرة بين المسئوليتين ؟ ويراد بهذا أن يقال هل يجوز للدائن أن يختار الدعوى التي يراها أصلح ، على أنه إذا اختار أصلح الدعويين تقيد بها ، فلا يلجأ إلى الدعوى الأخرى حتى لو خسر الدعوى التي اختارها ؟ وهذا هو الذي تقصد إليه جمهورة الفقهاء عندما يقولون في غير دقة هل يجوز الجمع ما بين الدعويين . والاجابة على هذا السؤال في وضعه الصحيح تقسم كلا من الفقه والقضاء إلى فريقين متعارضين ، ففريق يقول إن للدائن أن يختار بين الدعويين ، وفريق آخر يذهب إلى أن دعوى المسئولية العقدية تجب دعوى المسئولية التقصيرية فلا يصح للدائن أن يرفع غير دعوى المسئولية العقدية ، ويمتنع عليه أن يرفع دعوى المسئولية التقصيرية . ونستعرض كلا من الرأيين .
أما الذين يجعلون للدائن الخيرة فيقولون إن شروط كل من الدعويين قد توافرت ، ومنطق القانون يقضي بأن الدعوى متى توافرت شروطها جاز أن ترفع . وهنا قد توافرت كذلك شروط دعوى المسئولية التقصيرية ، فلا شيء يمنع الدائن من رفعها إذا أثرها على الدعوى الأولى .
وأما الذين يقصرون الدائن على دعوى المسئولية العقدية فيقولون إن الدائن لا يعرف المدين إلا من طريق العقد . فكل علاقة تقوم بينهما بسبب هذا العقد وجب أن يحكمها العقد والعقد وحده . فإذا أخل المدين بالتزامه العقدي لم يكن أمام الدائن إلا دعوى المسئولية العقدية ، وليس له الرجوع بدعوى المسئولية التقصيرية .
ولا شك في أن الأخذ برأي دون آخر من هذين الرأيين تترتب عليه نتائج عملية هامة تتمشى مع وجوه التمييز ما بين المسئوليتين فيما قدمنا . ومن وجوه التمييز هذه الإثبات . فإذا جاز للدائن أن يختار وكانت المسئولية التقصيرية قائمة على خطأ مفروض ، اختارها الدائن لينتقل عبء الإثبات إلى المدين ، ولو أن الدائن قصر على المسئولية العقدية لكان هو المكلف بإثبات أن المدين قد أخل بالتزامه إذا كان التزاماً بعناية . ومن وجوه التمييز أيضاً الإعفاء الاتفاقي من المسئولية . فإذا تعاقد عميل مع أمين النقل وكان في عقد النقل اتفاق على الإعفاء من المسئولية أو على التخفيف منها ، ثم اصيب العميل اصابة تدخل في حدود هذا الاتفاق ، وكان له أن يختار بين المسئوليتين ، لاختار المسئولية التقصيرية إذ لا يجوز فيها الاتفاق على الإعفاء أو التخفيف ، ولو قصر على المسئولية العقدية لاندفعت هذه المسئولية أو خففت بفضل الاتفاق الذي تم على ذلك . وإلى جانب هذين الوجهين توجد الوجوه الأخرى التي قدمناها في التمييز ما بين المسئوليتين . ففي دعوى المسئولية العقدية لا يكون التضامن إلا باتفاق ، أما في دعوى المسئولية التقصيرية فإن التضامن يقوم بحكم القانون . فإذا كان للدائن أن يختار ، ولم يكن هناك اتفاق على التضامن ، فقد يختار المسئولية التقصيرية ابتغاء أن يجري التضامن بين المدينين ، أما إذا قصر على المسئولية العقدية فلا تضامن . وفي دعوى المسئولية العقدية لا يعوض المدين إلا عن الضرر المتوقع ، أما في دعوى المسئولية التقصيرية فيعوض عن أي ضرر مباشر ولو كان غير متوقع . فهنا أيضاً تكون الخيرة نافعة للدائن ، إذ يستطيع أن ينتقل من المسئولية العقدية إلى المسئولية التقصيرية فينال تعويضاً كاملاً عن الضرر المباشر . ودعوى المسئولية العقدية تتقادم عادة بخمس عشرة سنة ، أما دعوى المسئولية التقصيرية فتتقادم بثلاث سنوات . وهنا الخيرة لا تنفع الدائن ، فدعوى المسئولية العقدية إذا قصر عليها أفضل له من دعوى المسئولية التقصيرية .
ومهما يكن من انقسام الفقه والقضاء ، في فرنسا وفي مصر ( [924] ) ، في هذه المسألة الهامة . ، فنحن نأخذ بالرأي الذي يقول بالأخيرة للدائن ، وليس له إلا دعوى المسئولية العقدية . ذلك أن الالتزام العقدي الذي صار المدين مسئولا عن تنفيذه . لم يكن قبل العقد التزاماً في ذمته . فلو فرض أنه قبل إبرام العقد لم يقم به ، لم يكن مسئولا عن ذلك ، لا مسئولية عقدية لأن العقد لما يبرم ، ولا مسئولية تقصيرية إذ لا خطأ في عدم قيامه بأمر لم يلتزم به . فإذا أبرم العقد ، قام الالتزام في الحدود التي رسمها هذا العقد ، وهي حدود لا تترتب عليها إلا المسئولية العقدية . وليس للدائن أن يلجأ إلى المسئولية التقصيرية ، إذ هي تفترض أن المدين قد أخل بالتزام فرضه القانون ، والالتزام في حالتنا هذه لا مصدر له غير العقد . ويتبين من ذلك أن الخيرة لا تكون إلا في التزام فرصه العقد والقانون معاً . فأمين النقل إذا سرق البضاعة التي ينقلها يكون قد أخل بالتزامه العقدي الناشيء من عقد النقل ، فتتحقق مسئوليته العقدية . ويكون في الوقت ذاته قد أخل بالتزامه القانوني الذي يحرم عليه السرقة حتى لو لم يوجد عقد النقل . فتتحقق مسئوليته التقصيرية . وللدائن أن يختار بين هاتين المسئوليتين .
وقد يبدو أن القول بعدم جواز الخبرة يضيع على الدائن في بعض الحالات حقه العادل في التعويض . فشرط الإعفاء من المسئولية الذي تتضمنه عادة عقود النقل كاف لدفع المسئولية العقدية ، وقيام هذه المسئولية كاف يدوره لمنع المسئولية التقصيرية . فلا يستطيع الدائن الرجوع بالمسئولية العقدية لوجود شرط الإعناء ، ولا بالمسئولية التقصيرية لوجود عقد النقل . ولكن هذه النتيجة هي التي أرادها المتعاقدان . وما لم يكن عقد النقل عقد إذعان – كما هو الغالب – حيث يعتبر شرط الإعفاء شرطاً تعسفياً يجوز للقاضي إلغاؤه أو تعديله ، فإنه يجب النزول على إرادة المتعاقدين ( [925] ) .
4 – تطور المسئولية التقصيرية
516 – تاريخ هذا التطور هو توسع مستمر في المسئولية التقصيرية : ونقل الآن عند المسئولية التقصيرية ، بعد أن ميزناها عن غيرها من أنواع المسئولية فيما تقدم . ونستعرض في إيجاز تاريخ تطورها .
ويمكن القول بوجه عام إن تاريخ تطور المسئولية التقصيرية هو تاريخ توسع مستمر في هذه المسئولية .
فمن حالات معينة محدودة لا تتحقق المسئولية إلا فيها ، إلى توسع تدريجي في هذه الحالات ، إلى شمول وصل بالمسئولية التقصيرية إلى أن تكون قاعدة عامة . وهذا ما وصل إليه التطور في القانون الفرنسي القديم ، وانتقل منه إلى التقنين الفرنسي في سنة 1804 .
ومنذ التقنين الفرنسي أخذت القاعدة العامة ذاتها تتطور . فهي قد قامت على فكرة جوهرية هي فكرة الخطأ ( faute ) . ثم أخذت هذه الفكرة تتقلص . فبعد أن كان الخطأ لا بد من إثباته ، قامت حالات صار الخطأ فيها مفروضاً . وها نحن نشهد في الوقت الحاضر فكرة تحمل التسعة ( risqué ) تقوم إلى جانب فكرة الخطأ ثابتاً كان أو مفروضاً .
فنستعرض هذا التطور ، منذ القانون الروماني إلى عصرنا الحاضر ، استعراضاً سريعاً .
517 – القانون الروماني : تتميز نظرية المسئولية التقصيرية في القانون الروماني بخصائص ثلاث :
أولاً – لم تكن هناك قاعدة عامة تقرر أن كل خطأ ينشأ عنه ضرر يوجب التعويض . بل كانت هناك أعمال معينة تحددها النصوص القانونية هي وحدها التي ترتب المسئولية ، ذلك أن المسئولية التقصيرية كانت في القديم متروكة إلى الأخذ بالثأر ، ثم انتقلت إلى الدية الاختيارية ، ثم إلى الدية الاجبارية ، ثم إلى العقوبة منذ استقر تدخل الدولة لإقرار الأمن والنظام . ومن ثم كانت الأعمال التي تستوجب تدخل الدولة محدودة محصورة لا تنتظمها قاعدة عامة . على أن هذه الأعمال اخذ عددها يزيد بالتدريج في خلال القرون ، وأخذ كل عمل يتسع تطاقه . وأهم مثل لذلك الجريمة التي كان قانون أكيليا ( Aquilia ) ينص عليها . فقد كانت هذه الجريمة محدودة تحديداً ضيقاً ، فلا تشتمل إلا بعض أنواع التلف التي تقع على بعض الأشياء . ثم اتسع نطاقها بالتدريج حتى شمل كل أنواع التلف وحتى عم جميع الأشياء ، على أن يكون كل من العمل والتلف مادياً وأن يكون الشيء الذي يقع عليه التلف مادياً وأن يقع التلف على ذات الشيء ( corpore corpori ) . فإذا كان العمل الذي وقع على الشيء غير مادي ، كإحداث صوت ينذعر من سماعه حيوان فيجفل ، أو وقع عمل مادي على الشيء ولكن لم يصبه يتلف مادي ، كإطلاق حيوان من عقاله فيهرب ، كانت شروط الجريمة غير متوافرة ، ثم تحللت الجريمة من هذه القيود المادية ، ولكن بقيت شروط أخرى ، ولم يصل الرومان إلى التعميم الكامل . وتلى هذه الجريمة في التعميم جريمة الغش ( dol ) . وتلى ذلك أعمال ألحقت بالجرائم ( quasi - delits ) فأصبحت ترتب المسئولية على غرارها . ولكن الرومان لم يصلوا في وقت ما إلى وضع قاعدة عامة تجعل كل خطأ يحدث ضرراً يوبج التعويض .
ثانياً – ولم يكن جزاء هذه الأعمال المحددة التي ترتب المسئولية تتمحض تعويضاً مدنياً . بل إن فكرة العقوبة الجنائية بقيت تتخلل فكرة التعويض المدني كأثر من آثار الماضي وقت الأخذ بالثأر ودفع الدية .
ثالثاً – ولم تظهر فكرة الخطأ كأساس للمسئولية إلا بالتدريج . فلم يكن الخطأ في بادئ الأمر مشترطاً ، بل كان الضرر هو الشرط البارز . ثم أخذت فكرة الخطأ تظهر شيئاً فشيئاً . أما في الأعمال التدليسية أي الغش فإن فكرة الخطأ ظهرت بوضوح حتى استغرقت فكرة الضرر .
518 – القانون الفرنسي القديم : يرجع إلى القانون الفرنسي القديم ، في تطوراته المتعاقبة وتحت تأثير القانون الكنسي ، الفضل في تمييز المسئولية المدنية عن المسئولية الجنائية ، ثم في تمييز المسئولية التقصيرية عن المسئولية العقدية . والغريب أن فقهاء القانون الفرنسي القديم فعلوا ذلك ، في بعض منه ، عن طريق تفسير القانون الروماني تفسيراً خاطئاً . فإن هذا القانون لم يصل في أبعد مدى من تطوره إلى هذا التمييز على نحو واضح . ونستعرض الخصائص الثلاث التي أثبتتاها للقانون الروماني لنرى ماذا صارت إليه في القانون الفرنسي القديم .
أولاً – انتهت القاعد العامة في المسئولية التقصيرية إلى أن توضع وضعاً واضحاً صريحاً وضعها دوما ( Domat ) اكبر فقيه في القانون الفرنسي القديم ، في كتابه المعروف " القوانين المدنية " ( Lois civiles ) على النحو الآتي : " كل الخسائر والاضرار التي تقع بفعل شخص ، سواء رجع هذا الفعل إلى عدم التبصر أو الخفة أو الجهل بما تنبغي معرفته أو أي خطأ مماثل ، مهما كان هذا الخطأ بسيطاً ، يجب أن يقوم بالتعويض عنها من كان عدم تبصره أو خطأه سبباً في وقوعها " ( [926] ) .
ثانياً – وتمحض جزاء المسئولية تعويضاً مدنياً لا تتخلله فكرة العقوبة الجنائية ، على الأقل فيما يتعلق بالضرر الذي يقع على المال . أما الضرر الذي يقع على النفس أو الشرف فبقى الجزاء عليه يحمل أثراً من فكرة العقوبة ، يتمثل في أن دعوى التعويض تنتقل بعد موت الدائن لا إلى ورثته بل إلى أقاربه الأدنين إذ هم أصحاب الثأر .
ثالثاً – وظهرت فكرة الخطأ واضحة وضوحاً تاماً كأساس للمسئولية التقصيرية . بل إن الخطأ العقدي ميز تمييزاً واضحاً عن الخطأ التقصيري وعن الخطأ الجنائي كما تقدم القول : وهذا ما يقوله دوما في هذا الصدد : " يمكن التمييز ، في الخطأ الذي يكون من شأنها أن يحدث ضرراً ، بين أنواع ثلاثة : خطأ يتعلق بجناية أو بجنحة – وخطا يرتكبه الشخص الذي يخل بالتزاماته العقدية ، كما إذا لم يسلم البائع الشيء المبيع أو لم يقم المستأجر بالترميمات التي التزم بها – وخطأ لا علاقة له بالعقود ولا يتصل بجناية أو بجنحة ، كما إذا ألقى شخص عن رعونة شيئاً من النافذة فأتلفت ملابس ( أحد المارة ) ، وكما إذا أحدث حيوان ضرراً وكانت حراسته غير محكمة ، وكما إذا اشعل شخص حريقاً عن تقصير منه ، وكما إذا آل بناء إلى السقوط بسبب عدم ترميمه فوقع على بناء آخر وأحدث به ضرراً ( [927] ) " .
519 – التقنين المدني الفرنسي : وقد ظهرت هذه الخصائص الثلاث بوضوح في التقنين المدني الفرنسي . فقد صارت المسئولية التقصيرية في هذا التقنين قاعدة عامة ، وتميزت عن المسئولية الجنائية ، وقامت على أساس الخطأ .
وقد نصت المادة 1382 من هذا التقنين على أن " كل عمل أياً كان يوقع ضرراً بالغير يلزم من وقع بخطأه هذا الضرر أن يقوم بتعويضه " . ثم نصت المادة 1383 على ما يأتي : " كل شخص يكون مسئولا عن الضرر الذي يحدثه لا بفعله فحسب ، بل أيضاً بإهماله أو بعدم تبصره " . ويبدو أن واضعي التقنين الفرنسي قصدوا النص على الأعمال العمدية في المادة 1382 ، وخصصوا المادة 1383 للأعمال غير العمدية من إهمال أو عدم تبصر . ولكن نص المادة 1382 فيما ورد به من عموم لا يحتمل هذا التحديد ، بل هو شامل لجميع الأخطاء التي تترتب عليها المسئولية التقصيرية ، عمدية كانت أو غير عمدية .
ثم انتقل واضعوا التقنين الفرنسي من المسئولية الشخصية إلى المسئولية عن الأشخاص وعن الأشياء . وهذه أيضاً أقاموها على فكرة الخطأ . فنصت المواد 1384 – 1386 على المسئولية عن الأولاد والتلاميذ وصبيان الحرفة ، ومسئولية المتبوع عن التابع ، والمسئولية عن الحيوان ، والمسئولية عن البناء . وفي كل هذه النصوص لم يرد واضعوا التقنين الفرنسي أكثر من تطبيق مبدأ الخطأ على حالات معينة ، هي الحالات التي يسال فيها الشخص لا عن عمل صدر منه شخصيا ، بل عن عمل أتى به آخر في رقابته أو حدث من شيء تحت يده . ولكن مسئوليته في كل هذه الحالات تقوم على خطا منسوب إليه شخصاً ، فقد قصر في رقابة الغير أو أهمل في حراسة الشيء .
520 – تطور المسئولية التقصيرية منذ التقنين المدني الفرنسي – نظرية تحمل التبعة ( risqué ) : وقد تطورت المسئولية التقصيرية منذ صدور التقنين الفرنسي تطوراً عميقاً . ودار تطورها حول فكرة الخطأ . فأخذت هذه الفكرة تضعف شيئاً فشيئاً حتى كادت تختفى في بعض الحالات ، تارة تحت ستار الخطأ المفروض فرضاً قابلاً لإثبات العكس ، وطوراً تحت ستار الخطأ المفروض فرضاً لا يقبل إثبات العكس ، بل حتى اختفت تماماً وأخلت مكانها لنظرية تحمل التبعة ( risqué ) . وكان الفقه هو الرائد لهذا التطور ، أمسك زمامه في يده ، وسبق إليه القضاء . وسار القضاء وراء الفقه بخطوات مرددة ، ولم يشأ أن يسير الشوط إلى نهايته ، فوقف عند الخطأ المفروض ، ولم يجاوزه إلى مسئولية لا تقوم على خطا أصلاً به على محض تحمل التبعة .
ونفضل ما أجملناه .
كان للتطور الاقتصادي السريع منذ القرن التاسع عشر اكبر الأثر في تطور نظريات المسئوليات التقصيرية فقد تقدمت الصناعة تقدماً عظيما باستحداث الآلات الميكانيكية وشتى وسائل النقل . ونجم عن ذلك أن أصبح الخطر الكامن في استعمال هذه المخترعات أقرب احتمالا وأكثر تحققاً مما كان عليه الأمر في الماضي . فعاد ركن الضرر في المسئولية التقصيرية إلى البروز حتى كاد يغطي على ركن الخطأ . وبدأ تطور المسئولية يرجع إلى نقطة الابتداء حيث كان المعيار مادياً لا شخصياً .
وكان الفقه أول من استجاب لهذا التطور ، متأثراً بعاملين . أولهما علمي هو ما نشرته المدرسة الوضعية ( ecole positiviste ) الايطالية بزعامة قرى ( Ferri ) من وجوب التعويل على الناحية الموضوعية لا على الناحية الذاتية ، حتى في المجرم نفسه ، فيعاقب لا بالنظر لما يستحقه لشخصه ، بل بالنظر لما تقتضيه حماية المجتمع . وإذا أمكن القول بالنظرية الموضوعية في القانون الجنائي ، فأولى بالقانون المدني أن يكون الميدان الخصب لهذه النظرية . والعامل الثاني عملي ، يرجع إلى ازدياد مخاطر العمل زيادة كبيرة من شأنها أن تجعل عسيراً على العامل في الكثرة الغالبة من الأحوال أن يثبت الخطأ في جانب رب العمل حتى يستطيع الرجوع عليه بالتعويض .
حاول الفقه في البدء أن يعالج الأمر عن طريق الاحتيال على بعض نصوص التقنين المدني الفرنسي . فشبه الآلات بالبناء ، وما دام يكفي في البناء إثبات العيب حتى يكون صاحبه مسئولا . كذلك الآلات إذا اثبت العامل عيباً فيها كان رب العمل مسئولا عما تحدثه الآلات المعيبة من الضرر . ولكن تيسير الإثبات على هذا النحو لم يكن كافياً ، فإن الصعوبة في إثبات العيب في الآلة تكاد لا تقل عن الصعوبة في إثبات الخطأ في جانب رب العمل . ثم لجأ الفقه إلى رطيقة أخرى ، فجعل رب العمل مسئولا مسئولية عقدية عن سلامة العامل بموجب عقد العمل ذاته . ولكن القضاء لم يماش الفقه في استخلاص التزام من عقد العمل بضمان سلامة العامل .
ومنذ رأي الفقه أن هذه المحاولات لم تجد نفعاً ، واجه الصعوبة من طريق مباشر . فنادى بأنه ليس من الضروري أن يكون الخطأ أساساً للمسئولية التقصيرية ، ويجوز أن تقوم هذه المسئولية لا على فكرة الخطأ بل على فكرة الضرر وتحمل تبعته . وهذه هي نظرية تحمل التبعة . فمن خلق تبعات يفيد من مغانمها ، وجب عليه أن يحمل عبء مغارمها . وقد قام على رأس الفقهاء ، ينادي بهذه النظرية . سالي وجوسران ، وبنياها على تفسير جديد محور للمادتين 1382 و 1384 من التقنين المدني الفرنسي . فهذبا إلى أن المشرع الفرنسي لا يشترط ركن الخطأ في المادة 1382 إذ يقول : " كل عمل أياً كان يوقع ضرراً بالغير . . " ( Tout fait quelconque de l'homme qui cause a autrui un dommage ) ، وأنه رسم قاعدة عامة في المسئولية عن الأشياء في الفقرة الأولى من المادة 1384 إذ يقول : " يكون الشخص مسئولا . . . عن الضرر . . الذي يحدث بفعل الأشياء التي هي في حراسته " . ( On est responsible . .du dommage . . du dommage . qui est cause par le fait des choses que l'on a sous sa garde ) على أن الفقهاء لم يعتمدوا على النصوص وحدها ، بعد تحويلها هذا التحوير الذي لم يخطر ببال المشرع الفرنسي وقت وضع التقنين ، بل اعتمدوا فوق ذلك على صياغة نظرية فقهية كاملة اسموها " نظرية تحمل التبعات المستحدثة " ( theorie des risques crees ) أو النظرية الموضوعية ( theorie objective ) يقابلون بها النظرية الشخصية ( theorie subjective ) التي تقوم على فكرة الخطأ . وقالوا أن النظرية الشخصية لم تعد تتفق لا مع المنطق ولا مع التطور الاقتصادي . فهي أولاً تصطدم مع المنطق ، فمنذ انفصلت المسئولية المدنية عن المسئولية الجنائية ، وأصبح التعويض المدني لا دخل للعقوبة فيه ، لم يعد هناك معي لاستبقاء الخطأ أساساً للمسئولية المدنية ، ويجب أن يكون أساس هذه المسئولية الضرر الذي يستوجب التعويض ، لا الخطأ الذي يقتضى العقوبة . وهي بعد ذلك تصطدم مع التطور الاقتصادي ، وذلك منذ أصبحت المخترعات الحديثة مورد رزق كبير ومصدر خطر جسيم . فما دام الشخص ينتفع بالشيء فمن العدل أن يحمل تبعته ، والغرم بالغنم . وإذا كانت المسئولية الشخصية تصلح في نظام اقتصادي يقوم على الزراعة ، ففي نظام اقتصادي قوامه الصناعة لا تصلح إلا المسئولية الموضوعية . فالواجب إذن في رأي هؤلاء الفقهاء هجر المسئولية الشخصية إلى المسئولية الموضوعية ، أي هجر المسئولية القائمة على خطأ ولو كان مفروضاً إلى المسئولية المجردة عن أي خطأ . ويوجه هذا النظر أساس معقول يقوم على الاعتبارات الآتي : يقع ضرر لا مخطأ من أحد ، فمن الذي يجب أن يتحمل هذا الضرر ؟ أيتحمله المضرور وهو الذي خضع لتبعة لم يكن له يد في ايجادها وليس هو الذي يفيد منها ، أهم يتحمله محدث الضرر وهو الذي أوجد هذه التبعة وهو الذي يفيد منها ؟ أضف إلى ذلك أن العلاقات المدنية أصبحت الآن علاقات مالية أكثر منها علاقات شخصية . وليس يرهق صاحب المصنع أن يحمل عن عماله عبء ما يصيبهم من ضرر ، فإن هذا يدخل في مخاطر صنعته ، وهو أقدر من العامل على مواجهة هذه المخاطر ، وبحسبه أن يلجأ إلى التأمين لمصلحة عماله ، فإن ذلك لا يبهظه ، بل هو يحقق به معنى التضامن الاجتماعي . ومن هنا يمكن تحديد نطاق للنظرية الموضوعية : عمل كثير الأخطار ، كبير المنفعة ، يسهل التأمين في شأنه . هذه هي العناصر الثلاثة التي إذا اجتمعت جعلى تطبيق النظرية الموضوعية أمراً ميسوراً ، لا عنت فيه ولا إرهاق .
والفرق الجوهري ما بين المسئولية الشخصية والمسئولية الموضوعية هو أن الأولى تقوم على الخطأ ، ولو كان هذا الخطأ مفروضاً ، ولو كان هذا الفرض غير قابل لإثبات العكس . فأساس المسئولية الخطأ لا الضرر ، والمسئول هو الحارس لا المنتفع . أما المسئولية الموضوعية فتقوم على الضرر لا على الخطأ ، والمسئول هو المنتفع لا الحارس . ويترتب على ذلك أن المدين في المسئولية الشخصية ، إذا كانت المسئولية قائمة على خطأ واجب الإثبات ، يستطيع أن يدفعها عن نفسه إذا عجز الدائن عن إثبات خطأ في جانبه . فإذا كانت المسئولية قائمة على خطأ مفروض فرضاً يقبل إثبات العكس ، استطاع أن يدفعها بإثبات أنه لم يخطئ . فإن كان فرض الخطأ لا يقبل إثبات العكس ، استطاع المدين أن يدفع المسئولية بإثباته السبب الأجنبي . فالدين يستطيع دائماً أن يدفع المسئولية الشخصية عن نفسه ، إما بنفي الخطأ في ذاته ، وإما بتقييم كسب للضرر الذي وقع . أما المسئول في المسئولية الموضوعية فلا يستطيع دفع هذه المسئولية حتى لو تقى الخطأ ، وحتى لو اثبت السبب الأجنبي . فما دام الضرر قد وقع من جراء نشاطه ، ولو بغير خطأ منه ، فهو المسئول عنه .
هذا هو ما انتهى إليه فقه النظرية الموضوعية في أوج انتشارها ولكن ما لبث الفقه أن تحول عنها شيئاً فشيئاً ، ووجد غناء في نظرية الخطأ المفروض . ولم يبق ثابتاً على النظرية في معناها الواسع الشامل إلا قلة من الفقهاء ، فيهم جوسران وديموج وسافاتييه . وكان السبب في وقوف الفقه عن المضي في النظرية الموضوعية موقف كل من التشريع والقضاء في فرنسا .
أما التشريع الفرنسي فقد حدد نطاقاً ضيقاً للنظرية الموضوعية ، وبقى بعيداً عن أن يأخذ بها كقاعدة عامة . فقد اقتصر على الأخذ بها في بعض نواحي النشاط وما يتولد عنها من تبعات . اخذ بها في تبعات الحرفة ( risqué professionnel ) وذلك في تشريع العمال الذي صدر في سنة 1898 ، ثم امتد بتشريعات متعاقبة من الصناعة إلى التجارة ، ثم إلى الزراعة ، ثم إلى الخدمة المنزلية . وأدمجت كل هذه التشريعات في تشريع موحد صدر في 19 أكتوبر سنة 1945 ، ثم في 30 أكتوبر سنة 1946 . والتشريع يرتب المسئولية على مخاطر العمل ، فإذا اصيب العامل بضرر في أثناء عمله أو بمناسبة هذا العمل ، حكم له بتعويض مقدر ( forfaitaire ) لا يصل إلى التعويض الكامل . ولا تنتفي المسئولية عن رب العمل حتى لو أثبت الحادث الفجائي أو خطأ المضرور أو عمل الغير ، وإنما تنتفي بإثبات القوة القاهرة ، واخذ المشرع الفرنسي بالمسئولية الموضوعية أيضاً في " تبعات الطيران " ( risqué de navigation aerienne ) ، فقد صدر تشريع في سنة 1924 يجعل المنتفع بالطيارة مسئولا عن كل ما تحدثه طيارته من اضرار . ولا تنتفي المسئولية حتى لو اثبت المسئول القوة القاهرة أو الحادث الفجائي أو عمل الغير ، وإنما تنتفي بإثبات خطأ المضرور ، واخذ المشرع الفرنسي بالمسئولية الموضوعية اخيراً في " تبعات التضامن الاجتماعي " ( risqué social ) . من ذلك أن تشريعا ًدر في سنة 1895 يجعل الدولة مسئولة عن تعويض المحكوم عليه في جنحة أو جناية في الأحوال التي يجوز له فيها طلب مراجعة القضية ( demande en revision ) ويثبت عند المراجعة أنه برئ ( أنظر المادة 446 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي ) . وهذه مسئولية موضوعية عن تبعات الأخطاء القضائية ( crreurs judiciaries ) ومن ذلك أيضاً أن تشريعاً در في سنة 1919 وآخر في سنة 1921 يوجبان تعويض ضحايا الحرب وضحايا مصانع الذخيرة في أحوال معينة ، وهذه مسئولية موضوعية عن تبعات الدفاع الوطني ( defense nationale ) . ولا يزال أنصار المسئولية الموضوعية ينظرون إلى هذه التشريعات المختلفة في كثير من التفاؤل . فهذه تبعات الحرفة ، وتبعات الطيران ، وتبعات التضامن الاجتماعي ، قد رتب المشرع المسئولية عليها جميعاً . فليس بعيداً أن يرتب المسئولية بعد ذلك على " تبعات الملكية " ( risqué de propriete ) ، ثم على تبعات النشاط بوجه عام ( risqué d'activite ) . حتى يستكمل بذلك جميع الصور في " تبعات الخطر المستحدث " ( risqué cree ) . ولكننا لا نزال بعيدين كثيراً في ميدان التشريع عن استغراق كل هذه الصور . بل إن أهم صورة فيها ، وهي صورة تبعات الحرفة ، ليست تسجيلا كاملا للمسئولية الموضوعية ما دام المضرور لا ينال تعويضاً شاملا عن كل ما لحقه من الضرر . ثم إن المشرع الفرنسي قد أصدر ، من جهة أخرى ، تشريعات هي نفي صريح للمسئولية الموضوعية ، بل ورجوع عن الخطأ المفروض إلى الخطأ الواجب الإثبات ( [928] ) .
وأما القضاء الفرنسي فلم يسلم بالمسئولية الموضوعية . بل هو يشترط دائماً أن تقوم المسئولية على الخطأ . ولكنه سار شوطاً بعيداً في جعل هذا الخطأ مفروضاً في أحوال كثيرة . وسنرى ذلك تفصيلا عند الكلام في المسئولية عن الأشخاص وعن الأشياء . واستعان القضاء الفرنسي ، إلى جانب الخطأ مفروضاً في أحوال كثيرة . وسنرى ذلك تفصيلا عند الكلام في المسئولية عن الأشخاص وعن الأشياء . واستعان القضاء الفرنسي ، إلى جانب الخطأ المفروض في المسئولية التقصيرية ، بالمسئولية العقدية في بعض الحالات ، وذلك عن طريق استخلاص التزام بضمان السلامة ( obligation de securite ) في بعض العقود وبخاصة في عقد النقل . ومهما يكن من أمر ، فإن القضاء الفرنسي ثبت على فكرة الخطأ أساساً للمسئولية التقصيرية ، ولم يحد عن ذلك إلى نظرية تحمل التبعة . وهو مع ذلك قد وصل إلى كثير من النتائج العملية التي تقول بها أنصار المسئولية الموضوعية ، وذلك عن طريق الخطأ المفروض .
521 – المسئولية التقصيرية في التقنين المصري القديم : وقد أخذ التقنين المصري القديم قواعد المسئولية التقصيرية عن القانون الفرنسي في وقت كان القضاء الفرنسي فيه قد بدأ يأخذ بالخطأ المفروض . فوضع القاعدة العامة في المسئولية التقصيرية ، وأقامها على خطأ واجب الإثبات . إذ نص في المادتين 151 / 212 على ما يأتي : " كل فعل نشأ منه ضرر للغير يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر " . ثم عرض لحالات الخطأ المفروض على غرار القانون الفرنسي ، فأكمل نص المادتين 151 / 212 بما يقرر مسئولية المكلف بالرقابة عمن هم تحت رعايته ، وأقام هذه المسئولية على خطأ مفروض ، إذ قضى في عبارة غامضه بما يأتي : " وكذلك يلزم الإنسان بضرر الغير الناشيء عن إهمال من هم تحت رعايته أو عدم الدقة والانتباه منهم أو عن عدم ملاحظته اياهم " . ثم انتقل إلى مسئولية المتبوع عن التابع ( م 152 / 214 ) ، فالمسئولية عن الحيوان ( م 153 / 215 ) ، فبنى المسئولية في هاتين الحالتين أيضاً على خطأ مفروض . ولم ينقل عن القانون الفرنسي النص الخاص بالمسئولية عن البناء . كذلك لم ينقل عن القضاء الفرنسي المسئولية عن الأشياء على الوجه الذي استقر عليه هذا القضاء أخيراً في تفسير للفقرة الأولى من المادة 1384 من التقنين المدني الفرنسي ، إذ لم يكن هذا القضاء وقت ظهور التقنين المصري القديم قد استقر على هذا التفسير .
أما نظرية تحمل التبعة فلم يأخذ بها التقنين المدني القديم . وإذا كان بعض الفقهاء في مصر نادي بوجوب الأخذ بها ( [929] ) ، فإن القضاء المصري في أحكامه ، عدا النذر اليسير ( [930] ) ، قد قطع في عدم الأخذ بها ، وأعلنت محكمة النقض هذا في عبارات واضحة صريحة ( [931] ) .
522 – المسئولية التقصيرية في التقنين المصري الجديد : كان التقنين المصري القديم قد التزم الإيجاز التام في النصوص التي أوردها في المسئولية التقصيرية ، على النحو الذي رأيناه فيما تقدم . أما التقنين الجديد فقد أورد في هذا الموضوع الكبير الأهمية عدداً غير قليل من النصوص ، عالج فيها العيوب الجسيمة التي كانت تشوب نصوص التقنين القديم ( [932] ) .
ويتبين من النصوص التي أوردها التقنين الجديد أمران :
أولاً – أن هذا التقنين لم يأخذ بنظرية تحمل التبعة . وقد أحسن في ذلك صنعاً . إذ يجب في هذا الصدد أن يسلك المشرع المصري الطريق الذي سبقه إليه المشرع الفرنسي ، فيصدر تشريعات خاصة في مسائل معينة يقتضى التطور الاقتصادي أن يؤخذ فيها بنظرية تحمل التبعة ، فيأخذ بها في هذه التشريعات إلى حد معقول . وهذا هو النهج الذي سار عليه المشرع المصري فعلا ، متمشاً في ذلك مع مقتضيات الظروف الاقتصادية للبلاد ( [933] ) .
ثانياً – جعل التقنين الجديد المسئولية عن الأعمال الشخصية قائمة على خطأ واجب الإثبات . أما المسئولية عن عمل الغير والمسئولية الناشئة عن الأشياء فقد أقامهما على خطأ مفروض .
ونحن نساير هذا الترتيب . فنبحث المسئولية التقصيرية في فصلين :
( الفصل الأول ) في المسئولية عن الأعمال الشخصية .
( والفصل الثاني ) في المسئولية عن عمل الغير والمسئولية الناشئة عن الأشياء .
الفصل الأول
المسئولية عن الأعمال الشخصية
523 – مسئولية تقوم على خطأ واجب الإثبات : المسئولية عن الأعمال الشخصية . أي عن عمل شخصي يصدر من المسئول نفسه ، هي مسئولية تقوم على خطأ واجب الإثبات . فالخطأ هنا غير مفروض ، بل يكلف الدائن إثباته فيجانب المدين . وهذه هي القاعدة العامة في المسئولية التقصيرية ، لم ينحرف القانون عنها إلى مسئولية تقوم على خطأ مفروض إلا في حالات معينة حصرتها النصوص .
والمسئولية ، في قاعدتها العامة ، لها أركان إذا توافرت ترتبت على المسئولية آثارها . فنحن نتكلم في أركان المسئولية ، ثم في آثار المسئولية .
الفرع الأول
أركان المسئولية التقصيرية
524 – أركان ثلاثة : تنص المادة 162 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" كل خطأ سبب ضرراً للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض ( [934] ) " .
ويتبين من هذا النص أن المسئولية التقصيرية ، كالمسئولية العقدية ، لها أركان ثلاثة : ( 1 ) الخطأ ( 2 ) الضرر ( 3 ) علاقة السببية ما بين الخطأ والضرر . فنتكلم عن هذه الأركان الثلاثة تباعاً .
المبحث الأول
الخطأ ( * )
( La faute )
525 – مسألتان : تحدد أولاً فكرة الخطأ الذي يوجب المسئولية التقصيرية ، ثم نستعرض تطبيقات مختلفة لهذه الفكرة .
المطلب الأول
تحديد فكرة الخطأ في المسئولية التقصيرية
526 – آراء مختلفة في تحديد فكرة الخطأ : تضاربت الآراء في تحديد معنى الخطأ في المسئولية التقصيرية ، ونستعرض من هذه الآراء أكثرها ذيوعاً ، وهي أربعة :
فرأى شائع بين الفقهاء يقول إن الخطأ هو العمل الضار غير المشروع ، أي العمل الضار المخالف للقانون ( [935] ) . وهذا رأي لا يقدمنا كثيراً في تحديد معنى الخطأ . إذ يبقى أن نعرف ما هي الأعمال التي تلحق ضرراً بالغير وينهى عنها القانون . وإذا كانت هناك نصوص تعين بعض هذه الأعمال فإن الكثرة الغالبة منها لم يرد فيها نص . فيكون علينا أن نرسم لها ضوابط تعينها ، وهذا ما نتلمسه فلا نجده في هذا الرأي .
ورأى ثان – قال به الأستاذ بلانيول – يعرف الخطأ بأنه هو الإخلال بالتزام سابق ( [936] ) . يبقى هنا أيضاً أن نعرف ما هي هذه الالتزامات التي يعتبر الإخلال بها خطا . يحاول بلا نيول أن يحصرها في أربعة : الامتناع عن العنف ، والكف عن الغش ، والاحجام عن عمل لم تتهيأ له الأسباب من قوة أو مهارة ، واليقظة في تأدية واجب الرقابة على الأشخاص أو على الأشياء . وليس هذا تعريفاً للخطأ ، بل هو تقسيم لأنواعه .
ورأي ثالث للأستاذ إيمانوييل ليفى يقول إن تحديد الخطأ يقتضي التوفيق ما بين أمرين : مقدار معقول من الثقة توليه الناس للشخص فمن حقهم عليه أن يحجم عن الأعمال التي تضر بهم ، ومقدار معقول من الثقة يوليه الشخص لنفسه فمن حقه على الناس أن يقدم على العمل دون أن يتوقع الإضرار بالغير . فالشخص ما بين الإقدام والاحجام يشق لنفسه طريقاً وسطاً يساير ثقته بنفسه ، ولا يتعارض مع ثقة الناس به . ويدعى هذا المذهب بمذهب الإخلال بالثقة المشروعة ( confiance legitime trompee ) وهو كما نرى لا يتضمن ضابطاً بين هذا الطريق الوسط الذي يعصم الشخص من الخطأ إذا هو سلكه .
ورأى رابع يحلل الخطأ إلى عنصرين ، فهو اعتداء على حق يدرك المعتدى فيه جانب الاعتداء كما يقول ديموج ، أو هو إخلال بواجب يتبين من اخل به أنه اخل بواجب كما يقول سافاتييه ، أو هو انتهاك لحرمة حق لا يستطيع من انتهاك حرمته أن يعارضه بحق أقوى أو بحق مماثل كما يقول جوسران . والاعتداء على الحق ، والإخلال بالواجب ، والحق الأقوى أو الحق المماثل كل هذه الألفاظ لا تحدد معنى الخطأ ، بل هي ذاتها في حاجة إلى تحديد .
527 – الخطأ له ركنان – ركن مادي وركن معنوي : والرأي الذي استقر فقها وقضاء يقرب معنى الخطأ في المسئولية التقصيرية من معناه في المسئولية العقدية هو إخلال بالتزام عقدي . وقد رأينا أن الالتزام العقدي الذي يعد الإخلال به خطأ في المسئولية العقدية إما أن يكون التزاماً بتحقيق غاية ( obligation de resultat ) ، وإنما أن يكون التزاماً ببذل عناية ( obligation de moyen ) . أما الالتزام القانوني الذي يعتبر الإخلال به خطأ في المسئولية التقصيرية فهو دائماً التزام ببذل عناية . وهو أن يصطنع الشخص في سلوكه اليقظة والتبصر حتى لا يضر بالغير . فإذا انحرف عن هذا السلوك الواجب ، وكان من القدرة على التمييز بحيث يدرك أنه قد انحرف .ن كان هذا الانحراف خطأ يستوجب مسئوليته التقصيرية .
ومن ثم يقوم الخطأ في المسئولية التقصيرية على ركنين : الركن الأول مادى وهو التعدى ( culpabilite ) ، والركن الآخر معنوى وهو الإدراك ( imputabilite , discernament ) .
1 – الركن المادي : التعدى
528 – مقياس التعدى مقياس موضوعي لا مقياس ذاتي : نستظهر مما تقدم أن الخطأ انحراف في السلوك . فهو تعد يقع من الشخص في تصرفه ، ومجاوزة للحدود التي يجب عليه التزامها في سلوكه . فكيف يقع هذا الانحراف ؟ وما هو ضابطه ؟
يقع الانحراف إذا تعمد الشخص الإضرار بالغير ما يسمى بالجريمة المدنية ( delit civil ) – أو إذا هو دون أن يتعمد الإضرار بالغير أهمل وقصر – وهذا ما يسمى بشبه الجريمة المدنية ( quasi – delit civil ) .
أما الضابط في الانحراف فيتصور أن يرد إلى إحدى وجهتين : وجهة ذاتية ( subjectif ) أو وجهة موضوعية ( objectif ) . فيقاس التعدي الذي يقع من الشخص مقياساً شخصياً ( in concreto ) إذا اخترنا الوجهة الذاتية ، أو مقياساً مجرداً ( in abstracto ) إذا آثرنا الوجهة الموضوعية .
والمقياس الشخصي يستلزم أن ننظر إلى شخص المعتدي نفسه ، لا إلى التعدي في ذاته . أو نحن ننظر إلى التعدى من خلال شخص المتعدى . فنبحث هل ما وقع منه يعتبر بالنسبة إليه انحرافاً في السلوك ، أي في سلوكه هو . فقد يكون على درجة كبيرة من اليقظة وحسن التدبير ، فأقل انحراف في سلوكه يكون تعدياً . وقد يكون دون المستوى المعادي في الفطنة والذكاء ، فلا يعتبر متعدياً إلا إذا كان الانحراف في سلوكه انحرافاً كبيراً بارزاً . وقد يكون في المستوى العادي المألوف . فالتعدي بالنسبة إليه لا يكون انحرافاً في السلوك بهذا القدر من البروز أو على تلك الدرجة من الضآلة ، ولكنه انحراف إذا وقع يعتبره جمهور الناس انحرافاً عن السلوك المألوف . والمقياس الشخصي على هذا النحو لا شك في عدالته . فهو يأخذ كل شخص بجريرته ، ويقيس مسئوليته بمعيار من فطنته ويقظته . وهو في الوقت ذاته يربط ما بين الخطأ القانوني والخطأ الأدبي . فالشخص لا يكون قد ارتكب خطأ قانونياً إلا إذا احس أنه ارتكب خطأ أدبياً . فضميره دليله ووازعه ، يشعره بما يهم أن يرتكب من خطأ ، ويثنيه عنه ، أو يسجله عليه ولكن المقياس الشخصي فيه عيب جوهري لا يصلح معه أن يكون مقياساً منضبطاً وافياً بالغرض . فهو يقتضي أن ننسب الانحراف في السلوك إلى صاحبه ، فننظر إلى الشخص ، ونكشف عما فيه من يقظة وما خلص له من فطنة ، وما درج عليه من عادات . وهذا كله أمر خفي ، بل لعله أن يكون من الخفاء بحيث يستعصى على الباحث المدقق كشفه . ثم هو بعد ذلك يختلف من شخص إلى شخص فالانحراف عن السلوك المألوف ، تراه الناس في العادة انحرافاً محققاً ، يكون تعدياً بالنسبة إلى شخص ذى فطنة أو شخص عادي ، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى شخص دون الاثنين في الفطنة . فما ذنب ذحية هذا الانحراف ؟ وما الذي يعنيه – وقد حاق به الضرر – من أن يكون المتسبب فيه شخصاً فوق المستوى العادي أو دون هذا المستوى وهل التعويض جزاء جنائي ينظر فيه إلى شخص المجرم قبل أن ينظر إلى الجريمة . فيصيب المجرم في نفسه قبل أن يصيبه في ماله ؟ أو هو جزاء مدني ينظر فيه إلى التعدي قبل أن ينظر إلى المتعدى ، فيصيب المسئول في ماله قل أن يصيبه في نفسه ؟ لا شك في أن التعويض جزاء مدني لا عقوبة جنائية . ولا شك كذلك في أن الدائن بمقتضى العمل غير المشروع ، كالدائن بمقتضى العقد ، ما تعنيه الظواهر النفسية بقدر ما تعنيه الظواهر الاجتماعية . فالخطأ كالإرادة شيء اجتماعي قبل أن يكون ظاهرة نفسية ، وكما يقف الدائن في العقد عند الإرادة الظاهرة يستخلص منها الإرادة الباطنة دون أن يعبأ بما يكنه مدينه من سريرة خفية ، كذلك الدائن في العمل غير المشروع ينبغي أن يقف عند الانحراف عن السلوك المألوف لا يعبأ بما ينطوي عليه مدينه من تراخ أو يقظة .
من أجل هذا كله رجح لأخذ بالمقياس المجرد دون المقياس الشخصي . فيقاس الانحراف بسلوك شخص تجرده من ظروفه الشخصية . هذا الشخص المجرد هو الشخص العادي الذي يمثل جمهور الناس ، فلا هو خارق الذكاء شديد اليقظة فيرتفع إلى الذروة ، ولا هو محدود الفطنة خامل الهمة فينزل إلى الحضيض : وهو الشخص الذي اتخذناه من قبل مقياساً للخطأ العقدي في الالتزام ببذل عناية ، حيث يطلب من المدين في الأصل أن يبذل عناية الرجل العادي . وهو شخص عرفه القانون الروماني ، وسماه برب الأسرة العاقل ( bon pere de famille ) ننظر إلى المألوف من سلوك هذا الشخص العادي ، ونقيس عليه سلوك الشخص الذي نسب إليه التعدي . فإن كان هذا لم ينحرف في سلوكه عن المألوف من سلوك الشخص العادي . فهو لم يتعد ، وانتفى عنه الخطأ ، ونفض المسئولية عن كاهله . أما إذا كان قد انحرف ، فمهما يكن من أمر فطنته ويقظته ، فقد تعدى ، وثبت عليه الخطأ ، وترتبت المسئولية في ذمته . بهذا وحده يسلم لنا مقياس منضبط صالح واف بالغرض . فلا نحن في حاجة إلى البحث عن خبايا النفس والكشف عن خفايا السرائر ، ولا المقياس يختلف في تطبيقه من شخص إلى شخص . بل يصبح التعدي أمراً واحداً بالنسبة إلى جميع الناس ، إذ أن معياره لا يتغير . فإذا جاوز الانحراف المألوف من سلوك الناس صار تعدياً ، يستوي في ذلك أن يصدر من فطن ذكي أو وسط عادي ، أو خامل غبي . ويصبح الخطأ شيئاً اجتماعياً لا ظاهرة نفسية ، فتستقر الأوضاع ، وتنضبط الروابط القانونية ( [937] ) .
ولا نريد في دفاعنا عن المقياس المجرد – وهو المقياس الذي أخذ به الجمهور من رجال الفقه والقضاء – أن تخفى ما ينطوي عليه من تسليم جزئي بقيام المسئولية على تحمل التبعة ( risqué ) . ذلك أن الشخص الذي هو دون المستوى العادي من الفطنة واليقظة . إذا اخذ بهذا القياس ، كان عليه أن يتحمل تبعة نشاطه فيما ينزل فيه عن المستوى العادي . فقد يكون استنفد ما وسعه من جهد ، وبذل ما في طاقته من حرص ويقظة ، ولكن ذلك كله لم ينهض به إلى مستوى الشخص العادي . فبعد انحرافه عن هذا المستوى تعديا ، ويصبح مسئولا . ومسئوليته هنا إذا كانت تقوم على خطأ قانوني بالنسبة إلى المقياس المجرد ، فهي لا تقوم على أي خطا بالنسبة إلى المقياس الشخصي ، ومن هنا يجيء تحمل التبعة . فكأن المطلوب من الناس جميعاً ، وهم مأخوذون بهذا المقياس المجرد ، أو يبلغوا من الفطنة واليقظة ما بلغ أوساطهم من ذلك . فمن علا عن الوسط كان علوه غنما ، ومن نزل عنه كان نزوله غرما . هكذا يعيش الإنسان في المجتمع ، وهذا هو الثمن الذي يدفعه للعيش فيه .
529 – التجرد من الظروف الداخلية لا من الظروف الخارجية : وهذا المقياس المجرد – مقياس السلوك المألوف من الشخص العادي – قد تجرد كما قلنا من جميع الظروف الذاتية الملابسة لشخص المتعدى ، إذ هي ظروف داخلية متصلة به ، فهو مأخوذ بمقياس السلوك المألوف من الشخص العادي حتى لو كان هو محدود الذكاء ، قليل الفطنة ، ضعيف الإدراك ( [938] ) ، وهو مأخوذ به أيضاً حتى لو كان بطيء الحركة ، خامل الهمة ، بليد الطبع . و هو مأخوذ به كذلك حتى لو كان عنيف التصرف ، ثائر الطبع ، عصبي المزاج – ولو أن سائق السيارة ليلا في المدينة كان ضعيف النظر ، أو كان صبياً صغيراً في السنن أو كان ريفياً لم يتعود القيادة في المدن ، أو كان امرأة لا تضبط أعصابها ، فإن شيئاً من هذا لا يغير من وجه المسألة . فما زال السائق مأخوذاً بمقياس السلوك المألوف من الشخص العادي . والشخص العادي هنا رجل سليم النظر . تعود القيادة ، يستطيع عند الاقتضاء أن يضبط أعصابه . هذه هي الصفات التي ألفتها الناس ، وما تنتظر بحق أن يكون عليها سائق السيارة ليلا في المدينة .
نقول : سائق السيارة ليلا في المدينة ، ولم نقل سائق السيارة إطلاقاً دون تحديد . ذلك أن الشخص العادي الذي جعل مقياساً مجرداً ، إذا كنا قد جردناه من جميع الظروف الملابسة لشخص المتعدى إذ هي ظروف داخلية تتصل بهذا الشخص بالذات ، فليس لنا أن نجرده من الظروف الخارجية إذ هي ظروف عامة تتناول جميع الناس . فلا نجرده أولاً من ظروف الزمان . فهو يسوق السيارة ليلا . وظرف الزمان هذا ظرف عام خارجي ، لا ينفرد به ، بل يستوي فيه مع سائر سائقي السيارات . ولا نجرده ثانياً من ظروف المكان . فهو يسوق السيارة في المدينة . وظرف المكان هذا هو أيضاً ظرف عام خارجي كظرف الزمان . وهناك ظروف أخرى خارجية عامة قد تحيط بسائق السيارة ، فيجب الاعتداد به ، وعدم التجرد منها . فهو قد يسوق سيارته في منعطفات ضيقة ، أو في شوارع مزدحمة بالناس ، أو على أرض مبللة . ففي مثل هذه الظروف الخارجية يجب عليه أن يصطنع الحيطة والأناة في السير . وهو قد يسوق سيارته في شوارع فسيحة أو في طرق خالية من الناس ، أو يخترق صحراء في طريق ممهد ، ففي مثل هذه الظروف الخارجية لا ضير عليه إذا هو أسرع .
نستظهر إذن مما قدمناه القاعدة الآتية : إن الشخص العادي ، الذي نجعل سلوكه المألوف مقياساً للخطأ . يجب أن يتجرد من الظروف الداخلية الذاتية الملابسة لشخص المتعدى دون أن يتجرد من الظروف الخارجية العامة التي تحيط بالتعدى . وأهم الظروف الخارجية العامة التي لا يجوز التجرد منها هي ظروف الزمان وظروف المكان .
وقبل أن نترك هذا الموضوع ، نعود إلى ظروف ثلاثة سبق أن اعتبرناها ظروفاً داخلية شخصية يجب التجرد منها . وهي ظرف السن ، وظرف الجنس ، وظرف الحالة الاجتماعية . فقد أسلفنا أن سائق السيارة ، حتى لو كان صبياً أو امرأة أو ريفياً ، يجب أن يقاس سلوكه بسلوك الرجل العادي المجرد من هذه الظروف الثلاثة . وإذا صح هذا النظر في شأن قيادة السيارة . حيث لا يختص بهذا العمل الصبيان أو النساء أو الريفيون دون غيرهم ، فإنه لا يصح في شأن الأعمال التي تعتبر عادة من أعمال الصبيان أو النساء أو أهل الريف ، فإن الصبي الصغير إذا لعب مع رفقائه لا ينبغي أن يقاس سلوكه بسولك الشخص الناضج في السن . كذلك المرأة إذا باشرت عملا تباشره النساء عادة . كالتعليم والتوليد والتمريض ، لا يقاس سلوكها فيه بسلوك الرجل . والريفي الساذج . وهو يعيش في قريته النائية عيشته المألوفة ، لا يقاس سلوكه بسلوك المتحضر المثقف ، ذلك أن الصبي الصغير فيما يقوم به من أعمال الصبيان ، والمرأة فيما تباشره من أعمال النساء ، والريفي فيما يسكن إليه من حياة قروية ، ينبغي أن يعتبر كل منهم منتمياً إلى طبقة قائمة بذاتها ، فيتجرد ، من كل طبقة من هذه الطبقات الثلاث ، شخص عادي يكون سلوكه المألوف هو المقياس الذي يقاس به سلوك جميع الأفراد التي تنتمي إلى هذه الطبقة . فالمقياس المجرد للصبيان ، فيما هو من أعمال الصبيان ، صبي مثلهم ، يتجرد عن الظروف الداخلية الشخصية التي تتعلق بصبي بالذات . والمقياس المجرد للسناء ، فيما تباشر النساء عادة من أعمال ، امرأة منهن من وسطياتهن تتجرد عن الظروف الداخلية الشخصية التي تتعلق بامرأة بالذات . والمقياس المجرد لأهل القرى ، فيما يدخل في حياتهم الريفية ، قروى منهم ومن أوسطهم يتجرد عن الظروف الداخلية الشخصية التي تتعلق بقروى بالذات . أما قيادة السيارة فلا تدخل في أعمال الصبيان ، ولا هي من الأعمال التي تباشرها النساء عادة ، وليست محصورة في أهل القرى . لذلك كانت ظروف السن والجنس والحالة الاجتماعية بالنسبة إليها ظروفاً داخلية شخصية لا ظروفاً خارجية عامة . ومن ثم يتبين أن الظرف الواحد قد يكون ظرفاً داخلياً شخصياً بالنسبة إلى شيء معين ، ثم ينقلب إلى ظرف خارجي عام بالنسبة إلى شيء آخر . وفي هذه النسبية التي نقول بها ما يجعل المقياس المجرد أوفر مرونة وأكثر مطاوعة لمقتضيات الظروف ( [939] ) .
530 – عبء الإثبات في ركن التعدي : والتعدي على الوجه الذي بسطناه ، إذا وقع من شخص فألحق ضرراً بآخر ، كان على المضرور عبء إثبات وقوعه من المتعدى . فإن المسئولية هنا قد ترتبت على عمل شخصي صدر من المسئول ، وقد أسلفنا أن المسئولية عن الأعمال الشخصية تقوم على خطأ واجب الإثبات . فعلى الدائن في هذه الحالة أن يثبت أن المدين قد انحرف عن السلوك المألوف للرجل العادي ، فترتبت المسئولية في ذمته . وهذا هو عين ما قررناه في المسئولية العقدية . فقد قدمنا أن الدائن في العقد هو الذي يثبت إخلال المدين بالتزامه العقدي ، كما أن المدين هو الذي يثبت أنه قام بالتزامه ( [940] ) . وهنا ، في المسئولية التقصيرية ، يثبت الدائن أن المدين قد أخل بالتزامه القانوني ، فلم يصطنع الحيطة الواجبة في عدم الإضرار بالغير ، بأن انحرف عن السلوك المألوف للرجل العادي فألحق الضرر بالدائن ( [941] ) .
531 – حالات ثلاث تجعل التعدي عملا مشروعا : وإذا اثبت الدائن في المسئولية التقصيرية وقوع التعدى من المدين . رجع عليه بتعويض الضرر الذي أحدثه هذا التعدي . إلا أن المدين يستطيع أن يزيل عن التعدي صفة عدم المشروعية . فيقلبه إلى عمل مشروع لا يوجب مسئوليته . إذ هو أثبت أنه وقت أن ارتكب هذا العمل كان في إحدى حالات ثلاث : حالة الدفاع الشرعي ( etat de legitime defense ) . أو حالة تنفيذ لأمر صادر من الرئيس ( execution d'un ordre emanant d'un superieur hierarchique ) .
وقد عرض القانون المدني الجديد لهذه الحالات الثلاث بنصوص صريحة . وهي حالات نقلت عن القانون الجنائي ، وتعتبر هناك أسباباً للإباحة . ونستعرضها هنا في إيجاز .
532 – حالة الدفاع الشرعي : نصت المادة 166 من القانون المدني الجديد على أنه " من أحدث ضرراً وهو في حالة دفاع شرعي عن نفسه أو ماله ، أو عن نفس الغير أو ماله ، كان غير مسئول ، على ألا يجاوز في دفاعه القدر الضروري ، وإلا أصبح ملزماً بتعويض تراعى فيه مقتضيات العدالة ( [942] ) " .
فالدفاع الشرعى عن النفس أو المال يبيح التعدى ويجعله مشروعاً . ولكن يجب في ذلك توافر الشروط المعروفة للدفاع الشرعي وهي : " ( أولاً ) أن يكون هناك خطر حال على نفس الدافع أو ماله ، أو على نفس الغير أو مال هذا الغير إذا كان عزيزاً عليه إلى درجة كبيرة . ولا يشترط وقوع الاعتداء على النفس أو المال بالفعل ، بل يكفي أن يكون قد وقع فعل يخشى منه وقوع هذا الاعتداء . ويترك هذا لتقدير الدفاع متى كان هذا التقدير مبنياً على أسباب معقولة ( [943] ) . ( ثانياً ) أن يكون إيقاع هذا الخطر عملا غير مشروع . فليس لمن ألقى القبض عليه بطريق قانوني أن يقاوم رجال الشرطة بحجة الدفاع الشرعي . ( ثالثاً ) أن يكون دفع الاعتداء بالقدر اللازم دون مجاوزة أو افراط . فإن جاوز الشخص حدود الدفاع الشرعي كان متعدياً ، وثبت في جانبه الخطأ . ولكن هذا الخطأ من جانب المعتدى عليه يقابله خطأ من جانب المعتدى ، فتكون مسئولية من جاوز حدود الدفاع الشرعي مسئولية مخففة ، والتعويض الذي يدفعه " تراعى فيه مقتضيات العدالة " كما يقضى النص ، وذلك طبقاً لقواعد المسئولية عن الخطأ المشترك ، وسيرد ذلك ذلك .
ومتى توافرت شروط الدفاع الشرعي ، كان دفع الاعتداء باعتداء مثله لا يعتبر تعدياُ ، بل هو عمل مشروعي لا تترتب عليه المسئولية . ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم . ويمكن تخريج هذا الحكم على أحد وجهين :
( الوجه الأول ) أن دفع الاعتداء إذا اعتبر تعدياً فثبت الخطأ في جانب المعتدى عليه ، فإنه يبقى بعد ذلك أن هذا الخطأ قابله من جانب المعتدى خطأ اكبر منه ، إذ كان هو البادئ . والقواعد المعروفة في نظرية الخطأ المشترك تجعل الخطأ الأكبر يستغرق الخطأ الاصغر . ولكن تخريج الحكم على هذا الوجه لا ينفي التعدى في جانب المعتدى عليه ، إذ يعتبر دفعه للاعتداء خطأ وإن استغرقه خطأ أكبر منه .
( الوجه الثاني ) أن دفع الاعتداء لا يعتبر تعدياً ، وليس هو بخطأ أصغر استغرقه خطأ أكبر منه . بل هو عمل مباح مشروع . وتطبيق المقياس المجرد الذي يقاس به ركن التعدى يؤدي إلى هذه النتيجة . فما هو السلوك المألوف للشخص العادي إذا دهمه خطر ؟ إنه يدفع دون شك هذا الخطر بما وسعه من جهد ، مراعياً في ذلك تناسباً معقولا بين الخطر الذي يتهدده والوسيلة التي يدفع بها الاعتداء . فإذا لم ينحرف المعتدى عليه عن هذا السلوك لم يكن متعدياً . أما إذا انحرف عنه ، بأن لم يراع التناسب المعقول بين الخطر والوسيلة لدفعه ، اعتبر عمله تعدياً يخفف منه الاعتداء الذي بودئ به طبقاً لقواعد الخطأ المشترك .
ونحن نؤثر هذا التخريج ، لأنه هو الذي يتمشى مع المقياس المجرد لكن التعدي على النحو الذي أسلفناه ( [944] ) .
533 – حالة تنفيذ أمر صادر من الرئيس : نصت المادة 167 من القانون المدني الجديد على أنه " لا يكون الموظف العام مسئولا عن عمله الذي اضر بالغير إذا قام به تنفيذا لأمر صدر إليه من رئيس ، متي كانت أطاعه هذا الأمر واجبة عليه ، أو كان يعتقد أنها واجبة ، وأثبت أنه كان يعتقد مشروعية العمل الذي وقع منه ، وكان اعتقاده مبنيا على أسباب معقولة ، وانه راعي في عمله جانب الحيطة ( [945] ) " .
فإطاعة أمر صادر من الرئيس يجعل التعدي عملا مشروعاً بشروط ثلاثة : ( أولاً ) أن يكون من صدر منه العمل موظفاً عاملا ( [946] ) . ( ثانياً ) أن يكون قد صدر له أمر بتنفيذ هذا العمل من رئيس ، ولو غير مباشر ، طاعته واجبة عليه . وليس يكفي أن يعتقد الموظف أن طاعة الرئيس واجبة – وهذا ما كان المشروع التمهيدي للقانون الجديد يكتفي به – بل يجب إلى ذلك أن يعتقد أن طاعة الأمر ذاته الذي صدر إليه من الرئيس واجبة . فقد يصدر رئيس واجب طاعته إلى مرؤوسه أمراً غير واجب الطاعة ، فلا يجوز للمرؤوس في هذه الحالة أن ينفذ هذا الأمر غير المشروع ، وإلا كان تعدياً تترتب عليه مسئولية الموظف . مثل ذلك أن يصدر مأمور المركز أمراً لأحد الضباط بالقبض على متهم وحبسه دون أن يستصدر بذلك أمراً من النيابة العامة . ( ثالثاً ) أن يثبت الموظف أمرين : أولهما أنه كان يعتقد مشروعية الأمر الذي نفذه وأن هذا الاعتقاد مبنى على أسباب معقولة لا على مجرد الظن ( [947] ) . والثاني أنه راعى في عمله جانب الحيطة ، فلم يرتكب العمل إلا بعد التثبت والتحرى .
بهذه الشروط وفي هذه الحدود يكون تنفيذ الموظف لأمر غير مشروع عملا مشروعاً لا يوجب مسئوليته ، وإن كان يوجب بطبيعة المقياس المجرد ، مقياس السلوك المألوف من الشخص العادي . فإن الشخص العادي إذا وجد في الظروف التي حددتها الشروط المشار إليها لا يجد بداً من تنفيذ أمر رئيسه ، فالموظف إذن لم ينحرف عن هذا السلوك المألوف ، فلا يكون متعدياً ولا تترتب مسئوليته ( [948] ) .
وما يقال في إطاعة أمر الرئيس يقال أيضاً في إطاعة أمر القانون . فيكفي أن يكون الموظف العام قد اعتقد بحسن نية أنه قام بالعمل تنفيذا لما أمرت به القوانين أو لما اعتقد أن اجراءه داخل في اختصاصه ، وأن يثبت أن اعتقاده هذا مبنى على أسباب معقولة وانه لم يقدم العلى العمل إلا بعد التثبت والتحري ، حتى يكون عمله مشروعاً لأنه لم ينحرف به عن السلوك المألوف للرجل العادي ( [949] ) .
534 – حالة الضرورة : نصت المادة 168 من القانون المدني الجديد على أن " من سبب ضررا للغير ليتفادى ضررا أكبر ، محدقا به أو بغيره ، لا يكون ملزما إلا بالتعويض الذي يراه القاضي مناسبا ( [950] ) " .
فالشروط التي يتطلبها النص حتى تتحقق حالة الضرورة هي : ( أولاً ) أن يكون الشخص الذي سبب الضرر ، هو أو غيره ، مهدداً بخطر حال . ولا فرق بين خطر يهدد النفس وخطر يهدد المال من حيث المسئولية المدنية . أما المسئولية الجنائية فلا ترتفع إلا إذا كان الخطر يهدد النفس ( م 61 عقوبات ) . ( ثانياً ) أن يكون هذا الخطر الحال مصدره أجنبي ، فلا يد فيه لمن سبب الضرر ولا لمن وقع عليه الضر رز فإذا كان الخطر مصدره من سبب الضرر فإن الحاقه الضرر بالغير لكي يتقى خطراً هو الذي جلبه على نفسه يعتبر تعدياً يوجب مسئوليته كاملة . وإذا كان الخطر مصدره هو من وقع عليه الضرر ، فإن دفع الخطر ولو بإلحاق ضرر بمن كان مصدراً لهذا الخطر يعتبر دفاعاً شرعياً يعفي من المسئولية أصلاً . ( ثالثاً ) أن يكون الخطر المراد تفاديه اشد بكثير من الضرر الذي وقع . ونرى هنا وجوب التمييز بين فروض أربعة : الفرض الأول أن يكون الضرر الذي وقع لا يعد شيئاً مذكوراً بجانب الخطر المراد تفاديه . فالشخص الذي يخشى الغرق لا يحجم عن إتلاف مال زهيد القيمة ، كأن يقتلع شجرة مملوكة للغير يمسك بها حتى ينقذ نفسه من الغرق . فإذا ارتفع الخطر إلى هذا الحد من الجسامة ، ونزل الضرر إلى هذا الحد من التفاهة ، أمكن القول إن الخطر هنا يعد قوة قاهرة تنفي المسئولية بتاتاًن فلا يرجع صاحب الشجرة بدعوى المسئولية التقصيرية ، وكل ما يرجع به هو دعوى االاثراء بلا سبب إذا توافرت شروطها . والفرض الثاني أن يكون الخطر المراد تفاديه اشد بكثير من الضرر الذي وقع ، وهذا هو الفرض المألوف في حالة الضرورة فالشخص الذي يستولى على دواء لا يملكه ، يعالج به نفسه من مرض دهمه ، يتفادى خطر المرض ، وهو في العادة اشد بكثير من الخسارة التي تصيب صاحب الدواء . ولم يبلغ الخطر منزلة القوة القاهرة – ومن ثم وجب التفريق بين القوة القاهرة وحالة الضرورة – ولكن المريض الذي استولى على الدواء يعتبر في حالة ضرورة ملحة تعفيه من المسئولية التقصيرية ، وإن كانت لا تعفيه من رجوع صاحب الدواء عليه بدعوى الإثراء بلا سبب . والفرض الثالث أن يكون الخطر المراد تفاديه اشد من الضرر الذي وقع ، ولكنه لم يبلغ حد القوة القاهرة ولا حد الضرورة الملحة فالشخص الذي يتلف مالا للغير ذا قيمة لا يستهان بها ، ليطفئ حريقاً شبت في داره ، لا يعفي من المسئولية التقصيرية جملة واحدة . وتقدر الضرورة بقدرها ، فيلزمه الاقاضي بتعويض مناسب ، أي بتعويض مخفف ، عن المسئولية التقصيرية – وهذا ما يقضي به النص صراحة – إلى جانب رجوع صاحب المال عليه بدعوى الإثراء بلا سبب . والفرض الرابع أن يكون الخطر المراد تفاديه مساوياً للضرر الذي وقع ، أو دونه في الجسامة ، وفي هذه الحالة لا يجوز لشخص أن يلحق بغيره ضرراً ليتفادى خطراً لا يزيد على هذا الضرر . ومن فعل ذلك كان متعدياً ، وتحققت مسئوليته التقصيرية كاملة ( [951] ) . ونحن في التمييز ما بين هذه الفروض الأربعة إنما نقيس المسئولية بمقياسها المجرد ، وهو السلوك المألوف للشخص العادي ، فحيث وقع انحراف عن هذا السلوك قامت المسئولية .
ولم يقع انحراف في الفرضين الأول والثاني ، لذلك لم تقم المسئولية . ووقع انحراف في الفرض الثالث ، ولكن خفف منه قيام الضرورة ، فجاء النص مخففاً للمسئولية . ووقع الانحراف كاملا في الفرض الرابع ، لم يخفف منه ضرورة تبرره ، فكانت المسئولية من أجل ذلك مسئولية كاملة ( [952] ) .
2 - الركن المعنوي : الإدراك
535 – مناط المسئولية التمييز : الإدراك هو الركن المعنوي في الخطأ . فلا يكفي ركن التعدي ليقوم الخطأ ، بل يجب لقيامه أن يكون من وقعت منه أعمال التعدي مدركاً لها . ولا مسئولية دون تمييز . فالصبي غير المميز ، والمجنون ، والمعتوه عتهاً تاماً ، ومن فقد رشده لسبب عارض كالسكر والغيبوبة والمرض ، والمنوم تنويماً مغنيطيسياً ، والمصاب بمرض النوم ، كل هؤلاء لا يمكن أن ينسب إليهم خطأ لأنهم غير مدركين لأعمالهم .
وهذه مسألة كاد الإجماع ينعقد عليها منذ تقررت في القانون الروماني ، وانتقلت منه إلى العصور الوسطى ، ومن هذه إلى العصور الحديثة . واعتبر سقوط المسئولية عن عديم التمييز من الناحيتين الجنائية والمدنية معاً خطوة خطاها القانون إلى الإمام .
536 – ركن الإدراك ينفي الخطأ عن عديم التمييز : ولكن تيار النظرية المادية في المسئولية التقصيرية ، وهي النظرية التي تبني المسئولية على تحمل التبعة لا على الخطأ . بدا في العهد الأخير يعيد إلى ميدان البحث مسئولية عديم التمييز . فأنصار النظرية المادية يقولون بالمسئولية حتى إذا انعدم التمييز ، فغير المميز إذا لم يكن قادراً على ارتكاب الخطأ يستطيع إحداث الضرر . والمسئولية عندهم إنما تقوم على الضرر . ونعوا إلى المتمسكين بالخطأ أساساً للمسئولية أن منطقهم يستلزم عدم المساءلة إذا انعدم التمييز . وأشاروا إلى حالات يكون من القسوة فيها إلا يعوض عديم التمييز إذا كان واسع الثراء ما أحدثه من ضرر جسيم لفقير معدم . فعمد بعض أنصار المسئولية المبنية على الخطأ إلى تعديل موقفهم من عديم التمييز . ورأوا في المقياس المجرد الذي اتخذوه معياراً للتعدى ما ظنوه يعينهم على القول بمسئولية عديم التمييز في نطاق الخطأ . فقالوا إن عديم التمييز ليس قادراً فحسب على إحداث الضرر ، بل هو أيضاً قادر على ارتكاب الخطأ . إذ الخطأ عندهم له ركن واحد هو التعدي والتعدي له هذا المقياس المجرد الذي سبق بيانه . وعديم التمييز . صغيراً غير مميز كان أو مجنوناً أو معتوهاً أو غير ذلك ، إذا قيس سلوكه بالسلوك المألوف للشخص العادي . بدا انحرافه ، ووضح شذوذه . ولم يدع مجالا للقول بأنه يتصرف تصرف المميزين . فهو إذا صدر منه عمل يضر بالغير ، كان العمل تعدياً يستوجب المساءلة . أما انعدام التمييز فهو ظرف داخلي شخصي لا يجوز أن يقوم له اعتبار . وقد تقدم أنه يجب تجريد الشخص العادي الذي جعل مقياساً للتعدي من جميع الظروف الداخلية الشخصية .
ونبادر إلى القول إنه حتى لو قيل إن الخطأ ليس له إلا ركن واحد هو ركن التعدي ، فإن المقياس المجرد لهذا الركن لا يسعف في نظرنا القائلين بمسئولية عديم التمييز . فقد قدمنا أنه لا يصح اعتبار ظرف عام تشترك فيه طائفة من الناس ظرفاً داخلياً خاصاً بكل فرد من أفراد هذه الطائفة . عند تقدير ما يصدر عادة عن هذه الطائفة من أعمال . فالصبية والنساء والريفيون مقياسهم المجرد ، في الأعمال التي تصدر منهم في العادة ، لا يتجرد من عوامل السن والجنس والحالة الاجتماعية . ومقياس كل طائفة من هؤلاء شخص من أوسطهم ينتمي إلى الطائفة بالذات ، فلا يتجرد من المميز العام لهذه الطائفة ، وإن تجرد من الظروف الداخلية الشخصية التي تتعلق بفرد منها بعينه . وكذلك عديمو التمييز هم أيضاً طائفة من الناس تشترك في مميز عام هو انعدام التمييز ، فلا يجوز أن يتجرد مقياسهم من هذا التمييز في تقدير الأعمال التي تصدر منهم في العادة ولما كان عديمو التمييز لا يتصور فيهم أن يتصرفوا تصرف المميزين ، فإن كل عمل يصدر منهم ، مهما كان غريباً شاذاً ، يدخل ضمن أعمالهم المعتادة ، ويجب إلا يتجرد المقياس فيه من عامل انعدام التمييز ( [953] ) . فإذا قيس سلوكهم في أي عمل يصدر منهم إلى السلوك المألوف من شخص عديم التمييز ، فإن هذا السلوك لا ينحرف عن مقياسه ، ولا يعتبر تعدياً . وعلى هذا الوجه يكون عديم التمييز غير مسئول .
هذا كله لو قيل إن الخطأ لا ينطوي إلا على ركن التعدي . والصحيح في نظرنا أن للخطأ ركناً آخر هو ركن الإدراك . ولا تزال المسئولية المدنية ، مهما جردناها من العوامل الأدبية ، مرتبطة بهذا العامل الأدبي لا يجوز أن تنفك عنه . فهي تقوم على التمييز . والشخص الذي لا يدرك ما يصدر عنه من عمل لا تجوز مساءلته لا ادبياً ولا جنائياً ولا مدنياً ، مادامت المسئولية تقوم على الخطأز وهذا هو فضل النظرية الشخصية . فهي تربط المسئولية بالخطأن وتربط الخطأ بالتمييز ، فتشيع في المسئولية عاملا أدبياً لا يجوز الاستغناء عنه ، إذ هو عنصر ذاتي يخفف من حدة العنصر الموضوع الذي يهيمن على مقياس الشخص المجرد ( [954] ) .
ويبقى أخيراً أن نلاحظ أن التمييز في المسئولية التقصيرية لا يكيف على أنه أهلية يجب توفرها . كالأهلية في العقد ، إنما التمييز هو ركن الإدراك في الخطأ . وبدونه لا يكون التعدي خطأ . وقد سبق ذكر ذلك عند الكلام في الأهلية .
ونستعرض الآن ركن الإدراك في الشخص الطبيعي ، ثم في الشخص المعنوي .
1 - الشخص الطبيعي :
537 - النصوص القانونية : نصت المادة 164 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
1 - يكون الشخص مسئولا عن أعماله غير المشروعة متى صدرت منه وهو مميز " .
2 - ومع ذلك إذا وقع الضرر من شخص غير مميز ، ولم يكن هناك من هو مسئول عنه . أو تعذر الحصول على تعويض من المسئول ، جاز للقاضي أن يلزم من وقع منه الضرر بتعويض عادل ، مراعيا في ذلك مركز الخصوم ( [955] ) " .
538 – التمييز ضروري وهو في الوقت ذاته يكفي – عديمو التمييز : فالأصل إذن أن الشخص ، حتى يكون مسئولا مسئولية تقصيرية ، يجب أن يكون مميزاً . والتمييز ضروري ، وهو في الوقت ذاته يكفي . أما أنه يكفي فيظهر ذلك في أن الصبي المميز يكون مسئولا مسئولية تقصيرية كاملة دون حاجة إلى أن يكون قد بلغ سن الرشد . وأما أنه ضروري فيظهر ذلك في أن الشخص غير المميز لا يكون مسئولا عن أعماله الضارة ، لأن الإدراك ركن في الخطأ ، فلا خطا من غير إدراك . وهذا الحكم ينطبق على كل شخص غير مميز ، أياً كان السبب في انعدام التمييز .
فالصبي غير المميز ، وهو الذي لم يبلغ الساعة من عمره ( [956] ) ، لا تصح مساءلته مساءلة تقصيرية . أما من بلغ السابعة فيفرض فيه التمييز وتصح مساءلته حتى يقوم الدليل على انعدام التمييز فيه لمرض عقلي أو لسبب عارض .
كذلك المجنون ( [957] ) لا تصح مساءلته ( [958] ) . ويفرض في المجنون استصحاب حالة الجنون ، إلا أن يقوم الدليل على أنه ارتكب العمل الضار وهو في لحظة من لحظات الافاقة ( intervalles lucides ) .
والمعتوه عتها كاملا عديم التمييز فلا تصح مساءلته . أما المعتوه المميز فتجوز مساءلته حتى لو كان محجوراً لتوافر ركن الإدراك فيه .
أما ذو الغفلة والسفيه ، ولو كانا محجورين ، والأصم والأبكم والأعمى ، ولو تعين لواحد منهم مساعد قضائي طبقاً لأحكام المادة 117 من القانون المدني الجديد . فتجوز مساءلتهم جميعاً ، لأنهم يدركون ما يصدر عنهم من أعمال ، ويميزون بين الخير والشر ( [959] ) .
وتنتفي المسئولية حتى لو كان انعدام التمييز يرجع إلى سبب عارض يزول . كالمنوم تنويماً مغنيطيسياً والمصاب بمرض النوم والمدمن على السكر أو المخدرات والمصاب بالصرع ونحو ذلك فمتى ثبت أن الشخص الذي ارتبك العمل الضار كان فاقد الوعي أو منعدم التمييز وقت ارتكابه لهذا العمل . فإنه لا تصح مساءلته لأن ركن الإدراك غير قائم .
539 – نطاق انعدام المسئولية لانعدام التمييز : وانعدام المسئولية لانعدام التمييز ذو نطابق ضيق . إذ يجب لانعدام المسئولية أن يكون الشخص قد انعدم فيه التمييز انعداماً تاماً بغير خطأ منه وأن يكون عديم التمييز هو المسئول وحده عن خطا غير مفروض ، ويترتب على ذلك ما يأتي :
( أولاً ) ما سبق أن قدمناه من أن المعتوه المميز وذا الغفلة وغيرهما من ناقصي التمييز تصبح مساءلتهم لأن التمييز فيهم لم ينعدم انعداماً تاماً .
( ثانياً ) إذا كان انعدام التمييز ليسبب عارض ، كالخمر والمخدرات ونحو ذلك . فإن عديم التمييز لا تنتفي مسئوليته إلا إذا كان سبب انعدام التمييز لا يرجع إلى خطأ منه . فإذا ثبت أن من فقد التمييز لسكر أو لمخدر كان يعلم أن السكر أو المخدر يفقده التمييز . فإنه يكون مسئولا عن عمله حتى لو ارتكبه وهو فاقد الوعي . وفاقد التمييز لسبب عارضه هو الذي يحمل عبء الإثبات ، فعليه أن يثبت أنه فقد التمييز بغير خطا منه . ولا يكلف المضرور أن يثبت أن فقد التمييز كان خطا من المسئول ( [960] ) .
( ثالثاً ) ويجب لانعدام المسئولية أن يكون عديم التمييز في مكان المسئول . فإن كان في مكان المضرور ، ونسب إليه إهمال ساعد على وقوع الضرر . فلا يرى القضاء المصري في بعض أحكامه أن يسقط هذا الإهمال من اعتباره عندما يزن المسئولية ، بل يعتبر أن هذا الإهمال هو خطا من المضرور عديم التمييز يستوجب تخفيف المسئولية طبقاً لقواعد الخطأ المشترك ( [961] ) .
( رابعاً ) ويجب أن يكون عديم التمييز في مكان المسئول وحده . فإذا وجد مسئول عنه كالأب أو المعلم أو نحو ذلك ( [962] ) ، فلا بد من نسبة الخطأ إلى عديم التمييز حتى تتحقق بذلك مسئولية المسئول عنه ، ويكون هذا مسئولا عن خطا الغير لا عن خطئه الشخصي . وسيأتي بيان ذلك بتفصيل أوفى .
( خامساً ) ويجب أخيراً ألا تكون مسئولية عديم التمييز قائمة على خطا مفروض فرضاً لا يقبل إثبات العكس . فإن كان عديم التمييز مسئولا عن تابعه أو عن أشياء في حراسته كحيوان أو آلة ميكانيكية . وأخذنا بالرأي الذي يقول إن المسئولية في هذه الحالة تقوم على خطأ مفروض فرضاً لا يقبل إثبات العكس . فإن الخطأ المفروض يكون قائماً في جانب عديم التمييز ، ولا ينفيه انعدام تمييزه . مثل ذلك الصغير غير المميز يكون مسئولا عمن هم في خدمته مسئولية المتبوع عن التابع ، وقد فرض الخطأ في جانبه ولو أنه عديم التمييز ( [963] )
540 - مسئولية عديم التمييز في حالات استثنائية : ثم إن القانون الجديد قد تدارك ما قد ينجم من ضرر من وراء انتفاء المسئولية لانعدام التمييز حتى فى هذا النطاق الضيق الذي رسمنا حدوده فيما تقدم . فقضى فى الفقرة الثانية من المادة 164 بأنه " إذا وقع الضرر من شخص غير مميز ، ولم يكن هناك من هو مسئول عنه ، أو تعذر الحصول على تعويض من المسئول ، جاز للقاضى أن يلزم من وقع منه الضرر بتعويض عادل ، مراعياً فى ذلك مركز الخصوم " .
ونبادر إلى القول بأن مسئولية عديم التمييز هنا لا يمكن أن تكون مبنية على خطأ . فالخطأ كما قلنا ركنه الإدراك ، وعديم التمييز لا إدراك عنده . وإنما تقوم المسئولية فى هذه الحالة على تحمل التبعة . فالشخص غير المميز ، بالشروط التي وردت فى النص ، يتحمل تبعة ما يحدثه من ضرر . ولذلك جاءت مسئوليته مشروطة ومخففة .
فهي أولاً مسئولية مشروطة . وشرطها ألا يجد المضرور سبيلاً للحصول على التعويض من شخص آخر غير عديم التمييز . والغالب أن يكون عديم التمييز موكولاً إلى رقابة شخص يكفله فالصغير غير المميز يكون عادة في كفالة أبيه أو جده أو أمه أو أحد من أقاربه والمجنون يكون في كفالة أحد من هؤلاء أو في كفالة أحد المستشفيات المعدة لعلاج الأمراض العقلية . فالمعهود إليه بالرقابة على غير المميز هو المسئول عما يحدثه غير المميز من ضرر كما سنرى . فإن وجد . كان هو المسئول وحده نحو المضرور ، ورجع المضرور عليه بالتعويض كاملاً . أما إذا لم يوجد ، أو وجد ولكنه استطاع أن ينفى الخطأ عن نفسه إذ هو خطأ قابل لإثبات العكس كما سيأتي ، أو لم يستطع نفى الخطأ ولكنه كان معسراً لم يستطع المضرور أن يحصل منه على التعويض ، فعند ذلك يرجع المضرور بالتعويض على عدم التمييز نفسه .
ومسئولية عديم التمييز في هذه الحالة مسئولية مخففة . فهو لا يكون مسئولاً حتماً عن تعويض ما أحدثه من الضرر تعويضاً كاملاً . ذلك لأن مسئوليته لا تقوم على خطأ كما قدمنا ، بل على تحمل التبعة ، فالقانون لا يحمله التبعة عن أعماله الضارة إلا في حدود عادلة . وأهم ما يراعيه القاضى في تقدير التعويض هو مركز الخصوم من الغني والفقر . فهو يقضى بتعويض كامل إذا كان عديم التمييز موفور الثراء وكان المضرور فقيراً معدماً وأصيب بضرر جسيم بسبب العمل الذي صدر من عديم التمييز . وهو يقضى ببعض التعويض إذا كان عديم التمييز ميسر العيش من غير وفر وكان المضرور في حاجة إلى التعويض ويجب على القاضى في هذه الحالة أن يترك لعديم التمييز من ماله مورداً كافياً للنفقة على نفسه وعلى من تجب عليه نفقتهم . وقد لا يقضى بتعويض أصلاً – لأن الحكم بالتعويض في الحالة التي نحن بصددها جوازى لا وجوبى – إذا كان عديم التمييز فقيراً لا مال عنده ، وبخاصة إذا كان المضرور في سعة من العيش . ويكون كذلك محل اعتبار في تقدير التعويض مقدار ما بذله المضرور من العناية لتوقي الضرر الذي أصابه من عديم التمييز ، فإن تعريض المضرور نفسه في غير حيطة لما عسى أن ينزل به من جراء عبث شخص لا تمييز عنده يعد خطأ منه قد يستغرق في بعض الحالات ما أتاه عديم التمييز . ولا عبرة بجسامة ما صدر من عديم التمييز من عمل ، فهو فاقد الإدراك ويستوي أن يصدر عنه الجسيم وغير الجسيم ( [964] ) . ولكن جسامة الضرر قد تكون محل اعتبار في تقدير التعويض ، فإن كان الضرر جسيماً بدا التعويض عنه أكثر عدلاً وأعلى قيمة . ويسترشد القاضى بوجه عام بجميع الظروف التي تلابس القضية يستعين بها على تقدير التعويض العادل .
والقانون المدنى الجديد . في استحداثه لهذه المسئولية الخاصة التي لم يكن القانون المدنى القديم يعرفها ( [965] ) . قد جارى في ذلك كثيراً من التقنينات الحديثة ( [966] ) .
ب - الشخص المعنوى
541 - جواز مساءلة الشخص المعنوى : المبدأ الذي استقر عليه القضاء والفقه في مصر هو جواز مساءلة الشخص المعنوى عن الأخطاء التي يرتكبها ممثلوه عند القيام بإدارة شؤونه . ولم يقع تردد في هذا المبدأ . وإذا كانت المسئولية الجنائية للشخص المعنوي يصعب التسليم بها لصعوبة تصور عقوبة جنائية تنزل بالشخص المعنوي إلا فيما يتعلق بالغرامة والمصادرة والحل ، فإن المسئولية المدنية يسهل التسليم بها . فإنها تقع في مال الشخص المعنوي والأمثلة كثيرة على الأخطاء التي يرتكبها ممثلو الشخص المعنوي . فيصبح هذا مسئولاً عنها : مدير شركة يفصل عاملاً في وقت غير لاحق فتكون الشركة مسئولة عن هذا الفصل ، سائق قطار يدهس أحد المارة بإهماله فتكون مصلحة السكك الحديدية مسئولة عن إهمال السائق . عامل البريد يضيع رسالة عهد إليه بتسليمها إلى صاحبها فتكون مصلحة البريد مسئولة عن العامل ( [967] ) .
ولما كان الشخص المعنوي يختلف عن الشخص الطبيعي في أنه لا يمكن أن ينسب له التمييز . فإن كثيراً من الأحكام تجعل مسئولية الشخص المعنوي عن أعمال ممثليه هي مسئولية المتبوع عن التابع . فتصل بذلك إلى تقرير المسئولية بالتضامن بين الشخص المعنوي وممثليه .
على أن هناك أحوالاً يصعب فيها الوصول إلى مساءلة الشخص المعنوى عن هذا الطريق غير المباشر . فقد يحدث أن الخطأ الذي يوجب المساءلة يكون قراراً صادراً من إحدى هيئات الشخص المعنوي ( مجلس إدارة الشركة أو جمعيتها العامة مثلاً ) . فلا يد إذن من نسبة الخطأ مباشرة إلى الشخص المعنوي ذاته . كذلك قد يكون الخطأ بحيث لا تجوز نسبته إلا إلى الشخص المعنوي . كما إذا قوضيت شركة لمنافسة تجارية غير شريفة أو لتقليد مزور ( [968] ) ففي مثل هذه الأحوال تكون مسئولية الشخص المعنوي مسئولية عن عمل شخصي ، لا مسئولية المتبوع عن تابعه . ولابد حينئذ من الاقتصار على ركن التعدى في الخطأ دون ركن التمييز . ويكفى لتحديد ما إذا كان الشخص المعنوى قد أخطأ أن يقاس تصرفه إلى تصرف شخص معنوى مجرد فى الظروف الخارجية التي تصرف فيها ، فإذا انحرف عن هذا المقياس المادى . كان هناك خطأ ، وتحققت المسئولية ( [969] ) .
542 - مساءلة الشخص المعنوى العام ( [970] ) : وقد يكون الشخص المعنوي المراد مساءلته هو الدولة ذاتها أو شخص معنوي عام كمجلس من مجالس المديريات أو المجالس البلدية أو غيره من الأشخاص العامة . وتتحقق مسئولية الشخص المعنوي في مصر على النحو الذي تتحقق به مسئولية الأفراد والهيئات الخاصة . وقواعد المسئولية التقصيرية واحدة للفريقين . ذلك أن الأقضية التي تقوم على هذه المسئولية بالنسبة إليهما معاً تدخل في اختصاص القضاء العادى؛ ولم يمتد حتى اليوم اختصاص محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة إلى مسئولية السلطات العامة عن أعمالها المادية ، ولا يزال هذا الاختصاص مقصوراً على المسئولية عن القرارات الإدارية . والقضاء العادى في مصر يطبق على مسئولية الدولة والسلطات العامة قواعد المسئولية التقصيرية التي يطبقها على الأفراد والهيئات الخاصة . وقد وصل في بعض الحالات إلى جعل الدولة مسئولة عن الخطأ مسئولية شخصية لا مسئولية المتبوع عن التابع ( [971] ) .
أما في فرنسا فمجلس الدولة هو صاحب الولاية العامة في جميع المنازعات الإدارية . فدخل في اختصاصه النظر في مسئولية الدولة مسئولية تقصيرية . وأخذت قواعد هذه المسئولية تتحور بالتدريج عندما تغير ميدان تطبيقها من النطاق المدني الخاص إلى النطاق الإداري العام . وقد كان مجلس الدولة الفرنسي بادئ الأمر يضيق من مسئولية الدولة عندما كان يتطلب خطأ على قدر معين من الجسامة لمساءلة الدولة ، وعندما كان يفرق بين الخطأ الشخصي والخطأ المصلحي . ثم انتهى إلى التوسع في هذه المسئولية عندما ترك المبادئ المدنية ووضع مبادئ إدارية خاصة ، فجعل الدولة مسئولية عن الخطأ في سير العمل الإداري ( faute du service ) لا في الخطأ المصلحي ( faute de service ) فحسب ، ووصل بهذه المسئولية في بعض الحالات إلى حد جعل الدولة مسئولة عن تبعات الأعمال التي تولد أخطاراً جسيمة كالأشغال العامة ( travaux publics ) فبنى المسئولية في هذه الحالات على مبدأ تحمل التبعة ( risque ) .
543 – رقابة محكمة النقض على ركن الخطأ : ولمحكمة النقض الرقابة على قيام ركن الخطأ في المسئولية التقصيرية . وإذا كان التعدى كعمل مادي يعتبر من مسائل الواقع . إلا أن وصفه القانوني بأنه تعد لأنه انحراف عن المألوف من سلوك الشخص العادى يعتبر من مسائل القانون . كذلك انتفاء المسئولية في حالة الدفاع الشرعى وتنفيذ أمر الرئيس وحالة الضرورة ، واشتراط التمييز لقيام الخطأ ، والحدود التي يسأل فيها عديم التمييز ، كل هذا يعتبر من مسائل القانون ويخضع لرقابة النقض ( [972] ) .
المطلب الثاني
تطبيقات مختلة لفكرة الخطأ
544 - التمييز بين الخروج عن الحق والتعسف في استعمال الحق : قدمنا أن الخطأ هو انحراف عن السلوك المألوف للرجل العادى . ويجب هنا أن نوجه النظر إلى تمييز جوهرى لا يلتفت إليه في العادة ، مع أنه في نظرنا هو الذي يضع نظرية التعسف في استعمال الحق في مكانها الصحيح .
ذلك أن الانحراف في السلوك قد يقع من الشخص وهو يأتي رخصة ، وقد يقع منه وهو يستعمل حقاً ، وليس هنا مجال الإفاضة في التمييز ما بين الرخصة والحق . وبحسبنا أن نقول إن الرخصة هي حرية مباحة في التصرف ، كالسير والتعاقد والتقاضى والكتابة والنشر ونحو ذلك من الحريات العامة التي كفلتها الدساتير للأفراد . أما الحق فهو مصلحة معينة مرسومة الحدود يحميها القانون فالملكية حق ، والتملك رخصة . ذلك أن القانون كفل لجميع الناس الحرية في أن يتملكموا طبقاً للقواعد التي قررها في أسباب الملك ، ومن ثم فالتملك رخصة فإذا ما كسب الشخص ملكية شيء معين بسبب من أسباب الملك ، انتقل من الرخصة إلى الحق ، وأصبح له مصلحة معينة مرسومة الحدود هي حق الملكية على هذا الشيء المعين الذي ملكه ، وهي مصلحة يحميها القانون ( [973] ) .
وللرجل العادى في سلوكه المألوف إذا أتى رخصة يلتزم قدراً من الحيطة والتبصر واليقظة حتى لا يضر بالغير . وإذا استعمل حقاً فإنه لا يجاوز الحدود المرسوم لهذا الحق . فإذا ما انحرف شخص وهو يأتي رخصة – مشى أو تعاقد أو تقاضى أو كتب أو نشر – عن هذا السلوك المألوف من الرجل العادى ، فمشى بسيارته ولم يلتزم اليقظة اللازمة فدهس أحد المارة ، أو تعاقد مع أحد الفنيين الموظفين في مصنع منافس وحمله بذلك على أن يخل بالتزاماته نحو مصنعه ، أو تقاضى فتنكب سبيل الاعتدال وأمعن في الإضرار بخصمه باستعمال إجراءات التقاضى في غير ما وضعت له لدداً في الخصومة ، أو كتب فأفشى سراً من أسرار المهنة كان لا يجوز له إفشاؤه ، أو نشر فقذف شخصاً ، كان كل هذا خطأ يحقق مسئوليته . كذلك إذا استعمل حقاً معيناً – حق ملكية أو حق ارتفاق أو حق رهن أو حق دين - فجاوز الحدود المرسومة للحق الذي يستعمله ، بأن بنى في ملكه مجاوزاً حدود هذا الملك ، أو فتح المطل في المسافة الممنوعة قانوناً ، أو قيد الرهن بأكثر من الدين ، أو تقاضى فيما له من الدين فوائد أكثر مما يبيحه القانون ، كان كل هذا أيضاً خطأ يحقق مسئوليته .
وقد كان رجال الفقه في القرن الماضى يرون تقييد الرخصة ولا يرون تقييد الحق . فيشترطون في إتيان الرخصة ألا ينحرف الشخص عن السلوك المألوف للرجل العادى . أما الحق فلا يشترطون في استعماله إلا عدم مجاوزة حدوده . فكان الخطأ في نظرهم هو انحراف عن السلوك في إتيان الرخصة أو مجاوزة للحدود في استعمال الحق . أما إذا استعمل الشخص حقاً ولم يجاوز الحدود المرسومة لهذا الحق ، فإنه لا يخطئ ولو أضر بالغير . ومن ثم كان استعمال الحق مرهوناً بمدى حدوده . فإن جاوزها صاحب الحق كان هذا خروجاً عن الحق ، وهو خطأ يحقق مسئوليته . وإن التزمها فلا تتحقق مسئوليته ، حتى لو انحرف في استعمال الحق عن السلوك المألوف للشخص العادى فأضر بالغير .
فلا يشترط إذن في استعمال الحق عند رجال الفقه القديم إلا عدم مجاورة الحدود التي وضعت له . وما دام صاحب الحق داخل هذه الحدود فلا يرتكب خطأ مهما أضر بالغير ، ومهما كان مهملاً أو كان سيء النية . وهذه الصورة هي التي نظر فيها رجال الفقه الحديث . ورأوا خلافاً للفقه في الماضى أن المسئولية فيها يجب أن تتحقق وأطلقوا عليها اسماً معروفاً هو " التعسف في استعمال الحق " ( abusdu droit ) .
ومن ثم أصبح للخطأ صورتان : صورته الأولى وهي الخروج عن حدود الرخصة أو عن حدود الحق ، وصورته الجديدة وهي التعسف في استعمال الحق .
ونتناول كلاً من الصورتين في تطبيقاتها المختلفة .
$ - الخروج عن حدود الرخصة أو عن حدود الحق .
545 – من قاعدة عامة واحدة إلى حالات متعددة : رأينا أن هناك قاعدة عامة تقضى بأن كل خطأ يسبب ضرراً يوجب التعويض . وهذه هي السياسة التشريعية التي جرت عليها التقنينات اللاتينية . فهي لا تورد تطبيقات تفصيلية للخطأ ، بل تقتصر على وضع قاعدة عامة على النحو الذي أسلفناه . أما القوانين الأنجلوسكسونية والحرمانية فإنها تعمد إلى التفصيل ، وتتفاوت في إيراد الحالات التفصيلية للخطأ ( [974] ) . ومن المعروف في القانون الإنجليزي أنه لا يشتمل على قاعدة عامة في الخطأ ، بل يحوي أنواعاً مختلفة من الخطأ يورد لكل نوع منها حكمه ، ومن ثم سمى هذا القسم من القانون الإنجليزي ، لا بقانون الخطأ ( Law of tort ) ، بل بقانون الأخطاء ( Law of torts ) .
على أن الفرق ليس بكبير كما يظهر لأول وهلة ما بين القوانين اللاتينية وبين القواعد الإنجليزية والحرمانية . فالثانية تعدد حالات الخطأ . ولكن يمكن أن يستخلص من هذه الحالات قاعدة عامة تتناول الخطأ في ذاته وتحدد أركانه أما الأولى فتبدأ بهذه القاعدة العامة ، ولكنها تنتهي في تطبيقها القضائي إلى حالات في الخطأ تعددها المحاكم حالة حالة وتبين خصائص كل حالة منها . فهناك إذن طوائف من الجرائم المدنية واضحة المعالم بينة الحدود ، شبيهة بالجرائم الجنائية التي يعددها قانون العقوبات .
وها نحن ، على سبيل المثال ، نتناول في إيجاز ، بعض هذه الحالات على النحو الذي انتهى إليه فيها قضاء المحاكم .
546 - حوادث النقل والسيارات والسكك الحديدية وغيرها من وسائل النقل : من الميادين التي يتسع فيها المجال لوقوع الخطأ حوادث النقل . فقد زادت أخطار النقل بقدر ما تعدد من وسائله وما امتد من نشاطه . ويقع كل يوم من حوادث النقل ما يوجب المسئولية . وهي حوادث متنوعة تنجم عن وسائل النقل المختلفة : من الدواب إلى المركبات إلى السيارات إلى السفن إلى الطائرات ، وفي البر والبحر والجو .
والنقل قد يكون بأجر أو بغير أجر . والنقل بأجر قد يكون نقلاً للأشياء أو نقلاً للأشخاص . ففي نقل الأشياء يلتزم عامل النقل بنقل ما عهد إليه في نقله سليماً إلى المقر المتفق عليه ، فإذا تلف في أثناء النقل كان عامل النقل مسئولاً ، والمسئولية هنا مسئولية عقدية لقيامها على التزام يترتب على عقد النقل ، فلا يستطيع عامل النقل أن يتخلص من المسئولية إلا إذا أثبت السبب الأجنبي وتجب المسئولية العقدية في رأينا المسئولية التقصيرية ، فلا خيرة بين المسئوليتين .
وفي نقل الأشخاص لم يكن القضاء الفرنسي في بادئ الأمر يرتب مسئولية عقدية . ثم انتهى إلى أن يستخلص من عقد النقل التزاماً بضمان سلامة الراكب ، وأصبح عامل النقل ملزماً بموجب العقد أن يصل بالراكب إلى المقر المتفق عليه سليماً معافى . والالتزام بضمان السلامة في نقل الأشخاص ، كما هو في نقل الأشياء ، التزام بتحقيق غاية . فإذا أصاب الراكب ضرر بسبب النقل كان عامل النقل مسئولاً مسئولية عقدية لا يستطيع الخلاص منها إلا بإثبات السبب الأجنبي ( [975] ) .
وقد يكون النقل بغير أجر ( transport benevole, gratuit ) ، كأن يستصحب شخص صديقاً له في سيارته في نزهة أو إلى مكان معلوم ، فإذا أصيب الصديق بحادث من جراء ركوب السيارة ، فهل يكون صاحب السيارة مسئولاً ، وعلى أي أساس تقوم مسئوليته؟ نرى أن النقل في هذه الحالة ليس بعقد ، لأن الطرفين لم يقصدا أن يرتبطا ارتباطاً قانونياً ، وقد تقدم ذلك . فنستبعد إذن المسئولية العقدية ( [976] ) . ولا تبقى إلا المسئولية التقصيرية . وهنا تنفتح أمامنا طرق ثلاثة : هل تكون هذه المسئولية هي مسئولية حارس الأشياء ، فيعتبر صاحب السيارة وهو الحارس لها مسئولاً نحو صديقه عن الضرر الذي أصابه حتى يقيم الدليل على السبب الأجنبي؟ ( [977] ) أو تستبعد المسئولية على أساس الحراسة وتبقى في دائرة المسئولية القائمة على خطأ واجب الإثبات ، ونقول إن الصديق المضرور يجب أن يثبت خطأ في جانب صديقه صاحب السيارة؟ وإذا قلنا بذلك ، فأي نوع من الخطأ يجب أن يثبت؟ هل يجب أن يثبت خطأ جسيماً باعتبار أنه رضى بإخلاء مسئولية صديقه بعد أن تبرع هذا بنقله ، فلا يكون صاحب السيارة مسئولاً إلا عن الخطأ الجسيم؟ ( [978] ) أو يكاد أن يثبت خطأ يسيراً طبقاً للقواعد العامة في المسئولية التقصيرية؟ ( [979] ) أما المسئولية على أساس الحراسة فيجب استبعادها ، إذ شرطها ألا يكون المضرور قد اشترط مجاناً في استعمال الشيء الذي أحدث الضرر ( [980] ) كذلك يجب استبعاد أن الصديق المضرور قد رضى بإخلاء مسئولية صاحب السيارة ، إذا حتى على فرض أن هذا صحيح فهو اتفاق على الإعفاء عن مسئولية تقصيرية وهو لا يجوز . فلا يبقى إذن إلا الطريق الثالث ، ويكون صاحب السيارة مسئولاً نحو صديقه المضرور إذا أثبت هذا خطأ يسيراً في جانبه وفقاً للقواعد العامة ( [981] ) .
وهناك مسئولية تقصيرية أخرى تترتب على حوادث النقل إذا كان الضرر قد وقع لا على الراكب بل على المارة في الطريق . ومن الأمثلة المألوفة أن يقوم شخص سيارة ويسير بسرعة ينجم عنها الخطر ، أو أن يسير في الليل دون أن يوقد مصباح السيارة ، أو أن يسير على الجانب الأيسر من الطريق ( [982] ) ، أو أن يدخل من شارع جانبى إلى شارع رئيسي دون أن ينتظر مرور السيارات التي تسير في الشارع الرئيسي ( [983] ) ، أو أن يغفل تنبيه العابرة إلى خطر يتهددهم من سيارته ، أو أن يخالف لوائح المرور ونظمها ( [984] ) . وكثيراً ما تقع الحوادث من قطارات السكك الحديدية ( [985] ) والمركبات الكهربائية ( [986] ) وغير ذلك من وسائل النقل المختلفة ( [987] ) . ويلاحظ في كل ذلك أن المسئول عن الخطأ ، وهو السائق استعمل رخصة أباحها له القانون ، بأن اتخذ وسيلة من وسائل النقل المعروفة ، فانحرف في إتيان هذه الرخصة عن السلوك المألوف للرجل العادى ، وأضر بالغير ، فكان هذا خطأ يستوجب المسئولية . وسنرى أن المسئولية في أكثر هذه الأحوال ، بعد نفاذ القانون المدنى الجديد ، لا تبنى على خطأ واجب الإثبات ، بل على أساس حراسة الأشياء التي تتطلب حراستها عناية خاصة أو الآلات الميكانيكية ، فيكون الحارس مسئولاً عما تحدثه وسائل النقل من ضرر لم يثبت أن وقوع الضرر كان بسبب أجنبي لا يد له فيه ( م 178 من القانون المدنى الجديد ) ، وسيأتي تفصيل ذلك .
547 - حوادث العمل : وليست حوادث العمل بأقل من حوادث النقل بعد تقدم المخترعات الميكانيكية وشيوع الصناعات الكبرى . ولعل حوادث النقل وحوادث العمل هي أبلغ الحوادث أثراً في تطور المسئولية التقصيرية .
وقبل صدور قانون العمل رقم 64 لسنة 1936 ( وقد حل محله القانون رقم 89 لسنة 1950 ) كان القضاء المصرى لا يجعل صاحب العمل مسئولاً قبل العامل عن حوادث العمل إلا إذا أثبت العامل خطأ في جانب صاحب العمل ( [988] ) .ولكنه كان يكتفي بإثبات أي إهمال ( [989] ) ، ويوجب على صاحب العمل أن يتخذ الاحتياطات اللازمة حتى يحمي العمال من مخاطر العمل وإلا كان مسئولاً ( [990] ) وتصبح مسئولية صاحب العمل أشد إذا كان العامل صبياً صغير السن ( [991] ) . ولا يستطيع صاحب العمل أن يخفف باتفاق من مسئوليته التقصيرية ( [992] ) . وهو مسئول عن خطأ تابعه ( [993] ) . ولكن يجوز أن يتعهد بتعويض العمال تعويضاً مقدراً عن مخاطر العمل ( [994] ) ، وترتفع مسئوليته إذا كان الضرر قد وقع بخطأ العامل نفسه ( [995] ) .
وبعد أن صدر قانون رقم 64 لسنة 1936 ، ثم قانون رقم 89 لسنة 1950 الذي حل محله ، خضعت حوادث العمل لهذا التشريع الجديد ، ولم يعد يجوز للعامل فيما يتعلق بحوادث العمل أن يتمسك ضد رب العمل بأحكام أي قانون آخر ما لم يكن الحادث قد نشأ عن خطأ جسيم من جانب رب العمل ( [996] ) .
548 – المسئولية عن الأخطاء الفنية في مزاولة المهنة : وكثيراً ما يخطئ رجال الفن من أطباء وصيادلة ومهندسين ومحامين وغير ذلك في مزاولة مهنهم فالطبيب قد يخطئ وهو يقوم بعملية جراحية ، وقد يخطئ الصيدلي في تركيب الدواء ، والمهندس في عمل التصميم الهندسي ، والمحامي في القيام بإجراءات التقاضى ومراعاة المواعيد المقررة لذلك .
وأول ما تجب ملاحظته في هذا الشأن أن مسئولية هؤلاء الفنيين تكون في أكثر الأحوال مسئولية عقدية لا مسئولية تقصيرية ، لأنهم يرتبطون بعقود مع عملائهم في تقديم خدماتهم الفنية ( [997] ) . ولكن الخدمة الفنية التي يلتزمون بتقديمها بمقتضى العقد لا تزيد على أن تكون بذل عناية فنية معينة هي التي تقتضيها أصول المهنة التي ينتمون إليها . فالتزامهم بالعقد هو إذن التزام ببذل عناية لا التزام بتحقيق غاية . ومن ثم يتلاقى بالنسبة إليهم معيار المسئولية العقدية بمعيار المسئولية التقصيرية . فهم في المسئولية التقصيرية يطلب منهم أيضاً بذلك العناية الفنية التي تقتضيها أصول المهنة ، فإن هذا هو السلوك الفني المألوف من رجل من أوسطهم علماً وكفاية ويقظة . فالانحراف عن هذا المعيار ، سواء كانت المسئولية عقدية أو تقصيرية ، يعتبر خطأ مهنياً ( PROFESSIONNELLE ) وغني عن البيان ألا خيرة بين المسئوليتين ، فإذا كان الخطأ المهني عقدياً جبّ المسئولية التقصيرية . وإذا كان معيار الخطأ المهني واحداً في المسئوليتين ، فهناك فروق معروفة بين المسئولية العقدية والمسئولية التقصيرية تجعل انعدام الحيرة بين المسئوليتين ذا أهمية عملية .ونقتصر هنا على معيار الخطأ المهني ، وهو واحد في المسئوليتين كما قدمنا .
ذهب بعض الفقهاء في فرنسا إلى وجوب التمييز في مزاولة المهنة بين الخطأ العادي والخطأ المهني . فالخطأ العادي هو ما يرتكبه صاحب المهنة عند مزاولة مهنته دون أن يكون لهذا الخطأ علاقة بالأصول الفنية لهذه المهنة ، كما إذا أجرى الطبيب عملية جراحية وهو سكران . ومعيار الخطأ العادة هو معيار الخطأ المعروف : الانحراف عن السلوك المألوف للرجل العادى . أما الخطأ المهني فهو خطأ يتصل بالأصول الفنية للمهنة ، كما إذا أخطأ الطبيب في تشخيص المرض . ولا يسأل صاحب المهنة ، في نظر هؤلاء الفقهاء ، عن الخطأ المهني إلا إذا كان خطأ جسيماً ، حتى لا يقعد به الخوف من المسئولية عن أن يزاول مهنته بما ينبغي له من الحرية في العمل ومن الطمأنينة والثقة في فنه وفي كفايته الشخصية ( [998] ) . وبهذا الرأي أخذ القضاء المختلط في بعض أحكامه ( [999] ) .
والتمييز بين الخطأ العادى والخطأ المهني في مزاولة المهنة ، فوق أنه دقيق في بعض الحالات ، لا مبرر له . وإذا كان الطبيب أو غيره من الرجال الفنيين في حاجة إلى الطمأنينة والثقة ، فإن المريض أو غيره من العلماء في حاجة إلى الحماية من الأخطاء الفنية . والواجب اعتبار الرجل الفني مسئولاً عن خطئه المهني مسئوليته عن خطئه العادى ، فيسأل في هذا وذاك حتى عن الخطأ اليسير . وبهذا أخذ القضاء والفقه في فرنسا وفي مصر ( [1000] ) . والذي أدخل اللبس في شأن الخطأ المهني أن المعيار الذي يقاس به هذا الخطأ هو أيضاً معيار فني . فهو معيار شخص من أوساط رجال الفن . مثل هذا الشخص لا يجوز له أن يخطئ فيما استقرت عليه أصول فنه . والأصول المستقرة للفن هي ما لم تعد محلاً للمناقشة بين رجال الفن ، بل إن جمهرتهم يسلمون بها ولا يقبلون فيها جدلاً ( [1001] ) . ومن ثم يبدو الخروج على هذه الأصول المستقرة خطأ لا يغتفر ، ويكاد يلامس الخطأ الجسيم ، فاختلط به . ولكن يجب التنبيه إلى أن أي خروج على هذه الأصول المستقرة ، جسيماً كان هذا الخروج أو يسيراً ، يعد خطأ مهنياً يستوجب المسئولية . والشخص الفني الوسط الذي يؤخذ معياراً للخطأ المهني يجب ألا يتجرد من الظروف الخارجية ، وفقاً للقواعد المقررة في هذا الصدد فإذا كان طبيباً وجب النظر إلى أي طائفة من الأطباء ينتمى : هل هو طبيب يزاول الطب بصفة عامة ويعالج مرضى الحي من مختلف أنواع المرض ، أو هو أخصائي لا يعالج إلا نوعاً واحداً من المرض ، أو هو العالم الثقة الذي يرجع إليه في الحالات المستعصية . لكل من هؤلاء أجره ، ولكل مستواه المهني ، ولكل معياره الفني ( [1002] ) . وما يقال في الطبيب يقال في المحامي والمهندس والزراعى وغيرهم من رجال الفن .
549 – الاعتداء على الشرف والسمعة : وكثيراً ما يكون الخطأ اعتداء على الشرف والسمعة . وليس من الضروري أن يكون المعتدى سيء النية ، بل يكفى أن يكون أرعن متسرعاً ، وفي الرعونة والتسرع انحراف عن السلوك المألوف للشخص العادى ، وهذا خطأ موجب للمسئولية . والاعتداء على الشرف والسمعة يقع بطرق مختلفة .
يقع عن طريق النشر في الصحف بالسب والقذف ( [1003] ) . حتى لو انتفى سوء النية ما دامت هناك رعونة وعدم احتياط ( [1004] ) . ولكن يراعى عدم التشدد في اعتبار ما ينشر في الصحف سباً أو قذفاً في بعض الظروف التي تقتضى الإطلاق من حرية الصحابة من أجل المصلحة العامة ، وذلك كظروف الحرب ( [1005] ) ، وظروف الانتخابات ( [1006] ) ، وفي الحملات الصحفية التي تقوم لغرض التطهير من فساد منتشر ( [1007] ) ؛ وفي النقد العلمي والفني البرئ ( [1008] ) .
ويقع الاعتداء عن طريق البلاغ الكاذب . وليس سوء النية شرطاً في المسئولية التقصيرية كما هو شرط في المسئولية الجنائية . فقد يحفظ البلاغ الكاذب ويكون صاحب البلاغ مع ذلك مسئولاً مدنياً لأنه كان أرعن متسرعاً ولو أنه لم يكن سيء النية ( [1009] ) كما قد يكون صاحب البلاغ غير مسئول لا جنائياً ولا مدنياً لأنه لم يكن سيء النية ولم يرتكب رعونة أو تسرعاً ( [1010] ) . ويكفي لنفي التسرع والرعونة أن يتجمع لدى المبلغ من الدلائل ما يلقى في روعه صحة ما يبلغ عنه ولو لم يكن صحيحاً في الواقع . ويتخذ في هذا معيار موضوعي مجرد هو المعيار المعروف للخطأ . فلا يكفي أن تكون هذه الدلائل قد ألقت في روع المبلغ ذاته صحة ما بلغ عنه ، بل يجب أن يكون من شأن هذه الدلائل أن تلقى ذلك في روع الشخص العادى المجرد عن الظروف الداخلية التي تحيط بالمبلغ ( [1011] ) .
ويقع الاعتداء عن طريق دفاع في دعوى يتهم فيها الخصم خصمه أو يتهم الشهود أو الخبراء تهماً غير صحيحة تنطوي على الرعونة والتسرع ، حتى لو لم يكن الخصم سيء النية في هذا الاتهام ( [1012] ) .
ويقع الاعتداء عن طريق إذاعة أخبار غير صحيحة أو إشاعات كاذبة بمس سمعة شخص ، دون أن يصطنع المذيع الحيطة الواجبة للتثبت من هذه الأخبار والإشاعات قبل إذاعتها ( [1013] ) .
ويقع الاعتداء عن طريق إعطاء معلومات كاذبة ، بسوء نية أو عن رعونة ( [1014] ) . ولكن المصلحة التي تذكر أسباب فصل موظف من موظفيها بناء على طلب قدم لها في هذا الشأن لا تكون مسئولة ( [1015] ) . ولا يكون مسئولاً بوجه عام من أعطى معلومات عن الغير بحسن نية وبطريقة سرية وبناء على طلب معين ( [1016] ) .
550 – فسخ الخطبة والإغواء : والخطبة ، أو الوعد بالزواج ، ليست عقداً ملزماً ، لأنه لا يجوز أن يتقيد شخص بعقد أن يتزوج ، ومن باب أولى أن يتزوج من شخص معين ، فمثل هذا التقيد يكون مخالفاً للنظام العام . ولكن فسخ الخطبة أو الإخلال بالوعد بالزواج ، إذا لم يكن خطأ عقدياً ، قد يكون خطأ تقصيرياً يوجب التعويض ( [1017] ) . ومعيار الخطأ هنا هو المعيار المعروف ، فإذا انحرف الخطيب وهو يفسخ الخطبة عن السلوك المألوف للشخص العادى في مثل الظروف الخارجية التي أحاطت بالخطيب ، كان فسخ الخطبة خطأ يوجب المسئولية التقصيرية . والأصل أن فسخ الخطبة لا يجعل حقاً في التعويض إلا عن الضرر المادي ( [1018] ) . ولكن إذا سبقه استغواء فإنه يلزم بالتعويض عن الضرر الأدبي ( [1019] ) . على أنه إذا استسلم الخطيبان للضعف الجنسي ، فلا تعويض لا لضرر مادي ولا لضرر أدبي ، حتى لو كان هناك مشروع للزواج لم يتم ( [1020] ) . وإذا كان فسخ الخطبة بين خطيبين أحدهما قاصر ، فوالد الخطيبة هو المسئول إذا كان هو السبب في الفسخ ( [1021] ) .
هذه المبادئ الواضحة ، على وضوحها ، لم تستقر في القضاء المصري إلا بعد اضطراب وتأرجح . فقد صدرت أحكام من القضاء الوطني بنوع خاص ، تقضي بأن فسخ الخطبة لا يوجب التعويض إذ هو أمر مباح فلا سبيل إلى تحميل الحاطب الذي يعدل مسئولية عمل مشروع ، والقضاء ممنوع من تقييد المباحات العامة ، كما أن تحري العوامل التي دعت إلى فسخ الخطبة والظروف التي لابست هذا الفسخ يقتضي التدخل في أدق الشؤون الشخصية والاعتبارات اللصيقة بحرمات الناس ، هذا إلى أن الشريعة لم تحمل الزوج الذي يطلق قبل الدخول إلا خسارة نصف المهر الذي دفعه ، فكيف يصح إلزام الخاطب بتعويض قد يربو على ذلك إن هو عدل عن الخطبة! ( [1022] ) وفي الوقت ذاته صدرت أحكام أخرى ، من القضاء الوطني والقضاء المختلط ، تقضي بجواز التعويض عن فسخ الخطبة ، وبخاصة إذا سبق الفسخ استهواء أو سببت الخطبة مصروفات أو أخذت صورة واضحة من العلانية ذلك أن الحكمة في جواز العدول عن الخطبة هي تمكين طرفيها من تفادى الارتباط بزواج لا يحقق الغاية المرجوة منه ، فلا تحمى الشرائع عدولاً طائشاً لا يبرره مسوغ يقتضيه ،و خسارة نصف المهر في حالة الطلاق قبل الدخول ليست إلا مقابلاً للطلاق في ذاته مجرداً عن كل ظرف آخر يجعل منه فعلاً ضاراً موجباً للمسئولية المدنية ، ولا يستطيع القضاء أن يتخلى عن سلطته في تقدير الأفعال التي يترتب عليها إضرار أحد الخطيبين بالآخر ، سواء كان ذلك بسلوكه أثناء الخطبة أو بعدوله عنها بكيفية ضارة ، احتجاجاً بدقة تقدير مثل هذه الأمور الشخصية اللصيقة بالحرمات . فما كانت دقة النزاع لتصلح دفعاً بعدم اختصاص القضاء بنظره ، وليس أحق برعاية القضاء وإشرافه شيء أكثر من الأعراض والحرمات لمساسها بذات الإنسان ( [1023] ) . ثم إن الأحكام التي قضت بجواز التعويض ذهب بعضها إلى أن الخطبة عقد ملزم ، العدول عن الوفاء به يوجب التعويض ( [1024] ) . ولكن الكثرة الغالبة ذهبت إلى أن التعويض إنما يعطى على أساس المسئولية التقصيرية لا المسئولية العقدية ( [1025] ) .
والذي يمكن تقريره في هذا الشأن ، باعتبار أن القضاء قد استقر عليه ، هو ما يأتي : ( 1 ) الخطبة ليست بعقد ملزم . ( 2 ) مجرد العدول عن الخطبة لا يكون سبباً موجباً للتعويض . ( 3 ) إذا اقترن بالعدول عن الخطبة أفعال أخرى ألحقت ضرراً بأحد الخيطبين ، جاز الحكم بالتعويض على أساس المسئولية التقصيرية . وقد قررت محكمة النقض أخيراً هذه المبادئ في حكم لها جاء فيه ما يأتي : " إن الخطبة ليست إلا تمهيداً لعقد الزواج ، وهذا الوعد بالزواج لا يقيد أحداً من المتواعدين ، فلكل منهما أن يعدل عنه في أي وقت شاء ، خصوصاً وأنه يجب في هذا العقد أن يتوافر للمتعاقدين كامل الحرية في مباشرته لما للزواج من الخطر في شؤون المجتمع ، وهذا لا يكون إذا كان أحد الطرفين مهدداً بالتعويض . ولكن إذا كان الوعد بالزواج والعدول عنه ، باعتبار أنهما مجرد وعد فعدول ، قد لازمتهما أفعال أخرى مستقلة عنهما استقلالاً تاماً ، وكانت هذه الأفعال قد ألحقت ضرراً مادياً أو أدبياً بأحد المتواعدين ، فإنها تكون مستوجبة التضمين على من وقعت منه ، وذلك على أساس أنها هي في حد ذاتها – بغض النظر عن العدول المجرد – أفعال ضارة موجبة للتعويض ( [1026] ) " .
أما الإغواء ( seduction ) فلا يكون سبباً في التعويض إلا إذا اصطحب بالخديعة والغش أو اقترن بضغط أدبي ( [1027] ) . فإذا كانت ضحية الإغواء في سن تسمح بتدبر العواقب ، كان هذا سبباً في تخفيف التعويض ( [1028] ) . وإذا كانت العلاقة الجنسية نتيجة استسلام متبادل سكن إليه الطرفان ، ورضيت المرأة أن تكون خليلة على علم من أقاربها فلا تعويض ( [1029] ) . فإذا وعد الخليل خليلته بعد هجرها بالتعويض كان هذا قياماً بالتزام طبيعي ، بخلاف ما إذا كان هذا الوعد سابقاً على المعاشرة وقد قصد منه الإغراء فيكون باطلاً لعدم مشروعية السبب ، وقد تقدم بيان ذلك . وقد يكون الإغواء سبباً للتعويض . حتى لو كان الشاب قاصراً ، فإن المسئولية هنا تقصيرية لا عقدية ، والقاصر تجوز مساءلته تقصيرياً ( [1030] ) .
551 - حالات أخرى مختلفة في الخطأ التقصيري : وهناك ، عدا ما تقدم ، حالات أخرى مختلفة في الخطأ التقصيري توجب المسئولية ، منها الأعمال التي تترتب عليها مسئولية شركة المياه والغاز والنور ( [1031] ) . ومنها المنافسة التجارية غير المشروعة ، وتقع عادة بتقليد العلامات التجارية ( الماركات ) ، أو استعمال طرق احتيالية كاتخاذ اسم تجاري مقارب للاسم التجاري المزاحم . وقد تقع المنافسة غير المشروعة بإغراء عمال المتجر المزاحم على ترك متجرهم إلى المتجر الآخر . وتقع كذلك بنشر إشاعات كاذبة عن المتجر المزاحم ، وبالتشهير بعيوب هذا المتجر ، وغير ذلك من وسائل المنافسة غير المشروعة ( [1032] ) . ومنها الإجراءات القضائية الكيدية ( [1033] ) ، كالدعاوى والدفوع الكيدية ( [1034] ) ، ودعاوى الإفلاس الكيدية ( [1035] ) والتنفيذ الكيدي ( [1036] ) . ومنها المضار الفاحشة للجوار ( [1037] ) . وقد تترتب مسئولية الحكومة لأعمال تصدر من موظفيها مخالفة للقانون ( [1038] ) .
$ 2 التعسف في استعمال الحق ( [1039] )
( Abus du droit )
552 - مسائل ثلاث : قدمنا أن الخطأ يكون لا في الخروج عن حدود الرخصة فحسب ، ولا في الخروج عن حدود الحق فحسب ، بل أيضاً في التعسف في استعمال الحق . وقلنا إن رجال الفقه في القرن الماضي كانوا لا يرون أن الشخص يجوز عليه الخطأ وهو يستعمل حقه . ولكن نظرية التعسف في استعمال الحق – ولها جذور في أعماق الماضي السحيق – ما لبثت أن استقرت في العصر الحاضر ، وثبت عليها القضاء ، وسلم بها الفقه .
فنحن نتابع هذه النظرية : ( 1 ) في تطورها التاريخي إلى أن نصل بها إلى يومنا هذا لنراها مسجلة في تقنيننا المدني الجديد . ( 2 ) ثم نبحث على أي أساس تقوم النظرية ، وبأي معيار تأخذ . ( 3 ) ثم ننظر في حظها من التطبيق العملي في نواحي النشاط المختلفة .
1 - التطور التاريخي لنظرية التعسف في استعمال الحق :
553 - نظرية التعسف في استعمال الحق نظرية قديمة : ليست نظرية التعسف في استعمال الحق بالنظرية الجديدة أو المبتدعة ، بل هي نظرية قديمة عرفها الرومان ، وانتقلت إلى القانون الفرنسي القديم ، وتشبع يبها الفقه الإسلامي . ولكنها اختفت ردحاً من الزمن بعد أن ظهرت مبادئ الفردية ( individualisme ) وأمعنت الثورة الفرنسية في الأخذ بهذه المبادئ وبقيت مختفية طوال القرن التاسع عشر . لا تكاد تطول برأسها في بعض أحكام القصاء حتى يتنكر لها الفقهاء ، إلى أن قيض الله لها فقيهين من أعلام الفقه الفرنسي هما سالي ( Saleilles ) وجوسران ( josserand ) ، فنفضا عنها التراب ، وأعادا لها الجدة . فما لبثت أن استقرت في الفقه بعد أن ثبت عليها القضاء . ثم أخذت بها التقنينات الحديثة . وأصبحت اليوم نظرية ثابتة مستقرة لا يستطيع أحد أن يفكر تفكيراً جدياً في الانتفاض عليها .
554 – النظرية في القوانين القديمة : قلنا إن القانون الروماني عرف النظرية . يشهد بذلك ما أورده فقهاء هذا القانون من تطبيقات لها مختلفة . من ذلك أن قرر الفقيه إيلبيان ( ulpien ) أن من حفر بئراً في أرضه وتعمق في الحفر حتى قطع العروق النابعة في عين لجاره ، لا يكون مسئولاً عن تعويض هذا الضرر ولكنه يكون مسئولاً إذا كان التعمق في الحفر من شأنه أن يسقط حائط الجار . وقد توسع القانون البريطوري ( droit pretorien ) في تطبيق النظرية ، حتى يتخفف من حدة القانون القديم وصرامته ( [1040] ) .
وانتقلت النظرية إلى القانون الفرنسي القديم بعد إحياء دراسات القانون الروماني في العصور الوسطى . وذهب دوما ( Domat ) فيما يبدو إلى أن الشخص يكون متعسفاً في استعمال حقه إذا هو قصد الإضرار بالغير أو لم تكن له مصلحة في استعماله . وكان يرى أن من يباشر إجراءات التقاضى قد يتعسف في مباشرتها فتتحقق مسئوليته ( [1041] ) .
ولم يكن الفقه الإسلامي ، وهو الفقه المشبع بروح دينية سامية تنهي عن التعسف وتأمر بالرفق والإحسان ، بأقل توسعاً من القانون الروماني في الأخذ بنظرية التعسف في استعمال الحق ( [1042] ) بل إن القانون المدني الجديد قد حرص على أن ينتفع في صياغة النص الذي أورده في هذه النظرية بالقواعد التي استقرت في الفقه الإسلامي ، واستمد من هذا الفقه الضوابط التي اشتملت عليها النص ( [1043] ) .
555 - الثورة الفرنسية والتقنين المدني الفرنسي : كان هذا العهد مشبعاً بروح الفردية كما قدمنا ، ينادى بحقوق الإنسان ، ويجعل منها حقوقاً مطلقة مقدسة . فلم تكن هناك حدود جدية تقيد من حرية الإنسان في استعمال حقه ما دام لا يجاوز الحدود المادية لهذا الحق . فانتكصت النظرية في ذلك العهد وفيما تلاه من العهود طوال القرن التاسع عشر . ولم يتحدث عنها أحد من الفقهاء . وساعد على ذلك أن مبدأ تحريم التعسف في استعمال الحق ، إذا كان قد عرف منذ القديم في القانون الروماني وفي القانون الفرنسي القديم ، كان ينقصه أن يصاغ في نظرية فقهية شاملة تجمع شتاته . وهذا ما اضطلع به رجال الفقه في القرن العشرين .
556 - انتعاش النظرية في العصر الحاضر : كان للقضاء ثم للفقه في فرنسا الفضل في إحياء مبدأ تحريم التعسف في استعمال الحق ، فصوغ المبدأ في نظرية عامة شاملة ، ما لبثت أن استقرت وأصبحت من أمهات النظريات القانونية .
بدأ القضاء الفرنسي منذ النصف الأخير من القرن التاسع عشر يقرر المبدأ في كثير من الصراحة والوضوح . فهذه محكمة استئناف كولمار ( Colmar ) تقول في حكمها الصادر في 2 مايو سنة 1855 ( [1044] ) ، وقد أدانت مالكاً أقام فوق سطح منزله مدخنة غرضه الوحيد من إقامتها أن يحجب النور عن جاره ، ما يأتي : " ومن حيث إن المبادئ العامة تقضي بأ ، حق الملكية هو على وجه ما ( en quelque sorte ) حق مطلق يبيح للمالك أن ينتفع بالشيء ، وأن يستعمله وفقاً لهواه ( abuser ) . ولكن استعمال هذا الحق ، كاستعمال أي حق آخر ، يجب أن يكون حده هو استيفاء مصلحة جدية مشروعة ( interet serieux et legitime ) وأن مبادئ الأخلاق والعدالة لتتعارض مع تأييد القضاء لدعوى يكون الباعث عليها رغبة شريرة ( malveillance ) ، وقد رفعت تحت سلطان شهوة خبيثة ( mauvaise passion ) ، دعوى لا يبررها أية منفعة شخصية ( aucune utilite personnelle ) ، وهي تلحق بالغير أذى جسيماً ( grave prejudice ) " . وفي سنة 1871 قررت محكمة النقض الفرنسية المبدأ الآتي : " حتى يكون ثمة محل للتعويض يجب أن يكون هناك خطأ . والقانون لا يعتبر الشخص مخطئاً إذا هو عمل ما من حقه أن يعمله ، إلا إذا قصد بالعمل أن يؤذي الغير دون أن تكون له مصلحة في ذلك ( interet pour lui - meme pour nuire a autrui et sans ) ( [1045] ) " .
ولكن الفقه لم يتنبه إلى هذه الطلائع من أحكام القضاء الفرنسي إلا في أواخر القرن التاسع عشر . فكتب بعض الفقهاء في ذلك ( [1046] ) . على أن الفقيهين اللذين قادا الفقه في هذا الميدان ، في مستهل القرن العشرين ، هما كما قدمنا سالي وجوسران . واستأثر جوسران بالجولات الأولى والأخيرة ، فوضع منذ سنة 1906 مؤلفاً أسماه " التعسف في استعمال الحقوق " ( De l'abus des droits ) جمع فيه أحكام القضاء منسقة ، واستخلص منها أصول نظرية عامة في هذه المسألة ، على غرار نظرية سبقتها في القانون الإداري هي نظرية التعسف في استعمال السلطة ( detournement de pouvoir ) ( [1047] ) . ثم كتب في سنة 1927 مؤلفاً آخر أسماه " في روح الحقوق وفي نسبيتها – النظرية المسماة بنظرية التعسف في استعمال الحق " ( De l'esprite de droits et de leur relativite – theorie dite de l'abus des droits ) ، كان أشمل المؤلفات في هذه المسألة وأكثرها وضوحاً .
ولم تسلم النظرية من خصوم ، وأظهر من ناصب النظرية العداء هو بلانيول الفقيه الفرنسي المعروف ، وهو يذهب إلى أن التعسف في استعمال الحق إنما هو خروج عن الحق ، ويقول في ذلك : " ينتهى الحق حيث يبدأ التعسف ، ولا يمكن أن يكون ثمة تعسف في استعمال حق ما ، لسبب غير قابل لأن يدحض ، هو أن العمل الواحد لا يصح أن يكون في وقت معاً متفقاً مع القانون ومخالفاً له ( [1048] ) " . وظاهر أن النقد شكلي . إذ يكفي لرده أن نقول إن هناك نوعين من الخروج عن الحق : خروجاً صريحاً عن حدود الحق ، وخروجاً عن الحق بالتعسف في استعماله . ولا يتعرض بلانيول على امتداد المسئولية إلى هذا النوع الثاني ، وكل ما ينكره هو أن يسمى هذا تعسفاً في استعمال الحق ولا يسمى خروجاً عن الحق ، لأن التعسف في رأيه هو خروج عن حدود الحق . فالفرق إذن في التسمية لا في الحكم أما أن العمل الواحد لا يصح أن يكون في وقت معاً متفقاً مع القانون ومخالفاً له ، فهذا لا شك فيه . ولكن يصح أن يكون العمل الواحد متفقاً مع حدود الحق ، ويكون في الوقت ذاته مخالفاً للقانون ( [1049] ) .
ومهما يكن من أمر فإن الفقه ، منذ صاغ نظرية التعسف ونسق ما بين أجزائها ، أنار السبيل للقضاء ، فصار يمشي على هدى ، وكثرت الأحكام والتطبيقات القضائية لهذه النظرية الخطيرة . وهكذا أثر القضاء في الفقه ، ثم تأثر به . وما لبث المشرع الفرنسي أن سار هو أيضاً في هذا السبيل ، فسجل انلظرية في كثير من تشريعاته المتفرقة ( [1050] ) .
وقد أخذت النظرية مكاناً محترماً في التقنينات الحديثة ، حتى سما بها القانون المدني السويسري إلى الصدر من نصوصه ، ليجعل منها نظرية عامة تتمشى على جميع نواحي القانون ، ولم يقتصر على جعلها تطبيقاً من تطبيقات المسئولية التقصيرية تذكر في المكان الذي نص فيه على هذه المسئولية ( [1051] ) .
وانتقلت النظرية من الفقه والقضاء الفرنسيين إلى الفقه والقضاء المصريين في ظل القانون القديم . أما التشريع المصري فلم يكن يشتمل على نص عام في الموضوع ، وإن كان قد أشتمل على بعض نصوص تطبيقية ( [1052] ) .
ولكن القانون المدني الجديد احتفل بالنظرية ، وعنى بها عناية خاصة . فأحلها مكاناً بارزاً بين نصوصه ، وجعلها نظرية عامة مكانها الباب التمهيدي لا المسئولية التقصيرية ( [1053] ) .
557 – النصوص القانونية : نصت المادة 4 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" من استعمل حقه استعمالاً مشروعاً لا يكون مسئولاً عما ينشأ عن ذلك من ضرر ( [1054] ) " .
ثم نصت المادة 5 على ما يأتي :
" يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية :
" ( أ ) إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير " .
" ( ب ) إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها " .
" ( ج ) إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها غير مشروعة ( [1055] ) " .
ويلاحظ بادئ الأمر أن القانون المدني الجديد ، إذا كان قد آثر أن يضع هذه النصوص في الباب التمهيدي لتكون مبدأ من المبادئ الجوهرية التي تسود جميع نواحي القانون ، لم يرد بذلك أن يقيم المبدأ على غير أساسه القانوني . فالتعسف في استعمال الحق ليس إلا صورة من صورتي الخطأ التقصيري على النحو الذي قدمناه ، فيدخل بهذا الاعتبار في نطاق المسئولية التقصيرية ( [1056] ) .
558 - الأساس القانوني لنظرية التعسف في استعمال الحق : فالأساس القانوني لنظرية التعسف في استعمال الحق ليس هو إذن إلا المسئولية التقصيرية . إذ التعسف في استعمال الحق خطأ يوجب التعويض . والتعويض هنا ، كالتعويض عن الخطأ في صورته الأخرى وهي صورة الخروج عن حدود الحق أو عن حدود الرخصة ، يجوز أن يكون نقداً كما يجوز أن يكون عيناً . وليس التعويض العيني – كالقضاء بهدم المدخنة التي تحجب النور عن الجار – بمخرجه عن نطاق المسئولية التقصيرية ، فإن التعويض العيني جائز في الصورة الأخرى من الخطأ كما سنرى . ولا نحن في حاجة إلى القول بأساس مستقل للتعسف في استعمال الحق يتميز به عن المسئولية التقصيرية – كما ذهب بعض الفقهاء ( [1057] ) إلى ذلك – إذا نحن سلمنا بجواز الحكم بتهديد مالي في شأنه ( [1058] ) ، فإن التهديد المالي جائز في الالتزام الناشئ عن المسئولية التقصيرية جوازه في أي التزام آخر ( [1059] ) .
ويبقى التعسف داخلاً في نطاق المسئولية التقصيرية حتى لو كان تعسفاً متصلاً بالتعاقد ( [1060] ) . فالمؤجر الذي يتمسك بالشرط المانع من الإيجار من الباطن تعسفاً منه تتحقق مسئوليته التقصيرية .ويكون مسئولاً مسئولية تقصيرية كذلك من تعسف في إنهاء عقد جعل له الحق في إنهائه ، كعقد العمل أو عقد الشركة إذا لم تحدد المدة فيهما وكعقد الوكالة .
559 - معيار نظرية التعسف في استعمال الحق : فما هو إذن المعيار الذي يصلح اتخاذه لنظرية التعسف في استعمال الحق؟ هو دون شك المعيار عينه الذي وضع للخطأ التقصيري ، إذ التعسف ليس إلا إحدى صورتيه كما قدمنا . ففي استعمال الحقوق كما في إتيان الرخص يجب ألا ينحرف صاحب الحق عن السلوك المألوف للشخص العادي . فإذا هو انحرف – حتى لو لم يخرج عن حدود الحق – عد انحرافه خطأ يحقق مسئوليته .
غير أن الانحراف هنا لا يعتد به إلا إذا اتخذ صورة من الصور التي عددها نص القانون الجديد : 1 ) قصد الإضرار بالغير . 2 ) رجحان الضرر على المصلحة رجحاناً كبيراً . 3 ) تحقيق مصلحة غير مشروعة . ونبحث الآن هذه الصور واحدة بعد الأخرى .
560 - قصد الإضرار بالغير : المعيار هنا ، على الرغم من ذاتيته ، يمكن أن يندرج في المعيار الموضوعي العام للخطأ . فإنه لا يكفي أن يقصد صاحب الحق الإضرار بالغير ، بل يجب فوق ذلك أن يكون استعماله لحقه على هذا النحو مما يعتبر انحرافاً عن السلوك المألوف للشخص العادي . فقد يقصد شخص وهو يستعمل حقه أن يضر بغيره ، ولكن لتحقيق مصلحة مشروعة لنفسه ترجح رجحاناً كبيراً على الضرر الذي يلحقه بالغير . فقصد الإضرار بالغير في هذه الحالة لا يعتبر تعسفاً ، إذ أن صاحب الحق بهذا التصرف م ينحرف عن السلوك المألوف للشخص العادي . أما إذا كان قصد إحداث الضرر هو العامل الأصلي الذي غلب عند صاحب الحق وهو يستعمل حقه للإضرار بالغير ، اعتبر هذا تعسفاً ، ولو كان هذا القصد مصحوباً بنية جلب المنفعة كعامل ثانوي ، سواء تحققت هذه المنفعة أو لم تتحقق ويكون تعسفاً ، من باب أولى ، قصد إحداث الضرر غير المقترن بنية جلب المنفعة حتى لو تحققت هذه المنفعة عن طريق عرضي ، فلو أن شخصاً غرس أشجاراً في أرضه بقصد حجب النور عن جاره ، كان متعسفاً في استعمال حق الملكية حتى لو تبين فيما بعد أن هذه الأشجار قد عادت على الأرض بالنفع .
ويجب أن يثبت المضرور أن صاحب الحق وهو يستعمل حقه قصد إلى إلحاق الضرر به . ويثبت هذا القصد بجميع طرق الإثبات ، ومنها القرائن المادية . ولا يكفي إثبات أن صاحب الحق تصور احتمال وقوع الضرر من جراء استعماله لحقه على الوجه الذي اختاره ، فإن تصور احتمال وقوع الضرر لا يفيد ضرورة القصد في إحداثه ( [1061] ) .
بقى أن نعالج فرضاً كثير الوقوع في العمل ، هو ألا يقوم دليل قاطع على وجود القصد في إحداث الضرر ، ولكن الضرر مع ذلك . ويتبين أن صاحب الحق لم تكن له أية مصلحة في استعمال حقه على الوجه الذي أضر فيه بالغير . ونرى أن انعدام المصلحة هنا انعداماً تاماً قرينة على قصد إحداث الضرر ، كما يدل الخطأ الجسيم على سوء النية . ولكن هذه القرينة قابلة لإثبات العكس ( [1062] ) .
561 - رجحان الضرر على المصلحة رجحاناً كبيراً : المعيار هنا موضوعي . وهو محض تطبيق للمعيار الرئيسي في الخطأ ، معيار السلوك المألوف للرجل العادي . فليس من المألوف أن الرجل العادي يستعمل حقاً على وجه يضر بالغير ضرراً بليغاً ولا يكون له في ذلك إلا مصلحة قليلة الأهمية لا تتناسب البتة مع هذا الضرر . ويكون استعمال الشخص لحقه تعسفاً ، على حد ما جاء في النص ، " إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها " . نقول ليس من السلوك المألوف للشخص العادي أن يفعل ذلك . ومن يفعل ، فهو إما عابث مستهتر لا يبالي بما يصيب الناس من ضرر بليغ لقاء منفعة ضئيلة يصيبها لنفسه ، وإما منطو على نية خفية يضمر الإضرار بالغير تحت ستار من مصلحة غير جدية أو مصلحة محدودة الأهمية يتظاهر أنه يسعى لها . وفي الحالين قد انحرف عن السلوك المألوف للشخص العادي ، وارتكب خطأ يوجب مسئوليته . . وقد طبق المشرع هذا المعيار ، إذ جاء في الفقرة الثانية من المادة 818 من القانون المدني الجديد ما يأتي : " ومع ذلك فليس لمالك الحائط أن يهدمه مختاراً دون عذر قوي إن كان هذا يضر الجار الذي يستتر ملكه بالحائط ( [1063] ) " .
562 – عدم مشروعية المصالح التي يرمي صاحب الحق إلى تحقيقها : والمعيار هنا هو أيضاً موضوعي ، وإن كان طريق الوصول إليه عاملاً ذاتياً هو نية صاحب الحق . وهو على كل حال تطبيق سليم لمعيار الخطأ . فليس من السلوك المألوف للشخص العادي أن يسعى تحت ستار أنه يستعمل حقاً له إلى تحقيق مصالح غير مشروعة . فرب العمل الذي يستعمل حقه في فصل عامل لأن التحق بنقابة من نقابات العمال ، والإدارة التي تفصل موظفاً إرضاء لغرض شخصي أو لشهوة حزبية ، والمالك الذي يضع أسلاكاً شائكة في حدود ملكه حتى يفرض على شركة طيران تهبط طائراتها في أرض مجاورة أن تشتري منه أرضه بثمن مرتفع ، ومؤجر العقار الذي يمتنع من الترخيص في الإيجار من الباطن لمشتري المصنع الذي أقيام على العقار بعد أن اقتضت الضرورة أن يبيع المستأجر هذا المصنع وذلك لا توقياً لضرر بل سعياً وراء كسب غير مشروع يجنيه من المشتري ( أنظر م 594 فقرة ثانية من القانون المدني الجديد ) – كل هؤلاء يتعسفون في استعمال حقوقهم ، لأنهم يرمون من وراء استعمالها إلى تحقيق مصالح غير مشروعة ( [1064] ) .
وقد آثر القانون الجديد هذا المعيار على معيارين آخرين شائعين في الفقه ، أحدهما معيار الغرض غير المشروع ( motif illegitime ) ، والثاني معيار الهدف الاجتماعي ( but social ) .
أما معيار الغرض غير المشروع فيتلخص في أن صاحب الحق يكون متعسفاً في استعمال حقه إذا كان الغرض الذي يرمي إليه غرضاً غير مشروع ( [1065] ) . وظاهر أن معيار " المصلحة غير المشروعة " خير من معيار " الغرض غير المشروع " . وإذا كان كلاهما يؤدي إلى نتيجة واحدة ، فإن معيار " المصلحة غير المشروعة " هو تعبير موضوعي عن المعنى الذاتي الذي ينطوي عليه معيار " الغرض غير المشروع " . فهو إذن أدق من ناحية الانضباط وأسهل من ناحية التطبيق ( [1066] ) .
ومعيار الهدف الاجتماعي يتلخص في أن الحقوق أعطاها القانون لأصحابها لتحقيق أهداف اجتماعية . فكل حق له هدف اجتماعي معين . فإذا انحرف صاحب الحق في استعمال حقه عن هذا الهدف ، كان متعسفاً وحقت مسئوليته وعيب هذا المعيار ، بالرغم من كونه موضوعياً ، هو صعوبة تحديد الهدف الاجتماعي لكل حق من الحقوق ، ثم خطر هذا التحديد . أما صعوبة التحديد فلأنه ليس من اليسير أن يرسم لكل حق هدف اجتماعي أو اقتصادي يكون منضبطاً إلى الحد الذي يؤمن معه التحكم ويتقي به تشعب الآراء . وأما خطر التحديد فلأن الهدف الاجتماعي هو الباب الذي ينفتح على مصراعيه لتدخل منه الاعتبارات السياسية والنزعات الاجتماعية والمذاهب المختلفة ، مما يجعل استعمال الحقوق خاضعاً لوجهات من النظر متشعبة متباينة ، وفي هذا من الخطر ما فيه . أما معيار " المصلحة غير المشروعة " فهو أبعد عن التحكم ، وأدنى إلى الاعتبارات القانونية المألوفة ( [1067] ) .
563 - معياران في المشروع التمهيدي حذفا في المشروع النهائي : وقد كان المشروع التمهيدي يضيف إلى المعايير الثلاثة المتقدمة معيارين آخرين :
( 1 ) التعارض مع مصلحة عامة جوهرية . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " والمعيار الثاني قوامه تعارض استعمال الحق مع مصلحة عامة جوهرية . وهذا معيار مادي استقاه المشروع من الفقه الإسلامي . وقننته المجلة من قبل إذ نصت في المادة 26 على أن الضرر الخاص يتحمل لدفع ضرر عام ( أنظر أيضاً المواد 27 و 28 و29 من المجلة ) . وأكثر ما يساق من التطبيقات في هذا الصدد عند فقهاء المسلمين يتعلق بولاية الدولة في تقييد حقوق الأفراد صيانة للمصلحة العامة . كمنع اختزان السلع تجنباً لاستغلال حاجة الأفراد إليها خلال الحروب والجوائح . على أن الفكرة في خصبها لا تقف عند حدود هذه التطبيقات . فهي مجرد أمثلة تحتمل التوسع والقياس ( [1068] ) " . ويتبين من ذلك أن المعيار هنا أقرب إلى أن يكون خطة تشريعية ينهج المشرع على مقتضاها في وضع تشريعات استثنائية تقتضيها ظروف خاصة . من أن يكون معياراً يتخذه القاضي للتطبيق العملي في الأقضية اليومية . وقد حذف في المشروع النهائي كما قدمنا .
( 2 ) التعارض مع حقوق أخرى يتعطل استعمالها على الوجه المألوف . فقد كان نص المشروع التمهيدي يجعل استعمال الحق غير مشروع إذا كان هذا الاستعمال " من شأنه أن يعطل استعمال حقوق تتعارض معه تعطيلاً يحول دون استعمالها على الوجه المألوف " . وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي :
" والثالثة حالة استعمال الحق استعمالاً من شأنه أن يعطل استعمال حقوق تتعارض معه تعطيلاً يحول دون استعمالها على الوجه المألوف . والمعيار في هذه الحالة مادي وإذا كان الفقه الغربي لا يؤكد استقلالها هذا المعيار ، إذ يلحقه بمعيار انتفاء صفة المشروعية عن المصلحة ، أو ي جعل منه صورة لمجاوزة حدود الحق يطلق عليها اسم الإفراط ، إلا أن الفقه الإسلامي يخصه بكيان مستقل . والقضاء في مصر أميل إلى الأخذ بمذهب الفقه الإسلامي ( العطارين الجزئية في 21 أكتوبر سنة 1929 المحاماة 10 ص 783 – استئناف مختلط في 11 ديسمبر سنة 1930 م 43 ص 78 ) . وكانت المجلة قد قننت هذا الفقه فقضت في المادة 1198 بأن " كل أحد له التعلي على حائط الملك وبناء ما يريد ، وليس لجاره منعه ما لم يكن ضرره فاحشاً " ، وعرفت الضرر الفاحش في المادة 1199 بأنه : كل ما يمنع الحوائج الأصلية يعني المنفعة الأصلية المقصودة من البناء كالسكنى أو ما يضر بالبناء أي يجلب له وهنا ويكون سبب انهدامه " . وعقبت على ذلك بتطبيقات مختلفة في المواد من 1200 إلى 1212 . وقد جرى القضاء المصري منذ عهد بعيد على الأخذ بهذه المبادئ ، ولا سيما فيما يتعلق بصلات الجوار . فقضت محكمة الاستئناف المختلطة في 30 أبريل سنة 1903 بأن " الملكية الفردية أياً كانت سعة نطاقها تتقيد بواجب الامتناع عن إلحاق أي ضرر جسيم بالجار . . . ويدخل في ذلك كل فعل يمنع الجار من تحصيل المنافع الرئيسية من ملكه . وتواترت الأحكام بعد ذلك على تقرير المبادئ ذاتها ( [1069] ) " . ويتبين من ذلك أن هذا المعيار الثاني ليس إلا المعيار الذي يطبق في حقوق الجوار ، وهو معيار " الضرر الفاحش " . وقد حذف في المشروع النهائي لأن مضار الجوار في القانون المدني الجديد تخرج عن نطاق نظرية التعسف في استعمال الحق فالضرر الفاحش فيما بين الجيران ليس تعسفاً في استعمال الحق . بل هو خروج عن حدود الحق ، وقد رأينا ذلك فيما تقدم ( [1070] ) .
564 – معايير التعسف ومعايير الخطأ : ويتبين مما تقدم أن للتعسف في استعمال الحق على الوضع الذي جاء به القانون المدني الجديد معايير ثلاثة : نية الإضرار ، ورجحان الضرر ، والمصلحة غير المشروعة .
ونية الإضرار هي المقابلة للخطأ العمدي . ورجحان الضرر هو المقابل للخطأ الجسيم والمصلحة غير المروعة هي المقابلة للخطأ غير الجسيم .
فالعمد والخطأ الجسيم متطابقان في صورتي الخطأ : صورة التعسف في استعمال الحق وصورة الخروج عن حدود الحق أو الرخصة . أما الخطأ غير الجسيم ، ففي الخروج عن حدود الحق أو الرخصة رأيناه أي انحراف عن السلوك المألوف للرجل العادي ، وفي التعسف في استعمال الحق لا يكون الانحراف إلا في حالة واحدة هي أن يرمي صاحب الحق في استعماله لحقه إلى تحقيق مصلحة غير مشروعة . ومن ثم يكون الخطأ غير الجسيم في التعسف أضيق منه في الخروج عن الحق أو الرخصة . ويرجع السبب في ذلك إلى نصوص القانون التي ضيقت من حدود التعسف ( [1071] ) . وقد يبرر ذلك أن صورة الخطأ في التعسف هي صورة مستحدثة ، فيحس عدم التوسع فيها .
ج - تطبيقات مختلفة لنظرية التعسف في استعمال الحق
565 - تطبيقات تشريعية وتطبيقات قضائية : تنتشر تطبيقات التعسف في استعمال الحق في جميع نواحي القانون . وبعض هذه التطبيقات وردت فيها نصوص تشريعية خاصة في القانون المدني الجديد ، فتسري عليها هذه النصوص بالذات . وبعضها كان ثمرة اجتهاد القضاء المصري في عهد القانون المدني القديم ، ولم يخرج القضاء في تطيقه لنظرية التعسف عن المبادئ التي قدمناها . فنورد بعضاً من التطبيقات التشريعية وبعضاً من التطبيقات القضائية ( [1072] ) .
566 – تطبيقات تشريعية من نصوص القانون المدني الجديد :
نصت الفقرة الأولى من المادة 11 على ما يأتي : " الحالة المدنية للأشخاص وأهليتهم يسري عليها قانون الدولة التي ينتمون إليها بجنسيتهم . ومع ذلك ففي التصرفات المالية التي تعقد في مصر ، وتترتب آثارها فيها ، إذا كان أحد الطرفين أجنبياً ناقص الأهلية وكان نقص الأهلية يرجع إلى سبب فيه خفاء لا يسهل على الطرف الآخر تبينه ، فإن هذا السبب لا يؤثر في أهليته " فناقص الأهلية هنا إذا طلب إبطال العقد يكون متعسفاً ، فيرد عليه قصده ، ويحرم من الحق في إبطال العقد ، ولا يؤثر هذا السبب الخفي في أهليته . وجزاء التعسف هنا هو منع الضرر من أن يقع .
ونصت الفقرة الأولى من المادة 410 على ما يأتي : " يجوز لكل من الخصين أن يوجه اليمين الحاسمة إلى الخصم الآخر . على أنه يجوز للقاضي أن يمنع توجيه اليمين إذا كان الخصم متعسفاً في توجيهها " . وهنا أيضاً جزاء التعسف هو منع الضرر من أن يقع .
ونصت الفقرة الثانية من المادة 695 في عقد العمل على ما يأتي : " وإذا فسخ العقد بتعسف من أحد المتعاقدين ، كان للمتعاقد الآخر ، إلى جانب التعويض الذي يكون مستحقاً له بسبب عدم مراعاة ميعاد الإخطار ، الحق في تعويض ما أصابه من ضرر بسبب فسخ العقد فسخاً تعسفياً " . وجزاء التعسف هنا تعويض نقدي .
ونصت المادة 696 6في عقد العمل على ما يأتي : " 1 - ويجوز الحكم بالتعويض عن الفصل ولو لم يصدر هذا الفصل من رب العمل ، إذا كان هذا الأخير قد دفع العامل بتصرفاته ، وعلى الأخص بمعاملته الجائرة أو مخالفته شروط العقد ، إلى أن يكون هو في الظاهر الذي أنهى العقد . 2 - ونقل العامل إلى مركز أقل ميزة أو ملاءمة من المركز الذي كان يشغله لغير ما ذنب جناه ، لا يعد عملاً تعسفياً بطريق غير مباشر إذا ما اقتضته مصلحة العمل ، ولكنه يعد كذلك إذا كان الغرض منه إساءة العامل " . وجزاء التعسف هنا أيضاً تعويض نقدي .
ونصت الفقرة الثانية من المادة 818 على ما يأتي : " ومع ذلك فليس لمالك الحائط أن يهدمه مختاراً دون عذر قوي إن كان هذا يصر الجار الذي يستتر ملكه بالحائط " . ويجوز أن يكون جزاء التعسف هنا هو إزالة الضرر بعد أن وقع ، فيقام الحائط الذي هدمه مالكه تعسفاً من جديد .
ونصت المادة 1029 على ما يأتي : " لمالك العقار المرتفق به أن يتحرر من الارتفاق كله أو بعضه إذا فقد الارتفاق كل منفعة للعقار المرتفق ، أو لم تبقى له غير فائدة محدودة لا تتناسب البتة مع الأعباء الواقعة على العقار المرتفق به " . والتعسف هنا في أن يطالب مالك العقار المرتفق بقاء حتى الارتفاق بعد أن زالت منفعه . والجزاء هو إزالة الضرر عيناً بإنهاء حق الارتفاق ( [1073] ) .
567 – تطبيقات قضائية : والقضاء المصري في عهد القانون المدني القديم عني بالأحكام التي تطبق نظرية التعسف في استعمال الحق في نواح مختلفة . ونجتزئ هنا بالإشارة إلى بعض منها .
من ذلك التعسف في استعمال حق الملكية ، إذا استعمل المالك حقه بنية الإضرار بالغير . ويؤخذ قرينة على نية الإضرار ألا يكون للمالك نفع ظاهر من استعمال حقه على النحو الذي اختاره مع علمه بالضرر الذي يلحق الغير . فيعتبر متعسفاً المالك الذي يقيم حائطاً في حدود ملكه يستر النور ويمنع الهواء عن جاره دون نفع ظاهر له ( [1074] ) . أما إذا أقام الحائط ليستتر من أن يطل الجار على داره أو على حديقته ، فلا تعسف ولا تعويض ( [1075] ) . وإذا استعمل المالك حقه دون حيطة ، فانحرف بذلك عن السلوك المألوف للشخص العادي وأضر بالجار ضرراً بليغاً ، كان مسئولاً مثل ذلك من يبني في أرضه فيخالف قواعد فن البناء تقصيراً أو إهمالاً فيضر بجاره ( [1076] ) . ومثل ذلك أيضاً من يقيم في ملكه مدخنة تؤذي الجار وكان يمكنه تجنب هذا الأذى لو أقام المدخنة في مكان آخر ( [1077] ) .
ومن ذلك أيضاً التعسف في استعمال الحق في إنهاء العقد . فرب العمل الذي يفصل عاملاً مدفوعاً في ذلك بعامل الانتقام يكون متعسفاً وتتحقق مسئوليته التقصيرية ( [1078] ) .
ومن ذلك أخيراً التعسف في استعمال السلطة الوظيفة ، وهو ما يعرف في القانون الإداري بالتعسف في استعمال السلطة ( detournement du pouvoir ) . فإذا انحرف الموظف في أعمال وظيفته عن مقتضى الواجب المفروض عليه ، وصدر تصرفه بقصد الإضرار لأغراض نقابية عن المصلحة العامة . كان متعسفاً في استعمال السلطة وتحققت مسئوليته ( [1079] ) .
المبحث الثاني
الضرر
( Le prejudice )
568 – تحديد الموضوع – الإثبات : الضرر هو الركن الثاني للمسئولية التقصيرية . فليس يكفي لتحقق المسئولية أن يقع خطأ ، بل يجب أن يحدث الخطأ ضرراً ( [1080] ) ونتكلم هنا في قيام الضرر في يذاته . أما الكلام في التعويض عن الضرر فمحله الفرع الخاص بآثار المسئولية .
والمضرور هو الذي يثبت وقوع الضرر به . ووقوع الضرر واقعة مادية يجوز إثباتها بجميع الطرق ، ومنها البينة والقرائن ( [1081] ) .
569 – الضرر المادي والضرر الأدبي : وقد يكون الضرر مادياً يصيب المضرور في جسمه أو في ماله ، وهو الأكثر الغالب . وقد يكون أدبياً يصيب المضرور في شعوره أو عاطفته أو كرامته أو شرفه أو أي معنى آخر من المعاني التي يحرص الناس عليها . ونتكلم في كل من هذين النوعين .
المطلب الأول
الضرر المادي
570 - شرطان : الضرر المادي هو إخلال بمصلحة للمضرور ذات قيمة مالية . ويجب أن يكون هذا الإخلال محققاً ، ولا يكفي أن يكون محتملاً يقع أو لا يقع .
فللضرر المادي إذن شرطان : ( 1 ) أن يكون هناك إخلال بمصلحة مالية للمضرور . ( 2 ) أن يكون محققاً ونبحث كلاً من هذين الشرطين .
$ 1 - الإخلال بمصلحة مالية للمضرور
571 – الضرر إخلال بحق أو بمصلحة : قد تكون المصلحة المالية للمضرور حقاً أو مجرد مصلحة مالية . ونستعرض كلاً من الفرضين .
572 – الضرر إخلال بحق للمضرور : لكل شخص الحق في السلامة : سلامة حياته وسلامة جسمه . فالتعدي على الحياة ضرر ، بل هو أبلغ الضرر وإتلاف عضو أو إحداث جرح أو إصابة الجسم أو العقل بأي أذى آخر من شأنه أن يخل بقدرة الشخص على الكسب أو يكبد نفقة في العلاج هو أيضاً ضرر مادي ( [1082] ) .
والتعدي على الملك هو إخلال بحق ويعتبر ضرراً . فإذا أحرق شخص منزلاً لآخر ، أو قلع زراعته ، أو خرب أرضه ، أو أتلف له مالاً كأثاث أو عروض أو غير ذلك ، كان هذا ضرراً مادياً أصاب المضرور في حق ثابت له . وكل إخلال بحق مالي ثابت ، عينياً كان هذا الحق أو شخصياً ، هو ضرر مادي . والأمثلة على ذلك كثيرة تجتزئ بما قدمناه منها .
وقد يصيب الضرر شخصاً بالتبعية عن طريق ضرر أصاب شخصاً آخر . فالقتل ضرر أصاب المقتول في حياته ، وعن طريق هذا الضرر أصيب بضرر أولاد المقتول بحرمانهم من العائل ، وهذا عدا الضرر الأول الذي أصاب المقتول نفسه ( [1083] ) . والحق الذي يعتبر الإخلال به ضرراً أصاب الأولاد تبعاً هو حقهم في النفقة قبل أبيهم ( [1084] ) . وقد يكون المضرور تبعاً دائناً للمصاب لا بنفقة ولكن بحق آخر ، فالإخلال بهذا الحق يعتبر ضرراً بالتبعية . مثل ذلك دائن يطالب المدين بعمل يستوجب تدخله الشخصي ، وقد قتل المدين ، فللدائن مطالبة القاتل بالتعويض عن الضرر الذي أصابه من جراء فقد مدينه وفوات الفرصة عليه في تنفيذ العمل . أما إذا كان الدائن يستطيع أن يحصل على حقه من غير تدخل المدين ، فلا يكون ثمة ضرر . ذلك أن التركة إذا كانت موسرة استطاع الدائن أن يتقاضى منها حقه ، وإذا كانت معسرة فقد ثبت أن المدين كان معسراً قبل موته ولم يحدث للدائن ضرر بالموت .
573 – الضرر إخلال بمصلحة مالية للمضرور : وقد يكون الضرر إخلالاً لا بحق للمضرور ولكن بمجرد مصلحة مالية ليه . مثل ذلك أن يصاب عامل فيستحق معاشاً عند رب العمل ، فيكون المسئول عن إصابة العامل قد أصاب رب العمل في مصلحة مالية له إذ جعله مسئولاً عن معاش العامل ، والإخلال بالمصلحة المالية على هذا النحو يعد ضرراً . ومثل آخر للمصلحة المالية التي يصاب فيها المضرور أن يفقد عائله دون أن يكون له حق ثابت في النفقة ، وهذا بخلاف من له حق ثابت في النفقة فإن الضرر يصيبه في حق لا في مصلحة . ويقع ذلك إذا كان شخص يعول أحداً من أقاربه أو ممن يلوذ به دون أن يلزمه القانون بالنفقة عليه – فمن يعال إذا فقد العائل يكون قد أصيب في مصلحة مالية – لا في حق – إذا هو أثبت أن العائل كان يعوله فعلاً وعلى نحو مستمر دائم وأن فرصة الاستمرار على ذلك في المستقبل كانت محققة ، فيقدر القاضي ما ضاع على المضرور من فرصة بفقد عائله ويقضي له بتعويض على هذا الأساس . كذلك الضرر الذي يصيب الخطيبة من فقد خطيبها يقاس بمقدار ما كلفتها الخطبة من نفقات وبمقدار ما ضاع عليها من فرصة في إتمام الزاج ، وهذا أمر يترك تقديره للقاضي ( [1085] ) .
ويراعى أن المصلحة المالية التي يعد الإخلال بها ضرراً هي المصلحة المشروعة . أما المصلحة غير المشروعة فلا يعتد بها ، ولا يعتبر الإخلال بها ضرراً يستوجب التعويض . فالخليلة لا يجوز أن تطالب بتعويض عن ضرر أصابها بفقد خليلها ، لأن العلاقة فيما بينهما كانت غير مشروعة . أما الولد الطبيعي والأبوان الطبيعيان فيجوز لهم ذلك ، لأن العلاقة فيما بينهم ، وإن كانت قد نشأت عن علاقة غير مشروعة ، هي في ذاتها مشروعة ( [1086] ) .
$ 2 - تحقق الضرر
574 – الضرر الحال والضرر المستقبل : ويجب أن يكون الضرر محقق الوقوع ، بأن يكون قد وقع فعلاً ، أو سيقع حتماً ( [1087] ) .
مثل الضرر الذي وقع فعلاً – وهو الضرر الحال – هو أن يموت المضرور أو يصاب بتلف في جسمه أو في ماله أو في مصلحة مالية له على النحو الذي قدمناه .
ومثل الضرر الذي سيقع حتماً – وهو الضرر المستقبل – هو أن يصاب عامل فيعجز عن العمل ، فيعوض ليس فحسب عن الضرر الذي وقع فعلاً من جراء عجزه عن العمل في الحال ، بل وعن الضرر الذي سيقع حتماً من جراء عجزه عن العمل في المستقبل . فإذا كان هذا الضرر يمكن تقديره فوراً قدره القاضي وحكم به كاملاً . أما إذا كان لا يمكن تقديره ، فقد يرجع ذلك إلى أن الضرر يتوقف تقديره على أمر لا يزال مجهولاً ، كما إذا أصيب العامل في ساقه وتوقف تقدير الضرر على ما إذا كانت الساق ستبتر أو ستبقى . فللقاضي في هذه الحالة أن يقدر التعويض على كلا الفرضين ويحكم بما قدر ، ويتقاضى العامل التعويض الذي يستحقه وفقاً لأي من الفرضين يتحقق في المستقبل . وقد يرجع عدم إمكان التقدير في الحال إلى أن العامل سيبقى عاجزاً عن العمل عجزاً كلياً أو جزئياً طول حياته ، ولا يعلم أحد في أي وقت يموت ، فيجوز للقاضى في هذه الحالة أن يجعل التعويض إيراداً مرتباً مدى الحياة – وقد يرجع عدم إمكان تقدير الضرر إلى أسباب أخرى ، فيجوز للقاضي بعد أن يقدر الضرر وفقاً لما تبينه من الظروف أن يحتفظ للمضرور بالحق في أن يطالب في خلال مدة معينة بإعادة النظر في التقدير ( [1088] ) . وقد أشار إلى هذه الفروض القانون المدني الجديد . فقضى في المادة 170 بأن " يقدر القاضي مدى التعويض عن الضرر الذي لحق المضرور طبقاً لأحكام المادتين 221 و 222 مراعياً في ذلك الظروف الملابسة ، فإن لم يتيسر له وقت الحكم أن يعين مدى التعويض تعييناً نهائياً فله أن يحتفظ للمضرور بالحق في أن يطالب خلال مدة معينة بإعادة النظر في التقدير ( [1089] ) " . وقضى في الفقرة الأولى من المادة 171 بأن " يعين القاضي طريقة التعويض تبعاً للظروف . ويصح أن يكون التعويض مقسطاً كما يصح أن يكون إيراداً مرتباً . ويجوز في هاتين الحالتين إلزام المدين بأن يقدم تأميناً ( [1090] ) " . وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام في التعويض .
على أن الضرر المستقبل قد لا يكون متوقعاً وقت الحكم بالتعويض فلا يدخل في حساب القاضي عند تقديره ، ثم تتكشف الظروف بعد ذلك عما تفاقم منه ، كأن يكف بصر العامل الذي أصيب في عينه أو أن تؤدي إصابته إلى وفاته . فهنا يجوز للمضرور أو لورثته أن يطالبوا في دعوى جديدة بالتعويض عما استجد من الضرر مما لم يكن قد دخل في حساب القاضي عند تقدير التعويض الأول . ولا يمنع من ذلك قوة الشيء المقضي ، فإن الضرر الجديد لم يسبق أن حكم بتعويض عنه أو قضى فيه . ولا يعتبر نزول النقد ظرفاً من شأنه أن يزيد في الضرر ، فإذا حكم لشخص بإيراد مرتب تعويضاً عن الضرر الذي وقع به ، وقدر الإيراد بمبلغ من النقود ، ثم انخفضت قيمة النقد بعد ذلك فلا يستطيع المضرور أن يطالب بإعادة النظر في تقدير الإيراد ، ما لم يكن المبلغ المحكوم به قد روعى فيه أن يكون كافياً لنفقة المضرور ، فيجوز عند ذلك زيادة الإيراد أو إنقاصه تبعاً لانخفاض قيمة النقد أو ارتفاعها ( [1091] ) أما إذاك أن القاضي قدر قيمة الضرر وحكم بالتعويض وفقاً لهذا التقدير ، ثم تكشفت الظروف بعد ذلك عن تناقص الضرر تناقصاً لم يكن متوقعاً ، كأن قضى لعامل بتعويض عن إصابة أدت إلى كف بصره ، ثم تبين بعد ذلك أن العامل قد أسرد شيئاً من قوة الإبصار ، فلا يجوز في هذه الحالة أن يعاد النظر في تقدير التعويض لإنقاصه لأن هذا التقدير قد حاز قوة الشيء المقضي ( [1092] )
575 – الضرر المحتمل : ويجب التمييز بين الضرر المستقبل ( prej . futur ) وهو ضرر محقق يجب التعويض عنه على ما بينا – والضرر المحتمل ( prej eventuel ) وهو ضرر غير محقق ، قد يقع وقد لا يقع ، فلا يكون التعويض عنه واجباً إلا إذا وقع فعلاً . مثل ذلك أن يحدث شخص بخطئه خللاً في منزل جاره ، فالضرر المحقق هنا هو ما وقع من هذا الخلل ، ويلتزم المسئول بإصلاحه ، ولكنه لا يلتزم بإعادة بناء المنزل إذا لم يكن من المحقق أن الخلل سيؤدي إلى انهدامه .ويتربص صاحب المنزل حتى إذا أنهدم منزله فعلاً بسبب هذا الخلل ، رجع على المسئول بالتعويض عن ذلك ( [1093] ) .
576 – التعويض عن تفويت الفرصة : كذلك يجب التمييز بين الضرر المحتمل – وهذا لا يعوض عنه على النحو الذي مر – وتوفيت الفرصة ( pere d'une chance ) ويعوض عنه . ذلك أن الفرصة إذا كانت أمراً محتملاً ، فإن توفيتها أمر محقق . وعلى هذا الأساس يجب التعويض ، فإذا أهمل محضر في إعلان صحيفة الاستئناف إلى أن فات ميعاده ، أو قصرت جهة عقدت مسابقة في إخطار أحد المستابقين عن ميعاد المسابقة ففاته التقدم إليها ، فإنه إذا كان لا يمكن القول إن المستأنف كان يكسب الاستئناف حتماً لو أنه رفع في الميعاد ، أو أن المستابق كان يفوز حتماً في المسابقة لو أنه تقدم إليها ، فلا يمكن القول من جهة أخرى إن الأول كان يخسر الاستئناف حتماً ، وأن الثاني كان لا يفوز حتماً في المسابقة . وكل ما يمكن قوله إن كلا منهما قد فوتت عليه فرصة الكسب أو الفوز . وهذا هو القدر المحقق من الضرر الذي وقع وعلى القاضي أن يقدر هذا الضرر ، بأن ينظر إلى أي حد كان الاحتمال كبيراً في كسب الاستئناف أو في الفوز في المسابقة ، ويقضي بتعويض يعدل هذا الاحتمال . والأمر لا شك يتسع فيه مجال الاجتهاد ويختلف فيه التقدير ، وعلى القاضي أن يأخذ بالأحوط وأن يتوقى المبالغة في تقدير الاحتمال في نجاح الفرصة ( [1094] ) .
ومما جرى به القضاء المصري التعويض عن توفيت فرصة النجاح في الامتحان ( [1095] ) ، والتعويض عن توفيت الفرصة في كسب دعوى الشفعة ( [1096] ) ، والتعويض عن تفويت الموظف الفرصة في الترقية إلى درجة أعلى ( [1097] ) .
المطلب الثاني
الضرر الأدبي ( [1098] )
577 - تحديد الضرر الأدبي : الضرر الأدبي ( dommage moral ) هو الضرر الذي لا يصيب الشخص في ماله . وقد رأينا أن الضرر الذي يصيب الشخص في حق أو في مصلحة مالية هو ضرر مادي . وعلى النقيض من ذلك الضرر الأدبي ، فهو لا يمس المال ولكن يصيب مصلحة غير مالية . ويمكن إرجاع الضرر الأدبي إلى أحوال معينة :
1 - ضرر أدبي يصيب الجسم . فالجروح والتلف الذي يصيب الجسم والألم الذي ينجم عن ذلك وما قد يعقب من تشويه في الوجه أو في الأعضاء في الجسم بوجه عام ، كل هذا يكون ضرراً مادياً وأدبياً إذا نتج عنه إنفاق المال في العلاج أو نقص في القدرة على الكسب المادي ، ويكون ضرراً أدبياً فحسب إذا لم ينتج عنه ذلك .
2 - ضرر أدبي يصيب الشرف والاعتبار والعرض . فالقذف والسب وهتك العرض وإيذاء السمعة بالتقولات والتخرصات والاعتداء على الكرامة ، كل هذه أعمال تحدث ضرراً أدبياً إذ هي تضر بسمعة المصاب وتؤذي شرفه واعتباره بين الناس ( [1099] ) .
3 - ضرر أدبي يصيب العاطفة والشعور والحنان . فانتزاع الطفل من حضن أمه وخطفه ، والاعتداء على الأولاد أو الأم أو الأب أو الزوج أو الزوجة ، كل هذه أعمال تصيب المضرورة في عاطفته وشعوره ، وتدخل إلى قلبه الغم والأسى والحزن . ويلحق بهذه الأعمال كل عمل يصيب الشخص في معتقداته الدينية وشعوره الأدبي ( [1100] ) .
4 - ضرر أدبي يصيب الشخص من مجرد الاعتداء على حق ثابت له . فإذا دخل شخص أرضاً مملوكة لآخر بالرغم من معارضة المالك ، جاز لهذا أن يطالب بتعويض عما أصابه من الضرر الأدبي من جراء الاعتداء على حقه . حتى لو لم يصبه ضرر مادي من هذا الاعتداء .
ويجب في جميع هذه الأحوال أن يكون الضرر الأدبي . كالضرر المادي ، ضرراً محققاً غير احتمالي .
578 – الضرر الأدبي قابل للتعويض : والضرر الأدبي على النحو الذي قدمناه قابل للتعويض بالمال . وقد كان القانون الروماني يقر أحوالاً كثيرة يعوض فيها عن الضرر الأدبي في كل من المسئوليتين التقصيرية والعقدية .
وتلاه القانون الفرنسي القديم ، فأجاز التعويض عن الضرر الأدبي ، وقصر ذلك على المسئولية التقصيرية دون المسئولية العقدية ، توهما أن هذا هو حكم القانون الروماني . وقد قدمنا أن هذا القانون لا يفرق بين المسئوليتين في وجوب التعويض عن الضرر الأدبي .
ونصوص القانون الفرنسي الحديث في عمومها وإطلاقها تسمح بالتعويض عن الضرر الأدبي بقدر ما تسمح بالتعويض عن الضرر المادي . وقد أقر القضاء الفرنسي هذا المبدأ منذ عهد طويل ، ووطده في أحكام كثيرة ( [1101] ) أما الفقه الفرنسي فقد انقسم بادئ الأمر إلى فريقين . الفريق الأول رأي أن التعويض عن الضرر الأدبي متعذر إذ أن هذا الضرر بطبيعته غير قابل للتعويض ، وحتى إذا كان قابلاً له فإن التعويض فيه يستعصى على التقدير ( [1102] ) . والفريق الآخر ميز بين ضرر أدبي يجوز تعويضه وضرر أدبي لا يجوز فيه التعويض ، واختلفوا في وضع حد هذا التمييز . فمنهم من يقصر التعويض على الضرر الأدبي الذي يجر إلى ضرر مادي ، ولا يعوض إلا هذا الضرر المادي وحده ( [1103] ) . فهؤلاء إذن لا يجيزون تعويض الضرر الأدبي في ذاته .و منهم من يقصر التعويض على الضرر الأدبي الذي يترتب على جريمة جنائية ( [1104] ) . وليس هناك أساس معقول لهذا التمييز . ومنهم من يجيز التعويض في الضرر الأدبي الذي يصيب الشرف والاعتبار لأنه في العادة يجر إلى ضرر مادي ، ولا يجيزه في الضرر الأدبي الذي يصيب العاطفة والشعور لأنه يتمحض ضرراً أدبياً لا يمتزج به ضرر مادي ( [1105] ) . ولكن جمهور الفقهاء في العهد الأخير يقولون بجواز التعويض عن الضرر الأدبي ( [1106] ) . أما القول بأن طبيعة هذا الضرر لا تقبل التعويض وأن تقدير التعويض فيه مستعص فمبنى على لبس في فهم معنى التعويض . إذ لا يقصد بتعويض الضرر محوه وإزالته من الوجود . وإلا فالضرر الأدبي لا يمحى ولايزول بتعويض مادي . ولكن يقصد بالتعويض أن يستحدث المضرور لنفسه بديلاً عما أصابه من الضرر الأدبي . فالخسارة لا تزول ، ولكن يقوم إلى جانبها كسب يعوض عنها . وعلى هذا المعنى يمكن تعويض الضرر الأدبي . فمن أصيب في شرفه واعتباره جاز أن يعوض عن ذلك بما يرد اعتباره بين الناس ، وغن مجرد الحكم على المسئول بتعويض ضئيل ونشر هذا الحكم لكفيل برد اعتبار المضرور ( [1107] ) . ومن أصيب في عاطفته وشعوره إذا حصل على تعويض مالي فتح له المال أبواب المواساة تكفكف من شجنه . والألم الذي يصيب الجسم يسكن من أوجاعه مال يناله المضرور يرفه به عن نفسه أما تقدير مبلغ التعويض فليس بأشد مشقة من تقدير التعويض في بعض أنواع الضرر المادي . وما على القاضي إلا أن يقدر مبلغاً يكفي عوضاً عن الضرر الأدبي ، دون غلو في التقارير ولا إسراف .
وفي مصر استقر الفقه ( [1108] ) والقضاء ( [1109] ) على جواز التعويض عن الضرر الأدبي . ثم أتى القانون المدني الجديد فأكد هذا الحكم ، إذ نص في المادة 222 على ما يأتي :
" 1 - يشتمل التعويض الضرر الأدبي أيضاً ، ولكن لا يجوز في هذه الحالة أن ينتقل إلى الغير إلا إذا تحدد بمقتضى اتفاق ، أو طالب الدائن به أمام القضاء " .
" 2 - ومع ذلك لا يجوز الحكم بتعويض إلا للأزواج والأقارب إلى الدرجة الثانية عما يصيبهم من ألم من جراء موت المصاب ( [1110] ) " .
وعلى هذا المبدأ استقرت التقنينات الحديثة ( [1111] ) .
579 – من له حق التعويض عن الضرر الأدبي : كل من أصيب بضرر أدبي له الحق في المطالبة بالتعويض عنه . وقد حددنا فيما تقدم ما هو المقصود بالضرر الأدبي .
فإذا كان الضرر الأدبي هو موت شخص ، وجب التمييز بين الضرر الذي أصاب الميت نفسه ، ويراد أن ينتقل حق التعويض عنه بموته إلى ورثته ، والضرر الذي أصاب أقارب الميت وذويه في عواطفهم وشعورهم الشخصي من جراء موته ( [1112] ) .
أما الضرر الذي أصاب الميت نفسه ، فلا ينتقل حق التعويض عنه إلى ورثته ذلك أن التعويض عن الضرر الأدبي لا ينتقل بالميراث – كما سنرى – إلا إذا تحدد بمقتضى اتفاق أو طالب الدائن به أمام القضاء . وفي حالتنا لا يتصور شيء من ذلك ، إذ الضرر الأدبي هو موت الشخص نفسه ، فلا يمكن أن يكون التعويض عن هذا الموت قد تحدد بمقتضى اتفاق مع الميت أو طالب به هذا أمام القضاء .
بقى الضرر الذي يصيب ذوي الميت بطريق مباشر . وهنا عرض النص إلى تحديد من هؤلاء يجوز الحكم له بالتعويض . . فذكر أنه لا يجوز الحكم بتعويض إلا للأزواج والأقارب إلى الدرجة الثانية . ويتبين من ذلك أن الحق في المطالبة بالتعويض يقتصر على الزوج الحي وأقارب الميت إلى الدرجة الثانية وهم أبوه وأمه وجده وجدته لأيه أو لأمه وأولاده وأولاد أولاده وأخوته وأخواته . ولا يعطى القاضي تعويضاً لهؤلاء جميعاً إذا وجدوا ، بل يعطى التعويض لمن منهم أصابه ألم حقيقي بموت المصاب . والمقصود هنا التعويض عن الضرر الأدبي لا عن الضرر المادي ، فهذا الضرر الأخير العبرة فيه بمن له حق النفقة على الميت ومن كان الميت يعوله فعاد كما قدمنا . فإذا كانت الأقارب لا تدخل فيمن تقدم ذكرهم ، لم يجز الحكم لهم بتعويض عن الضرر الأدبي مهما كانت دعواهم فيما أصابهم من ألم بموت المصاب . فلا يحكم بتعويض عن الضرر الأدبي لأولاد الأخوة والأخوات ، ولا للأعمام والأخوال والعمات والخالات ، ولا لأولادهم من باب أولى ، ولا للخطيب والخطيبة ، ولا للأصدقاء مهما كان الميت قريباً إلى نفوسهم ( [1113] ) . وظاهر أن خطة القانون الجديد في الضرر الأدبي غير خطته في الإكراه والدفاع الشرعي وحالة الضرورة ، حيث حصر الأقارب هنا ولم يحصرهم هناك . ويبرر ذلك الميل إلى حصر نطاق الإدعاء بوقوع ضرر أدبي ، والحد من المغالاة في ذلك منعاً للاستغلال .
أما إذا كان المصاب لم يمت ، فتعويض ذويه عن الضرر الأدبي الذي لحقهم بإصابته يجب الأخذ فيه بحذر أكبر ، وإن كان النص لم يعرض إلا لحالة الموت وترك ما دون ذلك لتقدير القاضي . ومن الصعب أن نتصور تعويضاً يعطى عن الضرر الأدبي في هذه الحالة لغير الأم والأب .
580 - متى يمكن انتقال الحق في التعويض عن الضرر الأدبي : الأصل في التعويض عن الضرر الأدبي أنه شخصي مقصور على المضرور نفسه فلا ينتقل إلى غيره بالميراث أو بالعقد أو بغير ذلك من أسباب الانتقال إلا إذا أصبحت مطالبة المضرور به محققة . وقد عرضت المادة 222 التي تقدم ذكرها لتحديد ذلك ، فذكرت أن انتقال حق التعويض لا يتم إلا بإحدى طريقتين : ( الأولى ) أن يكون التعويض قد اتفق على مبدئه وعلى مقداره ما بين المضرور والمسئول ، فتحدد التعويض على هذا الوجه بمقتضى اتفاق بين الاثنين . ( والثانية ) أن يكون قد استعصى الاتفاق فلجأ المضرور إلى القضاء وطالب المسئول بالتعويض ، أي أنه رفع الدعوى فعلاً أمام المحاكم .
أما قبل الاتفاق أو المطالبة القضائية فلا ينتقل الحق في التعويض إلى أحد . فإذا مات المضرور قبل ذلك فلا ينتقل التعويض إلى ورثته ، بل يزول الحق بموته ( [1114] ) .
وكان القضاء المصري في عهد القانون القديم يجري على مقتضى هذا الحكم ( [1115] ) . بل إنه تشدد في آخر ذلك العهد وأصبح لا يكتفي ، إذا لم يوجد اتفاق ، بالمطالبة القضائية لانتقال حق التعويض ، بل يشترط صدور حكم نهائي يقرر مبدأ التعويض ويعين مقداره ( [1116] ) .
المبحث الثالث
علاقة السببية ما بين الخطأ والضرر ( [1117] )
( Le lien de causalite )
581 - السببية ركن مستقل : علاقة السببية ما بين الخطأ والضرر معناها أن توجد علاقة مباشرة ما بين الخطأ الذي ارتكبه المسئول والضرر الذي أصاب المضرور . والسببية هي الركن الثالث من أركان المسئولية ، وهي ركن مستقل عن ركن الخطأ . وآية ذلك أنها قد توجد ولا يوجد الخطأ ، كما إذا أحدث شخص ضرراً بفعل صدر منه لا يعتبر خطأ وتتحقق مسئوليته على أساس تحمل التبعة ، فالسببية هنا موجودة والخطأ غير موجود . وقد يوجد الخطأ ولا توجد السببية . ويسوق أحد الفقهاء ( [1118] ) لذلك مثلاً : يدس شخص لآخر سما . وقبل أن يسري السم في جسم المسموم يأتي شخص ثالث فيقتله بمسدس . فهنا خطأ هو دس السم ، وضرر هو موت المصاب ، ولكن لا سببية بينهما إذ الموت سببه إطلاق المسدس لا دس السم ، فوجد الخطأ ولم توجد السببية . ونورد مثلين آخرين يوجد فيهما الخطأ ولا توجد السببية . بعد أن يتم البيع يكشف المشتري عما عسى أن يثقل العقار الذي اشتراه من رهون ، فيبين من الكشف أن العقار غير مرهون ، ثم يتضح أن هذا الكشف غير صحيح وأن العقار مثقل برهن . وينزع الدائن المرتهن ملكية العقار فهنا خطأ وهو الكشف غير الصحيح ، وضرر وهو نزع ملكية العقار ، ولكن السببية غير موجودة فإن الكشف غير الصحيح لم يظهر إلا بعد تمام البيع فلم يكن هو السبب في وقوع الضرر شخص يقود سيارة دون رخصة ، ثم يصيب أحد المارة وتكون الإصابة بخطأ يقع من هذا المصاب . فهنا خطأ وهو قيادة السيارة دون رخصة ، وضرر وهو إصابة أحد المارة ، ولكن الخطأ ليس هو السبب في الضرر بل هناك سبب أجنبي هو خطأ المصاب ، فوجد الخطأ دون أن توجد السببية .
582 - اتصال السببية بالضرر : وفي الأمثلة الثلاثة المتقدمة يمكن القول إن السببية قد انفصلت عن الخطأ كما رأينا . ولكن يراعى ما يأتي :
أولاً – الضرر في هذه الأمثلة له سبب آخر غير الخطأ الأول . فالموت في المثل الأول سببه إطلاق المسدس لا دس السم ، ونزع ملكية العقار في المثل الثاني سببه الرهن لا الكشف غير الصحيح . وإصابة المار في المثل الثالث فيه خطأه هو لا انعدام الرخصة . فالسببية إذا هي انفصلت عن الخطأ . فإنها تتصل بالضرر .
ثانياً – إذا كان الخطأ الأول الذي أنعزل عن الضرر لا يحقق أية مسئولية ، فذلك لا لأن السببية منعدمة فحسب ، بل أيضاً لأن هذا الخطأ لم ينجم عنه أي ضرر . فحيث تنعدم السببية ينعدم في الوقت ذاته الضرر . ومن هذا الوجه يكون الضرر والسببية متلازمين .
ثالثاً – إذا قام السبب الأجنبي فإنه لا يعدم علاقة السببية وحدها ، بل هو أيضاً ينهي الالتزام القانوني الذي يقضي بعدم الإضرار بالغير والذي يعد الإخلال به هو الخطأ . ذلك أن الوفاء بهذا الالتزام قد أصبح مستحيلاً لسبب أجنبي ( م 373 ) . فالسبب الأجنبي إذن لا يعدم علاقة السببية وحدها بل يعدم معها الخطأ ( [1119] ) .
583 – استقلال السببية عن الخطأ لا يظهر بوضوح إلا حيث يكون الخطأ مفترضاً : وإذا كانت السببية مستقلة عن الخطأ ، إلا أن هذا الاستقلال لا يظهر في جلاء عند ما يكون الخطأ واجب الإثبات . ذلك أن المضرور عندما يكلف بإثبات الخطأ ، يلجأ في العادة إلى إثبات خطأ يكون هو السبب في إحداث الضرر . ومن ثم فإثبات الطأ يكون في الغالب إثباتاً لعلاقة السببية . فتستتر السببية وراء الخطأ ولا يتبين في وضوح أنها ركن مستقل . وإنما يتضح استقلالها في الأحوال التي تقوم فيها المسئولية على خطأ مفترض أو خطأ مفروغ من إثباته ، كمسئولية الحارس عن الحيوان . ففي هذه الحالة الخطأ مفروغ منه ولا يكلف المضرور بإثباته . أما السببية فيمكن نفيها بإثبات السبب الأجنبي . ففيها إذن يتركز النضال ما بين المسئول والمصاب . ومن ثم تبرز هي ، ويدور الإثبات حولها وحدها دون الخطأ .
584 – خطة البحث : قدمنا أن الخطأ يجب أن يكون هو السبب في الضرر فإذا رجع الضرر إلى سبب أجنبي انعدمت السببية . وتنعدم السببية أيضاً حتى لو كان الخطأ هو السبب ولكنه لم يكن السبب المنتج ، أو كان السبب المنتج ولكنه لم يكن السبب المباشر .
فنبحث إذن أمرين : ( 1 ) انعدام السببية لقيام السبب الأجنبي ( 2 ) ثم انعدامها لأن السبب غير منتج أو غير مباشر .
المطلب الأول
انعدام السببية لقيام السبب الأجنبي
585 - النصوص القانونية : تنص المادة 165 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" إذا أثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب أجنبي لا يد له فيه ، كحادث مفاجئ أو قوة قاهرة أو خطأ من المضرور أو خطأ من الغير ، كان غير ملزم بتعويض هذا الضرر ، ما لم يوجد نص أو اتفاق على غير ( [1120] ) " .
فالسبب الأجنبي الذي يعدم رابطة السببية هو كما يقول النص :
( 1 ) القوة القاهرة أو الحادث المفاجئ ( force majeure ou cas fortuit ) .
( 2 ) خطأ المضرور ( faute de la victime ) ( 3 ) خطأ الغير ( faute d'un tiers ) ( [1121] ) ونستعرض كلاً من هذه الأسباب الثلاثة ( [1122] ) .
$ 1 - القوة القاهرة أو الحادث الفجائي
586 - القوة القاهرة والحادث الفجائي شيء واحد : قال بعض الفقهاء إنهما شيئان مختلفان ، ولكن هؤلاء لا يتفقون على فيصل التفرقة فيما بينهما .
فمنهم من يقول إن القوة القاهرة هي الحادث الذي يستحيل دفعه ، أما الحادث الفجائي فهو الحادث الذي لا يمكن توقعه . فتتوزع بينهما الخصيصتان اللتان سنفصلهما فيما يلي ، وهما استحالة الدفع وعدم إمكان التوقع . ويكفي في نظر هؤلاء أن يكون الحادث مستحيل الدفع أو أن يكون غير ممكن التوقع ، فلا يلزم اجتماع الخصيصتين .
ولا يجوز الأخذ بهذا الرأي ، لأن القوة القاهرة يجب أن تكون حادثاً لا مستحيل الدفع فحسب بل أيضاً غير ممكن التوقع ، ولأن الحادث الفجائي يجب أن يكون حادثاً لا غير ممكن التوقع فحسب بل أيضاً مستحيل الدفع ، ولا يكفي وجود إحدى هاتين الحصيصتين لانعدام رابطة السببية ( [1123] ) .
ومن الفقهاء من يسلم بوجوب اجتماع الخصيصتين . ولكن يميز في خصيصة استحالة الدفع بين ما إذا كانت هذه الاستحالة مطلقة فتوجد القوة القاهرة ، أو نسبية فيوجد الحادث الفجائي ( [1124] ) . وسنرى أن هذا التمييز لا يقوم على أساس صحيح ، إذ الاستحالة ، في كل من القوة القاهرة والحادث الفجائي ، يجب أن تكون استحالة مطلقة .
ومن الفقهاء من يقيم التمييز على أساس آخر . فيجعل كلاً من القوة القاهرة والحادث الفجائي حادثاً مستحيل الدفع غير ممكن التوقع ، ولكن القوة القاهرة تكون حادثاً خارجياً عن الشيء الذي تتحقق به المسئولية كعاصفة أو زلزال ، والحادث الفجائي حادث داخلي ينجم عن الشيء ذاته كانفجار آلة أو انكسار عجلة . ثم يجعل القوة القاهرة وحدها هي التي تمنع من تحقق المسئولية ، أما الحادث الفجائي فلا يمنع منت حققها بل يتحمل المدين تبعته ( [1125] ) . وهذا الرأي لا يجوز التسليم به أيضاً إلا عند من يقولون بنظرية تحمل التبعة ، إذ يصح عند هؤلاء أن يكون الشخص مسئولاً عن الحادث الفجائي دون القوة القاهرة .
ونرى من ذلك أن التمييز بين القوة القاهرة والحادث الفجائي لا يقوم على أساس صحيح لذلك تقول جمهرة الفقهاء بعدم التمييز بينهما ، وعلى هذا أيضاً إجماع القضا ( [1126] ) .
587 – الشروط الواجب توافرها في القوة القاهرة والحادث الفجائي : ويبقى أن نفصل الشروط التي يجب توافرها حتى يكون الحادث قوة قاهرة أو حادثاً فجائياً . ونص القانون يصف القوة القاهرة والحادث الفجائي بأنهما سبب أجنبي ( CAUSE ETRANGERE ) لا يد للشخص فيه ( non - imputable ) . ولكن هذا الوصف في حاجة إلى التحديد . وقد رأينا فيما قدمناه أن القوة القاهرة أو الحادث الفجائي يجب أن يكون حادثاً غير ممكن التوقع ومستحيل الدفع ( [1127] ) . فعدم إمكان التوقع ( imprevisibilite ) واستحالة الدفع ( irresistibilite ) هما الشرطان الواجب توافرهما في القوة القاهرة أو الحادث الفجائي ، وإذا ما توافرا كان الحادث أجنبياً عن الشخص لا بد له فيه . أما العكس فغير صحيح . فقد يكون الحادث أجنبياً عن الشخص لا يد له فيه ، ومع ذلك يستطيع توقعه قبل أن يقع ، أو يستطيع دفعه بعد أن وقع .
ونستعرض الآن كلا من الشرطين ، ثم نورد بعض التطبيقات العملية .
588 - عدم إمكان التوقع : يجب أن تكون القوة القاهرة أو الحادث الفجائي غير ممكن التوقع . فإذا أمكن توقع الحادث حتى لو استحال دفعه ، لم يكن قوة قاهرة أو حادثاً فجائياً . ويجب أن يكون الحادث غير مستطاع التوقع لا من جانب المدعى عليه فحسب ، بل من جانب أشد الناس يقظة وبصراً بالأمور ، فالمعيار هنا موضوعي لا ذاتي ، بل هو معيار لا يكتفي فيه بالشخص العادي ، ويتطلب أن يكون عدم الإمكان مطلقاً لا نسبياً .
ولا يكون الحادث ممكن التوقع لمجرد أنه سبق وقوعه فيما مضى . فقد يقع حادث في الماضي ،ويبقى مع ذلك غير متوقع في المستقبل ، إذا كان من الندرة بحيث لا يقوم سبب خاص لتوقع حدوثه .
وعدم إمكان التوقع ، في المسئولية العقدية ، يكون وقت إبرام العقد . فمتى كان الحادث غير ممكن التوقع وقت التعاقد ، كان هذا كافياً حتى لو أمكن توقعه بعد التعاقد وقبل التنفيذ . أما في المسئولية التقصيرية فيكون عدم إمكان التوقع وقت وقوع الحادث ذاته ( [1128] ) .
589 – استحالة الدفع : ويجب أيضاً أن تكون القوة القاهرة أو الحادث الفجائي مستحيل الدفع . فإذا أمكن دفع الحادث حتى لو استحال توقعه ، لم يكن قوة قاهرة أو حادثاً فجائياً . كذلك يجب أن يكون الحادث من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلاً ، وأن تكون الاستحالة مطلقة ، فلا تكون استحالة بالنسبة إلى المدين وحده ، بل استحالة بالنسبة إلى أي شخص يكون في موقف المدين ( [1129] ) . وهذا هو الذي يميز بين نظرية القوة القاهرة ونظرية الحوادث الطارئة ، فقد رأينا في نظرية الحوادث الطارئة أن تنفيذ الالتزام يصبح مرهقاً لا مستحيلاً .
ويستوي أن تكون استحالة التنفيذ مادية أو أن تكون معنوية . فإذا استحال على المدين معنوياً تنفيذ الالتزام ، كما لو كان مغنياً وتعهد بإحياء حفلة غنائية فمات عزيز عنده يوم الحفلة وكان لذلك في نفسه أثر بالغ يستحيل معه أن يقبل على الغناء . كان الحادث قوة قاهرة . والقاضي هو الذي يقدر ما إذا كانت هناك استحالة معنوية . وعليه أن يحتاط في تقدير ذلك ( [1130] ) .
590 - تطبيقات عملية : ونورد هنا بعض تطبيقات عملية لحوادث تجمع بين الشرطين المتقدمين فيصح وصفها بأنها قوة قاهرة أو حادث فجائي .
فالحرب قد تكون قوة قاهرة بما ينجم عنها من أحداث مادية ومن أزمات اقتصادية ، ما دامت مستحيلة الدفع غير متوقعة . والذي يجب أن يستحيل توقعه ودفعه ليس هو الحرب ذاتها . بل ما خلفته من أحداث واضطرابات فإذا هاجم العدو بلداً ، ودخلها فاتحاً ، وطرد منها سكانها ، كان هذا الحادث قوة قاهرة تعفى المستأجر من التزاماته المترتبة على عقد الإيجار ، والوديع من التزامه بالمحافظة على الوديعة ، والمقاول من التزامات المقاولة ، وهكذا وشرط ذلك كما قدمنا أن يكون المدين لمي توقع هذا الغزو ولم يستطع دفعه . أما إذا كانت الظروف التي تحيط بالمدين تمكنه من اتخاذ احتياطات معقولة ولم يتخذها ، كان هذا خطأ في جانبه يحقق مسئوليته إذا تسبب عنه ضرر . وقد تكون الحرب سبباً في تقلب سعر العملة وانقطاع المواصلات وغلاء الحاجيات والمواد الأولية ، فتكون قوة قاهرة ترفع المسئولية عن المدين في هذه الأحوال .
وكالحرب صدور تشريع أو أمر إداري واجب التنفيذ ( fait du prince ) أو وقوع زلزال ، أو حريق ، أو غرق ، أو هبوب عاصفة ، أو حدوث مرض طارئ ، أو إضراب غير متوقع ، أو سرقة . أو تلف ، أو نحو ذلك من الحوادث ما دام شرطاً استحالة التوقع واستحالة الدفع قد توافر ( [1131] ) .
وقد تنطوي حوادث السيارات على قوة قاهرة أو حادث فجائي ، كما إذا انفجرت آلة . أو انكسرت عجلة ، أو انزلقت السيارة في أرض زلجة ، أو اعترضتها عقبة مفاجئة ، أو بهر بصر السائق نور خاطف . والمهم أن يتوافر شرطا استحالة التوقع واستحالة الدفع ( [1132] ) .
وذعر حيوان على أثر وقوع صاعقة ، وانسعار الكلب ، كل هذا قد يكون قوة قاهرة أو حادثاً فجائياً إذا كان غير ممكن التوقع مستحيل الدفع ( [1133] ) .
591 – أثر القوة القاهرة أو الحادث الفجائي هو السبب الوحيد في وقوع الضرر ، انعدمت علاقة السببية ، ولا تتحقق المسئولية كما قدمنا .
وقد يكون من أثر القوة القاهرة أو الحادث الفجائي لا الإعفاء من تنفيذ الالتزام ، بل وقف تنفيذه حتى يزول الحادث . فيبقى الالتزام موقوفاً على أن يعود واجب التنفيذ بعد زوال الحادث .
هذا ويجوز للطرفين أن يعدلا باتفاقهما من أثر القوة القاهرة أو الحادث الفجائي ، ويترتب على ذلك أنه يجوز لهما أن يتفقا على أن القوة القاهرة أو الحادث الفجائي لا يخلى المدين من التزامه ، أو أن يتفقا على عدم إخلاء المدين من التزامه عند وقوع حادث معين كالإضراب أو الحرب ( [1134] ) .
$ 2 - خطأ المضرور
592 – وضع المسألة : نستبعد صورة لا محل للكلام فيها لوضوح حكمها : ألا يقع من المدعى عليه خطأ ما ، ثابت أو مفروض ، ويقع الضرر بفعل المضرور نفسه . فقد خرجنا هنا عن نطاق المسئولية التقصيرية . إذ لا يوجد أمامنا مسئول . فالمضرور هو الذي ألحق بنفسه الضرر ، وكان هذا بفعله ، سواء كان هذا الفعل خطأ أو غير خطأ .
وإنما يكون الكلام في خطأ المضرور إذا وقع من المدعى عليه خطأ ثابت أو مفروض ووقع في الوقت ذاته خطأ من المضرور ، ويراد أن نعرف أثر خطأ المضرور في مسئولية المدعى عليه . ويشترط في هذه الحالة أن يكون ما وقع من المضرور يعتبر خطأ وأن يكون له شأن في إحداث الضرر .
أما أن يكون ما وقع من المضرور يعتبر خطأ . فذلك لأن مجرد الفعل الذي يصدر من المضرور ولا يكون خطأ لا يصح أن يكون من شأنه أن يمحو أو يخفف من مسئولية المدعى عليه . وإلا لتعذر على المضرور أن يرجع بتعويض كامل عما أصابه من الضرر . فهو إذا دهسه القطار أو السيارة قد شارك بفعله في إحداث هذا الضرر : ألم يمش في الطريق فدهمته السيارة! ألم يحاول إدراك القطار فدهسه! وقل أن يصاب شخص بضرر دون أن يكون لفعل صدر منه دخل فيه ، وإنما يصح أن يؤثر الفعل الصادر من المضرور في مسئولية المدعى عليه إذا كان هذا الفعل خطأ . ويقاس الخطأ هما بمعياره المعروف : انحراف المضرور في سلوكه عن المألوف من سلوك الرجل المعتاد . وكل ما قيل هناك في خطأ المسئول يقال هنا في خطأ المضرور ( [1135] ) .
وأما أن يكون خطأ المضرور له شأن في إحداث الضرر ، فذلك لأن المدعى عليه إنما يحتج به لأن له علاقة بالضرر الذي وقع ، فلو لم يكن لهذا الخطأ شأن في إحداث الضرر لما كان للمدعى عليه أن يحتج به ( [1136] ) .
فإذا تحقق أن وقع من المدعى عليه خطأ ومن المضرور خطأ آخر ، وكان لكل من الخطأين شأن في إحداث الضرر ( [1137] ) ، وجب أن نعرف إلى أي حد يؤثر خطأ المضرور في المسئولية التي نجمت عن خطأ المدعى عليه . وهنا يجب أن نميز بين ما إذاك أن أحد الخطأين قد استغرق الخطأ الآخر ، أو بقى كل من الخطأين مستقلاً عن الخطأ الآخر فتكوَّن منهما خطأ مشترك .
593 – استغراق أحد الخطأين للخطأ الآخر : إذا استغرق أحد الخطأين الخطأ الآخر ، لم يكن للخطأ المستغرق من أثر . فإذا كان خطأ المدعى عليه هو الذي استغرق خطأ المضرور ، كانت مسئولية المدعى عليه كاملة لا يخفف منها خطأ المضرور . أما إذا كان خطأ المضرور هو الذي استغرق خطأ المدعى عليه ، فإن مسئولية المدعى عليه ترتفع لانعدام رابطة السببية .
ويستغرق أحد الخطأين الخطأ الآخر في حالتين : الحالة الأولى إذا كان أحد الخطأين يفوق كثيراً في جسامته الخطأ الآخر . والحالة الثانية إذا كان أحد الخطأين هو نتيجة الخطأ الآخر .
594 – الحالة الأولى – أحد الخطأين يفوق كثيراً في جسامة الخطأ الآخر : مهما كان أحد الخطأين يفوق في جسامته الخطأ الآخر . فإنه لا يتصور أن الخطأ الأشد يستغرق الخطأ الأخف إلا في صورتين : الصورة الأولى هي صورة ما إذا كان أحد الخطأين هو خطأ عمدي ، والصورة الثانية هي صورة ما إذا كان أحد الخطأين هو رضاء المضرور بما وقع عليه من الضرر وذلك في بعض الأحوال وهي قليلة .
ففي الصورة الأولى يكون أحد الطرفين ، المدعى عليه أو المضرور ، أراد إحداث الضرر متعمداً ، أما الآخر ف صدر منه خطأ غير متعمد . فإذا كان المدعى عليه هو الذي أراد إحداث الضرر متعمداً ، كانت مسئوليته متحققة ، ووجب عليه تعويض كامل لما أحدثه من الضرر حتى لو كان خطأ المضرور غير المتعمد له دخل في إحداث الضرر . ذلك أن تعمد المدعى عليه إحداث الضرر هو وحده الذي نقف عنده سبباً لوقوع الضرر ، أما خطأ المضرور فلم يكن إلا ظرفاً استغله المدعى عليه لإتمام قصده من إحداث الضرر . فإذا تعمد سائق السيارة أن يدهس رجلاً مكفوف البصر يسير في الطريق دون قائد ، لم يجز له أن يحتج بخطأ المضرور لتخفيف مسئوليته ، ولا يسمع منه في معرض الدفاع عن نفسه أن المضرور سار في الطريق دون قائد وهو مكفوف البصر فيكون قد أخطأ ، ذلك أن السائق تعمد دهس المضرور ولم يكن خطأ المضرور إلا ظرفاً استغله السائق في إنفاذ نيته . أما إذا كان المضرور هو الذي تعمد إلحاق الضرر بنفسه ، استغرق خطؤه خطأ المدعى عليه ، وارتفعت مسئولية المدعى عليه لانعدام رابطة السببية كما قدمنا ، فلو أن شخصاً أراد الانتحار فانتهز فرصة أن سائقاً يسير بسرعة تجاوز الحد المفروض ، فألقى بنفسه أمام السيارة ، فهو وحده الجاني على نفسه ، ولا يجوز أن يحتج –هو لو نجا أو ورثته لو مات – بأن السائق كان يسير بسرعة فائقة وكان ذلك خطأ ، فإن تعمده الانتحار هو وحده الذي نقف عنده سبباً لوقوع الضرر ، أما خطأ المدعى عليه فلم يكن إلا ظرفاً استغله المضرور لتنفيذ قصده ( [1138] ) .
وفي الصورة الثانية يكون المضرور قد رضى بما وقع عليه من الضرر . ويجب بادئ الأمر أن نرسم الدائرة التي يعتبر المضرور فين طاقها راضياً بالضرر . فرضاء المضرور بالضرر منزلة وسطى بين إرادته إلحاق الضرر بنفسه ومجرد علمه بالضرر . فقد يرضى المضرور بالضرر ولكنه لا يريده .
كما يقع ذلك في المبارزة ، فكل من المتبارزين قد رضى أن يموت أو أن يجرح ولكنه لا يريده لنفسه هذا الضرر . وقد يعلم المضرور بالضرر ولكنه لا يرضى به ، فمن اشترك في إحدى الألعاب الرياضية يعلم بما عسى أن ينجم من ضرر عن هذه اللعبة ولكن لا يمكن القول بأنه رضى بهذا الضرر إلا بقدر ما تنطوي عليه اللعبة في العادة من أخطار . فلعب الكرة أو " التنس " لا ينطوي عادة على خطر . فمن اشترك فيه يمكن أن يقال عنه إنه يعلم بالضرر ولكنه لم يرض به . " والبوكس " والمصارعة تنطوي عادة على خطر ، فمن اشترك فيهما يمكن أن يقال عنه إنه يعلم بالضرر وقد رضى به . وصيد البط يعلم الصائد فيه بالضرر ولكنه لم يرض به ، أما صيد الوحوش المفترسة فقد علم فيه الصائد بالضرر ورضى به . والذي يعنينا هنا هو أن يكون المضرور قد رضى بالضرر ، فلا يرتفع إلى حد أن يريده ، ولا ينزل إلى مجرد العلم به . والقاعدة أن رضاء المضرور بالضرر ليس من شأنه أن يزيل عن فعل المدعى عليه صفة الخطأ ، ولا يزال المدعى عليه خطئاً حتى لو رضى المضرور بما وقع عليه من الضرر . فالطبيب إذا أجرى لمريض عملية جراحية خطرة في غير ما ضرورة يكون مخطئاً حتى لو رضى المريض بإجراء هذه العملية . والمهندس إذا نفذ تصميماً معيباً يكون مخطئاً حتى لو رضى عمليه بهذا التصميم . فرضاء المضرور بالضرر لا يمنع إذن من أن يكون فعل المدعى عليه خطأ . ولكن هل يستغرق رضاء المضرور هذا الخطأ كما استغرقه إرادة المضرور للضرر فيما سبق لنا أن بيناه؟ واضح أن هناك فرقاً ظاهراً بين أن يريد المضرور الضرر وبين أن يرضى به . وإذا كان معقولاً في الحالة الأولى أن يستغرق خطأ المضرور خطأ المدعى عليه ، فليس من المعقول أن يكون مجرد رضاء المضرور بالضرر من شأنه أن يستغرق خطأ المدعى عليه . فالأصل إذن أن رضاء المضرور يترك فعل المدعى عليه كما هو ، فال يزيل عنه صفة الخطأ ولا يستغرقه . ويكون المدعى عليه مسئولاً عما أحدثه بخطئه من الضرر مسئولية كاملة . ولكن قد يكون رضاء المضرور بالضرر يعد خطأ منه . ففي هذه الحالة يخفف هذا الخطأ من مسئولية المدعى عليه كما هو الشأن في الخطأ المشترك . فينظر في كل حالة هل كان المضرور مخطئاً عندما رضى بالضرر ( [1139] ) . ويكون في أكثر الأحوال مخطئاً . فمن رضى أن يركب سيارة غير سليمة وهو عالم بذلك ، أو ترك سائق السيارة يسوقها وهو في حالة سكر بين ، أو دفع السائق أن يسير بسرعة فائقة . يكون قد رضى بالضرر ويعد رضاؤه هذا وخطأ من شأنه أن يخفف من مسئولية السائق . ومن رضى بإجراء عملية تجميل خطرة بالغرم من نصح الطبيب له بعدم إجرائها يكون قد رضى بالضرر رضاؤه خطأ يخفف من مسئولية الطبيب . ولكن إذا رضى بإجراء العملية مع علمه بخطرها وكان رضاؤه بناء على إشارة الطبيب . لم يكن هذا الرضاء خطأ ولم يكن من شأنه أن يخفف من مسئولية الطبيب . وكذلك الحكم إذا أقدم المهندس على تشييد بناء معيب وكان ذلك برضاء العميل . فإن كان الرضاء قد وقع بالرغم من نصح المهندس كان خطأ يخفف من مسئوليته ، وإن كان قد وقع بناء على إشارة المهندس لم يكن خطأ وبقيت مسئولية المهندس كاملة . هذا وفي بعض الأحوال القليلة قد يصل خطأ المضرور في رضائه بالضرر حداً من الجسامة يجعل من شأنه أن يستغرق خطأ المدعى عليه ، فتنتفي المسئولية عن هذا لانعدام رابطة السببية . فصاحب السفينة الذي يرضى عن بينة بنقل مهربات حربية فتصادر سفينته ، لا يرجع بشيء على صاحب المهربات ( [1140] ) . والمرأة البالغة سن الرشد غير الغرة إذا انقادت عن شهوة إلى معاشرة خليلها لا ترجع عليه بالتعويض ( [1141] ) . وإذا اتفق أهالي بلدين على المضاربة معاً ، ومات أحدهم في أثناء المضاربة ، فلا حق لورثته في التعويض لأنه هو الذي عرض نفسه باختياره إلى القتل ( [1142] ) . وهذه الأحوال القليلة هي التي أشرنا إليها وفيها يستغرق رضاء المضرور بالضرر خطأ المدعى عليه .
595 – الحالة الثانية – أحد الخطأين هو نتيجة الخطأ الآخر : إذا كان خطأ المضرور هو نتيجة خطأ المدعى عليه ، استغرق الخطأ الثاني الخطأ الأول . واعتبر خطأ المدعى عليه هو وحده الذي أحدث الضرر ، وتكون مسئولية المدعى عليه مسئولية كاملة . فإذا ركب شخص مع صديق له في سيارة يقودها هذا الصديق مسرعاً في سيره بها . فنجم عن هذا السير السريع خطر دفع الراكب تحت تأثير الفزع إلى أن يأتي بحركة خاطئة التماساً للنجاة . ناضر بنفسه . كان خطأ المضرور هنا هو نتيجة لخطأ المدعى عليه ، فاستغرق خطا الصديق خطأ الراكب . وتحققت مسئولية الصديق كاملة ( [1143] ) . وكذلك يكون الحكم إذا ارتكب المريض خطأ في علاج نفسه . وكان ذلك بناء على إشارة خاطئة من الطبيب . فإن خطأ الطبيب يستغرق خطأ المريض إذ الخطأ الثاني ليس إلا نتيجة للخطأ الأول . فيكون الطبيب مسئولاً عن التعيض كاملاً . وهذا هو شأن الموكل يخطئ إتباعا لنصيحة خاطئة من محاميه ، فيستغرق خطأ المحامي خطأ الموكل لأن الخطأ الثاني هو نتيجة الخطأ الأول .
أما إذا كان خطأ المدعى عليه هو نتيجة خطأ المضرور . فإن خطأ المضرور هو الذي يستغرق خطأ المدعى عليه . ولا نقف إلا عند خطأ المضرور سبباً للضرر الذي وقع . فلا تتحقق مسئولية المدعى عليه لانعدام رابطة السببية . فإذا دهس سائق السيارة أحد العابرة . وأثبت أن المضرور تحول فجأة من جانب الطريق إلى الجانب الآخر دون أي احتياط وكان هذا الخطأ هو السبب الوحيد للإصابة . فقد أثبت أن الخطأ المفروض في جانبه – وهو الخطأ في الحراسة – ليس إلا نتيجة خطأ المضرور . واستغرق خطأ العاب خطأ السائق ، وانعدمت علاقة السببية ما بين خطأ السائق والضرر . فانتفت مسئولية السائق إذ اعتبر خطأ المضرور هو وحده السبب وفي وقوع الضرر ( [1144] ) .
596 – الخطأ المشترك : فإذا لم يستغرق أحد الخطأين الخطأ الآخر ، بل بقيا تميزين كل منهما اشترك في إحداث الضرر مستقلاً ، كان للضرر سببان : خطأ المدعى عليه وخطأ المضرور . وهذا ما يسمى بالخطأ المشترك ( faute commune ) ( [1145] ) .
والأصل أن كلا من الخطأين يعتبر سبباً في إحداث الضرر . إذ لولاه لما وقع هذا الضرر . ولما كان كل من المدعى عليه والمضرور مسئولاً بقدر ما أحدث من ضرر . وكان خطأ كل منهما سبباً لوقوع الضرر كله كما قدمنا ، فإن المسئولية تكون بالتساوي بينهما . ويكون المدعى عليه مسئولاً عن نصف الضرر .ويتحمل المضرور النصف الآخر فلا يرجع على المدعى عليه إلا بنصف الضرر ( [1146] ) . ولو أن المدعى عليه شخصان لا شخص واحد ، وكانا هما والمضرور مسئولين بالتساوي ، فغن المضرور يرجع على أي منهما بثلثي الضرر لأنه تحمل الثلث الباقي ولأن المدعى عليهما المتضامنان في الثلثين . وهكذا توزع المسئولية على المدعى عليهم والمضرور على عدد الرؤوس ( par part virite ) . وفي هذا تطبيق خاص لقاعدة تعدد المسئولين . فقد نصت المادة 169 من القانون المدني الجديد على أنه " إذا تعدد المسئولين عن عمل ضار كانوا متضامنين في التزامهم بتعويض الضرر . وتكون المسئولية فيما بينهم بالتساوي إلا إذا عين القاضي نصيب كل منهم في التعويض " . ووجه أن التطبيق خاص هنا هو أنه يوجد بين المسئولين المتعددين المضرور نفسه ، فيجب أن يدخل في الحساب عند توزيع المسئولية . فيتحمل نصيباً منها بالتساوي مع المسئولين المتعددين .
على أن القانون المدني الجديد لم يترك هذه المسألة الهامة دون أن يفرد لها نصاً خاصاً . فقضى في المادة 216 بأنه " يجوز للقاضي أن ينقص مقدار التعويض ، أو ألا يحكم بتعويض ما ، إذا كان الدائن بخطئه قد اشترك في إحداث الضرر أو زاد فيه ( [1147] ) " . فالمضرور ، طبقاً لهذا النص . لا يتقاضى تعويضاً كاملاً ، بل يتحمل نصيبه في المسئولية . ونبادل إلى ملاحظة أمرين في شأن النص : أولهما أن يقول " يجوز للقاضى أن ينقص مقدار التعويض " ومعنى الجواز في الإنقاص احتمالاً لا ينقص القاضي من التعويض شيئاً ، ويكون ذلك في حالة ما إذا كان خطأ المضرور قد استغرقه خطأ المدعى عليه على النحو الذي بيناه . والأمر الثاني أن النص يقول " أو لا يحكم بتعويض ما " ، ويكون ذلك في حالة ما إذا كان خطأ المدعى عليه قد استغرقه خطأ المضرور في الصور التي أسلفنا ذكرها ( [1148] ) .
بقى أن كلاً من النصين – المادة 169 والمادة 216 – يدع مجالاً للقاضي أن يوزع التعويض على المسئولين المتعددين ، ومن بينهم المضرور نفسه ، لا على عدد الرؤوس أي بالتساوي فيما بينهم ، بل على أساس آخر . والظاهر أن هذا الأساس الآخر هو جسامة الخطأ الذي صدر من كل من المسئولين وفي هذا يتمشى القانون المدني الجديد مع القضاء المصري ( [1149] ) ، والقضاء الفرنسي ( [1150] ) . ونصوص التقنينات الحديثة ( [1151] ) . ولا يلجأ القاضي إلى التوزيع على عدد الرؤوس إلا إذا لم يستطع أن يحدد جسامة كل خطأ ، فعندئذ يفرض التكافؤ فيها جميعاً ، ويجري التوزيع بالتساوي على المسئولين ومنهم المضرور نفسه ( [1152] ) .
هذا ويمكن تطبيق القاعدة المتقدمة في حالة ما إذا كان كل من الطرفين مسئولاً ومضروراً في الوقت ذاته . كما إذا تصادمت سيارتان . فأصاب السيارة الأولى ضرر قدر بمبلغ خمسين جنيهاً, وأصاب السيارة الثانية ضرر قدر بمبلغ عشرين جنيهاً . وثبت الخطأ في جانب كل من السائقين . أما الضرر الذي أصاب السيارة الأولى وقدره خمسون جنيهاً فيقسم بين السائقين بحسب جسامة الخطأ . فإذا فرض أن القاضي لم يستطع أن يتبين هذه الجسامة قسم بالتساوي ، فيكون السائق الثاني مسئولاً قبل السائق الأول بمبلغ خمسة وعشرين جنيهاً . وأما الضرر الذي أصاب السيارة الثانية وقدره عشرون جنيهاً فإنه يقسم أيضاً بالتساوي بين السائقين . فيكون السائق الأول مسئولاً قبل السائق الثاني بمبلغ عشرة جنيهات . وبعد أن تجري المقاصة يدفع السائق الثاني إلى السائق الأول في النهاية خمسة عشر جنيهاً ( [1153] ) .
$ 3 – خطأ الغير
597 – وضع المسألة : نستبعد هنا أيضاً ، كما فعلنا عند بحث خطأ المضرور ، حالة ما إذا لمي قع من المدعى عليه خطأ ما ، ثابت أو مفروض ، ووقع الضرر بفعل الغير وحده . فإن فعل الغير إذا كان هو السبب الوحيد في إحداث الضرر ، فإن كان خطأ كان الغير وحده هو المسئول ، وإن لم يكن خطأ كان من قبيل القوة القاهرة أو الحادث الفجائي فلا يكون أحد مسئولاً .
أما إذا وقع خطأ من المدعى عليه ، واشترك في إحداث الضرر مع هذا الخطأ فعل الغير ، كان هناك محل للتساؤل عن أثر فعل الغير في مسئولية المدعى عليه . ويشترط هنا أيضاً كما اشترط في فعل المضرور أن يكون فعل الغير خطأ له شأن في إحداث الضرر .
فإذا لم يكن فعل الغير خطأ فليس له أثر في مسئولية المدعى عليه . ويشترط هنا أيضاً كما اشترط في فعل المضرور أن يكون فعل الغير خطأ له شأن في إحداث الضرر .
فإذا لم يكن فعل الغير خطأ فليس له أثر في مسئولية المدعى عليه ، وكان هذا وحده هو المسئول ، وكانت مسئوليته كاملة . فلا بد إذن أن يكون فعل الغير خطأ . ويقاس الخطأ بمعياره المعروف : الانحراف عن السلوك المألوف للرجل المعتاد . ولابد كذلك أن يكون خطأ الغير له شأن في إحداث الضرر ، وإلا لما جاز للمدعى عليه أن يحتج به إذ لا علاقة له بالضرر ( [1154] ) .
ويجب ألا يكون الغير الذي ارتكب الخطأ من بين الأشخاص الذي يعتبر المدعى عليه مسئولاً عنهم . فلو كان هذا الغير ولداً للمدعى عليه أو تلميذاً أو تابعاً ، فلا يكون للخطأ الصادر منه أثر في مسئولية المدعى عليه نحو المضرور ( [1155] ) .
وليس من الضروري أن يكون الغير معروفاً ، فقد يقوم الدليل على أن الحادث كان من بين أسبابه خطأ صدر من شخص ثالث وقد هرب دون أن يعرف ، ويبقى مع ذلك خطأ هذا الغير مؤثراً في مسئولية المدعى عليه ( [1156] ) .
598 – أثر خطأ الغير في خطأ المدعى عليه – استغراق أحد الخطأين للآخر : إذا كان لكل من خطأ المدعى عليه وخطأ الغير شأن في إحداث الضرر ، وكان أحد الخطأين يستغرق الخطأ الآخر ، اعتبر الخطأ المستغرق هو وحده السبب في إحداث الضرر . فإذا استغرق خطأ المدعى عليه خطأ الغير ، كان المدعى عليه وحده هو المسئول مسئولية كاملة ، ولا أثر لخطأ الغير في هذه المسئولية . أما إذا استغرق خطأ الغير خطأ المدعى عليه ، فالغير وحده هو المسئول مسئولية كاملة ، ولا أثر لخطأ المدعى عليه في هذه المسئولية .
ويستغرق أحد الخطأين الآخر – كما بينا في صدد الكلام في خطأ المضرور – إذا كان خطأ متعمداً أو كان هو الذي دفع إلى ارتكاب الخطأ الآخر . ولا يرد هنا ما رأيناه في خطأ المضرور من أن رضاءه قد يستغرق خطأ المدعى عليه ، فإنه إذا أمكن أن يتصور استغراق رضاء المضرور لخطأ المدعى عليه ، فلا يتصور أن خطأ المدعى عليه يستغرقه رضاء الغير .
599 – تعدد المسئولين : فإذا لم يستغرق أحد الخطأين الخطأ الآخر ، بقيا قائمين ، واعتبر أن كلاً منهما سبب في إحداث الضرر . وهذه هي حالة تعدد المسئولين ، فقد اشترك مع المدعى عليه شخص آخر في إحداث الضرر ، فأصبح المسئول أكثر من شخص واحد .
وقد نصت المادة 169 من القانون المدني الجديد ، السابق ذكرها ، على هذه الحالة . فقضت بما يأتي :
" إذا تعدد المسئولون عن عمل ضار كانوا متضامنين في التزامهم بتعويض الضرر ، وتكون المسئولية فيما بينهم بالتساوي ، إلا إذا عين القاضي نصيب كل منهم في التعويض ( [1157] ) " .
ويلاحظ أن النص قرر التضامن فيما بين المسئولين ، فيجوز إذن للمضرور أن يرجع على أي من المدعى عليه أو الغير بالتعويض كاملاً ( [1158] ) . ثم يتقاسم المسئولان الغرم فيما بينهما : والأصل بحسب النص أن تكون القسمة بالتساوي على عدد الرؤوس ، إلا إذا استطاع القاضي أن يحدد جسامة كل من الخطأين فيجوز له أن يجعل القسمة بحسب جسامة الخطأ . وقد تقدم بيان ذلك عند الكلام في خطأ المضرور ( [1159] ) .
600 – اشتراك خطأ المدعى عليه وخطأ الغير وخطأ المضرور في إحداث الضرر : وقد يساهم في إحداث الضرر خطأ أول يثبت في جانب المدعى عليه ، وخطأ ثان يثبت في جانب الغير ، وخطأ ثالث يثبت في جانب المضرور . ففي هذه الحالة يتحمل المضرور ، وقد ثبت خطأ في جانبه ، ثلث الضرر ، ويتحمل المدعى عليه والغير متضامنين بالثلثين الباقين . فيرجع المضرور بثلثي التعويض على المدعى عليه أو على الغير ، ويرجع من دفع الثلثين على المسئول الآخر بالثلث . هذا ما لم ير القاضي أن يكون التوزيع لا على عدد الرؤوس بل بحسب جسامة خطأ كل من الثلاثة ( [1160] ) .
المطلب الثاني
انعدام السببية لأن السبب غير منتج أو غير مباشر
601 – حالتان : قد تتعدد أسباب الضر ويكون خطأ المدعى عليه أحد هذه الأسباب ، ولكن يؤدي هذا التعدد إلى انقطاع الصلة ما بين الخطأ والضرر فتنعدم علاقة السببية . وقد يكون للضرر بسبب واحد هو خطأ المدعى عليه . ولكن الضرر ذاته هو الذي يتعدد . إذ تتعاقب الأضرار ، فتنقطع الصلة ما بين بعضها وبين خطأ المدعى عليه من جراء تسلسل النتائج . فتنعدم علاقة السببية فيما انقطعت فيه الصلة .
ويستعرض كلا من الحالتين : ( 1 ) تعدد الأسباب ( 2 ) تسلسل النتائج ( أو تعاقب الأضرار ) .
1 – تعدد الأسباب
602 – تعدد الأسباب مع الاستغراق أو دون استغراق : كثيراً ما تتعدد الأسباب التي تتدخل في إحداث الضرر . وعند ذلك يعنينا أن نعرف هل نأخذ بهذه الأسباب جميعاً ، القريب منها والبعي ، ونعتبرها كلها أسباباً أحدثت الضرر ، أو نقف من هذه الأسباب عند المؤثر المنتج دون غيره .
ويحسن في هذا الصدد أن نميز بين حالتين في تعدد الأسباب الحالة الأولى إذا تعددت الأسباب مع استغراق سبب منها للأسباب الأخرى ، والحالة الثانية إذا تعددت الأسباب دون استغراق .
1 - تعدد الأسباب مع استغراق سبب منها للأسباب الأخرى :
603 - بقاء السبب المستغرق وحده مرتبا للمسئولية : رأينا في بحث السبب الأجنبي أنه يجوز أن يكون للضرر سببان ، ولكن أحدهما يستغرق الآخر . ويبقى هو السبب الوحيد الذي أحدث الضرر ، فتتحقق مسئولية صاحبه كاملة . ورأينا أن هذا يتحقق في فرضين :
1 – أن يكون أحد السببين خطأ عمداً والآخر غير عمد . فيستغرق الخطأ العمد الخطأ غير العمد . ويصبح هو السبب الوحيد الذي نقف عنده . فإذا تعمد شخص إحداث ضرر بأخر . وساعده على إحداث هذا الضرر خطأ ارتكبه المضرور أو ارتكبه الغير ، كما لو انتهز شخص فرصة سير غريمه في الطريق غير ملق بالا لما حوله فدهسه بسيارته ، أو رأى حفرة في الطريق حفرها الغير خطأ فأوقع غريمه فيها ، اجتمع سببان تدخلا في إحداث الضرر : تعمد الجاني وخطا المجني عليه أو خطأ الغير . ولا شك في أن تعمد الجاني قد استغرق خطأ المجني عليه أو خطأ الغير ، فالتعمد وحده هو الذي نقف عنده ، ويعتبر السبب الوحيد في إحداث الضرر ، ويكون المدعى عليه مسئولا وحده مسئولية كاملة .
2 - أن يكون أحد السببين نتيجة للسبب الآخر . مثل ذلك أن يخطئ الطبيب في نصيحة المريض أو المحامي في توجيه الموكل أو المهندس في المشورة على العميل ، فيخطئ المريض أو الموكل أو العميل في إتباع النصيحة أو التوجيه أو المشورة فيصاب بالضرر . ومن ثم وجد سببان متواليان تدخلا في إحداث الضرر : المشورة الخاطئة وتنفيذ هذه المشورة . ولكن أحد السببين هو الذي ساق إلى السبب الآخر ، فكان هذا نتيجة له ، إذ المشورة هي التي ساقت إلى التنفيذ فكان التنفيذ نتيجة للمشورة . ويترتب على ذلك أن المشورة تستغرق التنفيذ ، وتصبح هي وحدها السبب الذي نقف عنده ، وتتحقق مسئولية الطبيب أو المحامي أو المهندس وحده مسئولية كاملة .
ب – تعدد الأسباب دون استغراق
604 – نظريتان : أما إذا تعددت الأسباب ولم يستغرق سبب منها الأسباب الخرى ، جاز عندئذ التساؤل هل نأخذ بهذه الأسباب جميعاً وهذه هي نظرية تكافؤ الأسباب que non theorie de l’equivalence des conditions - la condition sine أو تقف منها عند الأسباب المؤثرة المنتجة وهذه هي نظرية السبب المنتج ( theorie de la causalite adequate ) . وقد كان فقهاء الالمان – وتبعهم في ذلك فقهاء البلاد الأخرى – يقولون بنظرية تكافؤ الأسباب ، ثم هجروها – وتبعهم في ذلك أيضاً غيرهم – إلى نظرية السبب المنتج . ونستعرض الآن كلا من النظريتين .
605 – نظرية تكافؤ الأسباب : قال بهذه النظرية الفقهية الألماني فون بيري ( von Buri ) ( [1161] ) ومؤداها أن كل سبب له دخل في إحداث الضرر – مهما كان بعيداً – يعتبر من الأسباب التي أحدثت الضرر . فجميع الأسباب التي تدخلت في إحداث الضرر متكافئة ، وكل واحد منها يعتبر سبباً في إحداثه . ويكون للسبب . دخل في إحداث الضرر إذا كان لولاه لما وقع الضرر . فلو أن ثملا سار في عرض الطريق فدهسته سيارة مسرعة ، وكان من اليسير على سائق السيارة أن يتفادى الحادث لو أنه كان يسير بسرعة معتدلة ، كما كان يمكن للثمل أن يتفادى الحادث لو أنه كان مالكاً لتوازنه ، كان هناك سببان في إحداث الضرر : خطأ السائق في السير بسرعة كبيرة وخطأ المصاب في السير في الطريق العام وهو ثمل . ذلك أن الضرر ما كان ليقع لو لم يكن السائق مسرعاً . وما كان أيضاً ليقع لو لم يكن المصاب ثملا . فالسببان متكافئان في إحداث الضرر ، ويعتبر كل منهما سبباً فيه ، ويكون صاحبة مسئولا . فتتحقق المسئوليتان معاً . كذلك لو كان لشخص سيارة ولم يتخذ الاحتياطات المعقولة للمحافظة عليها فسرقت منه ، وساقها السارق بسرعة كبيرة فدهس أحد العبارة ، كان هنا أيضاً سببان في إحداث الضرر : سرعة السائق وتقصير صاحب السيارة في المحافظة عليها . فالضرر ما كان ليقع لو لم يكن السارق مسرعاً ، وما كان أيضاً ليقع لو لم يهمل صاحب السيارة فتسرق منه فالسببان متكافئان في إحداث الضرر ، وكلاهما يعتبر سبباً في إحداثه .
606 – نظرية السبب المنتج : قال بهذه النظرية الفقيه الألماني فون كريس ( Von Kries ) ( [1162] ) ، فانحاز لها الكثرة من الفقهاء في ألمانيا وفي غيرها من البلاد . وساعد على هجر نظرية تكافؤ الأسباب إلى نظرية السبب المنتج أن القرائن القانونية على الخطأ المفترض كثرت . فأصبح من اليسير استظهار خطأ مفترض ف يجانب المدعى عليه ينضم إلى أخطاء أخرى أكثر وضوحاً وبروزا . فلو قلنا بنظرية تكافؤ الأسباب لوجب اعتبار جميع هذه الأخطاء ، وفيها الخطأ المفترض ، أسباباً متكافئة . ومن ثم اثر الفقهاء نظرية السبب المنتج ، فيستعرضون الأسباب المتعددة التي كان لها دخل في إحداث الضرر ، ويميزون بين الأسباب العارضة ( fortuites ) والأسباب المنتجة ( adequates ) ، ويقفون عند الثانية دون الأولى ويعتبرونها وحدها السبب في إحداث الضرر . وإذا قيل إن كلا من السبب المنتج والسبب العارض كان له دخل في إحداث الضرر ، ولولاه لما وقع ، إلا أن السببية بهذا المعنى هي السببية الطبيعية . ونحن إنما نريد السببية القانونية ، فنبحث أي الأسباب التي يقف عندها القانون من بين الأسباب الطبيعية المتعددة ليعتبرها وحدها هي الأسباب التي أحدثت الضرر . والسبب العارض غير السبب المنتج . وإذا كان كلاهما تدخل في إحداث الضرر ، ولولاه لما وقع ، إلا أن السبب المنتج هو السبب المألوف الذي يحدث الضرر في العادة ( [1163] ) ، والسبب العارض هو السبب غير المألوف الذي لا يحدث عادة هذا الضرر ولكن أحدثه عرضاً . أرأيت لو أهمل صاحب السيارة في المحافظة عليها فسرقت منه ، وعدا بها السائق في سرعة كبيرة فدهس أحد العابرة ، فاجتمع سببان في إحداث الضرر هما خطأ صاحب السيارة وخطأ السارق ، ماذا كان من هذين السببين هو السبب المألوف ؟ اليس هو خطأ السارق في أن يسير بسرعة كبيرة إذ هو الذي يحدث هذا الضرر في العادة ، وأليس خطأ صاحب السيارة في إهماله في المحافظة عليها حتى سرقت منه وإن كان له دخل في إحداث الضرر إلا أنه سبب غير مألوف لا يحدث عادة هذا الضرر ؟ فخطأ السارق وحده هو السبب المنتج ، أما خطأ صاحب السيارة فسبب عارض . ويجب الوقوف عند السبب المنتج دون السبب العارض ، واعتبار صاحب السبب المنتج هو وحده المسئول . وفي مثل الثمل الذي دهسته السيارة المسرعة اجتمع سببان في إحداث الضرر : خطأ الثمل وخطأ السائق . وكلاهما سبب مألوف يحدث هذا الضرر عادة ، فهما سببان منتجات ، وصاحباهما مسئولان معاً . ومن ثم يكون السببان في هذا المثل منتجين وفقاً لنظرية السبب المنتج ، ومتكافئتين وفقاً لنظرية تكافؤ الأسباب .
ويتضح مما تقدم أن نظرية السبب المنتج هي النظرية الأحرى بالاتباع ( [1164] ) .
607 – الأثر الذي يترتب على تعدد الأسباب التي أحدثت الضرر : فإذا نحن عرفنا الأسباب التي أحدثت الضرر – سواء اهتدينا إلى هذه الأسباب عن طريق نظرية السبب المنتج أو عن طريق نظرية تكافؤ الأسباب – ووجدنا هذه الأسباب متعددة ، فقد رأينا فيما قدمناه عند الكلام في السبب الأجنبي أن هذا التعدد له اثر كبير في المسئولية . ونستعرض في إيجاز الفروض المختلفة ملخصين ما قدمناه في هذا الصدد .
فقد يجتمع سببان في إحداث الضرر : خطأ المدعى عليه وقوة قاهرة أو خطأ المدعى عليه وخطا المضرور أو خطأ المدعى عليه وخطا الغير . أو تجتمع أسباب ثلاثة : خطأ كل من المدعى عليه والمضرور والغير .
فإذا اجتمع خطأ المدعى عليه وقيام قوة قاهرة ، كان المدعى عليه مسئولا عن التعويض الكامل ، لأن خطأه كان سبباً في إحداث الضرر . ولا يستطيع الرجوع على أحد ، لأن الحادث الذي اشترك مع خطئه في إحداث الضرر كان قوة قاهرة ، يتحمل وحده المسئولية كاملة . فلو أن شخصا لكم شخصاً آخر في صدره لكمة بسيطة ، وتصادف أن المصاب كان مريضا بالقلب لوم يكن المدعى عليه يعلم ذلك ، فمات المصاب من جراء هذه اللكمة . كان المدعى عليه مسئولا مسئولية كاملة عن موت المصاب ( [1165] ) . ولو سار سائق السيارة مسرعاً أكثر مما يجب ، فإذا بريح عاصف اقتلع شجرة ورماها في عرض الطريق أمام السيارة ، فانقلبت السيارة على أحد العابرة فأصابته ، كان المدعى عليه مسئولا عن التعويض الكامل ، ولا يستطيع الرجوع على أحد كما هو الأمر في المثل السابق .
وإذا اجتمع خطأ المدعى عليه وخطا المضرور ، كما إذا أسرع سائق السيارة في سيره فاعترض طريقه شخص ثمل فدهسه ، كان هناك خطأ مشترك ( faute commune ) كما قدمنا ، ورجع المضرور على المسئول بنصف التعويض على النحو الذي سبق أن بيناه .
وإذا اجتمع خطأ المدعى عليه وخطا الغير ، كما إذا سار السائق في سرعة كبيرة واعترضته حفرة في الطريق أحدثها الغير خطأ فانقلبت السيارة وأصابت أحد العابرة ، فإن كلا من الخطأين يعتبر سبباً في إحداث الضرر ، ويكون المدعى عليه مسئولا نحو المضرور عن تعويض كامل ، ويرجع بنصف التعويض على الغير الذي أحدث الحفرة خطأ في الطريق .
وإذا اجتمع خطأ كل من المدعى عليه والمضرور والغير ، كما إذا سار السائق بسرعة كبيرة فعثر بحفرة أحدثها الغير خطأ في الطريق فانقلبت السيارة وأصابت شخصاً ثملا كان يعبر الطريق ، كان السائق مسئولا نحو المضرور عن ثلثي التعويض ، ويرجع بالثلث على الغير .
2 - تسلسل النتائج
( أو تعاقب الأضرار والضرر غير المباشر )
608 – التمييز بين تعدد الأسباب وتسلسل النتائج : ينبغي أن نميز تمييزاً دقيقاً بين حالة تعدد الأسباب التي عالجناها فيما تقدم وحالة تسلسل النتائج أو تعاقب الأضرار التي نعالجها الآن . ففي الحالة الأولى الضرر واحد لم يتعاقب ، والأسباب هي التي تعاقبت فتعددت . وفي الحالة الثانية السبب واحد لم يتعدد ، والأضرار هي التي تعاقبت عن هذا السبب الواحد فصارت إضراراً متعددة . ففي إحدى الحالتين إذن السبب هو المتعدد ، أما الضرر فيبقى واحداً . وفي الحالة الأخرى الضرر هو المتعدد ، أما السبب فيبقى واحداً وقد تمتزج الحالتان فتتعدد الأسباب وتتعاقب الأضرار ، فيعطي لتعدد الأسباب حكمه الذي قدمناه ، ويعطي لتعاقب الأضرار الحكم الذي سنبسطه فيما يلي .
609 – أمثلة عملية لتسلسل النتائج أو تعاقب الأضرار : يوجد مثل تقليدي أورده بوتييه في الأضرار التي تتعاقب ، وهو مثل في المسئولية العقدية ولكنه ينطبق أيضاً على المسئولية التقصيرية : تاجر مواش يبيع بقرة . موبوءة ( [1166] ) ، فتعدى مواشي المشتري ، وتموت ويموت معها سائر المواشي ، فلا يتمكن المشتري من زراعة أرضه ، فيعوزه المال ، فلا يستطيع الوفاء بديونه ، فيحجز الدائنون على أرضه ويبيعونها عليه بثمن بخس . فهذه أضرار متعاقبة يجر بعضها بعضاً : موت البقرة الموبوءة ، عدوى المواشي وموتها ، العجز عن الزراعة ، العجز عن وفاء الديون ، الحجز على الأرض وبيعها بثمن بخس ، ويرى ويرى بوتييه بحق أن الأضرار المباشرة التي يجب التعويض عنها هي موت البقرة الموبوءة وعدوى المواشي وموتها . أما العجز عن الزراعة وعن وفاء الديون والحجز على الأرض وبيعها بثمن بخس ، فهذه أضرار غير مباشرة لا محل للتعويض عنها .
وقد وقع في مصر ما يقرب من هذا ، فقضت فيه محكمة الاستئناف الوطنية ( [1167] ) بما يأتي : " إذا تلفت آلات وابور بسبب حادث حصل للقطار الذي كانت هذه الآلات مشحونة فيه ، فلا تسال المصلحة عن الضرر غير المتسبب مباشرة عن الحادث ، كأن يقال إن هذا الوابور كان معداً للتركيب على بئر ارتوازية وبسبب تلف الآلات تعذر الانتفاع بهذه البئر ، فتلفت زراعة صاحب البئر ، وكان أيضاً متعهداً بأن يروى لأصحاب الأطيان المجاورة فلم يروها بسبب هذا الحادث فطالبوه بتعويض الضرر ، ثم إنه لم ينتفع أيضاً بالأرض التي حفر البئر فيها وبالأرض التي أعدها لوضع الوابور ألخ ألخ ، وأن المصلحة مسئولة عن تعويض كل هذه الأضرار " .
وقد قضت محكمة النقض ( [1168] ) كذلك بما يأتي : " . . . . . إذا حمل الحكم مصلحة الآثار مسئولية خطئها من سحب رخصة من متجر بالآثار ، وما يترتب على هذا السحب من اعتباره متجراً بغير رخصة ، وتحرير محضر مخالفة له ، ومهاجمة منزله ، وإزالة اللوحة المعلقة على محل تجارته ، وقضى له بناء على ذلك بتعويض عما لحقه من هذه الأضرار ، فقضاؤه صحيح قانوناً ( [1169] ) " .
فهذه أمثلة عملية منتزعة من صميم الحياة المصرية نرى فيها الأضرار عن السبب الواحد تتلاحق وتتعاقب وتتسلسل . فأين نقف ؟ القاعدة التقليدية هي إننا نقف عند الضرر المباشر ( dommage direct ) فنعوض عنه ، ونغفل الضرر غير المباشر ( dommage indirect ) فلا يجب له التعويض .
ولكن كيف نحدد ما إذا كان الضرر مباشراً أو غير مباشر ؟
610 – معيار الضرر المباشر : يجب بادئ الأمر التمييز ما بين الضرر المباشر ( direct ) والضرر المتوقع ( previsible ) ، فالضرر المتوقع هو ما كان محتمل الحصول ممكناً توقعه ، فهو بهذه المثابة يكون ضرراً مباشراً ، وقد فصلنا الكلام فيه في المسئولية العقدية . ويمكن القول إن كل ضرراً مباشراً ، وقد فصلنا الكلام فيه المسئولية العقدية . ويمكن القول إن كل ضرر متوقع يكون ضرراً مباشراً ، ولكن ليس كل ضرر مباشر يكون ضرراً متوقعاً ، فمن الأضرار المباشرة ما ليس محتمل الحصول ولا يمكن توقعه . فما هو إذن معيار الضرر المباشر ؟
تعرض الفقرة الأولى من المادة 221 من القانون المدني الجديد لهذه المسألة الهامة ، فنقول :
" إذا لم يكن التعويض مقدرا في العقد أو بنص في القانون ، فالقاضي هو الذي يقدره ، ويشمل التعويض ما لحق الدائن من خسارة وما فاته من كسب ، بشرط أن يكون هذا نتيجة طبيعية لعدم الوفاء بالالتزام أو للتأخر في الوفاء به ، ويعتبر الضرر نتيجة طبيعية إذا لم يكن في استطاعه الدائن أن يتوقا ببذل جهد معقول ( [1170] ) " .
فالضرر المباشر إذن هو ما كان نتيجة طبيعية ( normal ) للخطأ الذي أحدثه ويبقى بعد ذلك أن نعرف ما الذي يعتبر نتيجة طبيعية . يقول النص : " ويعتبر الضرر نتيجة طبيعية إذا لم يكن في استطاعة الدائن أن يتوقاه ببذل جهد معقول " . وهذا معيار يجمع بين الدقة والمرونة ، نراه لأول مرة في القانون المدني الجديد ( [1171] ) ، وإن كان يمكن استخلاصه من قضاء محكمة الاستئناف المختلطة ( [1172] ) . فلنطبقه على الأمثلة العملية التي قدمناها .
البقرة الموبوءة التي نفقت بعد أن أعدت سائر المواشي فنفقت هذه أيضاً ، أكان المشتري يستطيع أن يتوقى هذه الأضرار ببذل جهد معقول ؟ ينظر في ذلك إلى الظروف الملابسة ، والظاهر أنه كان لا يستطيع ذلك . فتعتبر هذه الأضرار إضراراً مباشرة . أما العغجز عن الزراعة ، وعن وفاء الديون ، وحجز الأرض وبيعها بثمن بخس ، فإن هذا كله كان في وسع المزارع أن يتفاداه ببذل جهد معقول ، إذ كان في استطاعته أن يعمد إلى مواش أخرى يشتريها أو يستأجرها لزراعة أرضه ، فتقف بذلك سلسلة الأضرار المتلاحقة التي أصبته من جراء موت المواشى . ومن ثم يعتبر هذه الأضرار أضراراً غير مباشرة لا محل للتعويض عنها .
آلات الوابور التي تلفت بسبب الحادث الذي وقع للقطار ، أكان صاحبها يستطيع أن يتوقى تلفها ؟ ظاهر أنه كان لا يستطيع ذلك ، فيعتبر هذا التلف ضرراً مباشراً يجب تعويضه . أما تعذر الانتفاع بالبئر الارتوازية ، فتلف الزراعة ، والعجز عن ري الأطيان المجاورة ، وعدم الانتفاع بالأرض التي حفر البئر فيها والأرض التي أعدت لوضع الوابور ، فكل هذه أضرار غير مباشرة إذ كان صاحب الأرض يستطيع أن يتفاداها بالالتجاء إلى طريق آخر للري ( [1173] ) .
سحب الرخصة خطأ من متجر يتجر في الآثار ، وما ترتب على ذلك من تحرير محضر مخالفة لصاحبه ، ومهاجمة منزله ، ونزع اللوحة المعلقة ، كل هذه أضرار مباشرة ، لأن صاحب المتجر لم يكن يستطيع تلافيها ببذل جهد معقول ( [1174] ) .
ونرى من ذلك أن المعيار الذي أتى به القانون الجديد يستقيم في الأمثلة التي تقع في الحياة العملية ، وهو معيار يجمع كما رأينا بين الدقة والمرونة ( [1175] ) .
ومن اليسير تأصيله بأن المضرور إذا لم يبذل جهداً معقولا في توقى الضرر يكون هو أيضاً قد أخطأ ، ومن ثم يوجد خطأ مشترك ، وعلى المضرور أن يتحمل تبعة خطاه بتحمل الأضرار التي تنجم عن هذا الخطأ . فإذا جرح شخص آخر ، فالضرر المباشر الذي ينجم عن الجرح يتحمله المسئول ، والضرر غير المباشر الذي ينجم عن إهمال المضرور في علاج نفسه يتحمله المضرور .
ونستخلص من ذلك أن الأضرار المباشرة ، أي الأضرار التي تكون نتيجة طبيعية للخطأ الذي أحدثها وهي التي كان المضرور لا يستطيع توقيعها ببذل جهد معقول ، هي وحدها التي تحتفظ من الناحية القانونية بعلاقة السببية بينها وبين الخطأ . أما الأضرار غير المباشرة ، وهي التي لا تكون نتيجة طبيعية للخطأ الذي أحدث الضرر ، فتنقطع علاقة السببية بينها وبين الخطأ ، ولا يكون المدعى عليه مسئولا عنها .
الفرع الثاني
آثار المسئولية
611 – دعوى المسئولية وجزاؤها ( التعويض ) : إذا توافرت أركان المسئولية – خطأ وضرر وعلاقة سببية بينهما – تحققت المسئولية ، وترتبت عليها آثارها ، ووجب على المسئول تعويض الضرر الذي أحدثها بخطأه .
فالتعويض إذن هو الحكم الذي يترتب على تحقق المسئولية ، وهو جزاؤها . ويسبق ذلك دعوى المسئولية ذاتها ، ففي الكثرة لغالبة من الأحوال لا يسلم المسئول بمسئولية ، ويضطر المضرور إلى أن يقيم عليه الدعوى .
فنستعرض في مبحثين متعاقبين : ( 1 ) دعوى المسئولية ( 2 ) وجزاء المسئولية ( التعويض ) .
المبحث الأول
دعوى المسئولية
( Action en responsabilite )
612 – مسائل أربع : نستعرض المسائل الأربع الآتية : ( 1 ) طرفي الدعوى : المدعى والمدعى عليه ( 2 ) الطلبات والدفوع ، ويدخل في ذلك تقادم دعوى المسئولية ( 3 ) الإثبات : عبؤه ووسائله ( 4 ) الحكم الصادر في دعوى المسئولية وطرق الطعن فيه ، وبخاصة طريق النقض .
المطلب الأول
طرفا الدعوى
1 – المدعى
613 – المدعى هو المضرور : المدعى في دعوى المسئولية هو المضرور ، وهو الذي يطالب بالتعويض . فغير المضرور ليس له حق في التعويض . والمضرور ، هو أن نائبه أو خلفه ، يثبت له هذا الحق . ويثبت الحق لكل مضرور . فالمدعى إذن هو المضرور ، وكل مضرور ، ولا أحد غير المضرور .
1 – غير المضرور ليس له حق في التعويض :
614 – التبرع بالتعويض لجهة خيرية : بديهي أن غير المضرور لا يستطيع أن يطالب بتعويض عن ضرر لم يصبه ( [1176] ) . ولكن يقع كثيراً – وبخاصة في الأضرار الأدبية – أن يعلن المضرور عن رغبته في النزول عما يحكم له به من تعويض لجهة خيرية أو لمؤسسة تعمل للمصلحة العامة . والمحظور أن يطلب المضرور من المحكمة القضاء مباشرة بالتعويض لهذه الجهة . ولا تستطيع المحكمة في هذه الحالة أن تجيبه إلى هذا الطلب ، لأن الجهة الخيرية التي عينها المضرور لم يصبها أي ضرر ، فلا يجوز الحكم لها مباشرة بتعويض أما إذا طلب المضرور الحكم بالتعويض لنفسه وأعلن في الوقت ذاته عن رغبته في النزول عن هذا التعويض لجهة خيرية ، فلا شيء يمنع من ذلك . ويجوز أن يشير الحكم إلى هذا الأمر ، ولا يكون في هذه الإشارة مخالفة للقانون تستوجب نقض الحكم ( [1177] ) .
فإذا وقع ذلك ، بقى أن نعرف هل تكسب الجهة الخيرية حقاً قبل المضرور في أن ينزل لها عن التعويض الذي قضى له به ؟ إذا طبقنا القواعد العامة ، رأينا أن المضرور لا يلتزم بارادته المنفردة نحو الجهة الخيرية ، لأن الإرادة المنفردة لا تلزم صاحبها إلا في أحوال منصوص عليها ، ليست هذه الحالة منها . ولكن يجوز أن يعتبر إعلان المضرور رغبته في النزول عن التعويض للجهة الخيرية إيجاباً منه يعد فيه بهبة حق ثابت له ، ستقوم المحكمة بتحديد مقداره . فإذا قبلت الجهة الخيرية هذا الإيجاب أصبح المضرور ملتزماً بهذا الوعد بالهبة ، مع مراعاة أن الوعد بالهبة لا ينعقد إلا إذا كان بورقة رسمية ( م 490 من القانون المدني الجديد ) ( [1178] ) .
ب – حق التعويض للمضرور :
615 – المضرور أو نائبه : المضرور هو الشخص الذي لحق أن يطالب بالتعويض . ويقوم نائبه مقامه في ذلك .
ونائب المصور ، إذا كان هذا قاصراً ، هو وليه أو وصيه . وإذا كان محجوراً ، هو القيم . وإذا كان مفلساً ، هو السنديك . وإذا كان وقفاً ، هو ناظر الوقف . وإذا كان رشيداً ، فنائبه هو الوكيل .
616 – خلف المضرور : بقى الخلف ، عاماً كان أو خاصاً . وهؤلاء هم الوارث والدائن والمحال له ، وهنا يجب التمييز بني التعويض عن الضرر المادي والتعويض عن الضرر الأدبي .
فإذا كان التعويض عن ضرر مادي – تلف مال أو اصابة في الجسم اعجزت عن العمل – فإن الحق في التعويض ، وقد ثبت للمضرور ، ينتقل منه إلى خلفه . فيستطيع وارث المضرور أن يطالب بالتعويض الذي كان مورثه يطالب به لو بقى حياً ( [1179] ) . ويستطيع دائن المضرور أن يطالب بهذا التعويض باسم مدينه عن طريق الدعوى غير المباشرة ( [1180] ) . ويستطيع المضرور أن يحول حقه في التعويض إلى شخص آخر فينتقل هذا الحق إلى المحال له ( [1181] ) .
أما إذا كان التعويض عن ضرر أدبي ، فإنه لا ينتقل إلى خلف المضرور إلا إذا تحدد بمقتضى اتفاق ما بين المضرور والمسئول أو طالب به المضرور أمام القضاء ( م 222 ) . وقد تقدم بيان ذلك بالتفصيل عند الكلام في الضرر الأدبي وكيف ينتقل التعويض عنه إلى الغير . فإذا تحدد التعويض عن الضرر الأدبي على هذا النحو ، بالتراضي أو بالتقاضي ، أمكن أن ينتقل حق التعويض إلى الوارث ، وجاز لدائن المضرور أن يطالب به عن طريق الدعوى غير المباشرة ( [1182] ) ، وصح للمضرور أن يحوله إلى الغير ( [1183] ) .
ج – حق التعويض كل مضرور :
617 – تعدد المضرورين : قد يتعدد المضرورن من الخطأ الواحد ، ويكون كل مضرور قد أصابه ضرر مستقل عن الضرر الذي أصاب الآخر . مثل ذلك حريق تنشب بخطأ شخص فتحرق منازل عدة ، فصاحب كل منزل قد أصابه بسبب هذه الحريق ضرر مستقل عن الأضرار التي أصابت أصحاب المنازل الأخرى .
وقد يصيب الخطأ الواحد بالضرر شخصين أو أكثر ، ولكن الضرر الذي أصاب أحدهم يكون نتيجة للضرر الذي أصاب الآخرين . مثل ذلك أن يقتل شخص آخر خطأ ، ويكون للمقتول قريب يعوله ، فخطأ القاتل أصاب المقتول بالضرر ، وأصاب بالضرر أيضاً من كان المقتول يعوله . والضرر الثاني ليس إلا انعكاساً للضرر الأول ، فهو نتيجة له ( [1184] ) . والفرق بين هذه الحالة والحالة السابقة أن الأضرار في الحالة السابقة كان كل ضرر منها مستقلا عن الأضرار الأخرى ، أما في الحالة التي نحن بصددها فالأضرار تتصل فيما بينها اتصال السبب بالمسببب .
وفي الحالتين – سواء كانت الأضرار مستقلة بعضها عن بعض أو كانت بعضها لبعض سبباً – يكون لكل مضرور دعوى شخصية مستقلة يرفعها باسمه خاصة دون أن يتأثر بدعاوى الآخرين . ولا تضامن ما بين المضرورين ، بل يقدر القاضي تعويض كل منهم على حدة .
618 – الضرر الذي يصيب الجماعة : وقد يقع الضرر على جماعة ، لا على فرد أو على أفراد متعددين ، فمن عسى أن يكون المضرور في هذه الحالة ، هل هم الأفراد الذين تتكون منهم الجماعة ، أو هي الجماعة ذاتها ؟ يجب التمييز هنا بين ما إذا كانت الجماعة ذات شخصية معنية ، أو كانت لا تتمتع بهذه الشخصية .
فإذا كانت الجماعة ذات شخصية معنوية ، كشركة أو جمعية أو نقابة أو شخص معنوي عام ، وجب التمييز بين المصلحة الفردية ( Interet individual ) لأي فرد من الأفراد التي تتكون منها هذه الجماعة ، والمصلحة الجماعية الشخصية ( interet social personnel ) للشخص المعنوي ذاته ، والمصلحة الجماعية العامة ( interet collectif ) التي يقوم عليها هذا الشخص المعنوي باعتباره منتمياً إلى حرفة معينة . ولنضرب لذلك مثلا النقابة – نقابة المحامين أو نقابة الأطباء أو نقابة المهندسين أو نقابة من نقابات العمال أو أصحاب العمل أو أية نقابة أخرى – فكل عضو في هذه النقابة له مصلحة فردية يحميها القانون ، فإذا وقع اعتداء على هذه المصلحة كان لهذا الفرد المضرور دعوى شخصية قبل المسئول ، كما إذا منعت نقابة أحد أعضائها من ممارسة مهنته دون حق فيجوز لهذا العضو أن يرجع على النقابة لحماية مصلحته الفردية . وللنقابة كشخص معنوي مصالح جماعية شخصية ، فهي تملك مالا ولها نشاط مهني وتتعاقد وتمارس اختصاصاتها المختلفة ، فإذا وقع اعتداء على مصلحة شخصية لها من هذا القبيل ، كانت النقابة كشخص معنوي هي المضرور ، كما إذا ارتكب أحد مديري النقابة خطأ في ادارته سبب خسارة للنقابة ، فوي هذه الحالة ترجع النقابة بالتعويض على المسئول ، ولا يجوز لي عضو من أعضاء النقابة أن يعتبر نفسه هو المضرور فيرجع بصفته الشخصية على المسئول ( [1185] ) . والنقابة كشخص معنوي يعهد إليه القانون بالدفاع عن المصالح العامة لمهنة معينة لها أن ترجع على أي شخص اعتدى على هذه المصالح العامة ، ولو لم تكن لها في ذلك مصلحة شخصية . فنقابة للعمال لها أن ترجع على صاحب عمل لم يراع قوانين العمل في مصنعه ، بأن جعل العمال يعملون أكثر من الساعات المقررة للعمل ، أو استخدم الصبية أو النساء دون أن يراعى القيود التي قررها القانون ، حتى لو لم يكن العمال أو الصبية أو النساء الذين استخدمهم صاحب العمل أعضاء في النقابة ، إذ النقابة هنا تمثل الصالح العام لجميع العمال سواء كانوا داخلين في عضويتها أو غير داخلين . أما إذا كان العمال داخلين في عضويتها ، فإنها تكون بذلك قد توفرت لا على مصلحة عامة للمهنة فحسب ، بل أيضاً على مصلحة جماعية شخصية ، وكلتا المصلحتين تبرر رجوعها على صاحب العمل . وقيام المصلحة الجماعية العامة يتحقق بالنسبة إلى النقابات دون الشركات والجمعيات ، فإن هذه لا تمثل المصالح العامة للمهنة أو للطائفة التي تنتسب إليها . أما الأشخاص المعنوية العامة ، كالدولة والمديريات والبلديات والقرى ، فتختلط بالنسبة إليها المصالح الشخصية بالمصالح العامة ، إذ الدولة تمثل مجموع السكان فمصالح هذا المجموع وهي المصالح العامة هي أيضاً المصالح الشخصية للدولة ، والمديرية تمثل مجموع سكان المديرية فمصالح هذا المجموع هي المصالح العامة والمصالح الشخصية للمديرية في وقت واحد . وهكذا قل عن سائر الأشخاص المعنوية العامة ( [1186] ) .
وإذا كانت الجماعة لا تتمتع بشخصية معنوية ولكنها تنتمي إلى مهنة أو طائفة معينة ، كرجال الجيش ورجال القضاء ورجال الإدارة والمعلمين والخبراء والمحضرين والجماعيين والأزهريين واليهود ومهاجري فلسطين ، وبج أن نلاحظ أن لهذه الجماعة مصالح عامة . فهل الاعتداء على هذه المصالح يجيز للجماعة ، وهي لا تتمتع بشخصية معنوية ، أن ترجع بالتعويض على المعتدى ؟ تقضي القواعد العامة بعدم جواز ذلك ، فالجماعة ما دامت لا تتمتع بالشخصية المعنوية ليست شخصاً له ذمة مالية ، ولا تستطيع أن تقاضي ولا أن تقاضى ، ولا يمكن أن تترتب مسئولية في ذمتها ولا أن يكون لها حق في الرجوع على المسئول . وأكثر ما يكون الاعتداء على المصالح العامة لهذه الجماعات أن يكون اعتداء على مصالحها الأدبية ، كالقذف في حقها أو الحط من كرامتها أو تلويث سمعتها . ففي مثل هذه الأحوال لا يجوز لأحد أن يتقدم باعتباره ممثلا للجماعة يطالب المسئول بالتعويض . وإنما يجوز لأي فرد من أفراد الجماعة – أو أي شخص معنوي داخل هذه الجمعية كجمعية المعلمين أو نادي الجماعيين أو جمعية إسرائيلية ، أن يطالب المسئول بالتعويض ، ويشترط في ذلك أن يثبت ليس فحسب أن المسئول قد اعتدى على المصلحة العامة للجماعة ، بل أيضاً أن هذا الاعتداء على المصلحة العامة قد لحقه منه ضرر شخصي ( [1187] ) .
2 – المدعى عليه
619 – المدعى عليه هو المسئول أو نائبه أو خلفه : المسئول هو الذي يكون مدعى عليه في دعوى المسئولية ، سواء كان مسئولا عن فعله الشخصي أو مسئولا عن غيره أو مسئولا عن الشيء الذي في حراسته . ويجوز رفع دعوى المسئولية على المسئول عن الغير وحده دون إدخال المسئول الأصلي ، وما على المسئول الذي رفعت عليه الدعوى إلا أن يدخل المسئول الأصلي ضامناً .
ويقوم مقام المسئول نائبه . فإذا كان المسئول قاصراً ، كان نائبه هو وليه أو وصيه . وإذا كان محجوراً ، كان النائب هو القيم . وإذا كان مفلساً ، فالسنديك . وإذا كان وقفاً ، فالناظر . وإذا كان رشيداً بالغاً ، فالوكيل . و
يحل محل المسئول خلفه . والخلف هنا هو أولاً الوارث . ولما كان الوارث في الشريعة الإسلامية لا يرث التركة إلا بعد سداد الديون ، فالتركة تكون هي المسئولة بعد موت المسئول ، وأي وارث يمثل التركة في دعوى المسئولية ، وما على المضرور إلا أن يرفع الدعوى على كل الورثة أو على أحدهم ، فيحكم له بالتعويض قبل من رفع عليه الدعوى ، ويتقاضى حقه كاملا من التركة . ويجوز أيضاً أن يكون الخلف هو شخص محال عليه بالدين ، كما إذا باع صاحب المتجر متجره واشترط على المشتري أن يفي بجميع الديون التي تثبت في ذمة المتجر ويكون من هذه الديون تعويض لمتجر آخر بسبب منافسة غير مشروعة . فيكون المدعى عليه في هذه الحالة هو المشتري للمتجر باعتباره خلفاً خاصاً للمسئول ، وقد انتقل إليه دين التعويض عن طريق الحوالة ، وحوالة الدين جائزة في القانون المدني الجديد ( [1188] ) . ولا يتصور هنا أن يكون المدعى عليه هو دائن المسئول كما تصورنا ذلك في المدعى ، فإنه إذا كان للدائن أن يستعمل حقوق مدينه فليس عليه الوفاء بالتزامات المدين ( [1189] ) . وإذا كان المسئول شخصاً معنوياً وانحل ، فجميع ما له بعد التصفية يكون مسئولا عن التعويض ( [1190] ) .
620 – تعدد المسئولين : سبق أن ذكرنا أن المادة 169 من القانون المدني الجديد قضت بأنه إذا تعدد المسئولون عن عمل ضار ، كانوا متضامنين في التزامهم بتعويض الضرر ، وتكون المسئولية فيما بينهم بالتساوي إلا إذا عين القاضي نصيب كل منهم في التعويض . فتعدد المسئولين يجعل كل مسئول مدعى عليه ، ويجعلهم جميعاً متضامنين في المسئولية ( [1191] ) . وما دموا متضامنين فإن المدعى يستطيع أن يقيم الدعوى عليهم جميعاً ، كما يستطيع أن يختار منهم من يشاء فيقصر الدعوى عليه دون غيره ، ويطالبه بالتعويض كاملاً ( [1192] ) . ذلك أن التضامن يقضي بأن كلا منهم يكون مسئولا قبل المضرور عن التعويض كله ، ثم يرجع من دفع التعويض على الباقي كل بقدر نصيبه بحسب جسامة الخطأ أو بالتساوي على النحو الذي قدمناه .
ويجب حتى يقوم التضامن بين المسئولين المتعددين أن تتوافر شروط ثلاثة :
1 - أن يكون كل واحد منهم قد ارتكب خطأ . فلا تكون ورثة المسئول متضامنين إلا باعتبار أن التركة هي المسئولية ، أما هم فلا تضامن بينهم لأن أحداً منهم لم يرتكب خطأ ، بل المورث هو الذي صدر منه الخطأ .
2 - أن يكون الخطأ الذي ارتكبه كل منهم سبباً في إحداث الضرر . فإذا أطلق جماعة من الصيادين خطأ بنادقهم في وقت واحد ، أصيب أحد العابرة برصاصة من أحدهم ، فإن الباقي لا يكون مسئولين معه بالتضامن لأن الأخطاء التي وقعت منهم لم تكن سبباً في إحداث الضرر ، بل لا يكونون مسئولين أصلاً لانهم لم يحدثوا ضرراً ما .
3 - أن يكون الضرر الذي أحدثه كل منهم بخطئه هو ذات الضرر الذي أحدثه الآخرون ، أي أن يكون الضرر الذي وقع منهم هو ضرر واحدا ( [1193] ) . فإذا سرق أحد اللصوص عجلة السيارة ، وجاء لص آخر فسرق من السيارة بعض الآلات ، لم يكن اللصان متضامنين لأن كلا منهما أحدث بخطئه ضرراً غير الضرر الذي أحدثه الآخر ( [1194] ) .
هذه هي الشروط الثلاثة التي يجب توافرها ليكون المسئولون المتعددون متضامنين في المسئولية . ومتى توافرت تحقق التضامن ، دون حاجة لأي أمر آخر . فلا ضرورة لأن يكون هناك تواطؤ ما بين المسئولين أو أن يرتكب الأخطاء في وقت واحد ، فإذا حاول لص سرقة منزل فنقب فيه نقباً ثم ذهب يستحضر ما يستعين به على السرقة ، فأتى لص آخر على غير اتفاق مع اللص الأول ودخل من النقب وسرق المنزل ، فإن اللصين يكونان مسئولين بالتضامن ( [1195] ) . ولا ضرورة لأن تكون الأخطاء عملا واحداً أو جريمة واحدة ( [1196] ) ، فقد يكون أحدها عمداً والآخر غير عمد ، وقد تختلف جسامة الأخطاء فيقترن خطأ جسيم بخطأ يسير ومع ذلك يكون صاحب الخطأ اليسير متضامناً مع صاحب الخطأ الجسيم . وقد تختلف طبيعة الأخطاء فيكون أحد الخطأين جنائياً ويكون الثاني مدنيا ًن أو يكون أحدهما عملا ويكون الآخر امتناعاً عن عمل . مثل ذلك أن يهمل الخادم فيترك باب المنزل مفتوحاً فيدخل لص ويسرق المنزل ، ففي هذه الحالة يكون الخادم واللص متضامنين على اختلاف ما بين الخطأين ، فأحدهما عمد والآخر غير عمد ، وأحدهما جنائي والآخر مدني ، وأحدهما عمل والآخر امتناع عن عمل . وقد تكون الأخطاء كلها ثابتة أو مفترضة ، أو يكون بعضها ثابتاً وبعض مفترضاً ، فسائق السيارة ومالكها مسئولان بالتضامن عن خطأ السائق وخطأ الأول ثابت وخطأ الآخر مفترض .
وقد يكون أحد الخطأين عقدياً ما دام الآخر خطأ تقصيرياً . فإذا تعاقد عامل فني مع صاحب مصنع أن يعمل في مصنعه مدة معينة ، واخل بتعهده فخرج قبل انقضاء المدة ليعمل في مصنع آخر منافس بتحريض من صاحبه ، كان العمل الفني وصاحب المصنع المنافس مسئولين معاً نحن صاحب المصنع الأول كل منهما عن تعوض كامل . وتفسير ذلك لا يرجع إلى تعد المسئولين عن أخطاء تصيرية ، بل يرجع إلى أن العامل الفني مسئولا عن تعويض كامل لأنه اخل بالتزامه العقدي ، وصاحب المصنع المنافس مسئول أيضاً عن تعويض كامل لأنه ارتكب خطأ جعله مسئولا ن فيكون كل منهما مسئولا عن تعويض ضرر واحد تعويضاً كاملا . وهذه ليست مسئولية بالتضامن ( solidarite ) بل هي مسئولية مجتمعة ( in solidum ) . وكذلك يكون الحكم إذا كان كل من الخطأ العقدي والخطأ التقصيري غير عمد ، كما إذا ارتكب أمين النقل وهو ينقل بضاعة خطأ بأن سار بسرعة كبيرة ، فاصطدم بسيارة أخرى ارتكب سائقها هو أيضاً خطأ بان كان يسير من جهة الشمال ، فخطأ أمين النقل هنا خطأ عقدي غير عمد وخطا الغير ( سائق السيارة الأخرى ) خطأ تقصيري غير عمد ، ومع ذلك يكون أمين النقل والغير مسئولين معاً مسئولية مجتمعة ( in solidum ) ( [1197] ) . ويلاحظ في المثلين المتقدمين أن مرتكب الخطأ العقدي لا يكون مسئولا إلا عن الضرر المتوقع ، أما مرتكب الخطأ التقصيري فيكون مسئولا أيضاً عن الضرر غير المتوقع ما دام ضرراً مباشراً ، فالمسئولية المجتمعة إنما تقوم بينهما فيما يشتركان في التعويض عنه وهو الضرر المتوقع ، وينفرد مرتكب الخطأ التقصيري بالمسئولية عن الضرر غير المتوقع . والفرق بين المسئولية بالتضامن ( solidarite ) والمسئولية المجتمعة ( in solidum ) أن التضامن يختص باحكام لا تشاركه فيها المسئولية المجتمعة ، فالمسئولون بالتضامن يمثل بعضهم بعضاً فيما ينفع لا فيما يضر . فإذا تصالح الدائن مع أحد المسئولين بالتضامن وتضمن الصلح الإبراء من الدين أو براءة الذمة منه باية وسيلة أخرى ، استفاد منه الباقون أما إذا كان من شأن هذا الصلح أن يرتب في ذمتهم التزاماً أو يزيد فيما هم ملتزمون به فإنه لا ينفذ في حقهم إلا إذا قبلوه ( م 294 ) . وإذا اقر أحد المسئولين المتضامنين بالدين فلا يسرى هذا الإقرار في حق الباقين ، وإذا نكل أحد المسئولين المتضامنين عن اليمين أو وجه إليه الدائن يميناً حلفها فلا يضار بذلك باقي المسئولين ، وإذا اقتصر الدائن على توجيه اليمين إلى أحد المدينين المتضامنين فحلف فإن المسئولين الآخرين يسفديون من ذلك ( م 295 ) . وإذا صدر حكم على أحد المسئولين المتضامنين فلا يحتج بهذا الحكم على الباقين ، أما إذا صدر الحكم لصالح أحدهم فيستفيد منه الباقون إلا إذا كان الحكم مبنياً على سبب خاص بالمسئول الذي صدر الحكم لصالحه ( م 296 ) . وإذا انقطعت مدة التقادم أو وقف سريانه بالنسبة إلى أحد المسئولين المتضامنين ، فلا يجوز للدائن أن يتمسك بذلك قبل باقي المسئولين ( م 292 فقرة 2 ) . وإذا اعذر الدائن أحد المسئولين المتضامنين أو قاضاه فلا يكون لذلك اثر بالنسبة إلى باقي المسئولين ، أما إذا اعذر أحد المسئولين المتضامنين الدائن فإن باقي المسئولين يستفيدون من هذا الاعذار ( م 293 فقرة 2 ) . وسنعرض لهذه الأحكام تفصيلاً عن الكلام في التضامن . ونجتزئ هنا بالإشارة إلى أن هذه الأحكام هي خاصة بالمسئولية التضامنية دون المسئولية المجتمعة ، ومن ثم تقوم هذه الفروق بين المسئوليتين ( [1198] ) .
والمسئولية بالتضامن إنما تكون في علاقة المضرور بالمسئولين المتعددين ( [1199] ) . أما فيما بين المسئولين المتعددين أنفسهم فيقسم التعويض بينهم بحسب جسامة الخطأ على الرأي السائد في القضاء كما أسلفنا الذكر ( [1200] ) .
621 – المسئول إذا ارتكب الخطأ جماعة : إذا لم تكن الجماعة متمتعة بشخصية معنوية ، فلا يمكن بوصفها جماعة أن ترتكب خطأ . وإنما يرتكب الخطأ في هذه الحالة عضو أو أكثر من أعضاء هذه الجماعة أو جميع الأعضاء ، ولكن باعتبارهم أفراداً لا جماعة .
وإذا كانت الجماعة متمتعة بالشخصية المعنوية فالأمر يختلف ، إذ يجوز كما قدمنا أن يرتكب الشخص المعنوي خطأ ترتب عليه المسئولية المدنية ( [1201] ) . والمسئول الذي تقام عليه الدعوى هو الشخص المعنوي ذاته لا ممثلوه ، فهؤلاء إنما هم أعضاؤه ( organs ) التي يعمل بواسطتها ويريد عن طريقها ( [1202] ) . ولكن هاذ لا يمنع من أن الخطأ الذي يرتكبه الشخص المعنوي يرتكبه في الوقت ذاته ممثلوه بوصفهم أفراداً ، فيكون المسئول هو الشخص المعنوي والممثلون متضامنين جميعاً في المسئولية . فإذا دفع الشخص المعنوي التعويض رجع على ممثليه بكل ما دفع دون أن يخصم نصيباً عن مسئوليته ، لأنه لا مسئولية عليه في العلاقة فيما بينه وبين ممثليه ، إذ هم الذين ارتكبوا الخطأ في الواقع . وإذا دفع الممثلون التعويض فلا رجوع لهم على الشخص المعنوي . وقد يكون ممثل الشخص المعنوي تابعاً له كمدير الشركة ، فتتحقق مسئولية الممثل إما باعتباره تابعاً أو بصفته الشخصية ، وفي الحالة الأولى تتحقق مسئولية الشخص المعنوي باعتباره متبوعاً .
المطلب الثاني
الطلبات والدفوع
1 - طلبات المدعى
622 – سبب الدعوى : مهما تنوعت الطرق والوسائل ( moyens ) التي يستند إليها المدعى في تأييد طلباته ، فإن سبب ( cause ) دعواه واحد لا يتغير : إخلال المدعى عليه بمصلحة له مشروعة . وسواء كانت حجته أو دليله على هذا الإخلال خطأ عقدياً ارتكبه المدعى عليه أو خطأ تقصيرياً ، وسواء كان الخطأ التقصري خطأ ثابتا أو خطأ مفترضا ، وسواء كان الخطأ المفترض يقبل إثبات العكس أو لا يقبل ذلك ، فليست هذه كلها إلا وسائل يستند إليها المدعى في دعواه . وقد ينتقل من وسيلة إلى وسيلة ، فيستند أولاً إلى الخطأ التقصيري ، ثم يرتكه إلى الخطأ العقدي ، ثم يرجع بعد ذلك إلى الخطأ التقصيري ولكن يدعيه مفترضاً ، فهو في ذلك كله قد غير الوسائل التي يستند إليها دون أن يغير سبب دعواه .
ويترتب على ذلك أن المدعى إذا رفع دعواه مستنداً إلى النصوص الخاصة بالخطأ التقصيري الثابت ، فلا يعد طلباً جديداً في الاستئناف أن يستند إلى خطأ تقصيري مفترض أو إلى خطأ عقدي . بل يجوز للقاضي ، وقد رفعت الدعوى أمامه بالاستناد إلى الخطأ التقصيري الثابت ، أن يبني حكمه على خطأ تقصيري مفترض أو على خطأ عقدي دون أن يكون بذلك قد قضى في شيء لم تطلبه الخصوم ، فهو إنما استند إلى وسائل لم تبدها الخصوم وهذا جائز . ولكن لا يجوز للمدعى أن يغير الوسائل التي يستند إليها لأول مرة أمام محكمة النقض ، إذ لا يجوز إبداء وسائل جديدة أمام هذه المحكمة .
ويترتب كذلك على ما قدمناه أن المدعى إذا رفع دعواه مستنداً إلى الخطأ العقدي مثلا ، فرفضت الدعوى ، فإن الحكم يجوز قوة الشيء المقضى ، ولا يستطيع المدعى أن يعود إلى القضاء مستنداً إلى الخطأ التقصيري . والعكس صحيح . ذلك أن السبب لم يتغير بالانتقال من نوع من الخطأ إلى نوع آخر ، ولم تتغير كذلك الخصوم والموضوع ، وهذه هي شروط الشيء المقضى .
أما القضاء الفرنسي فقد جرى على أن المدعى لا يجوز له أن يعدل عما استندا إليه من الخطأ ، فيترك الخطأ التقصيري مثلا إلى الخطأ العقدي ، أو يترك الخطأ الثابت إلى الخطأ المفترض ، وإلا كان ذلك طلباً جديداً لا يجوز له أن يتقدم به لأول مرة أمام محكمة الاستئناف ( [1203] ) . كذلك إذا رفضت الدعوى على أساس نوع معين من الخطأ ، لم يجز الحكم قوة الشيء المقضى بالنسبة إلى نوع آخر ، وجاز رفع دعوى المسئولية من جديد على أساس نوع من الخطأ يختلف عن النوع الذي رفضت الدعوى على أساسه من قبل . ولا يحول دون ذلك قوة الشيء المقضى ، لأن السبب – وهو هنا نوع الخطأ – قد تغير ( [1204] ) .
وقضاء محكمة النقض عندنا ، في دائرتها الجنائية ، يتفق مع القضاء الفرنسي ( [1205] ) . وأما قضاؤها في الدائرة المدنية ، فعلى العكس من ذلك يتفق مع الرأي الآخر الذي قدمناه ، وهو الرأي الذي نرجحه . فقد قضت بأن الراجح في باب قوة الشيء المحكوم فيه هو اعتبار كل ما تولد به للمضرور حق في التعويض عن شخصه أو عن ماله قبل من أحدث الضرر أو تسبب فيه – كل ذلك هو السبب المباشر المولد للدعوى بالتعويض مهما تنوعت أو تعددت علل التعويض أو اسبابه ، لأن ذلك جميعاً من وسائل الدفاع أو طرقه ( moyens ) . فمهما كانت طبيعة المسئولية التي بحثها القاضي في حكمها الصادر برفض دعوى التعويض ، ومهما كان النص القانوني الذي استند إليه المدعى في طلباته أو النص الذي اعتمد عليه القاضي في حكمه ، فإن هذا الحكم يمنع المضرور من إقامة دعوى تعويض أخرى على من حكم قبله برفض دعواه ، لأنه يعتبر إلا بالاقتضاء على انتفاء مسئولية المدعى عليه قبل المدعى عما اداعه عليه أياً كانت المسئولية التي أسس عليها طلبه ، عقدية أو غير عقدية أو تقصيرية ، على معنى أن كل ذلك كان من طرق الدفاع ووسائله في دعوى التعويض ، وأن لم يتناوله البحث بالفعل فيها ، ولم يكن ليبرر الحكم للمدعى على خصمه بتعويض ما ( [1206] ) .
623 – موضوع الدعوى : وموضوع دعوى المسئولية هو التعويض عن الضرر ، يقدره المدعى كما يرى . ولا يجوز للقاضي أن يزيد عما طلبه المدعى وإلا قضى فيما لم يطلبه الخصوم ، ولكن يجوز له أن يقضي بأقل . كذلك لا يجوز للمدعى أن يزيد مقدار ما يطلبه من التعويض في الاستئناف لأول مرة ، لأن ذلك يعد طلباً جديداً .
ولكن كيفية التعويض قد تتغير دون أن يكون في ذلك تعديل في الطلبات . فقد يطلب المدعى مبلغاً من النقود فيحكم القاضي بإيراد مرتب ، وقد يطلب تعويضاً عينياً فيحكم له القاضي بتعويض نقدي . وقد يغير المدعى من كيفية التعويض الذي يطلبه لأول مرة في الاستئناف فيجوز ذلك ، كما لو طلب تعويضاً نقدياً أمام المحكمة الابتدائية ، ثم طلب في الاستئناف تعويضا عينياً مصحوباً بتهديد مالي .
2 – دفوع المدعى عليه ( التقادم )
624 – الدفوع : يدفع المدعى عليه دعوى المسئولية بأحد أمرين : إما أن ينكر قيام المسئولية ذاتها فيدعى أن ركنا من أركانها لم يتوافر من خطأ أو ضرر أو سببية ، وإما بأن يعترف بأن المسئولية قامت ولكنه يدعى أن الالتزام المترتب عليها قد انقضى بالوفاء أو بالمقاصة أو بالإبراء أو بالتقادم أو بغير ذلك من أسباب انقضاء الالتزام .
وفي كل ذلك تطبق القواعد العامة ( [1207] ) .
625 – الدفع بالتقادم : والذي يعنينا الوقوف عنده قليلا هو التقادم . فقد أدخل القانون المدني الجديد تعديلا هاماً في هذا الصدد ، وبعد أن كانت دعوى المسئولية تتقادم كغيرها من الدعاوى بخمس عشرة سنة صارت تتقادم أيضاً بثلاث سنوات على تفصيل نورده فيما يلي :
نصت المادة 172 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" 1 - تسقط بالتقادم دعوى التعويض الناشئة عن العمل غير المشروع بانقضاء ثلاث سنوات من اليوم الذي علم فيه المضرور بحدوث الضرر وبالشخص المسئول عنه . وتسقط هذه الدعوى في كل حال ، بانقضاء خمس عشرة سنه من يوم وقع العمل غير المشروع " .
" 2 - على أنه إذا كانت هذه الدعوى ناشئة عن جريمة ، وكانت الدعوى الجنائية لم تسقط بعد انقضاء المواعيد المذكورة في الفقرة السابقة ، فان دعوى التعويض لا تسقط إلا بسقوط الدعوى الجنائية ( [1208] ) " .
وفقاً لهذا النص يجب التمييز بين ما إذا كانت دعوى المسئولية قد قامت على خطأ مدني لا يعتبر جريمة أو كانت هذه الدعوى ناشئة عن جريمة جنائية .
ففي الحالة الأولى تسقط دعوى المسئولية بالتقادم بأقصر المدتين الآتيتين : ( 1 ) ثلاث سنوات تنقضي من اليوم الذي علم فيه المضرور بالضرر وبالشخص أنه قد يمضي على وقوع الضرر مدة تزيد على ثلاث سنوات دون أن تتقادم دعوى المسئولية ويكفي لتحقق ذلك أن يقع الضرر دون أن يعلم به المضرور ، كما لو أوصى شخص لآخر بمال ولم يعلم الموصى له بالوصية إلا بعد موت الموصى بمدة طويلة ، وتبين أن أحد الورثة وضع يده على المال الموصى به وأتلفه منذ مدة نفرضها خمس سنوات ، ففي هذا الفرض لا يبدأ سريان التقادم إلا من اليوم الذي علم فيه الموصى له بالوصية وبمن أتلف الموصى به من الورثة ، ولا تتقادم دعواه إلا بانقضاء ثلاث سنوات من ذلك اليوم ، أي باقنضاء ثماني سنوات من وقت وقوع الضرر . وقد يعلم المضرور بوقوع الضرر ولكنه لا يعلم بالشخص المئول عنه ، كما لو اصطدم بسيارة لم يعرف سائقها ، ثم اهتدى إلى معرفته بعد سبع سنوات مثلا ، فهنا أيضاً لا تتقادم دعوى المسئولية إلا بانقضاء ثلاث سنوات من وقت علم المضرور بالشخص المسئول ، أي بانقضاء عشر سنوات من وقت وقوع الضرر . أما إذا علم المضرور بوقوع الضرر وبالشخص المسئول عنه في اليوم الذي وقع فيه – وهذا ما يحدث غالباً – فإن دعوى المسئولية تتقادم في هذا الفرض بانقضاء ثلاث سنوات من وقت وقوع الضرر . ( 2 ) خمس عشرة سنة من وقت وقوع الضرر . وهذا لا يتحقق إلا إذا كان المضرور لم يعلم بوقوع الضرر أو بالشخص المسئول عنه إلا بعد مدة طويلة نفرضها ثلاث عشرة سنة . ففي هذا الفرض النادر تتقادم دعوى المسئولية انقضاء خمس عشرة سنة من وقت وقوع الضرر ، لأن هذه المدة اقصر من مدة ثلاث السنوات التي تسري من وقت علم المضرور بوقوع الضرر وبالشخص المسئول عنه ، إذ أن هذه المدة الأخيرة عند الحساب تكون ست عشرة سنة من وقت وقوع الضرر . وقد رأينا أن القانون المدني الجديد جعل التقادم بأقصر هاتين المدتين في دعوى بطلان العقد . وسنرى أنه سار على هذا النهج في الالتزامات الناشئة عن الإثراء بلا سبب ودفع غير المستحق والفضالة ، وها نحن نراه يسير على النهج ذاته في الالتزامات الناشئة عن العمل غير المشروع . وقد استبقى الالتزامات الناشئة عن العقد ، فجعلها لا تتقادم إلا بخمس عشرة سنة ، لأنها التزامات ارادها المتعاقدان فترتبت في ذمة الملتزم بارادته هو ، وهذا بخلاف الالتزامات الأخرى فقد فرضها القانون على الملتزم .
وفي الحالة الثانية ، إذا نشأت دعوى المسئولية عن جريمة كجناية قتل مثلا ، تتقادم الدعوى في الأصل بأقصر المدتين السابقتي الذكر . فإذا فرضنا أن اقصر المدتين ثلاث سنوات أو خمس أو أية مدة أخرى تقل عن عشر سنوات ، نتج عن ذلك موقف شاذ ، إذ تكون الدعوى المدنية قد تقادمت قبل أن تتقادم الدعوى الجنائية ، فإن هذه لا تتقادم إلا بعشر سنوات ( م 15 من قانون الإجراءات الجنائية الجديد ) . هذا الموقف الشاذ ، وهو سقوط الدعوى المدنية مع قيام الدعوى الجنائية ، وإيقاع عقوبة جنائية على الجاني دون التمكن من الزامه بالتعويض وهو أقل خطر امن العقوبة الجنائية ، هو الذي أراد القانون أن يتفاده . فنص على أن الدعوى المدنية لا تتقادم في هذه الحالة ، بل تبقى قائمة مع الدعوى الجنائية ، ولا تسقط إلا بسقوطها ، حتى يتمكن المضرور في الوقت الذي يعاقب فيه الجاني أن يتقاضى منه التعويض المدني . أما العكس فمستساغ : تسقط الدعوى الجنائية قبل أن تسقط الدعوى المدنية . وصورة ذلك في المثل الذي نحن بصدده إلا تعلم الورثة بقتل مورثهم إلا بعد عشر سنوات من وقوع الجناية ، فتكون الدعوى الجنائية قد سقطت بالتقادم ، ومع ذلك تبقى الدعوى المدنية إذ لم ينقض لا ثلاث سنوات من وقت العلم بالجناية وبالجاني ولا خمس عشرة سنة من وقت وقوع الجناية ( [1209] ) . ومثل ذلك أيضاً أن تكون الجريمة التي نشأت عنها دعوى المسئولية مخالفة بسيطة تنقضي الدعوى الجنائية فيها بمضي ستة من يوم وقوعها ( م 15 من قانون الإجراءات الجنائية الجديد ) ، فتكون الدعوى المدنية قائمة بعد سقوط الدعوى الجنائية إذ لا تسقط الدعوى الأولى بأقل من ثلاث سنوات ( [1210] ) .
626 – سريان النص الجديد من حيث الزمان : ويتبين مما قدمناه أن القانون المدني الجديد قد عدل مدة التقادم في دعوى المسئولية ، فجعلها في أكثر الأحوال اقصر من المدة التي كان القانون القديم بقرارها . وقد نصت المادة الثامنة من القانون المدني الجديد على أنه " 1 - إذا قرر النص الجديد مدة للتقادم اقصر مما قرره النص التقديم سرت المدة الجديدة من وقت العمل بالنص الجديد ، ولو كانت المدة القديمة قد بدأت قبل ذلك . 2 - أما إذا كان الباقي من المدة التي نص عليها القانون القديم أقصر من المدة التي قررها النص الجديد ، فان التقادم يتم بانقضاء هذا الباقي " .
ونفرض ، لتطبيق هذا النص ، أن مسئولية مدنية قد تحققت في ظل القانون المدني القديم : سرقة وقعت قبل نفاذ القانون الجديد وعلم المجني عليه بالسرقة وبالسارق قبل هذا التاريخ . فإذا فرضنا أن السرقة وقعت في سنة 1941 ، فإن دعوى المسئولية في هذا الفرض إذا طبق عليها القانون القديم لا تتقادم إلا بخمس عشرة سنة تسري من وقت وقوع السرقة ، فتتقادم في سنة 1956 . أما إذا طبق عليها القانون الجديد ، فإنها تتقادم بثلاث سنوات تسري من وقت العمل بالقانون الجديد ( 15 أكتوبر سنة 1949 ) ، فتتقادم في سنة 1951 . ومن ثم يكون القانون الجديد هو الذي ينطبق لأن التقادم بمقتضاه أسرع ، وإذا فرضنا أن السرقة وقعت في سنة 1936 ، فإن القانون القديم هو الذي ينطبق لأن الباقي من مدة التقادم فيه عند نفاذ القانون الجديد أقل من ثلاث سنوات ، وهي المدة التي قررها النص الجديد ، فتتقادم الدعوى في هذا الفرض في سنة 1951 .
المطلب الثالث
الإثبات
1 – عبء الإثبات
627 – عبء الإثبات الضرر : المدعى هو الذي يحمل عبء إثبات ما أصابه من الضرر . ولا يستطيع أن يخطو في دعوى المسئولية خطوة قبل أن يثبت ذلك ( [1211] ) .
وفي أحوال استثنائية يعفى القانون المدعى من إثبات الضرر :
1 - إما بوضع قرينة قانونية غير قابلة لإثبات العكس على أن هناك ضرراً قد وقع . فقد نصت المادة 228 من القانون المدني الجديد على أنه " لا يشترط لاستحقاق فوائد التأخير ، قانونية كانت أو اتفاقية ، أن يثبت الدائن ضرراً لحقه من هذا التأخير " . وأكثر ما يقع ذلك في المسئولية التقصيرية ، إذا قدر الطرفان مقدار التعويض باتفاق بينهما ، فتستحق فوائد التأخير دون حاجة إلى إثبات الضرر .
2 - وإما بوضع قرينة قانونية قابلة لإثبات العكس على وقوع الضرر ويكون ذلك في الشرط الجزائي ، فقد نصت المادة 224 فقرة أولى من القانون المدني الجديد على أنه " لا يكون التعويض الاتفاقي مستحقاً إذا اثبت المدين أن الدائن لم يلحقه أي ضرر " . ويغلب أن يقع هذا أيضاً في المسئولية العقدية ، ولكنه يتصور في المسئولية التقصيرية إذا اتفق الطرفان على إعادة الشيء إلى أصله كتعويض عن خطأ تقصيري ووضعا شرطاً جزائياً . والمفروض عند وجود شرط جزائي أن إخلال المدين بالتزامه قد أصاب الدائن بالضرر ، وقد قدر المتعاقدان في الشرط الجزائي مدى هذا الضرر وقيمته . وهذه قرينة قانونية تعفى الدائن من إثبات الضرر؛ ولكنها تقبل إثبات العكس ، فللمدين أن يثبت ، كما يقول النص ، أن الدائن لم يلحقه أي ضرر .
628 – عبء إثبات الخطأ : الأصل أن عبء إثبات الخطأ يقع على المدعى . والخطأ كما قدمنا هو انحراف الشخص على السلوك المألوف للشخص العادي . وهذا الانحراف واقعة مادية ، أكثر ما تثبت من طريق قرائن قضائية متتابعة ، تنقل عبء الإثبات من جانب إلى جانب . فالمدعى يبدأ بإثبات واقعة تقوم قرينة قضائية على وقوع الخطأ . فينتقل عبء الإثبات إلى المدعى عليه . فيثبت هذا واقعة أخرى تقوم هي أيضاً قرينة قضائية على انتفاء الخطأ من جانبه . فيعود عبء الإثبات إلى المدعى ، وهكذا ، إلى أن يعجز أحد الطرفين عن إثبات ما يزحزح عنه القرينة القضائية التي ألقاها عليه خصمه ، فيكون هو العاجز عن الإثبات . فإن كان المدعى هو الذي عجز ، فقد اعتبر غير قادر على إثبات دعواه وخسرها . وإن كان الذي عجز هو المدعى عليه ، فإن المدعى يكون قد تمكن من إثبات الخطأ ( [1212] ) .
هذا هو الأصل . ولكن ترد استثناءات كثيرة ، يعفى فيها المدعى من إثبات الخطأ ، بفضل قرينة قانونية تكون إما قابلة لإثبات العكس وأما غير قابلة لذلك ( [1213] ) . وسنرى فيما يلي تفصيلا واقيا لهذه القرائن القانونية ، وبعضها قابلا ثبات العكس كخطأ من يعهد إليه بالرقابة على غيره ، وبعضها غير قابل لإثبات العكس كخطأ المتبوع وخطأ حارس الأشياء . ويلاحظ بوجه عام أن هذه القرائن القانونية لا تعفى المدعى من إثبات وجود الحالة القانونية التي يترتب عليها قيام القرينة على الخطأ ( [1214] ) . وسنرى ذلك في مكانه .
629 – عبء إثبات السببية : الأصل هنا أيضاً أن عبء إثبات السببية يقع على المدعى . فهو الذي يثبت ، ليس فحسب الضرر الذي وقع عليه والخطأ الذي وقع من غريمه ، بل أيضاً علاقة السببية ما بين الخطأ والضرر .
ولكن هذه القاعدة محدودة الأهمية . فهي تارة يرد عليها استثناءات يقررها القانون ، وطوراً يضيق مجال تطبيقها العملي حتى تصبح القاعدة هي الاستثناء .
أما الاستثناءات التي يقررها القانون فهي قرائن قانونية ، كلها قابلة لإثبات العكس ، يقيمها القانون على وجود السببية . والقانون يقيم هذه القرائن حيث يقيم قرائن الخطأ . فهو إذا أقام قرينة على الخطأ – قابلة أو غير قابلة لإثبات العكس – يقيم إلى جانبها قرينة على السببية تكون دائماً قابلة لإثبات العكس . فالمكلف بالرقابة تقوم ضده قرينة قانونية قابلة لإثبات العكس على الخطأ ، وتقوم ضده كذلك قرينة قانونية قابلة هي أيضاً لإثبات العكس على السببية . ويستطيع أن ينفي كلا من القرينتين ، فينفي قرينة الخطأ بإثبات أنه لم يقصر في الرقابة ، وينفي قرينة السببية بإثبات أن الضرر كان لا بد واقعا حتى لو لم يقصر أي بإثبات السبب الأجنبي . وحارس الحيوان أو الأشياء التي تتطلب حراستها عناية خاصة تقوم ضده قرينة الخطأ وهي غير قابلة لإثبات العكس ، وقرينة السببية وهي قابلة للنفي بإثبات السبب الأجنبي .
فإذا تركنا الاستثناءات وعدنا إلى القاعدة ، رأينا أن مجال تطبيقها في العمل محدود . ذلك أن المدعى إذا اثبت الضرر والخطأ ، ففى أكثر الأحوال ، ومن الناحية العملية المحضة ، تقوم في ذهن القاضي شبهة قوية في أن الخطأ هو الذي أحدث الضرر . ومن ثم تقوم قرينة قضائية على علاقة السببية ، تنقل عب الإثبات إلى المدعى عليه . فيطالب هذا بنفي هذه العلاقة ، ويستطيع ذلك إذا اثبت أن الضرر قد نشأ عن سبب أجنبي . وهذا هو السبب الذي دعا المشرع في القانون المدني الجديد إلى أن يورد الحكم في هذه المسألة على هذا الوضع العملي . فنص في المادة 165 على ما يأتي : " إذا اثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب أجنبي لا يد له فيه ، كحادث مفاجئ أو قوة قاهرة أو خطأ من المضرور أو خطأ من الغير ، كان غير ملزم بتعويض هذا الضرر ، ما لم يوجد نص أو اتفاق على غير ذلك " . ونص في المادة 215 على ما يأتي : " إذا استحال على المدين أن ينفذ الالتزام عينا حكم عليه بالتعويض لعدم الوفاء بالتزامه ، ما لم يثبت أن استحالة التنفيذ قد نشأت عن سبب أجنبي لا يد له فيه " . ففي النصين وضع القانون عبء الإثبات ، من الناحية العملية المحضة ، على عاتق المدين لا على عاتق الدائن ( [1215] ) .
2 – وسائل الإثبات
630 – الإثبات بجميع الطرق : لما كانت الأركان الثلاثة – الخطأ والضرر والسببية – التي يجب إثباتها لتحقق المسئولية هي كلها وقائع مادية ، فإن إثبات أية واقعة منها يجوز بجميع الطرق ، وبخاصة البينة والقرائن ( [1216] ) . وفي أكثر الأحوال يثبت الضرر والسببية بالمعاينة المادية أو بشهادة طبية أو بتقدير الخبراء . أما الخطأ فأكثر ما يثبت بشهادة من عاينوا الحادث وبالتحقيق الجنائي وبالانتقال إلى محل الواقعة ومعاينته وبالقرائن القضائية والقانونية ( [1217] ) .
631 – ارتباط القاضي المدني بالحكم الجنائي – تأصيل القاعدة : ومن أهم القرائن القانونية التي تسيطر على وسائل الإثبات في دعوى المسئولية حجية الحكم الجنائي . ذلك أن دعوى المسئولية يغلب أن تقوم على جريمة جنائية ، فتخضع لاختصاص القضاء الجنائي واختصاص القضاء المدني . فإذا صدر حكم نهائي في الجريمة من محكمة جنائية ، فإلى أي حدث يصبح هذا الحكم حجة في الدعوى المدنية ، وهل يرتبط القاضي المدني بالحكم الجنائي؟ تجيب المادة 406 من القانون المدني الجديد بما يأتي :
" لا يرتبط القاضي المدني بالحكم الجنائي إلا في الوقائع التي فصل فيها هذا الحكم وكان فصله فيها ضرورياً ( [1218] ) " .
وتأثير هذه القاعدة لا يرجع إلى أن الحكم الجنائي يربط القضاء المدني بمقتضى قوة الأمر المقضي ( force de la chose jugee ) فإن قوة الأمر المقضي ، تقتضي الوحدة في الخصوم والموضوع والسبب ، ولا يمكن أن يتحقق هذا إلا في قضاء مدني يقيد قضاء مدنياً أو في قضاء جنائي يقيد قضاء جنائياً . أما القضاء الجنائي إذا أريد أن يقيد قضاء مدنياً ، فلن يكون هذا لوحدة في الخصوم فالخصوم في الدعوى الجنائية وفيهم النيابة العامة غيرهم في الدعوى المدنية ، ولا لوحدة في الموضوع فموضوع الدعوى الجنائية العقوبة وموضوع الدعوى المدنية التعويض ، ولا لوحدة في السبب فسبب العقوبة خطأ جنائي وسبب التعويض خطأ مدني . فكيف يقوم التقييد على هذا الأساس وقوة الشيء المقضي تقتضي الوحدة في هؤلاء جميعاً .
وإنما يرجع تقييد القضاء الجنائي للقضاء الدين إلى اعتبارين ، أحدهما قانوني والآخر عملي . أما الاعتبار القانوني فهو أن الحكم الجنائي له حجية مطلقة ، فهو حجة بما جاء فيه على الناس كافة ، ومنهم الخصوم في الدعوى المدنية ، فهؤلاء لا يجوز لهم أن يناقشوا حجية الحكم الجنائي . والاعتبار العملي هو أنه من غير المستساغ ، والمسائل الجنائية من النظام العام ، أن يقول القاضي الجنائي شيئاً فينقضه القاضي المدني . فإذا صدر حكم جنائي بإدانة متهم أو ببراءته ، كان مؤذياً للشعور العام ، وقد آمنت الناس على اثر الحكم الجنائي بأن المتهم مجرم أو برئ ، أن يأتي القاضي المدني فيقول إن المتهم برىء فلا يحكم عليه بالتعويض في الوقت الذي قال فيه القاضي الجنائي أنه مجرم ، أو يقول إن المتهم مجرم فيحكم عليه بالتعويض بعد أن قال القاضي الجنائي أنه برئ ( [1219] ) .
فمنع التعارض ما بين الأحكام الجنائية والأحكام المدنية ، وجعل هذه مسايرة لتلك ، هو الذي أملى القاعدة التقاضي بأن القاضي المدني يرتبط بالحكم الجنائي . لذلك لا تشترط في تطبيق القاعدة لا وحدة الخصوم ولا وحدة الموضوع ولا وحدة السبب ، وإنما تشترط شروط ثلاثة أخرى . هي التي تنتقل الآن إليها .
632 – شروط القاعدة – الشرط الأول أن يكون المطلوب تقييده هو القضاء المدني : فالقضاء الجنائي هو الذي يراد عدم الإخلال بحجيته المطلقة ، فلا يتقيد إلا بقضاء جنائي مثله يكون قد حاز قوة الشيء المقضي ، مع مراعاة الشروط المعروفة من وحدة في الخصوم ووحدة في الموضوع ووحدة في السبب . والذي يتقيد بالقضاء الجنائي هو القضاء المدني بمعناه الواسع ، فيشمل القضاء المدني والقضاء التجاري ، بل والقضاء الإداري .
633 – الشرط الثاني أن يكون الحكم الذي يتقيد به القاضي المدني هو حكم جنائي : ويكفي أن يكون الحكم الجنائي صادراً من أية جهة قضائية جنائية ، حتى لو كانت جهة استثنائية كالقضاء العسكري . ولكن يجب أن يكون الحكم الجنائي صادراً في الموضوع ، لا حكماً تحضيرياً ولا حكماً تمهيدياً ولا أمراً متعلقاً بعمل من أعمال التحقيق الجنائي ولا قراراً صادراً من النيابة العامة ( [1220] ) . ويجب أن يكون حكماً نهائياً .
ويجب أيضاً أن يكون الحكم الجنائي سابقاً في صدوره على الحكم المدني الذي يراد تقييده . إذ لو كان الحكم المدني سابقاً ، واستقرت به حقوق الطرفين ، لم يجز المساس به بسبب حكم جنائي يصدر بعده . ولا يعقل – كما تقول محكمة النقض – أن ينعي على حكم مخالفته حكماً لم يكن قائماً وقت صدوره ( [1221] ) .
والذي قع كثيراً أن يكون الحكم الجنائي سابقاً في صدوره على الحكم المدني ، وذلك بفضل القاعدة التي تقضي بأن الدعوى الجنائية تقف من سير الدعوى المدنية . فإذا رفعت الدعوى الجنائية أمام المحكمة الجنائية والدعوى المدنية أمام المحكمة المدنية ، وجب أن توقف الدعوى المدنية حتى يفصل نهائياً في الدعوى الجنائية ، وبذلك يتحقق أن يكون الحكم الجنائي النهائي سابقاً في صدوره على الحكم المدنين ليتقيد هذا به ( [1222] ) . ذلك ما تقضى به قاعدة وقف الدعوى المدنية ، وهذه هي الحكمة المتواخاة منها . ويندر أن يسبق الحكم المدني الحكم الجنائي . ولا يتحقق هذا إلا إذا رفعت الدعوى المدنية أمام المحكمة المدنية وفصل فيها نهائياً قبل رفع الدعوى الجنائية . وفي هذه لحالة لا يتقيد الحكم المدني بالحكم الجنائي كما قدمنا .
بقى أن تواجه فرضاً هو الذي يقع في الغالب من الأحوال : أن ترفع الدعويان الجنائية والمدنية معاً أمام المحكمة الجنائية ، بأن يدخل المضرور مدعياً مدنياً في الدعوى الجنائية ، في هذا الفرض يصدر حكم واحد في الدعويين ، فلا يتصور أن يسبق الحكم الجنائي الحكم المدني ، وبذلك لا يكون هناك محل لتطبيق قاعدة تقييد الحكم المدني بالحكم الجنائي ، والقاضي الجنائي الذي يصدر هذا الحكم الواحد يتقيد طبعاً بمراعاة التنسيق ما بين أجزائه ، وبهذا يتحقق الانسجام فعلا ما بين الجزء الجنائي والجزء المدني . فإذا وقع أن تعارضا ، كان هذا سبباً للطعن بالنقض في الحكم ( [1223] ) .
634 – الشرط الثالث أن يكون ما يتقيد به القاضي المدني هو الوقائع التي فصل فيها الحكم الجنائي وكان فصله فيها ضرورياً : وهذا هو أدق الشروط الثلاثة ، لذلك تكفل نص المادة 406 يذكره . فالقاضي المدني يتقيد بما فصل فيه القاضي الجنائي من الوقائع دون القانون . ولا يتقيد بما فصل فيه القاضي الجنائي من هذه الوقائع إلا بما كان الفصل فيه ضرورياً لقيام الحكم الجنائي فهذان أمر أن نتولى بحثهما .
( أولاً ) يتقيد القاضي المدني بما فصل فيه القاضي الجنائي من الوقائع دون القانون . فلا يتقيد بالتكييف القانوني الذي اتبعه القاضي الجنائي لهذه الوقائع من الناحية الجنائية . مثل ذلك أن يحكم القاضي الجنائي ببراءة سائق السيارة من تهمة القتل خطأ لأن الوقائع التي ثبتت لا يمكن تكييفها من الناحية الجنائية بأنها خطأ معاقب عليه ، فلا يتقيد القاضي المدني بهذا التكييف الجنائي ، بل عليه إن يلتزم التكييف المدني وهو يختلف عن التكييف الأول ، فالخطأ المدني هنا مفروض في جانب السائق ، ويحكم القاضي المدني بتعويض على السائق الذي حكم القاضي الجنائي ببراءته ( [1224] ) .
( ثانياً ) ولا يتقيد القاضي المدني بما فصل فيه القاضي الجنائي من الوقائع إلا بما كان الفصل فيه ضرورياً لقيام الحكم الجنائي . فليس يتقيد القاضي المدني بجميع الوقائع التي عرض لها الحكم الجنائي وأثبتها ، بل هو لا يتقيد منها إلا بما كان ضرورياً للحكم الجنائي ، بحيث لو لم تثبت لانهدم الحكم الجنائي ولما أمكن أن يقوم . أما ما لم يكن ضرورياً من هذه الوقائع ، فلا يتقيد به القاضي المدني مهما أكده القاضي الجنائي . ونستعرض الفرضين المحتملين في تطبيق هذه القاعدة الدقيقة : ( 1 ) أن يصدر حكم جنائي بالإدانة ( 2 ) أو يصدر بالبراءة .
1 - حكم جنائي بالإدانة ( [1225] ) : إذا سكت هذا الحكم عن ركن الضرر ولم يتعرض له لا بإثبات ولا بنفي ، كان القاضي المدني حراً غير مقيد في هذا الخصوص ، فله أن يثبت في حكمه المدني وقوع الضرر أو عدم وقوعه . وإذا اثبت وقوعه فله إن يبين على من وقع . أما إذا عرض الحكم الجنائي لركن الضرر فأنكر وقوعه ، لم يتقيد القاضي المدني بهذا إلا إذا كان وقوع الضرر أو عدم وقوعه من شأنه أن يؤثر في منطوق الحكم الجنائي . فإذا قال القاضي الجنائي في حكمه إن ضرراً ما لم يقع على المجني عليه ، ولم يكن وقوع الضرر ركناً من أركان الجريمة ، لم يتقيد القاضي المدني بما قاله القاضي الجنائي ، وله أن يثبت في حكمه أن المجني عليه قد أصابه ضرر ، إذ لا خوف من التعارض ما بين الحكمين الجنائي والمدني ، لأنه حتى لو أصيب المجني عليه بضرر فإن الحكم الجنائي يبقى صحيحاً . وإذا حكم القاضي الجنائي بأن الضرر لم يقع ، وبنى على ذلك أن الجريمة شروع لا فعل تام ، تقيد القاضي المدني بالحكم الجنائي ولم يستطع أن يقول إن الضرر قد وقع ، لأن هذا يتعارض مع الحكم الجنائي في مسألة لو صح فيها الحكم المدني لانعدم الحكم الجنائي وهو يقول على أن الجريمة شروع لا فعل تام .يبقى أن يعرض الحكم الجنائي لركن الضرر فيثبت وقوعه . فإن كان وقوع الضرر غير مؤثر في الحكم الجنائي ، كالحكم في مخالفة من مخالفات المرور ، لم يتقيد القاضي المدني بالحكم الجنائي ، وله أن يثبت في حكمه أن الضرر لم يقع ، لأنه حتى لو صح هذا لم ينهدم الحكم الجنائي . وإن كان وقوع الضرر مؤثراً في الحكم الجنائي ، كالحكم بالإدانة في تهمة قتل ، تقيد القاضي المدني بأن القتل قد وقع ، ولا يستطيع أن ينفي في حكمه هذه الواقعة . وإذا عين الحكم الجنائي الشخص الذي وقع عليه الضرر وكان هذا مؤثراً في الحكم الجنائي ، تقيد به القاضي المدني ، كما إذا اثبت القاضي الجنائي أن السرقة وقعت على الزوج أو أن هتك العرض وقع على شخص تحت سلطة المتهم ، فلا يستطيع القاضي المدني أن يثبت في حكمه غير ذلك ، لأن الحكم الجنائي يتأثر بهذا التعارض ، فإن كون المجني عليه هو زوج المتهمة أعفى هذه من عقوبة السرقة ، وكون المجني عليها هي تحت سلطة المتهم شدد من عقوبة هتك العرض . وإذا عرض القاضي الجنائي للضرر من حيث طبيعته أو من حيث مقداره ، فإن هذا لا يؤثر عادة في الحكم الجنائي ، فلا يتقيد به القاضي المدني . أما إذا أثر ، كأن اثبت القاضي الجنائي أن الضرر هو عاهة مستديمة أو اثبت أن الجرح نشأ عنه عجز عن العمل مدة تزيد على عشرين يوماً ، تقيد القاضي المدني بذلك ، لأن العاهة المستديمة قلبت الجنحة إلى جناية ، ولان الجرح إذا اعجز عن العمل مدة تزيد على عشرين يوماً استوجب عقوبة أشد .
أما بالنسبة إلى ركن الخطأ . فإن الحكم الجنائي القاضي بالإدانة يكون قد عرض له حتما وأثبت وجوده ، وإلا لما صدر حكم بالإدانة . فيتقيد القاضي المدني في حكمه بوجود الخطأ من الناحية المدنية . ذلك أن كل خطأ جنائي هو في الوقت ذاته خطأ مدني ، ولا عكس ( [1226] ) . وإذا كان قد يقع أن الخطأ الجنائي – وهو في الوقت ذاته خطأ مدني كما قدمنا – لا يحدث ضرراً ، كجريمة التشرد وجرائم المرور والشروع في الجرائم ، فلا تتحقق المسئولية المدنية ، فإن ذلك لا يرجع إلى أن الخطأ الجنائي ليس بخطأ مدني ، بل يرجع إلى أن ركناً من أركان المسئولية التقصيرية لم يقم وهو ركن الضرر ، كذلك يتقيد القاضي المدني بما اثبته الحكم الجنائي من الخطأ ، لا في ركنه المادي فحسب . بل أيضاً في ركنه المعنوي . فإذا قال الحكم الجنائي إن المتهم صدر منه خطأ هو مسئول عنه ، لم يجز للقاضي المدني أن ينفي المسئولية المدنية بدعوى الإكراه أو عدم التمييز أو نحو ذلك . أما بيان جسامة الخطأ في الحكم الجنائي فيقيد القاضي المدني أو لا يقيده وفقاً لما إذا كانت هذه الجسامة ضرورية لقيام الحكم الجنائي أو غير ضرورية . فإذا وصف الحكم الجنائي الخطأ بأنه عمد أو غير عمد ، فإن القاضي المدني يتقيد بهذا الوصف ، لأن وصف الخطأ الجنائي بأنه عمد أو غير عمد من شأنه أن يؤثر في وصف الجريمة ذاتها . وإذا وصف الحكم الجنائي الخطأ بأنه جسيم أو يسير ، فإن هذا ليس من شأنه أن يؤثر في الحكم الجنائي وإن أثر في تقدير العقوبة ، فلا يتقيد به القاضي المدني ، لأن الخطأ الجسيم من الناحية الجنائية ليس هو حتما الخطأ الجسيم من الناحية المدنية .
أما ركن السببية ، فإن أثبت الحكم الجنائي أنه موجود أو غير موجود ، فكأنما اثبت أن الضرر قائم أو غير قائم . ويكون الأمر أمر حكم جنائي اثبت قيام الضرر أو عدم قيامه ، وقد مر بنا تفصيل ذلك . وإذا اثبت الحكم الجنائي أن هناك سبباً أجنبياً ينفي رابطة السببية ، فكأنما اثبت أن الضرر غير قائم . ولكن إذا جعل الحكم الجنائي هذا السبب الأجنبي داعياً لتقسيم التعويض بين المسئول والمصاب والغير ، وفقاً للقواعد التي مر ذكرها ، لم يكن القاضي المدني مقيداً بهذا التقسيم ، إذ هو ليس ضرورياً لقيام الحكم الجنائي .
2 - حكم جنائي بالبراءة : كذلك إذا صدر حكم جنائي ببراءة المتهم ، فإن ما ورد في هذا الحكم مما يعد ضرورياً لقيامه يقيد القاضي المدني . ولا يتقيد هذا بما ورد في الحكم الجنائي إذا لم يكن ضرورياً . فإذا اثبت الحكم القاضي بالبراءة وجود الضرر وطبيعته ومداه ولكنه برأ المتهم ، فإن ما ورد فيه عن وجود الضرر وعن طبيعته ومقداره لا يقيد القاضي المدني ، إذ هو ليس ضرورياً لقيام الحكم الجنائي بالبراءة . وإذا أنكر الحكم الجنائي وقوع الضرر ، فليس هذا مؤثراً في قيامه ، لأن الجريمة قد تتم دون أن يقع ضرر ، فلا يتقيد القاضي المدني بذلك . على أنه قد يكون وقوع الضرر ركناً من أركان الحكم الجنائي القاضي بالبراءة أن القتل قد وقع أو أن الضرب أفضى إلى الموت ، فإن هذا يقيد القاضي المدني .
وإذا اثبت الحكم الجنائي القاضي بالبراءة عدم وقوع الخطأ أو وقوعه ، في أحد ركنيه المادي أو المعنوى أو في ركنيه جميعاً ، فإن القاضي المدني يتقيد بما ورد من ذلك في الحكم الجنائي . فإذا قال هذا الحكم إن المتهم لم يرتكب الخطأ المنسوب إليه أو أن الخطأ وقع منه في ماديته ولكنه غير مسئول عنه لأنه عديم التمييز أو لأنه اكره عليه أو لأنه كان يدافع عن نفسه ، ففي كل هذه الأحوال يتقيد القاضي المدني بما أثبته الحكم الجنائي ، ولا يستطيع أن يقول إن المتهم ارتكب الخطأ وهو مسئول عنه لأنه مميز أو لأنه لم يكره أو لأنه لم يكن في حالة دفاع شرعي ( [1227] ) . ولكن ذلك لا يعني أن القاضي المدني يتقيد بالتكييف الجنائي للوقائع التي أثبتها الحكم الجنائي . فقد يرى القاضي الجنائي أن المتهم غير مدان لأنه لم يثبت في جانبه خطأ جنائي يجعله مسئولا عن القتل بإهمال وهي الجريمة التي نسبت إليه ، ولكن القاضي المدني قد يحكم مع ذلك على المتهم بالتعويض لأنه مسئول عن خطأ مدني مفروض في جانبه ( [1228] ) .
وإذا اثبت الحكم الجنائي القاضي بالبراءة وجود السببية أو انعدامها ، فكأنما اثبت قيام الضرر أو عدم قيامه ، فتتبع الأحكام التي قدمناها في هذه المسألة . وكذلك إذا اثبت الحكم الجنائي وجود سبب أجنبي ينفي السببية فكأنما اثبت عدم قيام الضرر . ولكن إذا اثبت أن السبب الأجنبي من شأنه أن يقسم التعويض ما بين المسئول والمصاب والغير ، فهذا التقسيم ، وهو غير ضروري لقيام الحكم الجنائي ، لا يقيد القاضي المدني .
المطلب الرابع
الحكم الصادر في دعوى المسئولية
وطرق الطعن فيه ( وبخاصة طريق الطعن بالنقض )
635 – مسألتان : بعد أن حددنا طرفي الخصومة في دعوى المسئولية ، والطلبات التي يتقدم بها المدعى والدفوع التي يرد بها المدعى عليه الدعوى ، وكيف تثبت هذه الطلبات والدفوع ، بقى أن نتكلم في الحكم الذي يصدر في الدعوى لنرى : ( 1 ) ما هي طرق الطعن التي توجه إليه ( 2 ) وما هي الآثار التي تترتب عليه .
1 – طرق الطعن في الحكم الصادر في دعوى المسئولية
636 – طرق الطعن بوجه عام : لا يختلف الحكم الصادر في دعوى المسئولية عن سائر الأحكام من حيث طرق الطعن فيه . فهو إذا صدر غيابياً يقبل الطعن فيه بطريق المعارضة . وإذا صدر من محكمة الدرجة الأولى يقبل الطعن فيه بطريق الاستئناف .
أما طرق الطعن غير العادية فهي النقض والتماس إعادة النظر ومعارضة الشخص الذي يتعدى إليه الحكم ولا كلام في الطريقين الأخيرين ، إذ تطبق في شأنهما في قانون المرافعات .
637 – الطعن بطريق النقض : وكذلك الطعن بطريق النقض ، فإنه هو أيضاً تتبع في شأنه أحكامه المعروفة . ومن هذه الأحكام أنه لا يجوز لأول مرة أمام محكمة النقض أن تقدم لا طلبات جديدة ( demandes nouvelles ) ولا وسائل جديدة ( moyens nouveaux ) ، بخلاف محكمة الاستئناف فيجوز أن تقدم إليها الوسائل الجديدة دون الطلبات . ومن ثم لا يجوز الاستناد لأول مرة أمام محكمة النقض على الخطأ التقصيري المفترض أو الخطأ العقدي ، إذا كان المدعى قد استند أمام محكمة الموضوع على الخطأ التقصيري الثابت . ويجوز ذلك أمام محكمة الاستئناف ، على خلاف في الرأي بيناه فيما تقدم ( [1229] ) .
بقى أن نجمل هنا – وكنا قد اشرنا إلى ذلك في أماكن متفرقة – ما هو الواقع الذي لا يجوز لمحكمة النقض أن تعقب عليه وما هو القانون الذي يخضع لرقابتها في شأن أركان المسئولية الثلاثة : الخطأ والضرر والسببية .
1 - الخطأ : لا يخضع لرقابة محكمة النقض ما تسجله محكمة الموضوع من الوقائع المادية التي يقدمها المدعى لإثبات ركن الخطأ ، وما صح منها وقوعه وما لم يصح . أما التكييف القانوني لم صح وقوعه عند محكمة الموضوع ، وهل هذه الوقائع يصح أن توصف بأنها خطأ ( [1230] ) ، وهل هذا الخطأ تقصيري أو عقدي ، وإذا كان تقصيرياً هل هو عمد أو جسيم أو يسير ، وهل يكفى أن يكون مفترضاً أو يجب إثباته ، وهل إذا كان مفترضاً يجوز إثبات العكس أو لا يجوز ، كل هذه مسائل قانونية تخضع لرقابة محكمة النقض . كذلك تعتبر مسائل قانونية تخضع لرقابة محكمة النقض ما إذا كان الركن المعنوي متوافراً في الخطأ ، وهل انعدام التمييز من شأنه إلا يجعل الخطأ قائماً ، وهل قامت أسباب من شأنها أن تعدم الخطأ كالدفاع الشرعى وتنفيذ أمر الرئيس وقيام حالة الضرورة ، ومتى يكون الشخص المعنوى مسئولا عن الخطأ ، وفي أي الأحوال يوجد التعسف في استعمال لحق . ويمكن القول بوجه عام إن جميع مسائل الخطأ تخضع لرقابة محكمة النقض إلا ما تسجله محكمة الموضوع من الوقائع المادية في هذا الشأن ( [1231] ) .
2 - الضرر : ولا رقابة لمحكمة النقض فيما تقرره محكمة الموضوع من وقائع مادية في شأن الضرر . فإذا قررت أن المدعى قد كسر له ضلع أو أن سيارته قد تلفت أو أن منزله قد حرق ، فلا تعقيب لمحكمة النقض على صحة هذه الوقائع في ذاتها ( [1232] ) . أما تكييفها القانوني ، وهل تكفي لتكوين ركن الضرر ، وهل هذا الضرر محقق أو محتمل ، وهل هو ضرر مباشر أو غير مباشر ، وما هو الضرر الأدبي ، وهل يجب تعويضه ، كل هذه من مسائل القانون . وتقدير الضرر ، وتعيين طريقة تعويضه ، وتحديد المبلغ اللازم للتعويض إذا كان التعويض نقداً ، كل هذه من مسائل الواقع لا تعقيب عليها من محكمة النقض . ولكن تقسيم التعويض بالنسبة التي يوجبها القانون على المسئول والمضرور والغير مسألة قانونية تخضع لرقابة محكمة النقض ( [1233] ) .
3 - السببية : ولا معقب على محكمة الموضوع فيما تسجله من الوقائع التي يستفاد منها قيام علاقة السببية ما بين الخطأ والضرر ( [1234] ) . أما تكييف هذه الوقائع من الناحية القانونية ، وهل هي كافية لإيجاد علاقة السببية ، وما هو السبب الأجنبي الذي تنتفي معه هذه العلاقة ، وما هي الشروط الواجب توافرها في القوة القاهرة والحادث المفاجئي ، وهل هناك فرق ما بين السببين ، وما الأثر الذي يترتب على فعل المضرور وفعل الغير في تحديد مسئولية المدعى عليه ، وما الحكم إذا تعددت الأسباب ، وماذا يترتب على تعاقب الأضرار فكل هذه مسائل قانونية تخضع لرقابة محكمة النقض .
خلاصة ما تقدم : ويمكن القول بوجه عام إن ما تسجله محكمة الموضوع من وقائع مادية في شأن الأركان الثلاثة للمسئولية ، من خطأ وضرر وسببية ، لا تعقب عليه محكمة النقض . أما التكييف القانوني لهذه الوقائع ، ويدخل في ذلك ما يجب توافره من شروط وما يترتب من أثر ، فذلك يدخل في المسائل القانونية التي تخضع لرقابة المحكمة العليا .
2 – الآثار التي تترتب على الحكم الصادر في دعوى المسئولية
638 – الحكم ليس هو مصدر الحق في التعويض – نشوء الحق في التعويض منذ وقوع الضرر : مصدر الحق في التعويض ليس هو الحكم الصادر في دعوى المسئولية . فالحكم ليس إلا مقرراً لهذا الحق ، لا منشئاً له . وحق المضرور في التعويض إنما نشا من العمل غير المشروع الذي أتاه المسئول . فرتب في ذمته الالتزام بالتعويض من وقت قيام أركان المسئولية الثلاثة ، وإذا أردنا التحديد فمن وقوع الضرر لا من وقت ارتكاب الخطأ ، فإن الضرر إذا تراخى عن الخطأ لم تتوافر أركان المسئولية إلا بوقوعه ، ومن هذا الوقت لا مقبله تتحقق المسئولية في ذمة المسئول ويترتب حق المضرور في التعويض ( [1235] ) .
ونشوء الحق في التعويض وقت وقوع الضرر لا وقت صدور الحكم له أهمية عملية من وجوه كثيرة ، نذكر منها الوجوه الآتية :
أولاً – يجوز للمضرور أن يتصرف في حقه ، أو أن يتصرف بمقتضى هذا الحق ، من وقت وقوع الضرر . ولا حاجة به إلى انتظار الحكم . فله من وقت وقوع الضرر أن يحول حقه إلى الغير ، وأن يوقع حجزاً تحت يد مدين المسئول ، ولو أفلس المسئول حتى قبل صدور الحكم دخل المضرور في التفليسة ، وإذا كان المسئول مؤمناً على مسئوليته كان للمضرور حق الرجوع على شركة التأمين حتى لوجد ما بين وقوع الضرر وصدور الحكم ما يستوجب سقوط الحق في التأمين .
ثانياً – يسري التقادم في دعوى المسئولية ، لا من وقت صدور الحكم ، بل من وقت وقوع الضرر أو من وقت العلم بالضرر وبالمسئول عنه على التفصيل الذي قدمناه .
ثالثاً – للمضرور ، إلى جانب التعويض الأصلي ، تعويض عن التأخير يسري من وقت وقوع الضرر . ولا يتوقف هذا الحق على الاعذار لأن الاعذار لا ضرورة له إذا كان محل الالتزام تعويضاً ترتب على عمل غير مشروع . ولا يتوقف على صدور الحكم لأن الحق في التعويض الأصلي قد نشا من وقت وقوع الضرر . ولكن لما كان التعويض الأصلي قبل صدور الحكم غير معلوم المقدار . فهناك رأي يذهب إلى أنه لا يمكن تطبيق أحكام الفوائد القانونية ، فإن تطبيق هذه الأحكام يقتضي أن يكون محل الالتزام مبلغاً من النقود معلوم المقدار وقت الطلب . فلم يبق إذن إلا تطبيق القواعد العامة . وهذه تقضي بأن القاضي لا يحكم بتعويض عن التأخير إلا إذا طلب المضرور ذلك وأثبت الضرر الذي أصابه من التأخير . ومهما يكن من أمر فإن الذي يقع في الغالب أن القاضي يقدر مبلغاً من النقود تعويضاً عن الضرر ، ويدخل في تقديره النوعان من الضرر : الضرر الأصلي الناشيء عن خطأ المسئول ، والضرر الناشيء عن التأخير في دفع التعويض إلى يوم النطق بالحكم . فيجمع التعويض في مبلغ واحد ( [1236] ) .
639 – الحكم يقوم الحق في التعويض ويقويه : وإذا كان الحكم ليس هو مصدر الحق في التعويض ، إلا أن له منذ صدوره أثراً محسوساً في هذا الحق . فقد كان الحق قبل صدور الحكم حقاً غير مقوم ، فأصبح بالحكم مقوماً ، ويغلب أن يقدر بمبلغ معين من النقود .
ولا يقتصر الحكم على تقويم الحق ، بل هو أيضاً يقويه من الوجوه الآتية : ( 1 ) يصبح الحق غير قابل لسقوط بالتقادم إلا بانقضاء خمس عشرة سنة من وقت صدور الحكم ، فقد نصت الفقرة الثانية من المادة 385 من القانون المدني الجديد على أنه " إذا حكم بالدين وحاز الحكم قوة الأمر المقضي . . كانت مدة التقادم الجديد خمس عشرة سنة " . ( 2 ) يجوز للمضرور ، وقد أصبح بيده حكم واجب التنفيذ ، أن يحصل على حق اختصاص بعقارات مدينه ضماناً لأصل الدين والفوائد والمصروفات . ( 3 ) يكون الحق في التعويض بعد صدور الحكم النهائي قابلا للتنفيذ به على أموال المدين .
المبحث الثاني
جزاء المسئولية ( * )
( التعويض )
640 – صورتان للتعويض : جزاء المسئولية هو التعويض ، وهذا الجزاء أما أن يقوم في صورته العادية المألوفة ، وأما أن تعتوره ملابسات وأوصاف فنخرجه إلى صورة معدلة .
ونستعرض كلا من هاتين الصورتين .
المطلب الأول
التعويض في صورته العادية المألوفة
641 – طريقة التعويض وكيفية تقديره : نبحث أمرين : ( 1 ) كيف يعين القاضي طريقة التعويض ( mode de reparation ) ( 2 ) وكيف يقدر القاضي مدى التعويض ( evaluation des dommages - interets ) .
1 - طريقة التعويض :
642 – النصوص القانونية : تنص المادة 171 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" 1 - يعين القاضي طريقة التعويض تبعا للظروف ، ويصح أن يكون التعويض مقسطا كما يصح أن يكون إيرادا مرتبا ، ويجوز في هاتين الحالتين إلزام المدين بأن يقدم تأمينا " .
" 2 - ويقدر التعويض بالنقد ، على أنه يجوز للقاضي ، تبعا للظروف وبناء على طلب المضرور ، أن يأمر بإعادة الحالة إلى ما كانت عليه ، أو أن يحكم بأداء أمر معين متصل بالعمل غير المشروع ، وذلك على سبيل التعويض ( [1237] ) " .
ويتبين من هذا النص أن الأصل في التعويض أن يكون تعويضاً نقدياً . ذلك أن التعويض ( reparation ) بمعناه الواسع إما أن يكون تعويضاً عينياً وهذا هو التنفيذ العيني ( execution en nature ) وإما أن يكون تعويضاً بمقابل ( reparation par equivalent ) والتعويض بمقابل إما أن يكون تعويضاً غير نقدي ( reparation non - pecuniaire ) أو تعويضاً نقدياً ( reparation pecuniaire ) .
643 – التنفيذ العيني : التعويض العيني أو التنفيذ العيني هو الوفاء بالالتزام عيناً . ويقع هذا كثيراً في الالتزامات العقدية ( [1238] ) . أما في المسئولية التقصيرية فيمكن كذلك في قليل من الفروض أن يجبر المدين على التنفيذ العيني . ذلك أن المدين في المسئولية التقصيرية قد اخل بالتزامه القانوني من عدم الأضرار بالغير دون حق . وقد يتخذ الإخلال بهذا الالتزام صورة القيام بعمل تمكن إزالته ومحو أثره ، كما إذا بنى شخص حائطا في ملكه ليسد على جاره الضوء والهواء تعسفاً منه ، ففي هذه الحالة يكون الباني مسئولا مسئولية تقصيرية نحو الجار بتعويض ما أحدثه من الضرر ، ويجوز هنا أن يكون التعويض عينياً بهدم الحائط على حساب الباني ، أو عن طريق التهديد المالي . وهذا ما قصد إليه القانوني المدني الجديد عندما ينص في الفقرة الثانية من المادة 171 على أنه " يجوز للقاضي ، تبعاً للظروف ، وبناء على طلب المضرور ، أن يأمر بإعادة الحالة إلى ما كانت عليه " .
والقاضي ليس ملزماً أن يحكم بالتنفيذ العيني . ولكن يتعين عليه أن يقضي به إذا كان ممكناً . وطالب به الدائن ، أو تقدم به المدين .
644 – التعويض غير النقدي : وفي الكثرة الغالبة من الأحوال يتعذر التنفيذ العيني في المسئولية التقصيرية . فلا يبقى أمام القاضى إلا أن يحكم بالتعويض . وليس من الضروري أن أن يكون التعويض نقداً ، وإن كان هذا هو الغالب . فيجوز للقاضي أن يحكم بان يدفع للدائن بسند أو بسهم تنتقل إليه ملكيته ويستولى على ريعته تعويضاً له عن الضرر الذي أصابه . كما يجوز للقاضي ، في حالة ما إذا هدم صاحب السفل سفله دون حق وامتنع من أن يعيد بناءه ، أن يأمر ببيع السفل لمن يتعهد ببنائه ( أنظر م 860 فقرة أولى ) . وفي دعاوى السب والقذف يجوز للقاضي أن يأمر على سبيل التعويض بنشر الحكم القاضي بإدانة المدعى عليه في الصحف ، وهذا النشر يعتبر تعويضاً غير نقدي عن الضرر الأدبي الذي أصاب المدعى عليه . وهذا ما عناه القانون المدني الجديد عندما نص في الفقرة الثانية من المادة 171 على أنه يجوز للقاضي " أن يحكم باداء أمر معين متصل بالعمل غير المشروع وذلك على سبيل التعويض " . بل إن الحكم بالمصروفات على المدعى عليه في مثل هذه الأحوال ، والاقتصاد على ذلك ، قد يعتبر تعويضاً كافياً عن الضرر الأدبي الذي أصاب المدعى ، وهو تعويض غير نقدي لأن الملحوظ فيه هو المعنى الذي يتضمنه .
645 – التعويض النقدي : وهذا هو التعويض الذي يغلب الحكم به في دعاوى المسئولية التقصيرية . فإن كل ضرر – حتى الضرر الأدبي – يمكن تقويمه بالنقد . ففي جميع الأحوال التي يتعذر فهيا التنفيذ العيني ، ولا يرى القاضي فيها سبيلا إلى تعويض غير نقدي ، يحكم بتعويض نقدي . والتعويض النقدي هو الأصل . ومن ثم نصت الفقرة الثانية من المادة 171 من القانون المدني الجديد على أنه " يقدر التعويض بالنقد " .
والأصل أيضاً أن يكون التعويض النقدي مبلغاً معيناً يعطي دفعة واحدة . ولكن ليس ثمة ما يمنع القاضي من الحكم ، تبعاً للظروف ، بتعويض نقدي مقسط أو بإيراد مرتب مدى الحياة . والفرق بين الصورتين أن التعويض المقسط يدفع على أقساط تحدد مددها ، ويعين عددها ، ويتم استيفاء التعويض بدفع آخر قسط منها . أما الإيراد المرتب مدى الحياة ، فيدفع هو أيضاً على أقساط تحدد مددها ، ولكن لا يعرف عددها لأن الإيراد يدفع ما دام صاحبه على قيد الحياة ولا ينقطع إلا بموته . ويحكم القاضي بتعويض مقسط إذا رأى أن هذه هي الطريقة المناسبة للتعويض . ويتحقق ذلك مثلا إذا كان المدعى قد أصيب بما يعجزه عن العمل مدة معينة من الزمن ، فيقضي له بتعويض مقسط حتى يبرأ من أصابته . ويحكم القاضي بإيراد مرتب مدى الحياة إذا كان العجز عن العمل – كلياً أو جزئياً – عجزاً دائماً ، فيقضي للمضرور بإيراد يتقاضاه ما دام حياً ، تعويضاً له مما أصابه من الضرر بسبب هذا العجز الكلي أو الجزئي ( [1239] ) . ولما كان المسئول هو المدين بهذا التعويض المقسط أو بهذا الإيراد المرتب ، وكان الدين المترتب في ذمته يبقى مدداً قد تطول ، فقد يرى القاضي أن يلزمه بتقديم تأمين . وهذا هو ما تقضي به الفقرة الولى من 171 من القانون المدني الجديد . إذ تنص على أنه " يعين القاضي طريقة التعويض تبعاً للظروف ، ويصح أن يكون التعويض مقسطاً كما يصح أن يكون ايراداً مرتباً ، ويجوز في هاتين الحالتين إلزام المدين بان يقدم تأميناً " . وليس هناك ما يمنع القاضي من أن يحكم على المسئول بدفع مبلغ من المال إلى شركة تأمين مثلا لتحويله إلى إيراد مرتب يعطي للمضرور ، ويكون هذا بمثابة التأمين للدائن .
فإذا تعذر التنفيذ العيني والتعويض غير النقدي ، وتعين الحكم بتعويض نقدي ، ولم تستدعى الظروف أن يكون هذا التعويض مقسطاً أو إيراداً مرتباً ، رجع القاضي إلى الأصل وهو الحكم بمبلغ معين من المال يعطيه المسئول للمضرور دفعة واحدة .
2 - تقدير التعويض
646 – النصوص القانونية : تنص المادة 170 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" يقدر القاضي مدي التعويض عن الضرر الذي لحق المضرور طبقا لأحكام المادتين 221 ، 222 ، مراعياً في ذلك الظروف الملابسة ، فان لم يتيسر له وقت الحكم أن يعين مدي التعويض تعيينا نهائيا ، فله أن يحتفظ للمضرور بالحق في أن يطالب خلال مدة معينة بإعادة النظر في التقدير ( [1240] ) " .
والمادتان 221 و 222 المشار إليهما في النص قد سبق إيرادهما . ونعيد ذكرهما هنا زيادة في الإيضاح .
تنص المادة 221 على ما يأتي : " 1 - إذا لم يكن التعويض مقدرا في العقد أو بنص في القانون ، فالقاضي هو الذي يقدره ، ويشمل التعويض ما لحق الدائن من خسارة وما فاته من كسب ، بشرط أن يكون هذا نتيجة طبيعية لعدم الوفاء بالالتزام أو للتأخر في الوفاء به ، ويعتبر الضرر نتيجة طبيعية إذا لم يكن في استطاعه الدائن أن يتوقا ببذل جهد معقول . 2 - ومع ذلك إذا كان الالتزام مصدره العقد ، فلا يلتزم لمدين الذي لم يرتكب غشا أو خطأ جسيما إلا بتعويض الضرر الذي كان يمكن توقعه عادة وقت التعاقد " .
وتنص المادة 222 على ما يأتي : " 1 - يشمل التعويض الضرر الأدبي أيضا ، ولكن لا يجوز في هذه الحالة أن ينتقل إلى الغير إلا إذا تحدد بمقتضى اتفاق ، أو طالب الدائن به أمام القضاء . 2 - ومع ذلك لا يجوز الحكم بتعويض إلا للأزواج والأقارب إلى الدرجة الثانية عما يصيبهم من ألم من جراء موت المصاب " .
647 – مقياس التعويض الضرر المباشر : ويتبين من هذه النصوص أن التعويض مقياسه الضرر المباشر . فالتعويض في أية صورة كانت – تعويضاً عينياً أو بمقابل ، وتعويضاً نقدياً أو غير نقدي ، وتعويضاً مقسطاً أو ايراداً مرتباً أو رأس مال – يقدر بمقدار الضرر المباشر أحدثه الخطأ ، سواء كان هذا الضرر مادياً أو ادبيا ، وسواء كان متوقعاً أو غير متوقع ، وسواء كان حالا أو مستقبلا ما دام محققاً . وقد تقدم ذكر هذا كله عند الكلام في ركن الضرر .
والضرر المباشر يشتمل على عنصرين جوهريين هما الخسارة التي لحقت المضرور ( damnum emergens ) والكسب الذي فاته ( lucurm cessans ) . فهذان العنصران هما اللذان يقومهما القاضي بالمال . فلو أن شخصاً أتلف سيارة مملوكة لآخر . وكان صاحب السيارة اشتراها بألف وحصل على وعد من الغير أن يشتريها منه بمائتين وألف ، فالألف هي الخسارة التي لحقت صاحب السيارة ، والمائتان هو الكسب الذي فاته . وكلاهما ضرر مباشر يجب التعويض عنه .
ولا يدخل في الحساب عند تقدير التعويض أن يكون الضرر متوقعاً أو غير متوقع . ففي المسئولية التقصيرية يشمل التعويض كل ضرر مباشر ، متوقعاً كان هذا الضرر أو غير متوقع . أما في المسئولية العقدية فيقتصر التعويض على الضرر المتوقع في غير حالتي الغش والخطأ الجسيم . وقد تقدم بيان ذلك .
648 – الظروف الملابسة التي من شأنها أن تؤثر في تقدير التعويض : وتقول المادة 170 أن القاضي يراعى في تقدير التعويض " الظروف الملابسة " . ويقصد بالظروف الملابسة هنا الظروف التي تلابس الضرر لا الظروف التي تلابس المسئول . فالظروف الشخصية التي تحيط بالمضرور وما قد أفاده بسبب التعويض ، كل هذا يدخل في حساب القاضي عند تقديره للتعويض . أما الظروف الشخصية التي تحيط بالمسئول وجسامة الخطأ الذي صدر منه ، فلا يدخل في الحساب ، على خلاف في الرأي بالنسبة إلى جسامة الخطأ .
فالظروف الشخصية التي تحيط بالمضرور تدخل في الاعتبار ، لأن التعويض يقاس بمقدار الضرر الذي أصاب المضرور بالذات ، فيقدر على أساس ذاتي ( in concreto ) لا على أساس موضوع ( in abstracto ) . ويكون محلا للاعتبار حالة المضرور الجسمية والصحية . فمن كان " عصبياً " ، فإن الانزعاج الذي يتولاه من حادث يكون ضرره أشد بكثير مما يصيب شخصاً سليم الأعصاب ومن كان مريضا " بالسكر " ويصاب بجرح ، كانت خطورة هذا الجرح أشد بكثير من خطورة الجرح الذي يصيب السليم ( [1241] ) . كذلك يكون محلا للاعتبار حالة المضرور العائلية ، فمن يعول زوجة وأطفالا يكون ضرره أشد من ضرر الاعزب الذي لا يعول إلا نفسه . ويدخل أيضاً في الاعتبار حالة المضرور المالية : وليس ذلك معناه أن المضرور إذا كان غنياً أو فقيراً ، وإنما الذي يدخل في الاعتبار هو اختلاف الكسب الذي يفوت المضرور من جراء الإصابة التي لحقته ، فمن كان كسبه اكبر كان الضرر الذي يحيق به أشد ( [1242] ) .
وقد يفيد المضرور من التعويض الذي تقاضاه من المسئول . مثل ذلك أن يتلف شخص متاعاً قديماً مملوكاً لآخر فيعوضه عنه متاعاً جديداً . فعلى المضرور أن يدفع إلى المسئول بالمتاع القديم التالف ( laisse pour compte ) حتى لا يجمع بين المتاعين القديم والجديد ( [1243] ) . ويبقى بعد ذلك أنه افاد بالفرق بين قيمة الجديد وقيمة القديم . ومن رأينا أن المضرور يرد هذا الفرق للمسئول طبقاً لقواعد الإثراء بلا سبب ، على الأقل إذا كان في استطاعة المسئول أن يعوض المتاع القديم بمتاع قديم مثله فلم يفعل وأعطى المضرور المتاع الجديد ( [1244] ) .
أما الظروف الشخصية التي تحيط بالمسئول فلا تدخل في الحساب عند تقدير التعويض . فإذا كان المسئول غنياً لم يكن هذا سبباً في أن يدفع تعويضاً أكثر ، أو كان فقيراً لم يكن هذا سبباً في أن يدفع تعويضاً أقل ( [1245] ) . وسواء كان المسئول لا يعول إلا نفسه أو يعول أسرة كبيرة ، فهو يدفع التعويض بقدر ما أحدث من الضرر ، دون مراعاة لظروفه الشخصية . إذ العبرة في تحديد مدى الضرر بالظروف الشخصية التي تحيط بالمضرور لا بالمسئول ( [1246] ) . كذلك لا يزيد في مقدار التعويض أن يكون المسئول قد امن على مسئوليته بدعوى أن شركة التأمين هي التي ستدفع التعويض . ولا يدخل في الحساب ما قد يفيد المسئول من كسب بسبب الضرر الذي أحدثه ، فاللص الذي يستعين بالمسروق في مواجهة أزمة مالية حلت به فينتفع انتفاعاً كبيراً لا يكون مسئولا إلا بمقدار ما سرق لا بمقدار ما أفاد ( [1247] ) .
والأصل أنه لا ينظر إلى جسامة الخطأ الذي صدر من المسئول عند تقدير التعويض . وإذا تحققت المسئولية ، قدر التعويض بقدر جسامة الضرر لا يقدر جسامة الخطأ . ومهما كان الخطأ يسيراً فإن التعويض يجب أن يكون عن كل الضرر المباشر الذي أحدثه هذا الخطأ اليسير . ومهما كان الخطأ جسيماً فإن التعويض يجب إلا يزيد عن هذا الضرر المباشر . وهذا هو مقتضى فصل التعويض المدني عن العقوبة الجنائية ، فالتعويض المدني شيء موضوعي لا يراعى فيه إلا الضرر ، والعقوبة الجنائية شيء ذاتي تراعى فيه جسامة الخطأ . هذا هو الأصل ، ولكن القضاء يدخل عادة في اعتباره جسامة الخطأ في تقدير التعويض . وهذا شعور طبيعي يستولى على القاضي ، فما دام مقدار التعويض موكولا إلى تقديره فهو يميل إلى الزيادة فيه إذا كان الخطأ جسيما وإلى التخفيف منه إذا كان الخطأ يسيراً . وعلى هذا يسير القضاء في مصر وفي فرنسا ، وقد سبق لنا بيان ذلك ( [1248] ) .
649 – الضرر المتغير والوقت الذي يقدر فيه ( [1249] ) : نفرض أن الضرر متغير منذ أن وقع إلى يوم النطق بالحكم . مثل ذلك شخص صدمته سيارة بخطأ سائقها ، فاصيب بكسر في يده ، وعندما طالب بالتعويض كان الكسر قد تطور فأصبح أشد خطورة مما كان ، وعند صدور الحكم كانت خطورته قد اشتدت وانقلب إلى عاهة مستديمة . لا شك في أن القاضي يدخل في حسابه عند تقدير التعويض تطور الإصابة من يوم وقوعها إلى يوم صدور الحكم ، فيقدر الضرر باعتبار أن الكسر قد انقلب إلى عاهة مستديمة ( [1250] ) .
كذلك لو خف الضرر من يوم وقوعه إلى يوم صدور الحكم ، وأصبح الكسر أقل خطورة مما كان في أول أمره ، حسب القاضي التعويض مراعياً ما كان عليه الكسر من خطر ثم ما طرأ عليه من تحسن ( [1251] ) .
فالعبرة إذن في تقدير التعويض بيوم صدور الحكم ، اشتد الضرر أو خف .
أما إذا كانا لضرر لم يتغير منذ وقوعه إلى يوم صدور الحكم ، والذي تغير هو سعر النقد الذي يقدر به التعويض أو أسعار السوق بوجه عام فالعبرة بالسعر يوم صدور الحكم ، ارتفع هذا السعر منذ وقوع الضرر أو انخفض ( [1252] ) . على أنه إذا كان المضرور قد أصلح الضرر بمال من عنده ، فإنه يرجع بما دفعه فعلا ، مهما تغير السعر يوم صدور الحكم .
650 – النفقة المؤقتة : وقد يرى القاضي أثناء نظر دعوى المسئولية أن المضرور في حاجة قصوى إلى نفقة موقتة ( provision ) يدفعها له المسئول من حساب التعويض الذي سيقضي له به في النهاية . فيجوز للقاضي عندئذ أن يحكم بهذه النفقة مع مراعاة الشروط الآتية :
1 - أن يكون مبدأ المسئولية قد تقرر ، ولم يبق إلا تقدير التعويض .
2 - أن تكون عناصر تقدير التعويض لا تزال ، لإعدادها ، في حاجة إلى مدة طويلة .
3 - أن يكون المضرور في حاجة ملحة إلى هذه النفقة .
4 – أن يكون المبلغ الذي يقدره القاضي للنفقة أقل من مبلغ التعويض الذي ينتظر أن يقدر به الضرر ( [1253] ) .
المطلب الثاني
التعويض في صورته المعدلة الموصوفة
651 – حالات ثلاث : ما قدمناه في التعويض هو حكمه في صورته العادية المألوفة . ولكن هذا الحكم قد يعدل منه وصف يلحقه ، فيكون للتعويض صورة أخرى معدلة موصوفة . ويقع هذا في حالات ثلاث : ( الحالة الأولى ) أن يتفق الطرفان قبل تحقق المسئولية على تعديل الأحكام التي قدمناها . ( والحالة الثانية ) أن يؤمن المسئول على مسئوليته المحتملة قبل تحققها . ( والحالة الثالثة ) أن ينفتح أمام المضرور طريقان للتعويض عن الضرر الذي أصابه .
وتتميز الحالتان الأولى والثانية عن الحالة الثالثة بأن الوصف الذي لحق التعويض في الحالتين الأوليين يتصل بالمسئول ، أما الوصف الذي لحق التعويض في الحالة الثالثة فيتصل بالمضرور .
ونتكلم في هذه الحالات الثلاث : ( 1 ) الاتفاق على تعديل أحكام المسئولية ( 2 ) التأمين على المسئولية ( 3 ) اجتماع طريقين للتعويض .
1 – الاتفاق على تعديل أحكام المسئولية
652 – نطاق الاتفاق على تعديل أحكام المسئولية : إذا تحققت المسئولية التقصيرية فإن الاتفاق على تعديل أحكامها إعفاء أو تخفيفاً أو تشديداً جائز إطلاقاً . ويكون في الغالب بمثابة صلح ، والصلح جائز فيما هو ليس من النظام العام . فإذا صدر خطأ من شخص سبب ضرراً لآخر ، فللمضرور أن يعفي المسئول من التعويض ، ويكون بذلك قد نزل عن حقه . ويصح أيضاً أن يتفق المضرور مع المسئول أن يتقاضى منه تعويضا أقل مما يستحق ، فيعفيه من التعويض عن بعض الضرر . ويكون هذا إما نزولا من المضرور عن بعض حقه ، أو هو صلح بينه وبين المسئول إذا كان هذا ينازع في مبدأ المسئولية أو في مقدار التعويض . ويصح أخيراً أن يعطي المسئول المضرور تعويضاً أكثر مما يستحق . ويكون متبرعاً بما زاد .
وليس فيما قدمناه محل للنزاع ، وإنما النزاع في الاتفاق بين الطرفين مقدماً وقبل تحقق المسئولية . وهذا هو نطاق الاتفاق على تعديل أحكام المسئولية قد يقال كيف يقع ذلك ولا يعرف أحد مقدماً من هو الشخص الذي سيضره بعمله غير المشروع ، فإن هذا إذا تيسر في المسئولية العقدية ، إذ العقد يجمع منذ البداية بين المسئول والمضرور ، فهو ليس بميسور في المسئولية التقصيرية ، إذ أن الطرفين لا يعرف أحدهما الآخر إلا عند وقوع الضرر ، فلا يتصور لاتفاق بينهما إلا بعد تحقق المسئولية ؟ وإذا كان هذا صحيحاً في الكثرة الغالبة من الأحوال . فإنه يتصور في بعض أحوال المسئولية التقصيرية أن يعرف شخص من يحتمل أن يضر به من الناس بعمل غير مشروع . فقد تقوم أوضاع تجمع بين أشخاص يحتمل أن يكون فيهم في المستقبل مسئول ومضرور . مثل ذلك الجيران ، كل جار بالنسبة إلى جاره يحتمل أن يكون مسئولا ومضروراً ، فيتصور اتفاق الجيران على تعديل أحكام المسئولية التقصيرية عند تحققها . مثل ذلك أيضاً صاحب المصنع والملاك المجاورون ، ومصلحة السكك الحديدية وملاك الأراضي التي تمر السكك الحديدية بجوارها ، وملاك الحيوانات التي تجتمع في مكان واحد لاحتمال أن تؤذى الحيوانات بعضها بعضاً ، وأصحاب السيارات إذا دخلت في سباق لاحتمال أن تتحقق المسئولية التقصيرية فيما بينها ، ومدير الشركة والشركاء فيما عسى إن يرتكب المدير من خطأ تقصيري ، والنقل المجاني فيما بين الناقل والمنقول . يتصور إذن أن هؤلاء يتفقون فيما بينهم على التعديل من أحكام المسئولية التقصيرية .
ويجب التمييز بين الاتفاق على تعديل أحكام المسئولية والاتفاق على ضمان المسئولية . فالاتفاق على ضمان المسئولية مثله أن يؤمن المسئول عن مسئوليته في شركة تأمين . ويشبه ذلك أن يتفق صاحب البناء مع مقاول تعهد بهدم البناء أن يكون ضامناً لما عسى أن يتحقق من مسئولية صاحب البناء بسبب الهدم ، وأن تتفق الحكومة مع ناد رياضي أن يضمن لها ما عسى أن يتحقق من مسئوليتها بسبب الألعاب الرياضية التي يقوم بها النادي . والفرق بين الاتفاق على تعديل أحكام المسئولية والاتفاق على ضمان المسئولية أن الاتفاق الأول يقوم مباشرة بين المسئول والمضرور . وقد يرفع المسئولية أصلاً عن المسئول قبل المضرور . أما الاتفاق الثاني فيقوم بين المسئول الأصلي ومسئول آخر يضمنه ، لا ليرفع المسئولية عن المسئول الأصلي ، بل ليؤكدها بضم مسئول إليه يتحمل في ا لنهاية المسئولية إذا تحققت دون أن ينتقص ذلك من حق المضرور في الرجوع على المسئول الأصلي .
والاتفاق على التعديل من أحكام المسئولية إما أن يكون اتفاقاً للاعفاء من المسئولية أو للتخفيف منها ، وإما أن يكون اتفاقاً للتشديد من المسئولية . ونستعرض كلا من الحالتين .
653 – الاتفاق على الإعفاء من المسئولية التقصيرية أو على التخفيف منها : هذا الاتفاق قد يرمى إلى الإعفاء من المسئولية بتاتاً . وقد يرمى إلى التخفيف منها ، إما بإنقاص مدى التعويض فلا يعوض إلا عن بعض الضرر دون بعض ، وإما بتحديد مبلغ معين كشرط جزائي يكون هو مبلغ التعويض مهما بلغ الضرر ، وإما بتقصير المدة التي ترفع فيها دعوى المسئولية .
وقد كفل القانون المدني الجديد بيان حكم هذه الاتفاقات ، فنصت الفقرة الثالثة من المادة 217 على ما يأتي : " ويقع باطلا كل شرط يقضي بالإعفاء من المسئولية المترتبة على العمل غير المشروع ( [1254] ) " .
والقضاء في مصر وفي فرنسا جرى على هذا المبدأ ، لا بالنسبة إلى الإعفاء من المسئولية فحسب ، بل أيضاً بالنسبة إلى التخفيف منها في صورة المختلفة ( [1255] ) وتعليل ذلك أن أحكام المسئولية التقصيرية من النظام العام ، والقانون هو الذي يتكفل بتقريرها . فهي ليست كأحكام المسئولية العقدية التي هي من صنع المتعاقدين ، فيستطيعان أن يحورا فيها وأن يعفيا منها . فلا يجوز إذن الاتفاق على الإعفاء من المسئولية التقصيرية أو على التخفيف منها سواء من حيث مدى التعويض أو من حيث الشرط الجزائي أو من حيث مدة الدعوى . وقد رأينا في المسئولية العقدية أن كل هذا جائز في غير العمد والخطأ الجسيم .
أما الفقه في فرنسا فيناقش القضاء منتقدا إياه ، ويرى أن غير الجائز من هذه الاتفاقات هو الاتفاق الخاص بالمسئولية التقصرية إذا ترتبت على العمد أو الخطأ الجسيم وكذلك إذا ترتبت على خطأ يسير ولحق الضرر الجسم دون المال . فإن الاتفاق على الإعفاء من المسئولية التي تترتب على تعمد الأضرار بالغير أو ما هو بمنزلة هذا التعمد ( الخطأ الجسيم ) ، أو على التخفيف من هذه المسئولية ، يكون مخالفاً للنظام العام . كذلك الأمر إذا كان الضرر يلحق الجسم لا المال ، ولا ترتب على خطأ يسير ، فإن جسم الإنسان لا يجوز إن يكون محلا للاتفاقات المالية . لكن إذا كان الضرر يلحق المال ويترتب على خطأ يسير ، فليس في القواعد العامة ما يمنع من الاتفاق على الإعفاء من المسئولية فيها ، ومن باب أولى من الاتفاق على التخفيف من المسئولية في أية صورة من صور التخفيف ( [1256] ) .
ومهما يكن من أمر فالقانون الجديد صريح في بطلان الاتفاق على الإعفاء من المسئولية التقصيرية أو على التخفيف منها . وهو في ذلك يؤيد القضاء في مصر وفي فرنسا على النحو الذي أسلفناه .
654 – الاتفاق على التشديد في المسئولية التقصيرية : وقد يكون الاتفاق من شأنه أن يشدد في المسئولية التقصيرية . مثل ذلك أن يتفق الطرفان على أن يكون الخطأ مفترضاً في جانب المسئول في حالات لا يفرض فيها القانون الخطأ . ومثل ذلك أيضاً الاتفاق على مسئولية المدين حتى لو لم يرتكب خطأ .
ويبدو أنه إذا كان الاتفاق على التخفيف من المسئولية أو الإعفاء منها مخالفاً للنظام العام ، فإن الاتفاق على التشديد فيها لا يخالف النظام العام ، فيكون مشروعاً . يؤيد ذلك ما قضت به الفقرة الأولى من المادة 217 من القانون المدني الجديد من أنه " يجوز الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة الحادث المفاجئ والقوة القاهرة " ( [1257] ) . وغنى عن البيان أن المسئولية ذاتها لا تتحقق بقيام الحادث المفاجئ والقوة القاهرة لانعدام علاقة السببية . فإذا كان من الممكن أن يتحمل الشخص بالاتفاق تبعة مسئولية لم تتحقق ، فيتحمل التبعة ( risqué ) لا المسئولية ويكون بمثابة المؤمن ، فمن باب أولى يستطيع أن يتفق على التشديد من مسئولية قد تحققت .
2 - التأمين على المسئولية
655 – متى يجوز التأمين على المسئولية : التأمين على المسئولية يفضل الإعفاء من المسئولية ، لأنه في الوقت الذي يزيح فيه عن عاتق المسئول عبء المسئولية لا يحرم المضرور من حقه في التعويض . وهو ميسر بفضل انتشار شركات التأمين ، ومن ثم فهو كثير الوقوع في الحياة العملية .
ويجوز للشخص أن يؤمن على مسئوليته المترتبة على الخطأ ، سواء كان هذا الخطأ عقدياً أو تقصيرياً ، وسواء كان الخطأ التقصيري مفترضا أو ثابتاً ، وسواء كان الخطأ الثابت يسيراً أو جسيماً ولكن لا يجوز التأمين على المسئولية المترتبة على الخطأ العمد ، إذا لا يجوز لأحد أن ييسر لنفسه السبيل إلى الغش . وإنما يجوز التأمين على المسئولية عن عمل الغير ، حتى لو ارتكب هذا الغير خطأ عمداً ، ذلك أن المسئول عن الغير لم يؤمن من المسئولية عن غشه هو بل عن غش الغير ، فالخطأ الشخصي الذي يؤمن نفسه منه هو خطأ مفترض لا خطأ عمد ( [1258] ) .
ونرى من ذلك أن الشخص يستطيع أن يؤمن على مسئوليته في مختلف صورها ، فيما عدا المسئولية عن الخطأ العمد الذي يصدر منه شخصياً .
وننظر الآن فيما يأتي : ( 1 ) علاقة المؤمن ( شركة التأمين ) بالمؤمن له ( المسئول ) ( 2 ) علاقة المؤمن بالمضرور ( 3 ) علاقة المؤمن بمن صدر منه الخطأ في التأمين على المسئولية عن عمل الغير .
656 – علاقة المؤمن بالمؤمن له : هذه العلاقة ينظمها عقد التأمين . وهو يرتب التزامات في ذمة المؤمن ( شركة التأمين ) . وأخرى في ذمة المؤمن له ( المسئول ) .
( 1 ) التزامات المؤمن : أما التزامات المؤمن فتتلخص في ضمان المسئولية التي قد تترتب في ذمة المؤمن له ، وهي المسئولية التي كانت محلا للتامين . والأصل أن المؤمن ضامن لكل ما ينجم عن هذه المسئولية من تكاليف . فمتى طولب المؤمن له مطالبة ودية أو قضائية بتعويض عن ضرر هو مسئول عنه وكان داخلا في دائرة التأمين ، بدا التزام المؤمن ينتج أثره ، سواء دخل المؤمن في الدعوى أو لم يدخل ، ووجب عليه أن يكفل للمؤمن له نتائج هذه المطالبة ولو كانت على غير أساس . فإن الذي يضمنه المؤمن ليس هو مسئولية المؤمن له فحسب . بل كل مطالبة توجه ضده في شأن هذه المسئولية ( [1259] ) .
فإذا ثبتت المسئولية قبل المؤمن له ، وجب على المؤمن أن يدفع له ما ثبت في ذمته من تعويض بسبب هذه المسئولية ( [1260] ) . والقاعدة أن المؤمن يلتزم بالضمان بقدر ما تحقق من مسئولية المؤمن له دون زيادة ، حتى لو كان عقد التأمين يشتمل على شرط يجعل المؤمن ضامناً لمبلغ معين وكان هذا المبلغ يزيد على التعويض الذي ثبت في ذمة المؤمن له . فلو كان هذا المبلغ ألفا وكانت قيمة التعويض ثمانمائة ، فإن المؤمن يضمن الثمانمائة دون الألف ( [1261] ) .
وتعليل ذلك أن عقد التأمين من المسئولية هو عقد تأمين لا عقد ادخار ، فهو معقود لتعويض الخسارة على المؤمن له ، فلا يجوز أن يكون مصدر ربح له ، وهذا بخلاف عقد التأمين على الأشخاص هو عقد ادخار لا عقد تأمين ، فيجوز أن يزيد مبلغ التأمين على مقدار الخسارة .
( 2 ) التزامات المؤمن له : ويلتزم المؤمن له بدفع أقساط التأمين في مواعيدها وبغير ذلك من الالتزامات التي ترتبها وثيقة التأمين .
ويصح الاتفاق في الوثيقة على إعفاء المؤمن من الضمان إذا كان المؤمن له دون رضاء من المؤمن قد دفع إلى المضرور تعويضاً أو اقر له بالمسئولية . ولكن لا يجوز التمسك بهذا الاتفاق إذا كان ما أقر به المؤمن له مقصوراً على واقعة مادية ، أو إذا ثبت أن المؤمن له ما كان يستطيع أن يرفض تعويض المضرور أو أن يقر له بحقه دون أن يرتكب ظلماً بيناً ( [1262] ) .
657 – علاقة المؤمن بالمضرور : كان المشروع التمهيدي للقانون المدني الجديد ينص في المادة 832 منه على ما يأتي : " لا يجوز للمؤمن أن يدفع لغير المصاب مبلغ التأمين . المتفق عليه كله أو بعضه ما دام المصاب لم يعوض بما لا يجاوز هذا المبلغ عن الأضرار التي نشأت عنها مسئولية المؤمن له " . فكان هذا النص يجعل للمصاب ( المضرور ) دعوى مباشرة قبل المؤمن ، إذ كان يلزم المؤمن إلا يدفع لغير المضرور مبلغ التأمين ما دام المضرور لم يعوض . ومؤدى هذا النص أن المضرور الذي لم يتقاض التعويض من المسئول ( المؤمن له ) يستطيع أن يتقاضاه مباشرة من المؤمن في حدود مبلغ التأمين ،دون أن يشترك معه دائنوا المؤمن له ، لأنه يرجع على المؤمن بالدعوى المباشرة لا بدعوى المدين .
ولكن هذا النص قد حذف ، وترك الأمر لقانون اخص يصدر فيما بعد . وحتى يصدر هذا القانون معيداً لهذا النص لا يمكن القول بأن للمضرور دعوى مباشرة قبل المؤمن . فلا يرجع على المؤمن إلا بطريق الدعوى غير المباشرة ، وذلك بان يستعمل دعوى مدينه المؤمن له ، وفي هذه الحالة يشاركه دائنو المؤمن له شركة غرماء إذ هو لا يمتاز عنهم ( [1263] ) .
658 – علاقة المؤمن بمن صدر منه الخطأ في التأمين على المسئولية عن عمل الغير : يحدث أن المؤمن له لا يكون هو من صدر منه الخطأ ، ولكنه يكون مسئولا عن عمل الغير الذي صدر منه الخطأ ، ويتحقق ذلك في مسئولية المكلف بالرقابة عمن هم في رقابته ومسئولية المتبوع عن التابع . فإذا دفع المسئول عن عمل الغير التعويض للمضرور ، ورجع به على المؤمن ، إلا يجوز لهذا أن يرجع به على الغير الذي صدر منه الخطأ كما كان يرجع المسئول نفسه ؟
سنرى فيما يلي أنه إذا اجتمع للمضرور طريقان للتعويض أحدهما هو طريق التأمين ، جاز له أن يجمع بينهما . فيرجع بالتعويض على الغير الذي ارتكب الخطأ لأن هذا الخطأ هو الذي تحققت به المسئولية ، ويرجع على المؤمن بمبلغ التأمين بمقتضى عقد التأمين الذي دفع أقساطه . فهو يجمع بين الحقين لأن لكل حق مصدراً غير المصدر الذي قام عليه الحق الآخر ، فمصدر الحق في التعويض الخطأ الذي ارتكبه الغير ، ومصدر الحق في مبلغ التأمين العقد الذي أبرمه مع المؤمن .
ولكن يغلب في العمل أن يشترط المؤمن في عقد التأمين أن ينزل المؤمن له عن دعواه قبل من صدر منه الخطأ إلى المؤمن . فيكون هذا بمثابة الحلول الإتفاقي ( [1264] ) . فإذا لم يوجد شرط كهذا لم يبق إلا تطبيق القواعد العامة ، وتطبيقها يؤدى إلى أن المؤمن لا يحل محل المؤمن له في الرجوع على الغير الذي صدر منه الخطأ ، لا حلولا اتفاقياً لأن عقد التأمين لم يرد فيه شرط الحلول ، ولا حلولا قانونياً لأن الحلول القانونين لا يكون إلا بنص والنص غير موجود ( [1265] ) .
3 – اجتماع طريقين للتعويض
659 – كيف يجتمع طريقان للتعويض : قد يوجد لدى المضرور طريقان يستطيع سلوكهما لتعويض ما أصابه من ضرر . مثل ذلك أن يكون قد امن نفسه في إحدى شركات التأمين مما يصيبه من ضرر في جسمه أو في ماله عن طريق التأمين على الحياة أو التأمين من الحوادث أو التأمين من الحريق أو التأمين من الخسائر أو التأمين من المسئولية . ومثل ذلك أيضاً أن يكون الضرر الذي يصيبه من شأنه أن يرتب له حقاً في نفقة أو إيراد في ذمة الغير .
ونستعرض كلا من الحالتين : حالة اجتماع التعويض مع مبلغ التأمين وحالة اجتماع التعويض مع النفقة أو الإيراد ( [1266] ) .
660 – اجتماع التعويض مع مبلغ التأمين : إذا أصيب شخص بضرر في جسمه أو في ماله ، وكان مؤمناً نفسه من هذا الضرر ، فقد رأينا أن التحليل القانونين يؤدي إلى النتيجة الآتية : للمضرور حقان ، حق قبل المسئول عن هذا الضرر في التعويض ومصدر هذا الحق الخطأ الذي ارتكبه المسئول ، وحق قبل شركة التأمين في مبلغ التأمين ومصدر هذا الحق العقد الذي تم بينه وبين الشركة . فإذا كان مؤمناً على حياته أو على ما عسى أن يصيبه من جراء الحوادث . ووقع الضرر الذي امن نفسه منه ، فهو – أو ورثته – يرجع بمبلغ التأمين على الشركة وبالتعويض على من كان مسئولا عن إحراق المنزل أو إغراق البضاعة أو تحقيق المسئولية ، ويجمع بذلك في هذه الحالات أيضاً بين الحقين .
ولا يجوز الاعتراض على هذا التحليل القانونين بان المضرور يكون بذلك قد جمع بين تعويضين عن ضرر واحد ، ذلك أنه لم يتقاض إلا تعويضاً واحداً من المسئول عن الضرر الذي أصابه ، أما مبلغ التأمين فليس مقابلا للتعويض ، بل هو مقابل لأقساط التأمين التي دفعها للشركة ( [1267] ) .
كذلك لا يجوز لشركة التأمين أن ترجع على المسئول بتعويض بحجة أن خطأه هو الذي ألزمها بدفع مبلغ التأمين للمضرور ، ذلك أن الذي ألزمها بدفع مبلغ التأمين ليس هو خطأ المسئول بل هو عقد التأمين ( [1268] ) .
661 – اجتماع التعويض مع الفقه أو الإيراد : قد يكون الضرر الذي أوجب التعويض للمضرور سبباً في ترتيب حق آخر له . مثل ذلك عامل في مصنع تسبب عامل آخر في إصابته ، فيستحق العامل المضرور قبل رب المصنع مبلغاً يقدره قانون إصابات العمل جزافاً كما رأينا ، ويستحق في الوقت ذاته تعويضاً كاملا قبل العامل المسئول عن الحادث ، فهل له أن يجمع بين التعويضين ؟ مثل آخر شخص اثيب بما اقعده عن العمل ، فاستحق تعويضاً قبل المسئول عن هذه الإصابة ونفقة عند من تجب عليه النفقة له بسبب عجزه عن العمل ، فهل يجمع بين التعويض والنفقة ؟
يختلف الأمر هنا عن حالة اجتماع التعويض مع مبلغ التأمين . فقد قدمنا أن مبلغ التأمين ليس مقابلا للتعويض ، بل هو مقابل لأقساط التأمين التي سبق دفعها . ولكن المبلغ الجزافي الذي يدفعه رب المصنع للعامل عند إصابته ، والنفقة التي يدفعها من تجب عليه النفقة ، لا مقابل لهما إلا عجز المضرور عن العمل بسبب الحادث الذي أصابه ، فالصبغة الغالبة عليهما هي التعويض عن هذا العجز . لذلك لا يجوز أن يجمع المضرور بين تعويضين ، فهو إذا تقاضى التعويض الجزافي أو النفقة . لم يرجع على المسئول إلا بما بقى من الضرر دون تعويض ، ويرجع رب المصنع أو الملزم بالنفقة على المسئول بما التزم بدفعه للمضرور لأن المسئول هو المتسبب في ذلك ( [1269] ) . أما إذا رجع المضرور بكل التعويض على المسئول . فلا يجوز له أن يرجع بشيء على صاحب المصنع ( [1270] ) أو الملزم بالنفقة .
كذلك لا يستطيع الموظف ، إذا أصيب في حادث تكون الحكومة مسئولة عنه ، أن يجمع بين التعويض الكامل عن هذا الحادث وبين معاش استثنائي يرتبه القانون على سبيل التعويض ، بل يجب إنقاص مبلغ المعاش الاستثنائي . سواء كان في صورة إيراد مدى الحياة أو في صورة مكافأة إجمالية من مبلغ التعويض الكامل المستحق للموظف ( [1271] ) لكن إذا قبض الموظف معاشه العادي طبقاً لقانون المعاشات ، فإنه يستطيع الجمع بينه وبين التعويض الكامل ، لأن المعاش العادي كمبلغ التأمين إنما استحق لقاء الاستقطاعات الدورية التي أخذت من مرتب الموظف ( [1272] ) .
أما إذا كان المضرور قد تلقى صدقة أو إحساناً من الغير مواساة له فيما أصابه من ضرر ، فلا يجوز للمسئول أن ينقص من مبلغ التعويض الذي يلزمه مقدار هذه الصدقة ، فإن صاحب الصدقة قد تبرع بها للمضرور لا للمسئول .
الفصل الثاني
المسئولية عن عمل الغير
والمسئولية الناشئة عن الأشياء
662 – المسئولية تقوم لا على خطأ واجب الإثبات بل على خطأ مفترضي : بسطنا قواعد المسئولية بوجه عام ، فاستعرضنا أركانها وفصلنا أحكامها . وجرينا فيما قدمناه على أن الخطأ الذي تقوم عليه المسئولية هو خطأ واجب الإثبات ، يثبته مدعى المسئولية وهو المضرور .
وننتقل الآن إلى حالات خاصة في المسئولية يجمعها أنه تقوم كلها لا على خطأ واجب الإثبات ، بل على خطأ مفترض على خلاف في الرأي سنفصله فيما يلي . وقد توخى المشرع فيها أن ييسر على المضرور التعويض عما أصابه من الضرر ، فأزاح عن عاتقه عبء إثبات الخطأ .
وقد قسم القانون المدني الجديد هذه الحالات إلى قسمين : قسم للمسئولية عن عمل الغير وآخر للمسئولية الناشئة عن الأشياء . ونستعرض كلا منهما .
الفرع الأول
المسئولية عن عمل الغير
663 – حالتان : يكون الشخص مسئولا عن عمل الغير في حالتين : ( الحالة الأولى ) هي حالة من تجب عليه رقابة شخص في حاجة إلى الرقابة ويكون مسئولا عن الأعمال الصادرة من هذا الشخص .
( والحالة الثانية ) هي حالة المتبوع ويكون مسئولا عن أعمال التابع .
المبحث الأول
مسئولية من تجب عليه الرقابة عمن هم في رقابته ( * )
( Responsabilite de surveillant du fait de son surveille )
664 – النصوص القانونية : كانت المادة 151 من القانون المدني الوطني القديم تنص على ما يأتي :
" وكذلك يلزم الإنسان بضرر الغير الناشئ عن إهمال من هم تحت رعايته أو عن عدم الدقة والانتباه منهم أو عن عدم ملاحظته اياهم " .
وكانت المادة 213 من القانون المدني المختلط القديم تنص على ما يأتي :
" يلزم الشخص كذلك بضرر الغير الناشيء عن تقصير من هم في رعايته أو عن إهمالهم أو عن عدم الدقة والانتباه منهم أو عن عدم ملاحظته إياهم " .
وكانت هذه النصوص معيبة من وجوه متعددة : ( 1 ) فهي من حيث الصياغة كانت قلقة مضطربة ، إذ تعرض تارة لمسئولية متولى الرقابة عمن هم تحت رعايته بناء على خطأ مفترض ، وتعرض طوراً لمسئولية متولى الرقابة بناء على خطأ ثابت في جانبه ، مع أن المقصود هو المسئولية الأولى ( [1273] ) . ( 29 ثم هي لم تبين في أي الأحوال وبأي الشروط يصبح الشخص متولياً الرقابة على غيره . ( 3 ) وهي أخيراً لم توضح أساس المسئولية ، وهل هي قائمة على خطأ مفترض ، وهل هذا الافتراض يقبل إثبات العكس ( [1274] ) .
فجاء القانون المدني الجديد بنصوص تجنب فيها هذه العيوب ، إذ نص في المادة 173 على ما يأتي :
" 1 - كل من يجب عليه قانونا أو اتفاقا رقابة شخص في حاجة إلى الرقابة ، بسبب قصره أو بسبب حالته العقلية أو الجسمية يكون ملزما بتعويض الضرر الذي يحدثه ذلك الشخص للغير بعمله غير المشروع . ويترتب هذا الالتزام ولو كان من وقع منه العمل الضار غير مميز " .
" 2 - ويعتبر القاصر في حاجة إلى الرقابة إذا لم يبلغ خمس عشر سنة ، أو بلغها وكان في كنف القائم على تربيته . وتنتقل الرقابة على القاصر إلى معمله في المدرسة أو المشرف على الحرفة ، مادام القاصر تحت إشراف المعلم أو المشرف . وتنتقل الرقابة على الزوجة القاصر إلى زوجها أو إلى من يتولى الرقابة على الزوج " .
" 3 - ويستطيع المكلف بالرقابة أن تخلص من المسئولية إذا أثبت أنه قام بواجب الرقابة ، أو أثبت أن الضرر كان لابد واقعا ولو قام بهذا الواجب بما ينبغي من العناية ( [1275] ) " .
ونبحث في صدد هذا النص أمرين : ( 1 ) متى تتحقق مسئولية متولى الرقابة ( 2 ) الأساس الذي تقوم عليه هذه المسئولية .
المطلب الأول
متى تتحقق مسئولية متولى الرقابة
665 – شرطان لتحقق المسئولية : تتحقق المسئولية إذا تولى شخص الرقابة على شخص آخر . وصدر ممن هو تحت الرقابة عمل غير مشروع ثبت في جانبه فأوجب مسئوليته . ومن ثم يكون متولى الرقابة مسئولا عن هذا العمل غير المشروع .
فتحقق المسئولية يستلزم إذن شرطين : ( 1 ) تولى شخص الرقابة على شخص آخر . ( 2 ) صدور عمل غير مشروع ممن هو تحت الرقابة .
1 – تولى الرقابة
666 – الالتزام بالرقابة : لا تتحقق المسئولية إلا إذا قام التزام بالرقابة . ومصدر هذا الالتزام إما أن يكون القانون أو الاتفاق كما يقول النص . مثل القانون الأب يتولى رقابة ابنه ، ومثل الاتفاق مدير مستشفى للأمراض العقلية يتولى رقابة مرضاه . فلا يكفي إذن أن يتولى شخص بالفعل رقابة شخص آخر حتى يكون مسئولا عنه ، بل يجب أن يكون هناك التزام قانونين أو اتفاقي بتولى هذه الرقابة . وقيام هذا الالتزام هو الذي ترتب عليه مسئولية متولى الرقابة .
وعلة هذا الالتزام كما جاء في النص ، حاجة الشخص الموضوع في رقابة غيره إلى هذه الرقابة ، إما بسبب قصره ، وإما بسبب حالته العقلية ، وإما بسبب حالته الجسمية . فالقاصر في حاجة إلى الرقابة بسبب قصره . والمجنون والمعتوه وذو الغفلة في حاجة إلى الرقابة بسبب حالتهم العقلية . والأعمى والمقعد والمشلول في حاجة إلى الرقابة بسبب حالتهم الجسمية . ومن هؤلاء من يتولى القانون إقامة رقيب عليهم ، كالقاصر والمجنون والمعتوه وذى الغفلة يضعهم القانون في رقابة الآباء أو أولياء النفس . ومنهم من تقوم الرقابة عليه بالاتفاق مع متولى الرقابة ، كمدير المستشفى والممرض يتفق معهما على تولى رقابة المرضى ( [1276] ) .
أما الرقابة التي لا تقوم بسبب القصر أو الحالة العقلية أو الحالة الجسمية ، كرقابة السجان على المسجونين ورقابة رئيس الحزب السياسي على أعضاء حزبه ( [1277] ) ، فلا تترتب عليها هذه المسئولية .
667 – الحالات التي يقوم فيها الالتزام بالرقابة : لم يحصر القانون الحالات التي يتولى فيها شخص الرقابة على غيره ، واكتفى بان قرار أن هذه الحالات تقوم إذا قام التزام بالرقابة قانوناً أو اتفاقاً والرقابة في الأصل تقوم على القاصر . فإذا بلغ سن الرشد انحلت عنه . إلا إذا وجد ما يدعو لبسط الرقابة عليه وهو بالغ . فنستعرض إذن هاتين الحالتين : حالة القصر وحالة البلوغ .
( 1 ) القاصر : اظهر حالات الرقابة هي كما قدمنا حالة القاصر . وقد عنى المشرع بها فخصص لها الفقرة الثانية من المادة 173 إذ يقول : " ويعتبر القاصر في حاجة إلى الرقابة إذا لم يبلغ خمس عشرة سنة ، أو بلغها وكان في كنف القائم على تربيته . وتنتقل الرقابة على القاصر إلى معلمه في المدرسة أو المشرف في الحرفة ما دام القاصر تحت إشراف المعلم أو المشرف ، وتنتقل الرقابة على الزوجة القاصر إلى زوجها أو إلى من يتولى الرقابة على الزوج " .
فالقصر إلى سن الخامسة عشرة – وهي سن بلوغ الحلم في الشريعة الإسلامية – يعتبر في حاجة إلى الرقابة اطلاقاً . ويكون عادة حتى بلوغ هذه السن في كنف من يقوم بتربيته . والذين يقومون بتربيته هم أولاً الأب إذا وجد ، فهو الولى الشرعي على النفس ، وهو المكل قانوناً بالرقابة على ولده . فإذا لم يوجد الأب تولى الرقابة القائم على تربية الولد . ويكون غادة ولى النفس من جد أو عم أو غيرهما . وقد تنتقل تربية الولد ، ولو بطريق الاتفاق الضمني ، من ولى النفس إلى الأم . وذلك كله إلى سن الخامسة عشرة . فإن بلغها الولد ، وتحرر فوق ذلك من قيود التربية ، ولم يعد يعيش في كنف أحد ، وأصبح يكسب عيشه بنفسه ، فلا يكون أحد مسئولا عنه . وهذه مسألة واقع لا مسألة قانون . أما إذا بقى يعيش في كنف من يقوم على تربيته بعد بلوغه الخامسة عشرة – وعبء الإثبات هنا على مدعى المسئولية – فالقائم على تربيته هو متولى الرقابة عليه ، قانونا إن كان ولى النفس واتفاقاً إن كان غيره ، ويبقى مسئولا عنه إلى أن يبلغ الود سن الرشد ، أو إلى أن ينفصل في معيشة مستقلة فلا يعود يعيش في كنف أحد ويتحرر من قيود الرقابة . والاستقلال في المعيشة هنا لا يعني حتما الاستقلال في المسكن ، فقد يكون الولد مقيما مع أبيه في مسكن واحد ولكنه مستقل عنه في المعيشة وليس للأب إشراف على تربيته فلا يكون مسئولا عنه ، وقد لا يكون الولد مقيما مع أبيه في مسكن واحد ولكن الأب يبقى مشرفاً على تربيته فيكون مسئولا ( [1278] ) .
ونرى من ذلك أن القاصر إلى سن الخامسة عشرة يجب أن يكون في رقابة أحد هو المسئول عنه ، ويكون الأب ، فإن لم يوجد فولى النفس ، إلا إذا انتقلت الرقابة اتفاقاً إلى الأم ( [1279] ) أو إلى غيرها . وبعد أن يبلغ الولد الخامسة عشرة ، فإن ظل يعيش في كنف من يقوم على تربيته بقى هذا مسئولا عنه ، إلى أن ينفصل الولد في معيشة مستقلة أو إلى أن يبلغ سن الرشد .
والولد وهو في كنف القائم على تربيته يكون في مرحلة التعليم . فإن ذهب إلى المدرسة انتقلت الرقابة عليه – وقت وجوده بالمدرسة فقط – إلى معلم الفصل ما دام فيه أو إلى رئيس المدرسة ما دام في المدرسة ( [1280] ) وإذا كانت المدرسة من مدارس الدولة ، كانت الدولة مسئولة عن المعلم أو الرئيس مسئولية المتبرع عن التابع ( [1281] ) وإن أخذ الولد يتعلم حرفة ، انتقلت الرقابة عليه إلى من يشرف على تعليمه الحرفة مدة وجوده تحت إشرافه . ولا ضرورة لوجود عقد صريح بالتمرين على الحرفة ، فالتمرين الفعلي يستخلص منه عقد ضمني ، وهذه مسألة واقع يترك تقديرها لقاضي الموضوع . ومتى فرغ الولد في يومه من المدرسة أو من تعلم الحرفة ، عادت الرقابة عليه إلى القائم على تربيته وكان هو المسئول عنه ( [1282] ) . ونرى من ذلك أن الولد ما دام في مرحلة التربية يكون دائماً تحت الرقابة ، وتنتقل الرقابة عليه من شخص إلى آخر بحسب الأحوال على النحو الذي قدمناه .
وقد يكون القاصر بنتاً تتزوج قبل بلوغها سن الرشد ، فتنتقل الرقابة عليها ممن كان قائماً على تربيتها إلى زوجها ، وهو الذي يكون مسئولاً عنها ما دامت قاصراً فإذا كان الزوج نفسه تقوم عليه الرقابة ، لقصره أو لأي سبب آخر ، فإن متولي الرقابة على الزوج يتولى الرقابة أيضاً على الزوجة ، ويكون مسئولاً عن كل منهما . فإذا ما بلغ الزوج سن الرشد ، ولم تبلغها الزوجة ، صار الزوج هو المتولي الرقابة على زوجته .
( 2 ) البالغ سن الرشد . فإذا بلغ الولد سن الرشد تحرر من الرقابة ، حتى لو كان لا يزال في دور التعلم وحتى لو بقى يعيش في كنف ذويه . ولا يكون أحد مسئولاً عنه . لا في البيت ولا في المدرسة ولا في الحرفة ذلك أنه ببلوغه سن الرشد أصبح في غير حاجة إلى الرقابة ، والتزام الرقابة إنما يقوم بقيام الحاجة إليه . وكذلك تتحرر الزوجة من رقابة زوجها ، أو رقابة متولي الرقابة على زوجها . متى بلغت سن الرشد ، إذ تصبح في غير حاجة إلى الرقابة كما قدمنا .
ومع ذلك قد تدعو الحاجة إلى الرقابة على من بلغ سن الرشد ، رجلاً كان أو امرأة . فلو أصيب البالغ سن الرشد بجنون أو بعته أو كان ذا غفلة ، قامت الرقابة عليه لتجدد الحاجة إليها نظراً لحالته العقلية . ويتولى الرقابة في هذه الحالة ولي النفس . أو الزوج ، أو الزوجة ( إذا كان هو الموضوع تحت الرقابة ) ، أو من تنتقل الرقابة إليه اتفاقاً كمدير المستشفي أو الطبيب أو الممرض أو من يقوم بالرقابة من الأقرباء ( [1283] )
كذلك لو أصيب البالغ سن الرشد بمرض أعجزه ، وجعله في حاجة إلى الرقابة نظراً لحالته الجسمية ، كأن كف بصره أو صار معقداً أو أصيب بالشلل ، تولى الرقابة عليه أتفاقاً من يتولى الإشراف على شؤونه الشخصية من زوج أو زوجة أو قريب أو مدير مستشفي أو طبيب أو ممرض أو نحو ذلك . ويكون هذا مسئولاً عنه ما بقى في رقابته .
صدور عمل غير مشروع ممن هو تحت الرقابة
668 - العمل غير المشروع يقع ممن هو تحت الرقابة ، لا يقع عليه :
فإذا قام الالتزام بالرقابة وتحدد طرفاه - متولي الرقابة والخاضع للرقابة –وجب لتحقق مسئولية متولي الرقابة أن يصدر عمل غير مشروع من الشخص الخاضع للرقابة :الولد أو التلميذ أو صبى الحرفة أو المجنون أو الأعمى أو نحو ذلك .
والعمل غير المشروع يجب أن يقع من الشخص الخاضع للرقابة ، لا أن يقع عليه . أما إذا وقع عليه فليست هناك مسئولية مفترضة . مثل ذلك يصيب أجنبي تلميذاً بالأذى في وقت يكون فيه التلميذ في رقابة رئيس المدرسة . فلا يكون هذا الرئيس مسئولاً عن خطأالأجنبي إلا في حدود القواعد العامة للمسئولية ، فيجب إذن إثبات خطأ في جانب الرئيس حتى يكون مسئولاً كذلك لا يكون الرئيس مسئولاً إلا على أساس خطأ يجب إثباته في جانبه إذا كان التلميذ قد ألحق الأذى بنفسه ، لأن العمل غير المشروع في هذه الحالة إذا كان قد أحدث ضرر أفقد وقع هذا الضرر على التلميذ لا منه ( [1284] ) . فالواجب إذن البدء بإثبات خطأ في جانب الشخص الخاضع للرقابة طبقاً للقواعد العامة ، حتى تتحقق مسئولية هذا الشخص . وقد تتحقق مسئوليته في بعض الحالات عن طريق افتراض خطأ في جانبه ، كما لو كان يسوق سيارة فدهس أحد العابرة ، فهو مسئول عن خطأ مفترض افتراضاً لا يقبل إثبات العكس ، ومتولي الرقابة عليه مسئول عنه على أساس خطأ مفترض افتراضاً يقبل إثبات العكس . فإذا ما تحققت مسئولية الخاضع للرقابة على أساس خطأ ثابت أو على أساس خطأ مفترض ، قامت إلى جانبها مسئولية متولي الرقابة . ونري من ذلك أن المسئولية الثانية لا تجب المسئولية الأولي ، ولكن تقوم إلى جانبها .
669 - حالة ما إذا كان الخاضع للرقابة غير مميز : وقد يكون الخاضع للرقابة غير مميز –صبياً غير مميز أو مجنوناً أو معتوهاً – فكيف يمكن إثبات وقوع عمل غير مشروع منه وهو لا يجوز في حقه الخطأ لانعدام التمييز فيه؟ نص الفقرة الأولي من المادة 173صريح في هذه المسألة إذ يقول : " ويترتب هذا الالتزام ولو كان من وقع منه العمل الضار غير مميز " . والخطأ الذي وقع هنا من غير المميز هو خطأ قام ركنه المادي أي ركن التعدي ، دون ركنه المعنوي أي ركن التمييز . ولذلك وصفه النص " بالعمل الضار " دون العمل غير المشروع أو الخطأ .
والذي يلفت النظر في مسئولية متولي الرقابة عن أعمال غير المميز أنها ، خلافاً للمسئولية عن أعمال المميز ، مسئولية أصلية لا تبعية . ذلك أن مسئولية متولي الرقابة عن أعمال المميز هي مسئولية تبعية ، تقوم بقيام مسئولية الشخص الموضوع تحت الرقابة . أما إذا كان هذا غير مميز ، فلا يمكن القول في هذه الحالة إن مسئوليته قد تحققت فتتحقق تبعاً لها مسئولية متولي الرقابة . بل الواجب أن يقال إن مسئولية متولي الرقابة هنا هي مسئولي أصلية قامت مستقلة ، وأساسها خطأ مفترض في جانب المسئول . ولا تستند هذه المسئولية إلى مسئولية غير المميز ، فإن هذا كما رأينا لا يكون مسئولاً إلا مسئوليةموضوعية مخففة عند تعذر الرجوع على متولي الرقابة ( م 164 فقرة 2 ) ( [1285] ) .
المطلب الثاني
الأساس الذي تقوم عليه مسئولية متولي الرقابة
670 - مسائل أربع :متى تحققت مسئولية متولي الرقابة على النحو الذي قدمناه ، قامت مسئوليته على أساس خطأ مفترض ( [1286] ) . والافتراض هنا قابل لإثبات العكس . فيستطيع متولي الرقابة أن يرفع المسئولية عنه بنفي الخطأ . ويستطيع كذلك رفع المسئولية بنفي علاقة السببية ، بأن يثبت السبب الأجنبي . فإذا لم ينف علاقة السببية ولم ينف الخطأ تحققت مسئوليته ، ولكن هذه المسئولية كما رأينا لا تجب مسئولية الشخص الخاضع للرقابة وهو الذي صدر منه العمل غير المشروع .
فعلينا أن نعالج مسائل أربعا ( 1 ) ما هو الخطأ المفترض في جانب متولي الرقابة ( 2 ) كيف ينفي هذا الخطأ المفترض ( 3 ) كيف ينفي علاقة السببية ( 4 ) أثر قيام المسئوليتين في وقت وأحد :مسئولية متولي الرقابة ومسئولية الخاضع للرقابة .
671 - ما هو الخطأ المفترض في جانب متولي الرقابة : الخطأ المفترض في جانب متولي الرقابة هو الإخلال بهذا الواجب بما ينبغي من العناية . فإذا ارتكب القاصر مثلاً عملاً غير مشروع ، افترضنا أن من يتولى الرقابة عليه قد قصر في رقابته ، فمكنه بهذا التقصير من ارتكاب هذا العمل . ويتسع افتراض الخطأ لمدى أبعد ، فيفترض أيضاً أن متولي الرقابة قد أساء تربية الشخص المعهود إليه رقابته ، فهيأ له بسوء التربية سبيل العمل غير المشروع ( [1287] ) ونرى من ذلك أن القاصر مثلاً إذا ارتكب عملاً غير مشروع . وكان من يتولى عليه ويقو م على تربيته هو أبوه ، فالمفروض أن الأب إما أن يكون قد قصر في رقابة ولده ، أو أنه أساء تربيته ، أو أنه ارتكب الخطأين معاً :قصر في الرقابة وأساء التربية .
ويلاحظ أن افتراض هذا الخطأ لا يقوم إلا في العلاقة ما بين متولي الرقابة والمضرور ، فهو افتراض قرره القانون لصالح المضرور تجاه متولي الرقابة ، ولا يجوز أن يقوم ضد الشخص الخاضع للرقابة . ومن ثم لا يجوز لا للمضرور ولا لمتولي الرقابة أن يحتج به قبل الشخص الخاضع للرقابة ، بل يجب للرجوع على هذا إثبات خطأ في جانبه ( [1288] ) .
ويلاحظ أيضاً أنه لا مانع من اجتماع هذه المسئولية القائمة على خطأ مفترض والمسئولية القائمة على خطأ واجب الإثبات . ويتقدم هو لإثبات خطأ في جانبه ، فيمنعه بذلك من نفي الخطأ المفترض . كذلك لا مانع من اجتماع هذه المسئولية ومسئولية المتبرع عن التابع . فإذا عمل قاصر في خدمة شخص وارتكب خطأ أضر بالغير ، قام إلى جانب مسئوليته القائمة على خطأ ثابت مسئوليتان أخريان الخطأ في كل منهما مفترض : مسئولية والد القاصر وتقوم على خطأ مفترض افتراضاً يقبل إثبات العكس كما رأينا ، ومسئولية المخدوم الذي يعمل القاصر في خدمته وتقوم في بعض الآراء على الخطأ مفترض افتراضاً لا يقبل إثبات العكس كما سنرى . ويجوز للمضرور أن يرجع على كل من متولي الرقابة والمخدوم بكل التعويض ، ومن دفع منها التعويض رجع بنصفه على الآخر . وهذا كله دون إخلال برجوع كل منهما على القاصر بما دفعه للمضرور .
672 - كيف ينفي متولي الرقابة الخطأ المفترض : رأينا أن الفقرة الثالثة من المادة 173تنص على ما يأتي : " ويستطيع المكلف بالرقابة أن يخلص من المسئولية إذا أثبت أنه قام بواجب الرقابة " . فالخطأ المفترض في جانب متولي الرقابة هو إذن خطأ مفترض افتراضاً قابلاً لإثبات العكس . ويستطيع متولي الرقابة – وهو الذي يحمل عبء الإثبات ما دام الخطأ مفترضاً في جانبه - أن ينفي هذا الخطأ عنه بأنه يثبت أنه قام بواجب الرقابة بما ينبغي من العناية ، وأنه أتخذ الاحتياطات المعقولة ليمنع من نيطت به رقابته من الإضرار بالغير فإن فعل ذلك ، انتفي الخطأ المفترض في جانبه ، وارتفعت عنه المسئولية ( [1289] ) على أن القيام بواجب الرقابة يشمل كما رأينا إحسان التربية ، وخاصة إذا كان متولي الرقابة أبا وأما . . ونبني على ذلك أنه لا يكفي أن يثبت الأب أنه قام بواجب الرقابة باتخاذ الاحتياطات المعقولة ، فلا يزال افتراض أنه أساء تربية ولده قائماً في جانبه ، ولا يلزم المضرور أن يثبت أن الأب أساء التربية ، بل الأب هو الذي يثبت أنه لم يسئ تربية ولده ( [1290] ) . وجملة القول إن متولي الرقابة عليه أن يثبت أنه لم يرتكب تقصيراً في الرقابة في خصوص الخطأ الذي صدر ممن هو في رقابته ، وأنه بوجه عام لم يسئ تربيته .
673 - كيف ينفي متولي الرقابة علاقة السببية : وليس الخطأ في جانب متولي الرقابة هو وحده المفترض ، بل تفترض معه أيضاً علاقة سببية ما بين هذا الخطأ المفترض وبين العمل غير المشروع الذي صدر ممن هو تحت الرقابة . ذلك أنه إذا لم تفترض علاقة سببية تبعاً لافتراض الخطأ ، لكان افتراض الخطأ عبثاً لا يجدي . فإن المضرور إذا أعفى من إثبات الخطأ في جانب متولي الرقابة ، ثم طولب بإثبات علاقة السببية ما بين هذا الخطأ والعمل غير المشروع الذي وقع ممن قامت عليه الرقابة ، لأضطر وهو في صدد إثبات علاقة السببية أن يثبت الخطأ أيضاً . إذ تقضى طبيعة الأشياء أن من يثبت العلاقة ما بين أمرين يثبت في الوقت ذاته الأمرين اللذين تقوم العلاقة بينهما . فتكون قد بدأنا بإعفاء المضرور من إثبات الخطأ ، ثم طالبناه بعد ذلك بإثباته ، فسلبناه باليسار ما أعطيناه باليمين ( [1291] ) .
فعلاقة السببية إذن مفترضة ، لا يكلف المضرور بإثباتها ، ومتولي الرقابة هو الذي يكلف بنفيها . والنص صريح في هذا المعنى ، إذ تقول الفقرة الثالثة من المادة 173في عبارتها الأخيرة إن المكلف بالرقابة يستطيع أن يتخلص من المسئولية إذا هو " أثبت أن الضرر كان لا بد واقعاً ولو قام بهذا الواجب بما ينبغي من العناية " . ويكفي في ذلك أن يثبت أن هذا الضرر قد وقع دون أن يكون لوقوعه أية علاقة بالخطأ المفترض في جانبه . فوقوعه بالنسبة إلى متولي الرقابة لا بالنسبة إلى من هو تحت الرقابة ( [1292] ) ، كان بسبب أجنبي ، بأن قامت قوة قاهرة أو حادث مفاجئ أو وقع خطأ من المضرور أو خطأ من الغير ، وكان من شأن هذا أن تقع الصلة ما بين التقصير في جانب متولي الرقابة وبين الضرر الذي أصاب المضرور ، بأن كان هذا الضرر يقع حتى لو أتخذ متولي الرقابة كل الاحتياطات المعقولة لمتعة؛فلم يكن الخطأ المفترض في جانب متولي الرقابة هو السبب في حدوث الضرر . مثل ذلك أن يقع الحادث الذي سبب الضرر وقوعاً مفاجئاً بحيث لم يكن من الممكن توقعه ولا من المستطاع تلافيه ( [1293] ) .
ويخلص من ذلك أن متولي الرقابة ترتفع عنه المسئولية بأحد أمرين ، إما بأن ينفي الخطأ المفترض في جانبه فينعدم ركن الخطأ ، وإما بأن يثبت السبب الأجنبي على النحو الذي قدمناه فينعدم ركن السببية . وفي الحالتين يبقى من أحدث الضرر . وهو من قامت عليه الرقابة ، مسئولاً عن العمل غير المشروع الذي صدر منه . وفقاً للقواعد العامة في المسئولية ( [1294] ) .
674 - قيام مسئولية الشخص الخاضع للرقابة إلى جانب مسئولية متولي الرقابة :
وغنى عن البيان أن قيام مسئولية متولي الرقابة على النحو الذي بيناه لا يمنع من أن تقوم إلى جانبها مسئولية الشخص الخاضع للرقابة ، وهو الشخص الذي صدر منه العمل غير المشروع . ويستطيع المضرور إذن أن يرجع على من ارتكب الخطأ بالذات إن كان عنده مال ، فإن استوفي منه كل التعويض المستحق فلا رجوع له بعد ذلك على متولي الرقابة . وإذا رجع على متولي الرقابة واستوفي منه كل التعويض ، فلا رجوع له بعد ذلك على من ارتكب الخطأ ( [1295] ) . والذي تجب مراعاته هو ألا يستولي المضرور على تعويضين عن ضرر وأحد ، بل يستوفي تعويضاً واحداً ، إما من متولي الرقابة ، وإما ممن ارتكب الخطأ ، وإما منهما معاً مسئولين أمامه بالتضامن .
ويغلب أن يرجع المضرور على متولي الرقابة لأنه هو المليء . لكن يجوز للمضرور أن يرجع على من ارتكب الخطأ كما قدمناه ، وفي هذه الحالة لا يرجع من ارتكب الخطأ بشيء على متولي الرقابة ، لأن الخطأ الذي أوجب المساءلة هو خطأ الأول لا خطأ الثاني . أما إذا رجع المضرور على متولي الرقابة ، جاز لهذا أن يرد على من ارتكب الخطأ . فإن كان من ارتكب الخطأ مميزاً رجع عليه متولي الرقابة بكل ما دفعه . ولا يقسم التعويض بينهما لأن الخطأ هو خطأ الأول كما سبق القول . وإن كان غير مميز ، فلا رجوع لمتولي الرقابة عليه بشيء . لأن عديم التمييز غير مسئول عن الخطأ . ولا يترتب في ذمته إلا مسئولية مخففة نحو المضرور لا نحو متولي الرقابة بشروط بيناها فيما تقدم . ويعتبر متولي الرقابة في هذه الحالة هو المسئول الأصلي . وهذا هو الذي تعنيه المادة 175من القانون الجديد . إذ تنص على ما يأتي : " للمسئول عن عمل الغير حق الرجوع عليه في الحدود التي يكون فيها هذا الغير مسئولاً عن تعويض الضرر " ( [1296] ) . والمسئول عن عمل الغير هو متولي الرقابة والمتبوع وسنرى أن المتبوع يرجع على التابع بما دفع من التعويض ، أما متولي الرقابة فقد رأينا أنه يرجع على المميز ، ولا يرجع على غير المميز ، وهذه هي حدود مسئولية الغير عن تعويض الضرر التي أشار إليها النص .
المبحث الثاني
مسئولية المتبوع عن التابع ( ( [1297] ) )
( Responsabilite du commettant dufait de son prepose )
675 - النصوص القانونية :كان القانون المدني القديم ينص في المادتين 152 / 214على ما يأتي :
" يلزم السيد أيضاً بتعويض الضرر الناشئ عن أفعال خدمته متى كان واقعاً منهم في حالة تأدية وظائفهم "
وكان هذا النص يعيبه أنه لم يحدد علاقة التبعية ، وأنه يضيق عن أن ينتظم جميع أعمال التابع التي يكون المتبوع مسئولاً عنها .
فجاء القانون المدني الجديد وأصلح هذه العيوب ، إذ نص في المادة 174على ما يأتي :
" 1 - يكون المتبوع مسئولاً عن الضرر الذي يحدثه تابعه بعمله غير المشروع متى كان واقعاً في حال تأدية وظيفته أو بسببها " .
" 2 - وتقوم رابطة التبعية ولو لم يكن حراً في اختيار تابعه متى كانت له عليه سلطة فعلية في رقابته وتوجيه ( [1298] ) " .
ويتبين من هذا النص أن القانون الجديد تجنب العيبين اللذين أشرنا إليهما في القانون القديم . فوسع من دائرة الأعمال التي يسأل عنها المتبوع ، إذ ذكر أنها الأعمال التي تقع من التابع في حالة تأدية وظيفته أو بسببها ، وفي هذا لم يفعل القانون الجديد إلا أن يسجل ما جرى عليه القضاء المصري في هذه المسألة .
ثم حدد علاقة التبعية بأنها تقوم على سلطة فعلية في الرقابة والتوجيه . ولا تقوم ضرورة على حق الاختيار ، وهذا أيضاً ما كان القضاء المصري يجري عليه ، ولم يزد القانون الجديد على أن سجله .
فنصوص القانون الجديد في هذا الموضوع ، وإن كانت أدق وأكثر وضوحاً من نصوص القانون القديم ، لم تستحدث جديداً ، بل اقتصرت على تسجيل الأحكام التي اقرها القضاء المصري .
ونبحث هنا ، كما بحثنا في مسئولية متولي الرقابة ، أمرين ( 1 ) متى تتحقق مسئولية المتبوع عن التابع ( 2 ) الأساس الذي تقوم عليه هذه المسئولية .
المطلب الأول
متى تتحقق مسئولية المتبوع
676 - شرطان :تتحقق المسئولية إذا قامت علاقة تبعية ما بين شخصين متبوع وتابع ، وارتكب التابع في حالة تأدية وظيفته أو بسببها خطأ أحدث ضرراً .
فتحقق المسئولية يستلزم إذن توافر شرطين : ( 1 ) علاقة التبعية ( 2 ) خطأ التابع في حالة تأدية وظيفته أو بسببها .
1 - علاقة التبعية
( lien de preposition )
677 - عنصران : تقوم علاقة التبعية في كثير من الحالات على عقد الخدمة . ولكنها لا تقتضي حتما وجود هذا العقد ، بل هي لا تقتضي أن يكون التابع مأجوراً من المتبوع على نحو دائم ، أو أن يكون مأجوراً على الإطلاق . فلا ضرورة إذن ، في قيام علاقة لأن يكون هناك عقد أصلاً بين الاثنين /
وقد بينت الفقرة الثانية من المادة 174من القانون المدني الجديد ما هو المقصود بعلاقة التبعية . إذ نصت على ما يأتي : " وتقوم رابطة التبعية ولو لم يكن المتبوع حراً في اختيار تابعه متى كانت له عليه سلطة فعلية في رقابته وتوجيهه " فعلاقة التبعية تقوم إذن على هذه السلطة الفعلية في الرقابة والتوجيه التي تثبت للمتبوع على التابع ( [1299] ) . ونستعرض هذين العنصرين : ( 1 ) عنصر السلطة الفعلية ( 2 ) وعنصر الرقابة والتوجيه .
678 - عنصر السلطة الفعلية :تقوم علاقة التبعية على سلطة فعلية . فليس ضرورياً من جهة أن تكون هذه السلطة عقدية تقوم على الاختيار ، ولا أن تكون من جهة أخرى سلطة شرعية .
ليس من الضروري أن تكون سلطة عقدية تقوم على الاختيار وقد قدمناه أن علاقة التبعية لا تقتضي حتماً أن يكون هناك عقد بين التابع والمتبوع . وقد يوجد هذا العقد . بل هو موجود في كثير من الأحوال ، ويغلب أن يكون عقد عمل . فالعامل والخادم والطاهي والسائق والمستخدم والموظف ، كل هؤلاء تابعون ومتبوعهم هو رب العمل أو سيد البيت أو صاحب المتجر أو الحكومة . ولكن علاقة التبعية ، حتى في هذه الأحوال ، لا تقوم على عقد العمل . فلو أن هذا العقد كان باطلاً ، لبقيت مع ذلك علاقة التبعية قائمة ما دامت هناك سلطة فعلية للمتبوع على التابع . بل ليس من الضروري أن يكون المتبوع قد اختار شخص تابعه . ويعتبران خطأ المتبوع المفترض هو خطأ في الاختيار ( culpa ineligendo ) . ولكنهما نبذا هذا الرأي تدرجاً فأجاز أولاً أن يكون الاختيار مقيداً . أي محصوراً في أشخاص معينين لا يملك المتبوع أن يختار تابعه إلا منهم . كما إذا كان الاختيار موكولاً إلى مسابقة يشترط للتقدم إليها مؤهلات خاصة . ثم أجازا بعد ذلك أن يكون الاختيار مفروضاً على المتبوع . كالسفينة تدخل في الميناء فيقودها " مرشد " لا تملك أن تختار سواه . وكمجلس بلدي يقوم بالعمل عنده موظفون تعينهم الحكومة فلا يد له في اختيارهم وكما أنه ليس من الضروري أن يكون للمتبوع حق اختيار تابعه . كذلك ليس من الضروري أن يملك أمر فصله وهذا هو شأن موظفي المجلس البلدي اللذين عينتهم الحكومة ، فالمجلس لم يخترهم ولا يملك أمر فصلهم ، بل الحكومة هي التي تعينهم وتفصلهم . ومع ذلك فإنهم يعتبرون تابعين للمجلس البلدي لا للحكومة .
وليس من الضروري أن تكون السلطة شرعية ، بل يكفي أن تكون سلطة فعلية . فقد لا يكون للمتبوع الحق في هذه السلطة ، بأن يكون استمدها من عقد باطل أو عقد غير مشروع أو اغتصبها دون عقد أصلاً ، ولكنه مادام يستعملها فعلاً بل ما دام يستطيع أن يستعملها حتى لو لم يستعملها بالفعل ، فهذا كاف في قيام علاقة التبعية ( [1300] ) .
679 - عنصر الرقابة والتوجيه : ويجب أن تكون هذه السلطة الفعلية منصبة على الرقابة والتوجيه ( [1301] ) . فالمتبوع لا بد أن تكون له السلطة في أن يصدر لتابعه من الأوامر ما يوجهه بها في عمله ولو توجيها عاماً ( [1302] ) . وان تكون له الرقابة عليه في تنفيذ هذه الأوامر ( [1303] ) .
ولا يكفي أن يكون هناك مطلق رقابة وتوجيه . فالأب له الرقابة على ولده . ومعلم الحرفة يوجه صبيه ، ولا يستلزم هذا أن يكون الولد تابعاً للأب ولا أن يكون الصبي تابعاً لمعلم الحرفة . بل لا بد أن تكون هذه الرقابة والتوجيه في عمل معين يقوم به التابع لحساب المتبوع ( [1304] ) . وهذا ما يميز المتبوع عن الأب ومعلم الحرفة ومقدم العمال . إذ الأب له الرقابة على ولده ولكن في غير عمل معين ، ومعلم الحرفة ومقدم العمال لهما الرقابة والتوجيه على الصبية والعمال في عمل معين ، ولكن الصبية لا يقومون بهذا العمل لحساب معلمهم بل ليتدربوا على العمل . والعمال لا يقومون بالعمل لحساب المقدم عليهم بل لحساب رب العمل ، فهم والمقدم معهم تابعون جميعاً لرب العمل ( [1305] ) . وتتراخى علاقة الرقابة والتوجيه ، حتى إذا لم يبق لدى المتبوع سلطة كافية في الرقابة والتوجيه انعدمت علاقة التبعية . فالأطباء الذين يعملون في مستشفي لحسابهم لا يعتبرون تابعين لإدارة المستشفي . وأعضاء الجمعية لا يعتبرون تابعين لها . والشركاء لا يعتبرون تابعين للشركة ( [1306] ) . والمقاول إذا كان مستقلاً لا يعتبر تابعاً لرب العمل ، وهذا فرق ما بين عقد العمل وعقد المقاولة ( [1307] ) . وإذا أعار شخص سيارته لصديق وترك له زمامها فلا يعتبر الصديق تابعاً لصديقه ، ولكن إذا ترك الأب سيارته لولده يقودها وأشرف عليه في قيادتها اعتبر تابعاً لأبيه ( [1308] ) . وإذا استأجر صاحب السيارة سائقاً اعتبر هذا السائق تابعاً له ( [1309] ) . أما إذا استأجر شخص سيارة بالأجرة ( تاكسي ) فإن السائق لا يكون له تابعاً له لأنه مستقل عنه وليس للراكب عليه حق الرقابة والتوجيه ( [1310] ) أما العلاقة فيما بين الموكل والوكيل فقد تكون علاقة تبعية أو لا تكون . تبعاً لما إذا كان الوكيل خاضعاً أو غير خاضع لرقابة الموكل وتوجيهه في العمل الذي عهد به إليه ( [1311] ) .
وقد تتوزع الرقابة والتوجيه بين أكثر من شخص وأحد . فإذا استخدم عدة أشخاص شخصاً واحداً في عمل مشترك لهم . كانوا كلهم متبوعين لمستخدمهم وكانوا مسئولين عن عمله بالتضامن فيما بينهم . وقد يقوم شخص بأعمال متفرقة لأشخاص متعددين . كالخادم تقوم بالشؤون المنزلية لأسرات متعددة في أوقات متعاقبة فتنتقل من منزل إلى آخر . ونكون في هذه الحالة تابعة للمخدوم الذي تقوم بشؤون منزله في الوقت الذي تؤدي فيه هذا العمل ( [1312] ) . وقد يعير المتبوع تابعه لشخص آخر ، فإذا استبقى المعير رقابته وتوجيهه بقى متبوعاً ، أما إذا انتقلت الرقابة والتوجيه إلى المستعير كان هذا هو المتبوع . مثل ذلك شخص يعير سيارته مع سائقها لصديق ، فإن انتقلت الرقابة والتوجيه إلى الصديق وبخاصة إذا كانت الإعارة لمدة طويلة أصبح السائق تابعاً له ( [1313] ) ويظل السائق تابعاً لمتبوعه الأول إذا كان هذا قد احتفظ لنفسه بحق الرقابة والتوجيه .
وليس من الضروري أن يكون المتبوع قادراً على الرقابة والتوجيه من الناحية الفنية ، بل يكفي أن يكون من الناحية الإدارية هو صاحب الرقابة والتوجيه . فصاحب السيارة حتى لو لم يكن يعرف القيادة متبوع لسائقها ، وصاحب المستشفي متبوع لأطبائه الذين يعملون لحسابه في المستشفي حتى لو لم يكن هو نفسه طبيباً ( [1314] ) وقد يكون المتبوع غير قادر على الرقابة والتوجيه حتى من الناحية الإدارية . كأن يكون صغيراً أو غير مميز . فينوب عنه نائبه من ولي أو وصى أو قيم ، في القيام بالرقابة على التابع وفي توجيهه ( [1315] ) .
2 - خطأ التابع في حالة تأدية وظيفته أو بسببها
680 - أمران : متى قامت علاقة التبعية بين شخصين على النحو الذي قدمناه ، فإن مسئولية المتبوع عن التابع تتحقق إذا ارتكب التابع خطأ أضر بالغير في حالة تأدية وظيفته أو بسببها . وهذا ما نصت عليه صراحة الفقرة الأولي من المادة 174 : " يكون المتبوع مسئولاً عن الضرر الذي يحدثه تابعه بعمله غير المشروع متى كان واقعاً منه في حال تأدية وظيفته أو بسببها " .
فيشترط إذن أمران ( 1 ) أن يرتكب التابع خطأ يضر بالغير ( 2 ) وأن يرتكب هذا الخطأ في حال تأدية وظيفته أو بسببها .
681 - خطأ يرتكبه التابع يضر بالغير : لا تقوم مسئولية المتبوع إلا إذا تحققت مسئولية التابع فإن الأولي فرع عن الثانية ( [1316] ) .
وحتى تقوم مسئولية التابع يجب أن تتوافر بالنسبة إليه أركان المسئولية الثلاثة : والخطأ والضرر وعلاقة السببية .
فيجب إذن على المضرور . حتى في رجوعه على المتبوع . أن يثبت خطأ التابع . ومن الجائز في بعض الحالات أن تتحقق مسئولية التابع على أساس خطأ مفترض . مثل ذلك أن يكون التابع مدرساً في مدرسة أميرية . فتقوم مسئوليته عن تلاميذه على أساس خطأ مفترض افتراضاً يقبل إثبات العكس . فإذا لم يثبت العكس كان مسئولاً بمقتضى هذا الخطأ المفترض وكانت الحكومة مسئولة عنه باعتبارها متبوعاً . ومثل ذلك أيضاً أن يقود التابع سيارة هو الحارس لها ، ويدهس أحد العابرة حال تأدية وظيفته أو بسبب هذه الوظيفة ، فإن مسئولية تتحقق في هذه الصورة على أساس خطأ مفترض افترضاً لا يقبل إثبات العكس باعتباره الحارس للسيارة ، وتتحقق معها مسئولية المتبوع . فالقاعدة إذن أنه حيث تتحقق مسئولية التابع ، بناء على خطأ واجب الإثبات أو بناء على خطأ مفترض افتراضاً قابلاً لإثبات العكس أو غير قابل لذلك ، فإن مسئولية المتبوع تقوم إلى جانب مسئولية التابع ( [1317] ) .
ويجب على المضرور كذلك أن يثبت أن خطأ التابع قد ألحق به الضرر . وسنرى أنه يجوز أن يكون المضرور هو أيضاً تابعاً لنفس المتبوع ، فيبقى المتبوع مسئولاً أمامه عن خطأ الأول . أما إذا كان المضرور هو المتبوع ذاته ، فسترى أن التابع لا يستطيع أن يتمسك بخطأ مفترض ضده ليتخفف من المسئولية ، وكذلك إذا كان المضرور هو التابع وقد ألحق الأذى بنفسه وهو في خدمة متبوعة ، فسنرى أنه لا يرجع على المتبوع بخطأ مفترض .
682 - حال تأدية الوظيفة أو بسببها - القاعدة العامة : ويجب أن يكون التابع قد ارتكب الخطأ حال تأدية وظيفته أو بسببها . وهذا هو الضابط الذي يربط مسئولية المتبوع بعمل التابع . ويبرر في الوقت ذاته هذه المسئولية . فإنه لا يجوز إطلاق مسئولية المتبوع عن كل خطأ يرتكبه التابع ، وإلا كانت هذه المسئولية غير مستساغة ولا معقولة إذا اقتصرت على الخطأ الذي يرتكبه التابع حال تأدية وظيفته أو بسببها ، ففي هذه الحدود وحدها يقوم الأساس الذي تبنى عليه مسئولية المتبوع ، سواء كان هذا الأساس خطأ مفترضاً أو ضماناً أو امتداداً لشخصية المتبوع على النحو الذي سنبسطه فيما بعد .
والقاعدة هي أن يقع الخطأ من التابع وهو يقوم بعمل من أعمال وظيفته أو أن يقع الخطأ منه بسبب هذه الوظيفة . فلا يكفي أن يقع الخطأ بمناسبة الوظيفة ( aloccasion de la fonction ) ، بأن تكون الوظيفة قد سهلت ارتكاب الخطأ أو ساعدت عليه أو هيأت الفرصة لارتكابه ( [1318] ) . بل يجب إذا لم يكن الخطأ قد وقع في عمل من أعمال الوظيفة ، أن تكون هناك في القليل علاقة سببية وثيقة بين الخطأ والوظيفة ، بحيث يثبت أن التابع ما كان يستطيع ارتكاب الخطأ أو ما كان يفكر في ارتكابه لولا الوظيفة . ويستوي أن يتحقق ذلك عن طريق مجاوزة التابع لحدود وظيفته . أو عن طريق الإساءة في استعمال هذه الوظيفة ، أو عن طريق استغلالها ( [1319] ) . ويستوي كذلك أن يكون خطأ التابع قد أمر به المتبوع أو لم يأمر ( [1320] ) ، علم له أو لم يعلم ( [1321] ) . عارض فيه أو لم يعارض ( [1322] ) . ويستوي أخيراً أن يكون التابع في ارتكابه للخطأ قد قصد خدمته متبوعه أو اندفع إلى الخطأ بحافز شخصي ( [1323] ) . يستوي كل ذلك ما دام الشرط الذي أسلفناه ذكره قد توافر ، فلم يكن التابع ليستطيع ارتكاب الخطأ أو لم يكن ليفكر في ارتكابه لولا الوظيفة ( [1324] ) .
وإذا كان لا يكفي لمساءلة المتبوع أن يقع الخطأ بمناسبة الوظيفة ، فأولي ألا تتحقق هذه المساءلة إذا كان خطأ التابع أجنبياً عن الوظيفة لا تربطه بها أي علاقة .
ويخلص لها مما قدمناه حالات أربع : ( 1 ) الخطأ في تأدية الوظيفة . ( 2 ) الخطأ بسبب الوظيفة ( 3 ) الخطأ بمناسبة الوظيفة ( أو الخطأ الذي هيأت له الوظيفة ) .
( 4 ) الخطأ الأجنبي عن الوظيفة .
والخطأ في الحالتين الأوليين يحقق مسئولية المتبوع ، ولا يحققها في الحالتين الأخيرتين . ونستعرض كلا من الحالات الأربع .
683 - الخطأ في تأدية الوظيفة : الأصل أن الخطأ الذي يرتكبه التابع . فتتحقق به مسئولية المتبوع . يقع وهو عملاً من أعمال وظيفته . فسائق السيارة ، وهو تابع لصاحبها . إذا دهس شخصاً في الطريق عن خطأ يكون قد ارتكب هذا الخطأ وهو يقود السيارة مسئولاً عن هذا الخطأ والخادم وهو يقوم بأعمال النظافة في منزل مخدومة . فيلقي خطأ في الطريق جسيماً صلباً يؤذي أحد المار . يرتكب الخطأ وهو يؤدي عملاً من أعمال وظيفته ، فيكون المخدوم مسئولاً عنه . وخفير الدرك وهو يضبط المتهم ، فيطلق عياراً نارياً عن خطأ منه فتصيب مقتلاً من المتهم ، يكون قد ارتكب خطأ وهو يؤدي عملاً من أعمال وظيفة ، وتكون الحكومة مسئولة عنه . والطبيب الذي يعمل لحساب مستشفي . إذا أخطأ في علاج مريض ، يكون قد ارتكب الخطأ وهو يؤدي عملاً من أعمال وظيفته ، فتكون إدارة المستشفي مسئولة عنه وقس على هذه الأمثلة كثيراً غيرها ( [1325] ) .
وقد قدمنا أنه يستوي أن يكون الخطأ في تأدية الوظيفة قد وقع بناء على أمر من المخدوم ، أو يغير أمر منه ولكن بعمله, أو بغير علم منه ولكن دون معارضة ، أو وقع الخطأ بالرغم من معارضة المخدوم . والخطأ في جميع هذه الأحوال هو, كما عرفناه ، انحراف عن السلوك المألوف للرجل المعتاد .
684 - الخطأ بسبب الوظيفة : وقد يرتكب التابع الخطأ وهو لا يؤدي عملاً من أعمال وظيفته ، ولكن الوظيفة تكون هي السبب في ارتكابه لهذا الخطأ فيكون المتبوع مسئولاً عنه في هذه الحالة ، لأن هناك علاقة وثيقة بين الخطأ والوظيفة ، إذ كانت الوظيفة هي السبب المباشر للخطأ .
ولا يكفي القول بالسببية المباشرة لتحديد الحالة التي نحن بصددها بل يجب أن نسير خطوة أبعد في هذا التحديد . ونورد طائفتين من الأمثلة تقتطفها من أحكام القضاء المصري ، لنستخلص المعيار الذي يصلح أساساً لكل طائفة منهما .
الطائفة الأولي : ( ! ) أحب خفير امرأة متزوجة ، فاستدرج زوجها إلى دركه ليلاً وقتله لتخلص له الزوجة ، فقضت محكمة النقض بأن الحكومة مسئولة عن عمل الخفير ، وقالت : " إذا كان الخطأ الذي وقع من المتهم ، وضر به المدعى بالحق المدني ، إنما رقع منه بوصفه خفيراً وفي الليل وفي الدرك المعين لتأدية خدمته فيه وبالسلاح المسلم إليه من الحكومة التي استخدمته ، وأنه إنما تذرع بوظيفته في التضليل بالمجني عليه حتى طاوعه وجازت عليه الخدعة ، ثم تمكن من الفتك هي التي سهلت له ارتكاب جريمته ، فمسئولية الحكومة من تعويض الضرر الذي تسبب فيه المتهم باعتباره خفيراً معيناً من قبلها ثابتة : سواء على أساس أن الفعل الضار وقع منه أثناء تأدية وظيفته ، أو على أساس أن الوظيفة هي التي هيأت له ظروف ارتكابه ( [1326] ) "
( 2 ) ذهب صراف إلى المركز في عمل من أعمال وظيفته . فكلف العمدة خفيرين بحراسته ، فانقض عليه الخفيران في الطريق وقتلاه . وقد قضت محكمة الاستئناف الوطنية بأن الجريمة ارتكبت في أثناء تأدية الخفيرين لوظيفتهما ، فتكون الحكومة مسئولة عنهما ( [1327] ) .
( 3 ) ذهب كونستابل في مهمة رسمية ومعه مسدسه ، فزار في الطريق بعض أقاربه ، وفي أثناء الزيارة عبث بالمسدس فانطلق وأصاب مقتلاً من صبي كان بجانبه . فاعتبرت محكمة النقض الحكومة مسئولة عن عمل الكونستابل ، وقالت في أسباب حكمها إن المادة152 ( قديم ) إذا تقرر مسئولية السيد عن الضرر الناشئ للغير عن أفعال خدمه متى كان واقعاً منهم في حال تأدية وظائفهم قد عممت ، فلم تجعل المسئولية واجبة فقط عن الأضرار الناشئة من تأدية الوظيفة نفسها ، بل جعلتها واجبة أيضاً عن الأضرار الناشئة عن كل فعل وقع حال تأدية الوظيفة ولو لم يكن من أعمال الوظيفة ذاتها ولكن هيأه للخادم أداؤه الوظيفة بحيث لولا هذا الأداء ما كان هذا الفعل ليقع كما وقع . فإذا كان الضرر الذي وقع من الموظف نتيجة عبثه بسلاح تسلمه بحكم وظيفته ، فالوزارة التي هو تابع لها مسئولة عن تعويض هذا الضرر ( [1328] ) " .
( 4 ) كلف سيد خادمه بإحضار أحد العمال لإصلاح سيارته ، وأعطاه بطاقتين ليشتري بهما " البنزين " فأحضرت الخادم عاملاً فحص السيارة وقرر أن ليس بها عطل ، فأخذها الخادم واشترى البنزين ، وذهب يبحث عن سيده ليسلمه السيارة ، فأصاب أحد العابرة بخطئه . فقضت محكمة النقض بمسئولية السيد عن الخادم ، قالت في أسباب حكمها : " السيد مسئول عن خطأ تابعه ولو كان هذا الخطأ قد وقع منه وهو متجاوز حدود وظيفته ، ما دامت وظيفته هي التي هيأت له إتيان خطئه . المستوجب للمسئولية ( [1329] ) .
( 5 ) ترصد فراش لناظر مدرسته معتزماً اغتياله لاعتقاده أن الناظر يضطهده واقترب الفراش من سيارة الناظر متظاهراً أنه يفتح له بابها بصفته رئيساً له وقتله بسكين أعدها لهذا الغرض . فاعتبرت محكمة النقض الحكومة مسئولة عن الفراش ، وقالت في أسباب حكمها : " إذا كان الفعل لم يقع من التابع وقت تأدية وظيفته بالذات ، ففي هذه الحالة تقوم المسئولية كلما كانت الوظيفة هي التي ساعدت على إثبات الفعل الضار وهيأت للتابع بأية طريقة كانت فرصة ارتكابه ، لأن المخدوم يجب أن يسأل في هذه الحالة على أساس إساءة الخدم استعماله شؤون الخدمة التي عهد هو بها إليهم ، متكفلاً بما افترضه القانون في حقه من وجوب مراقبتهم وملاحظتهم في كل ما تعلق بها . فإذا ترصد المتهم عند باب المدرسة التي يشتغل بها فراشاً مع زملائه الفراشين فيها حتى موعد انصراف المجني عليه منها ( وهو مدرس منتدب للقيام بأعمال نظارة المدرسة ) . وتمكن منه في هذه الفرصة واغتياله في هذا المكان وهو يتظاهر بأنه إنما يقترب منه لكي يفتح له بصفته رئيساً باب السيارة التي كانت في انتظاره . فذلك يبرر قانوناً إلزام الوزارة بتعويض الضرر الذي وقع على المجني عليه من خادمها المتهم ( [1330] ) " ( 6 ) سرق أحد سعاة البريد كتاباً ( خطاباً ) تسلمه بحكم وظيفته ، فاعتبرت محكمة الاستئناف الوطنية أن مصلحة البريد مسئولة عنه ( [1331] )
( 7 ) ترك السائق السيارة وبها مفتاح الحركة التابع آخر لمخدومه ( خفير زراعة ) فعبث هذا التابع بالمفتاح ، فانطلقت السيار ، وأصابت شخصين في الطريق فاعتبرت محكمة النقض المخدوم مسئولاً عن عمل كل من السائق وخفير الزراعة ( [1332] ) .
والمتأمل في هذه الطائفة من الأحكام يستطيع ردها جميعاً إلى أصل وأحد ففي كل منها يرتكب التابع خطأ لم يكن يستطيع ارتكابه لولا وظيفته فالخفير في المثل الأول ما كان يستطيع استدراج الزوج إلى الدرك لولا تذرعه بوظيفته والخفيران في المثل الثاني ما كانا يستطيعان قتل الصراف لو لم يكلفا بحراسته . والكونستابل في هذا المثل الثالث ما كان ليعبث بالمسدس لو لم يتسلمه بحكم الوظيفة والخادم في المثل الرابع ما كان ليصيب العابر لو لم يتسلم السيارة من سيده باعتباره خادماً له . والفراش في المثل الخامس لم يكن ليستطيع اغتيال الناظر لولا تقدمه إلى باب السيارة باعتباره فراشاً ( [1333] ) وساعي البريد في المثل السادس لم يكن ليسرق الكتاب لو لم يتسلمه بحكم عمله وخفير الزراعة في المثل الأخير ما كان ليعبث بمفتاح الحركة في السيارة لو لم يكن خفيراً عند مخدومه .
نقول إن المعيار الذي يستخلص من هذه الأمثلة هو أن التابع لم يكن ليستطيع ارتكاب الخطأ لولا الوظيفة وتعارض بهذا المعيار معيارين آخرين قال بأحدهما القضاء ، وقال الفقه بالثاني .
أما معيار القضاء فهو هذا الذي تكرر في الأسباب التي نقلناها عن محكمة النقض ، إذ غلب فيها ذكر أن الوظيفة هي التي ساعدت على إثبات الخطأ وهيأت الفرصة لارتكابه ( [1334] ) . وكانت المحكمة في عنى عن هذا المعيار الذي يفيض عن الحاجة فيما يتسع له ( [1335] ) فليس كافياً أن تكون الوظيفة ساعدت على إثبات الخطأ أو أنها هيأت الفرصة لارتكابه ، بل يجب فوق هذا إثبات أن التابع ما كان يستطيع ارتكاب الخطأ لولا الوظيفة . فعلاقة الوظيفة بالخطأ ليست فحسب أنها ساعدت عليه وهيأت الفرصة لارتكابه ، . بل هي أكثر من ذلك ، إذ هي ضرورية لإمكان وقوع الخطأ ، واولادها لما استطاع التابع أن يأتي العمل الذي جعله مسئولاً .
وأما معيار الفقه فيتلخص كما أسلفنا في أن تكون الوظيفة سبباً مباشراً للخطأ ( [1336] ) والسببية المباشرة ، فوق ما تنطوي عليه من إبهام ، لا تزال أوسع من المعيار الذي نقول به . فقد تكون الوظيفة سبباً مباشراً للخطأ دون أن تكون ضرورية في ارتكابه .
فنحن إذن نؤثر المعيار الذي قررناه ، ونذهب إلى أن الوظيفة يجب أن تكون ضرورية لارتكاب الخطأ ( [1337] ) . وهذا هو المعيار الأول في الخطأ بسبب الوظيفة ، استخلصناه من هذه الطائفة الأولي من الأحكام . وتنتقل الآن إلى المعيار الثاني ، نستخلصه من الأحكام التي تنتظمها الطائفة الثاني .
الطائفة الثانية ( 1 ) ارتكب موظف إداري جريمة تحط من كرامة أشخاص ينتمون إلى الحزب المعارض لسياسة الحكومة ، لا مدفوعاً بعامل شخصي ، بل إرضاء للحكومة القائمة ، وابتغاء الزلفي عندها . فقضت محكمة جنايات المنصورة ( [1338] ) بأن الحكومة تكون مسئولة عن هذا الموظف ، وأيدت محكمة النقض ( [1339] ) هذا الحكم .
( 2 ) رأى خادم سيده يتضارب مع شخص آخر ، فبادر إلى مساعدته ، وضرب الشخص الآخر ضرباً لم يقصد به قتله لكنه أفضى إلى موته . فقضت محكمة النقض بأن السيد يعتبر مسئولاً عن نتيجة الأعمال التي ارتكبها الخادم في مصلحة سيده ، ولو كانت هذه النتيجة أشد خطورة مما كان يريده السيد ( [1340] ) .
( 3 ) نسب إلى أعمال أحد المقاولين أنهم اعتدوا على أرض زراعية ، فغضب ناظر الزراعة واعتدى على هؤلاء العمال اعتداء مسلحاً . فاعتبرت محكمة الاستئناف المختلطة أن الدائرة التي يعمل ناظر الزراعة في خدمتها ، والتي وقع الاعتداء المسلح على العمال لحمايتها ، مسئولة عن عمل ناظر الزراعة ، سواء كان هذا العمل الذي قصد به الناظر مصلحتها قد أدى إلى نفعها أو عاد عليها بالضرر ( [1341] ) .
( 4 ) انهم شخص بالسرقة ، فأراد وكيل شيخ الخفير أن يفرض عليه صلحاً لقاء مبلغ من النقود يدفعه لمن وقعت عليه السرقة ، ولما لم يجد معه نقوداً ضربه ضرباً افضى إلى موته فاعتبرت محكمة النقض أن الحكومة مسئولة عن عمل وكيل شيخ الخفر ، وقالت في أسباب حكمها أن المجني عليه " كان تحت حراسة رجال الحفظ الذين منهم وكيل شيخ الخفر ، فإذا ما تعدى هذا الأخير عليه بالضرب في هذا الظرف ، كان هذا التعدي واقعاً منه أثناء تأدية وظيفته . ولم يكن التفتيش والضرب إلا اعتماداً على تلك الوظيفة وبذلك تكون الحكومة مسئولة مدنياً عن نتيجة خطأ المتهم طبقاً للمادة 152مدني ( قديم ) ، ولا تأثير للباعث على الجريمة وهو فرض الصلح على المجني عليه في الدعوى الحالية وعدم قيامه بدفع المبلغ المطلوب منه ، لأن نص تلك المادة صريح في فرض المسئولية على المخدوم عن كل ما يأتيه الخادم حال تأدية عمله بقطع النظر عن البواعث التي يمكن أن تكون قد دفعته إلى ارتكاب ما ارتكب . ولأن أساس مسئولية المخدوم عن خطأ خادمه يرتكز على افتراض سوء الاختيار والنقص في المراقبة . ويكفي لقيام هذا الافتراض أن يرتكب الخادم خطأ أثناء تأدية عمله ، سواء كان هذا الخطأ ناشئاً عن باعث شخصي له أو عن الرغبة في خدمة المخدوم ( [1342] ) "
( 5 ) اعتدى سائق إحدى السيارات العامة على راكب بسبب ما أبداه الراكب من الاعتراض على السائق لعدم وقوفه عند محطة إجبارية ، فاعتبرت محكمة الاستئناف المختلطة أن الشركة التي يعمل السائق في خدمتها مسئولة عن خطأ هذا السائق ( [1343] ) .
والمتأمل في هذه الطائفة من الأحكام يستطيع أن يردها هي أيضاً إلى أصل وأحد ففي كل منها يرتكب التابع خطأ لم يكن ليفكر في ارتكابه لولا الوظيفة فالموظف الإداري في المثل الأول ما كان ليفكر في الاعتداء على الأشخاص الذين ينتمون إلى الحزب المعارض لولا وظيفته ، وما ولدته هذه الوظيفة في نفسه من الرغبة في تملق الحكومة القائمة . والخادم في المثل الثاني ما كان ليفكر في ضرب المعتدي على سيده لولا أنه خادم هذا السيد . وناظر الزراعة في المثل الثالث ما كان ليفكر في الاعتداء على العمال لولا أنه يعمل في خدمة الدائرة التي قصد حمايتها . ووكيل شيخ الخفر في المثل الرابع ما كان ليفكر في ضرب المتهم لو لم يكن من رجال الحفظ وقد رغب في إنهاء الحادث صلحاً . والسائق في المثل الخامس ما كان ليفكر في الاعتداء على الراكب لو لم يكن هو السائق للسيارة . ومن ثم فالمعيار الثاني الذي يستخلص من هذه الأمثلة هو أن التابع لم يكن ليفكر في ارتكاب الخطأ لولا الوظيفة .
فهناك إذن معياران للخطأ بسبب الوظيفة ، ويعتبر التابع قد ارتكب خطأ بسبب وظيفته إما لأنه لم يكن ليستطيع ارتكاب هذا الخطأ ، وإما لأنه لم يكن ليفكر في ارتكابه ، لولا الوظيفة ( [1344] ) .
685 - الخطأ بمناسبة الوظيفة :ويتبين مما تقدم أن المتبوع لا يكون مسئولاً إذا لم يكن خطأ التابع قد وقع بسبب الوظيفة على النحو الذي فصلناه ، بل كان هذا الخطأ قد وقع بمناسبة الوظيفة ، بأن اقتصرت الوظيفة على تيسير ارتكاب الخطأ أو المساعدة عليه أو تهيئة الفرصة لارتكابه ، ولكنها لم تكن ضرورية لإمكان وقوع الخطأ أو التفكير التابع فيه . وإذا كانت محكمة النقض عندنا تقرر غير ذلك فيما تتقدم به من الأسباب لأحكامها ، وتذكر في كثير من هذه الأسباب أنه يكفي لتحقق مسئولية المتبوع أن تكون الوظيفة قد سهلت ارتكاب الخطأ أو ساعدت عليه أو هيأت الفرصة لارتكابه ، فقد رأينا أنها كانت في غنى عن هذا التوسع ، وأن أحكامها تستقيم فيما عرض لها من الأفضلية لو أنها التزمت المبدأ الصحيح ، اشترطت أن يكون الخطأ قد وقع بسبب الوظيفة ، لا بمناسبة الوظيفة فحسب ، فأن الأحكام التي أصدرتها في هذا الموضوع كان منطوقها لا يتغير لو أقيمت أسبابها على هذا الأساس الدقيق . ولقد كان القانون المدني الجديد موفقاً كل التوفيق عندما جلا الغموض الذي يحيط بهذه المسألة ، فقد رأينا أنه نص صراحة في الفقرة الأولي من المادة 174على أن " يكون المتبوع مسئولاً عن الضرر الذي يحدثه تابعه بعمله غير المشروع متى كان واقعاً منه حال تأدية وظيفته أو بسببها " . فذكر الخطأ في تأدية الوظيفة والخطأ بسبب الوظيفة ، وتجنب أن يذكر الخطأ بمناسبة الوظيفة أو الخطأ الذي تكون الوظيفة قد هيأت الفرصة لارتكابه ( [1345] ) .
ونأتي بأمثلة للخطأ الذي تهيئ الوظيفة لارتكابه وهو الخطأ بمناسبة الوظيفة ، لنتبين الفرق بينه وبين الخطأ بسبب الوظيفة .
لو أن سائق السيارة ، بدلا من أن يعتدي على الراكب معه مما يجعل الخطأ واقعاً بسبب الوظيفة فيما قدمناه ، كان يضمر الحقد لخصم له ، فقصد الانتقام منه ، وتعقبه في الطريق ، وانتهز فرصة قيادته للسيارة فدهسه بها ، لم يكن صاحب السيارة مسئولاً عن عمل السائق ، لأن السائق كان ينوي الإضرار بخصمه ، سواء كان ذلك بدهسه أو بأن يلحق به أي نوع آخر من أنوع الآذى . فلم تكن وظيفة السائق ضرورية لارتكاب الخطأ . بل اقتصرت على تيسيره وهيأت الفرصة لوقوعه . ويكون الخطأ في هذه الحالة قد وقع . لا بسبب الوظيفة بل بمناسبة الوظيفة .
ولو أن طاهياً أمسك بالسكين التي يستخدمها في عمله ، وطعن بها القصاب الذي يشتري منه اللحم لسيده لشجار بينهما نشب بسبب هذا التعامل ، كان هذا الخطأ بسبب الوظيفة ، لأن الطاهي لم يكن ليفكر في الاعتداء على القصاب لولا وظيفته . ولكن هذا الطاهي نفسه ، لو كان له خصم يريد إيذاءه . فذهب إليه حيث يسكن ، وأخذ السكين معه وطعنه بها ، لم يكن هذا الخطأ بسبب الوظيفة ، لأن الطاهي لو لم يجد هذه السكين لعثر على غيرها ، فوظيفته لم تكن ضرورية لارتكاب الخطأ ، بل اقتصرت على أن تسير له ارتكابه ، وان نهيئ له الفرصة في ذلك . فالخطأ هنا لم يقع بسبب الوظيفة ، بل بمناسبة الوظيفة ، ولذلك لا يكون السيد مسئولاً عن عمل الطاهي . ولو أن الخفير الذي أحب امرأة متزوجة فاستدرج زوجها إلى دركه ليلاً وقتله لتخلص له الزوجة ، فارتكب خطأ بسبب الوظيفة على النحو الذي قدمناه ، لم يتذرع بوظيفته في التضليل بالزوج بل ذهب إليه في مسكنه وفي غير وقت العمل ، وأطلق عليه عياراً نارياً فقتله ، لم يكن هذا العمل خطأ بسبب الوظيفة ، لأن الخفير كان يستطيع قتل الزوج بسلاح آخر غير السلاح الذي تسلمه من الحكومة ، وإنما يسر له سلاح الحكومة ارتكاب جريمته ، وهيأ له الفرصة في ذلك . فيكون الخطأ الذي وقع منه خطأ بمناسبة الوظيفة ، ولا تكون الحكومة مسئولة عنه . وقد سبق أن رأينا أن الخفير ، وهو يضبط المتهم ، فيطلق عياراً نارياً عن خطأ فيصيب مقتلاً منه ، يكون قد ارتكب خطأ في تأدية الوظيفة . فهذا عيار ناري يطلقه الخفير ، يكون خطأ : تارة في تأدية الوظيفة ، وطوراً بسبب الوظيفة ، وثالثة بمناسبة الوظيفة .
686 - الخطأ الأجنبي عن الوظيفة : وإذا كان الخطأ بمناسبة الوظيفة لا يجعل المتبوع مسئولاً عن عمل تابعه ، فأولي بالخطأ الأجنبي عن الوظيفة أن يكون له هذا الحكم .
ومن أمثلة الخطأ الأجنبي عن الوظيفة ما قضت به محكمة النقض من أنه إذا كان الثابت بالحكم أن حادث القتل المطلوب التعويض عنه قد وقع خارج المصنع الذي يعمل فيه القتيل وفي غير أوقات العمل ، وأن مرتكبيه من عمال المصنع قد دبروه فيما بينهم خارج المصنع أيضاً عشية وقوعه . فلا يصح اعتبار أنهم ارتكبوه أثناء تأدية وظيفتهم لدى صاحب المصنع ، وبالتالي لا يصح إلزامه بالتعويض عنه مهما كان سببه أو الدافع إليه ، ما دامت العلاقة الزمنية والمكانية منعدمة بينه وبين العمل الذي يؤديه الجناة لمصلحة صاحب المصنع ( [1346] ) . وقضت محكمة جنايات طنطا بأن الحكومة غير مسئولة عن جناية ارتكبها أحد رجال البوليس في وقت كان فيه متغيباً عن عمله في أجازة رسمية ( [1347] ) .
وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن المصلحة لا تكون مسئولة عن الضرر الذي أصاب شخصاً من جراء حادث من حوادث الصيد وقع بخطأ من الحارس وهو يصطاد في غير ساعات العمل ( [1348] ) .
وقضت هذه المحكمة أيضاً بأن الذي يتدخل دون حق في عملية تسليم البضائع ، فيوجه مباشرة أوامر للحمالين ، ويخالف بذلك اللوائح ، ليس له أن يرجع على إدارة الجمارك بالضرر الذي يحدثه الحمالون وهم ينفذون أوامره ( [1349] ) . وهنا نرى أن التابع ، وهم الحاملون ، قد ارتكب الخطأ الأجنبي عن الوظيفة في المكان وفي الزمان الذين يؤدى فيهما الوظيفة . فليس من الضروري إذن ، حتى يكون الخطأ أجنبياً عن الوظيفة ، أن يكون منقطع الصلة بها في الزمان أو في المكان ( [1350] )
المطلب الثاني
الأساسي الذي تقوم عليه مسئولية المتبوع
687 - مسألتا :متى تحققت مسئولية المتبوع بتوافر الشرطين اللذين تقدم ذكرهما –علاقة التبعية وخطأ في تأدية الوظيفة أو بسببها - قامت هذه المسئولية على أساس ينبغي تحديده ، وهي على كل حال لا تجب مسئولية التابع ، بل تقوم إلى جانبها .
فتتكلم في مسألتين ( 1 ) تكييف مسئولية المتبوع . ( 2 ) قيام مسئولية التابع إلى جانب مسئولية المتبوع .
1 - تكييف مسئولية المتبوع
688 - أراء مختلفة :بعد أن بينا الشرطين الواجب توافرهما حتى تقوم مسئولية المتبوع عن التابع ، بقى أن نكيف هذه المسئولية التكييف الذي يتلاءم مع هذين الشرطين .
قد ذهب كثير من الفقهاء إلى أن مسئولية المتبوع عن التابع تقوم على خطأ مفترض ( faute presumee ) في جانب المتبوع . وأخذ بهذا الرأي كثير من أحكام القضاء ولكن الرأي أصبح منتقداً . وكاد يصبح رأياً مرجوحاً . وقام إلى جانبه آراء أخرى مختلفة فهناك من يقول بأن مسئولية المتبوع تقوم على فكرة تحمل التبعة ( idee de risque ) وآخرون يقولون بل تقوم على فكرة الضمان ( idee de garantie ) وذهب بعض إلى أنها تقوم إما على فكرة النيابة ( idee de representation ) . وإما على فكرة الحلول ( idee de substitution ) والمتأمل في هذه الآراء الخمسة يستطيع أن يردها إلى أصلين . فإما أن تكون مسئولية المتبوع عن التابع مسئولية ذاتية ( responsabilite personnelle ) أو هي مسئولة عن الغير ( responsabilite pour autrui ) فإذا قدرنا أنها مسئولية ذاتية رددناها إلى اعتبار في شخص المتبوع :خطأ في جانبه وهذا هو الخطأ المفترض ، أو نفع بجنيه لنفسه وهذا هو تحمل التبعة وإذا قدرنا أنها مسئولية عن الغير رددناها إلى اعتبار في العلاقة ما بين المتبوع والتابع : فإما أن تعتبر المتبوع كفيلاً للتابع وهذا هو الضمان ، وإما أن نعتبر التابع نائباً عن المتبوع وهذه هي النيابة ، وإما أن نعتبر شخصية التابع امتداداً لشخصية المتبوع وهذا هو الحلول .
والصحيح في نظرنا أن مسئولية المتبوع عن التابع ليست مسئولية ذاتية ، بل هي مسئولية عن الغير ( [1351] ) . ولعلها هي المسئولية الوحيدة عن الغير فيما قرره القانون من مسئوليات مختلفة . فإن مسئولية متولي الرقابة مسئولية ذاتية كما رأينا ( [1352] ) وسنرى أن المسئولية عن الحيوان وعن البناء وعن الأشياء هي أيضاً مسئولية ذاتية تقوم على خطأ في جانب المسئول نفسه . فلا يبقى إلا مسئولية المتبوع عن التابع ، وهذه هي المسئولية عن الغير .
ومتى قررنا أن المسئولية المتبوع عن التابع هي مسئولية عن الغير ، يستوي عندنا بعد ذلك أن تقوم على فكرة الضمان أو على فكرة النيابة أو على فكرة الحلول ، فكلها تؤدي إلى نتيجة رئيسية واحدة ، وإن اختلفت في بعض التفصيلات .
ونستعرض الآن ، بعد هذا التمهيد ، الآراء الخمسة التي سبقت الإشارة إليها : الخطأ المفترض وتحمل التبعة والضمان والنيابة والحلول .
689 - الخطأ المفترض :هذا الرأي هو أقدم الآراء الخمسة ، وكان هو الرأي التقليدي السائد إلى عهد قريب . ويتخلص في أن المتبوع يقوم في جانبه خطأ مفترض :خطأ في الرقابة أو خطأ في التوجيه أو خطأ في الاختيار ، أو خطأ فيها جميعاً . وهذا الخطأ مفترض افتراضاً لا يقبل إثبات العكس . فالتابع إذا ارتكب الخطأ مفترض افتراضاً لا يقبل إثبات العكس . فالتابع إذا ارتكب خطأ كان المتبوع مسئولاً عنه بمقتضى خطأ آخر نفترضه قائماً في جانب المتبوع ، فإما أن يكون المتبوع قد قصر في اختيار تابعه ، أو قصر في الرقابة عليه ، أو قصر في توجيهه . وهذا التقصير نفترضه افتراضاً ، ولا نقبل من المتبوع أن يقيم الدليل على أنه لم يقصر . وقد قال بهذا الرأي ، كما قدمنا ، كثير من الفقهاء والمحاكم في مصر وفي فرنسا ( [1353] ) .
والذي يؤخذ على هذا الرأي أنه يؤدي إلى نتيجتين لا يصح التسليم بهما وهما :
( أولاً ) لو كانت مسئولية المتبوع مبنية على خطأ مفترض افتراضاً غير قابل لإثبات العكس ، لأمكن للمتبوع في القليل أن يتخلص من هذه المسئولية إذا هو أثبت أن الضرر كان لا بد واقعاً ولو قام بواجبه في الاختيار والرقابة والتوجيه بما ينبغي من العناية ، أي إذا نفى علاقة السببية بين الضرر الذي وقع والخطأ المفترض في جانبه ( [1354] ) . وهذا ما لا يستطيعه بإجماع الفقه والقضاء نعم هو يستطيع نفي علاقة السببية ما بين الضرر الذي وقع وخطأ التابع لا خطئه هو ، فيتخلص من المسئولية . ولكن لا عن طريق أنه غير مسئول عن تابعه ، بل عن طريق أن التابع نفسه غير مسئول ، ومسئولية المتبوع لا تقوم كما قدمنا إلا تبعاً لمسئولية التابع ( [1355] ) . ولكنه لا يستطيع التخلص من المسئولية بإثبات أنه كان يستحيل عليه أن يمنع العمل غير المشروع الذي سبب الضرر ( [1356] ) . ولو أنه أثبت ذلك . فنفى علاقة السببية بين الضرر وخطئه المزعوم ، ليبقى مع ذلك مسئولاً عن تابعه . وفي هذا الدليل قاطع على أن مسئولية المتبوع لا تقوم على خطأ مفترض ، بل لا تقوم على خطأ أصلاً ، إذ أن المسئولية التي تقوم على خطأ حتى لو كان هذا الخطأ مفترضاً وحتى لو كان الافتراض غير قابل لإثبات العكس ، ترتفع بنفي علاقة السببية . وقد رأينا هنا أن مسئولية المتبوع لا ترتفع بنفي هذه العلاقة ( [1357] ) .
( ثانياً ) لو كانت مسئولية المتبوع مبنية على خطأ مفترض لسقطت مسئولية المتبوع إذا كان غير مميز . فقد رأينا أن غير المميز لا يتصور ارتكابه للخطأ ، فكيف يتصور افتراض الخطأ في جانبه!وفي الحالات النادرة التي يكون فيها غير المميز مسئولاً ، تكون مسئوليته قائمة لا على الخطأ ، بل على تحمل التبعة كما رأينا . فإذا عرفنا أن المتبوع حتى لو كان غير مميز يكون مسئولاً عن تابعه ، أدركنا أن مسئولية المتبوع لا يمكن أن تكون مبنية على الخطأ . وقد رأينا فيما قدمناه ( [1358] ) أن المتبوع قد يكون صغيراً أو غير مميز ، فينوب عنه نائبه ، من ولي أو وصى أو قيم ، في القيام بالرقابة على التابع وفي توجيهه . وهذا ما قضت به محكمة النقض في مصر في حكمين معروفين ( [1359] ) . وفي ذلك دليل آخر على أن مسئولية المتبوع لا تقوم على الخطأ .
690 - تحمل التبعة :قال بهذا الرأي الفقهاء الذين يجعلون مسئولية المتبوع مسئولية ذاتية ، دون أن يقيموها على الخطأ ( [1360] ) فما دام المتبوع مسئولاً مسئولية ذاتية ، وما دام لا يفترض خطأ في جانبه ، فلا يبقى إلا أن يقال إن المتبوع ينتفع بنشاط تابعه ، فعليه أن يتحمل تبعة هذا النشاط ، والغرم بالغنم .
وهذا الرأي فيه مزيتان يتجنب بهما العيبين اللذين لاحظناهما على الرأي الذي يقول بالخطأ المفترض . فهو أولاً لا يجيز للمتبوع أن يتخلص من المسئولية حتى لو أثبت أنه كان يستحيل عليه أن يمنع العمل غير المشروع الذي سبب الضرر ، إذ المسئولية المبنية على تحمل التبعة لا ترتفع بهذه الاستحالة ، بل يبقى المتبوع مسئولاً لأنه يتحمل تبعة نشاط تابعه بعد أن انتفع بهذا النشاط . وهو ثانياً يجعل المتبوع مسئولاً حتى لو كان غير مميز ، فغير المميز إذا لم يجز قيام مسئوليته على الخطأ جاز قيامها على تحمل التبعة .
ولكن هذا الرأي يؤخذ عليه هو أيضاً أنه يؤدي إلى نتيجتين لا يصح التسليم بهما . وهما :
( أولاً ) لو صح أن مسئولية المتبوع تقوم على تحمل التبعة ، ففيم إذن اشتراط وقوع خطأ من التابع؟ أليس المتبوع يتحمل تبعة نشاط تابعه ، لا تبعة خطته!فكل نشاط من التابع يصيب الغير بالضرر ، سواء انطوى هذا النشاط على خطأ ا كان مجرداً من أي خطأ ، كان ينبغي أن يحقق مسئولية المتبوع تطبيقاً لمبدأ تحمل التبعة ، ما دامت هذه المسئولية تقوم على هذا المبدأ . بل إن نشاط التابع الذي لا ينطوي على خطأ هو النشاط المألوف الذي ينتفع به المتبوع ، فهو أولى بالتحمل . ونحن قد رأينا أن الأمر على النقيض من ذلك ، وأن مسئولية المتبوع لا تقوم إلا إذا وقع الخطأ من التابع .
( ثانياً ) لو صح أن مسئولية المتبوع تقوم على تحمل التبعة ، وتحققت هذه المسئولية فوق المتبوع المضرور ما يستحق من التعويض ، لما جاز للمتبوع أن يرجع على التابع ، فالمتبوع إنما يتحمل تبعة نشاط يفيد منه ، فيكون قد أخذ مقابلاً لما أعطى ، ففيم إذن رجوعه على التابع أمر قد انعقد عليه إجماع الفقه والقضاء .
ونرى من ذلك أن مبدأ تحمل التبعة لا يستقيم مع أحكام مسئولية المتبوع ، بما تقتضيه هذه المسئولية من خطأ يقع من التابع ، وبما ترتبه في العلاقة ما بين المتبوع والتابع من حق الرجوع .
والحق أن مسئولية المتبوع ليست مسئولية ذاتية كما سبق القول ، فهي لا تقوم على خطأ يفترض في جانب المتبوع ، ولا تستند إلى تبعة يجب عليه أن يتحملها وإنما هي مسئولية عن الغير ، المتبوع فيها لا خطأ في جانبه ، ولكنه يتحمل وإنما هي مسئولية عن الغير ، المتبوع فيها لا خطأ في جانبه ، ولكنه يتحمل جريرة تابعة لا تبعه نشاطه . وتنتقل الآن الآراء التي تتوخى هذا النظر .
691 - مسئولية عن الغير – الضمان والنيابة والحلول : فالمتبوع إذن مسئول عن التابع مسئولية الشخص عن غيره . ويبقى أن نحدد على أي أساس تقوم هذه المسئولية . يقيمها بعض الفقهاء على أساس الضمان ( [1361] ) . فالمتبوع يكفل التابع فيما يرتكب من خطأ يصيب الغير بالضرر ، ما دام للمتبوع حق الرقابة والتوجيه على التابع ، وما دام الخطأ الذي ارتكبه التابع قد وقع في تأدية الوظيفة أو بسببها ، . فهذه التي ترسم نطاق مسئولية المتبوع هي التي تفسر فكرة الضمان وتبررها . والمتبوع كفيل التابع دون أن يكون له حق التجريد ، فيجوز للمضرور أن يرجع على المتبوع قبل أن يرجع على التابع . والكفالة هنا مصدرها نص القانون لا الاتفاق .
ويقيمها فريق ثان على أساس النيابة ( [1362] ) . فالتابع نائب عن المتبوع . والنيابة قانونية وهنا نرى التوسع في فكرة النيابة الذي أشرنا إليه من قبل فكما يلزم النائب الأصيل بما يقوم به من تصرفات القانونية في حدود نيابته ، كذلك يلزم التابع المتبوع بما يقوم به من أعمال مادية - أي ما يرتكبه من خطأ - في حدود تبعيته . فالحدود التي ترسم نطاق مسئولية المتبوع تفسر هنا أيضاً فكرة النيابة وتبررها ، بشرط أن تتسع هذه الفكرة لتتناول التصرفات القانونية والأعمال المادية في وقت معاً .
ويقيمها فريق ثالث على أساس الحلول ( [1363] ) . فالتابع قد حل محل المتبوع ، وأصبح الشخصان شخصاً واحداً ، فإذا ارتكب التابع خطأ في الحدود المعروفة فكأنما المتبوع هو ارتكب هذا الخطأ . أو قل إن التابع هو امتداد لشخصية المتبوع ، فما يقترف التابع من خطأ يكون المتبوع هو الذي اقتراضه ( [1364] ) . ولا بد أن يضاف إلى هذا الرأي أن التابع يحل محل المتبوع في التمييز أيضاً لو ارتكب خطأ وهو مميز وكان المتبوع غير مميز ، انتقل تمييز التابع إلى المتبوع عن طريق الحلول ، فأصبح هذا مسئولاً كذاك .
واعتبر مسئولية المتبوع مسئولية عن الغير – على أي وجه فسرت هذه المسئولية وبخاصة إذا فسرت بفكرة الضمان - يجعل المتبوع مسئولاً عن تابعه ، ولا يستطيع التخلص من هذه المسئولية ولو أثبت أنه كان يستحيل عليه أن يمنع العمل غير المشروع الذي سبب الضرر ، فالتزامه التزام بتحقيق غاية لا التزام يبذل عناية . وهذا الاعتبار يجيز أيضاً استبقاء مسئولية المتبوع حتى لو كان غير مميز ، فمسئوليته عن التابع ليس مصدرها الاتفاق حتى يشترط التمييز ، بل مصدرها القانون سواء كانت ضماناً أو نيابة أو حلولاً . وبذلك نتجنب العيبين اللذين كانا السبب في نبذ فكرة الخطأ المفترض .
692 - الاقتصار على العلاقة فيما بين المتبوع والمضرور :ومزية أخرى لتكييف مسئولية المتبوع على أنها مسئولية عن الغير ، هي أن هذا التكييف يفسر وجوب الاقتصار على العلاقة فيما بين المتبوع والمضرور . فالمتبوع مسئول عن تابعه إزاء المضرور . وفي حدود هذه العلاقة دون غيرها – علاقة المتبوع بالمضرور - يقوم هذا التكييف .
فلا يقوم في العلاقة ما بين المتبوع والتابع . ويترتب على ذلك أنه لا يجوز للتابع أن يحتج بفكرة الضمان مثلاً على المتبوع عند رجوع هذا عليه كما سنرى ولكن ليس هناك ما يمنع الضرر مثلاً على المتبوع عند رجوع هذا عليه كما سنرى ولكن ليس هناك ما يمنع المضرور ، وقد وقع عليه ضرر من خطأ التابع ، من أن يكون هو ذاته تابعاً لنفس المتبوع فإذا اعتدى موظف وهو يؤدي وظيفته على موظف آخر ، كانت الحكومة مسئولة عن الموظف الأول إزاء الموظف الآخر ، ولو أن الموظفين تابعان لها جميعاً . وهذا ما يدعى في القانون الإنجليزي باسم الخدمة المشتركة ( common employment ) ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
693 - اجتماع مسئولية المتبوع مع مسئولية من نوع آخر : وقد يكون المتبوع مسئولاً كمتبوع ومسئولا ًعلى وجه آخر في وقت وأحد فصاحب السيارة إذا استخدم سائقاً ارتكب خطأ أصاب الغير بالضرر ، أمكن اعتباره مسئولاً كمتبوع وتابعه هو السائق . وأمكن كذلك اعتباره حارس السيارة إذا لم تكن الحراسة للسائق ، فيكون مسئولاً بمقتضى هذه الحراسة مسئولية مبنية على خطأ مفترض افتراضاً غير قابل لإثبات العكس . والمضرور وشأنه في اختيار أحد الاعتبارين والرجوع على صاحب السيارة بمقتضاه . وقد يختار اعتبار صاحب السيارة حارساً لا متبوعاً ، حتى يعفى نفسه من إثبات الخطأ في جانب السائق .
2 - قيام مسئولية التابع إلى جانب مسئولية المتبوع
694فيما بين المتبوع والمضرور رأينا أن مسئولية المتبوع إنما تستند إلى مسئولية التابع استناد التبع إلى لأصل . فمسئولية التابع - وقد ثبت في جانبه الخطأ والضرر وعلاقة السببية أي أركان المسئولية جميعاً – تقوم إذن إلى جانب مسئولية المتبوع ، بل هي الأصل كما قدمنا .
وينبني على ذلك أن المضرور يكون بالخيار ، إما أن يرجع على التابع ، وإما أن يرجع على المتبوع ، وإما أن يرجع عليهما معاً . والاثنان متضامنان أمامه وقد يكون للتابع شريك في الخطأ فيصح للمضرور أن يرجع على المتبوع والتابع وشريكه . ويجوز للمضرور أيضاً أن يرجع على المتبوع والتابع ، أو على المتبوع وشريك التابع ، أو على التابع وشريكه . فهو حر في أن يختار من يرفع الدعوى عليه من المسئولين الثلاثة ، واحداً أو أكثر ، ويطالب المدعي عليه بكل التعويض لأن الثلاثة متضامنون ( [1365] )
695 - فيما بين المتبوع والتابع : فإذا رجع المضرور على التابع دون المتبوع وقف الأمر عند هذا . أما إذا رجع المتبوع دون التابع . فالمتبوع أن يرجع بما دفع تابعه لأنه مسئول عنه لا مسئول معه . هذا ما تنص عليه المادة175 من القانون المدني الجديد إذ نقول : " للمسئول عن عمل الغير حق الرجوع عليه في الحدود التي يكون فيها هذا الغير مسئولاً عن تعويض الضرر " ( [1366] ) . وقد سبق ذكر هذا النص عند الكلام في مسئولية متولي الرقابة . وبينا هناك أن المسئول عن عمل الغير هو متولي الرقابة والمتبوع ( [1367] ) ، وان المتبوع يرجع على التابع بما دفع من التعويض ، أما متولي الرقابة فيرجع على المميز دون عديم التمييز ، وان هذه هي حدود مسئولية الغير عن تعويض الضرر التي أشار إليها النص . على أن المتبوع لا يرجع على التابع إلا ببعض ما دفع من التعويض ويتحقق ذلك إذا اشترك مع التابع في الخطأ ، فيقسم التعويض بينهما في علاقة أحدهما بالآخر وفقاً للقواعد التي قررناها عند تعدد المسئولين وهذه هي حدود أخرى لمسئولية الغير عن تعويض الضرر ، وهي حدود تتعلق بمسئولية التابع نحو المتبوع ، وتضاف إلى الحدود التي تقدم ذكرها متعلقة بمسئولية عديم التمييز نحو متولي الرقابة . ولا بد ، في العلاقة ما بين المتبوع والتابع ، أن يثبت التابع أن المتبوع اشترك معه في الخطأ ، كأن يكون قد أمره بارتكاب أو ساهم معه فيه ، ولا يستطيع التابعان يحتج على المتبوع بالمسئولية المفترضة ، فإن هذه لا يحتج بها على المتبوع إلا المضرور كما سبق القول ( [1368] ) .
ويقع كما قدمنا أن يرجع المضرور على المتبوع دون التابع ، لأن الأول يكون عادة هو المليء ، ففي هذا الحالة يجوز للمتبوع أن يدخل التابع ضامناً في الدعوى ليحكم عليه بما عسى أن يحكم به على المتبوع . بل يجوز للمتبوع ، والدعوى مرفوعة من المضرور عليه هو والتابع معاً ، أن يرفع على التابع دعوى ضمان فرعية ليحكم له على التابع بما يحكم عليه للمضرور ( [1369] ) .
ويثبت المضرورة عادة الخطأ في جانب التابع حتى تقوم مسئولية المتبوع كما قدمنا ، فيستفيد المتبوع من ذلك ولا يعود في حاجة إلى إثبات خطأ التابع عند الرجوع عليه . ولكن قد يقع أن يكون التابع مسئولاً نحو المضرور بمقتضى خطأ مفترض في جانبه ، كأن يكون معلماً مسئولاً عن تلميذ ولم يستطيع نفي الخطأ المفترض ، أو يكون سائق سيارة احتفظ بحراستها قصار مسئولاً نحو المضرور بمقتضى خطأ مفترض افتراضاً لا يقبل إثبات العكس ، ففي هذه الحالة لا يحتاج المضرور إلى إثبات خطأ التابع لأن هذا الخطأ مفترض فهل يستفيد المتبوع هنا أيضاً من الخطأ المفترض في جانب التابع عند رجوعه عليه ؟ ليس له ذلك ، بل عليه إذا أراد الرجوع على تابعه أن يثبت خطأه ولا يكتفي بالخطأ المفترض في جانبه ، لأن هذا الخطأ المفترض ، في الحالة التي نحن بصددها ، إنما يقوم في العلاقة ما بين التابع والمضرور ، لا في العلاقة ما بين التابع والمتبوع .
الفرع الثاني
المسئولية الناشئة عن الأشياء
696 - حالات ثلاثة : بعد أن فصلنا حالتي المسئولية عن عمل الغير ، ننتقل إلى حالات المسئولية الناشئة عن الأشياء ، الحي منها وغير الحي . ذلك أن الشخص يسأل عما هو في حراسته في حالات ثلاث :
الأولي - مسئولية حارس الحيوان عما يحدثه الحيوان من ضرر .
الثانية - مسئولية حارس البناء عما يحدثه انهدام البناء من ضرر .
والثالثة – مسئولية من تولي حراسة آلات ميكانيكية أو أشياء تتطلب حراستها عناية خاصة عما تحدثه هذه الأشياء من ضرر .
وتنتظم هذه الحالات الثلاث فكرة " الخطأ في الحراسة " ( faute dans la garde ) . فلا تزال المسئولية فيها مبنية على الخطأ ، والحارس مسئول عن خطئه في الحراسة ، والخطأ في الحراسة هو أن يترك الحارس زمام الشيء يفلت من يده .
المبحث الأول
مسئولية حارس الحيوان ( ( [1370] ) )
697 - النصوص القانونية :كان القانون المدني القديم ينص في المادتين 153 / 215على ما يأتي :
" وكذلك يلزم مالك الحيوان أو مستخدمه بالضرر الناشئ عن الحيوان المذكور ، سواء كان في حيازته أو تسرب منه "
وقد نقل القانون المدني الجديد هذا الحكم دون تعديل إلا في الصياغة ، فنصت المادة 176من هذا القانون على ما يأتي :
" حارس الحيوان ، ولو لم يكن مالكاً له ، مسئول عما يحدثه الحيوان من ضرر ، ولو ضل الحيوان أو تسرب ، ما لم يثبت الحارس أن وقوع الحادث كان بسبب أجنبي لا يد له فيه ( [1371] ) " .
والنص الجديد أكثر وضوحاً من النص القديم ، وأوسع إحاطة بأحكام لمسئولية التي نحن بصددها ( [1372] ) ، ولكنه لم يستحدث حكماً جديداً كما قدمنا .
ونبحث هنا أيضاً متى تتحقق مسئولية حارس الحيوان ، وعلى أي أساس تقوم هذه المسئولية .
المطلب الأول
متى تتحقق مسئولية حارس الحيوان
698 - شرطان لتحقق المسئولية : تتحقق المسئولية إذا تولي شخص حراسة حيوان وأحدث الحيوان ضرراً للغير . فعندئذ يكون حارس الحيوان مسئولاً عن هذا الضرر .
فتحقق المسئولية يستلزم إذن توافر شرطين : ( 1 ) تولي شخص حراسة حيوان
( 2 ) إحداث الحيوان ضرراً للغير .
1 - حراسة الحيوان
699 - تحليل هذا الشرط :لا تتحقق المسئولية إلا إذا تولي شخص حراسة حيوان . فنبين ما معنى الحراسة وما المقصود من لفظ " الحيوان "
700 - الحراسة ( la garde ) : قدمنا الخطأ في الحراسة هي أن يترك الحارس زمام الشيء يفلت من يده . فحارس الحيوان إذن هو من في يده زمام الحيوان . فتكون له السلطة الفعلية عليه في توجيهه وفي رقابته ، ويكون هو المتصرف في أمره سواء ثبت هذه السيطرة الفعلية بحق أو بغير حق . أي سواء كانت السيطرة شرعية أو غير شرعية ، ما دامت سيطرة فعلية قائمة فليس حارس الحيوان هو ضرورة مالكه ، فقد ينتقل زمام الحيوان - السيطرة الفعلية في توجيهه وفي رقابته وفي التصرف في أمره – من يده إلى يد غيره ، فيصبح هذا الغير هو الحارس . وليس الحارس هو ضرورة المنتفع بالحيوان إذا لم يكن لهذا السيطرة الفعلية في توجيه الحيوان وفي رقابته . وليس الحارس هو من يعرف عيوب الحيوان ويتركه مع ذلك يضر بالماس ، ما دام لا يملك التصرف في أمره وليست له سيطرة فعلية عليه في توجيهه وفي رقابته وليس الحارس هو من يكون الحيوان في حيازته دون أن تكون له السيطرة الفعلية عليه في التوجيه والرقابة ، فلا يعتبر حارساً بوجه عام لا الراعي ولا السائق ولا الخادم ولا السائس ( [1373] ) .
فيجب إذن أن نقف عند المعيار الذي قدمناه ، وان نعتبر حارس الحيوان هو من بيده زمامه ، فيملك السيطرة الفعلية عليه في التوجيه والرقابة ويكون هو المتصرف في أمره . ونص القانون المدني الجديد يتفق مع هذا المعيار ، فقد رأينا المادة 176تنص على أن " حارس الحيوان ، ولو لم يكن مالكاً له ، مسئول عما يحدثه الحيوان ، من ضرر ( [1374] ) " . وإذا أردنا أن نطبق معيار " السيطرة الفعلية " تطبيقاً عملياً أمكن أن نفصله على الوجه الآتي :
مالك الحيوان هو في الأصل صاحب السيطرة الفعلية عليه ، وهو الذي يملك زمامه في يده ، فله التوجيه والرقابة ، وهو المتصرف في أمره ,من ثم يكون حارس الحيوان هو أصلاً مالكه . فهناك إذن قرينة على أن مالك الحيوان هو الحارس ، وإذا رجع المضرور على المالك فليس عليه أن يثبت أنه هو الحارس ، بل المالك هو الذي عليه أن يثبت أنه لم يكن حارس الحيوان وقت إحداثه الضرر . وإذا أفلت زمام الحيوان من يد المالك بأن ضل أو تسرب ، كان هذا خطأ في الحراسة ( faut dans la garde ) ويكون مسئولاً عما يحدثه الحيوان من ضرر وهذا ما تنص عليه صراحة المادة 176إذ نقول :حارس الحيوان ، ولو لم يكن مالكاً له ، مسئول عما يحدثه الحيوان من ضرر ، ولو ضل الحيوان أو تسرب " ومن باب أولي إذا ترك الحارس الحيوان في الطريق دون رقيب ، كان مسئولاً عما يحدث من ضرر .
وإذا انتقل الحيوان من يد المالك إلى يد أخرى ، فإن كان قد انتقل رغم إرادة المالك أو دون علمه ، كما لو انتقل إلى لص سرق الحيوان ، أو إلى تابع للمالك استولي على الحيوان لمنفعته الشخصية فإن السيطرة الفعلية على الحيوان تنتقل في هذه الحالة من المالك إلى هذا الغير ، ويصبح السارق أو التابع الذي استولي على الحيوان لنفعه الخاص هو الحارس ، ويكون هو المسئول عما يحدث الحيوان من ضرر . ومن ثم نتبين أنه ليس من الضروري أن تكون السيطرة الفعلية سيطرة مشروعة لها سند من القانون ، ففي المثلين اللذين نحن بصددهما يتضح أن كلا من اللص والتابع مسيطر على الحيوان سيطرة غير مشروعة .
أما إذا انتقل الحيوان من يد المالك إلى يد الغير برضاء من المالك ، وكان الغير تابعاً للمالك كالسائق والخادم والراعي ، فالأصل أن انتقال الحيوان إلى يد التابع لا ينقل إليه السيطرة الفعلية على الحيوان ، إذ الغالب أن المالك يستبقي سيطرته الفعلية على الحيوان حتى بعد أن يسلمه لتابعه . فيبقى المالك في هذه الحالة هو الحارس . ولكن لا شيء يمنع في بعض الحالات من أن تنتقل السيطرة الفعلية إلى التابع ، كما إذا سلم صاحب الحصان حصانه لخيال ( jockey ) يجري به في السباق ، فإن الخيال في هذه الحالة من وقت أن أمسك زمام الحصان وبدأ يجري به في السباق ، وقد انتقلت إليه السيطرة الفعلية على الحصان وأصبح هو الحارس ، فيكون مسئولاً مسئولية الحارس ، ويكون المالك مسئولاً مسئولية المتبوع .
وإذا كان المالك قد نقل الحيوان إلى شخص غير التابع ينتفع به كالمستأجر أو المستعير ، انتقلت في الغالب من الأحوال إلى هذا الشخص السيطرة الفعلية على الحيوان ، إذ هو في سبيل الانتفاع به يمسك زمامه في يده وله حق التصرف في أمره ، ومن ثم يكون هو الحارس . فإن نقله المالك إلى شخص غير التابع لا لينتفع به بل للمحافظة عليه أو لعلاجه ، كصاحب الاصطبل وصاحب الفندق والطبيب البيطري ، فالأصل هنا أيضاً أن السيطرة الفعلية تنتقل إلى هذا الشخص ، ويكون هو الحارس . ولكن قد يستبقى المالك في هذه الحالة السيطرة الفعلية على الحيوان في أثناء الوديعة أو وقت العلاج ، فيبقى هو الحارس ( [1375] ) .
701 - الحيوان : أي نوع من الحيوان ، مستأنساً كان أو متوحشاً ، كبيراً أو صغيراً خطراً أو غير خطر يكون حارسه مسئولاً عنه فالدواب والبهائم بأنواعها المختلفة من خيل وبغال وحمير وجمال ومواش ، والحيوانات الأليفة من كلاب وقطط وقردة ، والدواجن والطير ، وما عسى أن يمتلك الشخص من حيوانات مفترسة كالسباع والنمور والفيلة وغيرها ، كل هذا يكون حارسه مسئولاً عنه . وقد يكون الحيوان معتبراً عقاراً بالتخصيص ، كالمواشي الملحقة بأرض زراعية ، ولا يمنع ذلك من أن يكون حارسها مسئولاً عنها ، ولا عبرة بأنها تعد عقاراً .
ولكن يشترط أن يكون الحيوان حياً ومملوكاً لأحد من الناس وان تكون حراسته ممكنة . فجثة الحيوان الميت تعتبر شيئاً غير حي لا حيواناً ، والمسئولية عنها تكون مسئولية عن شيء حي لا عن حيوان ، فلا تتحقق وفقاً للمادة 178من القانون المدني الجديد إلا إذا كانت حراستها تتطلب عناية خاصة . والطير الذي لا مالك له لا يسأل شخص عما يحدثه من التلف إلا إذا ثبت خطأ في جانبه . والجراد إذا صاب زرعاً فأتلفه لا يسأل عن عمله إلا شخص ثبت أنه أثار الجراد بخطأه .
2 - إحداث الحيوان ضرراً للغير
702 - تحليل هذا الشرط : حتى تتحقق مسئولية حارس الحيوان يلزم أن يكون هذا الحيوان قد أحدث ضرراً للغير فيلزم إذن أن يكون الضرر من فعل الحيوان ( fait de lanimal ) ، ويكون هناك أمران نتكلم فيهما :
( 1 ) فعل الحيوان ( 2 ) والضرر الذي يحدثه .
703 - فعل الحيوان : يجب أن يكون الحيوان هو الذي " أحدث " الضرر ، أي أن يكون قد أتي عملاً إيجابياً كان هو السبب في الضرر . أما إذا كان الضرر قد حدث دون أن يكون للحيوان دور إيجابي ، كما إذا ارتطم شخص بجسم حيوان حي فجرح ، أو سقطت جثة حيوان ميت على إنسان فأصابته بالضرر ، فإن الضرر لا يكون في هذه الحالة من فعل الحيوان ، إذا لم يكن للحيوان في ذلك إلا دور سلبي .
وإذا كنا نتطلب أن يقوم الحيوان بدور إيجابي في إحداث الضرر ، فليس هذا معناه أن يكون الحيوان قد اتصل اتصالاً مادياً الجسم الذي ألحق به الضرر ، بل يكفي أن يكون هو السبب الإيجابي لإحداثه . فلو خرج حيوان مفترس في حراسة شخص فجأة إلى الطريق العام ، فأصاب الذعر أحد المارة وسقط فجرح دون أن يمسه الحيوان ، فهذا لضرر يعتبر من فعل الحيوان .
وهناك فروض يكون فيها قد اشترك مع الحيوان عامل آخر في إحداث الضرر ، كما إذا كان المتسبب المباشر في الإصابة هي المركبة التي يقودها الحيوان . فإذا كان الحيوان هو العامل المتغلب كما هو الراجح ، فإن الإصابة تعتبر من فعله . ويدق الأمر إذا كن الحيوان عند إحداث الإصابة يقوده إنسان أو يمتطيه ، فهل تعتبر الإصابة قد حدثت من فعل الإنسان أو من فعل الحيوان ؟ ولا شك في أن القول برأي من هذين الرأيين تترتب عليه أهمية علمية كبيرة . إذ لو اعتبرت الإصابة من فعل الإنسان ، فلا يفترض الخطأ . بل يكلف المدعى إثباته طبقاً للقواعد العامة . وإذا اعتبرت الإصابة من فعل الحيوان ، كان هناك خطأ مفترض في جانب الحارس . ولا يكلف المدعي إثبات هذا الخطأ وقد سار القضاء الفرنسي مدة طويلة على اعتبار أن الإصابة قد حدثت من فعل الإنسان ( [1376] ) . وتابع القضاء المصري القضاء الفرنسي في ذلك ( [1377] ) . ثم عدل القضاء الفرنسي عن هذا الرأي ، واعتبر أن الإصابة قد حدثت من فعل الحيوان ( [1378] ) . وهذا هو الرأي الصحيح ، لأن راكب الحيوان أو قائده لا تعتبر لا تعتبر الإصابة من فعله إلا إذا كان قد تعمدها . فإن اعترف بذلك ، وهذا غير محتمل ، كان الخطأ ثابتاً في جانبه . وإلا فإن الحيوان عندما أحدث الضرر يكون زمامه قد أفلت من يده ، وتكون الإصابة قد حدثت بفعل الحيوان ( [1379] ) .
704 - الضررالذي يحدثه الحيوان :أي ضرر يحدثه الحيوان يكون حارسه مسئولاً عنه . فإذا دهس حيوان شخصاً فجرحه أو قتله ، وإذا أتلف الحيوان مالاً مملوكاً للغير ولو كان هذا المال حيواناً مثله ، وإذا عض كلب شخصاً فأحدث به ضرراً ( [1380] ) ، وإذا انتقل مرض معد من حيوان مريض ، فكل هذه تعتبر أضراراً يكون حارس الحيوان مسئولاً عنها .
والضرر الذي يحدثه الحيوان قد يقع على الغير كما هو الغالب ، وقد يقع على الحارس نفسه ، وقد يقع على المالك إذا لم يكن هو الحارس ، وقد يقع على الحيوان ذاته أي أن الحيوان يصيب نفسه بالضرر .
فإذا أوقع الحيوان الضرر بالغير ، جاز للغير أن يرجع بالتعويض على الحارس بالخطأ المفترض . وهذه هي الصورة المألوفة في المسئولية عن الحيوان .
ويعتبر في حكم الغير تابع المالك إذا لم تنتقل إليه الحراسة . فإذا ألحق الحيوان ضرراً بسائسه أو بسائقه ، فقد تقدم أن المالك في هذه الحالة يعتبر في الأصل أنه هو الحارس ، ويكون مسئولاً تجاه السائس أو السائق بالخطأ المفترض ( [1381] ) . وإذا كانت هناك علاقة عقدية ما بين حارس الحيوان والمضرور ، كما إذا استأجر شخص الحيوان وصاحبه لينقله من مكان إلى آخر ، فأضر الحيوان بالمستأجر ، فإن صاحب الحيوان في هذه الحالة يكون مسئولاً مسئولية عقدية لا مسئولية تقصيرية ، لأنه في عقد النقل بضمان سلامة الراكب . وإذا أحدث الحيوان ضرراً بحيوان آخر ، فمالك الحيوان المضرور يرجع على الحارس الحيوان الأول بالخطأ المفترض لأنه من الغير ( [1382] ) .
وإذا أوقع الحيوان الضرر بالحارس نفسه ، فلا يستطيع الحارس أن يرجع على المالك إلا إذا أثبت خطأ في جانبه طبقاً للقواعد العامة .
وإذا وقع الحيوان الضرر بالمالك وكان غير الحارس ، فالمالك أن يرجع على الحارس بالخطأ المفترض ، ويعتبر غيراً في هذه الحالة .
وإذا أوقع الحيوان الضرر بذاته ، بأن اختنق بحبل مثلاً ، وكان الحارس هو المالك . هلك الحيوان على مالكه . أما إذا كان الحارس غير المالك ، فلا يستطيع المالك في هذه الحالة أن يحتج على الحارس بالخطأ المفترض ، فإن افتراض الخطأ لا يقوم إلا لضرر أصاب الغير لا الحيوان ذاته . ولكن يجوز للمالك أن يثبت خطأ في جانب الحارس ، فيرجع عليه بالتعويض للخطأ الذي أثبته لا لخطأ مفترض .
المطلب الثاني
الأساس الذي تقوم عليه مسئولية حارس الحيوان
705 - مسألتان :متى تحققت مسئولية حارس الحيوان على النحو الذي قدمناه . قامت هذه المسئولية على خطأ مفترض في جانب الحارس كما أسلفنا ونبين الآن :
( 1 ) ما هو هذا الخطأ ( 2 ) والى أي حد هو المفترض .
1 - ما هو الخطأ
706 - خطأ في الحراسة :الخطأ المفترض في جانب حارس الحيوان هو خطأفي الحراسة ( faute dans la garde ) . وعلى هذا الخطأ قامت مسئولية الحارس ، فالخطأ إذن هو أساس المسئولية . ولا يمكن أن يقال أن أساس المسئولية هو تحمل التبعة ( risque ) ، وإلا لكان المسئول هو المنتفع بالحيوان لا الحارس ، ولما جاز دفع المسئولية بإثبات السبب الأجنبي . والخطأ في الحراسة هو إفلات الحيوان من سيطرة الحارس ، لأن هذا الإفلات هو الذي أحدث الضرر .
707 - ما الذي يثبته المضرور :ولا يكلف المضرور إلا بإثبات الشروط التي تحقق بها مسئولية حارس الحيوان . فيجب عليه أن يثبت أولاً أن المدعى عليه هو حارس الحيوان ، وقد قدمنا أن هناك قرينة على أن المالك هو الحارس إلى أن يثبت أن حراسة الحيوان قد خرجت من يده . ويجب عليه بعد ذلك أن يثبت أن الضرر قد وقع بفعل الحيوان ، أي أن الحيوان قد تدخل تدخلاً إيجابياً في إحداث الضرر ، وإن الضرر قد حدث بفعل الإنسان ولا يفعل الشيء ، على التفصيل الذي سبق ذكره .
2 - إلى أي حد هو مفترض
708 - الافتراض من لا يقبل إثبات العكس :الخطأ هنا مفترض افتراضاً لا يقبل العكس ( [1383] ) ، بخلاف الخطأ المفترض في جانب متولي الرقابة فهو افتراض يقبل إثبات العكس كما قدمنا .
فلا يجوز إذن للحارس ، متى أثبت المضرور الشروط التي تتحقق بها مسئولية أن ينفى الخطأ عن نفسه ، بأن يثبت أنه لم يرتكب خطأ وأنه قام بما ينبغي من العناية حتى لا يحدث الحيوان الضرر . ذلك أن الضرر لم يحدث لأن زمام الحيوان قد افلت من يده ، وهذا الإفلات هو ذات الخطأ . وقد ثبت الإفلات بدليل وقوع الضرر ، فلا حاجة إذن لإثباته بدليل آخر ، ولا جدوى من نفيه بإثبات العكس . وهذا هو المعنى المقصود من أن الخطأ مفترض افتراضاً لا يقبل إثبات العكس ، فهو خطأ قد تم إثباته ، ولا يتصور إذن أن يثبت عكسه ( [1384] ) . وقد سبق القول أن افتراض الخطأ إنما يقوم في العلاقة ما بين الحارس والمضرور ، فلا يقوم إذا أحدث الحيوان ضرراً لنفسه أو أحدث ضرراً للحارس ( [1385] ) وقدمنا أيضاً أن مسئولية حارس الحيوان قد تجتمع مع مسئولية المتبوع في شخص وأحد . فمالك الحيوان إذا دفعه إلى السائق محتفظاً بالحراسة ، فألحق الحيوان ضرراً بالغير ، أمكنت مساءلة المالك باعتباره حارساً للحيوان حيث يفترض الخطأ في جانبه افتراضاً لا يقبل إثبات العكس ، كما تمكن مساءلته باعتباره متبوعاً للسائق ولكن يجب على المضرور في هذه الحالة أن يثبت خطأ في جانب السائق ( [1386] )
وقد رأينا أن المتبوع تتحقق مسئوليته ولو كان عديم التمييز . أما حارس الحيوان فلا يجوز أن يكون عديم التمييز ، لأن مسئوليته قائمة على الخطأ ، وعديم التمييز لا يتصور الخطأ في جانبه .
709 - جواز نفي المسئولية بنفي علاقة السببية : ولا يستطيع حارس الحيوان أن ينفي عنه المسئولية إلا بنفي علاقة السببية ما بين فعل الحيوان والضرر الذي وقع ، وذلك بأن يثبت أن وقوع الضرر كان بسبب أجنبي ، قوة قاهرة أو حادث مفاجئ أو خطأ المضرور أو خطأ الغير . وهذا ما تنص عليه صراحة المادة 176إذ تقول : " …ما لم يثبت الحارس أن وقوع الحادث كان بسبب أجنبي لا يد له فيه " . وهو ما أجمع عليه الفقه ( [1387] ) والقضاء ( [1388] ) في مصر .
المبحث الثاني
مسئولية حارس البناء ( ( [1389] ) )
710 - النصوص القانونية : لم يكن القانون المدني القديم يشتمل على نص لتحديد المسئولية عن تهدم البناء ، فكانت القواعد العامة للمسئولية هي التي تنطبق ، وإذا كان القضاء المصري ، عن طريق القرائن القضائية ، اقترب من القواعد الخاصة التي اشتمل عليها القانون الفرنسي في المسئولية عن تهدم البناء . إذ تنص المادة1386 من القانون الفرنسي على أن " مالك البناء يكون مسئولاً عما يحدث تهدمه من الضرر إذا كان هذا التهدم يرجع إلى نقص في الصيانة أو إلى عيب في البناء " فكان هذا النص يشدد من مسئولية مالك البناء عما قررته القواعد العامة ، فمسئولية المالك طبقاً لهذا النص تقوم على خطأ مفترض متى أثبت المضرور يرجع إلى نقص في صيانة البناء أو إلى عيب فيه ، ويفترض عندئذ افتراضاً غير قابل لإثبات العكس أن هذا النقص في الصيانة أو هذا العيب منسوب إلى خطأ من المالك . أما القانون المصري القديم فلم يتضمن كما قدمنا ما يقابل المادة 1386من القانون الفرنسي وترتب على ذلك أن حارس البناء لا المالك كان هو المسئول ، وكانت مسئوليته مبنية على القواعد العامة ، أي على خطأ ثابت لا على خطأ مفترض ، فكان لا بد من أن يثبت المضرور خطأ في جانب الحارس حتى تتحقق المسئولية .
قلنا إن القضاء المصري كان قد اقترب من قواعد القانون الفرنسي ، وقرب الشقة بين القانونين المصري والفرنسي أمران :
( أولاً ) أن القضاء المصري كان يتشدد كل التشدد في التزام حارس البناء ، فكان يطالبه باليقظة والانتباه حتى لا يكون البناء مصدراً للخطر ، وأي إهمال في ذلك مهما كان تافهاً يوجب مسئولية الحارس عن تعويض ما وقع من الضرر .
( ثانياً ) أن هذا القضاء من جهة أخرى كان يتساهل كل التساهل في حق المضرور فيجيز له إثبات خطأ حارس البناء بأتفه القرائن .
فهذا التشدد في جهة وهذا التساهل في جهة أخرى كان من شأنه أن يجعل القضاء المصري يقترب من القانون الفرنسي ، ويستعيض عن القرينة القانونية المقررة في هذا القانون بقرينة قضائية قررها هو . ومن ثم أمكنه في كثير من الأحوال أن يقرر دون نص مسئولية حارس البناء إذا ثبت أن هناك عيباً في البناء أو نقصاً في الصيانة ( [1390] ) .
وقد جاء القانون المصري الجديد بنص خاص في مسئولية حارس البناء فقضى في المادة 177بما يأتي :
" 1 - حارس البناء ، ولو لم يكن مالكاً له . مسئول عما يحدثه انهدام البناء من ضرر ، ولو كان انهداماً جزئياً ، ما لم يثبت أن الحادث لا يرجع سببه إلى إهمال في الصيانة أو قدم في البناء أو عيب فيه " .
" 2 - ويجوز لمن كان مهدداً بضرر يصيبه من البناء أن يطالب المالك باتخاذ ما يلزم من التدابير الضرورية لدرء الخطر . فإن لم يقم المالك بذلك ، وجاز الحصول على إذن من المحكمة في اتخاذ هذه التدابير على حسابه ( [1391] ) " .
ويتبين لأول وهلة من هذا النص أنه يختلف من النص الوارد في القانون الفرنسي في أمور ثلاثة :
( 1 ) في أنه يجعل المسئولية على حارس البناء لا على مالكه ، وهذا هو الذي يتمشى مع قواعد المسئولية .
( 2 ) وفي أنه يشدد من المسئولية أكثر مما يفعل القانون الفرنسي ، إذا لا يتطلب النص المصري أن يثبت المضرور إهمالاً في الصيانة أو قدماً في البناء أو عيباً فيه ، بل حارس البناء هو الذي يثبت الإهمال في الصيانة وألا قدم في البناء وألا عيب فيه .
( 3 ) في أنه يجيز اتخاذ احتياطات وقائية إذا كان البناء يهدد بالسقوط ، فلا ينتظر من كان مهدداً بضرر من جراء تهدم البناء أن يتهدم فيطالب بالتعويض ، بل يستطيع أن يطالب باتخاذ التدابير الضرورية لدرء الخطر قبل وقوعه .
ولا شك في أن القانون الجديد شدد كثيراً في المسئولية عن تهدم البناء ، وأتي لمساعدة من تصيبهم أضراراً من ذلك ، فلم يتركهم إلى القواعد العامة التي توجب عليهم إثبات الخطأ في جانب المسئول .
وتسري هذه القواعد الجديدة منذ 15من شهر أكتوبر سنة 1949 ، أي منذ نفاذ القانون الجديد . والعبرة في ذلك بتاريخ وقوع الضرر الذي ينجم عن تهدم البناء ، فإذا وقع هذا الضرر في تاريخ سابق على هذا التاريخ فالقانون القديم هو الذي ينطبق ، وإلا فالقانون الجديد .
ونفصل الآن قواعد هذه المسئولية ، فتتكلم في أمرين ( 1 ) متى تتحقق المسئولية عن تهدم البناء ( 2 ) وعلى أساس تقوم هذه المسئولية .
المطلب الأول
متى تتحقق المسئولية عن تهدم البناء
711 - شرطان لتحقق المسئولية : تتحقق هذه المسئولية إذا تهدم البناء تهدماً كلياً أو جزئياً وألحق تهدمه ضرراً بالغير . فعندئذ يكون حارس البناء مسئولا عن هذا الضرر .
فتحقق المسئولية يستلزم إذن توافر شرطين : ( 1 ) حراسة البناء ( 2 ) تهدم البناء الذي أحدث الضرر .
1 - حراسة البناء
712 - تحليل هذا الشرط : لا تتحقق المسئولية إلا إذا تولي شخص حراسة بناء فنيين ما معنى الحراسة وما المقصود من لفظ البناء " .
713 - الحراسة : تتحدد الحراسة هنا على النحو الذي حددناها به في حراسة الحيوان . فحارس البناء إذن هو من له السيطرة الفعلية على البناء ، فيكون مكلفاً بحفظه وتعهده بالصيانة والاستيئاق بأنه ليس قديماً ولا معيباً بحيث يتهدد الناس بالخطر ، ويكون هو المتصرف في أمره ، سواء ثبتت هذه السيطرة الفعلية بحق أو بغير حق ، أي سواء كانت السيطرة شرعية أو غير شرعية ما دامت سيطرة فعلية قائمة . فحارس البناء لا يكون ضرورة هو المالك ، ولا المنتفع ولا الحائز .
ولكن المفروض أن مالك البناء هو الذي يسيطر عليه سيطرة فعلية وهو المتصرف في شؤونه ، ومن ثم توجد قرينة على أن حارس البناء هو المالك والبائع قبل التسليم ، حتى بعد تسجيل عقد البيع ، يستبقي السيطرة الفعلية على البناء ، فيبقي هو الحارس ، ولا تنتقل الحراسة إلى المشتري إلا بالتسليم ( [1392] ) . والمقاول الذي قام بتشييد البناء يعتبر حارساً له حتى يسلمه لمالكه ( [1393] ) . والمالك المعلق ملكه على شرط فاسخ أو على شرط واقف يعتبر أنه هو الحارس إذا تسلم البناء وكانت له عليه السيطرة الفعلية .
وقد تنتقل الحراسة من المالك إلى غيره كالمنتفع ( usufruitier ) والمستحكر والمرتهن رهن حيازة والحائز للبناء بنية تملكه سواء حاز بحسن نية أو بسوء نية . أما المستأجر والمستعير فلا يعتبران في الغالب من الأحوال حارسين لأن السيطرة الفعلية على البناء خلافاً للحيوان المنقول - تبقى عادة عند المالك ( [1394] ) . لكن إذا أقام المستأجر بناء في العين المستأجرة اعتبر حارساً له إلى أن تنتقل ملكية هذا البناء على المالك وفقاً للاتفاق أو لقواعد الالتصاق ( [1395] ) .
وقد يكون الحارس شخصاً معنوياً كجمعية أو شركة أو أحد الأشخاص المعنوية العامة .
وقد يجعل القانون للحارس حق الرجوع على شخص آخر مسئول نحوه كمهندس البناء والمقاول وهما مسئولان عما يحدث في خلال عشر سنوات من ضرر عن تهدم البناء ( م 65 من القانون الجديد ) ، وكالمستأجر وهو المسئول عن صيانة العين المؤجرة ، والبائع وهو ضامن ، وكالبائع وهو الضامن للعيب الخفي .
714 - البناء :والبناء هو مجموعة من المواد مهما كان نوعها - خشباً أو جيراً أو جبساً أو حديداً أو : كل هذا معاً أو شيئاً غير هذا –شيدتها يد إنسان لتتصل بالأرض اتصال قرار . ويستوي أن يكون البناء معداً لسكني إنسان أو لإيواء حيوان أو لإيداع أشياء . فالبيوت والزرابي والخازن تعتبر بناء بل قد لا يكون البناء معداً لشيء من ذلك ، فالحائط المقام بين حدين بناء ، والعمد التذكارية وما إليها من تماثيل مبنية على سطح الأرض بناء ، وكذلك القناطر والخزانات والسدود والجسور ( الكباري ) وكل ما أشيد في باطن الأرض بناء ، كالأنفاق والمصارف والمجاري وأنابيب المياه والغاز . ويعتبر كل هذا بناء ولو لم يتم تشييده ، فإذا أحدث تهدمه ولما يزل في دور التشييد ضرراً كان الحارس –وهو المقاول عادة - مسئولاً عنه .
ولا يعتبر بناء العقار بالتخصيص كالمصاعد . وكذلك الأرض لا تعتبر بناء ، فإذا تطايرت منها شظايا أضرت بالغير ، فلا يعتبر هذا الضرر قد أحدثه تهدم البناء .
2 - تهدم البناء هو الذي أحدث الضرر
715 - تحليل هذا الشرط : يجب أن يكون الضرر الذي أصاب المضرور ناجماً من تهدم البناء . فتنظر فيما يعتبر تهدماً وما لا يعتبر كذلك .
716 - وما يعتبر تهدماً : تهدم البناء هو تفككه وانفصاله عن الأرض يتصل بها اتصال قرار . ويستوي أن يكون التهدم كلياً أو جزئياً ، كما إذا وقع سقف أو تهدم حائط أو انهارت شرفة أو سقط سلم . ويستوي كذلك أن يكون البناء قديماً أو جديداً ، معيباً أو غير معيب ، فلو تخرب مبنى بسبب قدمه أو بسبب حادث كأن يرمي بالقنابل في غارة جوية ، فإن تهدمه بعد ذلك تهدماً كلياً أو جزئياً إذا أحدث ضرراً يرتب مسئولية في ذمة حارس البناء بمقتضى خطأ مفترض .
717 - مالا يعتبر تهدما :ولا يكفي أن يكون الضرر آتيا من البناء ما دام هذا البناء لم يتهدم كله أو بعضه . فلو أن شخصاً زلقت رجله وهو يمشي في غرفة دهنت " أرضيتها " دهاناً جعلها زلجة فأصيب بضرر ، فإن هذا الضرر لا يعتبر ناجماً عن تهدم البناء ، وعليه أن يثبت خطأ في جانب المسئول . ولو أن جسماً صلباً سقط من نافذة في مبني فوقع على شخص أصيب من جراء ذلك بأذى ، فإن هذا الضرر لا يعتبر ناجماً من تهدم البناء ما دام سقوط الجسم الصلب لم يكن نتيجة لتهدم النافذة ( [1396] ) .
ويجب أن ينجم الضرر عن تهدم البناء تهدماً فعلياً ، لا عن مجرد أن يكون البناء مهدداً بالسقوط أو التهدم . وقد كان القانون الروماني في هذه الحالة يجعل الحق للشخص المهدد أن يستولي على البناء وان يصلح ما به من الخلل . واتبع القانون الفرنسي القديم هذه القاعدة ، دون أن يجعل للشخص المهدد حق الاستيلاء على البناء . أما القانون الفرنسي الجديد فلم ينص على هذا التدبير الوقائي . وسار القانون المدني المصري القديم على نهج القانون الفرنسي في عدم النص على ذلك . ولكن القانون المدني الجديد أجاز في هذه الحالة اتخاذ تدابير واقية ، وقد رأيناه ينص في الفقرة الثانية من المادة 177على ما يأتي : " ويجوز لمن كان مهدداً بضرر يصيبه من البناء أن يطالب المالك باتخاذ ما يلزم من التدابير الضرورية لدرء الخطر . فإن لم يقم المالك بذلك ، جاز الحصول على إذن من المحكمة في اتخاذ هذه التدابير على حسابه " . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وقد احتذي المشروع مثال بعض التقنيات الأجنبية ، فقرر بين أحكام المسئولية عن البناء قاعدة خاصة بشأن ما يتخذ من التدابير الوقائية التي لا تنطوى على معنى التعويض . ويكفي لإعمال هذه القاعدة أن يتحقق معنى التهديد بوقوع الضرر من جراء البناء دون أن يقع فعلاً . فلمن يتهدده هذا الضرر أن يكلف المالك ، دون الحارس ، باتخاذ ما يلزم من التدابير لدرء الخطر . فإذا لم يستجب مالك البناء لهذا التكليف ، جاز للمحكمة أن تأذن لمن يتهدده الضرر باتخاذ هذه التدابير على حساب المالك ( [1397] ) " .
والحريق غير التهدم ، فإذا احترق بناء وامتدت الحريق إلى مبان مجاورة ، فأصيبت بضرر ، لم يكن هذا الضرر ناجماً عن تهدم البناء ، حتى لو كان البناء المحترق انهدم عقب الحريق مباشرة نتيجة لهذا الحريق فأصاب الغير بالضرر ( [1398] ) .
المطلب الثاني
الأساس الذي تقوم عليه المسئولية عن تهدم البناء
718 - مسألتان :متى تحققت مسئولية حارس البناء على الوجه الذي تقدم ذكره ، قامت هذه المسئولية على خطأ مفترض في جانب الحارس كما بينا . فنفصل الآن ما هو هذا الخطأ ، والى أي حد هو مفترض .
1 - ما هو الخطأ
719 - ما الذي يثبته المضرور :تقدم أن حارس البناء عن تهدمه ما لم يثبت أن الحادث لا يرجع سببه إلى إهمال في الصيانة أو قدم في البناء أو عيب فيه .
فالمضرور هو الذي يكلف أولاً بإثبات أمرين :
( 1 ) أن الضرر الذي أصابه نجم عن تهدم البناء تهدماً كلياً أو جزئياً . وقد بينا متى ينجم الضرر عن تهدم البناء .
( 2 ) أن المدعى عليه هو حارس البناء الذي تهدم . وقد بينا كيف يتحدد حارس البناء .
720 - ما الذي يثبته حارس البناء : فإذا ما أثبت المضرور ذلك ، كان على حارس البناء ، حتى يدفع مسئوليته عن طريق نفي الخطأ ، أن يثبت أن تهدم البناء لا يرجع سببه إلى إهمال في الصيانة أو قدم في البناء أو عيب فيه ( [1399] ) .
فإذا لم يستطيع إثبات ذلك افترض القانون أمرين :
( أولاً ) أن التهدم سببه إهمال في صيانة البناء أو قدم هذا البناء أو وجود عيب فيه .
( ثانياً ) أن هذا الإهمال أو القدم أو العيب منسوب إلى خطأ حارس البناء ، فهو الذي قصر بأن لم يعن عناية كافية بصيانة البناء أو بتجديده أو بإصلاحه ، فترتب على هذا التقصير أن تهدم البناء .
ومن ثم نرى أن مسئولية حارس البناء تقوم على خطأ مفترض في جانبه ، هو الإهمال في صيانة البناء أو في تجديده أو في إصلاحه ، حتى تداعي البناء وتهدم فأصاب الغير بالضرر .
2 - إلى أي حد هو مفترض
721 - الخطأ المفترض ذو شقين ، أحدهما قابل لإثبات العكس والآخر غير قابل لذلك :هذا الخطأ المفترض في جانب حارس البناء هو كما رأينا ذو شقين ، الشق الأول منه يقوم على أن التهدم سببه إهمال في صيانة البناء أو تجديده أو إصلاحه ، والشق الثاني يقوم على أن هذا الإهمال منسوب إلى خطأ الحارس .
والشق الأول من هذا الخطأ المفترض يقبل إثبات العكس ، أما الشق الآخر فلا يقبل .
وتفصيل ذلك أن حارس البناء يستطيع أن ينفي الشق الأول ، بأن يثبت أن التهدم ليس سببه إهمالاً في صيانة البناء أو في تجديده أو في إصلاحه . وهو يستطيع ذلك بإحدى وسيلتين :إما بإثبات أن البناء لم يكن في حاجة إلى صيانة أو إلى تجديد أو إلى إصلاح ، بل كان الحارس قائماً كما ينبغي بصيانته وتجديده وإصلاحه ، وإما بإثبات أن التهدم كن نتيجة لسبب غير الحاجة إلى الصيانة أو التجديد أو الإصلاح ، كحريق شب في البناء أو متفجرات دمرته أو قنابل ألقيت عليه أو نحو ذلك . فإذا قام بهذا الإثبات ، دفع عن نفسه الخطأ المفترض ووجب تطبيق القواعد العامة ، وتعين على المضروران يثبت خطأ في جانبه ( [1400] ) .
أما إذا لم يستطيع أن ينفي الشق الأول ، بقى هذا الشق مفترضاً في جانبه وكذلك يبقي الشق الثاني مفترضاً لأن افتراضه لا يقبل إثبات العكس ، ويعتبر الإهمال في الصيانة أو التجديد أو الإصلاح منسوباً إلى خطته . ولا يستطيع الحارس في هذه الحالة أن يدفع عنه المسئولية إلا بنفي علاقة السببية ما بين تهدم البناء والضرر الذي وقع ، بأن يثبت مثلاً أن زلزالاً كان هو السبب في التهدم وهذه هي القوة القاهرة ، أو أن عدواً مغيراً هو الذي خرب البناء وهذا هو الخطأ الغير ، أو أن المضرور نفسه هو الذي منع حارس البناء من القيام بأعمال الصيانة أو التجديد أو الإصلاح وهذا هو خطأ المضرور .
ولما كان عديم التمييز لا يتصور الخطأ في جانبه ، وكانت مسئولية حارس البناء قائمة على خطأ مفترض ، فحارس البناء لا يجوز أن يكون عديم التمييز .
722 - الخطأ المفترض لا يقوم عند قيام علاقة عقدية : والخطأ المفترض بشقيه لا يقوم حيث توجد علاقة عقدية ما بين حارس البناء والمضرور . فإذا كان المضرور هو مستأجر البناء مثلاً وتهدم البناء فأصابه بالضرر ، رجع المستأجر على المؤجر بمقتضى مسئولية عقدية مصدرها عقد الإيجار ، ولا محل للمسئولية التقصيرية ( [1401] ) . وإذا كان المضرور نزيلاً في فندق ، فصاحب الفندق مسئول قبله بمقتضى العقد لا بمقتضى العقد لا بمقتضى مسئولية تقصيرية . وقد قدمنا أن المسئولية العقدية تنفي المسئولية التقصيرية .
أما إذا كان المضرور خادماً لحارس البناء أو تابعاً له ، فإن العقد في هذه الحالة لا يلزم المتبوع بأن يكلف سلامة التابع ، فيكون الحارس مسئولاً قبل التابع بمقتضى المسئولية التقصيرية ، ويقوم الخطأ المفترض على الوجه الذي بيناه .
المبحث الثالث
مسئولية حارس الأشياء ( ( [1402] ) )
723 - النصوص القانونية تطور المسئولية عن الأشياء :لم يشتمل القانون المدني القديم على نص خاص لتحديد مسئولية حارس الأشياء ، فكانت هذه المسئولية تترك للقواعد العامة . وقد تطورت المسئولية عن الأشياء غير الحية ( choses inanimese ) تطوراً سريعاً منذ بداية القرن العشرين . فقد كانت بادئ الأمر قائمة على أساس وجوب إثبات خطأ في جانب المسئول . ولم يفكر واضعو القانون المدني الفرنسي في تخصيص قاعدة لهذا النوع من المسئولية . بل أن المشروع الفرنسي عند ما قرر المسئولية عن الأشياء في الفقرة الأولي من المادة 1384 ، فنص على أن " الشخص مسئول . . عن الأشياء التي تكون في حراسته " ، لم يكن يقصد إلا الحالتين اللتين نص عليهما بعد ذلك ، وهما المسئولية عن الحيوان والمسئولية عن البناء ، بعد أن مهد لهما بهده العبارة العامة . أما سائر الأشياء غير الحيوان والبناء ، فما لا ريب فيه أن المشروع الفرنسي لم يرد أن يستثنيها من القاعدة العامة المقززة لمسئولية الإنسان عن فعله ، وهي القاعدة التي قررها في المادتين 1382و1383 ، فكل ضرر يصيب الغير من شيء يسأل عنه صاحب هذا الشيء إذا أثبت المضرور خطأ في جانبه ، ولا فر ق بين أن يصيب الإنسان غيره بالضرر بفعله المباشر أو بواسطة شيء في يده وقد سار الفقه والقضاء في فرنسا على هذا الرأي وقتاً طويلاً حتى أواخر القرن التاسع عشر .
ولكن النظم الاقتصادية لم تبق على حالها ، بل أحدثت المخترعات الحديثة تطوراً عظيماً ، فقامت الصناعات الكبيرة ووسائل النقل السريعة ، وسخر الإنسان القوي الطبيعة لخدمته ورفاهته ، ولم يبال أن تكون قوى عمياء لا يسيطر عليها كل السيطرة ، فهي إذا ما أفلتت من يده –وكثيراً ما تفلت - لا يلبث أن يكون ضحيتها . وكان لذلك أكبر الأثر في تطور المسئولية عن الأشياء . فإن من يستخدم هذه المخترعات ، فيعرض الأرواح للخطر ، والأموال للتلف ، من الحق أن يكون خاضعاً في المسئولية عن الضرر الذي تحدثه هذه الأشياء لقاعدة اشد من القاعدة التي يخضع لها في مسئوليته عن فعله الشخصي . وإذا بقينا نشترط إثبات خطأ في جانب صاحب الشيء ، فإنه يتعذر على المضرور في أكثر الأحوال إثبات هذا الخطأ . لذلك تلمس الفقه والقضاء في فرنسا طريقاً يجعلان به عبء الإثبات على صاحب الشيء لا على المضرور ، فيتمشى القانون بذلك مع التطور الاقتصادي والحاجات الاجتماعية ، فأخذا يتوسعان في تفسير الفقرة الأولي من المادة 1384 من القانون المدني الفرنسي ( [1403] ) ، فيجعلاها تقرر المسئولية عن الأشياء على أساس خطأ مفترض في جانب من يوجد الشيء في حراسته ( [1404] ) .
وعلى هذا الأساس الجديد الذي ينيت عليه المسئولية عن الأشياء - هو الخطأ المفترض في جانب الحارس - بقى في تطور مستمر منذ مستهل القرن العشرين إلى اليوم . فقد كان افتراض الخطأ بادئ الأمر قابلاً لإثبات العكس ، ثم أصبح غير قابل لذلك . وكان الخطأ المفترض مقصوراً على الأشياء المنقولة ، ثم جاوزها إلى العقار . وكان يستثني من دائرة الخطأ المفترض الأشياء التي يحركها عمل الإنسان كالسيارات ونحوها ، ثم عممت القاعدة فشملت جميع الأشياء . وكان هناك تفريق بين الشيء الخطر ، يكون الخطأ فيه مفترضاً والشيء غير الخطر يطلب فيه إثبات الخطأ ، ثم زالت هذه التفرقة . وهكذا أصبحت دائرة الخطأ المفترض تتسع لأي شيء ، منقولاً كان أو عقاراً ، متحركاً بقوته الذاتية أو محركاً بيد الإنسان ، خطراً أو غير خطر . ولم يستبق القضاء الفرنسي إلا معنى " الحراسة ( garde ) . فهو بيني المسئولية عن الشيء على " خطأ في حراسته ( faute dans la garde ) . وهذا الخطأ مفترض افتراضاً غير قابل لإثبات العكس . ولا يعرف بين النظريات القانونية نظرية تطورت بالسرعة والخطورة التي تطورت بهما نظرية المسئول عن الأشياء ، فقد انقلبت في بضع عشرات من السنين إلى النقيض مما قصد المشروع . ولا شك في أن المحاكم الفرنسية كان قضاؤها قضاء اجتهاد لا قضاء تفسير ، وهي قد تمشت في ذلك لا مع النصوص القانونية كما قصد إليه المشروع وقت وضع التشريع ، بل مع ما جد من الحاجات الاقتصادية . وأيد الفقه القضاء في ذلك ، وتضافر كلاهما على وضع أسس لنظرية جديدة تكون أكثر انطباقاً على مقتضيات المدنية بعد تطور الصناعة وتقدم المخترعات .
أما في مصر فكانت الحالة في القانون المدني القديم تختلف عنها في فرنسا من حيث النصوص القانونية . فالقانون القديم لم يتضمن نصاً يقابل الفقرة الأولي من المادة 1384 ، وقد رأينا في القضاء الفرنسي قد استند إلى هذا النص في تأسيس نظريته الجديدة في المسئولية عن الأشياء . وقد تضمن القضاء المصري أحكاماً تذهب إلى جعل المسئولية عن الشيء مبينة على خطا مفترض في جانب الحارس ( [1405] ) . وبنت أحكام أخرى هذا المبدأ على أساس المسئولية العقدية ( [1406] ) ، وقاس بعض الأحكام المسئولية عن الشيء على المسئولية عن الحيوان ( [1407] ) . بل هناك من الأحكام المصرية ما ذهب إلى أبعد من هذا ، فقال بنظرية تحمل التبعة دون أن يستند في ذلك إلى نص معين ( [1408] ) . ولكن القضاء المصري في مجموعه كان لا يزال يرى أن المسئولية عن الشيء لا تتحقق إلا إذا ثبت خطأ في جانب الحارس ( [1409] ) . ولم يكن في الواقع من الأمر مستطيعاً –من حيث النصوص القانونية - أن يجد ما يساعده على دعم نظرية جديدة مثل النظرية التي أخذ بها القضاء الفرنسي ( [1410] ) .
فجاء القانون المدني الجديد بالنص المطلوب . وراعي فيه حالة البلاد الاقتصادية ، وحاجات الصناعات الناشئة ، فلم يطلق المسئولية القائمة على خطأ مفترض لتشمل جميع الأشياء ، بل قصرها على الآلات الميكانيكية وعلى الأشياء التي تتطلب حراستها عناية خاصة . وهي مرحلة من مراحل التطور مر بها القضاء الفرنسي كما رأينا . فنصت المادة 178من هذا القانون على ما يأتي :
" كل من تولي حراسة أشياء تتطلب حراستها عناية خاصة أو حراسة آلات ميكانيكية يكون مسئولاً عما تحدثه هذه الأشياء من ضرر ، ما لم يثبت أن وقوع الضرر كان بسبب أجنبي لا يد له فيه . هذه مع عدم الإخلال بما يرد في ذلك من أحكام خاصة ( [1411] ) " .
وهذه الأحكام التي استحدثها القانون المدني الجديد ليس لها أثر رجعي فهي لا تسري إلا على الحوادث التي تقع ابتداء من 15من شهر أكتوبر سنة 1949 ، أي منذ نفاذ القانون الجديد . والعبرة هنا ، كما في قواعد المسئولية عن البناء ، بتاريخ وقوع الضرر الذي ينجم عن فعل الشيء ، فإذا وقع هذا الضرر في تاريخ سابق على هذا التاريخ فالقانون القديم هو الذي ينطبق ، وإلا فالقانون الجديد .
ونبحث الآن –كما بحثنا في الحالات الأخرى - متى تتحقق مسئولية حارس الأشياء ، وعلى أي أساس تقوم هذه المسئولية ، تطبيقاً للأحكام التي استحدثها القانون المدني الجديد .
المطلب الأول
متى تتحقق مسئولية حارس الأشياء
724 - شرطان لتحقق المسئولية :تتحقق المسئولية بتولي شخص حراسة شيء تقتضي حراسته عناية خاصة أو حراسة آلات ميكانيكية ووقوع الضرر بفعل الشيء . فعند ذلك يكون حارس الشيء مسئولاً عن هذا لضرر .
فتحقق المسئولية يستلزم إذن توافر شرطين ( 1 ) أن يتولى شخص حراسة شيء تقتضي حراسته عناية خاصة أو حراسة آلات ميكانيكية ( 2 ) أن يقع الضرر بفعل الشيء .
1 - حراسة شيء تقتضي حراسته عناية خاصة أو حراسة آلات ميكانيكية
725 - تحليل هذا الشرط :لا تتحقق المسئولية إلا إذا تولي شخص حراسة شيء فنبين معنى الحراسة وما هو المقصود بالشيء .
726 - حددنا لحراسة فيما تقدم . فهي ليست في يد مال الشيء ضرورة ، ولا في يد حائزه ، ولا في يد المنتفع به . إنما الحراسة هي السيطرة الفعلية علي الشيء قصداً واستقلالا ، سواء استندت هذه السيطرة إلى حق مشروع أو لم تستند .
والمفروض أن المالك هو حارس الشيء ، وعليه هو ، إذا رفعت ضده دعوى المسئولية ، أن يثبت أن الحراسة خرجت من يده وقت وقوع الحادث ويبقى المالك حارساً حتى لو افلت الشيء من يده ما دام لم يتخل عنه ( abandon ) فإذا ما تخلى عنه وأصبح سائبة ( res nullius ) زالت حراسته ، ولم تنتقل الحراسة إلى أحد وإذا كان المالك قد ملك بعقد بيع ، فالبائع قبل التسليم هو الحارس ، ويصبح الحارس هو المشتري بتسليم الشيء إليه ولو كان عقد البيع باطلاً أو قابلاً للإبطال أو موقوفاً فيه نقل الملكية وتسلم المشتري الشيء فإنه يصبح حارسه ولو لم تنتقل إليه الملكية ، لأن العبرة ليست بالملكية بل بالسيطرة الفعلية . والمالك تحت شرط فاسخ أو واقف يعتبر حارساً ما دامت له السيطرة الفعلية على الشيء .
وقد تنتقل الحراسة من المالك إلى غيره كالمنتفع ( usufruitier ) والمرتهن رهن حيازة والحائز بنية التملك سواء حاز بحسن نية أو بسوء نية ، ما دامت السيطرة الفعلية على الشيء قد انتقلت من المالك إلى وأحد من هؤلاء . فسارق الشيء يعتبر حارساً له ، أما مالك الشيء المسروق فيفقد الحراسة ولا يعتبر مسئولاً بمقتضى الخطأ المفترض ، ثم لا يكون مسئولاً إذا ثبت في جانبه إهمال أدى إلى سرقة الشيء لانقطاع علاقة السببية ما بين هذا الإهمال والضرر . أما المستأجر والمستعير والمودع عنده وأمين النقل فينتقل إليهم الحراسة إذا انتقلت إليهم السيطرة الفعلية على الشيء ، ويغلب أن يقع ذلك في المنقول ( [1412] ) .
والتابع لا يعتبر في العادة حارساً للشيء ، فحارس السيارة هو في الأصل مالكها حتى لو كان لها سائق ، وحتى لو قاد السائق السيارة من غير أن يكون فيها صاحبها فإذا ثبت خطأ في جانب السائق ، أمكنت مساءلة صاحب السيارة إما باعتباره متبوعاً ثبت خطأ في جانب السائق ، لم يبق إلا مساءلة صاحب السيارة باعتباره حارساً . وقد ينتقل المتبوع إلى التابع السيطرة الفعلية على السيارة ، فيصبح التابع في هذه الحالة هو الحارس وفي جميع الأحوال إذا خرج التابع عن تعليمات متبوعة ، وقاد السيارة الشخصية أو استولي عليها دون علم صاحبها ، فإنه يعتبر في هذه الحالة حارساً ويكون مسئولاً بمقتضى خطأ مفترض ، ويكون صاحب السيارة مسئولاً باعتباره متبوعاً . ،
وإذا أودعت السيارة في " الجاراج " ، فإن كان صاحب " الجاراج " له السيطرة الفعلية عليها فإنه يصبح الحارس ، وإلا فتبقى الحراسة عند صاحب السيارة . وكذلك الأمر إذا ترك صاحب السيارة سيارته في مكان وقوف السيارات تحت رقابة مشرف ، ويغلب في هذه الحالة أن تبقى السيارة في حراسة صاحبها فيما يخرج عن عمل المشرف ( [1413] ) . والسيارة إذا سلمت إلى ميكانيكيي لإصلاحها تنتقل في الغالب حراستها إليه ، لأنه يصبح صاحب السيطرة الفعلية عليها . ولا يبقي صاحب السيارة حارساً في هذه الحالة ، إلا إذا أبقى السيارة تحت إشرافه وقت إصلاحها .
ومن يتعلم القيادة لا يكون حارساً للسيارة ، والحارس هو المعلم . وإذا خالف المتعلم إرشادات معلمه وتوجيهاته ، كان هذا خطأ ثابتاً في جانبه . أما الممتحن لمن تعلم القيادة فلا يكون حارساً ، والمتعلم هو الذي يستبقي الحراسة .
727 - الشيء : كل شيء مادي غير حي فيما عدا البناء يدخل في هذا النطاق ما دامت حراسته تقتضي عناية خاصة .
فالأشياء غير المادية والحيوان والبناء لا تدخل في النطاق المتقدم الذكر . وقد سبق تحديد المسئولية عن الحيوان وعن البناء . والمسئولية عن الحيوان لا تختلف في أحكامها من حيث الخطأ المفترض عن أحكام المسئولية عن الأشياء . أما لمسئولية عن البناء فتختلف ، وقد قدمنا أن الخطأ فيه ذو شقين ، أحدهما مفترض افتراضاً قابلاً لإثبات العكس ، والآخر مفترض افتراضاً غير قابل لإثبات العكس . ومن ثم وجب التمييز في الشيء بين ما إذا كان بناء أو غير بناء . فإن كان بناء ، استبعدت أحكام المسئولية عن الأشياء ، وقام خطأ مفترض عناية خاصة ، طبقت أحكام المسئولية عن الأشياء ، وقام خطأ مفترض افتراضاً لا يقبل إثبات العكس على النحو الذي سنبينه .
ويعتبر شيئاً بالمعني المراد في المادة 178الآلات الميكانيكية إطلاقاً . ولم يشترط القانون في الآلات الميكانيكية أن تتطلب حراستها عناية خاصة كما اشترط ذلك في غيرها ، لأن هذه الآلات تتحرك بمحرك ذاتي ، فافترض القانون لذلك أن حراستها تتطلب دائماً عناية خاصة .
أما غير الآلات الميكانيكية فلا يعتبر شيئاً بالمعنى المراد في المادة 178إلا إذا اقتضت حراسته عناية خاصة ، كما سنرى أن فكرة العناية الخاصة هي فكرة نسبية ، فالشيء الواحد قد تستدعي حراسته عناية خاصة أو لا تستدعي هذه العناية بحسب ما يختلف عليه من وضع .
ويستوي أن يكون الشيء منقولاً أو عقاراً بطبيعته كالأشجار والأرض إذا انخسف والمباني إذا نجم الضرر لا عن تهدمها ، أو عقاراً بالتخصيص كالمصاعد والآلات الزراعية أو الصناعية المخصصة لخدمة مزرعة أو مصنع ولا يدخل الشيء المباح ( res nullius ) ، إذ ليس له حارس يكون مسئولاً عنه .
2 - وقوع الضرر بفعل الشيء
728 - التدخل الإيجابي :يجب أن يكون الضرر ناشئاً عن فعل الشيء ( fait de la chose ) ولا يكفي في ذلك تدخل الشيء تدخلاً سلبياً . فإذا وقفت عربة في المكان المعتاد للوقوف واصطدمت بها عربة أخرى أو أحد العابرة ، أو كانت شجرة ثابتة في مكانها لم تقتلعها الريح فعثر فيها أحد المارة وأصيب بضرر من ذلك ، أو كانت آلة ميكانيكية ثابتة في مكانها الطبيعي لا تتحرك فاصطدم بها شخص فجرح ، كانت هذه كلها أوضاعاً سلبية للشيء ، ولا يمكن القول في مثل هذه الحالات إ ، الضرر الذي وقع هو من فعل الشيء ، لأن الشيء لم يدخل تدخلاً إيجابياً في إحداث الضرر ، بل كان تدخله سلبياً محضاً .
أما إذا كانت العربة تسير أو كانت واقفة ولكن في غير وضعها الطبيعي ، أو كانت الشجرة قد اقتلعتها الريح فقذفت بها في عرض الطريق ، أو كانت الآلة الميكانيكية في غير مكانها الطبيعي أو كانت تتحرك ، فإن الضرر يكون في هذه الحالات من فعل الشيء ، وقد تدخل إيجابياً في إحداثه .
ويمكن القول إن الشيء تدخل إيجابياً في إحداث الضرر ، إذا كان هذا الشيء في وضع أو في حالة تسمح عادة بأن يحدث الضرر ( [1414] ) .
والمفروض ، إذا أحدث الشيء ضرراً ، أن الشيء قد تدخل تدخلاً إيجابياً في إحداثه . والمسئول هو الذي عليه أن يثبت أن الشيء لم يتدخل في إحداث الضرر إلا تدخلاً سلبياً ، فينتقي بذلك افتراض الخطأ ، ولا تتحقق المسئولية إلا بإثبات خطأ في جانب المسئول .
729 - عدم ضرورة الاتصال المادي المباشر :والتدخل الإيجابي لا يستلزم الاتصال المادي المباشر . فقد لا يتصل الشيء اتصالاً مادياً مباشراً بمن وقع عليه الضرر ، ومع ذلك يتدخل تدخلاً إيجابياً في إحداث الضرر . فإذا سارت عربة بسرعة تفوق السرعة المعتادة ففزع أحد المارة ووقع فأصيب بضرر دون أن تمسه العربة ، وإذا وقفت عربة وقوفاً فجائياً وكانت عربة تسير وراءها فاضطرت إلى تفادي الاصطدام بها بأن انحرفت عن الطريق فاصطدمت بشجرة ، وإذا سدت عربة منافذ الطريق على راكب " موتوسيكل " فختل توازن الراكب وسقط إلى الأرض ، ففي كل هذه الحالات تدخل الشيء تدخلاً إيجابياً في إحداث الضرر دون أن يمس الشخص أو الشيء المضرور أو يتصل به اتصالاً مادياً مباشراً .
730 - فعل الشيء وفعل الإنسان :وتجب الدقة في التمييز بين فعل الشيء ( fait de la chose ) وفعل الإنسان ( fait de lnhomme ) . ذلك أن المسئولية عن فعل الشيء تقوم على خطأ مفترض ، أما المسئولية عن فعل الإنسان فتقوم على خطأ واجب الإثبات . ومن ثم كان الفرق كبيراً بين المسئوليتين ، ووجب البحث عن معيار للتمييز فيما بينهما .
وقد سار القضاء الفرنسي مراحل متعاقبة في طريقه إلى هذا التمييز ففي المرحلة الأولي كان الضرر يعتبر من فعل الشيء إذا نجم عن فعل ذاتي للشيءfait autonome de la chose ) . ويتحقق ذلك في أحد فرضين : ( 1 ) إذا وقع الضرر من الشيء وهو غير محرك بيد الإنسان . ( 2 ) إذا وقع الضرر من الشيء وهو محرك بيد الإنسان ، ولكن الشيء انطوى على عيب ذاتي كان هو السبب في وقوع الضرر –ولكن هذا المعيار لم يكن مرضياً ، فهو يعتبر الضرر من فعل الإنسان ، ويقضي بوجوب إثبات الخطأ ، في حالة من أشد الحالات حاجة إلى افتراض الخطأ ، وهي حالة ما إذا أحدث سائق السيارة ضرراً وهو يقود السيارة ولم يكن بها عيب ذاتي . فهذه حالة لا تدخل في الحالتين اللتين يعتبر الضرر فيهما من فعل الشيء . فيجب فيها إثبات الخطأ في جانب السائق . وهو أمر متعذر في الكثرة الغالبة من الحوادث ( [1415] ) . وقد أخذ القضاء الفرنسي بتذبذب في الأخذ بهذا المعيار وفي تركه . حتى صدر حكم من محكمة النقض الفرنسية صريح في تركه وفي اعتبار الضرر من فعل الشيء حتى لو كان هذا الشيء محركاً بيد الإنسان ولم يكن به عيب ذاتي . فسائق السيارة إذا حدث ضرراً وهو يسوق السيارة يكون مسئولاً بمقتضى خطأ مفترض في جانبه ، لأن السيارة في حاجة إلى الحراسة لما ينجم عنها من الخطر ( [1416] ) .
وعلى هذا النحو استبدلت محكمة النقض الفرنسية ، في المرحلة الثانية معياراً بمعيار . وجعلت معيارها الجديد في حكم لها مشهور صدر في 21 فبراير سنة 1927 ( [1417] ) ، أن يكون الشيء في ذاته خطراً بحيث يحتاج إلى الحراسة . وهذا المعيار قريب جداً من المعيار الذي أخذ به القانون المصري الجديد ، حيث يقول في المادة178 : " كل من تولي حراسة أشياء تتطلب حراستها عناية خاصة أو حراسة آلات ميكانيكية… ( ( [1418] ) " وبقى معيار " الشيء الخطر " تتداوله الفقهاء والمحاكم لتأييده أو لتنفذه ، وظل الأمر كذلك مدة قصيرة ، حتى طلعت محكمة النقض الفرنسية في دوائرها المجتمعة بحكم مشهور صدر في 13 فبراير سنة 1930 ( [1419] ) ، قضت فيه على معيار " الشيء الخطر " فلم تردده أسباب حكمها ، بل ربطت المسئولية القائمة على خطأ مفترضة بفكرة الحراسة ( a la garde de la chose ) ، لا بالشيء ذاته خطراً كان أو غير خطر .
فأخذ الفقهاء ، في مرحلة ثالثة ، يحللون فكرة الحراسة . وذهب الأستاذان مازو إلى التمييز بين الحراسة المادية ( garde materielle ) والحراسة القانونية ( gard juridique ) . فالحراسة المادية هي السيطرة الفعلية على الشيء ، أما الحراسة القانونية فتوجد حيث يوجد التزام قانوني بالمحافظة على الشيء وبمنعه من أن يكون مصدراً ضرر للناس . ومن ثم يكون السارق قد استولى على الحراسة المادية دون الحراسة القانونية ، ويستبقي صاحب الشيء المسروق الحراسة القانونية ، فيكون ، هو دون السارق ، المسئول عن الشيء المسروق .
ثم عدل الأستاذان مازو عن هذا الرأي ، في المرحلة الرابعة وهي المرحلة الحالية ، بعد أن أصدرت محكمة النقض الفرنسية في دوائرها المجتمعة ، في 2ديسمبر سنة 1941 ( [1420] ) ، حكماً آخر لا يقل أهمية عن الحكم المتقدم ، قالت فيه أن السارق يعتبر حارساً للشيء المسروق ، ويكون مسئولاً عما يحدثه هذا الشيء من الضرر بنا على خطأ مفترض في جانبه . واعتبر الأستاذان مازو والجمهرة من الفقهاء أن حراسة الشيء ، كحراسة الحيوان ، هي السيطرة الفعلية على الشيء والقدرة على التصرف في أمره ، مشروعة كانت هذه السيطرة أو غير مشروعة . ومالك الشيء إذا كان حائز له يعتبر حارساً لأن له السيطرة الفعلية عليه ، وهي سيطرة مشروعة . ويرتب الأستاذان مازو على هذا التحليل أن الضرر يعتبر من فعل الشيء إذا كان الشيء قد أحدث الضرر وهو مفلت من زمام حارسه ذلك أن الحارس ما دام قابضاً على زمام الشيء ، فكل ضرر يحدث يعتبر من فعله لا من فعل الشيء ، ولا يكون مسئولاً في هذه الحالة إلا إذا اثبت خطأ في جانبه . أما إذا أفلت الشيء لا من فعل الحارس ويكون هذا مسئولاً بمقتضى خطأ مفترض ( [1421] ) . وعندما يطبق الأستاذان معيارهما الجديد ، " إفلات زمام الشيء من سيطرة الحارس " ، يذهبان إلى أن الشيء إذا أحدث ضرراً ، فالمفروض أن زمامه قد أفلت من يد الحارس وان الضرر قد حدث بفعل الشيء ، ما لم يكن الحارس قد وجه الشيء قصداً إلى إحداث الضرر ، فهنا يعتبر الضرر قد حدث بفعل الحارس ( [1422] ) . ومن ثم فكل ضرر يحدث بتدخل إيجابي من الشيء ، ولم يكن مقصوداً من حارسه . يعتبر أنه قد حدث " بفعل الشيء ( [1423] ) " .
731 - القانون المدني الجديد :والقانون المدني الجديد ربط الخطأ المفترض بحراسة الأشياء التي تتطلب حراستها عناية خاصة ، وفرض أن الآلات الميكانيكية تتطلب حراستها عناية خاصة دائماً .
لذلك لسنا في حاجة إلى إجهاد النصوص لتحديد الفكرة التي يقوم عليها الخطأ المفترض في المسئولية عن الأشياء في القانون الجديد . فهذا الخطأ المفترض يقوم على فكرة " العناية الخاصة " التي تتطلبها حراسة الشيء . ولا يجوز اعتبار أن الضرر قد حدث بفعل الشيء إلا في حالتين : ( الأولي ) أن يكون هذا الشيء آلة ميكانيكية تدخلت تدخلاً إيجابياً في إحداث الضرر ، أي كانت في وضع أو في حالة تسمح عادة بأن يحدث الضرر . ( والثانية ) أن يكون هذا الشيء ليس آلة ميكانيكية ولكن حراسته تقتضي عناية خاصة . وهذا أقرب ما يكون إلى المعيار " الشيء الخطر " كما قدمنا . فإذا كان الشيء في حراسة شخص ، وكانت هذه الحراسة تقتضي عناية خاصة بالنسبة إلى طبيعة هذا الشيء أو بالنسبة إلى ظروفه وملابساته ، ثم أحدث الشيء ضرراً ، فإنه يقترض أن الحارس قد قصر في بذل هذه العناية الخاصة حتى أفلت زمام الشيء من يده ، فأحدث الضرر . أما إذا كانت الحراسة لا تقتضي عناية خاصة ، فلا يفرض أن الحارس قد قصر في بذل العناية الواجبة ، بل يجب على المضرور أن يقيم الدليل على هذا التقصير .
يبقى بعد ذلك أن نعرف متى تحتاج حراسة الشيء إلى عناية خاصة؟ قدمنا أنه يجب في ذلك الرجوع إلى طبيعة الشيء ، ثم إلى ظروفه وملابساته . ويترتب على ذلك أنه متى كانت طبيعة الشيء تقتضي عناية خاصة قام الخطأ المفترض . على انه يلاحظ أن الآلات الميكانيكية ، كالسيارات والآلات الزراعية والصناعية والقاطرات البخارية والكهربائية والسفن البخارية والأسلحة النارية والمصاعد ، يفرض القانون بالنص أن حراستها تحتاج إلى عناية خاصة ، نظراً لطبيعتها ولما ركب فيها من محرك ذاتي ( dynamisme propre ) وليست الآلات الميكانيكية وحدها هي التي تحتاج حراستها إلى عناية خاصة نظراً لطبيعتها . بل توجد أشياء أخرى غير ميكانيكية تقتضي طبيعتها أن تكون في نفس الوضع . مثل ذلك الأسلحة غير الميكانيكية على اختلاف أنواعها والأسلاك الكهربائية والمواد الكيماوية والأدوية الطبية والزجاج والمصابيح والفؤوس والمناجل والمفرقعات وما إلى ذلك ( [1424] ) .
على أن الشيء قد لا تقتضي حراسته عناية خاصة بالنظر على طبيعته ، ولكن الظروف والملابسات التي وجد فيها تجعل هذه الحراسة في حاجة إلى عناية خاصة فعربة الركوب والشجرة والسلم والحبل والرمال والصخر ، كل هذه ليست أشياء خطرة بطبيعتها ، ولكن قد تصبح خطرة في ظروف معينة فعربة الركوب بالنسبة إلى المشاة شيء خطر ، وهي ليست كذلك بالنسبة إلى السيارات والشجرة ليس ت خطرة ما دامت في وضعها الطبيعي ، فإذا اقتلعتها الريح ورمت بها في عرض الطريق أصبحت شيئاً خطراً . والسلم يصبح خطراً إذا دهن بمادة لزجة تجعل الانزلاق عليه أمراً محتملاً . والحبل قد يصبح خطراً إذا جعل في وضع بحيث ترتطم به الناس . وهذا هو الشأن في الرمال إذا انهالت ، وفي الصخر إذا انحدر ( [1425] ) .
ومن ذلك نرى أن الشيء تقتضي حراسته عناية خاصة إذا كان خطراً بطبيعته أو كان خطراً بملابساته . وهو يصبح خطراً بملابساته إذا كان في وقع أو في حالة تسمح عادة بأن يحدث الضرر ، أي إذا تدخل تدخلاً إيجابياً في إحداث الضرر . وهنا يتلاقى القضاء الفرنسي مع نصوص القانون المصري الجديد ( [1426] ) .
المطلب الثاني
على أساس تقوم مسئولية حارس الأشياء
732 - مسألتان : متى تحققت مسئولية حارس الشيء على النحو الذي قدمناه ، قامت هذه المسئولية على خطأ مفترض في جانب الحارس فنبين الآن ما هو هذا الخطأ ، والى أي حد هو مقترض .
ما هو الخطأ
733 - خطأ في الحراسة : الخطأ المفترض في جانب الشيء ، كالخطأ المفترض في جانب حارس الحيوان ، هو خطأ في الحراسة ( faute dans la gar4de ) . فإذا ألحق الشيء ضرراً بالغير ، كان المفروض أن زمام هذا الشيء قد أفلت من يد حارسه ، وهذا هو الخطأ .
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الخطأ في الحراسة بهذا التفسير هو خطأ اقرب إلى الصنعة منه إلى الحقيقة ، فهو خطأ موهوم ، اخترعه الصياغة القانونية ليخفي تحته الواقع ، إذ المسئول قد أقحم عليه الخطأ إقحاماً ، وفرض عليه فرضاً لا يستطيع التملص منه . والأولي أن يقال أن المسئولية هنا قد فرضها القانون ، وأقامها على أساس من تحمل التبعة . ذلك أن المسئول هو الذي القي إلى المجتمع بشيء يصح أن يكون مصدراً للضرر ، وانتفع به ، فإذا وقع الضرر فعلاً وجب أن يتحمل تبعته ( [1427] ) . والرد على نظرية تحمل التبعة هنا هو عين الرد على هذه النظرية في المسئولية عن الحيوان . فلا يمكن القول إن أساس المسئولية عن الشيء هو تحمل التبعة ، وإلا لكان المسئول هو المنتفع بالشيء لا الحارس ، ولما جاز دفع المسئولية بإثبات السبب الأجنبي .
734 - ما الذي يثبته المضرور :والمضرور لا يكلف إثبات الخطأ لأنه مفترض ، ولكنه يكلف إثبات الشروط التي تتحقق بها مسئولية حارس الأشياء . فيجب عليه أن يثبت أولاً أن المدعي عليه هو حارس الشيء الذي أحدث الضرر ، والمفروض هنا أن الحارس هو المالك ، إلى أن يثبت المالك أن حراسة الشيء قد خرجت من يده إلى يد شخص آخر وقت وقوع الضرر ، وعندئذ يكون هذا الشخص هو المسئول . ويجب على المضرور أيضاً أن يثبت أن الضرر قد وقع بفعل شيء تقتضي حراسته عناية خاصة أو بفعل آلة ميكانيكية ، والمفروض كما قدمنا أن الشيء قد تدخل تدخلاً إيجابياً في إحداث الضرر ، إلى أن يقيم الحارس الدليل على أن التدخل لم يكن إلا سلبياً
2 - إلى أي حد هو مفترض
735 - الافتراض لا يقبل إثبات العكس : الخطأ هنا مفترض افتراضاً لا يقبل إثبات العكس ، كالخطأ المفترض في جانب حارس الحيوان .
فلا يجوز إذن للحارس أن ينفي الخطأ عن نفسه بأن يثبت أنه لم يرتكب خطأ أو أنه قام بما ينبغي من العناية حتى لا يفلت زمام الشيء من يده وقد كان القضاء الفرنسي في أولي مراحل تدرجه يجعل الخطأ مفترضاً افتراضاً قابلاً لإثبات العكس ، ويجيز للحارس أن ينفي الخطأ . ثم تدرج إلى جعل افتراض الخطأ غير قابل لإثبات العكس ، فلم يعد الحارس يستطيع أن ينفي الخطأ عن نفسه ( [1428] ) .
وقد كانت هذه المسألة هي الميدان الذي هاجم فيه أنصار نظرية تحمل التبعة نظرية الخطأ المفترض . فقد اعترضوا كما رأينا على فكرة الخطأ المفترض افتراضاً لا يقبل إثبات العكس ، وقالوا إن الخطأ إذا افترض وجب أن يكون الافتراض قابلاً لإثبات العكس . ذلك أن الحارس إذا استطاع أن يقيم الدليل على أنه لم يرتكب خطأ ، فإلصاق الخطأ به بالرغم من ذلك ليس إلا تحايلاً لإقامة المسئولية على أساس خطأ وهمي لا وجود له بعد أن أقام الدليل على نفيه . وهذا ما دعا محكمة النقض الفرنسية إلى أن تتحدث ، في حكمها الذي أصدرته في دوائرها المجتمعة في 13فبراير سنة 1930 ، عن " افتراض المسئولية " ( presomption de responsabilite ) ، لا عن " افتراض الخطأ ( presomption de faute ) ويرد الأستاذان مازو على هذا الاعتراض بأن الخطأ الذي قامت عليه مسئولية حارس الشيء هو خطأ في الحراسة . والأصل في ذلك أن كل حارس يلتزم قانوناً بألا يجعل زمام الشيء يفلت من يده حتى لا يصاب أحد بضرر . وهذا الالتزام هو التزام بتحقيق غاية ( obligation de resultat ) ، لا التزام ببذل عناية ( obligation de moyen ) فإذا افلت زمام الشيء من يد حارسه ، فقد وقع الخطأ ، ولا سبيل بعد ذلك إلى نفيه بإثبات العكس ( [1429] ) .
ونقرر هنا ما قررناه في المسئولية عن الحيوان من أن افتراض الخطأ إنما يقوم في العلاقة ما بين الحارس والمضرور . وقد قدمنا أن المضرور هو الذي ينتفع بهذا الافتراض ولا يضار به ، فلا يجوز أن يحتج به عليه . كذلك لا يقوم افتراض الخطأ إذا أحدث الشيء الضرر لذاته ( [1430] ) . وقد تجتمع مسئولية حارس الشيء مع مسئولية المتبرع في شخص وأحد . فإذا كان مالك الشيء قد دفعه إلى تابعه واحتفظ بالحراسة ، وألحق الشيء ضرراً بالغير ، فإن المالك هنا يكون مسئولاً بأحد اعتبارين :إما باعتباره حارساً فيكون الخطأ مفترضاً في جانبه ، وإما باعتباره متبوعاً فيجب إثبات الخطأ في جانب التابع حتى يقوم الخطأ المفترض في جانب المتبوع والخطأ المفترض لا يقوم حيث توجد علاقة عقدية ما بين الحارس والمضرور . فأمين النقل وهو مسئول بالعقد عن سلامة الراكب ، والطبيب وهو ملتزم بالعقد أن يبذل العناية الواجبة في علاج المريض ، لا يكونان مسئولين مسئولية تقصيرية بمقتضى خطأ مفترض ، بل هما مسئولان بمقتضى العقد مسئولية عقدية ، وقد مر بيان ذلك وإذا قام عقد بين التابع والمتبوع يرتب التزاماً على المتبوع بضمان سلامة التابع ، وأصاب شيء في حراسة المتبوع التابع بالضرر ، كانت مسئولية المتبرع مسئولية عقدية ، لا مسئولية تقصيرية ، فإن كان العقد لا يرتب التزاماً بضمان سلامة التابع ، أو لم يوجد عقد أصلاً بين التابع والمتبوع ، كان المتبوع مسئولاً مسئولية تقصيرية تقوم على خطأ مفترض .
وحارس الشيء كحارس الحيوان لا يجوز أن يكون عديم التمييز ، لأن مسئوليته تقوم على الخطأ ، وعديم التمييز لا يتصور الخطأ في جانبه .
736 - جواز نفي المسئولية بنفي علاقة السببية :ولما كان حارس الشيء لا يستطيع أن يدفع المسئولية عن نفسه بنفي الخطأ على النحو الذي بيناه ، لم يبق أمامه لدفع المسئولية إلا أن ينفي علاقة السببية بين فعل الشيء والضرر الذي وقع . وهو لا يستطيع نفي العلاقة السببية هذه إلا إذا أثبت أن وقوع الضرر كان بسبب أجنبي : قوة قاهرة أو حادث مفاجئ أو خطأ المصاب أو خطأ الغير . وهذا ما تنص عليه صراحة المادة 178إذ تقول : " …ما لم يثبت أن وقوع الضرر كان بسبب أجنبي لايد له فيه " . ثم ينتهي النص بهذه العبارة : " هذا مع عدم الإخلال بما يرد في ذلك من أحكام خاصة " . ومن أهم هذه الأحكام الخاصة ما سبق أن ذكرناه من مسئولية رب العمل عن حوادث العمل ، فهي مسئولية لا تقوم على خطأ مفترض ، بل تقوم على أساس تحمل التبعة .
الباب الثالث
الإثراء بلا سبب
( l Enrichissement sans cause )
تمهيد
737 - الإثراء بلا سبب هو مصدر قديم من مصادر الالتزام : كل من أثرى على حساب الغير دون سبب قانوني يلتزم بأن يرد لهذا الغير قدر ما أثرى به في حدود ما لحق الغير من خسارة فإذا استولي شخص على ملك غيره ، دون أن يكون لهذا الاستيلاء بسبب قانوني ، وأضافه إلى ملكه ولو بنية حسنة ، يكون قد اثرى دون سبب قانوني على حساب الغير ، فيلتزم برد أدنى القيمتين : ما أثرى به هو وما افتقر به الغير .
وقاعدة الإثراء بلا سبب على هذا النحو الذي بيناه تعتبر من أولي قواعد القانون . تمتد جذورها فتتصل مباشرة بقواعد العدالة والقانون الطبيعي . وهي في غير حاجة إلى تبرير ، إذ تحمل في طياتها ما يبررها بل لعلها أول مصدر ظهر للالتزام في فجر التاريخ ، وهذا مبلغ حفظها من البداهة القانونية . وهي على كل حال مصدر للالتزام عاصر مصدر العمل غير المشروع ، وهذا هو من المصادر الأولي التي عرفها القانون ( [1431] ) .
738 - على أن قاعدة الإثراء بلا سبب ، إذا كانت قد عرفت منذ القديم ، فهي لم تعرف إلا على نحو غير متصل الأجزاء : عرفها القانون الروماني لا كمبدأ عام تستخلص منه تطبيقاته المتنوعة ، بل كجزيئات متناثرة وفروض متفرقة تستقصي في حالات محددة ، دون أن يجمعها أصل مشترك أو تنتظمها قاعدة عامة .
وكان حظ القاعدة في العصور الوسطى ، سواء في القانون الفرنسي القديم أو في الفقه الإسلامي أو في القانون الإنجليزي ، حظاً ضئيلاً لا يداني حتى هذا المجال المحدود الذي ظفرت به في القانون الروماني .
وتلقاها القانون الحديث تراثاً مبعثراً مشتت الأجزاء ، فبقيت مختلطة بغيرها من مصادر الالتزام دون أن تظفر بقوام ذاتي وكيان مستقل ( [1432] ) ، حتى عهد قريب ، إذ تناولها القضاء في فرنسا وفي مصر ، وتناولتها التقنيات الحديثة ، فارتسمت لها حدود معروفة المعالم واضحة المدى . وكسبت القاعدة ذاتيتها ، وقامت مصدراً مستقلاً إلى جانب غيرها من مصادر الالتزام .
وسجل القانون المصري الجديد أقضي مرحلة وصلت إليها القاعدة في مراحل تدرجها . ومن ثم يعنينا أن نتابع القاعدة في تطورها التاريخي .
التطور التاريخي لقاعدة الإثراء بلا سبب
القانون الروماني :
739 - طائفتان من الدعاوى :عرف القانون الروماني طائفتين من الدعاوى تقومان على قاعدة الإثراء بلا سبب : دعاوى الاسترداد لما دفع دون سبب ( condictiones sine cause ) ودعاوى الإثراء بلا سبب ( action de in rem verso ) ولكن كلا من هاتين الطائفتين من الدعاوى لم تكن تباح إلا في حالات معينة حددت على سبيل الحصر . ولم يصل القانون الروماني إلى وضع القاعدة عامة تشتمل على جميع الأحوال التي يجوز أن يتناولها الإثراء دون سبب ونستعرض هاتين الطائفتين من الدعاوى .
740 - دعاوى استرداد ما دفع دون سبب :وهذه تشتمل على الدعاوى الآتية :
1 - دعوى يسترد بها الشخص ما دفعه دون حق وهو يظن أن هذا الغير دائن له ، وتسمى ( condictio indebiti ) .
2 - دعوى يسترد بها الشخص ما دفعه للغير لسبب مشروع لم يتحقق ، وتسمى ( condictio cause date cause non secutar ) .
3 - دعوى يسترد بها الشخص ما دفعه للغير لمنعه من القيام بعمل غير مشروع ( كمنعه من ارتكاب جريمة ) ، أو لدفعه إلى تلافي ما قام به من عمل غير مشروع ( كدفعة إلى رد ما سرقه ) . وهذه الدعوى تسمى ( turpem causam condictio ob ) فإذا كان السبب غير المشروع قائماً عند كل من المتعاقدين ، كما إذا تعاقد شخص مع آخر لدفعه إلى ارتكاب جريمة أو عمل من أعمال العهارة أو المقامرة ، امتنع الاسترداد .
4 - دعوى يسترد بها المفتقر من المثري ما افتقر به على خلاف أحكام القانون ، كالمدين يسترد من دائنه ما دفعه من فوائد غير قانونية أو من دين عقده تحت سلطان الإكراه . وهذه الدعوى تسمي ( causam condicto ob injustum ) .
5 - دعوى يسترد بها الشخص من الغير ما دفعه له في أحوال معينة ، إذا كان السبب غير موجود أو كان لم يتحقق أو كان قد انقطع بعد أن تحقق . وهذه الدعوى تسمي ( condictio sine causa ) بمعناها الضيق . ولكنها لم تكن تباح إلا في أحوال محددة على سبيل الحصر ، فلم تمتد إلى جميع الأحوال لتصبح قاعدة عامة . من ذلك أن المفتقر لم يكن له من سبيل إلى الاسترداد في بعض الحالات ، كالمصروفات ينفقها الحائز لأرض الغير وهو حسن النية ، وكالأرض يفقدها مالكها بتحول مجرى النهر .
يلاحظ في شأن دعاوى الاسترداد هذه أمور ثلاثة .
( الأمر الأول ) أن ظهور هذه الدعاوى في القانون الروماني كان نتيجة للشكلية ( formalisme ) والتجرد ( abstraction ) اللذين انطوى عليهما التعامل في هذا القانون فقد كان العقد يعتبر صحيحاً دون اعتبار لسببه ، حتى لو كان هذا السبب غير موجود أو كان غير مشروع ، ما دام العقد قد استوفى الشكل المفروض وكانت الملكية تنتقل طبقاً للأوضاع المرسومة حتى لو كان سبب نقلها غير موجود أو غير مشروع . ومن ثم وجدت دعاوى الاسترداد هذا فيما لو نفذ العقد وكان سببه غير موجود أو غير مشروع فيسترد المدين ما دفع ، وفيما لو انتقلت الملكية لسبب غير موجود أو غير مشروع فيسترد المالك ملكه . وقد سبق بيان ذلك عند الكلام في نظرية السبب .
( الأمر الثاني ) أن كل هذه الدعاوى تتصل بعقد قائم ما بين المثري والمفتقر ( negotium contractus ) إذ هي في أصلها مشتقة من دعوى الاسترداد في عقد القرض ( mutuum ) ( [1433] ) ، فمن أجل ذلك وجب أن تتصل بعقد . ومن ثم لم يكن هناك سبيل للحائز أن يسترد مصروفاته إذ هو لم يرتبط بعقد مع مالك الأرض .
( الأمر الثالث ) أن الإثراء في هذه الدعاوى يجب أن يكون قد انتقل مباشرة من مال المفتقر إلى مال المثري دون وساطة أجنبي فإذا تحقق الإثراء عن طريق هذه الوساطة ، وأثرى شخص من وراء عقد لم يكن طرفاً فيه ، فإن الإثراء هنا يكون محلاً للطائفة الأخرى من الدعاوى وهي دعاوى الإثراء بلا سبب .
741 - دعاوى الإثراء بلا سبب : وهذه بدأت في دائرة محدودة هي دائرة التعاقد الذي يتم ما بين شخص وآخر ، يكون تحت السلطة الأبوية ولداً أو تحت سلطة السيد عبداً فإذا أثرى الأب أو السيد من وراء هذا التعاقد دون أن يكون هو طرفاً فيه ، جاز الرجوع عليه بقدر ما أثرى في حدود افتقار من تعاقد مع الولد أو العبد .
ثم اتسعت دائرة هذه الدعاوى ، فشملت التعاقد ما بين شخصين لا يخضع أحد منهما لسلطة ما . فإذا أثرى شخص ثالث من وراء هذا التعاقد جاز الرجوع عليه بدعوى الإثراء ، كشريك تعاقد مع الغير فعاد التعاقد بنفع على الشركة . ولكن ظلت الحالات التي تباح فيها هذه الدعاوى هي أيضاً محددة ، ولم توضع قاعدة عامة تشمل جميع حالات الإثراء بلا سبب .
القانون الفرنسي القديم :
742 - دعاوى استرداد ما دفع دون سبب :لم يعترف هذا القانون بقاعدة الإثراء بلا سبب قاعدة عامة شاملة التطبيق ، وقصر المبدأ على حالات معينة انتقلت إليه من القانون الروماني . واظهر هذه التطبيقات هي دعاوى استرداد ما دفع دون حق ( condictiones sine causa ) ( [1434] ) وقد وقع تطور هام في شأن هذه الدعاوى منذ ظهرت نظرية السبب في القانون الفرنسي القديم . فقد ترتب على اعتبار السبب ركنا في العقد أن فقدت دعاوى استرداد ما دفع دون حق الشيء الكثير من أهميتها . إذ كانت في القانون الروماني - وعنده العقود شكلية مجردة كما سبق القول - ذريعة لتلاقي النتائج التي تترتب على هذه الشكلية وهذا التجريد ، فكان المتعاقد يسترد بها ما دفعه دون سبب أو لسبب غير مشروع أما بعد أن اعترف القانون الفرنسي القديم بالسبب ركناً في العقد . فقد أصبح العقد الذي لا سبب له أو الذي يكون سببه غير مشروع عقداً باطلاً . فلم تعد هناك حاجة لدعاوى الاسترداد إلا في الحالات القليلة التي ينفذ فيها العقد رغم بطلانه . أو في الحالات التي يفسح فيها العقد بعد تنفيذه .
743 - دعاوى الإثراء بلا سبب : وبقيت دعاوى الإثراء بلا سبب ( actio de in rem verso ) تباح في بعض حالات الإثراء ولكنها ما لبثت أن اختلطت بدعوى الفضالة وعالج بوتييه الأولي باعتبارها فرعاً عن الثانية . فذكر أنه إذا تولي شخص شؤون غيره ، معتقداً أنه يدبر شؤون نفسه . أو فعل ذلك رغم إرادة رب العمل ، اختل ركن من أركان الفضالة ، فلا تطبق أحكامها كاملة . وتطبق أحكام الفضالة ناقصة ( gestion d affaires anormale ) يقتصر فيها الفضولي على استرداد ما أنفق في حدود ما أثرى به رب العمل يوم رفع الدعوى ( [1435] ) .
الفقه الإسلامي ( [1436] ) :
744 - لا يعترف الفقه الإسلامي بالإثراء بلا سبب مصدراً للالتزام إلا في حدود هي أضيق بكثير من المدى الذي وصل إليه القانون الروماني والقوانين اللاتينية والحرمانية التي اشنقت منه .
وأوسع ما يعترف به الفقه الإسلامي في ذلك هو دفع غير المستحق . والظاهر من نصوص الشريعة الإسلامية أنها تجعلها مصدراً للالتزام . فلو أن شخصاً ظن أن عليه ديناً ، فبان خلافه ، رجع بما أدى ( [1437] ) .
ولا يعترف الفقه الإسلامي بعمل الفضولي مصدراً للالتزام ، ويعتبر الفضولي متبرعاً لا يرجع بشيء على رب العمل ( [1438] ) .
أما الإثراء بلا سبب كقاعدة عامة فلا يعترف به الفقه الإسلامي . على أنه توجد حالات معينة يكون فيها الإثراء بلا سبب في هذا الفقه ملزماً للمثري على حساب الغير . ويكون ذلك عادة إذا كان الشخص الذي افتقر لم يكن له يد من ذلك ، كما لو بنى صاحب العلو السفل بدون إذن صاحبه أو إذن الحاكم ، فلا يكون متبرعاً ويرجع بقيمة البناء على صاحب السفل لأنه مضطر إلى البناء إذا رفع الأمر إلى الحاكم فالحاكم لا يجبر صاحب السفل على بناء سفله لعدم تعديله ( [1439] ) .
ومن ثم نرى أن الإثراء بلا سبب ليس بمصدر للالتزام في الفقه الإسلامي إلا في حالات قليلة .
القانون الإنجليزي ( [1440] ) .
745 - وإذا كن باب الإثراء بلا سبب ضيقاً في الفقه الإسلامي ، فهو يزيد اتساعاً في القانون الإنجليزي وفي هذا يتقارب الفقه الإسلامي والقانون الإنجليزي ، ويبعدان معاً عن القانون الروماني .
وأوسع ما يعترف به القانون الإنجليزي هو دفع غير المستحق ، شأنه في ذلك شأن الفقه الإسلامي فمن دفع مبلغاً من النقود إلى غير دائن ، معتقداً بحسن نية أنه يدفع للدائن ، يسترد في القانون الإنجليزي ما دفعه بشرط أن يكون الغلط في الواقع لا في القانون ( [1441] ) .
وليس للفضولي في القانون الإنجليزي الحق في استرداد ما أنفقه من مصروفات إلا في حالات محددة ، منها حالة إنقاذ سفينة من الغرق وحالة الدائن المرتهن فيما يتحمله من النفقة لحفظ العين المرهونة ( [1442] ) .
أما مبدأ الإثراء بلا سبب ذاته فلا يعترف به القانون الإنجليزي إلا في حالات خاصة ( [1443] ) . القانون الفرنسي الحديث :
746 - المرحلة الأولي ( إنكار المبدأ العام ) :لم يحتو قانون نابليون نصاً يشتمل على قاعدة عامة للإثراء بلا سبب بل اقتصر هذا القانون على حالات متفرقة تناثرت هنا وهناك أبرزها الفضالة ، ودفع غير المستحق ، والمصروفات الضرورية والنافعة ، والبناء والغراس في ارض الغير .
ولما كان عهد الشراح على المتون ( L Ecole de iExegese ) هو الذي تلقى التقنين الفرنسي في أول مراحله ، وكان هؤلاء الشراح يلتزمون النصوص التشريعية ولا ينحرفون عنها ، فقد ترتب على انعدام نص يقرر القاعدة العامة أن مبدأ الإثراء بلا سبب أنكر وجوده إنكاراً تاماً في هذه المرحلة الأولي . واقتصر الفقه والقضاء في فرنسا على تطبيق هذه النصوص المتفرقة في حالاتها الخاصة ، دون أن يصلا فيما بينهما .
747 - المرحلة الثانية ( الفضالة الناقصة ) :ثم دخل القانون الفرنسي في مرحلة ثانية اعترف فيها القضاء بقاعدة الإثراء بلا سبب ، ولكن على أنها فرع من الفضالة الواردة في النصوص التشريعية ، ضرب من الفضالة الناقصة على النحو الذي قال به يوتييه فيما قدمناه . وبدأت محكمة النقض الفرنسية تقضى بقياس الإثراء بلا سبب على الفضالة ، وتعتبر أن الإثراء بلا سبب فضالة اختل ركن من أركانها ، وبخاصة ركن القصد في تولي شؤون الغير ( [1444] ) .
748 - المرحلة الثالثة ( الاعتراف بالمبدأ العام منطوياً على قيدين ) :
ودخل القانون الفرنسي بعد ذلك في مرحلته الثالثة متأثراً بعاملين . العامل الأول زوال سلطان مدرسة الشرح على المتون ، وقد تحرر الفقه والقضاء من ربقة النصوص التشريعية ، وأمكن أن تصاغ المبادئ العامة دون حاجة لأن تستند إلى نصوص . والعامل الثاني أن نظرية الفضالة الناقصة ما لبثت أن ضاقت عن تطبيقات متنوعة لمبدأ الإثراء بلا سبب ، ولم يكن من الممكن إدخال هذه التطبيقات في حظيرة الفضالة ولو باعتبارها فضالة ناقصة . فكان لا بد من إذن من الاعتراف بقاعدة الإثراء بلا سبب مبدأ قائماً بذاته ، مستقلاً عن الفضالة كاملة كانت أو ناقصة .
وقاد هذه المرحلة الفقيهان المعروفان أوبرى ورو في كتابهما المشهور ، فاعتبرا أن قاعدة الإثراء بلا سبب تقوم بذاتها مبدأ مستقلاً عن الفضالة كمصدر للالتزام مبني على قواعد العدالة . وما ورد من نصوص تشريعية في القانون الفرنسي ليس إلا تطبيقات متنوعة لهذا المبدأ لم تذكر على سبيل الحصر ( [1445] ) .
ما لبثت محكمة النقض الفرنسية في سنة 1982سارت وراء الفقهين العظيمين وقضت بقولهما ( [1446] ) .
ويلاحظ في هذه المرحلة الثالثة أن قاعدة الإثراء بلا سبب ، إذا كانت قد استقرت قاعدة مستقلة عن الفضالة ، فإنها قد غلت بقيدين . أولهما أن دعوى الإثراء إنما هي دعوى احتياطية ( action subsidiaire ) لا يجوز الالتجاء إليها إلا إذا أعوزت السبل القانونية الأخرى بهذا قال الفقيهان أوبري ورو ، وتبعهما في ذلك الفقه والقضاء في فرنسا والقيد الثاني أن الإثراء يشترط فيه أن يكون قائماً وقت رفع الدعوى . ورد ذلك صراحة فيما قاله أوبري ورو ، وسبقها إليه بوتييه فيما نقلناه عنه ، وتبعهم في ذلك الفقه والقضاء الفرنسيان حتى اليوم .
ولا يزال القانون الفرنسي يعالج الدخول في مرحلة رابعة يتخلص فيها من هذين القيدين ، ويحرر القاعدة من جميع القيود التي تعطل من إطلاقها وشمولها .
القانون المصري :
749 - التقنين المصري القديم :لم يرد التقنين المدني القديم نص يقرر القاعدة العامة في الإثراء بلا سبب . ولكن ورد نص غامض ، حائز بين الإثراء بلا سبب والفضالة هو نص المادتين 144 / 205وقد جرى بما يأتي " من فعل بالقصد شيئاً تترتب عليه منفعة لشخص آخر ، فيستحق على ذلك الشخص مقدار المصاريف التي صرفها والخسارات التي خسرها ، بشرط ألا تتجاوز تلك المصاريف والخسارات قيمة ما آل إلى ذلك الشخص من المنفعة " . وورد إلى جانب هذا النص نصوص أخرى متفرقة في دفع غير المستحق وفي المصروفات الضرورية والنافعة وفي البناء والغراس في أرض الغير وفي غير ذلك تطبيقات خاصة لقاعدة الإثراء بلا سبب .
ويبدو أن المشروع المصري في التقنين القديم تأثر بما كان العمل يجري عليه في القانون الفرنسي وقت صدور التقنين المصري . فقد صدر التقنين المختلط في سنة 1875والتقنين الأهلي في سنة 1883 . وهذا هو الوقت الذي كان القانون الفرنسي يجتاز فيه مرحلته الثانية ، وكان يخلط في هذه المرحلة بين الفضالة والإثراء بلا سبب كما رأينا والنص المصري يحمل اثر هذا الخلط واضحاً . فهو في صدره يتحدث عن أركان الفضالة ، وفي عجزه يبين أحكام الإثراء بلا سبب ، فيخلط بين الإثنين خلطاً كان سبباً في اضطراب الفقه والقضاء في مصر مدة غير قصيرة .
ويجتاز القضاء المصري مرحلة أولي لا يميز فيها بين الفضالة والإثراء بلا سبب ، فيتكلم عن واحدة وهو تقصد الأخرى ( [1447] ) .
ثم يدخل مرحلة ثانية يميز فيها بين القاعدتين ، ويبرز قاعدة الإثراء بلا سبب مستقلة عن القاعدة الفضالة ، لها قوام ذاتي وكيان مستقل ، وهو يقتفي في ذلك أثر القانون الفرنسي في مرحلته الثالثة على الوجه الذي أسلفناه . وتبدأ هذه المرحلة بحكم تصدره محكمة الاستئناف المختلطة في سنة 1899 ( [1448] ) أي بعد دخول القانون الفرنسي في مرحلته الثالثة بوقت قصير ( [1449] ) . ولكن القضاء المصري ، في هذه المرحلة الثانية ، يبقي حائزاً أمام النص الغامض المضطرب بين الفضالة والإثراء بلا سبب ( م 144 / 205 ) . وتفسر محكمة الاستئناف المختلطة النص على أنه يتمحض لتقرير قاعدة الإثراء بلا سبب ، وتكل أحكام الفضالة إلى قواعد العدالة والقانون الطبيعي ( [1450] ) .
وفي المرحلة الثالثة ، وتبدأ بحكم تصدره محكمة الإسكندرية الكلية المختلطة في سنة 1917 ، لا تقتصر هذه المحكمة على التمييز بين الفضالة والإثراء بلا سبب ، بل هي ترد كل قاعدة إلى سندها القانون الصحيح ، فتقصر نص المادتين144 / 205على الفضالة ، وتستمد مبدأ الإثراء بلا سبب من قواعد العدالة والقانون الطبيعي ، فتصحح بذلك وضعاً بدأ مقلوباً ( [1451] ) .
ويبقي الفقه والقضاء في مصر ، طوال هذه المرحلة الثالثة في ظل التقنين القديم ، يميزان بين القاعدتين ويردان كل قاعدة إلى أصلها ولكنهما يبقيان كذلك ، متأثرين دائماً بالقانون الفرنسي ، يقيدان من قاعدة الإثراء بلا سبب ، فيقولان مع الفقه والقضاء في فرنسا أن دعوى الإثراء دعوى احتياطية وإن الإثراء يجب أن يبقي قائماً وقت رفع الدعوى ( [1452] ) . وإن كان جانب من الفقه نفي عن دعوى الإثراء الصفة الاحتياطية كما سنرى .
وكان لا بد من أن يصدر التقنين المدني الجديد حتى يدخل القانون المصري في مرحلته الرابعة التي يحرر فيها قاعدة الإثراء بلا سبب من هذين القيدين الآخيرين المختلفين عن أعقاب الماضي . وهذه المرحلة الرابعة التي وصل إليها التقنين المدني الجديد لا يزال القانون الفرنسي ، على ما رأينا ، يرده الإحجام عنها .
750 - التقنين المصري الجديد :خطا التقنين المصري الجديد كما ذكرنا إلى المرحلة الرابعة ، فابرز قاعدة الإثراء بلا سبب متميزة بالخصائص الآتية :
1 - جعلها قاعدة مستقلة قائمة بذاتها ، كمصدر من مصادر الالتزام .
2 - صحح الوضع الذي كان مقلوباً ، فيجعل الفضالة ودفع غير المستحق تطبيقين لمبدأ الإثراء بلا سبب . فهذا المبدأ هو الأصل . وهذان التطبيقان هما اللذان يتفرعان عنه . وقد رأينا أن مبدأ الإثراء بلا سبب كان قبلاً يتفرع عن الفضالة ، ويسمى بالفضالة الناقصة .
3 - حرر مبدأ الإثراء بلا سبب مما كان باقياً من قيود التقليدية ، فنفي عنه الصفة الاحتياطية ونص على أن الإثراء لا يشترط فيه أن يكون قائماً وقت رفع الدعوى .
وبذلك استكمل مبدأ الإثراء بلا سبب في ظل التقنين الجديد نموه ، وانفسحت أمامه سبل التطور . وسنرى تفصيل كل ذلك فيما يلي .
وليس التقنين الجديد بدعاً فيما استحدث ، فقد سبقه إلى السير في هذا الطريق كثير من التقنينات الحديثة ( [1453] ) .
ونستعرض في فصلين متعاقبين ( أولاً ) القاعدة العامة في الإثراء بلا سبب .
( ثانياً ) أبرز تطبيقين لهذه القاعدة :دفع غير المستحق والفضالة ( [1454] ) .
الفصل الأول
القاعدة العامة :الإثراء بلا سبب ( [1455] )
751 - النصوص :قدمنا أن القانون المصري القديم لم يشتمل على نص بورد قاعدة عامة للإثراء بلا سبب ، بل اقتصر على إيرادات نص مضطرب في الفضالة ، ونصوص أكثر عدداً في دفع غير مستحق ، وإشارات متفرقة إلى مبدأ الإثراء بلا سبب في مختلف نواحي القانون ( [1456] ) .
أما القانون الجديد فقد بدأ بنصوص تقرر القاعدة العامة في الإثراء بلا سبب ، ثم تناول بعد ذلك صورتين خاصتين لهذا المبدأ هما دفع غير المستحق والفضالة ( [1457] ) .
والنص الجوهري الذي يقرر القاعدة العامة في القانون الجديد هو المادة 179 ، وقد جرت بما يأتي : " كل شخص ، ولو غير مميز ، يثري دون سبب مشروع على حساب شخص آخر ، يلتزم في حدود ما أثري به بتعويض هذا الشخص عما لحقه من خسارة ، ويبقي هذا الالتزام قائماً ولو زال الإثراء فيما بعد ( [1458] ) " .
التأصيل القانوني لقاعدة الإثراء بلا سبب :
752 - مذاهب مختلفة –استنادها إلى الفضالة ( الفضالة الناقصة ) :
كانت المحاولة الأولي لتأصيل قاعدة الإثراء بلا سبب تأصيلاً قانونياً هي ربطها بنظرية كانت الفضالة ، لا على أن الثانية فرع عن الأولي كما هو الواقع ، بل على أن الأولي هي التي تشتق من الثانية . فهي ضرب من الفضالة :فضالة ناقصة ، أو هي امتداد لقواعد الفضالة حيث تختل أركانها . فالفضولي يجب أن يقصد تدبير شؤون رب العمل دون أن يفرض عليه هذا التدخل . فإذا انعدم هذا القصد ، أو تولي الفضولي شؤون غيره رغم إرادته ، اختل ركن من أركان الفضالة وترتب على اختلال هذا الركن تعديل بعض الأحكام ، فالمفترض في هذه الحالة لا يسترد كالفضولي كل المصروفات الضرورية والنافعة بل يسترد أقل قيمتي إثراء الغير وافتقاره . والقانون بهذا الرأي هم المتخلفون من أصحاب مدرسة الشرح على المتون ، فقد ظلوا في حيرة كيف يقيمون قاعدة الإثراء بلا سبب على غير نص تشريعي ، ثم تلمسوا في الفضالة وهي قائمة على نصوص تشريعية سنداً تشريعياً ينسبون إليه القاعدة ، بعض أركان الفضالة وبعض أحكامها وأسموها الفضالة الناقصة . والقول بأن الإثراء على حساب الغير فضالة ناقصة من شأنه أن يشوه كلا من النظريتين . فهناك فرق بين جوهري بينهما إذا جاز معه أن تعتبر الفضالة في بعض نواحيها تطبيقاً لبعض أحكام الإثراء بلا سبب ، فهو فرق يمتع معه أن يكون مبدأ الإثراء بلا سبب هو الذي يدخل في حدود الفضالة . ذلك أن هذا المبدأ نزعته موضوعية لا ذاتية ، فلا عبرة فيه بالنية ، ويكفي أن يفتقر شخص فيثري شخص آخر على حسابه دون سبب قانوني حتى يرجع المفتقر على المثري بدعوى الإثراء . أما الفضالة فنزعتها ذاتية إلى حد كبير ، إذ أن أساسها هو قصد الفضولي أن يدبر شؤون رب العمل حيث تدعو الضرورة إلى ذلك . فما لم يوجد هذا القصد فلا فضالة . ومن ثم وجد الفرق في الحكم : يرجع الفضولي بكل ما صرف جزاء ما قصد إليه ، ويرجع المفتقر بأقل القيمتين إذ هو لم يقصد خدمة المثري . فالنظريتان مختلفتان إذن في هذا الأمر الجوهري . وإذا أريد أن تكون إحداهما تطبيقاً للأخرى ، فالأولي أن تكون نظرية الفضالة – في الأصل الذي يبنى عليه رجوع الفضولي لا في مدى هذا الرجوع - هي التطبيق لنظرية الإثراء بلا سبب .
753 - استنادها إلى العمل غير المشروع :
ومنذ دالت دولة الشراح على المتون ، ولم تعد قاعدة الإثراء بلا سبب في نظر الفقه تحتاج إلى نص تشريعي تستند إليه ، تحررت القاعدة من ربقة النصوص التشريعية ، ولكنها بقيت ترسف في أغلال التبعية . فلا بد أن يسندها الفقه إلى قاعدة قانونية أخرى معروفة تعيش في ظلها . فأسندت إلى قاعدة العمل غير المشروع . إما عن طريق المقابلة وإما عن طريق الجمع ما بين القاعدتين تحت لواء المسئولية التقصيرية .
فالذين يقابلون ما بين قاعدة العمل غير المشروع قاعدة الإثراء بلا سبب يقولون إن القاعدة في العمل غير المشروع هي أن كل من أضر الغير بخطأه يلتزم بالتعويض . كذلك القاعدة في الإثراء بلا سبب هي أن كل من أثرى على حساب الغير دون سبب يلتزم بالتعويض .
والذين يجمعون ما بين القاعدتين تحت فكرة العمل غير المشروع –وعلى رأسهم بلانيول - يعبرون عن المعنى المتقدم بأسلوب آخر ويقولون إن الإثراء على حساب الغير هو عمل غير مشروع . ذلك أن من أثري على حساب غيره لا يجوز له أن يستبقي هذا الإثراء وإلا ارتكب خطأ يكون مسئولاً عنه مسئولية تقصيرية .
وعيب هذا الرأي واضح . فإن مصدر التزام المثري دون سبب هو واقعة الإثراء . وهذه الواقعة لا يشترط فيها أن تقترن بخطأ من المثري ، ولا هي في ذاتها تعد خطأ من المثري ، حتى يمكن وصفها بأنها عمل غير مشروع وغير المشروع إنما هو النتيجة التي أدت إليها الواقعة ، لا الواقعة ذاتها .
754 - استنادها إلى قاعدة تحمل التبعة :
وقد ذهب إلى ذلك الأستاذان ريبير ( ripert ) وتيسير ( teisseire ) ( [1459] ) . فعندهما أن نظرية الإثراء بلا سبب ما هي إلا وجه الآخر لنظرية تحمل التبعة . فهذه النظرية تقرر أن من كان نشاطه مصدراً لغرم تحمل تبعته . ونظرية الإثراء بلا سبب تقرر أن من كان نشاطه مصدراً لغنم جنى فائدته . فالمفتقر قد كان نشاطه – عملاً كان أو مالاً –مصدراً لنقل قيمة مادية إلى مال المثري ، فوجب أن يسترد هذه القيمة لأنها من خلقة إذ هي نتيجة نشاطه . والغنم المستحدث ( le profit cree ) ليس إلا الوجه الآخر للغرم المستحدث le risque cree ) ) ، وهذا الرأي تعوزه الدقة . إذا صح لترتب عليه أن كل شخص يثري من وراء نشاط الغير يرجع عليه الغير بكل ما أثرى ، وليس بأدنى القيمتين فحسب . ولأصح شرط الافتقار غير ضروري . وسنرى أن الافتقار والرجوع بأدني القيمتين هما من الأحكام الأساسية في قاعدة الإثراء بلا سبب ( [1460] )
755 - قاعدة الإثراء بلا سبب لا تستتر إلى قاعدة أخرى ، بل هي قاعدة مستقلة تقوم بذاتها :
والواقع من الأمر أن قاعدة الإثراء بلا سبب هي قاعدة أصلية لا تتفرع عن غيرها . فهي مصدر مستقل من مصادر الالتزام ، وليست ملحقة بالفضالة ( بل الفضالة هي التي تلحق بها ) ، ولا بالعمل غير المشروع ، ولا يتحمل التبعة . وهي تتصل اتصالاً مباشراً بقواعد العدالة ، المصدر الأول لكل القواعد القانونية . أليس العدل يقضي بأن على حساب غيره دون حق يجب أن يعوض من افتقر؟ فلماذا تذهب في البحث عن سند للقاعدة إلى ما وراء هذا القانون الروماني ذاته ، وهو الذي أخذنا عنه القاعدة ، يجعل أساسها العدالة ( [1461] ) ؟أليس العمل غير المشروع ، ونبحث عنه في الإثراء بلا سبب ، وكل من القاعدتين مرده العدالة ؟
وإذا سرنا في تحليل قاعدة الإثراء بلا سبب خطوة أبعد أمكن تأصيلها على الوجه الآتي :
الأصل أن مال الشخص لا ينتقل إلى شخص آخر إلا في حالتين اثنتين : إذا اتفق الشخصان على ذلك ، أو كان القانون هو الذي قضى بانتقال المال . فإذا انتقل المال في غير هاتين الحالتين وجبت إعادته إلى صاحبه ، وهذه هي قاعدة الإثراء بلا سبب ( [1462] )
وقد اقتضت هذه القاعدة العادلة ، على وضوحها ، وقتاً طويلاً حتى تكسب قواماً مستقلاً ويكون لها كيان ذاتي ، لأنها قاعدة بنيت رأساً على العدالة والداهية ، فلم تصقلها الصنعة القانونية . والقانون لا يهضم من قواعد العدالة إلا ما تدخلت فيه الصياغة ، فحولته من قواعد خلقية أو اجتماعية أو اقتصادية إلى قواعد قانونية تلتزمها الناس في التعامل . ولذلك وجب أن نسير في طريق الصياغة إلى مدي أبعد ، وان نكشف من هذه الناحية عن طبيعة هذا المصدر من مصادر الالتزام وعن مغايرته للمصادر الأخرى .
الواقعة التي ترتب الالتزام في ذمة المثري هي واقعة الإثراء على حساب الغير دون سبب وهي واقعة قانوني ( fait juridique ) لا عمل قانوني ( acte juridique ) Kومن ثم اختلف الإثراء عن العقد . وهي واقعة مشروعة لأن الإثراء لا يستلزم أن يقترن به خطأ من المثري كما قدمنا فقد يثري وهو حسن النية بل قد يثري دون علمه ، ومن ثم اختلف الإثراء عن العمل غير المشروع .
والإثراء واقعة تقوم على انتقال قيمة مالية من ذمة إلى أخرى دون أن يكون لهذا الانتقال سبب قانوني يرتكز عليه كمصدر له . وفي هذا أيضاً نرى أن الإثراء واقعة تختلف عن واقعة العقد وعن واقعة العمل غير المشروع .
فالإثراء بلا سبب يختلف إذن عن العقد وعن العمل المشروع من حيث طبيعته ومن حيث ما اشتمل عليه . ومن ثم فهو مصدر للالتزام مستقل قائم بذاته ، لا يستند إلى مصدر آخر ولا يتفرع عنه . وإنما يقوم رأساً على قواعد العدالة والمنطق القانوني ، كما يقوم العقد وكما يقوم العمل غير المشروع .
والتحليل على هذا الوجه يحدد أركان قاعدة الإثراء بلا سبب ويرسم أحكامها أما الأركان فهي أن يكون هناك إثراء في جانب ، يترتب عليه افتقار في جانب آخر ، دون أن يقوم سبب قانوني لهذا الإثراء .
وأما الأحكام فتتلخص في أن المثري يرد إلى المفتقر ما أثرى به الأول في حدود ما افتقر به الثاني .
ويبقي أن نعرض إلى تفاصيل هذه الأركان والأحكام
الفرع الأول
أركان الإثراء بلا سبب
756 - أركان ثلاثة :قدمنا أن أركان قاعدة الإثراء بلا سبب ثلاثة :
1 ) إثراء المدين 2 ) افتقار الدائن المترتب على هذا الإثراء . 3 ) انعدام السبب القانوني لهذا الإثراء . هذه هي أركان القاعدة إذا توافرت قامت دعوى الإثراء وليس من الضروري بعد ذلك ، كما قدمنا ، أن تكون دعوى الإثراء دعوى احتياطية أو أن يكون الإثراء باقياً وقت رفع الدعوى .
المبحث الأول
إثراء المدين
( Enrichissement du debiteur )
757 - وجوب تحقق الإثراء : أول ركن لقاعدة الإثراء بلا سبب هو أن يتحقق إثراء المدين . ذلك أن مصدر الالتزام الذي يترتب في ذمته إنما هو هذا الإثراء ، فلا بد من تحققه حتى يقوم الالتزام . أما إذا لم يتحقق الإثراء فلا التزام ، كما لو وفي شخص ديناً عن شخص آخر وتبين أن هذا الدين قد سبق الوفاء به أو أنه لا وجود له . فهنا لم يتحقق الإثراء في جانب الشخص الآخر ولا رجوع للشخص الأول عليه ( [1463] ) . وإنما يرجع هذا بما دفع على من دفع له إذا توافرت شروط دفع . غير المستحق على ما سنرى . ويمكن القول كذلك إن الصغير إذا افترض مالاً فأضاعه لم يكن مسئولاً ، لا بعقد القرض إذا أبطله . ولا بقاعدة الإثراء بلا سبب إذا ضاع المال فلم يتحقق الإثراء .
والأصل في الإثراء أن يكون إيجابياً ولكن يجوز أن يكون سلبياً ، وأن يكون مباشراً ولكن يجوز أن يكون غير مباشر ، وان يكون مادياً ولكن يجوز أن يكون معنوياً .
الإثراء الإيجابي والإثراء السلبي :
758 - الإثراء الإيجابي :يتحقق الإثراء الإيجابي عادة بأن تضاف قيمة مالية إلى ذمة المدين ( [1464] ) . ويتم هذا بأن يكسب المدين حقاً ، عينياً كان أو شخصياً أو أن يزيد فيما يملك من ذلك . فإذا استهلك شخص قدراً من المياه أو النور عن طريق مواسير أو أسلاك خفية كان ما استهلكه قيمة مالية أثرى بها ( [1465] ) . وإذا أقام الحائز للعقار المرهون بناء في هذا العقار أثرى الدائن المرتهن من وراء هذا البناء إذ يزيد ضمانه . وإذا قام المستأجر الذي انفسخ عقد إيجاره قبل انقضاء مدته بتحسينات في العين التي رسا عليه مزادها ثم نزعت العين من يده كان في هذا إثراء لمن تؤول إليه العين .
وقد يتحقق الإثراء الإيجابي لا عن طريق إضافة قيمة مالية إلى ذمة المدين ، بل من طريق منفعة يجنيها أو عمل يستثمره ( [1466] ) . مثل المنفعة منزل انتفع به شخص دون عقد إيجار ( [1467] ) . ومثل العمل تصميم قام به مهندس ( [1468] ) أو لحن ألقه موسيقي وانتفع بهذا أو بذلك دون عقد . ومثل العمل أيضاً خطيبة تعمل لخطيبها دون أجر ثم لا يتم الزواج ، وعارف الأنساب يهدي الوارث إلى ميراث كان يجهله دون اتفاق على الأجر . والسمسار لا تتم الصفقة على يديه ولكنه هو الذي يجمع بين البائع والمشتري ( [1469] ) .
759 - الإثراء السلبي : وقد يكون الإثراء سلبياً . ومن صور هذا الإثراء أن يوفي شخص بدين على آخر ، فيثري هذا إثراء سلبياً عن طريق النقص فيما عليه من ديون . مثل ذلك المستأجر يقوم بالترميمات الجسيمة وهي واجبة على المؤجر ، والتاجر يحضر للزوجة ما تحتاج إليه من مؤونة ونفقتها واجبة على الزوج ، والمشتري لعقار مرهون يدفع دين الراهن ( [1470] ) .
ومن صور الإثراء السلبي كذلك أن يجنب الشخص خسارة كان وقوعها محتماً فيثري إثراء سلبياً بقدر ما تجنب من خسارة مثل ذلك الجار يتلف متاعاً له حتى يطفئ حريقاً شبت في منزل جاره ، وربان السفينة يلقي ببعض ما تحمل السفينة حتى ينقذ السفينة من الغرق ( [1471] ) .
الإثراء المباشر والإثراء الغير مباشر :
760 - الإثراء المباشر : يكوكن الإثراء المباشر إذا انتقل ، في أية صورة من صوره ، مباشرة من مال المفتقر إلى مال المثري ، إما يفعل المفتقر وإما بفعل المثري نفسه . مثل الانتقال بفعل المفتقر من يدفع دين غيره ، والمستأجر يقوم بالترميمات الجسيمة في العين المؤجرة ( [1472] ) . ومثل الانتقال بفعل المثري من يستولي على مال لغيره دون حق ، ومن يستهلك المياه والنور من مواسير وأسلاك خفية ( [1473] ) . وقد يكون الانتقال بقوة قاهرة ، كما يحدث في طرح البحر ، فيكون الإثراء مباشراً .
761 - الإثراء غير المباشر : ويكون الإثراء غير المباشر إذا تدخل أجنبي في نقله من مال المفتقر إلى مال المثري . وقد يقع تدخل الأجنبي عن طريق عمل مادي كربان السفينة يلقي ببعض ما تحمل إلى البحر لإنقاذ الباقي من الغرق ، وكفرقة إطفاء الحريق تتلف متاعاً للغير حتى تتمكن من إطفاء الحريق ، وكالمغتصب يبني بمواد غيره في الأرض المغتصبة ( [1474] ) . وقد يقع التدخل عن طريق عمل قانوني . مثل ذلك أن يشتري شخص سيارة من آخر ، ثم يدفعها إلى " ميكانيكي " لإصلاحها ، وينفسخ عقد بيع السيارة ، فيرجع الميكانيكي وهو المفتقر بمصروفات الإصلاح على البائع وهو المثري ، ويكون المشتري هنا هو الأجنبي الذي تدخل بعمل قانوني في نقل الإثراء من المفتقر إلى المثري . والعمل القانوني هو عقد المقاولة الذي أبرمه المشتري مع الميكانيكي لإصلاح السيارة ( [1475] ) . ومثل ذلك أيضاً مستأجر الأرض الزراعية يشتري سماداً للأرض من تاجر دون أن يدفع ثمنه ، فإذا حجز المالك على زراعة المسـتأجر التي انتفعت بالسماد جاز للتاجر وهو المفتقر أن يرجع على المالك وهو المثري بقدر ما عاد به السماد على الزراعة من نفع في حدود الثمن ، والأجنبي الذي تدخل هنا هو المستأجر . وتدخله وقع عن طريق عمل قانوني هو شراء السماد ( [1476] ) . ومثل ذلك أخيراً أن يعمد مدير شركة إلى اختلاس أسهم لها يرهنها في قرض يعود بالنفع على شركة أخرى هو أيضاً مديرها ، فترجع الشركة الأولي وهي المفتقرة على الشركة الثانية وهي المثرية بدعوى الإثراء ، والأجنبي الذي تدخل هنا هو المدير الذي أختلس الأسهم . والعمل القانوني الذي عن طريقه تم التدخل هو عمل من أعمال الإدارة قام به المدير بالنسبة إلى الشركة الثانية فجعلها تنتفع بالقرض الذي حصل عليه برهن الأسهم المختلسة ( [1477] ) .
الإثراء المادي والإثراء المعنوي :
762 - الإثراء المادي : الأصل في الإثراء أن يكون مادياً . وفيما قدمناه من الأمثلة في الإثراء الإيجابي والسلبي ، والمباشر ، ما يتبين منه أن الإثراء هو قيمة مالية أو منفعة مادية انتقلت إلى ذمة المثري .
763 - الإثراء المعنوي :ولكن الإثراء قد يكون معنوياً كأن يكون إثراء عقلياً أو أدبياً أو صحياً . فالمدرس وهو يعلم التلميذ يجعله يثري إثراء عقلياً أو أدبياً أو صحياً . فالمدرس وهو يعلم التلميذ يجعله يثري إثراء عقلياً . والمحامي وهو يحصل على حكم ببراءة المتهم يجعله يثري إثراء عقلياً والمحامي وهو يحصل على حكم ببراءة المتهم يجعله يثري إثراء أدبياً . والطبيب وهو يشفي المريض يجعله يثري إثراء صحياً . فهل يصلح الإثراء المعنوي كالإثراء المادي ركناً لقاعدة الإثراء بلا سبب؟
ارتطمت هذه القاعدة هنا ، كما ارتطمت في الإثراء الناتج عن منفعة أو عن عمل وفي الإثراء غير المباشر ، بعقبات ما لبثت أن يذللها . فقد رأينا كيف أن النفقة في فرنسا كان يأبى أن يتحقق الإثراء عن طريق منفعة أو عمل ، ثم تطور فأجاز ذلك ، وتحررت قاعدة الإثراء من هذا القيد . ورأينا كيف أن النظرية الألمانية تأبي أن يكون الإثراء غير مباشر ، ولكن قاعدة الإثراء تحررت من هذا القيد أيضاً في فرنسا وفي مصر . وهنا كذلك نرى أن القانون الألماني والسويسري يشترطان في نصوصهما أن يكون الإثراء ذا قيمة مادية ( auf dessen kosten ) ، ونرى جانباً من الفقه في فرنسا يقول بهذا الرأي ( [1478] ) . ولكن قاعدة الإثراء تحررت أيضاً من هذا القيد الثالث . وأصبح جمهور الفقهاء في مصر ( [1479] ) وفي فرنسا ( [1480] ) يقولون بجواز أن يكون الإثراء معنوياً ما دام من المستطاع أن يقدر بمال ، سواء في ذاته أو من ناحية الافتقار الذي يقابله ( [1481] ) . وبهذا الرأي جرى القضاء في فرنسا ( [1482] ) وفي مصر ( [1483] ) .
المبحث الثاني
افتقار الدائن
( Appauvrissement du creancier )
764 - الافتقار وعلاقة السببية بالإثراء : الركن الثاني لقاعدة الإثراء بلا سبب هو افتقار الدائن افتقاراً ترتب عليه إثراء المدين . فيجب إذن أن يكون هناك افتقار في جانب الدائن ، وأن يكون هناك علاقة سببية مباشرة ما بين افتقار الدائن وإثراء المدين ( [1484] ) .
765 - وجوب تحقق الافتقار :فإذا تحقق الإثراء في جانب شخص ولم يقابله افتقار في جانب الشخص الآخر ، لم يكن هناك مجال لتطبيق قاعدة الإثراء . ذلك أن المثري لا يلتزم إلا بدفع أدني القيمتين ، قيمة الإثراء وقيمة الافتقار ، والمفروض أن الافتقار معدوم فلا يلتزم إذن بشيء .
ويترتب على ذلك أنه أنشأ شخص حديقة في منزله يطل عليها منزل الجار ، وجمل هذه الحديقة حتى أصبحت سبباً في رفع قيمة منزل الجار ، فالجار في هذه الحالة يكون قد أثري . ولكن صاحب الحديقة لم يفتقر ، فأنه انشأ الحديقة لمنفعة وقد جنى هذه المنفعة كاملة ، وما أنفقه في إنشاء الحديقة وتجميلها قد عاد عليه بالفائدة التي قدرها . فهو قد أخذ المقابل لما أنفقه ، ولم يخسر شيئاً ، فلا يرجع بشيء على جاره ( [1485] ) .
كذلك إذا استحدث المستأجر ، دون اتفاق مع المالك ، إصلاحات في العين المؤجرة تزيد في منفعتها ، واستوفي هذه المنفعة كاملة ، فإنه لا يرجع على المالك بشيء ، وليس له إلا أن ينتزع ما استحدثه من الإصلاحات وأن يعيد العين إلى حالتها الأصلية ، بل يجب عليه ذلك إذا طلب المالك ( [1486] ) .
ويتحقق افتقار الدائن على النحو الذي يتحقق به إثراء المدين . فيكون لافتقار إيجابياً أو سلبياً ، مباشراً أو غير مباشراً ، مادياً أو معنوياً .
766 - الافتقار الإيجابي والافتقار السلبي : يكون الافتقار إيجابياً إذا فقد المفتقر حقاً ، عينياً كان أو شخصياً ، أو انتقص حق له . ويتحقق هذا عادة بالإنفاق . فإذا انفق الراسي عليه المزاد لإصلاح العين التي رسا عليه مزادها ثم آلت إلى شخص آخر ، أو دفع شخص ديناً في ذمة غير ه ، أو قام مساهم في شركة برفع دعوى تحمل نفقتها ليسترد من مدير هذه الشركة مالاً لها في يده ( [1487] ) ، ففي كل هذه الأحوال يكون هناك افتقار إيجابي في جانب المفتقر .
ويكون الافتقار سلبياً إذا فات المفتقر كان من حقه أن يحصل عليها ، فيفتقر ، لا بقدر ما تحمل من خسارة كما في الافتقار الإيجابي ، بل بقدر ما فاته من منفعة . مثل ذلك أن يقوم المفتقر دون اتفاق بأداء عمل للغير ، فيفتقر بما فاته من منفعة هي أجر هذا العمل . ومثل ذلك أيضاً أن يسكن شخص منزلاً لآخر دون عقد إيجار ، فيفتقر صاحب المنزل بما فاته من منفعة هي أجرة منزله . ومثل ذلك أخيراً المهندس صاحب التصميم ، والموسيقى صاحب اللحن ، والعازف بالأنساب الذي هدى الوارث إلى ميراثه ، والسمسار الذي جمع ما بين البائع والمشتري ، كل هؤلاء افتقروا بما فاتهم من منفعة هي أجر عملهم ، فافتقارهم إذن سلبي ( [1488] ) .
ويلاحظ أن الانتفاع السلبي لا يقابله ضرورة إثراء سلبي . فكثيراً ما يحدث أن يقابل الافتقار السلبي إثراء إيجابي ، كما هو الأمر في الحالات المتقدمة وفي كل حالة أخرى يقدم فيها المفتقر عملاً أو منفعة للمثري ، فإن الإثراء الناتج عن العمل أو المنفعة يكون إثراء إيجابياً ويكون الافتقار المقابل لهذا الإثراء افتقاراً سلبياً كما رأينا . وبالعكس قد يقابل الإثراء السلبي افتقار إيجابي ، فمن يدفع دين غيره يفتقر افتقاراً إيجابياً يقابله إثراء سلبي في جانب المدين .
767 - الافتقار المباشر والافتقار غير المباشر : وعلى العكس من ذلك الافتقار المباشر والافتقار غير المباشر ، فكل افتقار مباشر يقابلة إثراء مباشر ، وكل افتقار غير مباشر يقابله إثراء غير مباشر . ذلك أن القيمة المالية إذا انتقلت مباشرة من مال المفتقر إلى مال المثري فإنه كلا من الإثراء والافتقار يكون مباشراً في هذه الحالة . وإذا انتقلت القيمة المالية بتدخل أجنبي ، تدخلاً مادياً أو تدخلاً قانونياً ، فكل من الإثراء والافتقار غير مباشر . وقد مرت بنا الأمثلة على كل ذلك .
768 - الافتقار المادي والافتقار المعنوي :وإذا كان الأصل في الافتقار أن يكون مادياً كما مر بنا في الأمثلة المتقدمة ، فإنه كالإثراء قد يكون معنوياً فالشخص الذي نفع متجراً بصلاته التجارية الواسعة لم يفتقر افتقاراً مادياً بل معنوياً ( [1489] ) . وهذا هو الشأن في افتقار المهندس الذي يعمل في مصنع فيعثر على اختراع يفيد منه المصنع ( [1490] ) .
769 - السببية المباشرة بين الافتقار والإثراء :ولا يكفي أن يتحقق الافتقار بل يجب أيضاً ، كما أسلفنا القول ، أن يكون هذا الافتقار هو السبب المباشر في إثراء المدين . وتقوم السببية المباشرة ما بين الافتقار والإثراء إذا كانت واقعة واحدة هي السبب المباشر لكل منهما ، كما رأينا في الأمثلة التي قدمناها في الصور المختلفة للإثراء والافتقار . فإذا دفع شخص دين غيره ، فإن افتقاره وإثراء المدين لهما سبب مباشر وأحد ، هو دفع الدين . وليس من الضروري أن تكون واقعة هي السبب المباشر لكل من الإثراء والافتقار ، بل يكفي حتى تقوم هذه السلبية المباشرة التثبت من أن إثراء المدين لم يكن ليتحقق لولا افتقار الدائن . وهذه مسألة واقع لا مسألة قانون ، يستخلصها قاضي الموضوع من ظروف القضية ولا معقب عليه في ذلك ( [1491] ) .
وعند تعدد أسباب الإثراء يجوز أن نحلل علاقة السببية المباشرة بين الإثراء والافتقا على النحو الذي حللنا به علاقة السببية ما بين الخطأ والضرر في المسئولية التقصيرية . ويمكن هنا أيضاً المفاضلة بين نظريتي تكافؤ الأسباب ( equivalence des causes ) والسبب المنتج ( canse etficiente ) ، والوقوف عند نظرية السبب المنتج للقول بوجود سببية مباشرة ما بين الافتقار والإثراء فإذا تبين أن الافتقار كان هو السبب المنتج للإثراء وجدت العلاقة المباشرة فيما بينهما . ويترتب على ما قدمناه أن المدينة إذا اتسعت وقعتها وعلت قيمة مبانيها ، فليس من الضروري أن تكون هناك سببية مباشرة ما بين اتساع رقعة المدينة وعلو قيمة المباني . فعلو هذه القيمة يرجع لأسباب متعددة قد يكون اتساع رقعة المدينة من بينها ، ولكن هذا السبب لا يكون في الراجح هو السبب المنتج ، إذ أن المباني في كثير من المدن الصغيرة عالية القيمة ، بل يحدث أن يكون صغر المدينة هو السبب في علو قيمة المباني ( [1492] ) . ولكن توسيع شارع قديم أو فتح شارع جديد يكون في كثير من الأحوال هو السبب المنتج في علو قيمة الأرض الواقعة على جانبي الشارع ( [1493] ) .
المبحث الثالث
انعدام السبب
( Absence de cause )
770 - تجرد الإثراء عن سبب يبرره : يجب ، حتى تقوم دعوى الإثراء ، أن يتجرد الإثراء عن سبب يبرره . ذلك أن الإثراء كان له سبب فلا محل لاسترداده ، وللمثري أن يحتفظ به ما دام أن له سبباً يبرر الحصول عليه ( [1494] ) .
ولكن الفقهاء اختلفوا في تحديد معنى " السبب " وكان هذا الاختلاف من أهم العوامل في تعقيد نظرية الإثراء وفي الغموض الذي أحاط بها حقبة طويلة . ونحن نستعرض في إيجاز بعضاً من هذه الآراء الفقهية المتعارضة ، ثم نبين معنى " سبب الإثراء " في القانون المصري الجديد .
اختلاف الفقهاء في تحديد معنى السبب :
771 - المعنى الأدبي :يرى الأستاذ ريبير في مؤلفه المعروف " القاعدة الأدبية " ( [1495] ) أن المعنى المقصود من السبب هو معنى أدبي . وعنده أن الإثراء يكون له سبب إذا كان من العدل أن يستبقى المثري ما أفاده من الإثراء دون أن يرد منه شيئاً للمفتقر . ولذلك نراه يسمى الإثراء بلا سبب " الإثراء غير العادل " ( enrichissement ) . وهو يترك للقاضي تقدير ما إذا كان من العدل أن يستبقى المثري إثراءه فلا يحكم بالرد ، و إلا حكم به ويذهب الأستاذ بنكاز ( Bonnecase ) هو أيضاً إلى هذا المعنى الأدبي ( [1496] ) .
وغنى عن البيان أن ترك قاعدة الإثراء بلا سبب إلى معنى غامض غير محدد ، هو المعنى العام للعدالة ، يجرد القاعدة من كل أسباب الثبات والاستقرار .
772 - المعني الاقتصادي القانوني : وتذهب طائفة أخرى من الفقهاء إلى آن للسبب معنى اقتصادياً قانونياً . فالسبب هو العوض ( ( compensation ) عن الإثراء ، وما دام الإثراء عوض فهو لا يسترد غير أن هؤلاء الفقهاء يختلفون فيما بينهم عندما يحاولون تحديد معنى " العوض " .
فيرى الأستاذ موري ( Maury ) أنه هو البديل ( equivalent ) من الناحية الاقتصادية وهو الحق الأدبي ( droit moral ) من الناحية الخلقية ( [1497] ) .
ويرى الأستاذ رواست ( Rouast ) أن العوض ينطوي على معنى اعم من معنى البديل ، فهو المقابل ( contre - partie ) . ويختلف " المقابل " عن " البديل " في أن للمقابل معنى قانونياً . فأي " مقابل " يصلح قانوناً لأن يكون عوضاً للإثراء يمنع من الاسترداد ( [1498] ) .
ويرى الأستاذ ديموج أن العوض هو " النظير " ( contre - prestation ) الذي يرجح حق المثري في استبقاء الإثراء على حق المفتقر في استرداده ( [1499] ) .
وكل هذه المعاني مبهمة كما نرى ، ينقصها التحديد ، ويحوطها الغموض ( [1500] ) .
معنى السبب في القانون المصري الجديد :
773 - السبب هو المصدر القانوني المكسب للإثراء : والقانون المصري الجديد قاطع في تحديد معنى السبب . فقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ما يستخلص منه في وضوح أن السبب هو المصدر القانوني الذي يكسب المثري الإثراء فيجعل له الحق في استبقائه ( [1501] ) .
فالسبب إذن له معنى قانوني بحت ، فلا يمت لاعتبارات أدبية كما يقول ريبير ولا لاعتبارات اقتصادية كما يرى موري . وهذا المعنى هو أن يكون للمثري حق قانوني في كسب الإثراء الذي حصل عليه . الحق هذا لا يعدو مصدره أن يكون أحد المصدرين الذين تتولد منهما كل الحقوق : العقد أو القانون .
والأولي أن نقف عند هذا المعنى المحدد المنضبط ، فتكسب نظرية الإثراء بلا سبب من وراء ذلك ثابتاً وصلابة ، وتزاد إحكاماً ودقة ، ويتراوح عنها هذا الجو من الغموض والتحكم الذي كان يسودها في الماضي . وإذا كان القانون المصري الجديد قد آثر هذا المعني المحدد ، فذلك لأنه هو المعنى الذي يقول به الفقه في مصر ( [1502] ) ، وكثير من الفقهاء في فرنسا ( [1503] ) وهو المعنى الذي جرى به حكم القضاء في البلدين ( [1504] ) ويبق أن نستعرض " السبب " بهذا المعنى في كل من مصدريه . عقداً كان المصدر أو حكماً من أحكام القانون .
774 - السبب في الإثراء عقد : قد يكون السبب الذي كسب المثري به الإثراء هو العقد فيمتنع الرد ( [1505] ) . ويغلب أن يكون العقد الذي هو سبب الإثراء مبرماً ما بين المثري والمفتقر . فالطبيب إذا تعاقد مع المريض منعه العقد من الرجوع بدعوى الإثراء والمقاول إذا تعاقد مع العميل بأجر إجمالي منعه العقد من المطالبة بأية زيادة في الأجر ولو حدث في التصميم تعديل أو إضافة ( [1506] ) ( م 658 ) . وما يستنبطه العامل من اختراعات في أثناء عمله يكون من حق رب العمل إذا كانت طبيعة الأعمال التي تعهد بها العامل تقتضي منه إفراغ جهده في الابتداع أو إذا كان رب العمل قد اشترط في العقد صراحة أن يكون له الحق فيما يهتدي إليه من المخترعات ( م 688 فقرة 2 ) ، وعقد العمل هو الذي يمنع العامل من الرجوع على رب العمل ( [1507] ) وإذا اشترط المؤجر أن يتملك عند نهاية الإيجار التحسينات التي يدخلها المستأجر في العين المؤجرة امتنع على المستأجر الرجوع على المؤجر بتعويض عن هذه التحسينات لأن عقد الإيجار هنا سبب قانوني يمنع من هذا الرجوع ( [1508] ) . وإذا أمن شخص على منزله من الحريق واحترق المنزل ، فأعادت شركة التأمين بناءه تنفيذاً لعقد التأمين ، كان إثراء المؤمن بقيمة المنزل بعد أن أعيد بناؤه وقيمته في حالته الأصلية سببه عقد التأمين فلا ترجع شركة التأمين عليه بدعوى الإثراء ( [1509] ) . وإذا أحسن الوكيل الإدارة حتى زاد الربع زيادة كبيرة فلا رجوع له على الموكل بدعوى الإثراء لأن عقد الوكالة يمنع من ذلك ( [1510] ) ولا يجوز للبائع أن يرجع على المشتري بدعوى الإثراء لمطالبته بباقي ثمن المبيع لأن عقد البيع هو مناط تحديد حقوق كل من المتعاقدين ( [1511] ) .
وقد يكون العقد الذي هو سبب الإثراء مبرماً بين المثري والغير دون أن يكون المفتقر طرفاً فيه ، ويقوم العقد مع ذلك سبباً قانونياً للإثراء يمنع المفتقر من الرجوع على المثري . مثل ذلك مستأجر يستحدث تحسينا ت في العين المؤجرة ، ويتركها للمؤجر عند نهاية الإيجار طبقاً للعقد ، فيكون عقد الإيجار هذا مانعاً من الرجوع على المؤجر ، لا من المستأجر فحسب وقد رأينا هذا في مثل متقدم ، بل أيضاً من الدائن الذي عجل للمستأجر نفقات هذه التحسينات أو من المقاول الذي قام بها دون أن يقبض أجر عمله ، مع أن الدائن والمقاول لم يكونا طرفاً في عقد الإيجار وهو السبب القانوني لإثراء المؤجر بقيمة هذه التحسينات على حساب الدائن أو المقاول . والمثري في هذا المثل هو المؤجر ، والمفتقر هو الدائن أو المقاول ، وسبب الإثراء هو عقد الإيجار الذي أبرم بين المثري ( وهو المؤجر ) وشخص آخر غير المفتقر ( وهو المستأجر ) ( [1512] ) ومثل ذلك أيضاً شخص يثري على حساب آخر ، ويهب ما أثري به إلى شخص ثالث ، فلا يستطيع المفتقر في هذه الحالة أن يرجع بدعوى الإثراء على الموهوب له ، لأن هذا قد أثرى بسبب قانوني وهو عقد الهبة ، وإن لم يكن المفتقر طرفاً في هذا العقد ( [1513] ) .
وقد يكون العقد الذي هو سبب الإثراء مبرماً بين المفتقر والغير دون أن يكون المثري طرفاً فيه ، ويقوم العقد مع ذلك سبباً قانونياً فلإثراء . مثل ذلك أن يتعاقد شخص مع وكيل ولكن لا باعتبار أنه وكيل باسمه الشخصي ، فلا يجوز له الرجوع على الموكل بدعوى الإثراء لأن هناك عقداً أبرم بينه ( وهو المفتقر ) وبين الوكيل ( وهو غير المثري ) ( [1514] ) . ومثل ذلك أيضاً أن يتعاقد شخص مع أحد الشركاء في شركة محاصة ، فلا يجوز له الرجوع بدعوى الإثراء على أحد الشركاء الآخرين ، لأن الشريك في شركة المحاصة يتعاقد باسمه الشخصي لا باسم الشركة ولا باسم أحد من بقية الشركاء ، فيكون العقد الذي أبرم مع الشريك مانعاً من رجوع المتعاقد الآخر على بقية الشركاء الذين أثروا من وراء هذا العقد ، وذلك بالرغم من أن العقد أبرمه المفتقر مع غيرهم ( [1515] ) .
775 - السبب في الإثراء حكم من أحكام القانون : وقد يكون سبب الإثراء ليس عقداً بل حكماً من أحكام القانون يصلح أن يكون مصدراً لكسب الإثراء ، فيكون قيام هذا السبب مانعاً للمفتقر من الرجوع على المثري بدعوى الإثراء ، لأن المثري يكون قد أثري بسبب قانوني . مثل ذلك العمل غير المشروع يكون سبباً قانونياً يمنع من الرجوع بدعوى الإثراء . فلا يلتزم من أخذ تعويضاً عن ضرر أصابه برد هذا التعويض . لأنه قد كسبه بسبب قانوني هو العمل غير المشروع . ومثل ذلك التقادم يمنع من استرداد الإثراء ، فإذا أقر ناظر الوقف بدين على الوقف كان إقراره باطلاً ، فإذا رجع الدائن بدعوى الإثراء فيما يتعلق بفوائد الدين فر يرجع بها إلا فيما لم يسقط منها بخمس سنين ، وما سقط بهذه المدة يمنع التقادم من استرداده ( [1516] ) . كذلك قوة الشيء المقضي يعتبر سبباً مانعاً من دعوى الإثراء ، فإذا استبعد أحد دائني التفليسة بحكم حاز قوة الشيء المقضي لأنه لم يتقدم في الميعاد ، فإنه لا يستطيع الرجوع بدعوى الإثراء على السنديك ولا على أحد من سائر الدائنين ( [1517] ) . وإذا لحقت بالموظف إصابة جعلته يستحق معاشاً قبل أن يبلغ السن القانونية ، فلا يجوز للحكومة أن تقول إنه أثرى دون سبب بقيمة الاستقطاعات التي كان يجب خصمها من مرتبه إلى حين بلوغ السن ، لأن استحقاقه للمعاش بسبب الإصابة هو حكم من أحكام القانون ، والقانون هنا هو قانون المعاشات ( [1518] ) . وإذا أهمل المقاول فلم يقيد حق امتيازه ضاع هذا الحق ودخل مع سائر دائني التفليسة ، ولا يستطيع الرجوع بدعوى الإثراء على هؤلاء الدائنين ، لأن إثراءهم له سبب هو حكم القانون القاضي بوجوب القيد للمحافظة على حق الامتياز ( [1519] ) .
المبحث الرابع
لا ضرورة لن تكون دعوى الإثراء دعوى احتياطية
أو أن يكون الإثراء باقياً وقت رفع الدعوى
776 - موقف القانون المدني الجديد : ذكرنا في التطور التاريخي لقاعدة الإثراء بلا سبب أن هذه القاعد ة لم تستقم قاعدة مستقلة إلا منذ عهد قريب وأنها حتى بعد أن صار لها كيان ذاتي بقيت مغلولة بقيود لا يفسرها إلا ما صاحب القاعدة من تطبيق في الماضي . وإلا أنها استعصت على الطفرة فلم تستطيع أن تظفر باستقلالها إلا مقيداً بشروط ، إذا استطاع تاريخ القاعدة أن يفسرها . فإنه لا يستطيع أن يبررها .
وقد ألف الفقه والقضاء في فرنسا وفي مصر أن يقررا ، منذ قامت القاعدة مستقلة ، أن دعوى الإثراء بلا سبب دعوى احتياطية لا يجوز الالتجاء إليها إلا إذا انعدمت كل وسيلة قانونية أخرى . وأن الإثراء الذي يطالب المفتقر باسترداده يجب أن يكون قائماً وقت رفع الدعوى . والمبتدع لهذين القيدين هما الفقيهان الكبيران أن أوبري ورو على ما مر بنا .
وقد بدأ الفقه في فرنسا وفي مصر يكسر من أغلال القيد الأول . ولكنه هو القضاء بقيا جامدين إزاء القيد الثاني ، فظلا يقولان بأن من شروط دعوى الإثراء أن يكون الإثراء قائماً وقت رفع الدعوى .
أما القانون المصري الجديد فقد تكفل بتكسير القيدين معاً كما أسلفنا القول فهو لم يشترط أن تكون دعوى الإثراء دعوى احتياطية ، ثم هو قد نص صراحة في المادة 179على أن التزام المثري يبقى قائماً ولو زال الإثراء فيما بعد ( [1520] ) . فتم بذلك تحرير القاعدة من قيودها ، وأقيمت على أساس من المنطق السليم .
ها نحن نستعرض كلا من هذين القيدين لنبرر موقف القانون المصري الجديد منهما .
المطلب الأول
لا ضرورة لأن تكون دعوى الإثراء دعوى احتياطية
1 - القانون الفرنسي
777 - اتفاق الفقه والقضاء بادئ الأمر على أن تكون دعوى الإثراء دعوى احتياطية :
منذ تحررت دعوى الإثراء وأصبحت دعوى مستقلة ، على ما مر بنا في التطور التاريخي لهذه الدعوى ، ومنذ أعلنت محكمة النقض الفرنسية " أن دعوى الإثراء بلا سبب ، وهي تقوم على مبدأ عادل يحرم الإثراء على حساب الغير ، لم يعرض لتنظيمها نص في القانون ، فهي لا تخضع في استعمالها لأي شرط معين ، ويكفي لقبولها أن يتقدم المدعى بإثبات أنه جعل من يرفع عليه الدعوى يثري عن طريق تضحية تحملها هو أو عمل شخصي قام به ( [1521] ) " . ساد شعور قوى بأن تطوراً خطيراً قد وقع ، وأن دعوى الإثراء بعد أن كانت ترسف في أغلال التبعية لدعوى الفضالة . أصبحت طليقة من كل قيد . فتحولت من النقيض إلى النقيض ، وأنه يجدر البحث عن قيد تنضبط به . فلا تطغى على جميع نواحي القانون .
وسرعان ما عثر الأستاذان أوبري ورو على هذا القيد . فقررا أنه يشترط في دعوى الإثراء بلا سبب ألا يكون هناك لدى المدعي " دعوى أخرى ناشئة من عقد أو شبه عقد جريمة أو شبه جريمة " ( [1522] ) . وفهم ذلك على أن دعوى الإثراء هي دعوى احتياطية ( action subsidiaire ) لا يلجأ إليها المدعى إلا إذا لم يكن لديه أية دعوى أخرى . وما لبثت محكمة النقض الفرنسية أن اعتنقت هذا المذهب في حكمها المشهور الصادر في 12مايو سنة 1914 ( [1523] ) وانعقد إجماع الفقه والقضاء بعد ذلك على هذا المبدأ ( [1524] ) .
778 - تزعزع الفقه الفرنسي عن موقفه : ولكن الفقه في فرنسا ما لبث أن تزعزع عن موقفه ، وبدأ يتعمق في بحث هذه الصفة الاحتياطية التي خلعها على دعوى الإثراء .
وبدأ هذا البحث الأستاذ بارتان ( Bartin ) ، فتساءل في تعليقه على كتاب الأستاذين أوبري ورو ماذا يريد الفقيهان بقولهما إن دعوى الإثراء دعوى احتياطية ( [1525] ) ؟ثم أخذ الأستاذ رواست ( Rouast ) يعالج المسألة على وجه أعمق في مقال له معروف ( [1526] ) . وأفاض بعد ذلك الأستاذ الموزنينو ( Almosnino ) في بحث الموضوع في رسالة له مشهورة ( [1527] ) . ثم خطأ الأستاذ كابيتان خطوة أبعد ، فتشكك في أن تكون دعوى الإثراء دعوى احتياطية ، وتساءل لماذا لا تكون دعوى أصلية ( [1528] ) .
ولكن بالرغم من هذه الحركة الفقهية لا تزال دعوى الإثراء عند جمهور الفقهاء في فرنسا وعند القضاء الفرنسي ( [1529] ) دعوى احتياطية على المعنى الذي قال به أو برى ورو فيما قدمناه . والسبب في ذلك ، كما لاحظ بحق الأستاذ مارافان ( Maravent ) في رسالته ( [1530] ) ، أن معنى " سبب الإثراء " لا يزال في فرنسا محل خلاف ، ولم ينضبط على الوجه الذي انضبط به في مصر . وسنرى أن هناك ارتباطاً شديداً بين سبب الإثراء والصفة الاحتياطية للدعوى ، وأنه متى انضبط معنى سبب الإثراء على الوجه الذي أسلفناه والذي أخذ به القانون المصري الجديد . وفسر هذا السباب بأنه هو المصدر القانوني الذي يكسب المثري الإثراء ، لم تعد هناك فائدة محسوسة للقول بأن دعوى الإثراء دعوى احتياطية . ويغني عن هذا القول تفسير السبب على الوجه المتقدم الذكر . وإذا كانت دعوى الإثراء قد أصبحت ، بعد أن انطلقت من عقالها ، في حاجة إلى قيد تنضبط به ، فالأولى إلا يكون القيد هو هذه الصفة الاحتياطية المزعومة التي ابتدعها الأستاذان أوبري ورو ، بل يكون هو " سبب الإثراء " مفهوماً على المعنى الذي قدمناه فيدخل قيدا ًفي الدعوى تنضبط به على الوجه المطلوب .
وسنرى الآن أن الفقه والقضاء في مصر تقدما في هذا السبيل تقدماً مشهوداً ، وأن القانون المصري الجديد خطا فيه الخطوة الحاسمة .
2 - القانون المصري
779 - الفقه والقضاء في مصر : سار الفقه والقضاء في مصر بادئ الأمر في الطريق الذي سار فيه الفقه والقضاء في فرنسا ، فقالا بالصفة الاحتياطية للدعوى ( [1531] ) .
ولكن جانباً من الفقه ما لبث أن شق لنفسه طريقاً آخر ، واخذ يتساءل : هل صحيح ما يقال من أن دعوى الإثراء دعوى احتياطية ؟ وننقل هنا ما كبتناه في " الموجز " في ظل القانون المدني القديم :
" تقرر الفقهاء عادة أن دعوى الإثراء على حساب الغير هي دعوى احتياطية . ويريدون بهذا أنه لا يجوز للمدعي الالتجاء إليها إلا إذا اعوزته السبل الأخرى . إذا كان له سبيل غير دعوى الإثراء ، فعليه أن يسلك هذا السبيل . مثل ذلك أن يغتصب شخص مالا لغيره فينتفع به ، فهنا يستطيع صاحب المال أن يرجع على المغتصب بدعوى المسئولية التقصيرية فلا يرجع عليه بدعوى الإثراء . وقد يكون للمفتقر طريق آخر ، ولكن قبل الغير لا قبل المثري ، فهنا أيضاً يرجع المفتقر على الغير لا على المثري . مثل ذلك أن يتفق طبيب مع مريض على معالجته ، ويكون المريض قد أمن على نفسه ضد المرض ، فلا يرجع الطبيب على شركة التامين بدعوى الإثراء ، بل يرجع على المريض بدعوى العقد . ومثل ذلك أيضاً أن يوفي شخص ديناً على غيره معتقداً أن الدين في ذمته ، فيكون له ، إلى جانب دعوى الإثراء قبل المدين الحقيقي ، دعوى دفع مالا يجب قبل الدائن الذي استوفى الدين ، فعليه أن يرجع بالدعوى الثانية دون الأولى " .
" ونحن لا نرى محلا للقول بأن دعوى الإثراء على حساب الغير دعوى احتياطية . فهي دعوى ككل الدعاوى متى توافرت شروطها أمكن رفعها ، حتى لو وجد المدعى أمامه طرقاً أخرى . أما ما يقال من أن الدعوى مبنية على قواعد العدالة ، فلا يجوز الالتجاء إليها إلا عندما تضيق القواعد القانونية ، فقول كان يصح في قانون كالقانون الروماني حيث كان هناك تمييز بين قواعد العدالة ممثلة في القانون البريطوري وقواعد القانون ممثلة في القانون المدني العتيق ، أو في القانون الإنجليزي حيث كانت قواعد العدالة منفصلة عن " القانون العام " . أما الآن فلا تمييز بين قواعد العدالة وقواعد القانون ، فكلاهما قانون يمكن الالتجاء إليه ، ولا يشترط الالتجاء إلى واحد قبل الآخر " .
" أما ما قدمناه من الأمثلة التي رأينا فيها المدعى يملك دعوى أخرى غير دعوى الإثراء ، فلا نرى فيها ما يمنع المدعى من أن يترك هذه الدعوى الأخرى إلى دعوى الإثراء . فيستطيع صاحب المال أن يترك دعوى المسئولية التقصيرية قبل المغتصب ، ويستطيع الطبيب أن يترك دعوى العقد قبل المريض ، ويستطيع من وفي دين غيره أن يترك دعوى دفع ما لا يجب قبل الدائن ، ويلجأ هؤلاء جميعاً إلى دعوى الإثراء . إلا إنهم لا يفعلون ، إذ أن هذه الدعاوى الأخرى أجدى عليهم من دعوى الإثراء ، ففيها يستولون على تعويض كامل ، أما في دعوى الإثراء فلا ينالون إلا أقل القيمتين من إثراء أو افتقار . . . . ( [1532] ) " .
هذا ما قلناه في " الموجز " في ظل القانون القديم ، ولا تزال نقوله حتى اليوم ، وفي ظل القانون الجديد ( [1533] ) .
وينحو الدكتور محمود أبو عافية هذا النحو في رسالته " التصرف القانوني المجرد " بل هو يربط في وضوح ما بين " السبب في الإثراء " والصفة الاحتياطية للدعوى فيقول : " يفسر الفقه في فرنسا ومصر هذا المبدأ بقوله إن دعوى الإثراء دعوى احتياطية . . . وهذا في رأينا خطأ يؤسف له لشدة ما يترتب عليه من تعقيد لمسألة الإثراء . ولا نرى علة لوجود هذا الخطأ سوى أخذ السبب في الإثراء بمعنى الغرض الشخصي المنشود . أما إذا أخذناه على معنى السبب المنشيء ، فإن دعوى الإثراء لا تجوز مباشرتها في الحالة المذكورة في المتن ( حالة المشتري الذي يدفع الثمن دون أن تنتقل إليه ملكية المبيع ، فلا يجوز له أن يرجع على البائع بدعوى الإثراء بل يرجع بدعوى البيع ) لا لأنها دعوى احتياطية ، وإنما لأن الإثراء له سبب هو العقد النائم " ( [1534] ) .
وينهج الأستاذ مارافان ( Maravent ) في رسالته هذا المنهج ، ويبين في وضوح وقوة أن الصفة الاحتياطية المزعومة لدعوى الإثراء لا تلبث أن تختفى إذا فهم " السبب في الإثراء " على الوجه الصحيح ( [1535] ) .
هذا هو الفقه المصري في مرحلته الأخيرة قبل صدور القانون المدني الجديد أما القضاء في مصر فكان أقل وضوحاً في إنكار الصفة الاحتياطية لدعوى الإثراء ، ولكن محكمة النقض لم تصرح في حكم من أحكامها بأن للدعوى هذه الصفة على الرغم مما نسب إليه من ذلك ( [1536] ) .
780 – القانون المصري الجديد : وجاء القانون الجديد صدى للفقه المصري في مرحلته الأخيرة ، مستجيباً لدعوته ، جاعلا من دعوى الإثراء دعوى أصلية ، مؤكداً بذلك استقلال هذه الدعوى ، بعد أن رد إليها اعتباره ، ونفي عنها الصفة الاحتياطية ، فرفعها بذلك إلى مرتبة دعوى العقد ودعوى المسئولية التقصيرية .
ويبقى أن نبرر هذا الموقف الحق الذي وقف القانون الجديد .
إن الصفة الاحتياطية لدعوى الإثراء لا يمكن أن تثار في أية حالة لا يكون فيها للمدعى دعوى أخرى إلى جانبها . والحالات التي من هذا القبيل كثيرة متنوعة . وقد رأينا أمثلة منها متعددة فيما قدمناه . وهذا هو الميدان الحقيقي لدعوى الإثراء .
أما إذا قامت دعوى أخرى إلى جانب دعوى الإثراء ، فهنا تثار الصفة الاحتياطية المزعومة ، ويقال إن المدعى لا يجوز له أن يرجع بدعوى الإثراء لأنها دعوى احتياطية لا تجوز مباشرتها إذا وجد سبيل قانوني آخر ، فيتعين عليه أن يباشر الدعوى الأخرى دون دعوى الإثراء . مثل ذلك المعير يدفع العارية للمستعير وله في استردادها دعوى العارية ودعوى الاستحقاق ، فلا يجوز له في هذه الحالة الرجوع بدعوى الإثراء ومثل ذلك أيضاً المغتصب لمال الغير ، يستطيع صاحب المال أن يرجع عليه بدعوى الغصب ، فلا يجوز أن يرجع عليه بدعوى الإثراء .
والصحيح أن المعير في المثل الأول ، إذا كان لا يجوز له الرجوع بدعوى الإثراء ، فليس ذلك لأنها دعوى احتياطية ، بل لأنها غير قائمة أصلاً ، إذ المثري هنا وهو المستعير قد اثرى بسبب قانوني هو عقد العارية كما رأينا فيما تقدم . وسنرى فيما يلي أن " سبب الإثراء " يغني في الكثرة الغالبة من الأحوال . كما أغنى في هذه الحالة ، عن الالتجاء إلى الصفة الاحتياطية لدعوى الإثراء أما في المثل الثاني فلا يوجد ما يمنع صاحب المال من الرجوع على المغتصب بدعوى الإثراء ، فهو بالخيار بين هذه الدعوى ودعوى الغصب ، وإن كان في الواقع يختار دعوى الغصب إذ هي تهيئ له تعويضاً أوفر ، فدعوى الإثراء لا تكون إذن دعوى احتياطية إلا إذا كان ذلك من ناحية الواقع لا من ناحية القانون ( [1537] ) .
بقيت الحالات التي تكون فيها الدعوى الأخرى التي قامت إلى جانب دعوى الإثراء قد انسد طريقها ، فلا يستطيع المدعى أن يباشر دعوى الإثراء لأنها كما يقال دعوى احتياطية ، ولا الدعوى الأخرى لأن طريقها قد انسد . وجميع الأمثلة التي تورد عادة في هذا الصدد ليست إلا حالات تحقق فيها للإثراء سبب قانوني ، فلا يجوز للمدعى أن يرجع بدعوى الإثراء ، لا لأنها دعوى احتياطية ، بل لأنها ليست قائمة . فإذا اقرض شخص آخر مبلغاً من النقود يزيد على عشرة الجنيهات ولم يحصل على دليل كتابي ، وأراد المقرض – بعد أن انسد امامه طريق دعوى القرض لمانع قانوني هو انعدام الدليل الكتابي – أن يرجع على المقترض بدعوى الإثراء حتى يتمكن من إثبات القرض بالبينة كواقعة مادية ، لم يجز له ذلك لأن الإثراء هنا له سبب هو عقد القرض ( [1538] ) . وإذا اقرض مصرف مديناً مبلغاً من النقود سدد به دائناً مرتهناً ، حكم القانون وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ( [1539] ) . وإذا تعاقد معلم مع والد تلميذ على أن يعطي التلميذ درساً خاصاً ، ثم يفلس الأب ، فتنسد أمام المعلم دعوى الرجوع عليه بالعقد لإعساره ، ويريد المعلم الرجوع على التلميذ بدعوى الإثراء بلا سبب ، لم يجز له ذلك لأن إثراء التلميذ له سبب هو التزام الأب أن يقوم على تعليم ولده ( [1540] ) .
ويتبين مما قدمناه أن دعوى الإثراء هي دعوى أصلية . فإذا قامت دعوى أخرى إلى جانبها ، كان للمدعى الخيار بين الدعويين . وإذا كان يختار في الواقع الدعوى الأخرى ، فتبدو دعوى الإثراء في الظاهر كأنها دعوى احتياطية ، فإن ذلك يرجع إلى أن هذه الدعوى الأخرى إما أن تكون قد جعلت للإثراء سبباً فلا يستطيع المدعى أن يباشر دعوى الإثراء ، وإما أن تكون هي الأجدى على المدعى فلا يرغب في أن يباشر دعوى الإثراء .
وإذا كان هناك شيء يستبقى من فكرة الصفة الاحتياطية ، فليس ذلك ما يقال من أنه يجب على المدعى أن يستعرض الدعاوى واحدة بعد الأخرى ، فإذا استنفدها جميعاً ولم يستقم له أي منها التجأ إلى دعوى الإثراء . بل الذي يستبقى هو أنه يجب على المدعى أن يستعرض الأسباب القانونية واحداً بعد الآخر ، فإذا استنفدها جميعاً ولم يقم أي منها سبباً لإثراء المدعى عليه ، جاز له عند ذلك أن يرجع بدعوى الإثراء ( [1541] ) .
المطلب الثاني
لا ضرورة لأن يكون الإثراء قائماً وقت رفع الدعوى
781 – القانون المدني الجديد : نص القانون المدني الجديد صراحة في المادة 179 على أن التزام المثري يبقى قائماً ولو زال الإثراء فيما بعد . ومعنى ذلك أن العبرة بحصول الإثراء . فمتى حصل وجد الالتزام في ذمة المثرى ، وليس من الضروري بعد ذلك أن يبقى الإثراء قائماً إلى وقت رفع الدعوى .
782 – الرأي المعارض : والرأي السائد في فرنسا ( [1542] ) هو الرأي المعارض . إذ يشترط هناك كما كان يشترط في مصر ( [1543] ) قبل صدور القانون المدني الجديد – أن يكون الإثراء قائماً وقت رفع الدعوى . وقد جاء في " الموجز " ( [1544] ) في هذا الصدد ما يأتي : " والنذر الذي أثرى به المدين يجب أن يكون قائماً وقت رفع الدعوى عليه من الدائن . وينبني على ذلك أنه لو قام الدائن بترميمات في منزل للمدين ، ثم احترق المنزل قبل أن يرفع الدائن الدعوى ، فإنه لا يرجع بشيء على المدين . ولكن إذا احترق المنزل بعد رفع الدعوى وقبل صدور الحكم ، فلا يؤثر هذا في حق الدائن ، فإن الحكم يستند إلى يوم رفع الدعوى . على أن الإثراء يعتبر قائماً ولو كان ناشئاً عن خدمات أداها الدائن للمدين وانتهت هذه الخدمات قبل رفع الدعوى ، إلا إذا كانت هذه الخدمات قد أنشأت فائدة مادية كانت قائمة ثم هلكت قبل التقاضي " .
وهذا الحكم الغريب – وهو البقية الباقية من مخلفات الماضي وقت أن كانت دعوى الإثراء ترسف في الإغلال والقيود – يقيمه أنصاره على الأسانيد الآتية ( [1545] ) :
( 1 ) أن الغرض من دعوى الإثراء هو إعادة التوازن الذي اختل بين ذمتين ماليتين ، إحداهما أثرت بسبب افتقار الأخرى ، فالوقت الذي يعتبر فيه اختلال التوازن هو الوقت الذي تطلب فيه إعادته ، أي وقت رفع الدعوى .
( 2 ) اشتراط قيام الإثراء وقت رفع الدعوى هو الذي يميز دعوى الإثراء عن دعوى الفضالة . ففي الفضالة لا يشترط قيام الإثراء وقت رفع الدعوى ، لأن الفضولي وهو يولى جميلا لرب العمل أولى بالرعاية من المفتقر .
( 3 ) أن الإثراء ، يماثل الضرر في المسئولية التقصيرية ، وكلاهما يقدر وقت رفع الدعوى .
( 4 ) أن جميع التقنينات الحديثة تقدر الإثراء وقت رفع الدعوى ( [1546] ) .
783 – الرأي الصحيح : والرأي الصحيح في نظرنا هو الرأي الذي أخذ به القانون المدني الجديد من أن العبرة في تقدير الإثراء بوقت حصوله لا بوقت رفع الدعوى . وما دمنا نريد أن نحرر قاعدة الإثراء من القيود التي اثقلتها في الماضي ، فالواجب أن نتحاكم في هذه المسألة ، لا إلى تقاليد القاعدة ، بل إلى المنطق القانوني السليم . وقد قدمنا أن مصدر التزام المثري هو واقعة الإثراء ، ولما كان الالتزام يوجد بوجود مصدره ، فالتزام المثري بالتعويض يوجد بمجرد أن تتحقق واقعة الإثراء . فمنذ أثرى المثري أصبح ملتزماً . ومتى تعين وقت قيام الالتزام تعين كذلك محل الالتزام ، إذ الالتزام لا يقوم إلا بقيام محله . فيتعين إذن محل الالتزام – وقيمة الإثراء أحد عنصريه – وقت تحقق الإثراء . ويتبين من ذلك في وضوح أن قيمة الإثراء إنما تقدر وقت تحقق الإثراء لا وقت رفع الدعوى .
هذا هو المنطق القانوني السليم . وهو عين المنطق الذي نراه في جميع المصادر الأخرى للالتزام . فالالتزام الناشيء من العقد يتعين محله وقت تمام العقد . والالتزام الناشيء من العمل غير المشروع يتعين محله وقت وقوع الضرر على تفصيل سنعود إليه فيما يلي . والالتزام الناشيء من القانون يتعين محله وقت قيام الواقعة القانونية التي يرتب القانون عليها الالتزام ، جواراً كانت أو قرابة أو غير ذلك . فإذا كانت مصادر الالتزام جميعاً إذا قامت يتعين بقيامها محل الالتزام ، فلماذا تستثني من هذا المبدأ المنطقي العادل مصدراً واحداً هو مصدر الإثراء بلا سبب ، ونستبقى لهذا المصدر وحده بقية من بقايا الشذوذ التي اشتهر بها في الماضي ! إن القانون المدني الجديد عندما قرر أن الإثراء بلا سبب هو كغيره من المصادر إذا قام يتعين بقيامه محل الالتزام ، وأن العبرة في تقدير قيمة الإثراء تكون بوقت تحقق الإثراء ، قد أعاد هذا المصدر إلى حظيرة القواعد العامة ، وجعله نظيراً لغيره من المصادر الأخرى ، وفك عنه آخر غل كان به مشدود الوثاق .
784 – نقض الرأي المعارض : أما الحجج التي يستند إليها الرأي المعارض فمن الميسور نقضها :
( ا ) فأما أن دعوى الإثراء يقصد بها إعادة التوازن الذي اختل بين ذمتين ماليتين ، فهذا صحيح . ولكن إلى أي وقت تكون إعادة التوازن ؟ إن قيل إن إعادة التوازن واجبة إلى يوم رفع الدعوى لأن الاختلال يكون قائماً وقت ذلك ، فإن هذا المنطق يجر القائل به إلى مدى أبعد . وما دامت العبرة بقيام الاختلال ، فما أولى انصار الرأي المعارض أن ينتقلوات من وقت رفع الدعوى إلى وقت النطق بالحكم ، ففي هذا الوقت وحده يستطيع القاضي أن يحكم باصلاح آخر اثر للاختلال في مكنته أن يصلحه ! وقد أبى الأستاذ ديموج ، وهو من انصار الرأي المعارض ، إلا أن يسير في منطقه إلى نهاية الشوط ، فيقول بوجوب إصلاح الاختلال إلى وقت النطق بالحكم ( [1547] ) . ولكن مقتضيات الصياغة القانونية تأبى إلا استقرار التعامل . فمن بين الأوقات الثلاثة التي تتنازع المسألة التي نحن بصددها ، وقت وقوع الاختلال في التوازن ووقت رفع الدعوى ووقت النطق بالحكم ، لا يوجد إلا وقت واحد هو المستقر الثابت ، لا يدخل في تحديده التحكم ، ولا يتعين تبعاً للمصادفات ، وهو فوق هذا كله الوقت الذي يقوم فيه الالتزام . وذلك هو وقت وقوع الاختلال في التوازن ، أي وقت تحقق الإثراء فالواجب إذن الوقوف عند هذا الوقت وحده لتقدير قيمة الإثراء .
( 2 ) وأما أن اشتراط قيام الإثراء وقت رفع الدعوى هو الذي يميز دعوى الإثراء من دعوى الفضالة ، فهذه حجة بادية الوهن . فالتمييز بين الدعويين لا يزال قائماً حتى بعد اختفاء هذا المميز . ولا يزال هناك فارق جوهري بين دعوى الفضالة التي تجعل للفضولي الحق في استرداد جميع مصروفاته الضرورية والنافعة ، ودعوى الإثراء التي لا تجعل للمفتقر إلا أقل القيمتين من الإثراء والافتقار . بل إن هذا الفارق الجوهري هو الذي يستجيب لمهمة كل من الدعويين ، فإن الفضولي يوفي جميلا فكان له أن يسترد جميع مصروفاته الضرورية والنافعة ، أما المفتقر فليست عنده هذه النية ولذلك لا يسترد إلا أقل القيمتين .
( 3 ) وأما أن الإثراء يماثل الضرر في المسئولية التقصيرية ، كلاهما يقدر وقت رفع الدعوى ، فهذه مماثلة خاطئة وحكم غير صحيح . وإنما يماثل الضرر في المسئولية التقصيرية الافتقار لا الإثراء . وسنرى أن الافتقار كالضرر يقدر يوم النطق بالحكم إذا كان متغيراً ، لا يوم رفع الدعوى .
( 4 ) وأما أن جميع التقنينات الحديثة تقدر الإثراء وقت رفع الدعوى ، فهذه التقنينات إذا كانت لاتينية فلا دلالة لها ، لأنها إنما تسير في قاعدة الإثراء وفقاً لتقاليدها الضيقة . وإذا كانت جرمانية فدلالتها أقل ، وقد رأينا أن القوانين الجرمانية تذهب في تضييق قاعدة الإثراء بلا سبب إلى مدى أبعد من المدى الذي تذهب إليه القوانين اللاتينية . فهي تأبى أن يكون الإثراء غير مباشر ، ولا تقر الإثراء المعنوي بل تشترط أن يكون ذا قيمة مادية . فكل هذه التقنينات من لاتينية وجرمانية وقفت بالقاعدة عند تقاليدها القديمة ، وجمدت عن أن تسير بها في طريق التطور ( [1548] ) . على أن هناك تقنين سجلا للقاعدة هذا التطور الأخير ، فنصا صراحة على جواز أن يكون الإثراء قد زال وقت رفع الدعوى ، وهما التقنين النمساوى ( [1549] ) والتقنين الارجنتيني ( [1550] ) فهل يعيب القانون المصري الجديد أن يكون قد سار بالقاعدة إلى هذا المدى الواجب في التطور ( [1551] ) .
ويتبين مما قدمناه أن الإثراء تقدر قيمته وقت تحققه . وهذا هو الوضع الصحيح للمسألة ، فما دام الإثراء منذ تحققه دخل في ذمة المثرى وأصبح ملكاً له ، فهو الذي يتحمل تبعته من هذا الوقت . إن زاد بعد ذلك فله الغنم ، وإن نقص أو زال فعليه الغرم . بهذا تقضي المبادئ الصحيحة ، وهذا ما يفرضه المنطق القانوني ( [1552] ) .
* * *
وبعد فقد رأينا أن دعوى الإثراء تحررت في القانون المدني الجديد من آخر ما كان يغلها من قيود . وهي بعد هذا التحرر قد تركت لمصيرها . فهل يكون هذا المصير هو مصير المسئولية التقصيرية ، إذ كانت في القديم محصورة في نطاق ضيق ، ثم أطلقت من قيودها ، فتطورت واتسعت حتى أصبحت قاعدة عامة تنبسط على جميع نواحي القانون ( [1553] ) ؟
إن دعوى الإثراء في حاجة إلى مثل هذا التطور ، إذ لا تزال هناك حالات خاصة تقوم إلى جانب القاعدة العامة في الإثراء ، كحالات الالتصاق وحالات المصروفات الضرورية والنافعة ، وتبقى هذه الحالات في نطاقها الخاص ، وتبقى بجانبها دعوى الإثراء فيما يجاوز هذا النطاق . كل هذا حتى يأتي اليوم الذي تتقلص فيه هذه الحالات الخاصة ، فتبتلعها القاعدة العامة في الإثراء ، كما ابتلعت القاعدة العامة في المسئولية التقصيرية الحالات الخاصة في الجنح المدنية .
هذه هي سياسة القانون المدني الجديد : أن تبرز قاعدة الإثراء إلى جانب قاعدة الخطأ وإلى جانب قاعدة العقد ، فتصبح مثلهما مصدراً مستقلا للالتزام .
الفرع الثاني
أحكام الإثراء بلا سبب
785 – الدعوى والجزاء : إذا توافرت الأركان التي قدمناها في قاعدة الإثراء بلا سبب ، ترتبت أحكام هذه القاعدة ، ووجب على المثري تعويض المفتقر .
فالتعويض إذن هو جزاء الإثراء بلا سبب . ودعوى الإثراء هي الطريق إلى هذا الجزاء .
ونستعرض في مبحثين متعاقبين – كما قلنا في المسئولية التقصيرية – الدعوى والجزاء .
المبحث الأول
الدعوى
نستعرض في الدعوى ما يأتي : 1 ) طرفي الدعوى 2 ) الطلبات والدفوع . 3 ) الإثبات . 4 ) الحكم .
1 – طرفا الدعوى
أ – المدعى :
786 – من يكون المدعى : المدعى هو المفتقر ، فهو وحده الذي يحق له أن يطالب بالتعويض . ويقوم مقامه النائب والخلف .
ونائب المفتقر ، إذا كان هذا قاصراً ، هو وليه أو وصيه ، وإذا كان محجوراً هو القيم ، وإذا كان مفلساً هو السنديك ، وإذا كان وفقاً هو ناظر الوقف . وإذا كان المفتقر رشيدا بالغاً فنائبه هو الوكيل .
والخلف هو الوارث أو الدائن ، وهذا هو الخالف العام ، والمحال له وهذا هو الخلف الخاص . فإذا مات المفتقر حل وارثه محله في المطالبة بالتعويض . ويجوز لدائن المفتقر أن يطالب المثري بالتعويض مستعملا حق المفتقر عن طريق الدعوى غير المباشرة . ويصح أن ينزل المفتقر عن حقه في التعويض إلى شخص آخر فيصبح المحال هل هو دائن المثرى .
787 – أهلية المدعى : ولا يشترط في المفتقر أهلية ما . فناقص الأهلية – الصبي المميز والسفيه وذو الغفلة – يصح أن يفتقر بأن يثري شخص على حسابه دون سبب قانوني ، فيصبح ناقص الأهلية دائناً للمثرى . بل قد يكون المفقتر عديم الأهلية ، كالصبي غير المميز والمعتوه والمجنوه ، فيثري شخص على حساب أحد من هؤلاء دون سبب قانوني ، فيصبح عديم الأهلية دائناً للمثرى بالتعويض .
788 – تعدد المدعى : وقد يتعدد المفتقر ، كما لو أثرى شخص على حساب شركاء في الشيوع . فيصبح هؤلاء الشركاء دائنين للمثري ، كل منهم بقدر نصيبه في التعويض . ولا تضامن بينهم . بل لكل منهم دعوى مستقلة عن دعاوى الآخرين ، ويقدر القاضي تعويض كل على حدة ، وذلك لعدم ورود نص على التضامن في هذه الحالة ( [1554] ) .
4 - المدعى عليه :
789 – من يكون المدعى عليه : المدعى عليه هو المثرى . فهو وحده المسئول عن تعويض المفتقر . ويقوم مقامه في المسئولية النائب والخلف .
فإذا كان قاصراً كان نائبه هو وليه أو وصيه . وإذا كان محجوراً كان النائب هو القيم ، وإذا كان مفلساً فالسنديك ، وإذا كان وقفاً فالناظر ( [1555] ) ، وإذا كان رشيداً بالغاً فالوكيل .
وخلف المثري هو وارثه ، ولكنه لا يرث التركة في الشريعة الإسلامية إلا بعد سداد الديون . فتركة المثري تكون هي المسئولة عن تعويض المفتقر . وأي وارث ترفع عليه الدعوى بمثل التركة ويجوز أن يكون الخلف هو شخص محال عليه بالدين ، كمتجر مدين عن طريق الإثراء يباع وتحال ديونه على المشتري وفيها هذا الدين ، فيكون المسئول عن التعويض في هذه الحالة هو المشتري للمتجر باعتباره خلفاً خاصاً .
790 - أهلية المدعى عليه : أتى القانون الجديد كما رأينا ، بنص صريح في هذه المسألة ، فقضت المادة 179 بأن " كل شخص ، ولو غير مميز ، يثرى دون سبب مشروع على حساب شخص أخر يلتزم . . . " . وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : " ولا يشترط في المثري توافر أهلية ما ، فيجوز أن يلتزم غير المميز بمقتضى الإثراء ( [1556] ) " .
ولا شك في أن هذا الحكم هو الذي يتفق مع المنطق القانوني السليم . وإذا كان الملتزم بالعقد يشترط فيه التمييز بل يشترط فيه بلوغ سن الرشد في عقود التصرفات ، فذلك لأنه يلتزم بإرادته ، والإرادة تقوم على التمييز على تفاوت في درجاته تبعا لخطر العقد . وإذا كان الملتزم بالعمل غير المشروع يشترط فيه هو أيضاً التمييز ، فذلك لأن مسئوليته تقوم على الخطأ والتمييز هو ركنه المعنوي ، ومن ثم جاءت مسئولية عديم التمييز عن العمل غير المشروع استثناء مستنداً إلى نص في القانون كما قدمنا . أما الملتزم بمقتضى الإثراء بلا سبب فهو إنما يلتزم لا بمقتضى إرادته ولا استناداً إلى خطأ صدر منه حتى نتطلب فيه التمييز ، بل إن مصدر التزامه هو واقعة قانونية ( fait juridique ) ، هي واقعة الإثراء ، فمتى تحققت هذه الواقعة ترتب الالتزام في ذمته دون نظر إلى أنه مميز أو غير مميز غير أن المثري . إذا لم يكن كامل الأهلية ، لا يحاسب إلا على ما انتفع به فعلا . فإذا فقد شيئاً مما جناه من ربح أو فائدة ، فلا يحسب ما فقده من ذلك في تقدير إثرائه ( [1557] ) .
791 – تعدد المدعى عليه : وقد يتعدد المثري كما لو أثرى شركاء في الشيوع على حساب الغير . فيصبح هؤلاء مدينين للمفتقر بالتعويض . ولا يكونون مسئولين بالتضامن ، بل يكون كل منهم مسئولا بقدر نصيبه أي بأقل القيمتين : إثرائه هو وافتقار الدائن الذي نشأ عنه هذا الإثراء . ويقدر القاضي هذا النصيب كما يفعل عند تعدد المفتقر فيما مر بنا . وانتفا التضامن عند تعدد المثري كانتفاء التضامن عند تعدد المفتقر يرجع إلى عدم ورود نص على التضامن ( [1558] ) .
2 – الطلبات والدفوع
( تقادم دعوى الإثراء )
أ – طلبات المدعى :
792 – يطلب المدعى تعويضا عما لحق به من افتقار في حدود ما زال المدعى عليه من إثراء . هذا هو ما يطلب المدعى ، وهذا هو ما يميز دعوى الإثراء على دعوى استرداد غير المستحق ودعوى الفضالة . وإذا كانت الدعويان الأخيرتان ليستا إلا صورتين خاصتين من الدعوى الأولى ، إلا أن هذه الدعوى الثلاث كل منها مستقل عن الآخر .
ويترتب على ذلك أن المفتقر إذا تقدم كفضولي أو كدفاع لغير المستحق وخسر دعواه ، فلا شيء يمنع من أن يتقدم ثانية بدعوى الإثراء بلا سبب ، ولا يحول دون ذلك قوة الشيء المقضي ، لأن سبب الدعوى الأولى وهو الفضالة أو دفع غير المستحق يختلف عن سبب الدعوى الثانية وهو الإثراء بلا سبب ( [1559] ) .
ب – دفوع المدعى عليه :
793 – كيف يدفع المدعى عليه الدعوى : يدفع المثري دعوى الإثراء بأحد أمرين : إما بانكار قيام الدعوى ذاتها ، فيدعى أن ركناً من أركانها الثلاثة – الإثراء أو الافتقار أو انعدام السبب – لم يتوافر . وإما أن يقر بأن الأركان قد توافرت ولكن التزامه انقضى بسبب من أسباب انقضاء الالتزام ، فيدعى مثل أنه وفي المفتقر ما يستحق من تعويض ، أو أنه اصطلح معه ، أو أن مقاصة وقعت ، أو أن المفتقر أبرأ ذمته ، أو أن دعوى الإثراء انقضت بالتقادم .
794 – الدفع بالتقادم : وتطبق القواعد العامة في كل ما تقدم والذي يعنينا الوقوف عنده قليلا هو الدفع بالتقادم . فقد أدخل القانون المدني الجديد تعديلا جوهرياً في هذا الصدد . وبعد أن كانت دعوى الإثراء لا تتقادم إلا بخمس عشرة سنة ، صارت الآن تتقادم أيضاً بثلاث سنوات على التفصيل الآتي :
نصت المادة 180 من القانون الجديد على أنه " تسقط دعوى التعويض عن الإثراء بلا سبب بانقضاء ثلاث سنوات من اليوم الذي يعلم فيه من لحقته الخسارة بحقه في التعويض ، وتسقط الدعوى ، كذلك في جميع الأحوال بانقضاء خمس عشرة سنة من اليوم الذي ينشأ فيه هذا الحق ( [1560] ) " .
وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ينشيء المشروع في هذا النص تقادماً قصيراً مدته ثلاث سنوات من اليوم الذي يعلم فيه من لحقته الخسارة بحقه في المطالبة بالرد أو بالتعويض ، ويقف على شخص من يلزم بذلك . وقد نص على هذا التقادم القصير إلى جانب التقادم بالمدة الطويلة . ويبدأ سريانها من اليوم الذي ينشا فيه الالتزام ( [1561] ) " .
وقد جرى القانون الجديد في هذه المسألة على عادته من إنشاء تقادم قصير لا لتزام لا ينشا من إرادة صاحبه . وقد رأينا أنه فعل ذلك في المسئولية التقصيرية ، وسنراه يفعل ذلك أيضاً في دعوى استرداد غير المستحق ودعوى الفضالة . ذلك أن الالتزام الذي ينشا مستقلا عن إرادة الملتزم متى علم به صاحبه لا يبقيه القانون المدة التي يبقى فيها التزاماً أنشأته إرادة الملتزم ، فالثاني دون الأول هو الذي ارتضاه المدين .
ويتبين من النص الذي قدمناه أن دعوى الإثراء بلا سبب تتقادم بأقصر المدتين الآتيتين :
( 1 ) ثلاث سنوات من اليوم الذي علم فيه المفتقر بحقه في التعويض . وهو لا يعلم بحقه في التعويض إلا إذا علم ما أصابه من افتقار ترتب عليه إثراء الغير وعرف هذا الغير الذي أثرى على حسابه . فلا يبدأ سريان التقادم في حالتنا هذه من يوم قيام الالتزام في ذمة المثرى ، بل من اليوم الذي علم فيه المفتقر بافتقاره وبمن أثرى على حسابه . وبذلك يكون على بينة من أمره فيتدبر الموقف ، وينظر في رفع الدعوى في خلال هذه المدة .
( 2 ) خمس عشرة سنة من يوم قيام الالتزام . ويبدو لأول وهلة أن الدعوى تتقادم بالمدة الأولى القصيرة قبل تقادمها بهذه المدة الطويلة . وهذا صحيح في الكثرة الغالبة من الأحوال . ولكن يقع أحياناً أن المفتقر لا يعلم بافتقاره وبمن أثرى على حسابه إلا بعد مدة من يوم قيام الالتزام ، إذا فرضناها أكثر من اثنتى عشرة سنة فإن الدعوى تتقادم بانقضاء المدة الطويلة – خمس عشرة سنة من يوم قيام لا لتزام – قبل تقادمها بانقضاء المدة القصيرة وهي ثلاث سنوات تبدأ بعد انقضاء أكثر من اثنتى عشرة سنة من يوم قيام الالتزام ، فلا تنقضي إلا بعد انقضاء مدة الخمس العشرة سنة . وهذا ما قدره القانون الجديد فاحتاط له ، ولم يغفل أن يورد المدة الطويلة إلى جانب المدة القصيرة ليجعل لالتزام يتقادم بأسرعهما انقضاء ( [1562] ) .
3 – الإثبات
أ – عبء الإثبات :
795 – يقع عبء الإثبات على الدائن وهو المفتقر . فهو الذي يطلب منه إثبات قيام الالتزام في ذمة المدين وهو المثري ( [1563] ) .
فعلى المفتقر إذن أن يثبت أن هناك إثراء في جانب المثري ومقدار هذا الإثراء . ويستوى بعد ذلك أن يكون هذا الإثراء بقى قائماً إلى يوم رفع الدعوى أن أن يكون قد زال ، وقد تقدم بيان ذلك .
وعليه أيضاً أن يثبت أن هناك افتقاراً في جانبه ترتب عليه إثراء المثري ومقدار هذا الافتقار .
وعليه أخيراً أن يثبت أن الإثراء ليس له سبب قانوني . إذ أن الإثراء يفرض فيه أنه سبباً قانونياً ، ولا يكلف المثري إثبات هذا السبب . فإذا ادعى المفتقر إلا سبب للإثراء فعليه هو يثبت ذلك . وهناك رأى مرجوح يذهب إلى أن المفتقر إذا اثبت افتقاره وإثراء الغير فإنه يفرض ألا سبب للإثراء ، وإذا ادعى المثري أن هناك سبباً قانونياً لإثرائه فعليه هو أن يثبت ذلك ( [1564] ) .
ب - وسائل الإثبات :
796 – لما كانت أركان دعوى الإثراء – الإثراء والافتقار وانعدام السبب – كلها وقائع مادية ، فإنه يصح إثبات هذه الوقائع بجميع وسائل الإثبات ، ويدخل في ذلك البينة والقرائن .
فيجوز للمفتقر أن يثبت بالمعاينة وبتقدير الخبراء وبشهادة الأطباء وبأقوال الشهود وبالقرائن الأركان الثلاثة التي يقع عليه عبء إثباتها .
ويذهب بعض الفقهاء الاى الإثراء إذا كان سببه عقداً تزيد قيمته على عشرة جنيهات فيجب إثبات العقد بالكتابة أو بما يقوم مقامها وفقاً لقواعد الإثبات المقررة في العقود ( [1565] ) . ولكن إذا كان العقد هو سبب الإثراء فإنه يغلب أن يكون قد انطوى على سبب قانوني لهذا الإثراء ، فلا تتوافر أركان القاعدة ، ولا يترتب في ذمة المثرى التزام .
4 - الحكم
أ - الطعن في الحكم بطريق النقض :
797 – طرق الطعن في الحكم : لا يختلف الحكم الصادر في دعوى الإثراء عن سائر الأحكام من حيث طرق الطعن فيه . وطرق الطعن العادية هي المعارضة والاستئناف . والطرق غير العادية للطعن هي التماس إعادة النظر ومعارضة الشخص الذي يتعدى إليه الحكم والنقض .
ويعنينا هنا طريق الطعن بالنقض ، فنرسم الخطوط الرئيسية لما يعتبر في قاعدة الإثراء من القانون فيخضع لرقابة محكمة النقض ، وما يعتبر من الواقع فلا يخضع لهذه الرقابة . وتتناول – كما فعلنا في المسئولية التقصيرية – أركان قاعدة الإثراء الثلاثة : الإثراء والافتقار وانعدام السبب القانوني .
798 – الإثراء : لا يخضع لرقابة محكمة النقض ما تسجله محكمة الموضوع من الوقائع المادية التي يقدمها المدعي لإثبات ركن الإثراء ، ما صح عندها من ذلك وما لم يصح . أما التكييف القانوني لما صح عندها وقوعه ، وهل هو يعتبر إثراء ، وهل هذا الإثراء ايجابي أو سلبي ، مباشر أو غير مباشر ، مادي أو معنوي ، وهل يجب أن يكون قائماً وقت رفع الدعوى أو أن ذلك غير واجب . فكل هذا من مسائل القانون يخضع لرقابة محكمة ؟؟ وتقدير مدى الإثراء وتقويمه بمبلغ معين من المال هو من مسائل الواقع لمحكمة الموضوع فيه القول الأخير لا تعقب عليه محكمة النقض .
799 – الافتقار : ولا رقابة المحكمة النقض فيما تقرره محكمة الموضوع من وقائع مادية في شأن الافتقار . ولكن تكييف هذه الوقائع من الناحية القانونية المرجع الأخير فيه إلى محكمة النفض . ويخضع لرقابتها اعتبار ما صح عند محكمة الموضوع من الوقائع افتقاراً ، وهل هو افتقار ايجابي أو سلبي ، مباشر أو غير مباشر ، مادي أو معنوي . ووجوب قيام السببية المباشرة ما بين الإثراء والافتفار هو من مسائل القانون ، أما قيامها فعلا في حالة بالذات فمسألة واقع ينظر فيها إلى كل حالة على حدة ، وتقدر بملابساتها وظروفها كما سبق القول ، وتقدير مدى الافتقار وتقويمه بمبلغ معين من المال هو من مسائل الواقع كما في تقدير مدى الإثراء وتقويمه بالمال .
800 – انعدام السبب : ويعتبر من مسائل القانون – ومن مسائله الدقيقة – تحديد معنى السبب ومتى يكون القانون أو العقد سبباً قانونياً للإثراء .
كذلك القول بان دعوى الإثراء دعوى أصلية لا دعوى احتياطية هو من مسائل القانون .
ويمكن القول بوجه عام – هنا كما في المسئولية التقصيرية – أن ما تسجله محكمة الموضوع من وقائع مادية في شأن الأركان الثلاثة لدعوى الإثراء لا تعقب عليه محكمة النقض . أما التكييف القانوني لهذه الوقائع ، ويدخل في ذلك ما يجب توافره من شروط وما يترتب من اثر ، فإنه يعتبر من المسائل القانونية التي تكون فيه محكمة النقض هي المرجع الأعلى .
ب – الآثار التي تترتب على الحكم :
801 - الحكم ليس هو مصدر الحق في التعويض : الحكم في دعوى الإثراء ، كالحكم في دعوى المسئولية التقصيرية ، ليس هو مصدر حق المفتقر في التعويض ، ولكنه يقوم هذا الحق ويقويه . فالحكم ليس إلا مقرراً لهذا الحق ، لا منشئاً له . وحق المفتقر في التعويض إنما نشأ من واقعة مادية ، هي واقعة الإثراء المترتبة على واقعة الافتقار دون أن يكون لذلك سبب قانوني . وبمجرد أن يتحقق سبب الالتزام يترتب الالتزام في ذمة المدين . ومن ذلك نستخلص النتائج الآتية :
( 1 ) تحديد مدى التزام المثرى – أي تحديد قيمة الإثراء وقيمة الافتقار لإعطاء المفتقر أقل القيمتين – تكون العبرة فيه في الأصل بوقت قيام الالتزام لا بوقت رفع الدعوى ولا بوقت صدور الحكم . وهذا هو ما قررناه في تحديد قيمة الإثراء . أما قيمة الافتقار فهناك اعتبارات تجعلنا ننظر في تحديدها إلى وقت صدور الحكم ، وسنبين ذلك فيما يلي .
( 2 ) لما كان حق المفتقر ينشأ من وقت وقوع الإثراء لا من وقت صدور الحكم ولا من وقت رفع الدعوى ، فإن له أن يتقاضي إلى جانب حقه في التعويض الأصلي تعويضا عن التأخير . ولكن هذا الحق في التعويض عن التأخير يتوقف على الإعذار ( [1566] ) ، لأن المادة 218 تقضي بأنه لا يستحق التعويض إلا بعد إعذار المدين ( [1567] ) .
( 3 ) يجوز للمفتقر – وقد ثبت حقه منذ وقوع الإثراء – أن يتصرف في هذا الحق دون انتظار الحكم بل وقبل رفع الدعوى . فله منذ ثبوت حقه أن يحوله إلى الغير ، ولدائن المفتقر أن يوقع حجزاً على هذا الحق تحت يد المثري ، كما أن للمفتقر أن يوقع حجزاً تحت يد مدين المثري منذ ثبوت حقه . وإذا أفلس المثري بع وقوع الإثراء وقبل صدور الحكم دخل المفتقر في التفليسة مع سائر الدائنين .
( 4 ) يسري التقادم – ومدته ثلاث سنوات أو خمس عشرة سنة كما قدمنا – منذ وقوع الإثراء وعلم المفتقر به وبالمثرى أو منذ وقوع الإثراء على حسب الأحوال ، لأن الحق في التعويض قد وجد . ولا يتأخر سريان التقادم إلى وقت صدور الحكم . بل إن صدور الحكم من شأنه أن يقيم تقادماً من نوع جديد محل التقادم القديم على ما سنرى .
802 – الحكم يقوم الحق في التعويض ويقويه : وإذا كان الحكم ليس هو مصدر الحق في التعويض ، إلا أنه هو الذي يقوم هذا الحق ، ويغلب أن يقومه بمبلغ معين من النقود .
والحكم لا يقتصر على تقويم الحق ، بل هو يقويه أيضاً كما رأينا ف يالحكم الصادر في المسئولية التقصيرية . فهو يجعل الحق غير قابل للسقوط بالتقادم إلا بخمس عشرة سنة من وقت صدور الحكم ( م 385 فقرة 2 ) . ومتى أصبح الحكم واجب التنفيذ فإنه يجيز للمفتقر أن يحصل على حق اختصاص بعقارات مدينه ضماناً لأصل الدين والفوائد والمصروفات ( م 1085 ) ، كما يجيز له أن ينفذ على أموال المدين بجميع الطرق التي عينها القانون للتنفيذ .
المبحث الثاني
الجزاء أو التعويض
803 – التعويض هو أقل قيمتى الافتقار والإثراء : رأينا أن المادة 179 تنص على أن المثري دون سبب قانوني على حساب شخص آخر " يلتزم في حدود ما أثرى به بتعويض هذا الشخص عما لحقه من خسارة ، ويبقى هذا الالتزام قائماً ولو آل الإثراء فيما بعد " . وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ويلتزم المثري بتعويض الدائن عما افتقر به ولكن بقدر ما أثرى . فهو يلتزم برد أقل القيمتين : قيمة ما أثرى به وقيمة ما افتقر به الدائن " ( [1568] ) .
فالتعويض إن هو أقل قيمتي الافتقار والإثراء . ولا يمكن أن يكون إلا ذلك . فإن المثري قد أثرى على حساب المفتقر . فالتعويض لا يجوز من جهة أن يزيد على خسارة المفتقر حتى لو كان إثراء المثري يزيد على هذه الخسارة ، لأن المفتقر لا يحق له أن يتقاضي تعويضاً يزيد على خسارته ، وإلا لكان هو بدوره مثرياً على حساب المثري دون سبب . ولا يجوز أن يزيد التعويض عن جهة أخرى على إثراء المثري حتى لو كانت خسارة المفتقر حتى لو كان إثراء المثري يزيد على خسارته ، وإلا لكان هو بدوره مثرياً على حساب المثري دون سبب . ولا يجوز يزيد التعويض من جهة أخرى على إثراء المثري حتى لو كانت خسارة المفتقر تزيد على هذا الاثرا ، لأننا لا نحاسب المثري على خطأ ارتكبه فنلزمه بتعويض الخسارة كاملة ، وإنما نحاسبه على ما وقع في يده من كسب فلا يجوز أن يرد أكثر مما كسبه ، ولو أنه رد أكثر مما كسب لكان هو بدوره مفتقراً لمصلحة المفتقر دون سبب ( [1569] ) .
وسنتعرض هنا مسائل ثلاثا : ( 1 ) كيف يقدر الإثراء . ( 2 ) كيف يقدر الافتقار . ( 3 ) ما يقترن به التعويض – وهو أقل هاتين القيمتين – من ضمانات .
1 – كيف يقدر الإثراء
804 – اعتبارات تراعى في تقدير الإثراء : يراعى في تقويم الإثراء أن يكون تقديره وقت وقوعه كما قدمنا لا وقت رفع الدعوى ولا وقت صدور الحكم مع مراعاة ما سبقت الإشارة إليه من إضافة تعويض عن التأخير على النحو الذي فصلناه .
ويراعى كذلك أن يخصم من قيمة الإثراء ما عسى أن يكون المثري قد تكلفه من مصروفات الجلب هذا الإثراء لنفسه .
ويراعى أخيراً في التقدير إلا فرق بين أن يكون المثرى حسن النية أو سيئها فالتزام المثرى لا شأن له بنيته وإنما يقوم هذا الالتزام على واقعة الإثراء في ذاتها .
ونستعرض لتطبيق هذه المبادئ حالتين : ( 1 ) حالة ما إذا كان الإثراء ملكية وانتقلت إلى ذمة المثرى . ( 2 ) وحالة ما إذا كان منفعة أو خدمة أو عملا أو إثراء سلبياً .
أ – الإثراء ملكية انتقلت إلى ذمة المثري :
805 – قد يكون الإثراء نقداً دخل في ذمة المثرى أو تحسينات استحدثها المفتقر في مال المثري .
806 - هل يجوز أن يكون الإثراء عينا تبقى في ملكية المفتقر ؟ أما أن يكون الإثراء عيناً معينة بالذات تبقى على ملك المفتقر ولا تدخل في ملك المثرى – كما يذهب إلى ذلك كثير من الفهقاء ( [1570] ) - فلا نرى أن تكون حالة من حالات الإثراء ، إذ العين لم تدخل في ملك المثرى ولم تخرج من ملك المفتقر : فليس هناك إثراء ولا افتقار ، بل هي عين مملوكة لشخص انتقلت إلى حيازة شخص آخر ، وللمالك أن يستردها من الحائز بدعوى استحقاق لا بدعوى الإثراء بلا سبب ( [1571] ) .
807 - الإثراء نقد دخل في ذمة المثري : إذا كان الإثراء نقداً دخل في ذمة المثري ، كما إذا استولى هذا على مبلغ من النقود مملوك للمفتقر سواء كان في هذا الإستيلاء حسن النية أو سيئها ، فإن قيمة الإثراء هو مبلغ هذا النقد ، وينظر فيه إلى قدرة العددي ارتفع سعر النقد أو انخفض . أما الفوائد فلا تستحق إلا من وقت المطالبة القضائية مادام مبلغ النقد المطلوب استرداده بدعوى الإثراء معلوم المقدار وقت الطلب ( [1572] ) . ويلاحظ أن المثري إذا كان غير كامل الأهلية فلا يكون إثراء بالنسبة إليه ما أضاعه من هذا النقد في غير مقنعة .
808 - الإثراء تحسينات استحدثها المفتقر في مال المثري : تقدر قيمة هذه التحسينات بما زاد في مال المثري بسببها وقت الاستحداث ، لا بما أنفقه المفتقر في استحدثاها لأن هذه هي قيمة الافتقار لا قيمة الإثراء . مثل ذلك أعمال الترميمات ( [1573] ) وتوريد المواد اللازمة لهذه الأعمال ( [1574] ) وبناء طبقات جديدة ( [1575] ) .
ب – الإثراء منفعة أو خدمة أو عمل أو إثراء سلبي :
809 – الإثراء منفعة : قد يكون الإثراء منفعة حصل عليها المثري كما لو سكن منزلا دون عقد إيجار ( [1576] ) ، وكما لو استهلك نوراً أو ماء عن طريق أسلاك أو مواسير خفية ( [1577] ) . فتقوم المنفعة بأجرة المثل للمنزل أو بثمن النور والماء وفقاً للسعر الذي حددته شركة النور أو شركة الماء . ولا عبرة بأن يكون المثري حسن النية أو سيها . ولا بأن يكون الإثراء قائماً وقت رفع الدعوى ( [1578] ) .
810 – الإثراء خدمة أو عمل : وقد يكون الإثراء خدمة أو عملا قدمه المفتقر إلى المثرى . مثل ذلك النسابة الذي يكشف عن إرث خفي ، والموظف الفني الذي يجد اختراعاً يفيد منه رب العمل ، والسمسار الذي يقرب ما بين البائع والمشتري ولكنهما يعقدان الصفقة دون وساطته . والمهندس الذي يضع تصميماً ينتفع به رب العمل . ففي كل هذه الأحوال تقوم الفائدة التي عادت على المثري من وراء هذه الخدمة أو هذا العمل . فالنسابة جعل الوارث يثري بقدر الإرث لو تبين من الظروف أن الوارث ما كان يستطيع وحده أن يكشفه . ورب العمل يثري بقدر ما أصاب من نفع بفضل اختراع الموظف الفني . وكل من البائع والمشتري يثري بقدر ما عادت عليه الصفقة من فائدة . ورب العمل الذي انتفع من تصميم المهندس يثري بقدر ما كان يدفع للمهندس من اجر على عمله . ولا ضرورة في كل هذه الأحوال لأن يكون الإثراء قائماً وقت رفع الدعوى .
811 – الإثراء سلبى : وقد يكون الإثراء سلبياً ، كما لو دفع شخص ديناً على آخر ، أو قدم النفقة لزوجة تجب لها النفقة على زوجها ، أو أتلف متاعاً له لينقذ منزل جاره من الحريق . ففي هذه الأحوال يكون المدين قد أثرى بقدر الدين الذي دفعه عنه المفتقر ، والزوج بقدر النفقة التي كانت واجبة عليه ، والجار بقدر ما أوشك من ماله أن يحترق ( [1579] ) . ولا عبرة هنا أيضاً بقيام الإثراء وقت رفع الدعوى .
2 – كيف يقدر الافتقار
أ – تقدير مدى الافتقار
812 – ويقدر مدى الافتقار على النحو الذي يقدر به مدى الإثراء . فإذا كان الافتقار نقداً فإن مدى الافتقار هو عين مدى الإثراء ، ذلك أن مقدار النقد الذي دخل في ذمة المثرى هو عين مقدار النقد الذي خرج من مال المفتقر . ويكون التعويض هو هذا المبلغ وفوائده على النحو الذي بيناه عند ما يكون الإثراء نقداً دخل في ذمة المثرى .
وإذا كان الافتقار تحسينات استحدثها المفتقر ، قدر مداه بما أنفقه المفتقر في استحداثها ، ويعطي أقل القيمتين : ما أنفقه في استحداث التحسينات وهذا هو مدى الاتفاق ، وما زاد في مال المثري بسبب هذه التحسينات وهذا هو مدى الإثراء .
وإذا كان الافتقار منفعة استهلكها المثرى ، فيغلب أن يكون للافتقار والإثراء مدى واحد هو اجر هذه المنفعة ، فيعطي المفتقر قيمة هذا الأجر تعويضاً .
وإذا كان الافتقار خدمة أو عملا أداه المفتقر للمثرى ، فإن كان المفتقر محترفاً كالمحامي والموظف الفني والسمسار قدر افتقاره بالقيمة التجارية للخدمة أو العمل . أما إذا لم يكن محترفاً فإن افتقاره يقدر بما تجشمه من نفقات وما فاته من ربح معقول بسبب قيامه بهذه الخدمة أو العمل .
ويلاحظ في كل ما قدمناه أن تكون هناك علاقة سببية مباشرة ما بين الافتقار والإثراء ، وأن يكون الافتقار لا مقابل له ، فإن كان له مقابل بأن يكون المفتقر قد جلب منفعة لنفسه من وراء هذا الافتقار فإن دعوى الإثراء لا تقوم . وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
ب – وقت تقدير الافتقار
813 – بقى أمر هام هو الوقت الذي يقدر فيه الافتقار . ويجب القول هنا أن الافتقار لا يقدر وقت تحققه كما هو الأمر في تقدير الإثراء ، ولا وقت رفع الدعوى ، بل وقت صدور الحكم . ذلك أن الافتقار في دعوى الإثراء يقابل الضرر في دعوى المسئولية التقصيرية . وقد رأينا في المسئولية التقصيرية أن الضرر إذا كان قد تغير منذ وقوعه فاشتد أو خف ، فإن العبرة في تقديره تكون بيوم صدور الحكم .
وحتى نقارب ما بين الافتقار في دعوى الإثراء والضرر في دعوى المسئولية التقصيرية من حيث تقدير كل منهما وقت صدور الحكم نفرض أن المفتقر وهو ينقذ منزل جاره من الحريق أصيب بحروق هي مدى افتقاره ويراد تقويمها . فإن كانت الإصابة قد اشتدت وانقلبت إلى عاهة مستديمة وقت صدور الحكم فلا شك في أن القاضي يدخل ذلك في حسابه عند تقدير الافتقار . كذلك لو خفت الإصابة وأصبحت أقل خطراً حسب القاضي مدى الافتقار مراعياً ما طرأ على الإصابة من تحسن . وهذا هو عين ما قدمناه في تقدير الضرر في دعوى المسئولية التقصيرية .
ويمكن تعليل هذا الفرق في الوقت الذي يقدر فيه الافتقار والوقت الذي يقدر فيه الإثراء بالاعتبار الآتي :
أن طبيعة الإثراء تسمح بتقديره تقديراً نهائياً وقت وقوعه ، فهو يدخل في مال المثري ويصبح جزءا ًمنه فيتحدد بذلك مقداره . ولذلك تكون العبرة في تقديره بوقت تحققه . والمثرى ، وقد أصبح مالكاً له ، يتحمل غرمه ويكسب غنمه ، في نقصه أو في زيادته أما الافتقار فكالضرر لا تسمح طبيعته بأن يقدر تقديراً نهائياً إلا وقت صدور الحكم . ذلك لأنه يخرج من مال المفتقر على وجه غير محقق . ولا يستطاع أن يعرف على وجه التحقيق مقدار ما خرج من مال المفتقر ما دام الافتقار قابلا للتغير إلا في الوقت الذي ينطقع فيه تغيره ويصبح قيمة ثابتة . وآخر وقت ممكن لذلك هو وقت صدور الحكم . وحتى بعد صدور الحكم قد يبقى الافتقار قابلا للتغير ، ولكن قوة الشيء المقضي هي التي تجعل تقدير الافتقار نهائياً لا تجوز مراجعته .
3 – ما يقترن بالتعويض من ضمانات
814 - التعويض دين شخصي لا امتياز له : إذا حدد التعويض الواجب للمفتقر . وهو أقل قيمتي الإثراء والافتقار ، كان هذا دينا له في ذمة المثرى . وهو دين شخصي لا امتياز له ، لأن الامتياز لا يثبت إلا بنص في القانون . فيتحمل المفتقر في مال المثري مزاحمة سائر الدائنين حتى في القيمة التي زادت في مال المثري بسبب افتقار المفتقر .
815 - الحق في الحبس : وقد يثبت في بعض الأحوال للمفتقر الحق في حبس مال المثري حتى يستوفى حقه من التعويض ، وذلك إذا كانت قيمة الإثراء التي أحدثها موضوعة في حيازته ، فله الحق في حبسها حتى يستوفى التعويض الذي له عند المثري تطبيقاً لنص المادة 246 . مثل ذلك أن يستحدث المفتقر تحسينات في أرض المثري ، فله أن يحبس الأرض حتى يستوفى حقه في التعويض .
الفصل الثاني
دفع غير المستحق - الفضالة
816 – صورتان متميزتان من صور الإثراء بلا سبب : للإثراء بلا سبب صورتان متميزتان عن سائر صوره هما دفع غير المستحق والفضالة .
أما أن دفع غير المستحق هو صورة متميزة من صور الإثراء فلأن المفتقر هنا يدفع ديناً ليس واجباً عليه ولكنه يعتقد أنه ملزم بدفعه ، فيرجع على المدين الحقيقي بدعوى الإثراء في صورتها العادية ، أو يرجع على الدائن الذي دفع له الدين بدعوى غير المستحق وهذه هي الصورة المتميزة لدعوى الإثراء . ذلك أن الدائن الذي استوفى حقه قد أثرى بسبب قانوني هو الوفاء . ولما كان المفتقر قد وفى الدين عن غلط فإنه يستطيع أن يبطل الوفاء للغلط ، فيزول السبب القانوني للإثراء ، ويصبح إثراء الدائن دون سبب ، فيسترد المفتقر منه ما دفعه . ونرى من ذلك أن دفع غير المستحق هو إثراء كان له سبب ، ثم انتهى إلى أن يكون بغير سبب ( [1580] ) .
وأما أن الفضالة هي أيضاً صورة متميزة من صور الإثراء ، فذلك أن الفضولي وهو يفتقر ليثرى غيره قد فعل ذلك متفضلا عن عم ، فكان أحق بالرعاية من المفتقر الذي لا يتعمد هذا التفضل . ولهذا كانت حقوق الفضولي قبل المثري وهو رب العمل أوسع مدى من حقوق المفتقر في دعوى الإثراء .
ونتكلم الآن في كل من هاتين الصورتين .
الفرع الأول
دفع غير المستحق ( * )
( Paiement de l’indu )
817 – قدمنا أن دفع غير المستحق يرتب للدفاع في ذمة المدفوع له التزاماً برد ما أخذ دون حق . ونتناول هذا الالتزام في أركانه ثم في أحكامه .
المبحث الأول
أركان دفع غير المستحق
818 – النصوص القانونية : نصت المادة 181 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" 1 - كل من تسلم على سبيل الوفاء ما ليس مستحقا له وجب عليه رده " .
" 2 - على أنه لا محل للرد إذا كان من قام بالوفاء يعلم أنه غير ملزم بما دفعه ، إلا أن يكون ناقص الأهلية ، أو يكون قد أكره على هذا الوفاء " .
ونصت المادة 182 على ما يأتي :
" 1 - يصح كذلك استرداد غير المستحق ، إذا كان الوفاء قد تم تنفيذا الالتزام لم يحل اجله وكان الموفي جاهلا قيام الأجل .
2 - على أنه يجوز للدائن أن يقتصر على رد ما استفادة بسبب الوفاء المعجل في حدود ما لحق المدين من ضرر . فإذا كان الالتزام الذي لم يحل اجله نقودا ، التزام الدائن أن يرد للمدين فائدتها بسعرها القانوني أو الاتفاقي عن المدة الباقية لحلول الأجل ( [1581] ) " .
ويقابل هذه النصوص في القانون المدني القديم نص واحد هو نص المادتين 145 / 206 ، ويقضي بما يأتي :
" من أخذ شيئاً بغير استحقاق وجب عليه رده " .
ويتبين من مجموع هذه النصوص أن هناك حالتين لدفع غير المستحق : ( 1 ) الوفاء بدين غير مستحق من بادئ الأمر ( 2 ) الوفاء بدين كان مستحقا وقت الوفاء ثم أصبح غير مستحق .
ونبحث كلا من هاتين الحالتين ، ثم نكيف في ضوء هذا البحث الالتزام بدر ما أخذ دون حق .
المطلب الأول
حالتا دفع غير المستحق
1 – الوفاء بدين غير مستحق من بادئ الأمر
819 – ركنان : تقوم هذه الحالة على ركنين : ( 1 ) دين غير مستحق وقت الوفاء به . ( 2 ) عمل من أعمال الوفاء يشوبه عيب يجعله قابلا للإبطال .
أ - الركن الأول : دين غير مستحق وقت الوفاء به :
820 – أسباب ثلاثة لعدم استحقاق الدين : يجوز أن يقوم شخص بوفاء دين لم يكن مترتباً في ذمته وقت الوفاء . يرجع ذلك إلى أحد الأسباب الثلاثة الآتية : ( 1 ) الدين منعدم من الأصل ( 2 ) الدين مؤمل الاستحقاق ولكنه لم يستحق أو لما يستحق ( 3 ) الدين استحق ولكنه انقضى قبل الوفاء به .
821 – ( 1 ) الدين منعدم من الأصل : يكون الدين منعدماً من الأصل إذا لم يكن له وجود أصلاً في وقت من الأوقات . مثل ذلك وارث يدفع ديناً يظن أنه على التركة ويتضح بعد ذلك إلا وجود لهذا الدين ، أو وارث ينفذ وصية لمورثه ويتضح بعد ذلك أن الموصى قد عدل عن الوصية قبل موته ، أو شخص أصاب الغير بضرر فظن نفسه مسئولا فدفع التعويض ثم اتضح بعد ذلك أن أركان المسئولية لم تتوافر ( [1582] ) .
كذلك يكون الدين منعدماً من الأصل إما بالنسبة إلى الدفاع وإما بالنسبة إلى المدفوع له . فهو منعدم بالنسبة إلى الدافع إذا كان له وجود ولكنه في ذمة غير الدافع ، فيكون الدافع قد دفع دين غيره ظاناً أنه يدفع دين نفسه ( [1583] ) . وهو منعدم بالنسبة إلى المدفوع له إذا كان مترتباً في ذمة الدافع ولكن هذا دفعه لغير الدائن .
ويكون الدين أخيراً منعدماً من الأصل إذا كان مصدره عقداً باطلا أياً كان سبب البطلان ( [1584] ) ، أو كان الدين ليس ديناً مدنياً ( obligation civile ) بل ديناً طبيعياً ( obligation naturelle ) لا جبر في تنفيذه ( م 199 فقرة 2 ) .
822 – ( 2 ) الدين مؤجل الاستحقاق ولكنه لم يستحق أو لما يستحق : وقد يكون للدين وجود ويكون مؤمل الاستحقاق ، ولكنه لم يستحق . وتقول المادة 182 في هذا الشأن إنه " يصح استرداد غير المستحق إذا كان الوفاء قد تم تنفيذا الالتزام لم يتحقق سببه ( [1585] ) " . فالدين المعلق على شرط واقف إذا دفع ، سواء دفع قبل تحقق الشرط أو بعد تخلفه ، يكون دفعه دفعاً لدين لم يستحق . يستوى في ذلك كما قدمنا أن يكون الدفع قبل تحقق الشرط أي في وقت لم يثبت فيه إذا كان الدين سيستحق ، أو بعد تخلف الشرط أي في وقت ثبت فيه أن الدين لن يستحق . أما الدين المعلق على شرط فاسخ فهو دين موجود نافذ إذا دفعه المدين فإنه يكون قد دفع ديناً مستحقاً ، وإذا تحقق الشرط الفاسخ صار هذا وفاء بدين كان مستحقاً وقت الوفاء ثم أصبح غير مستحق ، وهذه صورة من صور الحالة الثانية لدفع غير المستحق سيأتي بيانها فيما يلي .
وقد يكون للدين وجود محقق ولكنه لما يستحق . وتقول المادة 183 في هذا الشأن إنه " يصح كذلك استرداد غير المستحق ، إذا كان الوفاء قد تم تنفيذا الالتزام لم يحل اجله وكان الموفي جاهلا قيام الأجل " . فالدين المؤجل إذا دفع قل حلول الأجل يكون دفعه دفعاً لدين لما يستحق ، أي لدين غير مستحق وقت الوفاء .
823 – ( 3 ) الدين استحق ولكنه انقضى قبل الوفاء به : وقد يكون الدين ترتب في ذمة الدافع للمدفوع له ديناً صحيحاً واجب الأداء ، ولكنه انقضى بسبب من أسباب الانقضاء ثم قام الدافع بوفائه مرة أخرى بعد انقضائه . مثل ذلك أن يكون الدين قد وفاه المورث ولم يعير الوارث على المخالصة فوفي الدين مرة أخرى ( [1586] ) ، أو أن يكون الدين قد انقضى بالمقاصة أو بالتجديد أو بالابراء ووفاه المدين للدائن بالرغم من انقضائه . في جميع هذه الصور دفع المدين ديناً كان موجوداً نافذاً واجب الأداء ، ولكنه وقت الدفع كان قد انقضى ، فيكون الدافع قد دفع ديناً غير مستحق .
ب – الركن الثاني : عمل من أعمال الوفاء يشوبه عيب يجعله قابلا للإبطال
824 – عمل من أعمال لوفاء : يجب على الدافع أن يثبت أن الدين غير مستحق على النحو الذي فصلناه فيما تقدم ، وأنه قد قام بعمل من أعمال الوفاء وليس من الضروري أن يكون قد قام بوفاء الدين وفاء مباشراً ، بل يكفي أن يكون قد أعطى مقابلا للوفاء ( dation en paiement ) ، أو أعطى إقرارا جديداً بالدين ( [1587] ) ( reconnaissance de dette ) أو رتب تأميناً خاصاً لضمان الوفاء ، أو قاص الدين في دين له ، أو قام بغير ذلك من أعمال الوفاء المتنوعة . واعمال الوفاء هذه على تنوعها هي تصرفات قانونية تخضع للقواعد العامة في إثبات التصرفات القانونية ، وبخاصة ما تعلق منها بنصاب الإثبات بالكتابة أو بالبينة ( [1588] ) .
825 – عيب يشوب الوفاء فيجعله قابلا للإبطال : فإذا أقام الدافع الدليل على أنه قام بوفاء دين غير مستحق على الوجه الذي بيناه ، فالمفروض أنه دفع عن غلط ( [1589] ) وأنه لم يكن يعلم بأنه غير ملزم بالدفع . وهذه القرينة القانونية قرينة تبررها الظروف زفليس مفهوماً لأول وهلة أن يدفع شخص ديناً غير مستحق عليه إلا أن يكون هذا الشخص قد اعتقد أن الدين مستحق واجب الأداء ولذلك قام بوفائه . ونرى من ذلك أن الغلط ، وهو العيب الذي يشوب الوفاء عادة ، مفروض لا يكلف الدافع إثباته ( [1590] ) .
ولكن هذه القرينة القانونية على الغلط هي قرينة قابلة لإثبات العكس . فيجوز للمدفوع له أن ينقضها بأن يثبت أن الدافع كان يعلم وقت الدفع أنه لم يكن ملزماً بما دفع . فإذا اثبت ذلك قامت قرينة قانونية أخرى ، هي الآن في مصلحة المدفوع له ، على أن الدفع مع العلم بأن الدين غير مستحق إنما أراد به الدافع امراً لا يجيز له استرداد ما دفع . فقد يدفع ديناً واجباً على غيره فضالة أو تبرعاً ، فلا يرجع بدعوى غير المستحق على الدائن وإنما يرجع بدعوى الفضولي على المدين إذا كان قد دفع فضالة أو لا يرجع على أحد إذا كان قد دفع تبرعاً . وقد يدفع ديناً طبيعياً قاصداً بذلك أن يوفي هذا الالتزام ، فلا يسترد ما أداه باختياره ( م 210 ) . وقد يريد بالدفع أن يجيز عقداً قابلا للإبطال ، فينقلب العقد صحيحاً ويكون الدفع تنفيذاً له . وقد يدفع ديناً مؤجلا قبل حلول الأجل وهو عالم بذلك لأنه أراد أن يعجل الوفاء متنازلا عن الأجل ، فيكون وفاؤه صحيحاً ولا يرجع بشيء على المدفوع له ( [1591] ) .
وهذه القرينة القانونية الثانية التي تقوم لمصلحة المدفوع له هي أيضاً قرينة قابلة لإثبات العكس . ويستطيع الدافع أن ينقضها بأن يثبت أحد أمرين :
( أولاً ) أنه كان ناقص الأهلية وقت أن دفع : وعند ذلك يستطيع أن يبطل الوفاء لنقص أهليته وأن يسترد ما دفع ، حتى لو كان قد دفع وهو على بينة من أن الدين الذي دفعه لم يكن مترتباً في ذمته ( [1592] ) .
( ثانياً ) أنه قد اكره على الوفاء . مثل ذلك أن يكون قد وفى الدين من قبل ، ولما طولب به مرة ثانية لم يعثر على المخالصة ، فاضطر أن يوفيه مرة أخرى خشية التنفيذ على ماله ، ثم عثر بعد ذلك على المخالصة ، ففي هذه الحالة يستطيع أن يسترد ما دفع دون حق ولو أنه وقت الدفع كان يعلم أنه يدفع ديناً غير مستحق ( [1593] ) . ومثل ذلك أيضاً أن يكون قد سدد ما عليه من الضرائب ، ثم طوله بها مرة أخرى ورفع حجز إدارى على ماله ، فاضطر إلى الدفع وهو عالم بأن الدين غير مستحق ، فيجوز له في هذه الحالة أن يسترد ما دفع لأنه كان مكرهاً على الدفع ( [1594] ) .
2 - الوفاء بدين كان مستحقا وقت الوفاء ثم أصبح غير مستحق .
826 – ركنان تختلف هذه الحالة عن الحالة التي سبقتها في أن الدين الذي دفع في الحالة السابقة لم يكن مستحقاً في ذمة الدافع وقد وفاه هذا عن غلط أو اكراه أو وهو ناقص الأهلية ، أما الدين الذي وفاه الدافع في الحالة التي نحن بصددها فهو دين مستحق واجب الوفاء وقت الدفع ولكنه أصبح غير مستحق بعد ذلك . وتقوم هذه الحالة هي الأخرى على ركنين : ( 1 ) وفاء صحيح بدين مستحق الأداء . ( 2 ) زوال سبب هذا الدين بعد أن تم الوفاء به .
أ – الركن الأول : وفاء غير صحيح بدين مستحق الأداء :
827 – هذا هو عكس ما قررناه في الحالة السابقة ، فهناك كنا أمام وفاء غير صحيح بدين غير مستحق الأداء ، أما هنا فنحن أمام وفاء صحيح بدين مستحق الأداء . ومثل الدين المستحق الأداء أن يكون ديناً واجباً بعقد معلق على شرط فاسخ أو قابل للفسخ أو قابل للإبطال . فما دام الشرط الفاسخ لم يتحقق ، وما دام العقد لم يطلب فسخه أو إبطاله ، فإن الالتزام الناشيء من العقد يكون ديناً مستحق الأداء ، ويلزم المدين بالوفاء به .
وسواء وفى المدين الدين اختياراً أو إجباراً فإن وفاءه صحيح ، ولا يشوب الوفاء هنا ما يشوبه في الحالة السابقة من عيب ، إذ الدين صحيح وواجب الأداء ، والوفاء به أيضاً وفاء صحيح مبرئ للذمة .
ب - الركن الثاني : زوال سبب الدين بعد أن تم الوفاء به :
828 – وما دام الدين صحيحاً واجب الأداء ، وقد وفى به المدين وفاء صحيحاً مبرئاً للذمة ، فقد انقضى الدين ، ولا سبيل لاسترداده بعد انقضائه . ولكن الذي يحدث في هذه الحالة ، فيفتح السبيل إلى الاسترداد ، هو أن السبب الذي كان مصدراً لهذا الدين يزول : يتحقق الشرط الفاسخ الذي كان الالتزام معلقاً عليه ، أو يفسخ العقد الذي كان قابلا للفسخ ، أو يبطل العقد الذي كان قابلا للإبطال . ففي هذه الصور جميعاً يتبين أن الدين الذي وفى به المدين ، ولو أنه كان ديناً مستحق الأداء وقت الوفاء به ، قد زال سببه فأصبح غير مستحق ، ويتبين تبعاً لذلك أن المدين قد وفى ديناً غير مستحق .
فيجوز له استرداده ( [1595] ) .
ونورد أمثلة على ما قدمناه :
شخص يشتري عيناً تحت شرط فاسخ ، ويدفع الثمن ، ثم يتحقق الشرط . هنا يزول بانفساخ البيع سبب التزامه بدفع الثمن ، ويكون له إن يسترد الثمن من البائع بدعوى استرداد المدفوع بغير حق .
مشتر يدفع ثمن ما شاتراه ، ولكن المبيع يستحق في يده ، فيفسخ البيع . هنا أيضاً يزول بفسخ البيع سبب التزامه بدفع الثمن ، ويسترد من البائع ما دفع . وكثيراً ما يتحقق هذا الفرض في الصورة العملية الآتية : عقار مرهون يباع جبراً على المدين ، ويدفع من رسا عليه المزاد الثمن للدائنين المرتهنين وفاء لحقوقهم ، ثم يستحق العقار في يد الراسي عليه المزاد ينتزعه منه المالك الحقيقي . لا شك في أن الراسي عليه المراد في هذه الحالة يستطيع الرجوع على مدينه – وهو البائع – بضمان الاستحقاق . ولكن إلا يجوز له الرجوع على الدائنين المرتهنين أنفسهم فيسترد منهم ما فدعه لهم بدعوى استرداد المدفوع بغير حق ؟ تردد القضاء الفرنسي في ذلك ، ثم استقر على جواز الرجوع على الدائنين المرتهنين ( [1596] ) . ويمكن توجيه هذا القضاء على اعتبار أن البيع في المزاد قد انفسخ باستحقاق المبيع ، فأصبح الراسي عليه المزاد غير مدين بالثمن ، ويكون قد دفع للدائنين ما هو غير مستحق عليه وقت أن وفاهم ديونهم ، فيرجع عليهم بما دفع . ويتبين من ذلك أن الراسي عليه المراد يكون في هذه الحالة مخيراً بين الرجوع بضمان الاستحقاق على المدين أو الرجوع باسترداد المدفوع بغير حق على الدائنين ( [1597] ) . وهذا هو أيضاً ما جرى عليه القضاء في مصر ( [1598] ) .
قاصر اشترى منزلا ودفع ثمنه للبائع . العقد هنا قابل للإبطال . فإذا أبطله القاصر زال سبب التزامه بدفع الثمن ، وكان له هنا أيضاً أن يسترد ما دفع .
المطلب الثاني
تكييف الالتزام برد ما أخذ دون حق
829 - تحليل حالتي دفع غير المستحق وردهما إلى قاعدة الإثراء بلا سبب : قدمنا أن دفع غير المستحق ليس إلا صورة من صور الإثراء بلا سبب .
ونحلل الآن كلا من حالتيه لنبين ذلك في وضوح .
فالحالة الأولى ، وهي حالة دفع دين غير مستحق وقت الوفاء به ، تنطوي على عمل من أعمال الوفاء قد شابه عيب يجعله قابلا للإبطال . فالدافع لدين غير مستحق إما أن يكون قد دفع عن غلط – وكالغلط التدليس – أو عن إكراه ، وإما أن يكون ناقص الأهلية . ولما كان الوفاء عملا قانونيا ( acte juridique ) فهو قابل للإبطال لهذا العيب الذي شابه . وللدافع إذن أن يبطله . ومتى بطل زال السبب الذي نقل القيمة المدفوعة من ذمة الدافع إلى ذمة المدفوع له . فيثرى المدفوع له دون سبب على حساب الدافع . ومن ثم يسترد الدافع ما دفع بمقتضى قاعدة الإثراء ( [1599] ) .
وترد أيضاً الحالة الثانية إلى قاعدة الإثراء بلا سبب . ففيها يفي الدافع بدين مستحق الأداء ، ثم يزول سبب استحقاق الدين بتحقق الشرط الفاسخ أو بفسخ العقد أو بإبطاله . فالوفاء الذي كان العقد سبباً له أصبح الآن دون سبب بزوال العقد . ومن ثم يبطل الوفاء . ومتى بطل زال السبب الذي نقل القيمة المدفوعة من ذمة الدافع إلى ذمة المدفوع له . فيرى المدفوع له ، هنا أيضاً ، دون سبب على حساب الدافع ، ويسترد الدافع ما دفع بمقتضى قاعدة الإثراء .
ولما كان الوفاء يبطل في الحالتين كعمل قانوني ، فهو لا يبقى إذن إلا كواقعة مادية ، هي الواقعة التي ترتب عليها إثراء المدفوع له وافتقار الدافع ، ومن ثم فهي الواقعة التي تنشيء الالتزام برد المدفوع بغير حق .
وإذا كان دفع غير المستحق ، على ما رأينا ، صورة من صور الإثراء بلا سبب ، إلا إنها صورة تتميز بالخاصية الآتية : قيمة الافتقار فيها تعدل قيمة الإثراء . فالدافع قد افتقر بقيمة ما دفع ، والمدفوع له قد أثرى بهذه القيمة ذاتها . ومن ثم يسترد الدافع ما دفع ( [1600] ) . هذا هو الأصل ، ويستثنى منه ما إذا كان المدفوع له ناقص الأهلية . فينظر إلى القيمة التي انتفع بها فعلا وقد تنقص عن القيمة التي أخذها . فلا يرد إلا القدر الذي انتفع به ( م 186 ) ، وسنرى تفصيل ذلك فيما يلي .
830 - التمييز بين دين في الذمة وعين معينة بالذات : ويمكن التمييز ، في دفع غير المستحق ، بين ما إذا كانت القيمة التي نقلها الدافع إلى المدفوع له ديناً في الذمة أو عيناً معينة بالذات . ففي الأمثلة التي سقناها فيما تقدم كانت القيمة المنقولة ديناً في الذمة ، فلما زال سبب الإثراء لم يبق للدفاع إلا دعوى شخصية يرجع بها على المدفوع له هي دعوى استرداد المدفوع بغير حق . أما اذاكانت القيمة عيناً معينة بالذات ، كما إذا كان المدفوع عقاراً باعه صاحبه وسلمه للمشتري ثم فسخ البيع لعدم استيفاء الثمن ، فإن العقار بفسخ البيع تعود ملكيته للبائع . إذ هو عين معينة بالذات وليس ديناً في الذمة ومن ثم يكون للدفاع في هذه الحالة ، إلى جانب دعوى استرداد المدفوع بغير حق وهي دعوى شخصية . دعوى عينية هي دعوى الاستحقاق ( [1601] ) .
المبحث الثاني
أحكام دفع غير المستحق
831 - دعوى استرداد المستحق : إذا تحققت حالة من حالتي دفع غير المستحق نشأت دعوى لمصلحة الدافع قبل المدفوع له هي دعوى استرداد غير المستحق . ونستعرض في هذه الدعوى من يكون المدعى ، ومن يكون المدعى عليه ، وما الذي يطالب به المدعى المدعي عليه ، وكيف تسقط هذه الدعوى في بعض الحالات الخاصة .
المطلب الأول
المدعى والمدعى عليه في دعوى استرداد غير المستحق
1 - المدعى :
832 - المدعى في هذه الدعوى هو الدائن الذي يسترد ما دفعه دون حق . والدائن هو من حصل الدفع من ماله ( [1602] ) لأنه هو الذي افتقر . ويغلب أن يكون هو الذي تولى الدفع فعلاً ، فيفترض أنه دفع ماله .
وقد يكون الوكيل هو الذي تولي الدفع . فإن كان قد دفع من مال الأصيل فالأصيل هو الدائن . وإن كان قد دفع من ماله الخاص ولم يجز الأصيل الدفع كان الوكيل هو الدائن . والمفروض في الوكيل إذا دفع عن الأصيل أنه يدفع من مال الأصيل لا من ماله هو .
وقد يكون النائب – الوصي أو القيم أو ناظر الوقف ألخ – هو الذي تولي الدفع عن الأصيل . وحكمه في ذلك حكم الوكيل على النحو الذي فصلناه . وإذا دفع الكفيل أكثر من الدين الذي في ذمة المكفول ، كان هو الدائن بقدر الزيادة .
ويجوز لدائني أن يستعملوا حقه فيطالبوا باسترداد المدفوع دون حق طبقاً لقواعد الدعوى غير المباشرة . ويجوز كذلك لورثة الدائن بعد موته أن يستعملوا هذا الحق آل إليهم بالميراث ( [1603] ) .
ب - المدعى عليه :
833 - والمدعي عليه .
أي المدين في دعوى غير المستحق ، هو المدفوع له بغير حق ، حتى لو كان لوكيله من أو نائبه من وصى أو قيم أو ناظر وقف أو نحو ذلك .
وإذا كان المدعى عليه ناقص الأهلية كان الرجوع عليه بقدر ما انتفع على النحو الذي سنبينه فيما يلي ( [1604] )
المطلب الثاني
بماذا يطالب المدعي المدعى عليه في دعوى استرداد غير المستحق
834 - النصوص القانونية : نصت المادة 185من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" 1 - إذا كان من تسلم غير المستحق حسن النية فلا يلتزم أن يرد إلا ما تسلم " .
" 2 - أما إذا كان سىء النية فإنه يلتزم أن يرد أيضاً الفوائد والأرباح التي جناها ، أو التي قصر في جنيها ، من الشيء الذي تسلمه بغير حق ، وذلك من يوم الوفاء أو من اليوم الذي أصبح فيه سئ النية " .
" 3 - وعلى أي حال يلتزم من تسلم غير المستحق برد الفوائد والثمرات من يوم رفع الدعوى ( [1605] ) " .
ويتبين من هذا النص أنه يجب التمييز بين ما إذا كان المدفوع له حسن النية أو كان سئ النية . وهذا التمييز جوهري في تحديد مقدار ما يرجع به الدافع على المدفوع له . فنستعرض أحكام كل فرض من هذين الفرضين ، ثم نستعرض حالتين معينتين تميزتا بأحكام خاصة .
1 - المدفوع له حسن النية
835 - حسن النية هنا معناه أن المدفوع له يعقد أنه يتسلم ما هو مستحق له والمفروض أن المدفوع له حسن النية فلا يكلف إثبات حسن نيته . والدافع هو الذي عليه أن يثبت سوء نية المدفوع له إذا أدعى ذلك ، فيثبت أن المدفوع له كان يعلم أنه تسلم شيئاً غير المستحق له فهو سئ النية منذ البداية ، أو أنه يعلم بعد أن تسلم الشيء أنه غير مستحق له فهو حسن النية وقت التسلم سئ النية بعد ذلك ويجوز سوء النية بجميع طرق الإثبات . ولو بالنية والقرائن ، لأن سوء النية واقعة مادية .
فإذا كان المدفوع له حسن النية على الوجه الذي بيناه ، فإما أن يكون قد تسلم نقوداً أو أشياء مثلية وإما أن يكون قد تسلم عيناً معينة بالذات . ويختلف الحكم في كل من الحالتين .
المدفوع نقود أو أشياء مثلية :
836 - إذا كان المدفوع نقوداً أو أشياء مثلية - غلالا أو أقطاناً أو نحو ذلك - فإنه يدخل ديناً في ذمة المدفوع له ، ويجب عليه رده بدعوى المستحق . ويرد مقدار النقد الذي تسلمه دون نظر لتغير سعر النقد ، أو يرد القدر الذي أخذه من الأشياء المثلية ( [1606] )
أما الثمرات والفوائد فلا يلتزم بردها ما دام حسن النية ، لأنه تملكها بالقبض . ويلتزم بردها إذا أصبح سئ النية ومن وقت أن اصبح كذلك . وعلى أي حال يلتزم برد الثمرات والفوائد من يوم رفع الدعوى ، إذا يفترض سوء نيته من وقت مطالبته قضائياً بردها ما تسلمه دون حق ( [1607] ) .
ب - المدفوع عين معينة بالذات :
837 - رد العين وإذا كان المدفوع عيناً معينة بالذات – سيارة أو قرضاً أو أرضاً أو منزلاً - فقد رأينا فيما قدمناه أن ملكية العين تعود إلى الدافع وله في استرداد العين دعويان هي دعوى الاستحقاق ، ودعوى شخصية هي دعوى غير المستحق . ونقصر كلامنا على الدعوى الثانية فهي وحدها محل للبحث هنا .
وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على نصوص في هذا الموضوع حذفت في لجنة المراجعة تجنباً للتفصيلات ( [1608] ) . فجاء المشروع النهائي خلواً منها . على أن الأحكام التي تضمنها النصوص المحذوفة ليست إلا تطبيقاً للقواعد العامة التي يعمل بها فيما إذا حاز الغير عيناً بالذات . وهذه القواعد تجدها مقررة في نصوص أخرى تبين متى يمتلك الحائز الثمار ( م 978 - 979 ) . وكيف يسترد المصروفات ( م 980 - 982 ) . وتحدد مسئوليته عن الهلاك والتلف ( م 983 - 984 ) . ولما كان المدفوع له بعين معينة بالذات لا يخرج عن أن يكون حائزاً لهذه العين : فإن النصوص المتقدمة الذكر هي التي تنطبق على حالته . لذلك نستعين في تفصيل ما نحن في صدده بهذه النصوص التي تقرر القواعد العامة بالنصوص المحذوفة من المشروع التمهيدي .
نصت المادة 255 من المشروع التمهيدي – وقد حذفت عند المراجعة كما أسلفنا القول - على أن " كل من تسلم دون حق شيئاً معيناً بالذات التزم برده عيناً ما دام قائماً " . وليس هذا النص المحذوف إلا تطبيقاً للقواعد العامة . فالمدفوع له بعين معينة بالذات يلتزم بردها عيناً للدافع بمقتضى التزام شخصي هو رد غير المستحق . والمفروض في ذلك أن العين لا تزال قائمة في يد المدفوع له ، لم تهلك ولم تنتقل إلى يد أخرى . وقبل أن نعرض لبيان الحكم فيما إذا هلكت العين أو انتقلت إلى يد أخرى . وقبل أن نعرض لبيان الحكم فيما إذا هلكت العين أو انتقلت إلى يد أخرى ، نبين الحكم في رد الثار واسترداد المصروفات .
838 - رد الثمار واسترداد المصروفات :
أما الثمار فإن المدفوع له حسن النية يكسبها بالقبض إلى يوم رفع الدعوى . نستخلص هذا الحكم من المادة 185التي سبق ذكرها ، تراها صريحاً في المادة 978التي تقرر القاعدة العامة في المسألة ، وقد جرت بما يأتي : " 1 - يكسب الحائز ما يقبضه من ثمار ما دام حسن النية 2 - والثمار الطبيعية أو المستحدثة تعتبر مقبوضة من يوم فصلها ، أما الثمار المدنية فتعتبر مقبوضة يوماً فيوماً ( [1609] ) " . ومن ثم نرى أن المدفوع له حسن النية لا يرد الثمار سواء كان المدفوع عيناً معينة بالذات أو كان نقوداً أو أشياء مثلية ( [1610] ) .
وأما المصروفات التي قد يكون المدفوع له أنفقها على العين ، فهذه نرى حكمها صريحاً في المادة980 التي تقرر القاعدة العامة في هذه المسألة ، وهي تنص على ما يأتي : " 1 - على المالك الذي يرد إليه ملكه أن يؤدي إلى الحائز جميع ما أنفقه من المصروفات الضرورية " .
" 2 - أما المصروفات النافعة فيسري في شأنها أحكام المادتين 925 . 924 " .
" 3 - فإذا كانت المصروفات كمالية فليس للحائز أن يطالب بشيء منها ، ومع ذلك يجوز له أن ينزع ما استحدثه من منشآت على أن يعيد الشيء إلى حالته الأولي ، إلا إذا اختار المالك أن يستبقيها مقابل دفع قيمتها مستحقة الإزالة " . ونرى من ذلك أن المدفوع له إذا كان أنفق على العين مصروفات ضرورية فإنه يستردها كلها من الدافع . وإذا كان المصروفات نافعة - والمقروض أنه حسن النية - خير الدافع بين أن يدفع ما أنفقه المدفوع له من المصروفات أو يدفع مبلغاً يساوي ما زاد قيمة العين بسبب هذه المصروفات ( [1611] ) ، هذا ما لم يطلب المدفوع له نزع ما استحدثه ( م 925 ) . وإذا كانت المصروفات كمالية ، فليس للمدفوع له أن يرجع على الدافع بشيء في شأنها ولكن له أن ينزع ما استحدثه على أن يعيد العين إلى حالتها الأولي وفي هذه الصورة يجوز للدافع أن يطلب استيفاء ما استحدثه المدفوع له مقابل دفع قيمته مستحق الإزالة ( [1612] ) .
839 - حالة هلاك العين أو تلفها أو ضياعها :
وتنقل الآن إلى حالة ما كانت العين قد هلكت أو تلفت أو ضاعت في يد المدفوع له تنص المادة 256من المشروع التمهيدي – وقد حذفت عند المراجعة - على ما يأتي : " فإذا ضاع هذا الشيء أو تلف بسبب أجنبي التزم برد قيمته وقت الضياع أو التلف إذا كان قد تسلمه وهو سىء النية ، وذلك دون إخلال بحق من سلم هذا الشيء في استرداده ولو تالفاً مع التعويض عن نقص قيمته بسبب التلف " . وتنص المادة 983 ، وهي التي تقرر القاعدة العامة في هذه المسألة ، على ما يأتي " 1 - إذا كان الجائز حسن النية وانتفع بالشيء وفقاً لما يحسبه من حقه ، فلا يكون مسئولاً بل هو ملزم برد الشيء إليه عن أي تعويض بسبب هذا الانتفاع .
2 - ولا يكون الحائز مسئولاً عما يصيب الشيء من هلاك أو تلف إلا بقدر ما عاد عليه من فائدة ترتبت على هذا الهلاك أو التف " .
ويتبين من مفهوم المخالفة في المادة 256 من المشروع التمهيدي ومن صريح النص في المادة 983أن المدفوع له إذا كان حسن النية لا يكون مسئولاً عن هلاك العين أو تلفها أو ضياعها إلا إذا كان ذلك قد وقع بخطأ منه وعلى الدافع إثبات هذا الخطأ . أما إذا كان قد انتفع بالعين الانتفاع العادي – وفقاً لما يحسبه من حقه - وهلكت العين أو تلفت أو ضاعت ، فلا يكون مسئولا إلا بقدر ما عاد عليه من منفعة ترتبت على هذا الهلاك أو التلف أو الضياع ، كما إذا انتفع بأنقاض منزل آخر ، أو حول سيارة ركوب إلى سيارة نقل للبضائع . أو ذبح ماشية وانتفع بلحمها ( [1613] ) . وللدافع في جميع الأحوال أن يسترد الشيء التالف في الصورة التي آل إليها بعد التلف ، دون أن يتقاضى تعويضاً عن التلف ما دام هذا التلف لم يقع بخطأ المدفوع له كما مر بنا .
840 - حالة خروج العين من يد المدفوع إلى يد أخرى :
أما إذا كانت العين قد خرجت من يد المدفوع إلى يد أخرى ، فقد نصت المادة 257من المشروع التمهيدي - وهذه حذفت أيضاً عند المراجعة – على ما يأتي :
" 1 - من تسلم وهو حسن النية الشيء المعين بالذات وتصرف فيه بعوض قبل أن يعلم أنه ملزم برده ، وجب عليه أن يرد ما قبضه من عوض أو أن يحول حقه في المطالبة بهذا العوض .
2 - فإذا كان قد تصرف بغير عوض فلا يلتزم أن يرد شيئاً ، ولكن يلتزم من صدر له هذا التبرع بتعويض لا يجاوز قيمة ما أثرى به قبل من سلم الشيء غير المستحق " . وإذا أغفلنا من هذا النص العبارة الأخيرة من الفقرة الثانية لم يكن النص فيما بقي منه إلا تطبيقاً للقواعد العامة . يتبين من ذلك أن المدفوع له حسن النية إذا تصرف في العين معاوضة لم يكن مسئولاً قبل الدافع إلا بقدر ما أخذ من عوض ، فيرد للدافع ما قبض من ذلك أو يحول له حقه في المطالبة به ( [1614] ) . وإذا تصرف في العين تبرعاً لم يكن مسئولاً عن شيء قبل الدافع .
هذا في العلاقة ما بين الدافع والمدفوع له . أما في العلاقة ما بين الدافع والغير الذي انتقلت إليه العين ، فالأصل أن التصرف الصادر إلى هذا الغير من المدفوع له ، سواء كان معاوضة أو تبرعاً ، هو تصرف من غير مالك ، فلا يسري في حق المالك - أي الدافع – ويستطيع هذا أن يسترد العين باعتباره مالكاً وبدعوى عينية هي دعوى الاستحقاق . هذا ما لم يكن الغير قد كسب ملكية العين بسبب آخر ، كالتقادم في العقار أو الحيازة بحسن نية في المنقول . فإذا كسب الغير ملكية العين وقد كان دفعه عنها عوضاً ، فلا يرجع الدافع عليه بشيء لأنه سيأخذ هذا العوض من المدفوع له كما قدمنا . أما إذا كان الغير لم يدفع عوضاً بل تلقى العين تبرعاً ، فإن الدافع هنا أيضاً لا يرجع بشيء على الغير لأن هذا قد أثرى بسبب وهو عقد التبرع ، وقد مر ذكر ذلك . ولا محل لتطبيق العبارة الأخيرة من الفقرة الثانية من المادة 257من المشروع التمهيدي ، إذا هي إنما أجازت رجوع الدافع على الغير بقدر ما أثرى تمشياً مع الفقرة الثانية من المادة 248من المشروع التمهيدي التي كانت تنص على أنه " إذا تبرع المثري بما أثرى به كان من صدر له التبرع مسئولاً أيضاً عن التعويض ولكن بقدر ما أثرى " . وقد بينا أن هذا الحكم على عدالته فيه خروج على القواعد العامة . ولما كان كل من هذين النصين قد حذف من المشروع التمهيدي ، فلا محل لتطبيق ما حكم لا يتفق مع هذه القواعد . ونستخلص من ذلك ، في العلاقة ما بين الدافع والغير ، أن الدافع يسترد العين من الغير بدعوى الاستحقاق إلا إذا كسب الغير ملكية العين بسبب كالتقادم أو الحيازة ، فلا يرجع الدافع عليه بشيء في هذه الحالة ، سواء في ذلك تلقى الغير العين معاوضة أو تلقاها تبرعاً ( [1615] ) .
2 - المدفوع له سيىء النية
841 - إذا أثبت الدافع أن المدفوع له سىء النية ، وأنه كان يعلم وقت تسلمه الشيء أو بعد ذلك أن الشيء غير مستحق له ، وجب التمييز هنا أيضاً بين ما إذا كان المدفوع نقوداً أو أشياء مثلية أو كان عيناً بالذات .
1 - المدفوع نقوداً أو أشياء مثلية :
842 - يرد المدفوع له مقدار النقد الذي تسلمه ، ويعوض عن تغير سعر النقد لأنه سيئ النية . وإذا كان المدفوع أشياء مثلية ، ردها بالقدر الذي أخذ على النحو الذي بيناه في حالة ما إذا كان المدفوع له حسن النية . أما الثمرات والفوائد فيلتزم بها المدفوع سىء النية . وفي هذا تقول الفقرة الثانية من المادة 185 : " أما إذا كان سيء النية فإنه يلتزم أن يرد أيضاً الفوائد والأرباح التي جناها ، أو التي قصر في جنيها ، من الشيء الذي تسلمه بغير حق ، وذلك من يوم الوفاء أو من اليوم الذي أصبح فيه سىء النية ( [1616] ) " .
ب - المدفوع عين معينة بالذات :
843 - رد العين والثمار واسترداد المصروفات :
يلتزم المدفوع له سيء النية برد العين للدافع ما دامت ( المادة 255 المحذوفة من المشروع التمهيدي ) . ويلتزم أيضاً برد الثمار التي قبضها فعلاً أو التي قصر في قبضها ( [1617] ) . وقد رأينا أن المادة 979تقضي في هذا الصدد بأن " يكون الحائز سيء النية مسئولاً من وقت أن يصبح سيء النية عن جميع الثمار التي يقبضها والتي قصر في قبضها ، غير أنه يجوز أن يسترد ما أنفقه في إنتاج هذه الثمار ( [1618] ) .
وأما المصروفات فإن كانت ضرورية استردها كلها ( م 980 فقرة أولي ) . وإن كانت نافعة كان للدافع أن يطلب إزالة ما استحدث أو استبقاء مقابل دفع قيمة مستحق الإزالة أو دفع مبلغ يساوي ما راد في قيمة العين بسبب هذه المصروفات ( م 980فقرة 2 وم 924 ) . وإن كانت كمالية فلا يرجع بشيء على الدافع ، ولكن له أن ينزع ما استحدث على أن يعيد العين إلى حالتها الأولي ، إلا إذا اختار الدافع أن يستقيه مقابل قيمته مستحق الإزالة ( م 980 فقرة 3 ) ( [1619] ) .
844 - حالة هلاك العين أو تلفها أو ضياعها :
وإذا هلكت العين أو تلفت أو ضاعت في يد المدفوع له سىء النية ، التزم برد قيمته وقت الهلاك اوالتلف أو الضياع ، وذلك دون إخلال بحق الدافع في استرداد العين تالفة مع التعويض عن التلف ( م 256 المحذوفة من المشروع التمهيدي ) . وقضت المادة 984 التي تقرر القاعدة العامة في هذه المسألة بالحكم الآتي :
" إذا كان الحائز سيء النية فإنه يكون مسئولاً عن هلاك الشيء أو تلفه ولو كان ذلك ناشئاً عن حادث مفاجئ إلا إذا ثبت أن الشيء كان يهلك أو يتلف ولو كان باقياً في يد من يستحقه " . ويتبين من ذلك أن المدفوع له سيء النية يكون مسئولاً عن هلاك العين ولو كان الهلاك بقوة قاهرة ، ولا يعفيه من المسئولية إلا أن يثبت أن الشيء كان يهلك أو يتلف ولو كان باقياً في يد الدافع ( [1620] ) .
وهذا بخلاف المدفوع له حسن النية ، فهو لا يسأل كما رأينا عن هلاك العين إلا إذا وقع الهلاك بخطته ، وعلى الدافع أن يثبت هذا الخطأ .
845 - حالة خروج العين من يد المدفوع له إلى يد أخرى :
وإذا خرجت العين من يد المدفوع له سيء النية ، فقد نصت المادة 258المحذوفة من المشروع التمهيدي على ما يأتي :
" 1 - من تسلم ولو يحسن نية الشيء المعين بالذات وتصرف فيه بعوض بعد أن علم أنه ملتزم برده وجب عليه أن يرده عيناً أو أن يرد قيمته وقت رفع الدعوى ، على أنه يجوز لمن سلم هذا الشيء أن يطالب من تصرف فيه بما قبضه من عوض أو بأن يحل محله في دعوى المطالبة بهذا العوض .
1 - فإذا كان من تسلم الشيء قد تصرف فيه بغير عوض ولم يقم برده عيناً ، التزم من صدر له هذا التبرع بتعويض لا يجاوز قيمة ما أثرى به قبل من سلم الشيء غير المستحق " . والفقرة الثانية من هذا النص لا تنفق مع القواعد العامة كما قدمنا ، فيجب إغفالها ما دامت قد حذفت من المشروع التمهيدي . وتبقى الفقرة الأولي وهي تطبيق للقواعد العامة . ويتبين منها أن المدفوع له سيء النية إذا تصرف في العين معاوضة كان ملزماً قبل الدافع برد العين إليه ، ويتم ذلك بانتزاعها من الغير الذي تصرف له فإن عجز عن ذلك ، كان الدافع مخيراً بين قيمة العين ( [1621] ) والعوض الذي أعطى فيها . أما إذا كان ذلك ممكناً أو الرجوع بقيمتها على المدفوع له .
وفي العلاقة ما بين الدافع والغير الذي انتقلت إليه العين لا يختلف الحكم عما قررناه في صدد المدفوع له حسن النية إذا انتقلت العين من يده إلى يد أخرى معاوضة أو تبرعاً . ذلك أن الغير في علاقته بالدافع لا يتأثر بنية المدفوع له ، حسنة كانت هذه النية سيئة ( [1622] ) .
3 - حالتان ذواتا أحكام خاصة
846 - الوفاء بدين مؤجل والوفاء الناقص الأهلية :
هناك حالتان في دفع غير المستحق لهما أحكام خاصة : ( 1 ) حالة الوفاء بالدين المؤجل قبل حلول الأجل ( 2 ) حالة الوفاء لناقص الأهلية ( [1623] ) .
847 - ( 1 ) الوفاء بالدين المؤجل قبل حلول الأجل :
قدمنا أن المادة 183 من القانون المدني الجديد نصت على ما يأتي :
" 1 - يصح كذلك استرداد غير المستحق إذا كان الوفاء قد تم تنفيذاً لالتزام لم يحل أجله وكان الموفي جاهلاً بقيام الأجل .
2 - على أنه يجوز للدائن أن يقتصر على رد ما استفاد بسبب الوفاء المعجل في حدود ما لحق المدين من ضرر . فإذا كان الالتزام الذي لم يحل أجله نقوداً التزام الدائن أن يرد للمدين فائدتها بسعرها القانوني أو الإتفاقي عن المدة الباقية لحلول الأجل ( [1624] ) . ولا مقابل لهذا النص في القانون المدني القديم . فالحكم مستحدث .
والمفروض أن المدين وفي الدين المؤجل قبل حلول أجله وهو جاهل قيام الأجل أو وهو مكره على ذلك ، لأنه لو وفي الدين المؤجل وهو عالم بقيام الأجل غير المكره على الوفاء لحمل ذلك منه على أنه نزول عن الأجل ، فلا يرجع بشيء على الدائن . والأصل أن المدين إذا وفى الدين قبل حلول أجله على الوجه الذي بيناه كان له أن يسترد ما دفع بدعوى غير المستحق ، ثم يوفي الدين عند حلول الأجل . ولكن يجوز للدائن –بدلاً من أن يرد الدين ثم يستوفيه ثانية عند حلول أجله - أن يقتصر على رد ما استفاده بسبب الوفاء المعجل في حدود ما لحق المدين من ضرر . وهذا يؤدى من الناحية العملية إلى عين النتيجة الأولي مع اختصار في الإجراءات . وضربت المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي مثلاً لذلك : مقاول اعتقد خطاً انه ملزم بتسليم بناء قبل الموعد المقرر بستة أشهر . وتحمل بسبب ذلك نفقات إضافية . فيحق له أن يطالب الدائن ، إذا لم يشأ هذا أن يرد البناء الذي تسلمه إلى أن يحل الأجل ، لأقل القيمتين ، قيمة النفقات الإضافية التي تقدمت الإشارة إليها وقيمة إيراد البناء في الشهور الستة ( [1625] ) . وإذا كان الدين الذي وفى قبل حلول الأجل نقوداً ولم يردها الدائن للمدين على أن تؤدى إليه عند حلول الأجل ، كان للمدين – على ما تقول المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ( [1626] ) – " أن يطالب بما يغل الدين من فائدة بحسب السعر المتفق عليه ، أو بحسب السعر المقرر في القانون إذا لم يكن ثمة اتفاق في هذا الشأن " ، وذلك عن المدة الباقية لحلول الأجل . فهذه الفائدة هي التي تمثل ما أفاده الدائن من التعجيل في استيفاء حقه في حدود ما أصاب المدين من الضرر من جراء الوفاء قبل حلول الأجل ( [1627] ) .
848 - ( 2 ) الوفاء لناقص الأهلية :
المادة 186 على أنه : " إذا لم تتوافر أهلية التعاقد فيمن تسلم غير المستحق فلا يكون ملتزماً إلا بالقدر الذي أثرى به ( [1628] ) .
وإذا كان الدافع تشترط فيه الأهلية ، حتى أنه لو دفع وهو غير أهل للوفاء فإنه يسترد ما دفع كما سبق أن بينا ، فإن المدفوع له لا تشترط فيه الأهلية في الأصل ، إذا أن التزامه بالرد لا يقوم على إرادته ، بل هو التزام قوامه قاعدة الإثراء بلا سبب على ما قدمنا . غير أن المدفوع له إذا كان ناقص الأهلية ، بأن كان قاصراً أو محجوراً عليه ، عوامل برعاية أكبر من الرعاية التي يعامل بها كامل الأهلية نظراً لنقص أهليته . فهو لا يلتزم برد ما أخذ إلا في حدود ما انتفع به فعلاً ( [1629] ) . وفي هذا رجوع عن خاصية دفع غير المستحق التي تعتبر قيمة الإثراء بمقتضاها هي عين قيمة الافتقار ، ويعتبر المدفوع له قد أثرى بذات القيمة التي افتقر بها الدافع على النحو الذي قدمناه . وتكون العبرة في إثراء ناقص الأهلية ، الذي تسلم غير المستحق ، هو ما انتفع به فعلاً لا حكماً .
وينبني على ذلك أن المدفوع له إذا كان ناقص الأهلية ، وتسلم عيناً معينة بالذات فهلكت العين أو تلفت أو ضاعت بغير خطيئة ، لا يكون ملزماً بشيء قبل الدافع حتى لو كان سىء النية ، لأن ما فقده دون أن ينتفع به لا يدخل في تقدير إثرائه وفقاً للمبدأ العام في قاعدة الإثراء ( [1630] ) . أما إذا كان الهلاك أو التلف أو الضياع قد وقع بخطته ، فإنه يلتزم بالتعويض لأن ناقص الأهلية يلتزم بالخطأ .
وينبني على ذلك أيضاً أنه إذا تبرع المدفوع له وهو ناقص الأهلية بالعين التي تسلمها دون حق ، لم يرجع الدافع عليه بشيء لأنه لم ينتفع بالعين ، حتى لو كان سىء النية وقت أن تبرع ( [1631] ) .
المطلب الثالث
سقوط دعوى استرداد غير المستحق
849 - وجهان خاصان للسقوط :
دعوى استرداد غير المستحق تخضع للقواعد العامة في انقضائها وفي سقوطها . غير أن لها وجهين للسقوط خاصين بها : أو لهما إذا كان المدفوع له حسن النية وجرد من سند الدين أو من تأميناته أو ترك دعواه تسقط بالتقادم ( م 184 ) . والوجه الثاني سقوط الدعوى بانقضاء ثلاث سنوات من اليوم الذي يعلم فيه من دفع غير مستحق بحقه في الاسترداد ( م 187 ) .
1 - تجرد المدفوع له حسن النية من سند الدين أو من تأميناته
أو تركه دعواه تسقط بالتقادم
850 - النصوص القانونية :
نصت المادة 184 على أنه " لا محل لاسترداد غير المستحق إذا حصل الوفاء من غير المدين وترتب عليه أن الدائن ، وهو حسن النية ، قد تجرد عن سند الدين أو مما حصل عليه من التأمينات أو ترك دعواه قبل المدين الحقيقي تسقط بالتقادم . ويلتزم المدين الحقيقي في هذه الحالة بتعويض الغير الذي قام بالوفاء ( [1632] ) .
وهذا النصل اشتمل وأوفي من النص الذي كان في القانون القديم مقابلاً له . فقد كانت المادتين 148 / 209 من القانون القديم تنصان على أنه " لا يكون الرد مستحقاً إذا دفع إنسان دين شخص آخر غلطاً لدائن ذلك الشخص ، وقبضه الدائن المذكور معتقداً صحة الدفع ، وانعدم سند الدين . وإنما يجوز الرجوع بالمدفوع على المدين الحقيقي " . ووجه الشمول في النص الجديد أنه لم يقتصر على حالة انعدام سند الدين ، بل شمل التجرد من سند الدين بصفة عامة ، والحق بهذه الحالة ما يعادلها : التجرد من تأمينات الدين وترك الدعوى تسقط بالتقادم ( [1633] ) .
851 - التجرد من سند الحق أو من التأمينات : والمفروض أن غير المدين دفع الدين للدائن ، وكان هذا حسن النية وقت استيفاء حقه ، فأعدم سند الدين ، أو سلمه للدافع ولم يستطيع إرجاعه ، أو أغفل المحافظة عليه بأي وجه من الوجوه ، أو تجرد من تأمينات الدين بأن أغفل قيد الرهن ، أو لم يجدد القيد ، أو نزل عن الرهن . أو أبرأ ذمة الكفيل ، أو نحو ذلك ففي كل هذه القروض يسقط حق الدافع في الرجوع على المدفوع له بدعوى غير المستحق ، لأن هذا الحق قد تعارض مع حق آخر لشخص حسن النية هو المدفوع له ، وقد تجرد من سند الدين أو من التأمينات اعتماداً على استيفائه لحقه . فالمدفوع له لم يقصر ، والمقصر هو الدافع إذ دفع الدين غلطاً وغلطه هذا ينطوي على ضرب من التقصير . هذا التعارض بين الحقين هو الذي جعل الغلبة لحق المدفوع له حسن النية ، ورجع كفة غير المقصر على كفة المقصر .
852 - ترك الدعوى تسقط بالتقادم :
ويلتحق بذلك إلى أن يكون الدائن قد ترك دعواه قبل المدين الحقيقي تسقط بالتقادم بعد أن اطمأن إلى استيفاء لحقه . فهنا أيضاً يتعارض الحقان ، ويرجع حق الدائن حسن النية ، فلا يجوز للدافع الرجوع عليه ، لأنه إذا رجع واسترد ما دفع ، لم يستطع الدائن الرجوع على المدين الحقيقي لتقادم دعواه ، شأنه في ذلك شأن الدائن الذي تجرد من سند الدين أو من تأميناته ( [1634] ) .
853 - رجوع الدافع على المدين الحقيقي بدعوى الإثراء :
وإذا كان يدافع لا يحق له الرجوع على المدفوع له بدعوى غير المستحق . فإن الطريق البقى أمامه مفتوحاً للرجوع على المدين الحقيقي بدعوى الإثراء بلا سبب ، فقد دفع له دينه ، فأثرى هذا بقدر ما افتقر ذاك . وقد ورد في المذكرة الإيضاحية في هذا الصدد ما يأتي : " على أن الغير لا يظل محروماً من حق الرجوع بما أداه . فالمدين الحقيقي وقد قضى دينه بفضل هذا الوفاء يلتزم قبله بالتعويض وفقاً لأحكام الإثراء بلا سبب . وقد يخشى في حالة سقوط الدين بالتقادم من تواطؤ الدائن مع الغير على تصوير مخالصة يقدم تاريخها للإبهام بحصول الوفاء قبل انقضاء مدة السقوط . وبذلك يكون التحايل قد هيأ للغير حق الرجوع على المدين ، ويلوح أنه ينبغي أن يكون للمخالصة تاريخ ثابت في مثل هذه الحالة درء لمثل التحايل ( [1635] ) " .
والفرض الأخير الوارد في المذكرة الإيضاحية يمكن تصويره على النحو الآتي : سقط الدين بالتقادم ، فعمد الدائن إلى التواطؤ مع أجنبي أعطاه مخالصة بالدين ، وجعل تاريخ المخالصة سابقاً على سقوط الدين بالتقادم فصوره بذلك شخصاً دفع الدين عن المدين قبل تقادمه ، فيستطيع الرجوع إذن على المدين بما دفع ، إذ لم تتقادم دعواه المبينة على الإثراء بلا سبب بالرغم من تقادم دعوى المدين . وبفضل هذا التواطؤ يستطيع الدائن أن يحصل بطريق غير مباشر على حق سقط بالتقادم . لذلك وجب أن تكون المخالصة ثابتة التاريخ لجواز الاحتجاج بها على المدين ، فيمتنع التواطؤ ولا يستطيع الدائن أن يقدم تاريخ المخالصة ليقع في وقت لم يكن الدين قد تقادم فيه .
2 - سقوط الدعوى بثلاث سنوات
854 - النص القانوني : تنص المادة 187على أنه " تسقط دعوى استرداد ما دفع بغير حق بانقضاء ثلاث سنوات من اليوم الذي يعلم فيه من دفع غير المستحق بحقه في الاسترداد . وتسقط الدعوى كذلك في جميع الأحوال بانقضاء خمس عشرة سنة من اليوم الذي يشأ فيه هذا الحق ( [1636] ) " .
ويلاحظ أن دعوى غير المستحق – وهي فرع عن دعوى الإثراء بلا سبب وتترتب مثلها على التزام لا ينشأ بإرادة صاحبه - تتقادم بعين المدة التي تتقادم بها دعوى الإثراء بلا سبب .
855 - السقوط بأقصر المدتين :
ويتبين من النص أن دعوى غير المستحق تسقط بأقصر المدتين الآتيتين :
( 1 ) ثلاث سنوات تسرى من اليوم الذي يعلم فيه الدافع بحقه في الاسترداد . فلا يبدأ سريان التقادم هنا من يوم قيام الالتزام في ذمة المدفوع له ، بل من اليوم الذي علم فيه الدافع بأنه دفع ديناً غير مستحق عليه . ولما كان الدافع لا يعلم عادة بذلك إلا بعد انقضاء مدة من قيامه بالدفع ، فإن سريان هذا التقادم القصير يبدأ في الغالب متأخراً عن سريان التقادم الطويل الذي سيأتي بيانه . وقد يتفق مبدأ السريان في كل من المدتين إذا كان الدافع لم يدفع عن غلط ، بل دفع مكرهاً أو كان ناقص الأهلية ، فإنه يكون عندئذ عالماً بحقه في الاسترداد وقت قيام هذا الحق .
( 2 ) خمس عشرة سنة من يوم قيام الالتزام . ويقوم الالتزام من يوم دفع غير المستحق كما سبق أن بينا . وقد يبدو أن هذه المدة أطول بكثير من المدة الأولي ، وأن الدعوى تتقادم بالمدة الأولى قبل تقادمها بالمدة الثانية, وهذا صحيح في الكثرة الغالبة من الأحوال . ولكن قد يقع – كما رأينا في دعوى الإثراء – أن الدافع لا يعلم بغلطة إلا بعد مدة طويلة ، إذا فرضناها أكثر من اثنتي عشرة سنة ، فإن الدعوى تتقادم في هذه الحالة بخمس عشرة سنة من وقت قيام الالتزام قبل تقادمها بثلاث سنوات من وقت علم الدافع بحقه في الاسترداد . وهذا ما قدره القانون الجديد فتحوط له كما تحوط في دعوى الإثراء ( [1637] ) .
الفرع الثاني
الفضالة ( [1638] )
( gestionv daffaires )
856 - نتكلم في الفضالة على أركانها ثم على أحكامها .
المبحث الأول
أركان الفضالة
857 - النصوص القانونية : نصت المادة 188 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" الفضالة هي أن يتولى شخص عن قصد القيام بشا ، عاجل لحساب شخص آخر ، دون أن يكون ملزماً بذلك ( [1639] ) " .
ونصت المادة 189 على ما يأتي :
" تتحقق الفضالة ولو كان الفضولي ، في أثناء توليه شأناً لنفسه ، قد تولي شأن غيره ، لما بين الشأنين من ارتباط لا يمكن معه القيام بأحدهما منفصلاً علن الآخر ( [1640] ) " .
ونصت المادة 190 على ما يأتي :
" تسري قواعد الوكالة إذا اقر رب العمل ما قام به الفضولي ( [1641] ) " .
ويقابل هذه النصوص التي اشتمل عليها القانون المدني الجديد نص وأحد في القانون المدني القديم هو نص المادة 144 / 205 ، وقد جرت بما يأتي :
" من فعل بقصد شيئاً تترتب عليه منفعة لشخص آخر ، فيستحق على ذلك الشخص مقدار المصاريف التي صرفها والخسارات التي خسرها ، بشرط إلا تتجاوز تلك المصاريف والخسارات قيمة ما آل إلى ذلك الشخص من المنفعة " .
ونص القانون القديم مبهم مضطرب المعنى ، فهو ليس صريحاً في لانصراف إلى الفضالة في خصوصها ، ولا هو يتمحض لتقرير قاعدة الإثراء بلا سبب في عمومها ( [1642] ) . وقد أزالت نصوص القانون الجديد هذا الإبهام والاضطراب ( [1643] ) .
858 - أركان ثلاثة للفضالة : ويتبين من هذه النصوص الجديدة التي قدمناها أن الفضالة تتحقق بقيام أركان ثلاثة ( [1644] ) .
( 1 ) أن يقوم الفضولي بشأن عاجل آخر . وهذا هو الركن المادي .
( 2 ) أن يقصد ، في قيامه بهذا الشأن العاجل ، مصلحة رب العمل . وهذا هو الركن المعنوي .
( 3 ) ألا يكون ، إزاء هذا الشأن العاجل . ملتزماً به ولا موكلاً فيه ولا منهياً عنه . وهذا الركن يمكن أن يطلق عليه الركن القانوني .
ونستعرض هذه الأركان الثلاثة .
المطلب الأول
قيام الفضولي بشأن عاجل لرب العمل
859 - عناصر هذا الركن للفضالة هو أن يقوم الفضولي بشأن عاجل لرب العمل . وهذا الشأن قد يكون تصرفاً قانونياً أو يكون عملاً مادياً وهو في الحالتين بجب أن يكون عاجلاً .
1 - تصرف قانوني أو عمل مادي
1 - التصرف القانوني
860 - كيف يقوم الفضولي بتصرف قانوني :
يصح أن يكون الفضولي وكيلاَ في الأصل عن رب العمل ، ولكنه يجاوز حدود الوكالة عالماً بذلك أو غير عالم ، فهو فيما جاوز فيه هذه الحدود فضولي ( [1645] ) . أو يستمر في العمل باسم الأصيل بعد انتهاء الوكالة ، سواء علم بإنهاء الوكالة أو لم يعلم ، فهو فضولي فيما قام به بعد انتهاء وكالته ( [1646] ) .
ولكن قد يعمل الفضولي دون وكالة أصلاً فيقوم بتصرف قانوني باسم رب العمل . مثل ذلك أن يقبل هبة صدرت من الواهب إلى رب العلم ، أو أن يؤجر عيناً شائعة بينه وبين رب العمل ( [1647] ) ، أو أن يبيع محصولات زراعية لرب العمل مما يسرع إليه التلف ، أو يوفي بضريبة واجبة على رب العمل توقياً للحجز الإداري ( [1648] ) . أو أن يقبل اشتراطاً لمصلحة رب العمل حتى يصبح الاشتراط باتاً لا يتحول عنه ( [1649] ) . ونرى من ذلك أن التصرفات القانونية التي يقوم بها الفضولي قد تكون من أعمال الإدارة وقد تكون من أعمال التصرف .
861 - ما يترتب على صدور التصرف القانوني باسم رب العمي :
وقد قدمنا أن الفضولي يقوم بالتصرف القانوني باسم رب العمل ، كأنه وكيل عنه دون أن تكون هناك وكالة ويترتب على ذلك :
( 1 ) إذا توافرت جميع أركان الفضالة الأخرى وقع التصرف نافذاً مباشرة في حق رب العمل كما لو كان الفضولي وكيلاً عنه . وسنرى تفصيل ذلك فيما يلي .
( 2 ) ليس من الضروري أن يكون الفضولي ذا أهلية كاملة لمباشرة التصرف القانوني الذي تولاه باسم رب العمل ، شأنه في ذلك شأن الوكيل . ويكفي أن يكون من أهل التمييز .
( 3 ) وعلى العكس ما تقدم يجب أن يكون رب العمل أهلاً للتصرف القانوني الذي تولاه الفضولي عنه ، لأنه يقع نافذاً مباشرة في حقه كما قدمنا ( [1650] ) .
( 4 ) يخضع ، من ناحية الإثبات ، التصرف القانوني الذي تولاه الفضولي باسم رب العمل للقواعد العامة في إثبات التصرفات القانونية . فإذا كان التصرف عقداً ، ولم يجز إثباته فيما يجاوز عشرة الجنيهات إلا بالكتابة أو ما يقوم مقامها وإلا بالإقرار أو الميين .
ب - العمل المادي :
862 - جواز أن يكون عمل الفضولي عملاً مادياً :
هناك من يرى أن العمل الذي يقوم به الفضولي يجب أن يكون دائماً تصرفاً قانونياً قياساً على الوكالة ( [1651] ) . ولكن هذا الرأي مرجوح ، ويصح أن يقوم الفضولي بعمل مادي كما يقوم بتصرف قانوني ، وفي هذا تختلف الفضالة عن الوكالة .
والعمل المادي الذي يقوم به الفضولي قد يكون عملاً مادياً بالنسبة إلى رب العمل ، وقد يكون عملاً مادياً في ذاته .
863 - العمل المادي بالنسبة إلى رب العمل :
فالفضولي عندما يتعاقد باسمه الشخصي ، أو باسم رب العمل ، بشأن عاجل من شؤون رب العمل ، يكون قد قام بتصرف قانوني فيما بينه وبين الغير الذي تعاقد معه . ولكن هذا التصرف القانوني يعتبر عملاً مادياً بالنسبة إلى رب العمل . مثل ذلك أن يتعاقد الفضولي مع مقاول لإصلاح منزل لرب العمل من خلل يهدده بالسقوط ، أو أن يتعاقد مع طبيب لعلاج رب العمل من مرض دهمه واقتضاه إسعافاً سريعاً ، أو أن يتعاقد مع معلم يعطى دروساً خاصة لرب العمل ، أو أن يقوم بدفع المصروفات المدرسية عن رب العمل حتى لا يفصل من مدرسته ، أو أن يفي بدين على رب العمل ليجنبه الحجز على ماله ( [1652] ) .
ولما كان هذا التصرف القانوني قام به الفضولي يعتبر عملاً مادياً بالنسبة إلى رب العمل ، فإنه يجوز لرب العمل في رجوعه على الفضولي أن يثبت هذا التصرف بالبينة والقرائن ولو زادت قيمته على عشرة جنيهات . كذلك يجب أن يكون الفضولي ذا أهلية كاملة للتصرف الذي تولاه ولا يكفي فيه أن يكون من أهل التمييز ، وهذا لم يتعاقد نائباً عن رب العمل ، بل تعاقد باسمه الشخصي ، فانصرف أثر العقد إليه ، وسنرى فيما يلي تفصيل ذلك .
864 - العمل المادي في ذاته :
وقد يقوم الفضولي بعمل مادي في ذاته ، كان يقطع التقادم في حق مهدد بالسقوط لرب العمل ، أو أن يقيد وهناً لمصلحة رب العمل ، أو أن يجدد قيد الرهن ، أو أن يطفئ حريقاُ اشتعلت في منزل لرب العمل ، أو أن يجنى محصولا لرب العمل يخشى عليه إذا لم يجن من التلف ، أو أن ينقي زراعة رب العمل من دودة القطن ، أو أن يكبح جماح حصان أوشك أن يلقي براكبه إلى الأرض ، وما إلى ذلك من الأعمال المادية التي تكون من الشؤون العاجلة لرب العمل ( [1653] ) .
وغنى عن البيان أن هذه الأعمال المادية تثبت بجميع الطرق ، ويدخل في ذلك البينة والقرائن ( [1654] ) .
2 - شأن عاجل لرب العمل
865 مجرد النفع لا يكفي :
تقول المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي وهي تذكر أو كان الفضالة إن من بين هذه الأركان " أن يكون ما يتصدى له الفضولي ( شاناً عاجلاً ) ، فليس يكفي لتبرير الفضالة أن يكون التصدي نافعاً أو مفيداً ، بل لا بد أن يكون ضرورياً ( [1655] ) .
وإذن لا يكفي مجرد النفع أو الفائدة يجلبه الفضولي لرب العمل . فلا يجوز مثلاً أن يتقدم الفضولي لشراء صفقة من أرض أو بناء لحساب رب العمل لمجرد أنها صفقة رابحة ، أو أن يطلب الأخذ بالشفعة لحساب رب العمل لمجرد أن الأخذ بالشفعة يعود عليه بالنفع ، أو يقيم بناء على أرض فضاء مملوكة لرب العمل لمجرد أن إقامة البناء تمكنه من استغلال الأرض استغلالاً مفيداً ، أو أن يقسم مالا شائعاً لرب العمل لمجرد أن يجنيه مضار الشيوع ( [1656] ) . في كل هذه الفروض نرى أن عمل الفضولي عمل نافع ، بل قد يكون محقق الفائدة ، ولكنه ليس من الشؤون العاجلة لرب العمل . فلا يجوز للفضولي انو يتدخل فيها . وإذا تدخل فلا يكون فضولياً ولا يلزم رب العمل في شيء ، بل قد يكون تدخله خطأ يستوجب مسئوليته التقصيرية . ولكن إذا رأى رب العمل أن يجيز تدخل الفضولي ، فإن الإجازة تجعل العمل ينقذ في حق المجيز وفقاً للقواعد العامة .
866 - بل يجب أن يكون العمل " ضروريا " :
وإنما يتعين أن يكون العمل الذي يقوم به الفضولي هو من الشؤون العاجلة " لرب العمل . فلا يكفي أن يكون نافعاً فحسب ، بل يجب أن يكون ضرورياً ومعنى " الضروري " هنا أن يكون العمل الذي قام به الفضولي من الشؤون التي ما كان رب العمل ليتوانى في القيام بها . فقام به الفضولي ناظراً إلى مصلحة رب العمل . نرى ذلك متحققاً فيما قدمناه من الفروض : قبول الهبة عن رب العمل ، إيجار عين شائعة لرب العمل ما كانت تستغل بغير هذا الإيجار ، بيع محصولات يسرع إليها التلف ، دفع ضريبة توقياً لحجز إداري ، قبول اشتراط لمصلحة رب العمل ، التعاقد مع مقاول لإصلاح منزل مهدد بالسقوط ، التعاقد مع طبيب لإسعاف رب العمل من مرض دهمه ، التعاقد مع معلم لإعطاء درس ضروري لرب العمل ، دفع المصروفات المدرسية عن رب العمل حتى لا يفصل من مدرسته ، الوفاء بدين على رب العمل منعاً للحجز على ماله ، قطع التقادم في حق مهدد بالسقوط . قيد رهن أو تجديد القيد ، إطفاء حريق ، حتى محصول يخشى عليه من التلف ، تنقية الزراعة من دودة القطن ، الإمساك بزمام حصان جامح . كل هذه أعمال – قانونية أو مادية - هي من الشؤون العاجلة لرب العمل ، وما كان هو ليتوانى في القيام بها .
ويفهم مما قدمناه في تحديد معنى " الشأن العاجل " أن قيام الفضولي بهذا الشأن ، إذا هو بذل فيه العناية الواجبة ، يؤدى إلى نفع محقق لرب العمل . ومن هنا اشترط بعض الفقهاء في الفضالة أن يتم عمل الفضولي بنجاح ( [1657] ) .
ومتى قام الفضولي بالعمل الذي تولاه ، وعاد ذلك بالنفع على رب العمل ، فإنه يستوى بعد هذا أن يبقى هذا النفع أو يزول . فلو أن الفضولي أصلح منزلاً لرب العمل بما أنفقه من المصروفات . وهذا هو عين المبدأ الذي قررناه في قاعدة الإثراء بلا سبب . وسنعود إلى تفصيل ذلك فيما يلي .
المطلب الثاني
نية الفضولي في أن يعمل لمصلحة رب العمل
867 - هذا هو الركن المعنوي في الفضالة كما قدمنا . ونقف هنا عند النية والقصد . فلا تقوم الفضالة إلا إذا انصرفت نية الفضولي ، وهو يتولى شأناً لغيره ، إلى أن يتولى هذا الشأن لمصلحة رب العمل .
والفضولي في هذه النية إما أن يكون على بينة من أمره ، وإما أن يكون على غير بينة .
1 - الفضولي على بينة من أمره
868 - القصد عند الفضولي هو الذي يميز انفصاله عن الإثراء بلا سبب .
يغلب أن يكون الفضولي على بينة من أمره ، وتنصرف نيته إلى أن يعمل لمصلحة رب العمل . وهذه النية هي التي تميز ما بين الفضالة والإثراء بلا سبب ( [1658] ) . والفضولي إنما يعرف بهذه النية ، فهو متفضل لأنه لا يعمل لمصلحة نفسه بل يعمل لمصلحة غيره . وقد رأينا ذلك محققاً في أعمال الفضالة التي استعرضناها فيما تقدم . والفضالة من التفضل لا من التطفل . أما إذا انصرفت نية المتدخل إلى العمل لمصلحة العمل نفسه . فإنه لا يكون فضولياً حتى لو عاد تدخله على الغير بنفع . ولا يرجع هذه الحالة بدعوى الفضالة ، وإنما يرجع بدعوى الإثراء إذا توافرت شروطها مثل ذلك أن يقوم المستأجر بإصلاحات ضرورية في العين المؤجرة حتى يستوفي منفعة العين لنفسه ، فهو بالنسبة إلى المالك لا يعتبر فضولياً لأنه يعمل لمصلحة نفسه ويرجع على المالك بدعوى الإثراء كما قدمنا ( [1659] ) .
869 - جواز أن يعمل الفضولي لمصلح نفسه ولمصلح رب العمل في وقت معاً :
وليس من الضروري أن تتمحض نية الفضولي في أن يعمل لمصلحة رب العمل وحده ، بل يجوز ، كنا تقول المادة 189 " أن تتحقق الفضالة ولو كان الفضولي ، في أثناء توليه شأناً لنفسه ، قد تولي شأن غيره ، لما بين الشأنين من ارتباط لا يمكن معه القيام بأحدهما منفصلاً عن الآخر " . فالشريك المشتاع يؤجر العين الشائعة فيستغلها لمصلحة نفسه ومصلحة شريكه في الشيوع . فهو فضولي بالنسبة إلى شريكه لأنه عمل لمصلحة هذا الشريك ، ولا يمنع من ذلك أنه عمل في الوقت ذاته لمصلحة نفسه ، بل لا يمنع من ذلك أنه عمل لمصلحة نفسه أولاً ، وأنه ما كان يعمل لمصلحة شريكه لولا مصلحته هو . فالمهم أن يكون قد عمل لمصلحة شريكه على وعى منه ، حتى لو كان مضطراً إلى ذلك لما بين مصلحته ومصلحة شريكه من ارتباط لا يمكن معه القيام بمصلحة نفسه دون القيام بمصلحة شريكه ( [1660] ) . وفي هذا تقول المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي : " بيد أن الأمر يظل محصوراً في نطاق الفضالة ما بقيت النية المذكورة قائمة ، ولو تولي الفضولي شأن الغير وشأن نفسه في وقت وأحد بسبب ارتباط هذين الشأنين على نحو لا يتيح له القيام على أحدهما استقلالاً عن الآخر ، كما هو شأن الشريك المشتاع عند إدارة المال المشاع ( [1661] ) "
2 - الفضولي على غير بينة من أمره
870 - لا يكون فضولياً من ظن أنه يعمل لمصلحة نفسه فإذا به يعمل لمصلحة غيره :
قد لا يكون المتدخل في شؤون الغير على بينة من أمره ، فتنصرف نيته إلى العمل لمصلحة نفسه فإذا به يعمل لمصلحة غيره . فلا يكون فضولياً في هذه الحالة لأن العبرة بالنية . فمتى انصرفت نيته إلى العمل لمصلحته الشخصية ارتفعت عنه صفة الفضولي ، حتى لو كشف بعد ذلك أنه كان يعمل لمصلحة غيره أو لمصلحة نفسه ومصلحة غيره في وقت وأحد . فلو أن منزلاً كان في حيازة شخص واعتقد الحائز أنه يملك المنزل ، فأجرى فيه إصلاحات ضرورية لمصلحته هو ، ثم تبين بعد ذلك أن المنزل ملك لغيره أو أنه شائع بينه وبين غيره ، فلا يعتبر فضولياً بالنسبة إلى هذا الغير ، ولا يرجع عليه بدعوى الفضالة بل بدعوى الإثراء إذا توافرت شروطها . وفي هذا تقول الفقرة الأولي من المادة 263من المشروع التمهيدي ( [1662] ) : " تطبيق قواعد الإثراء بلا سبب عندما يقوم شخص بشأن لغيره معتقداً أنه يقوم بشأن لنفسه " . وتقول المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ، وهي تستعرض ركناً من أركان الفضالة ، ما يأتي : " ثالثاً - أن يتصدى الفضولي لشأن الغير عن بينة أو عن قصد ، ومؤدى هذا أن تنصرف نية الفضولي إلى القيام بما تصدى له لحساب رب العمل ، فإذا لم تتوافر هذه النية بأن اعتقد الفضولي وهو يتولى شأن الغير أنه يقوم بشؤون نفسه خروج الأمر عن نطاق الفضالة وطبقت قواعد الإثراء ( [1663] ) " .
871 - لكن يكون فضولياً من ظن أنه يعمل لمصلحة شخص فإذا به يعمل لمصلحة شخص آخر : أما إذا انصرفت نية المتدخل إلى العمل لمصلحة غيره فإنه يكون فضولياً كما قدمنا ، حتى لو ظن أنه يعمل لمصلحة هذا الغير كوكيل عنه وهو ليس بوكيل ، وحتى لو ظن أنه يعمل لمصلحة شخص معين فإذا به يعمل لمصلحة شخص آخر ( [1664] ) . فالمهم هو أن تنصرف نية الفضولي إلى العمل لمصلحة الغير ، لا لمصلحة شخص معين بالذات . وفي هذا تقول المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي : " وإذا كانت تلك النية ( نية العمل لمصلحة الغير ) ضرورية من هذا الوجه ، فهي بمجردها كافية دون حاجة إلى اشتراط انصرافها إلى العمل لحساب شخص معين بذاته . فمتى قصد الفضولي إلى التصدي لشأن الغير ، بقي قائماً بعمله ، ولو أخطأ في شخص رب العمل . وفي هذه الحالة يكسب رب العمل الحقيقي ما يترتب على الفضالة من حقوق ، ويتحمل ما ينشأ عنها من التزامات ( أنظر المادة 686من التقنين الألماني والمادة1191 / 955 من التقنينين التونسي والمراكشي والمادة 153من التقنين اللبناني " ( [1665] ) .
المطلب الثالث
الفضولي يقوم بعمل هو غير ملتزم به ولا موكل فيه ولا منهي عنه
872 - هذا هو الركن الثالث للفضالة ، وهو الركن الذي يحدد الموقف القانوني لكل من الفضولي ورب العمل من الشأن العاجل الذي قام به الفضولي .
أما موقف الفضولي من هذا الشأن العاجل فيتلخص في أنه لم يكن ملتزماً به قبل أن يتولاه . وأما موقف رب العمل فيتلخص في أنه لم يأمر الفضولي أن يقوم به ولم ينهه عن ذلك .
1 - موقف الفضولي من الشأن العاجل
873 - لا يعتبر فضولياً من يكون ملزماً يتولى شأن الغير : جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ، في معرض ذكر أركان الفضالة ، ما يأتي : " رابعاً - أن يتولى الفضولي شأن الغير دون أن يكون ملتزماً بذلك . وقد فصل التقين اللبناني هذا الشرط فنص في المادة 677على إثبات صفة الفضولي لمن يتولى شأناً لحساب الغير دون أن يوكله هذا أو دون أن يكون ملزماً قانوناً بذلك . وتبسط التقنين النمساوي في هذا الشأن فنص في المادة 1035على إلحاق صفة الفضولي بمن يقوم بشأن للغير ( غير مأذون بمقتضى اتفاق صريح أو ضمني أو أمر من محكمة أو نص في القانون ) . وعلى هذا الأساس لا يعتبر فضولياً من يكون ملزماً بتولي شأن الغير بمقتضى عقد كالوكيل أو بمقتضى أمر من المحكمة كالحارس أو بمقتضى نص في القانون كالوصي ( [1666] ) " . ويتبين من ذلك أن من يتولى الشأن العاجل لرب العمل يجب ، حتى يكون فضولياً ، ألا يكون ملتزماً من قبل أن يقوم بهذا الشأن ، لأنه إذا كان ملتزماً به فهو ليس بفضولي يتبرع بالعمل لمصلحة الغير ، بل هو مدين يقوم بالتزام نحو الدائن .
ويترتب على ذلك أن المقال إذا تعاقد مع رب العمل على أن يقيم له بناء في أرضه ، فإن المقال لا يعتبر فضولياً ، لأنه ملتزم بإقامة البناء بمقتضى عقد المقاولة . كذلك الحارس القضائي وهو يدير العين المتنازع عليها لا يعتبر فضولياً لأنه ملتزماً بإدارة العين بمقتضى أمر القاضي . والمتبوع إذا دفع تعويضاً عن الضرر الذي أحدثه تابعه لا يعتبر فضولياً لأنه مسئول بحكم القانون عن هذا الخطأ
موقف رب العمل من الشأن العاجل
874 - رب العمل لا يعلم بالفضالة :
قلنا إن موقف رب العمل من الفضولي في هذا الشأن العاجل هو موقف من لم يأمره بتولي العمل ولم ينهه عنه وفي الكثرة الغالبة من الأحوال يكون رب العمل غير لم بأن الفضولي قد تولي شأناً عاجلاً من شؤونه ، لأنه يكون بعيداً عن هذا الشأن فلا يتمكن من أن يتولاه نفسه ، فيتولاه الفضولي عنه . وهذه هي الحالة الغالبة في الفضالة . وفي هذا تقول المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي : " والغالب أن يجهل رب العمل تصدى الفضولي للقيام بهذا العمل ( [1667] ) " .
875 - رب العمل يعلم بالفضالة :
ولكن قد يقع أن رب العمل يكون عالماً بأن الغير يتولى شأناً من شؤونه العاجلة . فإذا كان هو دعاه إلى ذلك كان الغير وكيلا لا فضولياً ( [1668] ) . وكالوكالة السابقة الإجازة اللاحقة ، فيجوز أن رب العمل لا يدعو الفضولي إلى تولي شؤونه ، ولكنه يجيز عمله بعد ذلك ، فيصبح الفضولي بهذه الإجازة وكيلاً . وفي هذا تقول المادة 190التي سبق ذكرها : " تسرى قواعد الوكالة إذا أقر رب العمل ما قام به الفضولي " . وتصبح الفضالة وكالة منذ بدء الفضالة ، إذ أن الإجازة لها أثر رجعى ( [1669] ) . ويستثني الغير من ذلك ، فلا يكون للإجازة أثر رجعى بالنسبة إلى الغير إلا من وقت صدورها . ويصح أن تصدر الإجازة من رب العمل سواء كان المتدخل في شؤونه فضولياً استوفي شروط الفضالة ، أو كان لم يستوف شروط الفضالة بأن كان يعمل لمصلحة نفسه مثلاً ، ففي الحالتين تجعل الإجازة المتدخل وكيلاً إذا كان العمل الذي قام به تصرفاً قانونياً ( [1670] ) . وهذا ما تقوله المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الشأن : " فإذا أجاز رب العمل الفضالة صراحة أو ضمناً سرت قواعد الوكالة على ما يترتب بينه وبين الفضولي من حقوق والتزامات من بدء الفضالة . ولا يكون للإجازة أثر بالنسبة للغير إلا من وقت صدورها ( أنظر المادة 1194 / 958من التقنينين التونسي والمراكشي والمادة 154من التقنين اللبناني ) ، ويكون من أثر هذه الإجازة سريان أحكام الوكالة ، ولو كان الفضولي قد قام بالعمل وهو يعتقد أنه يتولى شأن نفسه ( المادة6 من المشروع الفرنسي الإيطالي والمادة 120 من التقنين البولوني ) . ويراعى في الحالة الأخيرة أن الوضع الذي تطبق بشأنه أحكام ليس صورة من صور الفضالة ، ولكنه صورة من صور الإثراء بلا سبب ( [1671] ) " .
أما إذا كان رب العمل لم يدع الغير إلى تولي العمل الذي قام به ، بل على العكس من ذلك نهاه نهاه عن التدخل في شؤونه ، فلا يكون الغير فضولياً ( [1672] ) ، ويجب عليه الامتناع عن التدخل ، وإلا ارتكب خطأ قد يستوجب مسئولية التقصيرية إذا عاد تدخله بالضرر على رب العمل . وإذا عاد بالمنفعة ، فإنه لا يرجع بدعوى الفضالة ، بل بدعوى الإثراء بلا سبب . وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على نص يقضى بهذه الأحكام ، هو الفقرة الثانية من المادة 263 ، وقد حذفت اكتفاء بتطبيق القواعد العامة ، وكانت تجرى بما يأتي : " وكذلك تطبق قواعد الإثراء بلا سبب إذا تدخل شخص في شأن لغيره مخالفاً في ذلك إرادة هذا الغير ، معروفة كانت هذه الإرادة أو مفروضة ( [1673] ) " . بقى الفرض الثالث ، وهو أن يكون رب العمل لم يدع الغير إلى التدخل في شؤونه ولم يمنعه من ذلك . فإذا وقف رب العمل من المتدخل هذا الموقف السلبي ، لا يأمره بالتدخل ولا ينهاه عنه ، كان هذا هو مجال الفضالة ، واعتبر المتدخل فضولياً . وفي هذا تقول المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ما يأتي : " فإذا علم ( رب العمل ) بذلك ولم نفصح عن موقفه من طريق المعارضة أو الإقرار ، بقيت لقواعد الفضالة ولا يتها ، ووجب تطبيقها ( [1674] ) " .
ومن ثم نرى أن الفضالة لا تقوم إلا في فرضين من الفروض المتقدمة :
( 1 ) إذا كان رب العمل لا يعلم بتدخل الفضولي ( 2 ) أو كان يعلم بهذا التدخل ولكنه يقف منه موقفاً سلبياً ، لا يأمر به ولا ينهى عنه .
المبحث الثاني
أحكام الفضالة
876 - التزامات الفضولي والتزامات رب العمل :
الفضالة . إذا توافرت أركانها على النحو الذي قدمناه ، ترتب التزامات في جانب الفضولي وأخرى في جانب رب العمل .
المطلب الأول
التزامات الفضولي
877 - ما هي هذه الالتزامات وما هو مصدرها : يلتزم الفضولي بما يأتي :
1 - أن يمضي في العمل بدأه إلى أن يتمكن رب العمل من مباشرته بنفسه .
2 - أن يخطر رب العمل بتدخله متى استطاع ذلك .
3 - أن يبذل في القيام بالعمل عناية الشخص العادي .
4 - أن يقدم حالياً حساباً لرب العمل عما قام به وان يرد إليه ما استولي عليه بسبب الفضالة .
ومصدر هذه الالتزامات جميعاً عمل مادي إرادي يقوم به الفضولي فيرتب عليه القانون مباشرة هذه الالتزامات ( [1675] ) . وهذا ظاهر إذا كان العمل الذي يقوم به الفضولي هو عمل مادي في ذاته وهو صحيح أيضاً حتى إذا كان العمل الذي يقوم به الفضولي هو تصرف قانوني . سواء عقده باسمه الشخصي أو عقده باسم رب العمل نيابة عنه ، ففي الحالتين يعتبر قيام الفضولي بإبرام هذا التصرف القانوني عملاً مادياً في العلاقة ما بين الفضولي ورب العمل . وإن كان العمل يعتبر تصرفاً قانونياً في العلاقة ما بين الفضولي والغير إن كان الفضولي عقده باسمه الشخصي . وفي العلاقة ما بين رب العمل والغير إن الفضولي عقده باسم رب العمل
ونستعرض : ( أولاً ) التزامات الفضولي الأربعة ( ثانياً ) ما تشترك فيه هذه الالتزامات من أحكام تتعلق بأهلية الفضولي وبالأثر الذي يترتب على موت الفضولي أو موت رب العمل وبتقادم هذا الالتزامات .
التزامات الفضولي الأربعة
1 . التزام الأول - مضى الفضولي في العمل الذي بدأه إلى أن يتمكن رب العمل من مباشرته بنفسه :
878 - جاء في المادة 191ما يأتي : " يجب على الفضولي أن يمضي في العمل الذي بدأه إلى أن يتمكن رب العمل من مباشرته بنفسه ( [1676] ) " . وقد أراد المشرع بهذا الالتزام أن يمنع التدخل في شؤون الغير عن خفة واستهتار . فمن تدخل في شأن لغيره من غير أن يدعى لذلك وجب عليه ألا يتخلى عن العمل متى بدا له أن يتخلى ، بل يلتزم بالمضي فيما بدأه رعاية لمصلحة رب العمل ، وهي المصلحة التي قصد الفضولي أن يرعاها . ولكن لا يلتزم الفضولي بإتمام العمل إلا إذا لم يتمكن رب العمل من مباشرته بنفسه فإذا تمكن من ذلك وسنرى أن الفضولي يجب عليه إخطاره بتدخله متى استطاع - سقط عن الفضولي التزامه بإتمام العمل بل التزامه بالمضي فيه ، وأصبح من واجب رب العمل ، ومن حقه في الوقت ذاته ، أن يباشر شؤونه بنفسه ، وان يتخلى له الفضولي عن ذلك .
وإذا كان العمل الذي تولاه الفضولي عملاً مادياً ، كتنقية زراعة من دودة القطن أو إضفاء حريق ، وجب على الفضولي المضي في تنقية الزراعة أو في إطفاء الحريق حتى يأتي رب العمل ويباشر العمل بنفسه . أما إذا كان العمل الذي تولاه تصرفاً قانونياً - سواء عقده باسم رب العمل أو باسمه الشخصي – فواجبه هنا أيضاً أن يمضي في عمله ، فيتم إبرام التصرف القانوني ، ويقوم بالإجراءات التي يوجبها القانون كتسجيل التصرف أو قيده ، ثم يباشر تنفيذ التصرف إذا اقتضى الأمر ، فيؤدي ما أنشأه التصرف من التزامات ، ويطالب بما رتبه من حقوق ، باسم رب العمل أو باسمه الشخصي على حسب الأحوال . كل هذا حتى يتمكن رب العمل من مباشرة التصرف الذي عقده الفضولي نيابة عنه ، فيمضى في الإجراءات أو في التنفيذ بنفسه . أما التصرف الذي عقده الفضولي باسمه الشخصي فيستمر هذا فيه حتى يتم تنفيذه لأنه هو المسئول عنه شخصياً ، وليس لرب العمل إلا تعويضه عن التزاماته وإلا محاسبته عنه كما سيأتي .
ب . الالتزام الثاني - إخطار الفضولي رب العمل بتدخله متى استطاع ذلك :
879 - ولا يكفي أن يمضى الفضولي في العمل الذي بدأ به حتى يتمكن رب العمل من مباشرته بنفسه ، بل يجب إلى ذلك أن يبادر إلى إخطار رب العمل بتدخله بمجرد أن يتمكن من ذلك ، فيستطيع رب العمل بعد هذا الإخطار أن يستعمل حقه من مباشرة العمل بنفسه ، رأينا أن هذه المباشرة إذا كانت واجباً عليه فهي أيضاً حق له . وهذا الالتزام هو ما ينص عليه الشطر الثاني من المادة 191إذ نقول " كما يجب عليه ( أي على الفضولي ) أن يخطر بتدخله رب العمل متى استطاع ذلك ( [1677] ) " . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ( [1678] ) في هذا الصدد ما يأتي : " ويلاحظ أن الفضولي يلزم بالمضي في العمل الذي بدأه إلى أن يتمكن رب العمل من مباشرته بنفسه . ولما كان لرب العمل أن يكف الفضولي عن التدخل فيما تصدى له ، لذلك كان من واجب الفضولي أن يخطره بتدخله في أول فرصة تتاح له . ومتى تسير لرب العمل أن يباشره بنفسه كان من حقه وواجبه أن يقوم بذلك " . وغنى عن البيان أن الفضولي ليس مطالباً أن يبذل جهداً غير معتاد لإخطار رب العمل بتدخله ، بل هو مطالب أن ينتهز أول فرصة معقولة تتاح له حسب الظروف التي تحيط به للقيام بهذا الإخطار .
جـ . الالتزام الثالث - بذل عناية الشخص العادي في القيام بالعمل :
880 - النص القانوني :تنص المادة 192على ما يأتي :
" 1 - يجب على الفضولي أن يبذل في القيام بالعمل عناية الشخص العادي . ويكون مسئولاً عن خطته . ومع ذلك يجوز للقاضي أن ينقص التعويض المترتب على هذا الخطأ إذا كان الظرف تبرر ذلك " .
" 2 - وإذا عهد الفضولي إلى غيره بكل العمل أو ببعضه كان مسئولاً عن تصرفات نائبة ، دون إخلال بما لرب العمل من الرجوع مباشرة على هذا النائب " .
" 3 - وإذا تعدد الفضوليون في القيام بعمل وأحد كانوا متضامنين في المسئولية " ( [1679] ) .
وهذا النص يشتمل على أحكام هامة في الفضالة ( [1680] ) . فهو : ( 1 ) يرسم معيار الخطاء في الفضالة وما يترتب من المسئولية على هذا الخطأ ( 2 ) ويبين أحكام نائب الفضولي . ( 3 ) ويقرر التضامن في المسئولية إذا تعدد الفضولي .
881 - الخطأ في الفضالة : لا يلتزم الفضولي بالوصول إلى النتيجة المرجوة ، بل يلتزم ببذل عناية الشخص العادي للوصول إلى هذه النتيجة . فالتزامه ليس التزاماً بتحقيق غاية ، بل هو التزام ببذل عناية ( [1681] ) .
ومعيار خطأ الفضولي هو كمعيار الخطأ العقدي ويقاس على خطأ الوكيل إذا كان مأجوراً ( م 704فقرة 2 ) . فيجب ألا ينحرف الفضولي في القيام بعمله عن السلوك المألوف للرجل العادي ، وأي انحراف عن هذا السلوك يكون خطأ يوجب مسئوليته ( [1682] ) . وليس هذا الخطأ خطأ عقدياً . ولا هو خطأ تقصيري لأن مسئولية الفضولي ليست مسئولية تقصيرية إلا إذا ارتكب خطأ تقصيرياً خارجاً عن أعمال الفضالة . وإنما هو خطأ في الفضالة ، معياره هو عين معيار الخطأ العقدي والخطأ التقصيري . وخصوصية هذا الخطأ أن المسئولية عنه قد لا تكون كاملة ، إذ يجوز للقاضي أن ينقص التعويض المترتب عليه إذا كانت الظروف تبرر ذك . وكثيراً ما تبرر الظروف التخفيف من مسئولية الفضولي إذ هو متفضل تدخل لرعاية مصلحة رب العمل . فإذا كان تدخله لدفع ضرر داهم يتهدد رب العمل ، ففي هذا الظرف الذي ساقه للتدخل ما يشفع له إذا ارتكب خطأ في عمله وانحرف قليلا عن السلوك المألوف للرجل العادي ، فيكون هذا سبباً لتخفيف المسئولية وإنقاص التعويض ( [1683] ) . وقد تكون ظروف أخرى ، غير تلك التي ساقته للتدخل ، سبباً في تخفيف المسئولية . فالفضولي الذي يعمد إلى تنقية زراعة جاره من آفة زراعية ، ثم يبحث عن مواد كيماوية يكمل بها التنقية ، فيجد ظرف يجعل الوصول إلى هذه المواد ينطوي على شئ من المشقة يحجم عنها المضي في عمله ، فينحرف بذلك قليلاً عن السلوك المألوف للرجل العادي ، قد يخفف القاضي من مسئوليته عن هذا الخطأ بسبب الظرف الذي وجد وجعل الوصول إلى المواد الكيماوية أمراً شاقاً ( [1684] ) .
وقد يرتكب الفضولي خطأ تقصيرياً خارجاً عن أعمال الفضالة يضر به رب العمل ، فيكون مسئولاً عن هذا الخطأ وفقاً لقواعد المسئولية التقصيرية . مثل ذلك أن يعمد الفضولي إلى إطفاء حريق شبت في منزل جاره ، ثم هو بعد إطفاء الحريق والفراغ من أعمال الفضالة ، يهمل إقفال باب المنزل فتسلل اللصوص ويسرقون أمتعة الجار . ففي هذا الفرض يكون خطأ الفضولي في إهماله أن يقفل باب المنزل خطأ تقصيرياً لأنه خارج عن أعمال الفضالة ، ويكون مسئولاً نحو رب العمل عن هذا الخطأ مسئولية تقصيرية .
882 - نائب الفضولي : وقد يعهد الفضولي إلى شخص آخر أن يقوم نيابة عنه بأعمال الفضالة كلها أو بعضها ، سواء تولى الفضولي العمل ابتداء ثم مضى نائبه فيه أو تولى النائب العمل من مبدئه ( [1685] ) : ونائب الفضولي يكون بمثابة نائب الوكيل إذا كان العمل تصرفاً قانونياً ( [1686] ) ويمثابة المقاول من الباطن إذا كان عملاً مادياً .
ويكون نائب الفضولي مسئولاً قبل الفضولي ، ويجوز لرب العمل أن يستعمل حق الفضولي في الرجوع على النائب عن طريق الدعوى غير المباشرة ، بل أجاز فوق ذلك لرب العمل أن يرجع مباشرة ( أولاً ) على الفضولي لا عن خطئه هو فحسب ، بل أيضاً عن خطأ نائبه باعتباره تابعاً له ، وتكون مسئولية الفضولي نفسه عن النائب هي مسئولية المتبرع عن التابع ( ثانياً ) على النائب الفضولي نفسه بطريق الدعوى المباشرة التي نص عليها القانون ( [1687] ) . وهذا ما تقضى به الفقرة الثانية من المادة 192إذ تقول : " وإذا عهد الفضولي إلى غيره بكل العمل أو ببعضه كان مسئولاً عن تصرفات نائبه ، دون إخلال بما لرب العمل من الرجوع مباشرة على هذا النائب ( [1688] ) .
بقى أن نعرف هل يكون رب العمل - هو أيضاً – مسئولاً عن التزاماته مباشرة قبل نائب الفضولي؟ لا يوجد نص على هذه العلاقة ، كما وجد النص في حالة نائب الوكيل ( [1689] ) وفي المقاول من الباطن ( [1690] ) ، فلا يجوز القول به ، ويبقى رب العمل ملتزماً نحو الفضولي نفسه ويكون الفضولي ملتزماً نحو نائبه .
883 - التضامن في المسئولية عند تعدد الفضولي : ولما كان خطأ الفضولي في الفضالة على النحو الذي قدمناه ليس بالخطأ التقصيري ، فإن الفضوليين في حالة التعدد إذا وقع خطأ منهم وهم يقومون بعمل وأحد لا يكونون مسئولين بالتضامن إلا إذا وجد نص يقرر التضامن ، وقد أورد القانون الجديد هذا النص على خلاف القانون القديم الذي كان ينص صراحة على عدم التضامن ( م 149 / 210قديم ) . فجاء في الفقرة الثالثة من المادة 192ما يأتي : " إذا تعدد الفضوليون في القيام بعمل وأحد كانوا متضامنين في المسئولية " . ولولا هذا النص لانعدم التضامن بين الفضوليين ( [1691] ) .
ويلاحظك أن شرط التضامن هو أن يتعدد الفضوليون في عمل وأحد . أما إذا تولي كل فضولي عملاً مستقلاً عن عمل الآخر ، فلا يكون هناك تضامن ( [1692] ) .
د . الالتزام الرابع - تقديم الفضولي حساباً لرب العمل ورد ما استولي عليه بسبب الفضالة :
884 - النصوص القانونية : تنص المادة 193 على ما يأتي : " يلتزم الفضولي بما يلتزم به الوكيل من رد ما استولي عليه بسبب الفضالة وتقديم حساب عما قام به " ( [1693] ) . ونصت المادة 706بالنسبة إلى التزام الوكيل بتقديم الحساب على ما يأتي :
" 1 - ليس للوكيل أن يستعمل مال الموكل لصالح نفسه "
" 2 - وعليه فوائد المبالغ التي استخدمها لصالحه من وقت استخدامها ،
وعليه أيضاً فوائد ما تبقى في ذمته من حساب الوكالة من وقت أن يعذر " .
885 - تطبيق هذه النصوص : ويترتب على تطبيق هذه النصوص ما يأتي :
1 - إذا قام الفضولي بتصرف قانوني عقده نيابة عن رب العمل ، فإن هذا التصرف ينفذ مباشرة في حق رب العمل كما سبق القول . وإذا مضى الفضولي في تنفيذ هذا التصرف باسم رب العمل ، كما إذا استوفي حقاً ، فإنه يقبض الحق كوكيل . ولا يجوز له أن يستعمل المال لصالح نفسه . وإن فعل فعليه فوائد المبالغ التي استخدمها لصالحه بالسعر القانوني ( أي 4في المائة ) من وقت استخدامها ، لا من وقت المطالبة القضائية ولا من وقت الإعذار . أما إذا لم يستعمل المال لصالح نفسه ، فإن فوائده بالسعر القانوني تجب عليه من وقت إعذار برد المال .
2 - إذا قام الفضولي بتصرف قانوني عقده باسمه الشخصي لصالح رب العمل ، فإن هذا التصرف ينفذ في حقه لا في حق رب العمل كما سبق القول . ويجب عليه أن يمضى في العمل وأن ينفذ التصرف عند الاقتضاء . فإذا باع محصولات يسرع إليها التلف ، وقبض الثمن ، فلا يجوز له أن يستعمله لصالح نفسه ، وإلا وجبت عليه فوائده بالسعر القانوني من وقت استخدامه . وعليه أن يرده لرب العمل ، وإذا لم يستخدمه لصالح نفسه وجبت عليه فوائده القانونية من وقت الإعذار .
3 - إذا قام الفضولي بعمل مادي ، كما إذا جنى محصولا لرب العمل ، فعليه أن يسلمه إياه بمجرد التمكن من ذلك . ولا يجوز له أن يستولي عليه لصالح نفسه ، وإلا ألزم بالتعويض .
2 - ما تشترك فيه التزامات الفضولي من أحكام
( أهلية الفضولي –الأثر الذي يترتب على موت الفضولي أو موت رب العمل – تقادم التزامات الفضولي )
1 - أهلية الفضولي :
886 - أهلية الفضولي بالنسبة إلى التصرف القانوني الذي يتولاه :
حتى نتبين بوضوح الأهلية اللازمة للفضولي يجب التمييز بين أهليته بالنسبة إلى ما عسى أن يتولاه من تصرف قانوني وأهليته بالنسبة إلى أعمال الفضالة باعتبارها جميعاً أعمالاً مادية كما سبق القول .
فإذا كان العمل الذي يتولاه الفضولي تصرفاً قانونياً عقده باسم رب العمل نيابة عنه ، فقد قدمنا أن أهلية الفضولي بالنسبة إلى هذا التصرف هي أهلية الوكيل ، فيكفي فيه التمييز ولا تشترط فيه الأهلية الكاملة للتصرف الذي يتولاه ، وإنما تشترط هذا الأهلية الكاملة في رب العمل الذي ينصرف إليه مباشرة أثر التصرف .
وأما إذا كان العمل الذي يتولاه الفضولي تصرفاً قانونياً عقده باسمه الشخصي ، فلا بد أن تتوافر فيه الأهلية الكاملة لهذا التصرف لأنه هو الذي يلتزم به كما رأينا ، ولا يشترط في رب العمل أية أهلية بالنسبة إلى هذا التصرف إذ يعتبر من الغير فيه .
887 - أهلية الفضولي بالنسبة إلى أعمال الفضالة باعتبارها جميعاً أعمالاً مادية :
أما إذا نظرنا إلى أعمال الفضالة باعتبارها أعمالاً مادية بالنسبة إلى رب العمل - وقد رأينا فيما تقدم أن جميع الأعمال التي يقوم بها الفضولي ، حتى التصرفات القانونية التي يعقدها باسمه أو باسم رب العمل ، تعتبر بالنسبة إلى رب العمل أعمالاً مادية – فإن أهلية الفضولي للالتزام بهذه الأعمال تقتضي دائماً أن يكون من أهل التمييز ، إذ يشترط فيه كما قدمنا القصد في أن يعمل لمصلحة رب العمل . ثم هي بعد ذلك تختلف باختلاف ما يلتزم به . وقد علمنا أن التزامات الفضولي أربعة . اثنان منها - المضي في العمل وإخطار رب العمل - لا يقتضيان أكثر من أهلية التمييز . فيجب على الفضولي ولو لم يكن بالغاً سن الرشد ، ما دام مميزاً ، أن يمضى في العمل الذي بدأ فيه وان يخطر به رب العمل متى استطاع ذلك . وإذا هو أخل بأحد هذين الالتزامين كان هذا إخلالاً بالتزام قانوني ، واعتبر خطأ تقصيرياً يوجب مسئوليته التقصيرية كاملة . والالتزامان الآخران –بذل العناية الواجبة في إدارة العمل وتقديم الحساب - هما التزامان يتعلقان بحسن إدارة مال الغير ، ويشترط فيمن يطلب منه حسن إدارة مال الغير أن يكون كامل الأهلية . أما إذا لم تكن الأهلية الكاملة متوافرة فيه ، فلا يكون الرجوع عليه إلا بدعوى الإثراء بلا سبب ، وهذا ما لم يرتكب خطأ تقصيرياً فتكون مسئوليته التقصيرية كاملة .
وقد نصت الفقرة الأولي من المادة 196 على ذلك فيما يأتي : " إذا لم تتوافر في الفضولي أهلية التعاقد فلا يكون مسئولاً عن إدارته إلا بالقدر الذي أثرى به ، ما لم تكن مسئوليته ناشئة عن عمل غير مشروع ( [1694] ) ويستخلص من ذلك أن الفضولي إذا كان كامل الأهلية ، كان من وليته كاملة عن الالتزام يبذل العناية الواجبة في القيام بأعمال الفضالة وعن الالتزام بتقديم حساب عن إرادته ، أما إذا كان ناقص الأهلية ، فلا يكون مسئولاً إلا بقدر الذي أثرى به . فإذا ارتكب خطأ في الفضالة ، أو فصر في تقديم الحساب لرب العمل ، أو لم يسلمه ما استولي عليه بسبب الفضالة ، وأصاب رب العمل ضرر من جراء ذلك ، فلا يكون الفضولي ناقص الأهلية مسئولاً إلا في حدود الإثراء بلا سبب ، ولا يلتزم إلا بأقل القيمتين : ما انتفع به فعلاً وما أصاب رب العمل من ضرر . كل هذا لم يرتكب الفضولي خطأ تقصيرياً خارجاً من أعمال الفضالة - وقد ميزنا فيما تقدم بين الخطأ التقصيري والخطأ في الفضالة - فتكون مسئولية الفضولي عن الخطأ التقصيري مسئولية كاملة حتى لو كان ناقص الأهلية .
ويستخلص مما قدمناه عن الأهلية في دعوى الإثراء بلا سبب وفي دعوى غير المستحق وفي دعوى الفضالة ، أن المثري لا تشترط فيه أية أهلية ، فهو يلتزم بالإثراء حتى لو كان ناقص الأهلية بل حتى لو كان عديم التمييز . أما المدفوع له في دعوى غير المستحق ، أو الفضولي في دعوى الفضالة ، فيشترط فيه كمال الأهلية ، وإلا لم يكن مسئولاً إلا في حدود الإثراء بلا سبب .
ب - أثر موت الفضولي أو موت رب العمل في التزامات الفضولي :
888 - النصوص القانونية : تنص المادة 194على ما يأتي :
" 1 - إذا مات الفضولي التزم ورثته بما يلتزم به ورثة الوكيل طبقاً لأحكام المادة717
فقرة 2 " .
" 2 - وإذا مات رب العمل بقى الفضولي ملتزماً نحو الورثة بما كان ملتزماً به نحو مورثهم ( [1695] ) " .
وتنص المادة 717 فقرة 2 على ما يأتي :
" وفي حالة انتهاء الوكالة بموت الوكيل يجب على ورثته ، إذا توافرت فيهم الأهلية وكانوا على علم بالوكالة ، أن يبادروا إلى إخطار الموكل بموت مورثهم ، وأن يتخذوا من التدبيرات ما تقتضيه الحال لصالح الموكل " .
يخلص من هذه النصوص أنه يجب التمييز بين فرضين : موت الفضولي وموت رب العمل .
889 - موت الفضولي " تنقضي الفضالة بموت الفضولي كما تنقضي الوكالة بموت الوكيل ، وبذلك تنقضي التزامات كل من الفضولي والوكيل ، أما ورثة الفضولي فيلتزمون التزاماً شخصياً مباشراً بما تلتزم به ورثة الوكيل . وهؤلاء ، إذا توافرت فيهم الأهلية وكانوا على علم بالوكالة ، يلتزمون بالمبادرة إلى إخطار الموكل بموت الوكيل ، وباتخاذ التدبيرات المناسبة لصالح الموكل تبعاً لما تقتضيه الحال بموت الموكل ، وباتخاذ التدبيرات المناسبة لصالح الموكل تبعاً لما تقتضيه الحال . بذلك أيضاً تلتزم ورثة الفضولي إذا كانوا كاملي الأهلية وعلى علم بالفضالة . فعليهم أن يخطروا رب العمل بموت مورثهم . وعليهم أيضاً أن يحافظوا على ما تم من عمل بأن يصلوا به إلى حالة لا يتعرض معها للتلف حتى يتمكن رب العمل من أن يباشر العمل بنفسه .
890 - موت رب العمل : هنا تختلف الفضالة عن الوكالة . فالوكالة تنقضي بموت الموكل ( م 714 ) ، ومتى انقضت وجب على الموكل أن يصل بالأعمال التي بدأها إلى حالة لا تتعرض معها للتلف ( م 717 فقرة 1 ) . أما الفضالة فلا تنقضي بموت رب العمل ، بل يبقى الفضولي قائماً بالتزامات نحو الورثة كما كان قائماً بها نحو رب العمل . ولا يكفي أن يصل الفضولي بالأعمال التي بدأها إلى حالة لا تتعرض معها للتلف ، كما تفعل ورثة الوكيل وكما نفعل ورثته إذا مات هو ، بل يجب عليه أن يستمر في العمل لصالح ورثة رب العمل الذين حلوا محل مورثهم .
والسبب في أن الفضالة لا تنتهي بموت رب العمل أن موقف الفضولي من ورثة رب العمل هو عين موقفه من رب العمل نفسه ، فهو فضولي بالنسبة إليهم كما كان فضولياً بالنسبة إلى مورثهم . فلا معنى لانقضاء الفضالة بموت رب العمل . وهذا بخلاف الوكالة ، فإن العلاقة بين الوكيل والموكل علاقة شخصية قامت على اتفاق بينهما ، فإذا مات الموكل لم يجيز الوكيل على البقاء في علاقة شخصية مع ورثة لم يتفق معهم على هذه العلاقة . أما أن كلا من الفضالة والوكالة تتقضى بموت الفضولي أو الوكيل ، فذلك لأن الفضولي أو الوكيل هو الذي يقوم بالعمل ، فلا محل لإلزام الورثة بما التزم به مورثهم .
ج - تقادم التزامات الفضولي :
891 - تنص المادة 197 على أنه " تسقط الدعوى الناشئة عن الفضالة بانقضاء ثلاث سنوات من اليوم الذي يعلم فيه كل طرف بحقه وتسقط كذلك في جميع الأحوال بانقضاء خمس عشرة سنة من اليوم الذي ينشأ فيه هذا الحق " ( [1696] ) .
ويستخلص من هذا النص أن الفضولي إذا لم يقم بالتزامات ، بأن لم يمض في العمل أو لم يخطر رب العمل بتدخله أو لم يبذل العناية الواجبة أو لم يقدر حساباً عن عمله ، فإن العمل يستطيع مقاضاته ليلزمه بتنفيذ التزاماته هذه عيباً أو بطريق التعويض .
وتسقط هذه الدعوى الناشئة عن الفضالة بأقصر المدتين : ثلاث سنوات من اليوم الذي يعلم فيه رب العمل بحقه . أو خمس عشرة سنة من وقت نشوء هذا الحق . ومدة التقادم هذه هي عينها مدة التقادم في دعوى الإثراء بلا سبب وفي دعوى غير المستحق .
ونثير هنا إلى ما سبق أن قررناه في الدعويين الأخيرتين ، من أن التقادم بثلاث سنوات يتم غالباً قبل التقادم بخمس عشرة سنة . ولكن قد يقع أن رب العمل لا يعلم بحقه إلا بعد مدة طويلة ، إذا فرضناها أكثر من اثنتي عشرة سنة ، فإن الدعوى تتقادم في هذه الحالة بخمس عشرة سنة من وقت قيام التزام قبل تقادمها بثلاث سنوات من وقت علم رب العمل بحقه في الرجوع على الفضولي .
المطلب الثاني
التزامات رب العمل
892 - ما هي هذه الالتزامات وما هو مصدرها : تنص المادة 195 على أنه " يعتبر الفضولي نائباً عن رب العمل متى كان قد بذل في إرادته عناية الشخص العادي ولو لم تتحقق النتيجة المرجوة . وفي هذه الحالة يكون رب العمل ملزماً بأن ينفذ التعهدات التي عقدها الفضولي لحسابه ، وأن يعوضه عن التعهدات التي التزم بها ، وأن يرد له النفقات الضرورية والنافعة التي سوغتها الظروف مضافاً إليها فوائدها من يوم دفعها ، وأن يعوضه عن الضرر الذي لحقه بسبب قيامه بالعمل . ولا يستحق الفضولي أجراء على عمله إلا أن يكون من أعمال مهنته " ( [1697] ) .
ويتبين من هذا النص أن رب العمل تترتب في ذمته التزامات أربعة :
1 - أن ينفذ التعهدات التي عقدها الفضولي بالنيابة عنه .
2 - أن يعوض الفضولي عن التعهدات التي عقدها هذا باسمه شخصياً .
3 - أن يرد إلى الفضولي النفقات الضرورية والنافعة التي سوغتها الظروف مضافاً إليها فوائدها من يوم دفعها ، وبأن يدفع له أجراً على عمله إذا كان العمل الذي قام به الفضولي يدخل في أعمال مهنته .
4 - أن يعوض الفضولي عن الضرر الذي لحقه بسبب قيامه بالعمل .
بقى أن نبين مصدر هذه الالتزامات الأربعة . فأول التزام منها - وهو الالتزام بتنفيذ التعهدات التي عقدها الفضولي بالنيابة عن رب العمل - مصدره النيابة القانونية . وهي نيابة أنشأها القانون بصريح العمل متى كان قد بذل في إرادته عناية الشخص العادي ولو لم تتحقق النتيجة المرجوة " .
والالتزامات الثلاثة الأخيرة – تعويض الفضولي عن التعهدات التي عقدها باسمه ، ورد النفقات والأجر ، وتعويضه عن الضرر - مصدرها الإثراء بلا سبب . ومن هنا تتصل الفضالة بقاعدة الإثراء . ذلك أن الفضولي بما أداه من مصلحة لرب العمل قد تحمل تكاليف وتكبد نفقات وتجشم ضرراً ، فله أن يسترد هذه التكاليف وأن يسترجع هذه النفقات وأن يعوض عن هذا الضرر . وهو يسترد ما غرمه كاملاً ، لا في حدود إثراء رب العمل فحسب . وفي هذا يتميز الفضولي عن المفتقر لمصلحة الغير ، لأن الفضولي متفضل انصرفت نيته إلى تحقيق مصلح لرب العمل كما قدمنا .
ونستعرض ( أولاً ) التزامات رب العمل الأربعة ( ثانياً ) ما تشترك فيه هذه الالتزامات من أحكام ، تتعلق بأهلية رب العمل ، وبالأثر الذي يترتب على موت رب العمل أو موت الفضولي ، وبتقادم هذه الالتزامات .
التزامات رب العمل الأربعة
1 . الالتزام الأول - تنفيذ التعهدات التي عقدها الفضولي بالنيابة عنه :
893 - رأينا أن الفضولي قد يعقد تصرفاً قانونياً بالنيابة عن رب العمل فإذا كانت أركان الفضالة متوافرة في هذه الحالة ، فإن الفضولي يعتبر نائباً عن رب العمل . وهذه النيابة قانونية تقررت بنص في القانون كما رأينا ، بخلاف نيابة الوكيل عن الموكل فهي نيابة اتفاقية تقررت بعقد الوكالة . وينبني على ذلك أن العقود التي يبرمها الفضولي بالنيابة عن رب العمل ينصرف أثرها مباشرة إلى رب العمل ، في الحقوق التي أنشأتها وفي الالتزامات التي رتبتها ، فيعتبر رب العمل هو الدائن في هذه العقود أو المدين . وباعتباره مديناً يلتزم كما قلنا بتنفيذ الالتزامات التي رتبتها هذه العقود . ومن ثم نرى أن هذا الالتزام الأول إنما هو النتيجة المباشرة لفكرة النيابة التي تقوم عليها الفضالة ( [1698] ) .
ب - الالتزام الثاني - تعويض الفضولي عن التعهدات التي عقدها هذا باسمه شخصياً :
894 - قدمنا أن الفضولي قد يتعاقد باسمه شخصياً لمصلحة رب العمل فقد يتفق شخصياً مع مقاول لإصلاح منزل لرب العمل . فينشئ عقد المقاولة في ذمة الفضولي التزامات نحو المقاول . فيلتزم رب العمل في هذه الحالة أن يعوض الفضولي عن هذه الالتزامات . وإذا كان الفضولي هو الذي يؤديها للمقاول ، فإنه يرجع بما يؤديه على رب العمل ، مضافاً إليه الفوائد بالسعر القانوني ( 4في المائة ) من يوم أن أدى ، ذلك أن الالتزامات التي أداها تعتبر نفقات ترد بفوائدها على ما سنرى .
كذلك الكفيل إذا كان فضولياً بالنسبة إلى المدين الأصلي ، فكفله متطوعاً . لا مأموراً بالكفالة ولا منهياً عنها ، يلتزم التزاماً شخصياً نحو الدائن بأن يوفي له الدين إذا لم يوفه المدين الأصلي . فإذا أدى الدين للدائن ، رجع بدعوى الفضالة على المدين بما أداه ، مضافاً إليه المصروفات والفوائد القانونية ( [1699] )
جـ . الالتزام الثالث – رد النفقات الضرورية والنافعة ودفع الأجر :
895 - النفقات الضرورية والنافعة : يلتزم رب العمل أن يرد للفضولي " النفقات الضرورية والنافعة التي سوغتها الظروف ، مضافاً إليها فوائدها من يوم دفعها " . فإذا قام الفضولي بترميم منزل لرب العمل ، فإنه ينفق في ترميمه مصروفات ضرورية . وإذا ما جنى له محصولاً يسرع إليه التلف ، فإنه يدفع أجر الأيدي العاملة لجني المحصول ، وقد يرى من الخير أن يخزن المحصول تمهيداً لبيعه . فيدفع مصروفات التخزين ، وهذه المصروفات الضرورية ، والمصروفات النافعة التي سوغتها الظروف ( [1700] ) ، يرجع بها الفضولي على رب العمل . بل ويرجع بفوائد ما أنفق بالسعر القانوني ( 4 في المائة ) من وقت الإنفاق وفي هذا استثناء من القواعد العامة تقرر لمصلحة الفضولي ، فإن الفوائد القانونية لا تستحق طبقاً لهذه القواعد إلا من وقت المطالبة القضائية ( [1701] ) . ويلاحظ أن المصروفات النافعة يجب ألا تكون فاحشة ، فلا يجوز للفضولي أن يفرط في هذه المصروفات حتى لو كان النفع منها محققاً ، بل يجب أن يقف في هذا عند حد معقول لا يثقل كاهل رب العمل عند الرجوع عليه بها ( [1702] ) .
ويلاحظ أن التزام رب العمل في رد النفقات إلى الفضولي يعدل التزام الموكل في رد النفقات إلى الوكيل . وقد قررت المادة 710 هذا الالتزام الأخير على الوجه الآتي : " على الموكل أن يرد للوكيل ما أنفقه في تنفيذ الوكالة التنفيذ المعتاد مع الفوائد من وقت الإنفاق ، وذلك مهما كان حظ الوكيل من النجاح في تنفيذ الوكالة " .
896 - الأجر : ويدخل ضمن النفقات أجر الفضولي إذا كان العمل الذي قام به يدخل في أعمال مهنته . فالمحامي والطبيب والمهندس إذا قام أحد منهم بعمل من أعمال مهنته فضالة لمصلحة الغير استحق أجراً على عمله ، فوق المصروفات التي أنفقها ، هو الأجر المعتاد لمثله .
أما إذا كان الفضولي قد قام بعمل لا يدخل في أعمال مهنته ، كطبيب رمم منزل جار له ، فإنه يأخذ أجراً على عمله ، ويقتصر على استرداد المصروفات الضرورية والنافعة على النحو الذي قدمناه ( [1703] ) .
ويلاحظ أن الوكيل كالفضولي لا يستحق في الأصل أجراً على عمله . وهو كالفضولي أيضاً في أنه قد يستحق الأجر إذا كانت أعمال الوكالة داخلة في أعمال مهنته . ويختلف عن الفضولي في أنه قد يتفق مع الموكل على أجر ، ولا يتصور هذا الاتفاق في حالة الفضولي مع رب العمل . وفي هذا المعنى تقول الفقرة الأولي من المادة 709 : " الوكالة تبرعية ما لم يتفق على غير ذلك صراحة أو يستخلص ضمناً من حالة الوكيل " .
د . الالتزام الرابع - تعويض الفضولي عن الضرر الذي لحقه :
897 - قد يلحق الفضولي ضرر أثناء قيامه بالعمل؛يطفئ حريقاً فيتلف أمتعة مملوكة له ، شخصاً موشكاً على الغرق فيصاب بضرر وهو ينفذه ، يمسك بزمام فرس جامح فيصاب بجروح بليغة فإذا كان الضرر الذي أصابه لم يكن يستطيع أن يتوقاه ببذل المألوف من العناية ، وكان وقوعه عليه بغير خطأ منه ، فإنه يدخل ضمن التكاليف التي تجشمها أثناء القيام بعمله ، ويكون من حقه أن يرجع على رب العمل بتعويض عنه ( [1704] ) .
ٍويلاحظ أن حق الفضولي في تقاضي تعويض عما يصيبه من الضرر يعدل حق الوكيل في ذلك . وقد نصت المادة711 على أنه " يكون الموكل مسئولاً عما أصاب الوكيل من ضرر دون خطأ منه بسبب تنفيذ الوكالة تنفيذاً معتاداً " . ويلاحظ أيضاً أنه إذا تعدد رب العمل ، بأن قام فضولي مثلاً بعمل لمصلحة شركاء على الشيوع ، فلا تضامن بين أرباب العمل المتعددين في التزاماتهم نحو الفضولي ، إذ لا تضامن دون نص . وقد ورد النص في تعدد الفضولي ( م 192فقرة 3 ) ، وفي تعدد الوكيل ( م 707 ) ، وفي تعدد الموكل ( م 712 ) ، ولم يرد في تعدد رب العمل . والعلة في ذلك أن أرباب العمل إذا تعدوا قل أن توجد بينهم علاقة تسوغ قيام التضامن .
2 - ما تشترك فيه التزامات رب العمل من أحكام
( أهلية رب العمل - الأثر الذي يترتب على موت رب العمل أو موت الفضولي - تقادم التزامات رب العمل )
1 - أهلية رب العمل :
898 - لا تشترط أية أهلية في رب العمل . فمن لم يبلغ سن الرشد والمجحور عليه بل وغير المميز ، إذا قام فضولي بعمل لمصلحتهم ، التزموا نحوه بالالتزامات التي تقدم ذكرها . ذلك أن التزامات رب العمل مصدرها الإثراء بلا سبب كما قدمنا ، وقد رأينا أن المثري يلتزم برد ما أثرى حتى لو كان غير مميز . وتردد الفقرة الثانية من المادة 196هذا المعنى إذ تقول : " أما رب العمل فتبقى مسئوليته كاملة ولو لم تتوافر فيه أهلية التعاقد ( [1705] ) " .
ويصح أن يكون رب العمل شخصاً معنوياً ، كشركة أو جمعية أو مؤسسة أو جهة وقف
ويلاحظ أن الفضولي إذا عقد تصرفاً قانونياً باسم رب العمل نيابة عنه ، فإن الأهلية الواجبة لهذا التصرف يجب أن تتوافر في رب العمل حتى ينصرف إليه مباشرة أثر التصرف ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك
ب - أثر موت رب العمل أو موت الفضولي في التزامات رب العمل :
899 - لم يرد نص يبين موت رب العمل أو موت الفضولي في التزامات رب العمل ، كما ورد النص الذي يبين هذا الأثر في التزامات الفضولي ( م 194 ) . فيجب هنا تطبيق القواعد العامة ، وتطبيقها يؤدي إلى النتائج الآتية :
إذا مات رب العمل فإن التزاماته تبقى في تركته واجبة للفضولي ، على ورثة رب العمل أن يؤدوا هذه الالتزامات من التركة .
وإذا مات الفضولي ، بقى رب العمل ملتزماً نحو ورثته . فيرد إليهم المصروفات الضرورية والنافعة وأجر الفضولي إذا استحق أجراً ، ويعوضهم عن الالتزامات الشخصية التي عقدها الفضولي باسمه وعما لحق به من الضرر وكل هذه الحقوق تدخل في تركة الفضولي وتنتقل إلى ورثته بعد موته .
جـ – تقادم التزامات رب العمل :
900 - سبقت الإشارة إلى المادة 197 ، وهى تنص على سقوط الدعوى الناشئة عن الفضالة بانقضاء ثلاث سنوات من اليوم الذي يعلم فيه الفضولي بحقه ، وبانقضاء خمس عشرة سنة من اليوم الذي ينشأ فيه حق الفضولي . فالدعوى التي يرفعها الفضولي لمطالبة رب العمل بحقوقه ، من استرداد المصرفات والتعويض والأجر وما إلى ذلك ، تتقادم بأقصر مدتين : ثلاث سنوات من وقت علمه بقيام حقه أو خمس عشرة سنة من وقت علمه بقيام حقه أو خمس عشرة سنة من وقت قيام هذا الحق وقد تتقادم الدعوى بخمس عشرة سنة قبل تقادمها بثلاث سنوات إذا لم يعلم الفضولي بقيام حقه إلا بعد نشوء هذا الحق بأكثر من اثنتي عشرة سنة . وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في مواطن متعددة .
أما في الوكالة فلا تتقادم التزامات كل من الموكل والوكيل إلا بانقضاء خمس عشرة سنة من وقت نفاذ هذه الالتزامات ، لأنها تعاقدية تقوم على إدارة المتعاقدين ( [1706] ) .
تمهيد
901 - النصوص القانونية : تنص المادة 198من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" الالتزامات التي تنشأ مباشرة عن القانون وحده تسرى عليها النصوص القانونية التي أنشأتها " ( [1707] ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في نظرته العامة في هذا الصدد ما يأتي : " أوجز المشروع إيجازاً بيناً فيما يتعلق بالالتزامات التي تصدر عن نص القانون مباشرة . وقد حداه على ذلك ما هو ملحوظ في ترتيب هذه الالتزامات وتنظيمها ، فكل التزام منها يتكفل ذات النص المنشئ له بتعيين مضمونه وتحديد مداه . فرجعها جميعاً أحكام التشريعات الخاصة بها " ( [1708] ) .
902 - كيف يكون القانون مصدر مباشراً للالتزام : كل التزام مصدره القانون . فالالتزام المترتب على الإثراء بلا سبب كل هذه التزامات مصدرها القانون ، لأن القانون هو الذي جعلها تنشأ من مصادرها ، وحدد أركانها ، وبين أحكامها . ولكن هذه الالتزامات لها مصدر مباشر ، هو الذي رتب عليه القانون إنشاءها . فقد جعل القانون الالتزام ينشأ من مصادر مباشرة ثلاثة ( 1 ) تطابق إرادتين : فكل اتفاق بين المدين والدائن على إنشاء التزام ، في الحدود التي بينها القانون ، ينشئ هذا الالتزام . يكون مصدره المباشر هو العقد ، والقانون مصدره غير المباشر .
( 2 ) عمل غير مشروع يلحق ضرراً بالغير : فكل خطأ يصدر من شخص . ويلحق ضرراً بشخص آخر ، يلزم من ارتكب الخطأ بتعويض الضرر . ويكون المصدر المباشر للالتزام بالتعويض هو العمل غيرالمشروع . القانون مصدره غير المباشر . ( 3 ) إثره دون سبب : فكل إثراء أصابه شخص نتيجة مباشرة لافتقار شخص آخر ، ولم يكن للإثراء مصدر قانوني يستنذ إليه ، يلزم المثري بتعويض المفتقر . والمصدر المباشر للالتزام بالتعويض هنا هو الإثراء دون سبب . والقانون مصدره غير المباشر .
" يلاحظ في هذه المصادر المباشرة للالتزام – العقد والعمل غير المشروع والإثراء دون سبب - أن القانون اختار عملاً قانونياً . هو العقد . وعملين ماديين ، هما العمل غير المشروع والإثراء دون سبب وجعل هذه الأعمال الثلاثة مصادر عامة للالتزام . دون تمييز بين حالة وحالة . فالعقد مصدر عام للالتزام . سواء كان العقد بيعاً أو هبة أو قرضاً أو إيجاراً أو عارية أو وكالة أو غير ذلك من العقود المسماة . وسواء كان العقد مسمى أو غير مسمى ، وأيا كان الالتزام الذي ينشأ من عقد معين ولم يخص القانون حالة دون حالة في جعله العقد مصدراً للالتزام . والعمل غير المشروع مصدر عام للالتزام يستوي في ذلك أن يكون هذا العمل حادثاً من حوادث النقل ، أو حادثاً من حوادث العمل . أو خطأ في أعمال المهنة ، أو عملاً يخل بالشرف والاعتبار ، أو منافسة غير مشروعة ، أو تعسفاً في استعمال الحق ، أو غير ذلك من الأعمال غير المشروعة . ولم يجعل القانون العمل غير المشروع مصدراً للالتزام في حالات دون أخرى ، بل جعله مصدراً عاماً يتناول جميع هذه الحالات . والإثراء دون سبب مصدر عام للالتزام ، لا فرق في ذلك بين إثراء إيجابي وإثراء سلبي . ولا بين افتقار إيجابي وافتقار سلبي ، ولا بين قيمة مادية وقيمة معنوية . ولا تمييز بين القاعدة العامة وتطبيقاتها الخاصة من دفع غير مستحق وعمل الفضولي . ولم يقصر القانون الإثراء دون سبب كمصدر للالتزام على حالة من هذه الحالات دون حالة . بل عممه عليها جميعاً . وجعله فيها كلها مصدراً للالتزام .
والي جانب هذه المصادر المباشرة يختار القانون حالات خاصة . ويرتب في كل حالة منها التزاماً ، يستند حقاً إلى عمل قانوني أو إلى عمل مادي ، ولكن يستند إليه لا كمصدر عام ينشئ الالتزام في هذه الحالة وفي غيرها من الحالات وحدها دون غيرها . وهنا إذا قيل إن العمل القانوني أو العمل المادي هو مصدر الالتزام في هذه الحالة الخاصة كان هناك شئ من التجوز ، فالواقع أن القانون ذاته هو المصدر المباشر لهذا الالتزام . إذ أنشأه ، لا عن طريق نص عام بل بنص خاص عين هذه الحالة بالذات . وحدد نطاقها . ورسم مداها ، ورتب عليها حكمها . فالنص القانوني – لا العمل القانوني ولا العمل المادي – هو المصدر المباشر للالتزام ( [1709] ) .
فعل القانون ذلك في بعض الوقائع المادية وفي بعض الأعمال القانونية ، فعين حالات خاصة ، بعضها يستند إلى واقعة مادية وبعضها يستند إلى عمل قانوني ، وأنشأ في هذه الحالات التزامات قانونية هو مصدرها المباشر . أما الحالات الخاصة التي تستند إلى واقعة مادية ، منها التزامات الأسرة والتزامات الجوار والتزامات الفضولي والتزام حائز الشيء بعرضه إذا كان محلاً للنزاع ( [1710] ) . وأما الحالات الخاصة التي تستند إلى عمل قانوني ، فهذه كلها تستند إلى الإدارة المنفردة ( voionte unilaterale ) ، كالإيجاب الملزم و أو عند بجائز ( [1711] ) ويستخلص من ذلك أمران ( أولاً ) أن القانون هو المصدر المباشر لبعض الالتزامات . ومن ثم لا سبيل إلى تحديد هذه الالتزامات القانونية إلا بالنص . فالنص القانوني وحده هو الذي ينشئ هذه الالتزامات ، وهو مصدرها الوحيد . ( ثانياً ) والنص وحده هو أيضاً الذي يتكفل بتعيين أركان الالتزام القانوني وببيان أحكامه .
ونبحث كلا من هاتين المسألتين .
المبحث الأول
النص هو الذي ينشئ الالتزام القانوني
903 - هل هناك سياسة تشريعية توخاها القانون في إنشاء الالتزامات القانونية :
رأينا أن المصدر المباشر للالتزامات القانونية هو القانون ذاته ، فلا توجد وسيلة إلى معرفة الالتزامات القانونية وتحديدها إلا الرجوع إلى النصوص القانونية . فأينما نجد نصاً ينشئ التزاماً ، فثم التزام قانوني . وقد يبدو أن الالتزامات القانونية ، وقد وكل أمر إنشائها إلى النصوص ، تخلقها هذه النصوص تحكماً ، دون أن تكون هناك في إنشائها سياسة مرسومة . فحيث يستحسن المشرع إنشاء التزام قانوني ، أنشأ هذا الالتزام بنص تشريعي . وهذا هو الظاهر . ولكن الواقع من الأمر أن المشرع يخضع في إنشاء الالتزامات القانونية ، كما يخضع في إنشاء سائر العلاقات القانونية ، إلى سنن طبيعية يطيعها عن شعور أو عن غير شعور .
ونبين كيف يخضع المشرع لهذه السنن الطبيعية في إنشاء الالتزامات القانونية .
المطلب الأول
الالتزامات القانونية التي تستند إلى الوقائع المادية
904 - الالتزامات السلبية : بديهي أن الإنسان يلتزم بإرادته في الحدود التي يسمح بها القانون . فالالتزام الإداري لا عناء في تبريره . وحيث يوجد التزام ر يقوم على الإدارة ، فالقانون هو الذي أوجده .
والقانون في إنشائه للالتزامات غير الإدارية يدخل في حسابه اعتبارات أدبية واجتماعية . ولكنه لا يستطيع أن ينقاد لهذه الاعتبارات وحدها ، بل يجب عليه أن يراعي اعتبارات أخرى في الصياغة القانونية ، أهمها أنه لا يستطيع أن يصوغ التزاماً مبهماً غير محدد ، أيا كانت المبررات الأدبية والاجتماعية لإنشائه . فهو لا يستطيع أن ينشئ التزاماً إيجابياً يفرض على كل شخص أن يساعد غيره او أن يغيثه عند الحاجة . مثل هذا الالتزام غير المحدد مقضي عليه أن يبقى في دائرة الآداب والاجتماع . ويتناول القانون في رفق بعض نواحيه ، فيبرر منها ما يتمكن من تحديده ، ويصوغه التزامات قانونية ، فينتقل بذلك من عالم الأخلاق والاجتماع إلى عالم القانون .
وأول ما استطاع القانون أن يفعل ذلك كان في الالتزامات السلبية ، لأنها أسهل تحديداً وأخف عبئاً وأظهر حاجة . فأوجد التزامين قانونيين أخذ بهما الناس كافة . قال في الأول منهما : لا تضر بالغير دون حق ، فوجد العمل غير المشروع مصدراً عاماً للالتزام . وقال في الثاني : لا تثر على حساب الغير دون سبب ، فوجد الإثراء دون سبب مصدراً عاماً آخر .
وهنا وقف القانون . ولم يستطع أن يخطو خطوة ثالثة ليضع قاعدة عامة كالقاعدتين الأوليين . ذلك أنه كان يقرر في هاتين القاعدتين التزامات سلبية . فإذا هو خرج من المنطقة السلبية إلى المنطقة الإيجابية ، ومن النهي عن الإضرار والإثراء إلى الأمر بالمعاونة والمساعدة ، فثم العسر والتحكم ، إذ تختلط الحدود ، وتنبهم الضوابط .
905 - الالتزامات الإيجابية : على أن القانون لم يسعه أن يقف عند هذه الحدود السلبية ، بل تقد إلى المنطقة الإيجابية ولكن في كثير من الأناة . وإذا كان قد استطاع كما قدمنا أن يقول في عبارة عامة : لا تضر بالغير ، ولا تثر على حساب الغير ، فإنه لم يستطع أن يقول : ساعد الغير ، في عبارة لها ذات العموم والشمول . قال :ساعد الغير ، ولكن في مواطن معينة رسم حدودها وأحكم ضوابطها .
فبدأ بمن ساعد الغير فعلاً من تلقاء نفسه - الفضولي - وقال له عليك أن تمضى في عملك ما دمت قد بدأته ، وعليك أن تبذل فيه عناية محمودة . وعليك أن تقدم عنه حساباً . هذه هي الالتزامات القانونية التي ترتبها النصوص في ذمة الفضولي ، ومصدرها القانون كما سبق أن قررنا . ثم سار خطوة أوسع ، وأوجب مساعدة الغير ابتداء . ولكنه لم يستطيع أن يرسم في ذلك التزامات محدودة إلا في نطاق محدود الأسرة وأفرادها يتصل بعضهم ببعض أوثق الاتصال ، ونطاق الجيران والصلة فيما بينهم قائمة موطدة ، ونطاق أصحاب المهنة ، ونطاق الجمعيات والنقابات ، بل نظر في حالات نادرة إلى الأمة كجماعة واحدة وأوجب على أفرادها التزامات قانونية نحو المجموع أي نحو الدولة .
أما في نطاق الأسرة ، فقد أنشأ التزامات قانونية مختلفة . من ذلك التزامات الزوجية ، والالتزامات ما بين الأبوين والأبناء ، والالتزامات المتعلقة بالولاية والوصاية والقوامة ، والالتزام بالنفقة ، وغير ذلك من التزامات الأسرة . وكلها تقوم على التضامن الواجب فيما بين أفرادها .
أما في نطاق الجوار ، فهناك التزامات سلبية ، كوجوب الامتناع عن إحداث مضار فاحشة للجيران ، وعدم الإطلال على الجار من مسافة معينة وهناك التزامات إيجابية ، كالتزام الجار نحو جاره في الشرب والمجرى والمسيل والمرور ، وكالالتزامات التي تنشأ بسبب ملكية الطبقات في المبنى الواحد .
وفي نطاق المهنة ، أوجد القانون في ذمة رب العمل التزامات نحو عماله في تعويضهم عن مخاطر العمل ، وأوجد في ذمة أصحاب المهنة الواحدة التزامات نحو عملائهم فيحتفظون بأسرار المهنة ويبادرون إلى إسعاف من يحتاج إلى معونتهم ، ويتخرطون في سلك هيئة واحدة .
وفي نطاق الجمعيات والنقابات ، أنشأ التزامات مختلفة في ذمة أعضاء هذه الجمعيات والنقابات تقوم على التعاون فيما بينهم .
ونظر القانون إلى الأمة كجماعة واحدة ، فأنشأ التزامات في ذمة أفرادها نحو الدولة ، أهمها الالتزام بدفع الضرائب .
والقانون في كل ما قدمناه يتوخى سياسة واحدة : لا ينشئ التزاماً قانونياً إلا وهو يقوم على التضامن الاجتماعي ، ثم يكون هذا الالتزام محدد المعالم . معروف المدى ، منضبط الحدود . وقد ترك التعميم إلى التخصيص مد جاوز النطاق السلبي إلى النطاق الإيجابي ، فانتقل من الالتزامات العامة التي يكون مصدرها المباشر واقعة مادية ، إلى التزامات قانونية محددة تقوم مباشرة على نصوص قانونية خاصة .
المطلب الثاني
الالتزامات القانونية التي تستند إلى الإدارة المنفردة ( ( [1712] ) )
906 - هل تستطيع الإرادة المنفردة أن تفشي التزاماً ( [1713] ) : رأينا فيما تقدم أن العقد ، وهو تطابق إرادتين ، يعتبر مصدراً عاماً للالتزام ، فيما هي قيمة الإدارة المنفردة ، وهل تستطيع أن تنشئ التزاماً ؟ وإذا كانت تنشئ الالتزام ، فهل هي كالعقد مصدر عام للالتزام ، أو أن القانون يقتصر على الاستناد إليها لإنشاء التزامات قانونية محدودة بمقتضى نصوص قانونية خاصة؟
لاشك في أن الإرادة المنفردة ، وهي عمل قانوني صادر من جانب وأحد ( acte juridique unilatereal ) ، تنتج آثاراً قانونياً مختلفة فقد تكون سبباً لكسب الحقوق العينية كالوصية ، وسبباً لسقوطها كالنزول عن حق ارتفاق أو حق رهن ، وقد تثبت حقاً شخصياً ناشئاً عن عقد قابل للإبطال كالإجازة ، وقد تجعل عقداً يسري على الغير كالإقرار ، وقد تنهى رابطة عقدية كعزل الوكيل أو نزوله عن الوكالة . أما بالنسبة إلى إنشاء الحق الشخصي ( الالتزام ) أو إسقاطه ، فالإرادة المنفردة في القانون المدني الجديد تسقط الحق الشخصي بالإبراء ( م 371 ) ، وبقي أن نعرف هل هي أيضاً تنشئ الحق الشخصي؟ وقبل أن نعالج هذه المسألة في القانون المدني الجديد ، نستعرض فيها نظريتين متعارضتين . فالنظرية الفرنسية تذهب إلى أن الالتزام الذي يتولد عن عمل قانوني لا يكون مصدره إلا عقداً أي توافق إرادتين ، أما الإرادة المنفردة فلا تولد التزاماً . وهذه قاعدة ورثها القانون الفرنسي من تقاليد القانون الروماني والقانون الفرنسي القديم ، وأصبحت من القواعد المتفق عليها فقها وقضاء في فرنسا ( [1714] ) وفي مصر في عهد القانون القديم ( [1715] ) . ولكن نظرية ألمانية ذهبت إلى أن الإرادة المنفردة تنشئ التزاماً . وعلى رأس القائلين بهذه النظرية من الفقهاء الألماني سيجل ( sieget ) ، فقد ذهب إلى أن تقاليد القانون الحرماني تساعد على الاعتراف بتوليد الإرادة المنفردة للالتزام ، فمن يتعاقد إنما يلتزم بالإرادة الصادرة منه لا بتوافق هذه الإرادة معم إرادة المتعاقد الآخر ، ورتب على ذلك أن الإيجاب وحده ملزم ، فلا يستطيع من صدر منه الإيجاب أن يعدل عنه . وقد انتصر لهذه النظرية غير سيجل من الفقهاء الألمان كثيرون ( [1716] ) ، وساير الفقهاء الألمان بعض الفقهاء الفرنسيين ( [1717] ) . ويستند أنصار النظرية الألمانية إلى الحجج الآتية ( 1 ) القول بضرورة توافق إرادتين لإنشاء التزام يسد الباب دون ضروب من التعامل يجب أن يتسع لها صدر القانون . فلا يمكن بغير الإرادة المنفردة أن نفسر كيف يستطيع شخص لها صدر القانون . فلا يمكن بغير الإرادة المنفردة أن نفسر كيف يستطيع شخص أن يلزم نفسه بعرض يقدمه للجمهور ، أي لغير شخص معين وقد يكون الدائن غير موجود في الحال ولكنه سيوجد في المستقبل . أو يكون موجودا ولكن حال بينه وبين القبول حائل بأن مات قبل صدور القبول منه أو فقد أهليته ، ففي كل هذه الفروض ، وهي فروض تقع كثيراً في العمل ، لا يمكن القول بوجود الالتزام في ذمة المدين إذا حتمنا توافق الإرادتين ، فالقول بجواز إنشاء الإرادة المنفردة للالتزام يرفع هذا الحرج . ( 2 ) من الصعب أن تتوافق إرادتان توافقاً تاماً . ولا يمكن التثبت من توافقهما إلا إذا تعاصرنا في لحظة واحدة ، وهذا مستحيل في التعاقد بالمراسلة . بل هو أيضاً مستحيل حتى إذا وجد المتعاقدان في مجلس واحد ، فإن أحد المتعاقدين لا بد أن يسبق الآخر في إظهار إرادته وهذا هو الإيجاب ، ثم يتلوه الآخر فيظهر القبول . فالإيجاب والقبول يتعاقبان ، فإذا أردنا التأكيد من أنهما يتعاصران فيتوافقان ، فلا بد من أن نفرض أن من صدر منه الإيجاب قد ثبت على إيجابه حتى اقترن بالإيجاب القبول ، وهذا محض فرض نأخذ به كما نأخذ بإرادة مفروضة تزعم أنها هي الإرادة الباطنة . والأولي أن نتجنب هذه الفروض وان نواجه الحقيقة كما هي ، فالملتزم بالعقد إنما يلتزم بإرادته هو لا يتوافق مع إرادة الدائن ، فهو يوجد حقاً في ذمته لشخص آخر بمجرد إعلان إرادته ، ورضاء الآخر بهذا الحق هو مجرد انضمام ( adhesion ) تطلبناه حتى لا يكسب الدائن حقاً دون إرادته . وقد لا تتوافق الإرادتان ومع ذلك يوجد العقد كما إذا عدل الموجب عن إيجابه وكان الطرف الآخر قد صدر منه القبول قبل أن يعلم بعدول الطرف الأول . ( 3 ) ثم أنه ليس في المنطق القانوني ما يمنع من أن يلتزم الشخص بإرادته ، فالإنسان حر في أن يقيد نفسه في الدائرة التي يسمح بها القانون ، بل أن سلطان الإرادة هنا أشد نفاذاً منه في نظرية توافق الإرادتين ، إذ الإرادة المنفردة تصبح قادرة وحدها على إيجاد الالتزام ، وهذا أقصى ما يصل إليه سلطانها . أما القول بوجوب توافق الإرادتين فبقية من بقايا الأشكال الغابرة التي كانت تحد من سلطان الإرادة ، فقديماً كانت الإرادة لا توجد أثراً قانونياً إلا إذا اقترنت بأشكال معقدة ، فقديماً كانت الإرادة لا توجد أثراً قانونياً إلا إذا اقترنت بأشكال معقدة ، ثم اندثرت هذه الأشكال حتى لم يبق منها اليوم إلا النادر ، وأصبحت الإرادة هي التي توجد الأثر القانوني الذي تتجه إليه ، فالواجب أن نصل في هذا التطور إلى غايته المنطقية ، وان نقول بأن للإرادة السلطان حتى لو لم تقترن بها إرادة أخرى . على أننا نتطلب رضاء الدائن حتى لا يكسب حقاً بالرغم منه ، ولكن هذا الرضاء لا يوجد الالتزام ، بل إن الالتزام ينشأ بمجرد صدور إرادة المدين .
ويعترض أنصار النظرية الفرنسية على النظرية الألمانية بما يأتي : ( 1 ) أن نظرية الإرادة المنفردة غير قائمة على أساس صحيح ، لأنه إذا أمكن فهم أن المدين يلتزم بإرادته المنفردة ، فلا يمكن أن يفهم كيف أن الدائن يصبح دائناً دون إرادته . فإذا قيل أن المدين يلتزم لغير دائن ، فما معنى هذا الالتزام وما قيمته؟ وإذا قيل أنه لا بد من إرادة الدائن حتى يصبح دائناً ، فهذا هو توافق الإرادتين ومنه ينشأ العقد ( 2 ) يقضى المنطق ذاته بعدم التسليم بنظرية الإرادة المنفردة . فإنه إذا قيل إن للإرادة المنفردة هذا السلطان ، وإن في مكنتها أن تولد التزاماً ، وجب القول أيضاً إنها تستطيع أن تقضي هذا الالتزام ، وما تستطيع الإرادة وحدها أن تستطيع وحدها أن تحله ، وبهذا يصبح التزام من التزم بإرادته المنفردة معلقاً على محض إرادته ، فيكون التزاماً منحلاً . ( 3 ) على أن نظرية الإرادة المنفردة مبنية على فروض غير صحيحة . فهي تفترض دائماً أن أحد المتعاقدين وزن الأمر قبل التعاقد ، وبت فيه بقرار نهائي ، وأعلن طفرة عن إرادته ، ولم يكن أمام الطرف الآخر إلا أن يقبل أو يرفض . مع أن الأمر غير ذلك . فالذي يقع في العمل عادة أن المتعاقدين يتفاوضان ، وما يزالان في أخذ ورد لا يستقل أحدهما بالأمر دون الآخر ، وكل إرادة تؤثر في الأخرى وتعدل من اتجاهها ، حتى تتوافق الإرادتان ، وعند ذلك يتم العقد . ومن هذا نرى أن إرادة الطرف الآخر ليست مجرد إقرار لإرادة الطرف الأول ، بل كثيراً ما تؤثر فيها ويتفاعلان حتى ينتج من تفاعلهما إرادة متحدة هي العقد ، فكلتا الإرادتين اشتركت في تكوين الالتزام ، ولم تستقل إحداهما بذلك كما يزعم أنصار نظرية الإرادة المنفردة . والآن بعد أن استعرضنا حجج الفريقين ، نفق قليلاً لتقدير مبلغ في نظرية الإرادة المنفردة من صحة . ونبدأ بملاحظة أن الاعتراضات التي يتقدم بها خصوم النظرية لا تصل من الخطر إلى حد أن تدك قواعدها . أما أن الدين لا يوجد دون دائن ، فقد قدمنا أن النظرية المادية تنظر إلى الالتزام كقيمة مالية أكثر منه رابطة شخصية ، ويترتب على هذا النظر أنه يمكن تصور دين دون دائن ما دام المدين موجوداً وقت نشوء الدين وما دام الدائن يوجد وقت تنفيذ الدين ولو لم يوجد قبل ذلك . أما القول بأنه إذا صح للإرادة المنفردة أن تنشئ التزاماً صح لها أيضاً أن تقضيه ، فهذا خلط بين أثر في العالم النفسي وأثرها في الروابط الاجتماعية . فإن الإرادة إذا أعلنت وعلم بها الغير فاطمأن إليها ، ولدت ثقة مشروعة يستطيع الناس الاعتماد عليها ، فوجب احترام هذه الحالة التي أوجدتها الإرادة المنفردة إذا عقدت التزاماً وحدها قد لا يستطيع وحدها أن تحله إذا حال دون ذلك وجوب استقرار التعامل . يبقى الاعتراض الثالث ، وهو أن العقد وليد مفاوضات تتفاعل فيها الإرادتان وتؤثر إحداهما في الأخرى . وهذا صحيح من الناحية النفسية أيضاً ، أما من الناحية الاجتماعية فمن الممكن أن نميز مرحلة تنتهي عندها هذه المفاوضات ويدخل الإيجاب في دوره النهائي ويصبح إيجاباً باتاً ولا شك في أن هذا الإيجاب البات قد أثرت فيه عوامل مختلفة قبل أن يصبح كذلك ، ومن أهم هذه العوامل إرادة الطرف الآخر ، ولكن لا شك أيضاً في أنه بعد أن أصبح إيجاباً باتاً صار منسوباً لإدارة من صدر منه ما دام قد ارتضاه في النهاية ، وعند ذلك يتحقق أن يكون أحد الطرفين قد تقدم بإرادة نهائية ليس للطرف الآخر إلا إقرارها . هذا إلى أن هناك أحوالاً كثيرة تقع في العمل ، يتقدم فيها أحد الطرفين بإيجاب بات لا تسبقه مفاوضات ومن ذلك ما يجري في عقود الإذعان .
فنحن لا نرى فيما تقدم من الاعتراضات على النظرية الألمانية ما يصلح لهدمها . ولكننا مع ذلك لا نعتقد أن الفرق كبير من الناحية العملية بين النظريتين الألمانية والفرنسية . ذلك أن الأساس المنطقي للنظرية الألمانية هو أن الإرادة قادرة على إلزام صاحبها ما دام يلتزم في دائرة القانون ، ولا حاجة أن تقترن إرادة الدائن بإرادة المدين حتى ينشأ الالتزام . ونحن لا نرى لماذا لا يكون هذا صحيحاً من الناحية المنطقية فحسب ، بل من الناحية القانونية أيضاً . وما دام القانون قد وصل في تطوره إلى أن يجعل للإرادة سلطاناً في إيجاد الآثار القانونية ، فلماذا يقف سلطان الإرادة دون إنشاء الالتزامات ! يستطيع المدين إذن أن يلتزم بإرادته المنفردة ، ولكنه يستطيع أيضاً ، وطبقاً لسلطان الإرادة ذاته ، أن يتحلل من التزامه بإرادة المنفردة ما دامت هذه الإرادة لم تولد ثقة مشروعة . فالالتزام الذي يعقده المدين بإرادته التزام محلول . وإلى هنا لا يوجد فرق كبير بين النظريتين الألمانية والفرنسية . فالنظرية الأولي ترى المدين قد أوجد التزاماً بإرادته المنفردة ولكنه التزام ينحل عنه في أي وقت شاء ، والنظرية الثانية ترى المدين لم يوجد بإرادته المنفردة أي التزام . ولا يوجد فرق عملي كبير بين التزام غير موجود والتزام موجود ولكن يمكن التحلل منه . بقى أن النظرية الألمانية لا تسمح للملتزم بإرادته المنفردة أن يتحلل من التزامه إذا ولدت إرادته ثقة مشروعة لا يجوز الإخلال بها . وهذا لا يتحقق إلا إذا فرضنا أن إرادة المدين قد ولدت عند شخص معين . هو الدائن . ثقة مشروعة جعلته يطمئن إلى العمل بمقتضى هذه الإرادة . فإذا تحقق هذا الفرض ، وألزمت النظرية الألمانية المدين بإرادته المنفردة ، جاز للنظرية الفرنسية أن تقول بالتزام المدين أيضاً ، ولكن لا بإرادته المنفردة ، بل بتوافق إرادته مع الإرادة الضمنية للدائن وهي إرادة تستخلص من اطمئنانه لإرادة المدين والنزول على مقتضاها في تصرفه وسواء كان سبب التزام المدين في هذه الحالة هي إرادته المنفردة كما يقول الألمان ، أو العقد كما يقول الفرنسيون ، فالنتيجة العملية واحدة ، إذ المدين ملتزم التزاماً لا رجوع فيه في كلا القولين .
على أننا مهما قربنا ما بين النظريتين ، فإنه لا يفوتنا أن الأساس الذي بنى عليه كل مهما لا يزال مختلفاً . وهذا الاختلاف في الأساس قد يؤدى إلى نتائج ذات نتائج ذات بال . ويكفي أن نشير هنا إلى أنه في الفرض الأخير الذي عالجناه ، إذا قلنا مع الألمان بالتزام المدين بإرادته المنفردة ، كان التزامه موجوداً منذ صدور هذه الإرادة . أما إذا قلنا مع الفرنسيين إن المدين يلتزم بتوافق إرادته مع إرادة الدائن ، لم يوجد الالتزام إلا عند توافق الإرادتين ، أي عند صدور الإدارة الضمنية من الدائن . ثم إن التمشي مع النظرية الألمانية يجعلنا نحذف العقد من بين مصادر الالتزام ، ونحل الإرادة المنفردة محله . أما النظرية الفرنسية فلا تفسح مجالاً للإرادة المنفردة بين هذه المصادر ، وتجعل العقد وحده هو العمل القانوني الذي ينشئ التزاماً .
ومهما يكن من أمر فإن القانون الألماني ذاته لم يجعل الإرادة المنفردة مصدراً عاماً للالتزام ، بل أخذ بها على سبيل الاستثناء في حالات محددة على سبيل الحصر بمقتضى نصوص قانونية خاصة ( [1718] ) . أما المشروع الفرنسي الإيطالي فقد جعل من الإرادة المنفردة ، إلى جانب العقد ، مصدراً عاماً للالتزام ( [1719] ) . وسنرى الآن أن القانون المصري الجديد نهج منهج القانون الألماني ، فلم يجعل الإرادة المنفردة مصدراً للالتزام إلا في حالات محدودة وردت بها نصوص خاصة .
907 - إلى أي حد أخذ القانون المدني الجديد بالإرادة المنفردة مصدراً للالتزام :
كان المشروع التمهيدي للقانون المدني الجديد ينص في المادة 228 منه على ما يأتي
" 1 - إذا كان الوعد الصادر من جانب وأحد مكتوباً وكان لمدة معينة . فغن هذا الوعد يلزم صاحبه من الوقت الذي يصل فيه إلى علم من وجه إليه ما دام هذا لام يرفضه " .
" 2 - وتسرى على هذا الوعد الأحكام الخاصة بالعقود ، إلا ما تعلق منها بضرورة وجود إرادتين متطابقتين لإنشاء الالتزام " .
" 3 - يبقى الإيجاب في العقود خاضعاً للأحكام الخاصة به ، ويسري حكم المادة التالية على كل وعد بجائزة يوجه إلى الجمهور " ( [1720] ) .
فكان هذا النص ، على غرار المشروع الفرنسي الإيطالي في مادته الستين ، يجعل الإرادة المنفردة مصدراً عاماً للالتزام ، مثلها في ذلك مثل العقد . وكان يشترط لذلك أن تكون الإرادة المنفردة مكتوبة ، وأن تحدد لها مدة معينة إذا رفضت في خلالها سقطت . أما إذا لم ترفض ، فإنها تكون ملزمة لصاحبها من الوقت الذي تصل فيه إلى علم من وجهت إليه ، شأنها في ذلك شأن كل تعبير عن الإرادة ويسرى على الإرادة المنفردة ما يسري على العقد من أحكام ، فيجب توافر الأهلية وخلو الإرادة مما يشوب الرضاء من عيوب ، وقيام محل تتوافر فيه الشرائط اللازمة ، ووجود سبب مشروع . ويستثنى من هذه الأحكام بداهة ما يتعلق بضرورة توافق الإرادتين ، ما دامت الإرادة المنفردة هي مصدر الالتزام ( [1721] ) .
ولو بقى هذا النص فانتقل إلى القانون المدني الجديد ، لكانت الإرادة المنفردة مصدراً عاماً للالتزام كالعقد ، ولو وجب إفراد باب خاص بها تعالج فيه على النحو الذي رأيناه في العقد والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب ( [1722] ) . ولكن النص حذف في لجنة المراجعة . وكان حذفه " عدولاً عن وضع قاعدة عامة تجعل الإرادة المنفردة ملزمة ، واكتفاء بالحالات المنصوص عليها في القانون من أن الإدارة المنفردة تنشئ التزاماً " ( [1723] ) . ويتبين من ذلك أن لجنة المراجعة رجعت بالإرادة المنفردة عن أن تكون مصدراً عاماً للالتزام ، كما كان الأمر في المشروع التمهيدي ، إلى أن تكون مصدراً للالتزام في حالات استثنائية ترد في نصوص قانونية خاصة . على هذا النهج سار المشروع في سائر مراحله حتى أصبح قانوناً .
908 - الالتزامات التي تفتشها الإرادة المنفردة في القانون المدني الجديد هي التزامات قانونية ومصدرها المباشر هو القانون : ولم تنتبه الهيئات المختلفة التي تعاقبت على نظر مشروع القانون المدني ، منذ لجنة المراجعة ، لهذا التغيير الجوهري في مصدر الالتزامات التي تنشئها الإرادة المنفردة . فقد كان المصدر المباشر لهذه الالتزامات ، وفقاً للمشروع التمهيدي . هي الإرادة المنفردة ذاتها . وقد ارتقت إلى مقام العقد ، فأصبحت مصدراً عاماً للالتزام ومن ثم عقد المشروع التمهيدي للإرادة المنفردة فصلاً خاصاً بها ، كما عقد فصولاً خاصة للمصادر العامة الأخرى وهي العقد والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب ولكن بعد أن نزلت لجنة المراجعة بالإرادة المنفردة إلى أن تكون مصدراً للالتزام في حالات استثنائية ، وبمقتضى نص خاص ، لم تعد الإرادة المنفردة مصدراً عاماً للالتزام ، وأصبحت الالتزامات الناشئة عنها لا تقوم بمقتضى أصل عام يقرره القانون ، بل تقوم بمقتضى نصوص قانونية خاصة ، فأصبح نص القانون هو المصدر المباشر لهذه الالتزامات ومن ثم كان الواجب اعتبار أي التزام ينشأ من الإرادة المنفردة التزاماً مصدره القانون ، وحذف الفصل الخاص المعقود للإرادة المنفردة التزاماً مصدره القانون . وحذف الفصل الخاص المعقود للإرادة المنفردة في المشروع التمهيدي . وإدماجه في الفصل المعقود للقانون كمصدر مباشر للالتزام . وهذا ما فات لجنة المراجعة وما نلاها من الهيئات أن تفعله .
ولم نرد أن نساير هذا الخطأ في التبويب . فلم نعقد للإرادة المنفردة باباً خاصاً بها يأتي بعد الباب المخصص للعقد ، كما فعل القانون المدني الجديد ، بل أرجأنا الكلام فيها إلى أن نتكلم في الالتزامات التي يكون القانون هو مصدرها المباشر . فنجعل الالتزامات التي تنشئها الإرادة المنفردة تدخل في هذا النطاق .
فالقاعدة إذن في القانون المدني الجديد أن كل التزام تنشئه الإرادة المنفردة لا بد أن يرد في نص قانوني . ويعتبر هذا النص هو مصدره المباشر ، وهو الذي يعين أركانه ويبين أحكامه .
وقد وردت نصوص متناثرة في نواحي القانون تجعل الالتزام ينشأ من إرادة منفردة . نذكر من ذلك :
( 1 ) الإيجاب الملزم . وقد ورد فيه النص الآتي ( م 93 ) : " 1 - إذا عين ميعاد للقبول التزم الموجب بالبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد .
( 2 ) المؤسسات ، وقد ورد فيها النص الآتي ( م 70 فقرة 1 ) : " يكون إنشاء المؤسسة بسند رسمي أو بوصية " . فإرادة المنشئ المنفردة هي التي توجد المؤسسة . وهذه الإرادة يصدرها صاحبها لتنتج أثرها إما في حياته أو بعد موته بوصية . ثم يلتزم المنشئ بإرادته المنفردة لتنتج أثرها إما في حياته ، أو بعد موته بوصية . ثم يلتزم المنشئ بإرادته المنفردة أيضاً أن ينقل إلى المؤسسة التي أنشأها ملكية ما تعهد به من المال الذي خصصه لها . ومن ثم نرى أن الإرادة المنفردة هنا أوجدت شخصاً معنوياً ، وأنشأت التزاماً نحو هذا الشخص المعنوي ( [1724] ) .
( 3 ) تطهير العقار المرهون رهناً رسمياً ، وقد ورد فيه النص الآتي ( م 1066 ) : " يجب على الحائز أن يذكر في الإعلان أنه مستعد أن يوفي الديون المقيدة إلى القدر الذي قوم به العقار . وليس عليه أن يصحب العرض بالمبلغ نقداً ، بل ينحصر العرض في إظهار استعداده للوفاء بمبلغ واجب الدفع في الحال أياً كان ميعاد استحقاق الديون المقيدة " . ويؤخذ من هذا النص أن الحائز يلتزم بإرادته المنفردة أن يوفي الديون المقيدة إلى القدر الذي قوم به العقار ، وذلك بمجرد إعلانه رغبته في تطهير العقار بتوجيهه إلى الدائنين المقيدة حقوقهم إعلانات على النحو المبين في المادة 1065 .
( 4 ) الوعد بجائزة الموجه إلى الجمهور ، وقد ورد فيه نص المادة 162 . ولما كان هذا النص ينشئ التزاماً قانونياً أولي مكان ببحثه هو هذا الباب فسنتولى بحثه تفصيلاً فيما يلي ( [1725] ) .
المبحث الثاني
النص هو الذي يعين أركان الالتزام القانوني ويبين أحكامه
المطلب الأول
القاعدة العامة
909 - أركان الالتزام القانوني : رأينا أن النص هو الذي ينشئ الالتزام القانوني ، ويعتبر مصدراً مباشراً له . والنص كذلك هو الذي يعين أركانه هذا الالتزام . وقد استعرضنا طائفة من الالتزامات القانونية فيما تقدم . فالرجوع إلى النص ، في كل التزام قانوني منها على حدة ، هو الذي يبين مدى هذا الالتزام والأركان التي يقوم عليها .
ويمكن القول بوجه عام إن الالتزامات القانونية ، كسائر الالتزامات ، تكون إما التزاماً بإعطاء ( obligation de donner ) ، أو التزاماً بعمل ( obligation de faire ) ، أو التزاماً بالامتناع عن عمل ( obligation de pas faire ) . مثل الالتزام القانوني بالإعطاء الالتزام بالنفقة والالتزام بدفع الضرائب ، والالتزام بتعويض العامل عن مخاطر العمل . ومثل الالتزام القانوني بالعمل التزام الولي أن يدير أموال القاصر ، والتزام الجار أن يشترك في وضع حد لملكه الملتصق بملك جاره . ومثل الالتزام القانوني بالامتناع عن عمل التزام الجار ألا يهدم الحائط الذي يستر به جاره دون عذر قوى ، والتزامه ألا يحدث ضرراً فاحشاً للجيران .
والالتزام القانوني ، كسائر الالتزامات ، رابطة ما بين دائن ومدين . وتقوم هذه الرابطة على محل مستوف لشرائطه . ولم ا كان القانون في الالتزام القانوني المبني على واقعة مادية هو الذي يعين هذا المحل على النحو الذي بيناه ، إعطاء كان أو عملاً أو امتناعاً عن عمل ، فإن المحل لا بد أن يكون قد استوفي الشرائط الواجبة . فلا صعوبة يمكن أن تثار من هذه الناحية .
والسبب لا يكون ركناً في الالتزام القانوني إلا إذا استند إلى الإرادة المنفردة ، فقد رأينا أن السبب يتصل بالإرادة . ويترتب على ذلك أن الالتزام القانونيالذي يقوم على إرادة منفردة ، كالإيجاب الملزم والوعد بجائزة ، يجب أن يكون مبنياً على سبب مشروع . وإلا كانت الإرادة باطلة لا تنتج أثراً . وكذلك المحل في الالتزام القانوني المبني على الإرادة المنفردة تعينه هذه الإرادة ، فيجب في تعيينه أن يكون مستوفياً لشرائطه على النحو الذي قدمناه عند الكلام في المحل .
والأهلية إنما يجب توافرها في الالتزام القانوني المبني على الإرادة المنفردة أما الالتزام القانوني المبني على واقعة مادية فلا تشترط فيه أية أهلية إلا إذا نص القانون على ذلك . وقد كان هذا الحكم منصوصاً عليه في الفقرة الثانية من المادة 272 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " ولا تشترط أية أهلية في هذه الالتزامات ( القانونية المبينة على وقائع مادية ) ، ما لم يوجد نص يقضي بخلاف ذلك " . فحذف هذا النص في لجنة المراجعة لعدم الحاجة إليه ، فهو مفهوم من مقتضى تطبيق القواعد العامة ( [1726] ) . ومن الأمثلة على التزام قانوني مبني على واقعة مادية يشترط النص فيه أهلية خاصة التزامات الفضولي ، فقد رأينا أن الفقرة الأولي من المادة 196تنص على أنه " إذا لم تتوافر في الفضولي أهلية التعاقد ، فلا يكون مسئولاً عن إرادته إلا بالقدر الذي اثري به ، ما لم تكن مسئوليته ناشئة عن عمل غير مشروع " . وكذلك ورثة الفضولي عندما أوجب القانون عليهم أن يخطروا رب العمل بموت مورثهم وأن يتخذوا من التدبيرات ما تقتضيه الحال لصالح رب العمل ، اشترط النص ( م 194 فقرة 2 وم 717 فقرة 2 ) لقيام الالتزامات أن تتوافر فيهم الأهلية . وتشترط المادة 16 من قانون المحاكم الحسبية في الوصي أن يكون ذا أهلية كاملة .
910 - أحكام الالتزام القانوني : وكذلك النص هو الذي يبين أحكام الالتزام القانوني ، فيرجع في كل التزام إلى النص الذي أنشأه لمعرفة هذه الأحكام .
ويمكن القول بوجه عام إن الالتزام القانوني ، كسائر الالتزامات ، ينفذ عيناً إذا كان هذا ممكناً ، وإلا انتهي إلى تعويض بقدر طبقاً للقواعد العامة . وقد تبين طبيعة الالتزام القانوني شيئاً من أحكامه . وقد قضت محكمة الاستئناف الوطنية في هذا المعنى بأن طبيعة دين النفقة تجعله خاصاً بشخص من ترتب في ذمته هذا الدين ، ومن ثم تكون وفاة المحكوم عليه مسقطة لحكم النفقة ، بحيث لا يبقى لهذا الحكم من الأثر على تركته إلا بمقدار المستحق من النفقة الذي كان واجب الأداء قبل الوفاة ( [1727] ) .
911 - تطبيقات مختلفة : ونأتي ببعض تطبيقات على ما قدمناه من أن النص هو الذي يعين أركانه الالتزام القانوني ويتكفل ببيان أحكامه . ويحسن قبل ذلك أن نبين أنه ليس من الضروري ان يكون النص موجوداً في القانون المدني ، فالقوانين المالية وقوانين الأحوال الشخصية وقانون المرافعات وغير ذلك من القوانين المختلفة قد تتضمن نصوصاً تنشئ التزامات قانونية ، وتتكفل هذه النصوص بتعيين أركانه الالتزام وبيان أحكامه .
فمن الالتزامات القانونية التزامات الفضولي ، وقد سبق أن فصلناها راجعين فيها إلى النصوص المدنية التي أنشأها ، ورأينا كيف أن هذه النصوص هي التي تعين أركان الالتزام وتبين أحكامه .
ومن الالتزامات القانونية الالتزام بدفع الضرائب . وهذا الالتزام يرجع في تعيين أركانه وبيان أحكامه إلى القوانين المالية الخاصة بالضرائب على العقار والمنقول وكسب العمل والإبرام العام وغير ذلك من الضرائب المختلفة .
ومن الالتزامات القانونية التزامات الأسرة ، ويدخل فيها واجبات كل من الزوجين والعلاقة ما بين الوالدين والأولاد والنفقة بمختلف أنواعها والتزامات الأولياء والأوصياء والقوام . وهذه كلها يرجع في تعيين أركانها وفي بيان أحكامها إلى قوانين الأحوال الشخصية ، وبخاصة إلى الشريعة الإسلامية ، ثم إلى قانون المحاكم الحبيسة .
ومن الالتزامات القانونية التزامات الحوار ، ويرجع فيها إلى نصوص القانون المدني في الكثرة الغالبة من الأحوال . وهذه النصوص تفرض على الجيران التزامات كثيرة متنوعة ، منها إزالة مضار الجوار إذا جاوزت الحد المألوف ، ومنها الالتزامات الناشئة عن الحائط المشترك والحائط الملاصق ، ومنها الالتزامات الناشئة عن الشيوع في الملك .
وكان المشروع التمهيدي للقانون الجديد يتضمن نصاً ينشئ التزاماً قانونياً في ذمة كل من حاز شيئاً أو أحرزه ، بأن يعرض هذا الشيء على من يدعى حقاً متعلقاً به ، متى كان فحص الشيء ضرورياً للبت في الحق المدعى به من حيث وجوده ومداه . ولكن لجنة المراجعة حذفت هذا النص لأنه أدخل في باب المرافعات ( [1728] ) .
وما قدمناه من التطبيقات يتعلق بالتزامات قانونية مبينة على وقائع مادية . وكذلك الحال في الالتزامات القانونية المبينة على الإرادة المنفردة . وقد أوردنا طائفة منها فيما قدمناه . فهذه أيضاً تتكفل النصوص القانونية التي أنشأتها بتعيين أركانها وبيان أحكامها . وقد رأينا تطبيقاً لذلك في الإيجاب الملزم . وننتقل الآن لتطبيق آخر في الوعد بجائزة ، ونفرد له مطلباً خاصاً .
المطلب الثاني
تطبيق خاص
الوعد بجائزة ( الجعالة )
912 - النصوص القانونية :نصت المادة 162 من القانون المدني الجديد على مايأتي
" 1 - من وجه الجمهور وعداً بجائزة يعطيها عن عمل معين التزم بإعطاء الجائزة لمن قام بهذا العمل ، ولو قام به دون نظر إلى الوعد بالجائزة أو دون علم بها " .
" 2 - وإذا لم يعين الواعد أجلاً للقيام بالعمل ، جاز له الرجوع في وعده بإعلان للجمهور ، على إلا يؤثر ذلك على حق من أتم العمل قبل الرجوع في الوعد . وتسقط دعوى المطالبة بالجائزة إذا لم ترفع خلال ستة أشهر من تاريخ إعلانه العدول للجمهور ( [1729] ) .
وقد أنشأ هذا النص التزاماً قانونياً بناه على الإرادة المنفردة . فالنص إذن هو الذي يعين أركان هذا الالتزام القانوني ، وهو الذي يبين أحكامه .
913 - أركان التزام الواعد بالجائزة : ويتبين من النص أن التزام الواعد بجائزة يقوم بتوافر الأركان الآتية :
( 1 ) أن تصدر من الواعد إرادة باتة ، وهذه هي الإرادة المنفردة فيجب أن تصل الإرادة مرحلة البتات كما في الإيجاب البات . ويجب أيضاً أن يكون الواعد ذا أهلية كاملة للالتزام بما وعد به ، وأن تخلو إرادته من العيوب فلا يشوبها غلط أو تدليس أو إكراه أو استغلال . ويجب أن تقوم الإرادة على محل مستوف لشرائطه ، وأن تتجه إلى سبب مشروع .
( 2 ) أن توجه الإرادة إلى الجمهور . فإذا وجهت إلى شخص معين أو أشخاص معينين ، خرجت عن أن تكون وعداً بجائزة بالمعنى المقصود ، وسرت عليها قواعد الإيجاب فلا بد من أن يقترن بها القبول ، وتصبح عندئذ عقداً لا إرادة منفردة . فتوجيه الإرادة إلى الجمهور ، أي إلى أشخاص غير معينين بالذات ، وهو الذي يكسو الوعد بجائزة طابعه الذي يتميز به .
( 3 ) أن يكون توجيه الإرادة للجمهور عن طريق علني . ويكون ذلك بطريق من طرق النشر المعروفة ، كالإعلان في الصحف أو توزيع النشرات أو المناداة في الطرقات . والمهم هو أن توجه الإرادة للجمهور بطريق علني ، وان تكون العلانية كافية حتى يتيسر لعدد كبير من الناس أن يعلم بهذه الإرادة .
( 4 ) أن تتضمن الإرادة أمرين على الأقل : ( أولاً ) جائزة معينة يلتزم الواعد بإعطائها للفائز بها . وقد تكون الجائزة مبلغاً من النقود ، أو شيئاً آخر له قيمة مالية كأسهم أو سندات أو سيارة أو منزل أو كتاب أو دفع نفقات رحلة أو نحو ذلك . ولا شئ يمنع من أن تكون الجائزة قيمتها أدبية ، كوسام أو شارة أو كأس أو أية علامة أخرى من علامات التقدير . ( ثانياً ) شيئاً معيناً يقوم به الفائز حتى يستحق الجائز ، كالعثور على شئ ضائع أو وضع أفضل تصميم هندسي أو النجاح في امتحان أو الفوز في مسابقة أو الاهتداء إلى دواء أو الكشف عن اختراع أو نحو ذلك . ويستوي أن يكون الوعد قد حددت له مدة أو لم تحدد ، ففي الحالتين يلتزم الواعد ، ولكن كل حالة لها حكمها على ما سنرى .
914 - أحكام الالتزام – الوعد حددت له مدة :
فإذا اجتمعت الأركان المتقدمة الذكر ، قام التزام الواعد ، وترتب عليه حكمه . وهنا يجب التمييز بين ما إذا كان الوعد قد حددت له مدة يجب إنجاز العمل المطلوب في خلالها وما لم تكن هناك مدة محددة .
فإذا كان الواعد قد حدد مدة اشتراط أن يتم العمل في خلالها ، التزم نهائياً بإرادته ، ولم يكن له حق الرجوع . فإذا انقضت هذه المدة دون أن يقوم أحد بالعمل المطلوب ، انقضى التزام الواعد بانقضاء مدته ، ولو قام بعد ذلك شخص بهذا العمل . ولا يكون الواعد في هذه الحالة مسئولاً نحو هذا الشخص بمقتضى الوعد ، ولكن قد يكون مسئولاً نحوه بمقتضى الإثراء بلا سبب .
أما إذا تم القيام بالعمل المطلوب في خلال المدة المحددة ، أصبح من قام بهذا العمل دائناً للواعد بالجائزة الموعودة ، سواء قام بالعمل عن رغبة في الحصول على الجائزة أو لم تكن عنده هذه الرغبة ، بل سواء كان يعلم بالجائزة وقت قيامه بالعمل أو لم يكن يعلم بها ، وسواء أتم العمل بعد إعلان الجائزة أو قبل إعلانها ( [1730] ) . وهذا هو الذي يجعل الالتزام بالوعد التزاماً بإرادة منفردة ، فإن الواعد يصبح ملتزماً بإعطاء الجائزة بمجرد أن يتم العمل ، حتى لو كان من قام بالعمل يجهل وجود الجائزة ، أو قام به قبل إعلان الجائزة ، فلا يتصور أن يكون هناك عقد تم بينه وبين الواعد ، ولا يبقى إلا أن يكون الواعد قد التزم بإرادته المنفردة ( [1731] ) .
915 - الوعد لم تحدد له مدة : أما إذا لم يحدد الواعد مدة يتم العمل في خلالها ، التزم الواعد رغم ذلك بالوعد الصادر منه . فإذا قام شخص بالعمل المطلوب في مدة معقولة ( [1732] ) . استحق الجائزة حتى لو لم يكن يعلم بها ، أو علم ولكنه قام بالعمل دون رغبة فيما ، لأن الواعد إنما يلتزم ، كما قدمنا ، بإرادته المنفردة .
ولكن الواعد ، ما دام لم يحدد مدة لوعده ، يكون له حق الرجوع فيه . ويكون الرجوع في الوعد بالعلانية ذاتها التي تم بها الوعد . وهنا لا تخلو الحال ، في الفترة ما بين إعلان الوعد والرجوع فيه ، ومن أحد فرضين : فإما إلا يكون أحد قد أتم العمل المطلوب ، وإما أن يكون هناك من أتم هذا العمل .
فإذا لم يكن هناك أحد قد أتم العمل ، تحلل الواعد نهائياً من نتائج وعده بعد أن رجع فيه . وهذا صحيح على إطلاقه إذا لم يكن هناك أحد قد بدأ في تنفيذ العمل المطلوب . أما إذا كان هناك من بدأ في تنفيذ هذا العمل ولكنه لم يتمه ، فإن له الرجوع على الواعد بتعويض عادل ، هو قيمة ما أصابه من الضرر دون مجاورة لمقدار الجائزة ، ولكن لا بمقتضى الوعد الذي سقط بالرجوع فيه ، بل بمقتضى قواعد المسئولية التقصيرية . ويترتب على ذلك أن الرجوع على الواعد في هذه الحالة يتقادم بالمدة التي تتقادم بها المسئولية التقصيرية ، أي بثلاث سنوات من وقت علم الدائن بالضرر الذي أصابه وبالمسئول عنه أو بخمس عشرة سنة من وقت وقوع الضرر ( [1733] ) .
أما إذا كان العمل المطلوب قد تم قبل رجوع الواعد ، واستحق من قام بالعمل الجائزة كاملة ، ولم يؤثر في حقه رجوع الواعد في وعده . ذلك أنه أتم العمل قبل الرجوع ، أي في وقت كان الوعد فيه قائماً وكان الواعد ملتزماً ، فأصبح دائناً بالجائزة بمجرد أن قام بالعمل . ولا يؤثر في حقه هذا أن يكون قد قام بالعمل دون نظر إلى الجائزة أو أن يكون قد قام به وهو لا يعلم بالجائزة أو قبل إعلان الجائزة ، ففي جميع هذه الأحوال يكون الواعد ملتزماً بالجائزة . وذلك بمقتضى إرادته المنفردة ( [1734] ) .
فهناك إذن أحوال ثلاثة يكون الواعد فيها ملتزماً بالجائزة كاملة بمقتضى إرادته المنفردة ( 1 ) إذا حدد مدة وقام الفائز بالعمل في خلال هذه المدة .
( 2 ) إذا لم يحدد مدة ولم يرجع في وعده وقام الفائز بالعمل .
( 3 ) إذا لم يحدد مدة ورجع في وعده ولكن الفائز قام بالعمل قبل الرجوع . وفي الحالتين الأوليين يتقادم التزام الواعد بخمس عشرة سنة وفقاً للقواعد العامة ، لأنه التزم إرادي ولم يرد في تقادمه نص خاص . وفي الحالة الثالثة يسقط التزام الواعد إذا لم ترفع دعوى المطالبة بالجائزة في خلال ستة أشهر من تاريخ إعلان الرجوع وفقاً لنص الفقرة الثانية من المادة 162 وقد تقدم ذكرها . والظاهر أن هذه المدة الأخيرة هي مدة إسقاط ( decheance ) لا مدة تقادم ( prescription ) ، فلا يرد عليها الوقف ولا الانقطاع . والسبب في قصر المدة في الحالة الثالثة ، وفي جعلها مدة إسقاط لا مدة تقادم ، هو – كما جاء في تقرير لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ - قطع السبيل على كل محاولة مصطنعة يراد بها استغلال الوعد بجائزة بعد إعلان العدول ، وحسم المنازعات التي تنشأ بسبب تقادم العهد على الجائزة ، وصعوبة الإثبات ( [1735] ) . ويمكن القول ، من ناحية التكييف القانوني ، إن الواعد بالجائزة رتب في ذمته التزاماً بإرادته المنفردة – من وقت توجيه هذه الإرادة إلى الجمهور - لدائن غير معين أن يعطيه الجائزة إذا هو قام بالعمل المطلوب فيكون الالتزام معلقاً على شرط واقف هو قيام شخص بالعمل المطلوب في المدة المعينة أو في مدة معقولة . فإذا تحقق الشرط أصبح الالتزام حالاً ، ولا يتقادم إلا بخمس عشرة سنة من وقت تحقيق الشرط ، وهذا في غير الحالة الثالثة التي ورد فيها نص خاص جعل مدة التقادم ستة أشهر .
([1]) انظر مقالا لنا نشرناه فى مجلة القانون والاقتصاد ( السنة السادسة ، العدد الأول ) فى وجوب تنقيح القانون المدنى ، وقد نشر قسم من هذا المقال فى الكتاب الذهبى للعيد الخمسينى للمحاكم الوطنية .
([2]) انظر فى الإصلاحات القضائية التى تمت فى ذلك العهد : بوريللى بك القاهرة سنة 1892 ص 27 – 29 – دى روزاس فى نظام الامتيازات الأجنبية فى الامبراطورية العثمانية بباريس سنة 1905 الجزء الثانى ص 271 وما بعدها – دى هلتس جزء 1 ص 7 وما بعدها – عبد السلام ذهنى بك فى مسئولية الدولة جزء 1 ص 43 وما بعدها – إميل فير كامر فى القضاء المختلط المصرى واختصاصاته التشريعية ببروكسل سنة 1911 ص 8 وما بعدها – دى فيه فى اختصاص القضاء المختلط فى مصر بروكسل سنة 1926 ص 9 وما بعدها – مسينا فى القانون المدنى المصرى المختلط الإسكندرية سنة 1927 جزء 1 ص 14 وما بعدها – برنتون فى المحاكم المختلطة فى مصر سنة 1930 ص 9 وما بعدها – الكتاب الذهبى للعيد الخمسينى للمحاكم المختلطة – الكتاب الذهبى للعيد الخمسينى للمحاكم الوطنية – فال والدكتور ملش فى القانون التجارى المصرى سنة 1933 الجزء الأول ص 1 و 7 – الدكتور رمزى سيف فى تنازع الاختصاص ما بين المحاكم المختلطة والمحاكم الوطنية القاهرة سنة 1938 ص 19 وما بعدها .
([3]) وقد كان التفكير فى تنقيح التقنين المدنى الفرنسى يلقى مقاومة شديدة من بعض الفقهاء ورجال القانون فى فرنسا فى أوائل هذا القرن . ولكن فكرة التنقيح ما لبثت أن اختمرت أمام التقدم العظيم الذى بلغه فن التقنين فى القرن العشرين وأمام قدم التقنين المدنى الفرنسى ووقوفه عن مسايرة التطور . فتقرر تنقيح هذا التقنين تنقيحا شاملا ، وشكلت لهذا الغرض فى سنة 1945 لجنة من كبار رجال القانون فى فرنسا ، وعلى رأسهم عميد كلية الحقوق بجامعة باريس الأستاذ جوليودى لامورانديير Julliot de la Morandiere ولا تزال اللجنة ماضية فى عملها ، وقد أخرجت حتى اليوم أربعة أجزاء من أعمالها التحضيرية ( سنة 1945 – 1949 ) .
([4]) انظر أيضاً فى التقنين الوطنى المادتين 84 و 85 وهما خاصتان بوقف سريان المدة ، والمادة 134 وهى خاصة بالغلط ، والمادة 270 وهى خاصة بتسجيل عقد البيع .
([5]) انظر أمثلة لذلك فى التقنين الوطنى المواد 94 و 134 و 135 و 131 و 143 و 167 و 191 و 209 و 262 و 265 و 270 و 383 و 499 و 538 و 539 ( الغموض ) – 84 و 85 و 95 و 136 ( الخطأ ) .
هذا إلى أن النص العربى قد تفشى فيه عدم الدقة فى التعبير وركاكة الأسلوب . والأمثلة على ذلك كثيرة . فالإلغاء لفظ يراد به البطلان ( م 48 و 53 و 460 ) ، والفعل هو العمل القانونى ( م 143 ) ، والمعاوضة هى المقايضة ( م 356 وما بعدها ) ، والميرى هو الدولة ( م 9 و 30 و 57 و 614 ) ، ووضع اليد هو الاستيلاء ( م44 ) ، وإضافة الملحقات للملك هى الالتصاق ( م44 ) ، والمداين هو الدائن ( م 53 و 164 و 198 و 460 و 461 ) ، والمشارطة هى العقد ( م 128 و 131 و 132 و 135 و 138 و 141 و 142 و 360 ) ، والملزومية هى الالتزام ( م302 ) . ويعبر القانون القديم عن الشئ الذى لا يفترض فيقول (( لا يحكم فيه بالظن )) ( م114 ) ويقول يتحصل ويستحصل بدلا من يحصل ( م 117 و 118 و 131 و 176 و 179 و 187 و 215 و 216 و 280 و 554 و 569 و 595 و 596 و 599 ) ، ويعبر عن السيد يستقدم الخادم استقداما خاصاً بأن السيد (( قد استحضر الخادم بالخصوص )) ( م403 ) ألخ.
([6]) وقد عرضت (( لجنة القانون المدنى )) لمجلس الشيوخ لهذه المسألة فى تقريرها القيم الذى رفعته للمجلس فقالت : (( ويراعى من ناحية الموضوع أن مدى الإضافة ومبلغ التنقيح فى الأحكام التفصيلية هما العنصران اللذان يتحكمان بصفة قاطعة فى أمر المفاضلة بين الأسلوبين المتقدم ذكرهما ( التنقيح الشامل والتنقيح الجزئى ) . فالتقنين الحالى لم يتضمن إشارة إلى حكم تعاقب التشريعات فى الزمان ، ولم يفرد لتنازع القوانين سوى مواد ثلاث ، إحداها تتعلق بالمواريث والثانية بالوصايا والثالثة بالأهلية . ولم يشتمل على قواعد عامة فى شأن الشخصية المعنوية ،ولم يورد أحكاما عامة أو خاصة فى صدد حوالة الدين أو عقود المقاولات أو التزامات المرافق العامة أو عقد العمل أو الحكر أو إيجار الوقف أو تنظيم الإعسار أو تصفية التركات . وإذا لوحظ أن المواد التى تنظم هذه المسائل يربى عددها فى المشروع على= = نصف عدد مواد التقنين الحالى القديم وأن الارتباط بينها وبين سائر المسائل التى يتناولها التقنين المدنى لا يسوغ معه استصدار تشريعات خاصة بالنسبة إليها ، رجحت كفة التعديل الشامل على نحو لا سبيل إلى الشك فيه . وثمة موضوعات أخرى أجمل التقنين الحالى ( القديم ) الأحكام المتعلقة بها إجمالا أدخل فى معنى الاقتضاب ، كتكوين العقد والدعوى البوليصية والاشتراط لمصلحة الغير والمسئولية التعاقدية والمسئولية التقصيرية والحراسة والملكية الشائعة وملكية الطباق ورهن الحيازة وحق الاختصاص . وتفصيل مثل هذه الأحكام على تشعبها لا يجدى فيه أي تعديل جزئى إلا إذا أريد التغاضى عما يلابسها من عيب فى غير حاجة أو مصلحة . والواقع أن الأمر لا يتعلق بمجرد التفصيل لزيادة الإيضاح أو إزالة الإبهام ، ولكنه يتصل باستكمال أحكام ترتب على قصورها فى كثير من الأحيان اختلاف المحاكم واضطراب المعاملات . ومن المحقق أن حسم هذا الخلاف من طريق التنويه صراحة بالحكم لا يتيسر مع تعدد الحالات وكثرتها على الوجه الذى تقدمت الإشارة إليه إلا بالتعديل الشامل . وقد راعت اللجنة فضلا عن ذلك أن التعديل الشامل يعين على إعادة تبويب القانون تبويباً منطقياً يبرز نواحى الارتباط والتقابل بين الموضوعات وييسر الجمع بين أطراف مسائل انتثرت أحكامها فى التقنين الحالى دون نظام رغم ما بين أجزائها من وثيق الصلات . فبهذا التعديل الشامل تيسر للمشروع أن ينهج هذا النهج المنطقى المتسق فى التبويب ، وأن يؤصل الأحكام المتعلقة بالحيازة والحق فى الحبس والدفع بعدم التنفيذ والنيابة فى التعاقد وحقوق الارتفاق وحقوق الامتياز . ففى ذلك ما يعين على تقريب الأحكام من الأذهان وييسر فقهها وتطبيقها )) . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 124 – 125 ) .
([7]) ومن أقدم هذه التعديلات ما قضى به الأمر العالى الصادر فى 3 سبتمبر سنة 1896 من تحويل حق أصحاب الأطيان الخراجية إلى ملكية تامة .وكذا الأمر العالى الصادر فى 22 فبراير سنة 1894 بشأن الترع والجسور العمومية والمساقى الخاصة ، وهو قانون مكمل للتقنين المدنى لا معدل له .وصدر فى 7 ديسمبر سنة 1892 أمر عال ينقص سعر الفوائد القانونية إلى 5 % فى المواد المدنية ( وكانت 7 % ) وإلى 7 % فى المواد التجارية ( وكانت 9 % ) ، ثم صدر مرسوم بقانون فى مارس سنة 1938 ينقص سعر الفوائد الاتفاقية إلى 8 % مع جواز خفضها لى 7 % بمقتضى مرسوم . وصدر أمر عال فى 5 ديسمبر سنة 1886 يعدل التقنين المدنى المختلط فيلغى الرهن القضائي ويستعيض عنه بحق الاختصاص . وصدر فى 26 مارس سنة 1900 ( بالنسبة إلى القانون المختلط ، وفى 23 مارس سنة 1901 بالنسبة إلى القانون الوطنى ) قانون مستقل يعدل أحكام الشفعة – انظر أيضاً دكريتو 26 مارس سنة 1900 بتعديل المادة 741 مختلط الخاصة بقيد الديون الممتازة على العقار ، وقانون رقم 27 سنة 1912 بتعديل المادة 54 مختلط الخاصة بحقى المجرى والمسيل ، وقانون 16 ديسمبر سنة 1912 بتعديل المادة 568/692 الخاصة بالفوائد التى يضمنها قيد الرهن . وصدر قانونان رقم 18 ورقم 19 سنة 1923 لتعديل أحكام التسجيل ، وقانونان رقم 49 ورقم 50 سنة 1923 لإبطال بيع الوفاء الذى يخفى رهن حيازة ، وقانون رقم 48 سنة 1933 لطرح البحر وأكله ، وقانون رقم 79 سنة 1933 لحماية الدائن المرتهن .
([8]) مجلة مصر المعاصرة سنة 1919 عدد 42 وسنة 1921 عدد 57 .
([9]) مجلة مصر المعاصرة سنة 1921 عدد 59 .
([10]) مجلة مصر المعاصرة سنة 1916 عدد 26 .
([11]) مجلة مصر المعاصرة سنة1930 ص 27 – ص 29 .
([12]) أنظر تفصيل ذلك فى مقال لنا نشر فى مجلة القانون والاقتصاد فى تنقيح القانون المدنى ( السنة السادسة العدد الأول ) وهو المقال الذى سبقت الإشارة إليه .
([13]) وقد جاء فى هذا الخطاب ما يأتى : (( أما من حيث التشريع فإن القوانين التى وضعت عند إنشاء المحاكم الأهلية قد نالها الكثير من التعديل والتهذيب لتكون ملائمة لحالة البلاد وتطورها . وهناك نية فى مراجعتها كلها وتعديل ما يجب تعديله منها حتى تضارع أحسن القوانين فى البلاد المتمدينة ، وستؤلف لجنة خصيصاً لهذا الغرض من رجال خبيرين أكفاء )) ( انظر الكتاب الذهبى للعيد الخمسينى للمحاكم الوطنية 1 ص 7 ) .
([14]) وقد عبر المقال الذى نشرناه بمناسبة العيد الخمسينى للمحاكم الوطنية فى وجوب تنقيح القانون المدنى عن هذا الشعور ، فجاء فيه ما يأتى : (( وإذا كان خصوم التنقيح وأنصاره من الأجانب متأثرين باعتبارات مختلفة ، فنحن نحب أن يكون لمصر صوتها فى هذا الشأن الخطير ، ونعتقد أننا نعبر بأمانة عن رأى المصريين المشتغلين بالقانون إذا قلنا إلى التقنين المدنى المصرى فى أشد الحاجة إلى تنقيح شامل جامع ))
([15]) وهم صليب سامى ( باشا ) وموسيو لينان دى بلفون ومسترى مرى جراهام ومحمد كامل مرسى ( باشا ) وموسيو موريس دى فيه وموسيو الفريد واسكولى وعبد الرزاق أحمد السنهورى ( باشا ) .
([16]) ورد فى مذكرة لوزير العدل تقدم بها إلى مجلس الوزراء فى 16 يونيه سنة 1938 ( سنعود إليها فيما يلى ) عن هذه اللجنة الأولى ما يأتى: (( فى 25 فبراير سنة 1936 تقدمت وزارة الحقانية إلى مجلس الوزراء بمذكرة نوهت فيها بما تحسه البلاد من تخلف قوانينها المدنية والتجارية عن مسايرة التقدم الاجتماعى ، وبالرغبة المتزايدة فى توحيد التشريعات الأهلية والمختلطة . وأشارت بوجوب تنقيح تلك القوانين وتأليف لجنة خاصة يعهد إليها بهذه المهمة . وقد وافق مجلس الوزراء على هذه المذكرة ، وقرر فى أول مارس سنة 1936 تأليف اللجنة التى اقترحتها وزارة الحقانية وأقام نظامها على الأسس الثلاثة الآتية : تحديد مدة للانتهاء من العمل ، وتفرغ الأعضاء وأعوانهم له ، ومكافأتهم على جهودهم . والواقع أن مجلس الوزراء فى هذا العهد كان بصيراً كل البصر يخطر هذا العمل التشريعى وما يقدر لآثاره من الخلود ، وكان مدركاً تمام الإدراك أن حرص القائمين به على بلوغ الكمال أو الدنو منه قد يغريهم بعدم التقديم لزمان معين للفراغ من مهمتهم . ولما كانت حاجة البلاد إلى الإصلاح التشريعى قد بلغت فى إلحاحها مبلغا لا يتيح الإسراف فى الأناة ، فقد حدد قرار مجلس الوزراء عامين للجنة لكى تتم فى خلالها أعمالها . وإذا كانت هذه المدة قصيرة بالنسبة لجسامة العمل الذى أسند إلى اللجنة ، فقد اتخذت الإجراءات التى تكفل إتمامه على الوجه الأكمل رغم قصر الأجل ، فاشترط أولا تفرغ أعضاء اللجنة ومعاونيهم للمهمة التى نيطت بهم تفرغا تاما . لذلك تقرر منعهم من القيام بأعمال وظائفهم الأصلية من طريق الانتداب الكامل ، كما حرم على أصحاب المهن الحرة منهم أن يزاولوا مهنهم . ولما كان هذا العمل يتطلب رغم التفرغ جهدا إضافيا من القائمين به ، فقد قرر مجلس الوزراء منح أعضاء اللجنة وأعوانهم من السكرتيرين الفنيين والإداريين مكافآت مالية تعوضهم عن جهودهم وتحفزهم على الحرص على إتمام العمل فى الأجل المضروب . وعلى هذه الأسس الثلاثة : تحديد الزمن والتفرغ والمكافأة ، تم تشكيل اللجنة ... )) .
([17]) وهم صليب سامى ( باشا ) وعبد الفتاح السيد بك ومصطفى الشوربجى بك ومحمد فؤاد حسنى بك والمستر مرى جراهام ومحمد كامل مرسى ( باشا ) وموسيو موريس دى فيه وشيفالييه انطونيو بنتا وموسيوليون باسر وموسيو فان أكر .
([18]) وقد ورد فى مذكرة وزير العدل التى تقدم بها إلى مجلس الوزراء فى 16 يونيه سنة 1938 عن هذه اللجنة الثانية ما يأتى (( فى 26 مايو سنة 1936 قدمت إلى مجلس الوزراء مذكرة أشارت إلى أن لجنة تعديل القوانين المالية والتجارية تكلف الدولة عبئاً مالياً باهظاً ، فهى تكبد الخزانة ما يربو على 48000 جنيه وانتهت إلى وجوب إعادة تشكيل اللجنة على أسس تناقض الأسس الأولى ، فلم تحدد لنهاية العمل مدة ، وألغت نظام التفرغ ، وألغت المكافآت ثم صدر فى 20 نوفمبر سنة 1936 قرار من مجلس الوزراء بتشكيل اللجنة الثانية .. على أن عقد مقارنة عاجلة بين اللجنتين تتيح الوقوف على عيب الأسس التى قام عليها نظام اللجنة الثانية . ففى حين أن اللجنة الأولى أبدت نشاطاً فذا فى عملها ، إذ عقدت فى مدة شهرين عشر جلسات أتمت فى خلالها ما يقرب من نص القانون التجارى فضلا عن بعض نصوص القانون المدنى ، نجد أن اللجنة الثانية بطيئة فى عملها ، لم تعقد فى خلال ما يقرب من عامين إلا عشرين جلسة ، ولم تنته إلا من تعديل أجزاء محدودة من التقنين ، هى النصوص التمهيدية ، والنصوص الخاصة بالموطن . والواقع أن هذا الفارق البعيد لا يرد إلا إلى أن اللجنة الثانية أقيمت على أساس اعتبار مهمة التعديل التشريعية مهمة ثانوية يتولاها الأعضاء فضلا عن أعباء أعمالهم العادية دون مقابل . لذلك لم يتح لها الإكثار من الكفايات الفقهية والكفايات التى توفرت على خبرة خاصة بشؤون التقنين . ثم أن شعور الأعضاء بتفضلهم بذلك العمل لم يكن يتفق مع تحديد فترة معينة يتمون فى خلالها مهمتهم . بيد أن تجربة الأمم التى سبقت مصر فى ميدان التقنين قد دلت على أن هذا العمل يجب أن يحدد له أجل معين ، ويفضل الأجل القصير فى هذه الأحوال ، لأن الروابط الاجتماعية فى تطور مستمر ، فلو أطيل أجل التعديل لقدر له أن يظل متخلفا عن كل ما يستجد من ظروف الحياة . ولعل الوقوف عند ضرورة تحديد الأجل وقصره يفضى لزاما إلى وجوب تفرغ من يعهد إليهم بشأن التقنين لهذه المهمة ووجوب توفرهم على ما تتطلبه من كفايات خاصة )) .
([19]) جاء فى تقرير (( لجنة القانون المدنى )) لمجلس الشيوخ ما يأتى ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 121 ) : (( ولقد بدأت الجهود فى تعديل القانون المدنى منذ سنة 1936 . ففى تلك السنة شكلت أول لجنة . وفى سنة 1938 ناطت وزارة العدل ( بحضرة صاحب المعالى ) عبد الرزاق السنهورى باشا مهمة وضع مشروع لتعديل القانون المدنى . وفى سنة 1942 تم إعداد المشروع ، وقدمته وزارة العدل إلى رجال القضاء وأساتذة القانون وسائر الهيئات للإدلاء بالرأى فيما تضمن من أحكام )) . ولم يرد فى التقرير ذكر الأستاذ إدوار لامبير . وإذا كان الفقيه الفرنسى الكبير لم تواته الفرصة أن يقيم فى مصر مدة طويلة ، إلا أنه اشترك اشتراكا جديا فى الأعمال الأولى ، وقام وحده بوضع بعض نصوص الباب التمهيدى ونصوص عقود المقاولة والتزام المرافق العامة والعمل والتأمين .
([20]) وقد عاون اللجنة الدكتور حلمى بهجت بدوى فاشترك فى أعمالها الأولى ، ثم جدت ظروف قطعته عن العمل ، والأستاذان استنويت وساسى اللذان كانا قاضيين بالمحاكم المختلطة ، فوضع الأول منهما المشروع الابتدائى للباب الخاص بإثبات الالتزام وللفصل الخاص بعقد الشركة ، وعاون الثانى فى وضع النصوص الخاصة بتنازع القوانين من حيث المكان .
وتألفت سكرتارية فنية للجنة قوامها : الدكتور سليمان مرقص وقد اشترك فى أعمال المراجعة ووضع المشروع الابتدائى للنصوص الخاصة بتقسيم الأشياء وعقود القرض والعارية والوديعة ، والأستاذ عبده محرم بك وقد اشترك فى أعمال المراجعة ووضع المشروع الابتدائى للنصوص الخاصة بالحراسة ، والدكتور محمد زهير جرانة وقد وضع المشروع الابتدائى لعقود الصلح والإيراد المؤقت والرهان والمقامرة، والدكتور شفيق شحاته وقد اشترك فى أعمال المراجعة وبخاصة ما تعلق منها بالفقه الإسلامى . ووضع مشروعا أولياً للنصوص الخاصة بحوالة الدين الأستاذ محمد صادق فهمى بك ، أعادت اللجنة النظر فيه ، وراجعته مراجعة شاملة .
واستعانت اللجنة فى بحث القضاء الوطنى بفريق من قضاة المحاكم الوطنية هم الأساتذة محمد عزمى بك وعبده محرم بك وأحمد زيد بك وعبد العزيز محمد بك ونجيب أحمد بك .
([21]) وضع المؤلف المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدى فى أجزاء أربعة . وقد وضع الجزء الثانى منها الخاص بنظرية الالتزام باللغة الفرنسية حتى يتفهم علماء القانون الأجانب عمل اللجنة فى أهم جزء منه . وترجم هذا الجزء إلى اللغة العربية الدكتور حسن أحمد بغدادى ، كما عاون فى وضع الجزء الأولى الخاص بالباب التمهيدى منتفعا بما تركه الأستاذ لامبير من مذكرات فى هذا الباب .
([22]) أجرت وزارة العدل استفتاء واسعاً فى المشروع التمهيدى ، وأرسلته للإدلاء بالرأى فيه إلى محكمة النقض ومحكمة الاستئناف المختلطة والمحاكم الاستئنافية والكلية الوطنية والمختلطة ورجال النيابة الوطنية والمختلطة وأقسام قضايا الحكومة ونقابتى المحامين الوطنية والمختلطة وكبار رجال القانون البارزين وكليتى الحقوق بجامعة فؤاد وجامعة فاروق ومدرسة الحقوق الفرنسية ووزراء ووكلاء وزارة العدل السابقين وبنك مصر والبنك الأهلى والبنك الزراعى وبنك التسليف الزراعى وطائفة من رجال القانون المعروفين منهم الرؤساء والوكلاء السابقون لمحكمة النقض ولإدارة قضايا الحكومة .
وقد درس المشروع هذه الهيئات . وأرسل الكثير بما عن لهم من الآراء فيه . وتقدمت محكمة النقض بملاحظاتها فدرستها (( لجنة القانون المدنى )) بمجلس الشيوخ . وعنى بدراسة المشروع التمهيدى بنوع خاص محكمة الاستئناف المختلطة برياسة المستشار برنتون ، ومحكمة مصر الكلية الوطنية برياسة الأستاذ أحمد حلمى بك ، ومحكمة المنيا الكلية الوطنية برياسة الأستاذ محمد عزمى بك .
وتفضل عميد رجال القانون فى مصر الأستاذ الكبير عبد العزيز فهمى باشا فعنى بمراجعة جميع نصوص المشروع مراجعة دقيقة شاملة .
([23]) هم الشيخ المحترم مصطفى محمود الشوربجى بك عضو مجلس الشيوخ والنائب المحترم على السيد أيوب وكيل مجلس النواب والدكتور محمد كامل مرسى ( باشا ) المستشار بمحكمة النقض والأستاذ سليمان حافظ بك المستشار بمحكمة استئناف مصر الوطنية .
([24]) وقد شكلت من الأستاذ عبده محرم بك مدير مكتب لجان التشريع بوزارة العدل والدكتور حسن أحمد بغدادى أستاذ القانون المدنى بجامعة فاروق والدكتور سليمان مرقص أستاذ القانون المدنى بجامعة فؤاد والدكتور شفيق شحاته أستاذ القانون المدنى بجامعة فؤاد والأستاذ نصيف زكى بك رئيس نيابة استئناف مصر الوطنية .
([25]) أرسله وزير العدل أحمد خشبة باش . ومن المصادفات الطيبة أن يكون هو نفسه وزير العدل الذى شكل في سنة 1938 اللجنة الثالثة ، وهي اللجنة التى أنجزت المشروع .
([26]) وقد راعى واضعو المشروع التمهيدى أن يجعلوا المشروع يشتمل من النصوص على (( الحد الأقصى لما يجوز أن يدرج فى تقنين مدنى حديث )) حتى يسهل بعد ذلك على لجنة المراجعة أن تحذف من هذه النصوص ما ترى الاستغناء عنه . وصدروا المذكرة الإيضاحية للمشروع بالبيان الآتي :
(( يرى واضعو هذا المشروع أن النصوص الواردة فيه هى الحد ا لأقصى لما يجوز أن يدرج فى تقنين مدنى حديث دون أن يؤخذ عليه إسراف في التفصيل . على أن ثمة تحفظات بشأن نصوص قد يصح التساؤل عما إذا كان من الأنسب الإبقاء عليها أو حذفها . وإذا كانت هذه النصوص قد أثبتت فى المشروع ، فقد أريد من ذلك إلى إفساح المجال للاختيار ، أو إلى الأخذ بالأحوط ، ولا سيما أن حذف مالا يؤنس غناء فيه أيسر من إنشاء ما تقتضيه ضرورة )) .
وكان من ذلك أن نزلت لجنة المراجعة بالمشروع من 1591 مادة هى المواد التى كان المشروع التمهيدى يشتمل عليها إلى 1253 مادة هى ما خلصت إليه من النصوص فى المشروع النهائى .
([27]) وقد عنيت (( لجنة القانون المدنى )) بلجنة الشيوخ أن تبرز فى تقريرها نصيب المصريين فى وضع القانون المدنى الجديد ، فقالت : (( والآن وقد استردت البلاد سيادتها التشريعية ، وأوشك أن يتقلص آخر ظل من ظلال نظام الامتيازات ، يطيب للجنة أن تعرب عن عظيم اغتباطها بأن يكون القانون المدنى الجديد تعبيراً مصرياً خالصاً عن هذه السيادة . فهو يعد بعد الدستور أهم تشريع وضعه المصريون أنفسهم . فقد أعد مشروعه فقيه مصرى يشغل مكانة رفيعة بين علماء القانون . وقد أدلى المصريون بالرأى فيه ، وكان هذا الرأى محل تقدير ودراسة . وقد تولت مراجعته لجنة اشترك فيها من رجال الفقه والقضاء والمحاماة فريق من المبرزين ، وهو فى هذه المرحلة = = الأخيرة يعرض على نواب الأمة وشيوخها للنظر فى أحكامه ، فى ضوء علمهم وخبرتهم بتقاليد البلاد وأوضاعها وحاجاتها . فإذا جاوز هذه المرحلة ، أصبح القانون المدنى (( المصرى )) حقيقة ونعتا . وكان للأجيال القادمة أن تعتز به ، وأن تعلم لمجرد العبرة والذكرى أن مصر احتملت على مضض منها تقنيناً معيباً ، ولكنها اجتهدت وجاهدت حتى أخرجت ، بنفسها ولنفسها ، هذا التقنين الجديد )) . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 122 – ص 123 ) .
([28]) وأعضاء لجنة الشؤون التشريعية بمجلس النواب هم حضرات النواب المحترمين أحمد مرسى بدر بك ، وعزيز مشرقى بك ، وعلى الخشخانى بك ، ومحمد هاشم ( باشا ) ، ومحمد شوكت التونى بك ، ومحمد توفيق خشبة بك ، وعبد المجيد الشرقاوى بك ، والدكتور على إبراهيم الرجال بك ، ومحمد أمين والى بك ، وأحمد محمد بريرى بك ، ومصطفى العسال بك ، وعبد المنعم أبو زيد بك ، وحسن محمد إسماعيل بك .
([29]) وقد جاء فى تقرير لجنة الشؤون التشريعية بمجلس النواب ما يأتى : (( بجلسة 17 ديسمبر سنة 1945 أحال المجلس مشروع القانون المدنى على لجنة الشؤون التشريعية ، وهو أضخم عمل تشريعى قدمته حكومة إلى البرلمان ، ويفوق فى أهميته كل ما عداه من الأعمال التشريعية ، لما له من أثر بالغ فى الحياة العامة فى تنظيم العلاقة بين الأفراد والجماعات . إذ القانون المدنى هو الدعامة الأولى لصرح العدل فى البلاد . لذلك أولت اللجنة مشروع هذا القانون أكبر قسط من عنايتها ، فشكلت من بين أعضائها ثلاث لجان فرعية لدراسته : تولت الأولى بحث الباب التمهيدى والالتزامات ، وتولت الثانية بحث العقود المسماة ، وتولت الثالثة بحث الحقوق العينية . وقد توافرت هذه اللجان الفرعية على دراسة ما وكل إليها بحثه ، وعقدت لهذا الغرض عدة اجتماعات ، ثم عرضت نتيجة عملها على اللجنة العامة ، التى والت اجتماعاتها حتى انتهت من بحث المشروع بأكمله ، فأقرت بعض ما اقترحته اللجان الفرعية من تعديلات ، كما أدخلت على المشروع تعديلات أخرى – وقد شهد اجتماعات اللجان الفرعية والعامة صاحب العزة عبده محرم بك مدير إدارة المحاكم الوطنية مندوباً عن وزارة العدل ، فلاقت منه معاونة صادقة . كما شهد هذه الاجتماعات حضرة صاحب السعادة الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهورى باشا وزير المعارف العمومية السابق بصفته – فى مبدأ الأمر – مندوبا عن وزارة العدل . وبعد استقالة الوزارة السابقة دعته اللجنة لمعاونتها طبقا للمادة 61 من اللائحة الداخلية .. ولا يسع اللجنة وهى تحتم تقريرها إلا أن تسجل الكلمة القيمة التى أدلى بها مندوب الحكومة بعد الانتهاء من بحث المشروع وهى : إن النصوص التشريعية الواردة فى هذا المشروع لها من الكيان الذاتى ما يجعلها مستقلة كل الاستقلال عن المصادر التى أخذت منها . ولم يكن الغرض من الرجوع إلى التقنينات الحديثة أن يتصل المشروع بهذه التقنينات المختلفة اتصال تبعية فى التفسير والتطبيق والتطور ، فإن هذا حتى لو كان ممكنا لا يكون مرغوباً فيه . فمن المقطوع به أن كل نص تشريعى ينبغى أن يعيش فى البيئة التى يطبق فيها ، ويحيا حياة قومية توثق صلته بما يحيط به من ملابسات ، وما يخضع له من مقتضيات ، فينفصل انفصالا تاما عن المصدر التاريخى الذى أخذ منه ، أيا كان هذا المصدر )) .
(( وقد حان الوقت الذى يكون لمصرفيه قضاء ذاتى وفقه مستقل . ولكل من القضاء والفقه ، بل على كل منهما ، عند تطبيق النص أو تفسيره ، أن يعتبر هذا النص قائماً بذاته ، منفصلا عن مصدره ، فيطبقه أو يفسره تبعا لما تقتضيه المصلحة ، ولما يتسع له التفسير من حلول تفى بحاجات البلد ، وتساير مقتضيات العدالة . وبذلك تتطور هذه النصوص فى صميم الحياة القومية ، وتثبت ذاتيتها ، ويتأكد استقلالها ، ويتحقق ما قصد إليه واضعو المشروع من أن يكون لمصر قانون قومى يستند إلى قضاء وفقه لهما من الطابع الذاتى ما يجعل أثرهما ملحوظاً فى التطور العالمى للقانون )) . (( وترحب اللجنة بهذه الفرصة الطيبة التى ستتاح للقضاء والفقه فى مصر ، عند تطبيق هذه النصوص وتفسيرها ، فى أن يجدا المكان الفسيح للاجتهاد والاستنباط ، بعد أن انفك عنهما غل القد بمتابعة قانون واحد معين فى نصوصه التشريعية وفى قضائه وفقهه ، بل بعد أن أصبحا فى حل ، وقد انفصلت النصوص عن مصادرها ، من التقيد بمتابعة أى قانون معين . فخرجا بذلك من باب التقليد الضيق إلى ميدان الاجتهاد الفسيح )) . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 26 وص 32 ) .
([30]) وأعضاء لجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ هم حضرات الشيوخ المحترمين محمد حلمى عيسى باشا ومحمد حسن العشماوى باشا وأحمد رمزى بك وجمال الدين أباظة بك ومحمد على علوبة باشا وسابا حبشى وخيرت راضى بك .
([31]) من هذه الآراء ملاحظات تقدم بها بعض حضرات مستشارى محكمة النقض وأساتذة القانون وقد ناقشتها اللجنة طويلا ( أنظر تفصيل ذلك فى مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 39 – ص 118 ) وقد جاء فى محضر الجلسة الثامنة والخمسين للجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ ما يأتى : (( عرضت اللجنة فى هذا الاجتماع إلى الاعتراضات التى أثارها بعض رجال القانون حول مصادر مشروع القانون المدنى من حيث تفهم أحكامه وتفسيرها وتطبيقها ، وقد رأت اللجنة أنها قد أوفت هذا الموضوع حقه من البحث فى تقريرها الذى رفع إلى المجلس . ولكن رغبة فى زيادة الإيضاح وتأكيد المعنى الذى ذهبت إليه اللجنة فى تقريرها المذكور عهدت إلى حضرت الشيخ المحترم محمد محمد الوكيل بك رئيسها ومقررها أمام المجلس أن يدلى ببيان فى هذا الموضوع إلهام أمام المجلس وهو كما يأتى : ( أولاً ) أن الغالبية العظمى من أحكام هذا المشروع مستمدة من أحكام القانون الحالى ومن المبادئ التى أقرها القضاء المصرى طوال السبعين سنة الماضية ومطابقة للقواعد القانونية التى جرى عليها القضاء والفقه فى مصر ، وهذا هو المصدر الذى يرجع إليه عند تفسير هذا القانون . وأما المصادر الأجنبية فليست إلا مصادر استشارة للصياغة وحدها . ( ثانياً ) أن الأحكام التى اشتقت أصلا من الشريعة الإسلامية يرجع فى تفسيرها إلى أحكام هذه الشريعة ، مع ملاحظة ما جاء فى المادة الأولى من المشروع من اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا رسميا من مصادر القانون ومن أن للقاضى أن يرجع إلى أحكام الشريعة الإسلامية كلما كان هناك محل لذلك . ( ثالثاً ) أما الأحكام القليلة التى اشتقت من تقنينات أجنبية فى موضوعات جديدة مستقلة ( المؤسسات . حوالة الدين . ملكية الأسرة . اتحاد الملاك . الإعسار المدنى . تصفية التركات ) فقد روعى فى وضعها أن تكون متمشية مع البيئة المصرية ، متفقة مع العرف والعادات ، متناسقة مع سائر أحكام المشروع ، = = وبذلك تكون قد انعزلت عن مصادرها وأصبح لها كيان ذاتى قوامه تساندهما مع غيرها من نصوص ، ويرجع فى تفسيرها إلى النصوص ذاتها وما درج عليه القضاء فى مثل هذه الأحوال .
وقد أقرت الحكومة هذا البيان )) . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 116 – ص 117 ) .
([32]) وقد جاء فى تقرير لجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ ما يأتى ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1ص 119 ) : (( بجلسة 3 من يونية سنة 1946 أحال المجلس إلى لجنة القانون المدنى مشروع القانون المدنى معدلا على الوجه الذى أقره مجلس النواب . وقد توفرت اللجنة على دراسة هذا المشروع فى 55 جلسة ابتداء من 7 يناير سنة 1947 لغاية 6 أبريل سنة 1948 ، بحضور حضرات صاحب المعالى عبد الرزاق السنهورى باشا وزير المعارف العمومية وصاحب العزة عبده محمد محرم بك المستشار بمجلس الدولة والدكتور حسن أحمد بغدادى وكيل كلية الحقوق بجامعة فاروق الأول ، وأفرغت فى تمحيص نصوصه من العناية ما أتاح لها أن تتبين مرامى أحكامه ونتثبت من مسايرتها لأوضاع الحياة وحاجات المتعاملين . وأدخلت من التعديلات ما أوحت به التجارب أو ما درج عليه القضاء أو ما تيسر من أمر المعاملات . ووجدت من الحكومة فى هذه الناحية معاونة تسجل لمندوبيها بالثناء والتقدير . ولم يغب عن اللجنة ما لتعديل القانون المدنى من أثر بالغ فى نطاق المعاملات ونطاق العلوم القانونية بوجه عام ، باعتبار أن هذا القانون هو موطن القواعد الكلية المنظمة لروابط الأفراد وسائر المخاطبين بأحكام القانون الخاص ، ومرجع القواعد التفصيلية المنظمة للشق الأكبر من هذه الروابط ، ولذلك حرصت اللجنة كل الحرص على أن يتناول بحثها كل ما يتصل بسياسة التعديل ، ولم يكن رائد اللجنة فى هذا البحث مجرد التفكير النظرى أو التدليل المنطقى . ولم تقتصر فى صدده على ما كان لحضرات الأعضاء المحترمين من آراء ، وإنما عمدت إلى استقصاء الواقع ، واستظهرت جميع الآراء ، وأمعنت النظر فى دليل كل منها ، استرشدت فى ذلك كله بالحقائق المستخلصة من دراسة نصوص المشروع ... )) وقد أشرنا فى أماكن أخرى إلى بعض فقرات من هذا التقرير القيم .
([33]) ومما يذكر لمجلسى النواب والشيوخ بالحمد والتقدير أنهما أقرا المشروع فى يسر بالرغم من أن كلا منهما نظره والدورة البرلمانية تقارب نهايتها ، وقد استطاع كل من المجلسين أن يلائم ما بين إجرءاته الداخلية ومقتضيات النظر فى تقنين طويل ذى صبغة فنية بارزة كالتقنين المدنى ، مما دل على أن برلماننا يملك من المرونة فى العمل ما يجعله صالحا لمواجهة الأعمال التشريعية وفقاً لطبيعة كل منها . وعندما عرض المشروع على مجلس الشيوخ اقترح ثلاثة من حضرات الشيوخ المحترمين تأجيل نظره للدورة التالية ، ولكن المجلس رفض هذا الاقتراح ، فعجل بهذا التصرف الحكيم إقرار المشروع . ومن غريب المصادفات أن موقف المجلس هذا قد حاكى موقفا مماثلا للريشتاج الألمانى عند نظره التقنين المدنى الألمانى من 19 يونيه إلى 27 يونيه سنة 1896 ، فقد تقدم بعض الأعضاء عند عرض المشروع الألمانى على المجلس بطلب تأجيل النظر فيه إلى الدورة التالية ، فأدرك المجلس خطر هذا التأجيل على التقنين ورفض الطلب ، وأقر المشروع فى أيام قلائل ( أنظر سالى : مقدمة فى دراسة القانون المدنى الألمانى باريس 1904 ص 36 – ص 37 ) .
هذا وقد قدم المشروع إلى مجلس الشيوخ حضرة الشيخ المحترم محمد محمد الوكيل – وكيل المجلس ورئيس لجنة القانون المدنى به – بخطاب قيم ، ورد فيه ما يأتى : (( فى منتصف أكتوبر من السنة المقبلة يشرق على القضاء المصرى عهد جديد تستكمل فيه البلاد سيادتها القضائية . وبهذا تتحقق لنا أمنية من أعز أمانينا . ففى هذا التاريخ تختتم مصر مرحلة مريرة فى تاريخها ، وتستفتح مرحلة أخرى كريمة ، يحفز المصريين فيها فوزهم بالحق إلى النهوض بتحمل جسيم التبعات وعظيم المسئوليات . وها هى مصر تتخذ الأهبة لمواجهة ما تقتضيه هذه المرحلة ، فتنجز إصلاحات تشريعية ضخمة كانت قد تراخت – مضطرة – فى إنجازها حقبة طويلة من جراء القيود التى كان نظام الامتيازات يفرضها . وفى هذه الدورة تعرض على حضراتكم تشريعات هامة أساسية ، تناولتها يد الإصلاح ، من بينها القانون المدنى . وقد ظل هذا القانون – منذ أن وضع فى سنتى 1876 و 1883 – على حاله فيما خلا تعديلات جزئية . واليوم يعرض على حضراتكم مشروع تنقيحه . وقد تولى المصريون أنفسهم إعداده وتحضيره ، ويدلى البرلمان بالرأى فيه . وبهذا يكون التقنين المدنى مصرياً فى أسلوبه وصياغته ، مصرياً فى وضعه وغايته . وهل أبلغ من أن يطبق القضاء المصرى – فى الوقت الذى يخلص له فيه السلطان – تشريعا مصرى الأركان والبنيان فتقترن سيادتنا القضائية بسيادتنا التشريعية ؟ )) .
(( ومما يجب أن أشير إليه فى هذا المقام أن المشروع المعروض قام على دعامتين رئيسيتين : ( الأولى ) الاحتفاظ بالصالح من أحكام التقنين القائم لأبعد الحدود ، فما من حكم صالح من هذه الأحكام إلا وأخذ به مع تهذيبه التهذيب الواجب . ( الثانية ) تقنين ما استقر من المبادئ فى أحكام القضاء المصرى مع ترجيح ما كان منها خليقاً بالرجحان عند اختلاف المحاكم . وعلى هذين الأساسين أقام المشروع أكثر من ثلاثة أرباع القواعد الواردة فيه ، فانتفع بتراث الماضى وجعل الانتقال من الوضع القديم إلى الوضع الجديد مجرد تطور طبيعى لا يختلف أمره من هذا الوجه عن أى إصلاح يستبدل الخير بالذى هو أدنى فى غير تطرف أو عنف . وعلى هذا النحو لا يقطع المشروع الصلة بين الحار والماضى ، وإنما هو ييسر الانتفاع بما استقر من صالح الأحكام فى التقنين الحالى وفى أحكام القضاء ، ويصقلها صقلا يجعلها أقرب منالا وأوضح نهجاً . وقد عمد المشروع فوق ذلك إلى إحكام التلاؤم بين القدر الذى استحدثه من القواعد وبين المبادئ العامة التى ألفها الناس فى التعامل من قبل . وبهذا يسر سبيل الانتفاع من الإصلاح )) . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 141 – ص 142 و ص 154 ) .
([34]) الآن وقد فرغت من عرض المراحل المختلفة التى مر عليها التقنين المدنى الجديد ، أنقل كلمة كنت قد ختمت بها مقالى الذى نشرته بمناسبة العيد الخمسينى للمحاكم الوطنية فى وجوب تنقيح القانون المدنى . وهى كلمة كتبتها منذ سبعة أعوام . وما كنت أعلم وقت ذلك أن ما رددته أملا يطوف بالنفس سيصبح بعد وقت غير طويل حقيقة واقعة ، وهذا ما كتبته فى ختام المقال المشار إليه ، أنقله هنا تحية لهؤلاء الذين ذكرت أسماءهم ، وقد عاونوا بنشاطهم على إخراج التقنين الجديد : =
= (( على أن كل ما قدمناه ، إذا دل على أن تقنيننا معيب وأن مراجعته ضرورية ، فليس معناه أن المراجعة قد مهدت سبلها ، وأصبح البت فى القيام بها أمرا ميسورا . فإن الرغبة مهما كانت صادقة فى عمل تقنين هى شيء آخر غير عمل التقنين بالفعل . وتدل التجارب فى مسائل التقنين على أن الرغبة وحدها لا تغنى شيئاً . بل أن توافر الوسائل الفنية ذاتها لا يكفى . فإن التقنين أمر يقوم على النشاط ، وهو روحه الدافعة ، فإذا انعدم هذا النشاط أو فتر ، سار التقنين سيراً بطيئاً ملتوياً ، يتعثر عند كل منعرج ، ويصطدم فى كل عقبة ، وقلما يصل إلى نهاية الطريق .. فهل لمصر أن تؤمل فى عهد نهضتها الحارة أن تضم إلى انتصاراتها فى النشاط العلمى والنشاط الاقتصادى انتصارا جديداً فى النشاط القانونى ، فتعمل على إخراج تقنين مدنى جديد ... أرجو أن يكون ذلك قريبا ... )) ( مجلة القانون والاقتصاد السنة السادسة ص 143 – ص 144 ) .
([35]) وهم الأستاذ عبده محمد محرم بك المستشار بمجلس الدولة والأستاذ محمد أحمد غنيم بك مدير إدارة التفتيش القضائي بوزارة العدل والأستاذ بدوى حمودة بك المدير العام لإدارة التشريع بوزارة العدل والأستاذ مصطفى كامل إسماعيل القاضى بمحكمة الإسكندرية المختلطة والدكتور سليمان مرقص الأستاذ بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول والدكتور شفيق شحاته الأستاذ بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول والأستاذ محمد رفعت عضو إدارة التشريع بوزارة العدل والأستاذ أحمد عثمان حمزاوى عضو إدارة التشريع بوزارة العدل والأستاذ يحيى خير الدين سكرتير لجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ والدكتور علي علي سليمان الموظف بوزارة العدل .
([36]) وهذه هى الوثائق التى جمعتها اللجنة ووزعتها على نصوص القانون ، فوضعت تحت كل نص ما اشتملت عليه هذه الوثائق فى شأن هذا النص :
1) المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدى .
2) محاضر اللجنة التى راجعت المشروع التمهيدى .
3) المذكرة الإيضاحية للمشروع النهائى .
4) تقرير اللجنة التشريعية بمجلس النواب .
5) محاضر جلسات مجلس النواب .
6) محاضر جلسات لجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ .
7) تقرير لجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ .
8) محاضر جلسات مجلس الشيوخ .
وقد أشير إزاء كل نص إلى ما يقابله من النصوص فى القانون المدنى القديم وفى بعض التقنينات الحديثة وإلى ما عسى أن يكون قد حذف من نصوص التشريع التمهيدى التى تتصل بهذا النص .
([37]) الجزء الأول فى الباب التمهيدى ، والجزآن الثانى والثالث فى النظرية العامة للالتزام ، والجزآن الرابع والخامس فى العقود المسماة ، والجزء السادس فى الملكية والحقوق العينية الأصلية ، والجزء السابع فى التأمينات أى الحقوق العينية التبعية .
([38]) هذا وقد أعقب صدور التقنين المدنى الجديد أن ألفت لجنة لمراجعة الترجمة الفرنسية لهذا التقنين ، برياسة الأستاذ سليمان حافظ بك وعضوية الأستاذ مصطفى كامل إسماعيل والدكتور سليمان مرقص والدكتور شفيق شحاته والدكتور علي علي سليمان . وقد أنجزت هذه للجنة لمهمتها ، ونشرت الترجمة الفرنسية التى راجعتها .
([39]) بيد أنه إذا عز أن يجمع تقنين واحد المعاملات والأسرة معاً ، فلا أقل من أن يجتمع شتات قانون الأسرة فى تقنين موحد يقوم إلى جانب التقنين المدنى الجديد . والخطب يسير فى هذا الشأن ، فقد وضع تقنين للميراث ، وآخر للوصية ، وثالث للوقف ، ورابع للمحاكم الحسبية ( الصغير والمحجور ) ، ولم يبق إلا تقنين خامس للزواج والطلاق والنسب فتتجمع بذلك أجزاء قانون الأسرة ، ويضمها كتاب واحد . والأمل معقود فى أن يكون ذلك قريباً .
([40]) أنظر مع ذلك المشروع الذى يعد لتنقيح التقنين الفرنسى وما دار من مناقشات طويلة حول هذا الموضوع ( المجلد الأول من الأعمال التحضيرية للجنة تنقيح التقنين المدنى سنة 1945 سنة 1946 ص 97 وما بعدها ) .
([41]) وسنرى أنه بعد أن حذف نص من المشروع التمهيدى يجعل الإرادة المنفردة مصدراً عاماً من مصادر الالتزام ، واقتصر المشروع النهائى على حالات معينة ينشأ الالتزام فيها من الإرادة المنفردة ، لم تعد الالتزامات الناشئة من الإرادة المنفردة فى هذه الحالات المعينة إلا التزامات تنشأ بنص فى القانون . وسنرتب على ذلك أن الإرادة المنفردة فى التقنين الجديد ليست مصدراً مستقلاً من مصادر الالتزام .
([42]) ولولا رغبة مشروعة فى عدم الابتعاد كثيراً عن التقسيم التقليدى لصح أن يأتى باب إثبات الالتزام عقب الباب الأول الذى تناول مصادر الالتزام . فإن الإثبات إنما يرد على مصدر الالتزام لا على الالتزام ذاته ، ويجب أن يسبق أثر الالتزام وانتقاله وانقضائه ، ولجاز أن يبدأ الكلام فى إثبات الالتزام بالإقرار فاليمين فالكتابة – وهى أقوى طرق الإثبات – لينتهى بأضعف الطرق وهى البينة والقرائن .
([43]) ولولا أن الترتيب ذو صبغة عملية لوجب تقديم العقد وهو عمل قانونى ، على الاستيلاء وهى واقعة مادية .
([44]) جاء فى تقرير لجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ فى هذا الصدد ما يأتى : (( وقد خرجت اللجنة من هذه الدراسة بنتيجتين جوهريتن من الخير إبرازهما قبل الاستطراد فى بيان ما انتهى إليه البحث : ( الأولى ) أن المشروع لم يخرج على التقاليد التشريعية التى استقرت فى البلاد منذ إدخال نظام التقنينات عند إنشاء المحاكم المختلطة فى سنة 1876 والمحاكم الوطنية فى سنة 1883 . فهو من هذه الناحية لا يقطع الصلة بين الحاضر والماضى ، ولكنه يتخذ الصالح من أوضاع هذا الماضى أساساً له ويستحدث من الأحكام ما اقتضته ضرورات التطور ، ويعتمد فى ذلك على الثروة التى أسفر عنها اجتهاد القضاء المصرى بوجه خاص ، ويجارى الفقه الإسلامى فى نواح مختلفة ، ويستمد بالقدر الذى يتلاءم مع تلك الأوضاع نصوصاً من أحدث التشريعات الأجنبية . وبهذه المثابة يعتبر المشروع صورة صادقة لتطور = = الظروف الاجتماعية وللتقدم العلمى الذى بلغه علم القانون فى مصر فى مدى نصف قرن من الزمان . ( أما النتيجة الثانية ) – وتترتب على النتيجة الأولى – فهى أن تطبيق الأحكام التى استحدثها المشروع ليس من شأنه أن يفضى إلى قلب أوضاع التعامل التى ألفها الناس ، أو أن يخل باستقرار المعاملات . وإنما هو على النقيض من ذلك يسعف هذه الأوضاع بإصلاح طال ترقبه . والواقع أن الحديث من أحكام هذا المشروع قد أحكم التآلف بينه وبين القديم من القواعد الكلية على نحو يجعل انتقال المتعاملين من سلطان القانون القديم إلى سلطان القانون الجديد أمراً يقتضيه التطور الطبيعى للظروف . ثم إن المشروع فى تقنين ما استقر عليه القضاء من مبادئ وفى تدارك أوجه النقص فى التقنين الحالى قد توخى أن يجعل النهج واضحاً أمام المتعاملين ليكفل استقرار المعاملات على أسس صقلتها التجارب ، فرسخت فى النفوس قبل أن تتخذ مكانها فى النصوص المعروضة )) ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ، ص 119 – 120 ) .
([45]) مجموعة الأعمال التحضيرية ، 1 ، ص 128 – 129 .
([46]) وقد جاء فى المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدى فى هذا الصدد ما يأتى : (( لعل أهم ما عيب على نظام الغرامات التهديدية فى وضعه الراهن أنه لا يستند إلى نص من نصوص التشريع ، بل هو وليد اجتهاد القضاء . وقد قصد المشروع إلى تدارك هذا العيب ، فأورد هذه ( المواد الثلاث ) باعتبارها سنداً تشريعياً يركن إليه عند التطبيق ، وهى بعد ليست إلا تقنيناً لما جرى عليه القضاء من قبل )) ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 539 ) .
([47]) وقد جاء فى المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدى فى هذا الصدد ما يأتى : (( بيد أن الحكم الصادر بالغرامة التهديدية حكم موقوف ، تنتفى علة قيامه متى اتخذ المدين موقفاً نهائياً منه ، إما بوفائه بالالتزام ، وإما بإصراره على التخلف . فإذا استبان هذا الموقف وجب على القاضى أن يعيد النظر فى حكمه ليفصل فى موضوع الخصومة . فإن كان المدين قد أوفى بالتزامه حط عنه الغرامة إزاء استجابة لما أمر به ، وألزمه بتعويض عن التأخر ، لا أكثر . وإن أصر المدين على عناده نهائيا ، قدر التعويض الواجب عن الضرر الناشئ عن عدم الوفاء )) ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 540 ) .
([48]) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 540 .
([49]) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 573 .
([50]) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 574 .
([51]) وهذا ما كتبته لجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ فى تقريرها فى هذا الصدد : (( وتبينت اللجنة كذلك أن المشروع اعتمد على الشريعة الإسلامية إلى حد بعيد بين مصادره ، فجعلها مصدراً عاماً يرجع إليه القاضى إذا لم يجد حكماً فى التشريع أو العرف ، وجعلها مصدراً خاصاً لطائفة لا يستهان بها من أحكامه . ولا ينكر ما للفقه الإسلامى من مكانة رفيعة بين مذاهب الفقه العالمى ، فكيف وقد كان ولا يزال معتبراً القانون العام فى كثير من المسائل فى مصر . وفى نقوية الصلة بين المشروع وأحكام الشريعة إبقاء على تراث روحى حرى بأن يصان وأن ينتفع به . واللجنة تسجل ما صادفت فى المشروع من أحكام أخذت عن الشريعة الإسلامية كالأحكام الخاصة بنظرية التعسف فى استعمال الحق وحوالة الدين ومبدأ الحوادث غير المتوقعة . وهذه الأحكام جميعاً تتضمن من القواعد ما يعتبر شاهداً من شواهد التقدم فى التقنينات الغربية ، وإن كان فقهاء الشريعة قد فطنوا إلى ما حدث من أحكام وأحكموا سبكه وتطبيقه على ما عرض فى عصورهم من أقضية لقرون خلت قبل أن يخطر شئ من ذلك ببال فقهاء الغرب أو من تولوا أمر التشريع فيه . ونقل المشروع أيضاً عن الشريعة الإسلامية طائفة من الأحكام التفصيلية يكفى أن يشار فى صددها إلى ما تعلق بمجلس العقد وإيجار الوقف والحكر وإيجار الأراضى الزراعية وهلاك الزرع فى العين المؤجرة وانقضاء الإيجار بموت المستأجر وفسخه بالعذر . هذا إلى مسائل أخرى كثيرة سبق أن اقتبس التقنين الحالى أحكامها من الشريعة الإسلامية ، وأبقاها المشروع ، كبيع المريض مرض الموت والغبن وتبعة الهلاك فى البيع وغرس الأشجار فى العين المؤجرة والعلو والسفل والحائط المشترك . أما الأهلية والهبة والشفعة والمبدأ الخاص بألا تركة إلا بعد سداد الدين فقد استمد المشروع أحكامها من الشريعة الإسلامية ، وهى أحكام لها أهميتها فى الحياة العملية . وفى حدود هذا المصدر الثانى كان مسلك المشروع قويماً ارتاحت إليه اللجنة وآنست فيه اتجاهاً إلى تقدير ما للفقه الإسلامى من مزايا أدركها علماء الغرب منذ زمن بعيد ، وبقى على دول الشرق أن تحلها المحل الخليق بها وأن تعبر عملياً عن اعتزازها بها وحرصها على استدامتها . ولعل من نافلة القول أن يشار إلى أن هذا المسلك أمعن فى رعاية ما للماضى من حرمة ، وأبلغ فى قضاء حق القدماء الذين تعهدوا الفقه الإسلامى باجتهادهم ، وأسبغوا على أحكامه من المرونة ما جعلها تتسع لما درج الناس عليه فى معاملاتهم . ولا ترى اللجنة فى الرجوع إلى الشريعة الإسلامية على هذا الوجه أي مساس باستقرار المعاملات ، بل ترى فيه تمكيناً لأسباب الاستقرار من طريق تقصى التقاليد الصالحة التى ألفها المتعاملون فى البلاد منذ مئات السنين )) . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 131 – ص 132 ) .
([52]) هذا هو الحد الذى وصل إليه التقنين الجديد فى الأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية ، عدا المسائل الأخرى التى أخذها بالذات من الفقه الإسلامى ، وهى المسائل التى تقدم ذكرها .
أما جعل الشريعة الإسلامية هى الأساس الأول الذى يبنى عليه تشريعنا المدنى ، فلا يزال أمنية من أعز الأمانى التى تختلج بها الصدور ، وتنطوى عليها الجوانح . ولكن قبل أن تصبح هذه الأمنية حقيقة واقعة ، ينبغى أن تقوم نهضة علمية قوية لدراسة الشريعة الإسلامية فى ضوء القانون المقارن . ونرجو أن يكون من وراء جعل الفقه الإسلامى مصدراً رسمياً للقانون الجديد ما يعاون على قيام هذه النهضة .
وقد حاول بعض رجال القانون أن يستبقوا الحوادث ، فدرسوا الشريعة الإسلامية دراسة سطحية فجة لا غناء فيها ، وقدموا نموذجا يشتمل على بعض النصوص فى نظرية العقد ، زعموا أنها أحكام الشريعة الإسلامية ، وهى ليست من الشريعة الإسلامية فى شيء . ودار فى شأن هذه النصوص حوار عنيف فى لجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ .
( أنظر فى تفصيل هذه المسألة مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 85 – 89 ) .
([53]) وفى محاولة الأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية عن دراسة سطحية لا تعمق فيها ، وهى المحاولة التى أشرنا إليها فيما تقدم ، ظن واضعو النموذج الذى سبق ذكره أن نظرية عيوب الرضاء ونظرية البطلان ونظرية السبب ونظرية الفسخ هى نظريات يمكن الأخذ بها كما هى مبسوطة فى القوانين الحديثة مع نسبتها إلى مذاهب فى الفقه الإسلامى تتعارض معها كل التعارض . وبديهى أن الشريعة الإسلامية لا تخدم عن طريق أن ينسب إليها ما ليس منها ، وإنما تخدم عن طريق دراستها دراسة علمية صحيحة ، وأول شرط لهذه الدراسة هى الأمانة العلمية . ولا يعيب الشريعة الإسلامية أنها لا تطاوع فى بعض نظرياتها ما وصل إليه القانون الحديث من نظريات معروفة ، ولكن يعيبها أن تشوه مبادئها وأن تمسخ أحكامها .
([54]) فالمشروع الفرنسى الإيطالى أكسب التقنينات اللاتينية العتيقة جدة لم تكن لها ، ونفخ فيها روح العصر ، وجمع بين البساطة والوضوح ، مع شئ كثير من الدقة والتجديد . على أن المشروع يكاد يكون محافظاً إذا قيس إلى التقنينات العالمية الأخرى . والتقنين الألمانى يعد أضخم تقنين صدر فى العصر الحديث ، وهو خلاصة النظريات العلمية الألمانية مدى قرن كامل ، ويبز من الناحية الفقهية أى تقنين آخر ، فقد اتبع طريقة تعد من أدق الطرق العلمية وأقربها إلى المنطق القانونى . ولكن هذا كان عائقاً له عن الانتشار ، فإن تعقيده الفنى ودقته العلمية أقصياه بعض الشئ عن منحى الحياة العملية ، وجعلاه مغلق التركيب ، عسر الفهم . والتقنين النمساوى يرجع عهده إلى أوائل القرن التاسع عشر ، فقد ظهر فى سنة 1812 عقب التقنين الفرنسى ، ولكنه لم يتح له من النجاح ما أتيح لهذا التقنين ، لذلك بقى محدود الانتشار فى أوروبا حتى غمره التقنين الألمانى ، وقد قام النمساويون بتنقيح تقنينهم فى أول سنى الحرب العالمية الأولى ، وظهر التنقيح فى سنة 1916، فأعاد لهذا التقنين العتيق شيئاً من الجدة والمسايرة لروح العصر ، أما التقنين السويسرى – تقنين الالتزامات والتقنين المدنى – فقد كان المنتظر أن يكون ، وهو من عمل الأساتذة ( فيك وهوبر ) ، عملا فقهيا ، فإذا به ذو صفة عملية بارزة . ويجمع التقنين السويسرى إلى الوضوح والبساطة الدقة والتعمق وإن كان خداعاً فى بعض المواطن فيما يتسم به من وضوح ودقة ( أنظر فى كل ذلك المحاضرة التى ألقيناها فى الجمعية الجغرافية الملكية وفتحنا بها باب الاستفتاء فى التقنين الجديد : مجلة القانون والاقتصاد 12 ص 555 – ص 559 ) .
([55]) وقد جاء فى تقرير لجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ ما يقرب من هذا المعنى فيما يأتى : (( والكثرة الغالبة من النصوص المعروضة قد ظفرت من وراء الاستئناس بصيغ التقنينات الأجنبية بدقة فى الأداء ، وإيجاز فى التعبير ، جعلا للمشروع قيمة فنية ذاتية ، وطابعاً حسناً . وقد روجعت هذه النصوص فى اللجنة التى أنشأتها وزارة العدل بعد جمع الآراء من طريق الاستفتاء ، وروجعت كذلك فى لجان مجلسى البرلمان ، وأدخل عليها من التعديل اللفظى والموضوعى ما يجعلها تعبر تعبيراً واضحاً عن المعانى التى قصدت إلى أدائها . ولا محل لأن يعاب على المشروع انتفاعه من التجربة التى انتهت إليها التقنينات الأجنبية فى حدود الصياغة ، ولا سيما بعد أن روجعت الصياغة على النحو المتقدم ذكره ، وانفصلت بذلك عن كل مصدر من مصادر الاستئناس ، وأصبحت معبرة فى ذاتها عن المعانى التى استظهرها كل من ساهم فى وضع المشروع أو مراجعته أو إقراره )) ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 133 ) .
([56]) وهذا أيضاً ما جاء فى تقرير لجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ فى هذا المعنى : (( أما النصوص التى اقتبست أحكامها من تقنينات أجنبية من حيث الموضوع فهى قليلة إذا قيست بسائر نصوص المشروع . وهى تعالج أوضاعاً مستقلة أو مسائل تفصيلية تصلح لأن يفصل فيها برأى أو آخر فى أي تقنين من التقنينات ، دون أن يخل ذلك بتناسق قواعده العامة أو تماسكها . ولم يتوخ المشروع فى ذلك مجرد النقل أو التقليد دون نظر إلى ظروف البيئة المصرية ، ولكنه جعل من ظروف هذه البيئة رائده ، فاسترشد بها فى المفاضلة بين الحكم الوارد فى تقنين وبين غيره مما فى تقنينات أخرى . وأدخل فى كثير من الحالات على ما اقتبس من أحكام تعديلات جوهرية نزولا على ما تقتضى تلك الظروف . وهو فى هذا لم يشذ عن الأسلوب المتبع فى أكثر الدول عند التقنين فى الوقت الحار ، والمتبع فى مصر فعلا بالنسبة إلى كثير من التشريعات . وقد أدمجت الأحكام التى اقتبست على هذا الوجه فى المشروع ، وروعى فى هذا الإدماج إحكام التآلف بينها وبين سائر أجزائه . ثم روجعت فى مختلف اللجان على ما تقدم ذكره من قبل ، فاستوى من ذلك كله تقنين متواصل الأجزاء متجانس الأحكام )). ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 133 ) .
([57]) وفى رأينا أنه إذا جاز الرجوع فى تفسير التقنين الجديد إلى مصدر أجنبى ، فلا يكون هذا المصدر إلا الفقه الفرنسى باعتبار أن الفقه المصرى لا يزال يستمد منه ، ولا يفتأ يتابع خطواته فى كثير من المسائل . وسيرى القارئ أننا فى هذا الكتاب نشير فى مناسبات كثيرة لآراء الفقهاء الفرنسيين إلى جانب آراء الفقه المصرى . أما الرجوع إلى غير الفقه المصرى والفقه الفرنسى فلا يكون إلا لأغراض علمية بحتة كما أسلفناه القول . ولا تزال نترقب اليوم الذى يبلغ فيه الفقه المصرى أشده ، فيصبح غنياً عن غيره بما يتوافر له من أسباب ذاتية . وغنى عن البيان أن الرجوع إلى الفقه الإسلامى متعين فيما يجب الرجوع فيه إلى هذا الفقه ، على النحو الذى سبق بيانه .
([58]) أنظر المقدمة التى وضعها الأستاذ سالى يقدم بها كتاب الأستاذ جنى المعروف فى (( طرق تفسير القانون الخاص )) .
([59]) وقد أقرت الحكومة هذا البيان . وهو بيان عهدت لجنة القانون المدنى إلى رئيسها حضرة الشيخ المحترم محمد محمد الوكيل ( باشا ) فى أن يدلى به أمام مجلس الشيوخ ، وقد أدلى به فعلا أمام المجلس ، وقدم له فى خطابه بالعبارات الآتية : (( ولا يحسبن أحد أن تعدد المصادر على الوجه المتقدم أفقد المشروع ما كان ينبغى أن يتوافر له من أسباب التماسك والتناسق . فالواقع أن هذه المصادر جميعاً تتقارب فى مشاربها . فقواعد التقنين الحالى وما يكملها من اجتهاد القضاء عاشا جنباً إلى جنب مع الشريعة الإسلامية والقواعد المستمدة منها . ثم إن القواعد المستمدة من القوانين الحديثة تمثل التقدم العلمى الذى تحقق على أساس تطور القديم . وهل خطت مصر خطوة واسعة فى تشريعاتها إلا على أساس نخير الصالح من مختلف المصادر بل ومن تشريعات متباينة . والواقع أن العبرة فى التقنين بتماسك الحلول وتواصلها ، فقد يتم هذا التواصل وذاك التماسك رغم تعدد المصادر إذا بذلت العناية الواجبة فى هذا الشأن ، وقد ينتفيان رغم وحدة المصدر إذا قصرت هذه العناية عن تحقيق الغرض . والمشروع المعروض قد وفق فى التأليف بين القواعد التى استقاها من المصادر التى تقدمت الإشارة إليها ، وقد يسر له ذلك اعتماده اعتماداً أولياً ورئيسيا على التقنين الحالى وقضاء المحاكم المصرية وأحكام الشريعة الإسلامية كما أسلفنا . ومن الواجب أن أشير فوق هذا كله إلى أن تنقيح القانون المدنى فى أية دولة من الدول فى الوقت الحاضر لا يمكن أن يغفل تقدم التقنينات فى الدول الأخرى ، أو يهمل الاسترشاد بها والاقتباس منها . وأبلغ شاهد على ذلك ما وقع فى التقنين المدنى السويسرى واللبنانى والبولونى والإيطالى والمشروع الفرنسى الجديد . وقد أثار بعض حضرات رجال القانون مسألة مصادر المشروع ، وقدموا فى هذا الشأن بعض ملاحظات تعرض لتفهم أحكام المشروع وتفسيرها وتطبيقها . وكانت اللجنة قد أوفت هذه المسألة حقها من البحث فى تقريرها ، وقمت من ناحيتى بتوضيح الأمر فى كلمتى هذه ، إلا أنه رغبة فى زيادة الإيضاح ، وتأكيداً للمعنى الذى ذهبت إليه اللجنة ، عهدت إلى أن أدلى برأيها فى هذا الموضوع الهام بالبيان التالى : ( أولا ) أن الغالبية العظمى من أحكام هذا المشروع ... ألخ )) . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 116 و 117 وص 161 و 162 ) .
([60]) مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 32 .
([61]) مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 136 – ص 137 .
هذا وقد ساور بعض رجال القانون خشية من أن التقنين الجديد قد تعوزه وحدة منسجمة يرجع إليها فى تفسير ما غمص من نصوصه وفى تكميل ما نقص من أحكامه ( أنظر مارافان فى مجلة مصر العصرية سنة 1949 عدد يناير وفبراير ص 42 – الدكتور شفيق شحاته فى جريدة المحاكم المختلطة عدد 3546 بتاريخ 4-6 ديسمبر سنة 1945 ) . وهذه الخشية لا مبرر لها . فإن المصدر الأساسى للتقنين الجديد لا يزال هو النظام اللاتينى ، ممثلا فى نصوص التقنين القديم وفى أحكام القضاء المصرى ، وممثلا كذلك فى التقنينات اللاتينية القديم منها والحديث ، ومقترناً بأحكام من الفقه الإسلامى تعود التشريع المدنى المصرى أن يراها متآلفة من النظام اللاتينى طوال السنين السابقات . ولم يدخل النظام الجرمانى فى التقنين الجديد إلا بقدر ، وفى الحدود اللازمة لإصلاح عيوب النظام اللاتينى .
وسنعود إلى هذا الموضوع بتفصيل أوفى .
([62]) وقد جاء فى المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدى فى هذا الصدد ما يأتى : (( أما فيما يتعلق بالمؤسسات فالأمر أدق ، إذ يجوز التساؤل عما إذا كان من المناسب إنشاء نظام آخر لحبس الأموال فى بلد لا يزال نظام الوقف مطبقاً فيه وفقاً لقواعد الشريعة الإسلامية . على أن هذا التساؤل لا يلبث أن يفضى إلى وجوب الأخذ بنظام المؤسسات ، فثمة مؤسسات فى مصر لم تتخذ شكل الوقف كالمدرسة العبيدية التى أنشئت فى سنة 1861 وملجأ أيتام سبتروروبولو الذى أنشئ فى سنة 1928 . ثم إن من المصريين من أراد أن ينشئ مستشفيات ومعاهد يخرجها مخرج المؤسسات لا مخرج الوقف ، فلم يجد أمامه إلا سبيل الهبة للحكومة للإنفاق على هذه المنشآت . وثمة مؤسسة بناريو أو (( قطرة الحليب )) وهو ملجأ أيتام إسرائيلى اتخذ شكل جمعية عند إنشائه مع أن منشئه كان يقصد أن يجعل منه مؤسسة . فالحاجة إلى إنشاء مؤسسات تختلف عن الوقف قد عنت للناس فى مناسبات متعددة . ولذلك يكون من الخير أن يوضع تشريع للمؤسسات لتشجيع البر وإقامة هذه المنشآت على قواعد مستقرة تكفل تحقيق الأغراض التى رصدت على خدمتها )). ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 371 )
([63]) من المسائل التفصيلية التى استحدثها التقنين الجديد ، ونكتفى بالإشارة إليها فى هذه الحاشية ، بقاء التعبير عن الإرادة بعد موت صاحبه أو فقده لأهليته ( م 92 ) .
([64]) هذا مع استثناء هبة المنقول ، فإنها تتم فى إحدى صورتيها بالقبض تمشيا مع أحكام الشريعة الإسلامية . وقد نصت المادة 488 فى هذا الصدد على ما يأتى : (( 1- تكون الهبة بورقة رسمية ، وإلا وقعت باطلة ، ما لم تتم تحت ستار عقد آخر . 2- ومع ذلك يجوز فى المنقول أن تتم الهبة بالقبض دون حاجة إلى ورقة رسمية )) . ويستخلص من هذا النص أن هبة المنقول ، إذا لم تختف تحت ستار عقد آخر ، تتم إما بورقة رسمية وإما بالقبض .
([65]) ويجب التمييز ، فى التشريعات المدنية التى كانت منفصلة عن التقنين المدنى القديم ، بين :
(( أ )) تشريعات مدنية وضعت على سبيل الدوام والاستقرار ، وهى فى الواقع من الأمر جزء من القانون المدنى ، وإن كانت منفصلة ماديا عن التقنين المدنى ، وذلك كالتشريعات الخاصة بالشفعة وبالشهر العقارى وبالفوائد وبالرى وبطرح البحر . وقد اعتبرت هذه التشريعات فعلا جزءاً من التقنين المدنى القديم ، وأدمج الكثير منها فى التقنين المدنى الجديد ، وإن بقى بعضها منفصلا عنه لأسباب خاصة كقانون الشهر العقارى وقانون الرى .
(( ب )) تشريعات خاصة صدرت فى ظروف استثنائية لمناسبات معينة ، وعاشت إلى جانب التقنين المدنى القديم ، مستقلة عنه ولا صلة لها به ، فلا تبقى ببقائه ، ولا تزول بزواله . وإنما هى تبقى ببقاء الظروف الاستثنائية التى كانت سبباً فى صدورها ، وتزول بزوال هذه الظروف . مثل ذلك التشريع المتعلق بعدم جواز إخلاء الأماكن المؤجرة وتعيين حد أقصى للأجرة ، والتشريع الخاص بالاستيلاء لأغراض التعليم وأغراض التموين ، والتشريع الخاص بتجزئة الضمان . كل هذه التشريعات الاستثنائية تعتبر مستقلة عن القانون المدنى ، ولم يلغها التقنين المدنى الجديد ، وإنما هى باقية ببقاء الظروف الاستثنائية التى استدعت صدورها ، ولا تزول إلا إذا ألغيت بتشريع خاص أو إذا انقضت المدة التى قدرت لبقائها .
([66]) أنظر فى هذا المعنى الدكتور محمود أبو عافية فى رسالته (( التصرف القانونى المجرد )) نسخة عربية ص 274 – ص 279 ، والدكتور أحمد زكى الشيتى فى المذكرة التى تقدم بها إلى معهد القانون المقارن بجامعة باريس سنة 1949 ص 25 – ص26 ، وانظر بنوع خاص ما ورد فى هذه المذكرة ( ص37 – ص40 ) عن نظرية الثقة (Vertrauenstheorie ) التى أخذ بها التقنين الألمانى متوسطاً فى ذلك بين نظرية الإرادة الظاهرة ونظرية الإرادة الباطنة .
([67]) أنظر فى هذا المعنى التقرير الذى تقدم به الأستاذ مورى (Maury) إلى مؤتمر الأسبوع الدولى للقانون الذى عقد بباريس سنة 1950 ص 12 . ويقارن الأستاذ بين التقنين الجديد وبين القانون الفرنسى من جهة والقانون الألمانى من جهة أخرى فى ص 10 إلى ص 12 .
([68]) مثل ذلك تعريف العقد والمعايير الموضوعية والعقود التى تقوم على الإرادة الظاهرة وغير ذلك مما سنورده تفصيلا فيما يلى .
([69]) أنظر فى هذا المعنى تقرير الأستاذ مورى المشار إليه وتقرير الدكتور شفيق شحاته المقدم إلى مؤتمر الأسبوع الدولى الذى تقدم ذكره . وجاء فى مبسوط القانون المقارن للأساتذة ببير أرمانجون والبارون بوريس نولد ومارتن وولف ، باريس 1950 جزء ثان ص 618 و (Traite do Droit Compare, par Pierre arminjon, Baron Boris Nolde, Martin Wolff, Paris 1950, II, page 618 ) ، وفى تقدير التقنين الجديد ما يأتى : (( إن مبادئ ( التقنين المصرى الجديد ) ، وتكييفاته القانونية ، ومصطلحاته الفنية ، وقواعده الأساسية ، هى فى مجموعها ما تراه فى القانون الفرنسى . على أن التقنين المصرى الجديد هو بالرغم من ذلك عمل مبتدع لما يمتاز به من وضوح ودقة )) .
(Dans leur ensemble, ses principes, ses qualifications, sa terminolgie, ses regles fondamentales sont celles du droit francais. Cette ceuvre, remarquable par sa clarte et sa precision, est neanmoins originale ) .
([70]) ويمكن القول ، من ناحية نظر أخرى ، أن ما رتبه القانون من جزاء على الاستغلال والإذعان هو احترام لسلطان الإرادة ، وإذا كان القانون لا يعتد اعتداداً كاملا بالإرادة المستغلة أو المذعنة ، فذلك لأن الإرادة هنا لم تستكمل حريتها ، ولا سلطان إلا للإرادة الحرة .
([71]) أنظر أيضاً فى حالتين أخريين المادتين 925 و 928 .
( [72] ) على أن التقنين الجديد ، من جهة أخرى ، قد بسط في سلطان الإرادة عندما استبقاها في بعض الفروض نتج اثراً آخر غير الأثر المقصود أصلاً ، بعد أن ابطل اثرها الأصل . نرى ذلك في انتقاص العقد وفي تحويله . فقد نصت المادة 143 على أنه " إذا كان العقد في شق منه باطلا أو موقوفا ، فهذا الشق وحده هو الذي يبطل أو يقف ، إلا إذا تبين أن العقد ما كان ليتم بغير الشق الذي وقع باطلا أو موقوفا فيبطل العقد كله " . ونصت المادة 1244 على أنه " إذا كان العقد باطلا أو قابلا للإبطال وتوافرت فيه أركان عقد أخر ، فان العقد يكون صحيحا باعتباره العقد الذي توافرت أركانه ، إذا تبين أن نية المتعاقدين كانت تنصرف إلى إبرام هذا العقد " .
( [73] ) وقل مثل ذلك في السبب غير المشروع إذا لم يعلم به المتعاقد الآخر ولم يكن يستطيع أن يعلم به – هذا ويمكن الوصول إلى النتيجة ذاتها من طريق الاعتداد بالإرادة الحقيقة ، فيقال إن العقد في الحالات المتقدمة في الغلط والتدليس والإكراه يجوز إبطاله لفساد الإرادة ، وسكن يرجع المتعاقد الآخر – وهو لا ذنب له – على المتعاقد الأول بالتعويض ، وخير تعويض هو بقاء العقد صحيحاً .
( [74] ) هذا وقد أشرنا فيما تقدم إلى أن الدكتور أحمد زكي الشيتي في المذكرة التي تقدم بها إلى معهد القانون المقارن بجامعة باريس في سنة 1949 ( ص 37 – ص 40 ) يرى أن التقنين المدني الجديد قد أخذ بنظرية الثقة ( Vertrauenstheorie ) التي أخذ بها التقنينان الألماني والسويسري . وهذه النظرية وسط بين نظريتي الإرادة الظاهرة والارادة الباطنة ، فهي تأخذ بالإرادة التي استطاع من وجه إليه التعبير أن يتعرفها من خلال هذا التعبير مستعيناً بجميع الملابسات الموضوعية التي يجب عقلا أن تدخل في اعتباره . فالإرادة التي يعتد بها ، طبقاً لهذه النظرية ، هي الإرادة الباطنة التي يمكن التعرف عليها من خلال هذه الضوابط الموضوعية ( volonte reconnaissable ) .
ولا شك في أن التقنين الجديد قد أخذ كقاعدة عامة بالإرادة الباطنة . ولكنه يتعرف عليها عن طريق الإرادة الظاهرة . فالإرادة الظاهرة وسيلة لا غاية .
( [75] ) أنظر في هذا المعنى : " القيود التعاقدية الواردة على حرية العمل – المعيار والقاعدة " ، رسالة بالفرنسية للمؤلف ليون سنة 1925 . هذا ولا يجوز الاعتراض على فكرة المعيار المرن بالخشية من تحكم القاضي ، وبأن هذا التحكم ممتنع إذا تقيد القاضي بقاعدة ثابتة . ذلك أن القاضي لا يلبث إزاء القاعدة الجامدة التي أصبحت لا تلائم الظروف أن يخرج عليها ، فينطلق إلى مجال يكون فيه أكثر تحكماً مما لو كان أمامه معيار تشريعي مرن مفروض عليه أن يسترشد به .
( [76] ) أما ما ورد في المادة ذاتها في شان المسئولية عن الآلات الميكانيكية فهو قاعدة لا معيار . وفي هذه المقابلة بين الأشياء التي تتطلب حراستها عناية خاصة والآلات الميكانيكية يتبين الفرق واضحاً بين المعيار والقاعدة .
( [77] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 6 ص 13 وص 15 و ص 16 .
( [78] ) وينقل الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت بك في كتابه " نظرية الالتزام " عن مذكرات الدكتور عبد المعطي خيال بك ( فقرة 5 ) في هذا الصدد ما يأتي : " أن التكليف باحترام الحق العيني وعدم الاعتداء عليه لا يمكن بالبداهة أن يكون من العناصر المكونة له ، لأنه لا يتصور أن يطلب إلى الكافة إلا احترام حق كامل قائم . فالتكليف يتقرر إذن بعد وجود الحق العيني ، بينما الالتزام الواقع على المدين في الحق الشخصي جزء منه لا يتصور وجود الحق من غيره " . ( الدكتور حشمت أبو ستيت بك : نظرية الالتزام ، القاهرة سنة 1945 ص 10 هامش رقم 1 ) .
( [79] ) ويلاحظ في هذا الصدد أن التنازل عن الحق العيني يتم بارادة منفردة هي إرادة صاحب الحق . أما التنازل عن الحق الشخصي فكان في القانون المدني القديم لا يتم إلا باتفاق الدائن والمدين تغليباً لناحية ما ينطوي عليه الحق من رابطة شخصية ، ويتم الآن في القانون المدني الجديد بارادة صاحب الحق وحدها تغليباً لناحية ما ينطوي عليه الحق من قيمة مالية .
ويلاحظ كذلك أن الحق العيني يكسب بالتقادم ، أما الحق الشخصي فلا . والسبب في ذلك لا يرجعغ إلى أن الحيازة ، وهي التي يستند إليها التقادم المكسب ، ترد على الحق العيني دون الحق الشخصي ، فالحيازة ترد على كل من الحقين ( قارن نظرية العقد للمؤلف ص 7 وهامش رقم 1 ) . نرى أنه لا يوجد سبب فني يمنع من كسب الحق الشخصي بالتقادم . ولكن لما كان ذلك لا تتحقق فائدته العملية إلا نادراً ، فقد اغفلته الصياغة القانونية ، وهي لم تغفل في الوقت ذاته ما ظهرت الحاجة إليه من ذلك كما نرى في نظرية الوارث الظاهر وفي الوفاء بحسن نية لشخص كان الدين في حيازته ( م 333 من القانون المدني الجديد ) .
( [80] ) وساعد على ذيوع النظرية المادية في ألمانيا تحليل الحق الشخصي على اعتبار أنه حق على شيء ( Jus ad rem ) ، فاقترب بذلك من الحق العيني الذي هو حق في شيء ( Jus in re ) وقد أوعل الألمان في التحليل على هذا النحو ، حتى أصبح الحق الشخصي في النهاية خطوة نحو الحق العيني ، إذ يبقى حق الدائن شخصياً إلى يوم التنفيذ ، فإذا ما نفذ وتسلم الدائن الدين صار حقه عينيا على ما تسلمه .
وتساند مع النظرية المادية للالتزام نظريتان اخريان ، هما أيضاً ألمانيتان : نظرية الذمة المالية ونظرية المديونية والمسئولية .
فالذمة المالية ( Patrimoine ) ينظر إليها الألمان من الناحية المادية ولا يربطونها بالشخص . فهي مجموع من المال يتكون من عناصر ايجابية ( actif ) ومن عناصر سلبية ( Passif ) ، ويتميز لا باستناده إلى شخص معين ، بل بتخصيصه لغرض معين سواء استند إلى شخص أو لم يستند . ولما كان الالتزام من عناصر الذمة المالية التي هي شيء مادي ، فإنه يكسب منها هذه الصبغة .
ويميز الألمان بين المديونية ( Schuld ) والمسئولية ( Haftung ) . فالمديونية واجب قانونين معين يقوم به شخص لآخر . فهي إذن رابطة شخصية ما بين المدين والدائن ، تجعل على المدين واجب الوفاء وعلى الدائن واجب قبول هذا الوفاء . ولا تتضمن المديونية عامل الاجبار على الوفاء ، إنما الاجبار هو المعنى الذي تتضمنه المسئولية . فالمدين قد يكون مدينا ومسئولا في قوت معاً فيجمع ما بين المديونية والمسئولية ، وفي هذه الحالة يكون عليه واجب الوفاء ، ويمكن إجباره على ذلك .
وإجباره على الوفاء أما أن يكون بالتسلط على شخصه أو بالتسلط على ماله من طريق شخصه . وقد تنفصل المسئولية عن المديونية ، فلا يمكن إجبار المدين على الوفاء ( وهذا يقترب من الالتزام الطبيعي في القوانين اللاتينية ) ، ويكون هناك شخص آخر هو المسئول في شخصه ( ويقرب من الكفيل بالنفس في الشريعة الإسلامية ) أو في ماله عن طريق شخصه ( ويقرب من الكفيل الشخصي ) ، وقد تنحصر المسئولية في المال ، فيصبح المال دون الشخص في هذه الحالة هو المسئول ( ويقرب من الكفيل العيني أو الحائز للعقار المرهون ) . فالمسئولية تكون إذن على نوعين : 1 ) مسئولية شخصية تقع على شخص المسئول أو على ماله عن طريق شخصه . 2 ) ومسئولية عينية تقع على المال وحده دون نظر للشخص . ومن ثم يتبين أن المسئولية العينية ، وهي أحد العنصرين الجوهريين للالتزم ، تقع على المال مباشرة دون الشخص ، فتصطبغ بالصبغة المادية ( أنظر Rudolf Huebner ; A History of German Private Law ) ترجمة إلى الإنجليزية الأستاذ ( Philbrick ) لندن سنة 1918 ص 463 – ص 489 ) .
( [81] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 9 في الهامش .
( [82] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 9 في الهامش .
( [83] ) فألحق بالجرائم المعروفة ، ومنها السرقة والغش والتهديد ، إعمالاً أخرى غير مشروعة ، كاخلال القاضي بواجبات وظيفته ووقوع الشيء من نافذة منزل ، فتصيب الغير بالضرر .
( [84] ) فألحق بالعقود المعروفة ، ومنها البيع والإيجار والقرض والعارية والمقايضة والقسمة ، إعمالاً ووقائع أخرى مشروعة كعمل الفضولي ودفع غير المستحق وحالة الجوار ومركز الشخص في أسرته فيما يترتب على هذه الوقائع من التزامات .
( [85] ) أنظر مقاله في المجلة الانتقادية ( Revue Critique ) سنة 1904 ص 224 وما بعدها . وانظر أيضاً مختصره في القانون المدني جزء 2 فقرة 806 وما بعدها .
( [86] ) تولييه 11 فقرة 2 ، وما بعدها . ولعل تولييه هو أول من نقد الترتيب الذي أتى به قانون نابليون نقداً جدياً ، ويحس القارئ في كتابته الدقة والتعمق عند معالجته هذا الموضوع . وقد انصف بلانيول تولييه حين ذكر عنه ما يأتي : " . . . إن هاتين الصفحتين من كتابه ، وهما صادرتان عن تفكير قوي وتعبير متين ، لم يلفتا نظر من جاء بعدهع من الفقهاء . ولا ندري كيف أن " بمولومب ، وهو الذي استعان كثيراً بكتاب تولييه في هذا الموضوع ، لم يخلص منه بفائدة . فإننها إذا لم نقرأ آراء تولييه إلا عن طريق ما اقتبسه منه ديمولومب لا تحزر أن تولييه قد أتى بهذه الآثار العميقة المنتتجة " ( بلانيول 2 فقرة 811 هامش رقم 1 ) .
( [87] ) إذا قلنا أن القانون مصدر مباشر لبعض الالتزامات فإننا نقصد بذلك أن هذه الالتزامات لا نزال تتولد من وقائع قانونية ، شأنها في ذلك شأن الالتزامات التي تتولد من العقد ومن العمل غير المشروع . ومن الإثراء بلا سبب ، ولكنها لا تتولد عن هذه الوقائع إلا في حالات خاصة ينص عليها القانون بطريق مباشر .
( [88] ) ويذهب الدكتور حلمي بهجت بدوي بك ( أنظر كتابه في أصول الالتزامات ص 36 – ص 40 ) إلى أنه لا يوجد إلا مصدران للالتزام : الإرادة والقانون . ولكنه يختلف اختلافاً جوهرياً عن القائلين بالترتيب الثنائي . فعنده أن الالتزام العقدي يتحلل إلى التزامين مستقلين لكل منهما مصدر خاص : الدين ومصدره الإرادة ، وإجبار المدين على الوفاء ومصدره القانون . وهذا الالتزام الثاني هو المسئولية العقدية . وهو يذهب إلى أن المسئولية العقدية ، كغيرها من أحوال المسئولية الأخرى ، مصدرها القانون . فالقانون يقضي بالمسئولية إذا اخل المتعهد بالوفاء بتعهده ، وإذا أضر الإنسان بغيره ، وإذا أثرى على حساب غيره ، وإذا تدخل في شؤون غيره . . .
ولا نطيل القول في نقد هذا التقسيم فإن المؤلف نفسه لم يلتزمه . ونجتزئ بالإشارة إلى أن عيبه الجوهري في رأينا هو أن المؤلف يذهب إلى أن مصدر المسئولية العقدية يختلف عن مصدر الدين العقدي . والصحيح أن المسئولية العقدية والدين العقدي لهما مصدر واحد هو الإرادة . ذلك أن المدين في العقد إنما أراد أن يرتب في ذمته دينا وأراد أيضاً أن يكون لدائنه حق إجباره على الوفاء بهذا الدين ، والقانون يأتي بعد ذلك يقر هذه الإرادة في شقيها ، شق المديونية وشق المسئولية . فلا محل مطلقاً للتمييز ما بين المديونية والمسئولية من حيث المصدر . وقد رأينا فيما تقدم أن الألمان يميزون ما بين المديونية والمسئولية في الالتزام العقدي ولكنهم لا يجعلون أحدهما يختلف في مصدره عن الآخر . فلا يمكن الاستناد إذن إلى النظرية الألمانية للدفاع عن هذا التقسيم .
( [89] ) وسنرى أن الإرادة المنفردة ، إذا كان المشروع التمهيدي قد اعتبرها مصدراً عاماً للالتزام كالعقد والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب ، إلا إنها في المشروع النهائي ، ثم في التقنين الجديد ، لم تصبح مصدراً للالتزام إلا في حالات خاصة يعنيها نص في القانون . ومن ثم أصبحت الالتزامات التي مصدرها الإرادة المنفردة في القانون الجديد إنما هي التزامات أنشأها القانون بطريق مباشر بمقتضى نصوص خاصة ، وقد عالجناها ضمن الالتزامات التي تنشأ من القانون .
( [90] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 3 هامش رقم 1 .
( [91] ) وهذا الترتيب الذي توخيناه تظهر فيه مزيتان متصلتان بأسباب كسب الحقوق العينية :
( الأولى ) أنه يفسر بعض المسائل الغامضة . فكثيراً ما يناقش الفقهاء هل الشفعة حق عيني أو هي شيء غير ذلك . كما يتناقشون في طبيعة الحيازة وهل هي حق عيني . ونحن لا نتردد في الإجابة على هذه المسائل بما قدمناه . فلا الشفعة ولا الحيازة بحق عيني أو حق شخصي ، بل هما واقعتان قانونيتان تدخلان في أسباب كسب الملكية . فهما إذن ليسا بحقوق ، بل هما مصدر للحقوق . ولا يصح أن يقال عن أي منهما أنه حق عيني أو حق شخصي بالقدر الذي لا يصح أن يقال به إن العقد ، وهو أيضاً مصدر للحقوق ، حق عيني أو حق شخصي . والأهمية العملية لعدم اعتبار الشفعة حقاً أنه لا يجوز لدائني الشفيع أن يستعملوا الشفعة باسم مدينهم .
والذي ضلل الناس في أمر الشفعة هو إنها تجعل الشفيع بالنسبة إلى العين المشفوع فيها في منزلة من له الحق في أن يتملكها . وهذه منزلة وسطى بين مجرد الرخصة في التملك ، حيث يكون الشخص اجنبياً عن الشيء ، وحق الملكية الكامل ، حيث يكون للشخص حق عيني في الشيء . ونظير ذلك شخص صدر له إيجاب بالبيع ، فهو أيضاً في منزلة وسطى بين من له مجرد الرخصة في الشراء قبل صدور الإيجاب وبين الشمتري الذي أصبح مالكا عند تمام البيع . وقد نبه فقهاء الشريعة الإسلامية إلى هذه المنزلة الوسطى ، ووصفوها بأنا حق الشخص في أن يتملك ، أو كما يقول القرافي في الفروق " من انعقد له سبب المطالبة بالملك " ويفرق بين هذا وبين " من ملك أن يملك " ( الفروق للقرافي المطبعة التونسية سنة 1302 الجزء الثالث ص 28 – ص 31 – النظرية العامة للالتزامات في الشريعة الإسلامية للدكتور شفيق شحاته فقرة 322 ص 265 وما بعدها ) .
والقائلون بانتقال الشفعة إلى الورثة يعنون بذلك أن الحق في التملك بسبب الشفعة – وهو كما قلنا منزلة وسطى بين مجرد الرخصة والحق الكامل – ينتقل بالميراث ، ونظير ذلك أن ينتقل حق من وجه إليه الإيجاب إلى ورثته بعد موته فيقبلون بدلا منه ، وسنرى أن هذا الحق لا ينتقل إلى الورثة وأن الإيجاب يسقط بموت من وجه إليه هذا الإيجاب .
( الثانية ) أن هذا الترتيب يزيل لبسا نشأ من عدم الدقة في تعريف العمل المادي والعمل القانوني . فقد جرت الفقهاء على أن تعرف العمل المادي بأنه واقعة اختيارية لا يقصد منها صاحبها النتيجة القانونية التي تترتب عليها ، أما العمل القانوني فواقعة اختيارية يقصد نتيجتها القانونية فإذا سلمنا بهذا التعريف تساءلنا أين إذن نضع الاستيلاء والحيازة ؟ نضعها طبقاً للتعريف المتقدم في الأعمال القانونية لأن القائم بهما يقصد ما يترتب عليهما من النتائج . ولكن القول بهذا يخالف المعقول ، فمن غير الممكن التسليم بان الاستيلاء والحيازة من الأعمال القانونية ، لذلك يخرجهما بعض الفقهاء من دائرة هذه الأعمال بتعليلات مشكوك في وجاهتها ( أنظر ديموج 1 ص 12 – ص 26 ) . ولا شك في أن الاستيلاء والحيازة أعمال مادية . لذلك وجب أن تصحح تعريف العمل المادة والعمل القانوني . فالأول هو عمل مادي يقع من الإنسان باختياره ، سواء أراد النتيجة القانونية التي تترتب عليه أو لم يد . فالعمل الضار هو عمل مادي اختياري لا يريد صاحبه ما يترتب عليه من النتائج القانونية ، والاستيلاء عمل مادي اختياري يريد صاحبه هذه النتائج ، والالتصاق والفضالة من الأعمال المادية الاختيارية التي قد يريد صاحبها نتائجها القانونية وقد لا يريدها . أما العمل القانونين فليس بعمل مادي ، بل هو إرادة محضه تتجه لإحداث نتيجة قانونية معينة . فالذي يميز إذن بين العمل المادي والعمل القانونين ليس هو كما يظن الكثيرون أن الأول لا تقصد نتيجته القانونية ، والثاني تقصد منه هذه النتيجة ، ولكن المميز بين العملين هو أن الأول مادي والثاني غير مادي أو هو مجرد إرادة تتجه لإحداث اثر قانوني .
على أنه يمكن تمييز طائفة ثالثة منم الوقائع القانونية تصح تسميتها بالوقائع المركبة والوقائع المختلطة . فإذا كانت الواقعة القانونية تتركب من واقعة مادية وعمل قانوني ، كانت مركبة ( complexe ) . مثل ذلك الشفعة اقترن فيها بيع العين المشفوعة مع الشيوع أو الجوار ، وهذه واقعة مادية ، بإعلان الشفيع رغبته في الأخذ بالشفعة ، وهذا عمل قانونين . أما إذا كانت الواقعة القانونية شيئاً واحداً ولكن اختلط فيه العنصر المادي بعنصر الإرادة ، كانت الواقعة مختلطة ( mixte ) . مثل ذلك الاستيلاء اختلطت فيه الحيازة المادية ، وهي عنصر مادي ، بإرادة المستولى في أن يتملك في الحال ، وهي عنصر إرادي ، ولكن العنصر المادي هنا هو المتغلب . ومثل ذلك أيضاً الوفاء اختلط فيه تسليم الشيء الواجب الأداء ، وهو عنصر مادي ، بالاتفاق على انقضاء الدين ، وهو عنصر إرادي ، ولكن العنصر الإرادي هو؟؟؟؟؟
( [92] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 10 في الهامش .
( [93] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 11 في الهامش وص 9 في الهامش .
( [94] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وقد تعمد المشروع ؟؟؟ تقسيمات ؟؟ التي توجد في أكثر التقنينات اللاتينية النزعة ، لأن ؟؟؟؟؟ ولذلك رؤى من الاحوط أن تهمل في النصوص التشريعية " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 11 في الهامش ) .
( [95] ) وقد يكون العقد رضائياً في أصله فيتفق المتعاقدان علىاني كون شكليا ، أي أن الشكلية تكون واجبة باتفاق المتعاقدين لا يحكم القانون . مثل ذلك أن يتفق المتعاقدان نبمقتضى عقد ابتدائي ، أن يكون التعاقد النهائي بالكتابة ، أو بمقتضى شرط في عقد الإيجار أن التنبيه بالاخلاء يكون بالكتابة . فتكون الكتابة في مثل هذه الحالات ركنا شكليا لا يتم العمل القانونين إلا باستبفائه . وقد يقصد المتعاقدان من اشتراط الكتابة أن تكون للاثبات لا لتكوين العمل القانونين . وإذا قام شك في تفسير قدص المتعاقدين هل الكتابة ركن شكلي أو هي الطريق للاثبات ، فالقضاء في مصر وفرنسا يتلمس من ظروف الواقع قرينة على ترجيح أحد الفرضين ، فإذا لم توجد قرينة مرجحة كان المفروض أن المتعاقدين اشترطا الكتابة للاثبات لا للانعقاد لأن الأصل في العقود أن تكون رضائية . أنظر في هذا المعنى محكمة الاستئناف الوطنية في 21 فبراير سنة 1941 المجموعة الرسمية 15 رقم 105 – محكمة الاستئناف المختلطة في 18 مايو سنة 1933 م 45 ص 291 – ولكن القضاء المصري لم يستقر على هذا المبدأ وسيتبين ذلك فيما يلي – أنظر أيضاً في هذا المعنى محكمة النقض الفرنسية في 26 يونية سنة 1901 سيريه 1904 – 1 – 283 – وحكم آخر في 14 مايو سنة 1912 داللوز 1913 – 1 – 281 مع تعليق فاليرى Valery .
وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على نص في هذه المسألة يرجح أن تكون الكتابة للانعقاد لا للإثبات ، فكانت المادة 149 من هذا المشروع تنص على أنه " إذا اتفق المتعاقدان على أن يستوفى العقد شرطا خاصا لم يشترطه القانون ، فالمفروض عند الشك إنهما لم يقصدا أن يلتزما إلا من الوقت الذي يستوفى فهي العقد الشكلي المتفق عليه " . وقد جرى المشروع في ذلك على نهج كثير من التقنينات الحديثة ( القانون الألماني م 125 و م 154 فقرة 2 – قانون الالتزامات السويسري م 16 – القانون البولوني م 109 ) . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " إذا اتفق المتعاقدان على وجوب استيفاء شكل معين ، سواء أكان ذلك بمقتضى عقد تمهيدي أم كان بمقتضى شرط معين في عقد أصلي – كما هو الشأن في اشتراط الكتابة في التنبيه بالاخلاص في عقود الإيجار – فيفرض أن نيتهما قد انصرفت إلى ترتيب البطلان على عدم مراعاة هذا الشكل . وهذه هي دلالة القرينة التي تقيمها المادة 149 من المشروع . على أن الأمر لا يعدو مجرد قرينة بسيطة ، يجوز إسقاط حكمها بإثبات العكس ( التقنين الألماني تعليقات ج 1 ص 136 ) . وقد ذهب القضاء المصري إلى أنه إذا أريد تعديل عقد تم بالكتابة تعديلا ينطوي على تكليف جديد ، فيشترط أن يتفق ذوو الشأن على ذلك كتابة عن بينة منهم ( استئناف مختلط 23 ابريل سنة 1935 م 47 ص 263 ) . أما فيما يتعلق بالشكل الذي يتفق عليه المتعاقدان فلم يستقر القضاء على رأي بشأن دلالة الاتفاق عند الشك ، فهل يستتبع إغفال الشكل في هذه الحالة بطلان العقد ، أم يعتبر الشكل مشروطاً لتهيئة طريق للإثبات فحسب ؟ قضت محكمة الاستئناف المختلطة أنه لا يجوز لسمسار أن يتمسك بحصول الاتفاق بين المتعاقدين ليتأدى من ذلك إلى المطالبة بالسمسرة المتفق عليها إذا كان البيع قد علق على شروط عدة وأرجأ المتعاقدان ارتباطهما النهائي إلى وقت التوقيع على عقد يحرره محاموهما ما دام أن التوقيع لم يحصل ( 14 يناير سنة 1930 م 42 ص 182 ) . وعلى هذا النحو اعتبرت المحكمة أن إغفال الشكل الذي اتفق عليه يستتبع البطلان دون أن ينص صراحة علىذ لك . على أن هذه المحكمة نفسها قد حكمت في قضية أخرى بان العقود الرضائية تتم بمجرد التراضي ما لم يكن المتعاقدان قد اتفقا على التعاقد بعقد رسمي مع النص صراحة على انصراف نيتهما إلى تعليق الارتباط على اتمام العقد من طريق التوقيع عليه أمام موثق العقود ( 18 مايو سنة 1933 م 45 ص 291 ) . ويلوح أن المحكمة قد جنحت في هذا الحكم الأخير لاشتراط الاتفاق صراحة على أن إغفال الشكل المتفق عليه يستتبع البطلان . ومن المحقق أن النص الذي اختاره المشروع في المادة 149 من شأنه أن يضع حداً لتردد القضاء في هذا الصدد " . ولكن المادة 149 من المشروع التمهيدي عندما تليت في لجنة المراجعة اقترح حذفها لامكان الاستغناء عنها ، فوافقت اللجنة على ذلك . ومن ثم حذف هذا النص في المشروع النهائي ( أنظر في كل ذلك مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 73 – ص 74 في الهامش ) . وقد كان من الخير إبقاء النص حتى يضع حداً لتردد القضاء على ما تقول المذكرة الإيضاحية . أما وقد حذف ، فلا مناص من الرجوع على القواعد العامة . ولما كان الأصل في العقد أن يكون رضائياً ، فالأولى عند الشك أن تكون الكتابة للإثبات لا للانعقاد . والراجح في القضاء المصري والفرنسي يؤيد هذا الرأي كما قدمنا .
( [96] ) ويلاحظ أن كل عقد شكلي يكون التوكيل في عمله شكلياً أيضاً ( م 700 من القانون المدني الجديد ) ، وكذلك الوعد بابرام عقد شكلي يكون شكليا ( م 101 فقرة 2 ) ، وإجازة العقود الشكلية تكون شكلية مثلها . ويستوفى اشلكل أيضاً فيما يدخل على العقد الشكلي من تعديل لا فيما يضاف إليه من شروط تكميلية أو تفصيلية لا تتعارض مع ما جاء فيه .
وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على نص يورد بعض هذه الأحكام ، فكانت المادة 148 من هذا المشروع تنص على ما يأتي :
" 1 - إذا فرض القانون شكلا معينا لعقد من العقود ، فلا يكون العقد صحيحاً إلا باستيفاء هذا الشكل ما لم يوجد نص يقضي بخلاف ذلك " .
" 2 – إذا قرر القانون للعقد شكلا معينا ، فيجب استيفاء هذا الشكل أيضاً فيما يدخل على العقد من تعديل ، لا فيما يضاف إليه من شروط تكميلية أو تفصيلية لا تتعارض مع ما جاء فيه " . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " يقضي التقنين الألماني ( المادة 125 ) والتقنين السويسري ( المادتان 11 ، 12 من قانون الالتزامات ) والتقنين البرازيلي ( المادة 130 ) بان عدم استيفاء عقد من العقود للشكل الذي يفرضه القانون له يستتبع البطلان أصلاً ، ما لم ينص على خلاف ذلك . وقد اثر المشروع إتباع هذا المذهب مخالفا مذهب التقنين البولوني ( المادة 110 ) في هذا الشأن . فإذا تطلب القانون شكلا خاصا وأطلق الحكم بغير تعقيب ، فمن الطبيعي أن يكون استيفاء هذا الشكل شرطا لوجود العقد . أما إذا كان الشكل قد فرض لتهيئة طريق الإثبات فحسب ، فمن واجب القانون أن ينص صراحة على ذلك . وكل تعديل يدخل على عقد لا يتم إلا بالكتابة يعتبر باطلا إذا لم يستوف فيه هذا الشرط ، إلا أن يكون القانون قد قضى بغير ذلك . ويلاحظ أن معنى التعديل يتحقق في الشروط التي تتعارض مع مضمون العقد الأول ، لا في الشروط التفصيلية أو التكميلية التي لا تنطوي على مثل هذا التعارض ، فالاتفاق على ترميم منزل بيع بمقتضى عقد تم بالكتابة ليس إلا شرطاً تفصيليا لا ضرورة للكتابة فيه . ويختلف عن ذلك حكم ما يضاف إلى التعاقد الأول من شروط أو نصوص جديدة ( فيك ومورلا : تعليقات على تقنين الالتزامات السويسري ج 1 المادة 12 نبذة 4 و 5 ) . . . وقد ذهب القضاء المصري إلى أنه إذا أريد تعديل عقد تم بالكتابة تعديلا ينطوي على تكليف جديد . فيشترط أن يتفق ذوو الشأن على ذلك كتابة عن بينة منهم ( استئناف مختلط 23 ابريل سنة 1935 م 45 ص 263 ) . " وعندما تليت المادة 148 من المشروع التمهيدي في لجنة المراجعة ، رأت اللجنة بعد المناقشة حذفها ، استناداً إلى أنه في الحالة التي يصرح فيها المشرع بالمهمة التي يريدها للشكل الذي قرره للعقد لا تقوم أية صعوبة ، وفي الحالة التي لا يصرح فيها بذلك يترك الأمر لتقدير القاضي دون الأخذ بقرينة أخرى . ( أنظر في كل ذلك مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 72 – ص 74 في الهامش ) .
وهنا أيضاً كان من الخير إبقاء النص حتى لا يضطرب القضاء في تفسير نية المشرع في مسألة جوهرية كهذه المسألة . وقد كان النص المحذوف يتضمن قرينة قانونية على أن الشكل الذي يفرضه القانون يكون عند الشك للانعقاد لا للإثبات . وما دام النص قد حذف ، وزالت بحذفه هذه القرينة القانونية ، لم يبق إلا الرجوع إلى القواعد العامة في التفسير . وعندنا أنه إذا غم الأمر ولم يتبين القاضي – بعد أن يستنفد وسائل التفسير – ما إذا كان المشرع أراد الشكل للانعقاد أو للإثبات ، فالأولى أن يكون الشكل للانعقاد لا للإثبات . ولا يجوز هنا أن يقال – كما قيل في الشكل الذي يتفق عليه المتعاقدان – أن الأصل في العقد أن يكون رضائياً . فإن هذا الأصل إنما يصدق بالنسبة إلى المتعاقدين لا بالنسبة إلى المشرع . ولا يصح أن نسلم في يسر بأن المتعاقدين أرادوا خلق شكل لا يوجد العقد بدونه إلا إذا نصوا صراحة على ذلك . أما المشرع فسلطانه كامل في أن يخلق الشكل الذي يريد ، ومتى فرض شكلا ، ولم يقم دليل على أنه مقرر للإثبات ، فالمفروض أنه مقرر لانعقاد العقد .
هذا وقد جاء في المذكرة الإيضاحية مثل على الشروط التفصيلية والتكميلية التي لا تتعارض مع مضمون العقد المكتوب فلا تشترط فيها الكتابة . أما الشروط التي تدخل في العقد المكتوب تعديلا فتشترط الكتابة فيها ، فمثلها أن يتفق البائع والمشتري بعد كتابة عقد البيع على إنقاص الثمن أو على زيادته .
( [97] ) وقد كان المشروع التمهيدي يشير إلى ذلك ، فينص في المادة 123 على ما يأتي : " 1 –تسري على العقود ، المسماة منها وغير المسماة ، القواعد العامة التي يشتمل عليها هذا الفصل . 2 – أما القواعد التي ينفرد بها بعض العقود المدنية تقررها الأحكام الواردة في الفصول المعقودة لها ، وتقرر قوانين التجارة القواعد الخاصة بالعقود التجارية " . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " أخذ هذا النص عن المادة 9 من المشروع الفرنسي الإيطالي . وليس يقصد به إلى ترك يد الفقه والقضاء طليقة في تمييز أنواع أو أنماط مختلفة من العقود فحسب ، بل أريد به ، بوجه خاص ، تقرير المبدأ الأساسي الذي يقضي بان القواعد المتعلقة بالعقود بوجه عام تسري على العقود المسماة كالبيع والإجارة والشركة . وغني عن البيان أن بعض الأحكام الخاصة بهذه العقود قد ينطوي على استثناء من القواعد العامة . ولكن الأصل هو تطبيق القواعد العامة على العقود المسماة كالبيع والإجارة والشركة . وغني عن البيان أن بعض الأحكام الخاصة بهذه العقود قد ينطوي على استثناء من القواعد العامة . ولكن الأصل هو تطبيق القواعد العامة على العقود جميعاً ، دون تفريق بين العقود المسماة وغير المسماة ، ما لم يرد نص خاص بشان الاستثناء " . وعندما تليت المادة 123 من المشروع التمهيدي في لجنة المراجعة اقترح حذفها لعدم الحاجة إليها ، فوافقت اللجنة على ذلك . ومن ثم اغفل المشروع النهائي هذا النص لأنه يقرر حكما ظاهراً لا حاجة فيه إلى نص . ( أنظر في كل ذلك مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 2 ص 11 في الهامش ) .
ها وقد كان للعقود غير المسماة في القانون الروماني شأن آخر . فقد كان هذا القانون لا يعترف – فيما خلا العقود الشكلية – إلا بعقود محصورة العدد ، بعضها رضائي ، وبعضها عيني ، وأخرى اتفاقات يجعل لها قوة العقود . ومن هذه الاتفاقات عقود اعترف بها تدرجاً وبعد تطور طويل ، وهي العقود غير المسماة . وكانت عقوداً لا تتم إلا إذا قام أحد الطرفين تنفيذ ما اتفق عليه من الطرف الآخر . وتنقسم إلى أقسام أربعة : 1 – عقود يقوم فيها الطرف الأول بنقل حق عيني فيتولد في جانب الطرف الآخر التزام بنقل حق عيني كذلك ( do ut des ) ، مثل ذلك المقايضة . 2 – عقود يقوم فيها أحد الطرفين بنقل حق عيني فيلتزم الطرف الآخر بعمل شيء ( do ut facias ) ، مثل ذلك الهبة بعوض . 3 – عقود يقوم فيها أحد الطرفين بعمل شيء فيلتزم الطرف الآخر بعمل شيء كذلك ( facio ut facias ) ، مثل ذلك أن يسلم شخص حيازة شيء لآخر فيلتزم الآخر برد هذه الحيازة عند أول طلب ( convention de precaire ) . 4 – عقود يقوم فيها أحد الطرفين بعمل شيء فيلتزم الطرف الآخر بنقل حق عيني ( facio ut des ) ، مثل ذلك عقد المحاسبة ( aestimatum ) يسلم فيه التاجر بضاعة لآخر فيلتزم الآخر إذا باعها أن يدفع ثمنها المتفق عليه وإلا رد البضاعة إلى صاحبها ، وهو عقد يدور بين البيع والعمل والوكالة .
( [98] ) أنظر والتون 1 ص 98 – ص 100 . وقد قضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأن العقد الذي يعطي به شخص لأحد مجالس المديريات قطعة أرض نظير تعهد مجلس المديرية بإقامة مدرسة عليها في مدة معينة يعتبر عقداً غير مسمى ( 30 مايو سنة 1939 المحاماة 20 رقم 85 ص 232 ) . وقضت محكمة النقض بأنه إذا كان العقد مشتملا على التزامات متبادلة ، إذ التزم أحد الطرفين أن يملك الآخر ( مجلس مديرية المنيا ) قطعة أرض بشرط أن يقيم عليها مؤسسة خيرية ، فإنه لا يكون عقد تبرع ، كما أنه ليس ببيع ولا مقايضة ، وإنما هو عقد غير مسمى ، فلا تجب له الرسمية ، ولا يجوز الرجوع فيه ، وذلك على الرغم مما هو وارد ف يعقد الاتفاق من ألفاظ التنازل والهبة والتبرع ، فإن كل هذه الألفاظ إنما سيقت لبيان الباعث الذي حدا بصاحب الأرض إلى تمليك المجلس إياها ، فهي لا تؤثر بحال على كيان العقد وحقيقته ( نقض مدني 11 ابريل سنة 1940 مجموعة عمر 3 رقم 49 ص 153 ) .
( [99] ) محكمة مصر الكلية الوطنية في 3 أكتوبر سنة 1927 المحاماة 8 رقم 260 ص 361 .
( [100] ) أصبح عقد القرض وعقد العارية وعقد رهن الحيازة ، في القانون المدني الجديد ، عقوداً ملزمة للجانبين بعد أن صارت عقوداً رضائية ، وكانت عينية في القانون القديم كما أسلفنا الذكر . فالتسليم لم يعد ركناً في هذه العقود ، بل هو التزام في ذمة المعير والمقرض والراهن . على أن هذه العقود ، حتى عندما كانت عينية في القانون القديم ، كانت في رأينا ملزمة للجانبين ( أنظر نظرية العقد للمؤلف ص 131 هامش رقم 1 ) ، إذ أن كلا من المعير والراهن كان – ولا يزال – ملتزماً بترك العين في يد المتعاقد الآخر إلى الوقت الذي ينتهي فيه العقد . وهذا الالتزام يقابله التزام المتعاقد الآخر بالمحافظة على العين . فإذا اخل هذا بالتزامه ، جاز للمتعاقد الأول فسخ العقد واسترداد العين . وفي عقد القرض يلتزم المقرض بعدم استرداد مثل ما اقرضه إلا عند نهاية العقد ، وهذا الالتزام يقابله التزام المقترض بدفع الفوائد المشترطة . فإذا اخل هذا بالتزامه جاز للمقرض فسخ القرض واسترداد ما اقرض . وهذا التحليل يفسر ما انعقد عليه الإجماع من أن قاعدة الفسخ تنطبق على هذه العقود . ثم لا نكون في حاجة إلى القول مع بعض الفقهاء بان قاعدة الفسخ تنطبق على العقود الملزمة لجانب واحد كما تنطبق على العقود الملزمة للجانبين ، ولا إلى مسايرة فقهاء آخرين في تسمية الفسخ في هذه العقود بالإسقاط ( decheance ) ، بل نبقى الفسخ على طبيعته ، وتقصره على العقود الملزمة للجانبين ، ونجعله في الوقت ذاته ينطبق على العقود التي نحن بصددها . وسنعود إلى هذه المسألة عند الكلام في الفسخ .
ونرى أن هذا التحليل لا يزال ضرورياً حتى بعد أن أصبح التسليم في هذه العقود الثلاثة التزاماً لا ركناً . وذلك لأن كلا من المقرض والمعير والراهن إذا فسخ العقد في حالة إخلال المتعاقد الآخر بالتزامه ، فإنه لا يتحلل بذلك من الالتزام بالتسليم ، بل من الالتزام بترك الشيء إلى نهاية العقد .
وقد اعترض بعض الفقهاء على هذا الرأي ( أنظر الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت ص 55 – ص 66 والدكتور عبد المعطي خيال هامش فقرة 52 ) . وتتحصل اعتراضاتهم فيما يأتي :
ا ) أن وصف الواجب السبي المفروض على المعير بترك المستعير ينتفع بالعين المعارة ، وعلى الراهن بترك المرتهن يستغل العين المرهونة ، بأنه التزام وصف غير صحيح ، إذ أن هذا الواجب مفروض على الكافة أيضاً .
وردنا على هذا الاعتراض هو أن الواجب السلبي المفروض على المعبر وعلى الراهن يختلف اختلافاً جوهرياً عن الواجب السلبي المفروض على الكافة . فإن الكافة لا تربطهم علاقة شخصية بالمستعير والمرتهن ، فواجبهم السلبي في احترام حقهما هو ذات واجبهم السلبي في احترام أي حق آخر . أما المعير والراهن فقد ربطتهما علاقة شخصية بالمستعير والمرتهن ، والتزاما نحوهما التزاماً شخصياً بعدم استرداد العين قبل نهاية العقد . والفرق واضح بين التزامهما الشخصي بعدم استرداد العين وواجبهما السلبي في احترام أي حق آخر لا تربطهما بصاحبه علاقة شخصية .
ب ) أن تسليم العين المعقود عليها يتضمن في الوقت ذاته الالتزام بعدم التعرض ، فإن هذا هو غاية التسليم . والتسليم وغايته شيء واحد ، فتجزئته إلى مجرد تسليم وإلى تعهد بعدم المطالبة أو عدم التعرض تجزئة لما لا يقبل التجزئة .
وردنا على هذا الاعتراض هو أن التمييز بين التسليم وعدم التعرض ( أو عدم المطالبة ) أمر مألوف ، نراه واضحاً في عقود هامة كالبيع والإيجار . ومن المعروف إلا فرق بين العارية والإيجار إلا في الأجرة ، وها نحن نرى المؤجر يلتزم بتسليم العين المؤجرة ويترك المستأجر ينتفع بها إلى نهاية الإيجار ( في القانون القديم ) . فلماذا لا يلتزم المعير بتسليم العين المعارة ويترك المستعير ينتفع بها إلى نهاية العارية !
ج ) إذا أمكن تصور الفسخ في هذه العقود ، ف لايمكن تصور الدفع بعدم التنفيذ وتحمل التبعة .
وردنا على هذا الاعتراض هو أن هذا إنما يرجع إلى أن الدفع بعدم التنفيذ وتحمل التبعة يفترضان أن التسليم لم يتم . أما هنا فالتسليم قد تم ، ولم يبق إلا التزام بترك العين إلى نهاية العقد ، يقابله التزام بالمحافظة عليها .
( [101] ) وقد قضت محكمة استئناف مصر بان العقد الاحتمالي هو الذي لا يستطيع فيه كل من المتعاقدين تحديد ما يحصل عليه من المنفعة وقت التعاقد . وهي لا تتحدد إلا فيما بعد تبعاً لوقوع أمر غير محقق كبيع الثمار قبل انعقادها والزرع قبل نباته بثمن جزاف . والبيع بسعر الوحدة ليس احتمالياً لأن كلا من البائع والمشتري يعلم وقت العقد ما أعطى كما يعلم ما أخذ ( 18 ابريل سنة 1948 المحاماة 31 رقم 135 ص 365 ) .
( [102] ) ومع ذلك أنظر المادة 214 من القانون اللبناني ، وقد جاء في الفقرة الأخيرة من هذه المادة أن العقود الاحتمالية ذاتها قد تكون قابلة للإبطال بسبب الغبن . ويمكن حمل ذلك على أن احتمال المكسب والخسارة في جانب أحد المتعاقدين بعيد عن أي تعادل مع هذا الاحتمال في جانب المتعاقد الآخر .
( [103] ) رجعنا في هذا الموضوع إلى رسالة قيمة للدكتور عبد الحي حجازي ، عنوانها " نظرية عقد المدة – العقد المستمر والدوري التنفيذ " . القاهرة سنة 1950 . وقد آثرنا أن نسمي " العقد الزمني " ما مسماه الدكتور عبد الحي حجازي " عقد المدة " . ولا يزال العقد الزمني في مستهل تطوره الفقهي . ومن الخير أن يترك للفقه حتى يستكمل تطوره ، فينتقل بعد ذلك إلى التقنين . وسنعود للإشارة إليه في أماكن أخرى متفرقة .
( [104] ) وإذا كان قد روعى في الثمن المؤجل أن تضاف إليه الفوائد عن المدة التي أجل فيها ، فإن الزمن في هذه الحالة لا يتدخل إلا في تحديد الفوائد ، وهي في العادة نسبة ضئيلة من الثمن . أما في الفوائد ذاتها ، فالزمن عنصر جوهري .
( [105] ) وهناك تقسيم للعقود ، من حيث طبيعتها ، إلى عقد ذاتي ( contrat subjectif ) واتفاق منظم ( convention institutionnelle ) . فالعقد الذاتي هو اتفاق بين شخصين لهما مصلحتان متعارضتان ، وتكون الرابطة بينهما رابطة ذاتية عرضية تقتصر عليهما ولا تجاوزهما إلى غيرهما . مثل ذلك عقد البيع ترى فيه تعارضاً بين مصلحة البائع ومصلحة المشتري . والرابطة بينهما ذاتية مقصورة عليهما ، وهي لا تلبث أن تزول في أهم مشتملاتها بانتقال ملكية المبيع إلى المشتري . أما الاتفاق المنظم فعلى النقيض من العقد الذاتي يوجد مركزاً قانونيناً منظماً ثابتاً ( statut, institution ) هو أقرب إلى القانون منه إلى العقد ، فيسري على الغير كما يسري على الطرفين . هذا إلى أن الطرفين في الاتفاق المنظم لا تناقض بين مصالحهما وليس فيهما دائن ومدين ، بل لهما غاية متحدة وغرض مشترك . مثل ذلك الشركة ، فإن الشركاء اتفقوا على أن يوجد بينهم هذا المركز المنظم الثابت لغرض مشترك هو الغرض الذي يسعون إليه من وراء اشتراكهم ، ولا تعارض فيما بين مصالح الشركاء يماثل التعارض بين مصلحة البائع ومصلحة المشتري في عقد البيع ، كما أن نظام الشركة لا يسري على الشركاء فحسب ، بل هو أيضاً يسري على الغير الذي يتعامل مع الشركة . ومثل ذلك أيضاً الاتفاق الجامع للعمل ( contrat collectif du travail ) وهو يرمي إلى تنظيم القواعد التي تسري على عقود العمل الفردية بين العامل ورب العمل ، فينظم بذلك حالة مستقرة ثابتة تسري على من اشترك في العقد وعلى من لم يشترك .
والواقع أن الفرق بين العقد الذاتي والاتفاق المنظم ليس على قدر كبير من الوضوح . فهناك من العقود الذاتية ما يوجد رابطة مستمرة غير وقتية كعقد الإيجار ، فإنه يخلق رابطة مستمرة بين المؤجر والمستاجر ، وهذه الرابطة قد يتعدى أثرها إلى غير المتعاقدين كالمشتري للعين المؤجرة . والوكالة وهي عقد ذاتي يتعدى أثرها هي أيضاً إلى الغير الذي يتعامل مع الوكيل . والشركاء في عقد الشركة ، التي هي اتفاق منظم ، لهم مصالح متعارضة ، إذ كل شريك يريد أن يعطي للشركة أقل حصة ممكنة ويفوز بأكبر ربح ممكن . ومن ثم تدرك السبب في أن تقسيم العقد إلى عقد ذاتي واتفاق منظم ، وهو قسيم ابتدعه الأستاذ ديجيه في افقه الإداري ، لم يسد في الفقه المدني .
( 1 ) يجب على التراضي أن يكون في شكل مخصوص كما في العقود الشكلية التي سبق ذكرها . ففي هذه الحالة يكون هذا الشكل المخصوص ركنا من أركان العقد .
( 1 ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المشروع التمهيدي في المادة 135 منه على الوجه الآتي : " يتم العقد بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين ، ما لم يقرر القانون أوضاعًا معينة لانعقاد العقد " . وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " قطع المشروع بإيثار مذهب افرادة الظاهرة بصورة واضحة في هذا النص ، فلم يتطلب لانعقاد العقد توافق إرادتين ، بل استلزم تبادل التعبير عن إرادتين متطابقتين " وهذا القول الذي ورد في المذكرة الإيضاحية يوهم أن القانون الجديد قد انحاز إلى نظرية الإرادة الظاهرة انحيازًا تامًا . والواقع غير ذلك . فقد رأينا أن القانون الجديد في وضعه النهائي قد سلك مسلكا وسطا بين نظريتي الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة ، بل هو قد جعل الإرادة الباطنة هي الأصل ، ولم يعدل عنها إلى الإرادة الظاهرة إلا إذا اقتضى استقرار التعامل هذا العدول . ولما تتلى النص الذي نحن بصدده في لجنة المراجعة ، أضيف إليه عبارة " فوق ذلك " ، فأصبح كما يأتي : " يتم العقد بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين ما لم يقرر القانون فوق ذلك أوضاعا معينة لانعقاد العقد " . ولما تتلى النص الذي نحن بصدده في لجنة المراجعة ، أضيف إليه عبارة " فوق ذلك " ، فأصبح كما يأتي : " يتم العقد بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين ما لم يقرر القانون فوق ذلك أوضاعا معينة لانعقاد العقد " . وقد أصبح مفهوما بهذا التعديل أن اشتراط أوضاع معينة لانعقاد العقد لا يغني عن تطابق الإرادتين . ثم قدمت المادة بالنص الآتي : " يتم العقد بمجرد أن يتبادل طرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين مع مراعاة ما يقرره القانون فوق ذلك من أوضاع معينة لانعقاد العقد " . وقد وافق مجلس النواب عليها دون تعديل تحت رقم 91 . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ تليت هذه المادة فوافقت اللجنة عليها كما هي بعد المناقشة وأصبح رقمها 89 . ووافق مجلس الشيوخ على النص كما أقرته لجنته . ( أنظر في كل هذا مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 8 ص 13 ) .
( 2 ) والذي يقع عادة أن الإرادتين المتطابقتين تتعاقبان ولا تتعاصران ، فيصدر الإيجاب أولا ، ثم يليه القبول مطابقا له . ومع ذلك قد تتعاصر الإرادتان المتطابقتان ، كما في الرجان على سباق الخيل ، إذ يدفع عدد من المتراهنين المبالغ التي يراهنون بها في وقت واحد . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وفي الغالبية العظمى من الأحوال يبدأ أحد المتعاقدين بالإيجاب ، ثم يتلوه قبول المتعاقد الآخر . ولكن ليس من الضروري أن يلى القبول الإيجاب ، فقد يتم العقد يتلاقى تعبيرن متعاصرين عن إرادتين متطابقتين ، كما هو الشأن كما هو الشأن في الرهان على سباق الخيل " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 10 )
( 1 ) وقد قضت محكمة النقض بأن المقصود بالرضاء الصحيح هو كون المتصرف مميزا يعقل معنى التصرف وبقصده ، والغرض من كونه مميزًا يعقل معنى التصرف أن يكون مدركا ماهية العقد والتزاماته فيه . أما كونه يقصده فالغرض منه بيان ألا بد من إرادة حقه منه لقيام هذا الالتزام . فالإرادة إذن ركن من الأركان الأساسية لأي تصرف قانوني ( وكان المتصرف وقت تحرير العقد مريضًا عصبيًا أفقده الإرادة وانتهى بالانتحار ) ( نقض مدني في 8 مارس سنة 1934 مجموعة عمر 1 رقم 169 ص 329 ) .
وقد اشتمل المشروع التمهيدي على نصين في هذا الموضوع حذفا في المشروع النهائي فكانت المادة 127 من المشروع التمهيدي تنص على ما يأتي : " يكون التعبير عن الإاردة باطلا إذا صدر من شخص وهو في حالة غيبة أو هو مصاب باضطراب عقلي ولو كان الاضراب وقتيا ، بحيث يكون هذا الشخص فاقد التمييز " . وورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " يقصد من هذا الحكم إلى مواجهة حالات الاضطراب العارض التي لا تكفي لفقد الأهلية بوجه دائم وإن استتبعت فقد الإرادة ما بقى الاضطراب قائما ، كما هو الشأن في الغيبة والسكر والتنويم المغناطيسي ( أنظر التقنين الألماني تعليقات 1 ص 103 ) . ويفرق القانون الإنجليزي بين الصترفات التي تنعقد بإرادة منفردة والعقود التي لا تتم إلا بإرادتين . ويجعل من الاضطراب العقلي والسكر سببا لبطلان الأولى دون الثانية . والظاهر أن هذه التفرقة ترجع إلى مغالاة هذا القانون في الحرس على استقرار المعاملات ( جنكس م 64 و 69 ـ وولنستون 1 ص 111 ) " ولما تليت المادة 127 في لجنة المراجعة اقترح حذفها لوضوح حكمها ولعدم الحاجة إليها ، فوافقت اللجنة على ذلك .
وكانت المادة 128 من المشروع التمهيدي تنص على ما يأتي : " لا يكون التعبير عن الإرادة باطلا لمجرد أن صاحبه قد أضمر غير ما أظهر ، ولكنه يكون باطلا إذا كان من وجه إليه يعلم بهذا التحفظ الذهني " . وورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " يتناول هذا النص مسألة التحفظ الذهني ، وهي تثير من فورها أمر البحث في المفاضلة بين مذهب الإرادة الباطنة ومذهب الإرادة الظاهرة ، فإذا لم تطابق الإرادة الظاهرة الإرادة الباطنة فبأيهما يؤخذ ؟ أخذ المشروع بالمذهب الجرماني ، مؤثرا الإرادة الظاهرة ، وليس شك في أن هذا المذهب أكفل بتحقيق الاستقرار في نطاق الروابط القانونية وأكثر استجابة لمقتضيات الائتمان . وهو يصادف ، فضلا عن ذلك ، سندًا قويا في الشريعة الإسلامية ، غذ هي تعتد اعتدادا بينا بالإرادة الظاهرة ، متأثرة في ذلك بنزعة مادية واضحة ، فإذا كان من وجه إليه التعبير عالما بالتحفظ الذهني المتعلق بهذا التعبير ، فلا محل لعدم الأخذ بالإرادة الحقيقة إذ لم يعد في الأخذ بها إخلال بتأمين المعاملات . وقد ذهب القضاء المصري إلى إيثار المذهب الذي اتبعه المشروع في الفروض النادرة التي طرحت عليه بشأن التحفظ الذهني ( استئناف مختلط 20 فبراير سنة 1896 م 8 ص 132 ) " ولما تليت المادة 128 في لجنة المراجعة اقترح حذفها " لأن فيها إمعانا في الدقة لا حاجة لنا به " فوافقت اللجنة على ذلك .
( أنظر في كل هذا مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 29 ـ ص 30 في الهامش ) .
( 1 ) ويقرر علماء النفس أن الإرادة يسبقها عملا تحضيريان ويليها عمل تنفيذي . فأول مرحلة هي اتجاه الفكر إلى أمر معين ، وهذا هو الإدراك ( conception ) . ثم يلى ذلك مرحلة التدبر ( deliberation ) فيزن الشخص الأمر وبتدبره . ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي إمضاء العزيمة في هذا الأمر والبت فيه ، وهذه هي الإرادة ( volition ) . فإذا انعقدت لم يبق بعد ذلك إلا مرحلة رابعة وهي مرحلة التنفيذ ( execution ) . وهذه المرحلة الأخيرة هي عمل خارجي ، أما المراحل الثلاث الأولى فهي مراحل داخلية نفسية : اثنتان منها ترجعان إلى التفكير والثالثة هي الإرادة المقصودة .
وتميز علماء النفس هذه المراحل بعضها عن بعض حتى لا تختلط الإرادة بالرغبة ، وهذا شيء سابق ، ولا تلتبس بالتنفيذ ، وه وشيء لاحق . وإلا فإن النظريات الحديثة في علم النفس لا تسلم بالتمييز فيما بين المراسل المختلفة هذا التمييز الدقيق فإنه يصعب القول بأن العمل النفسي ، وهو بطبيعته عمل معقد ، يمر على مراحل متميزة بعضها عن بعض تميزا فيه كل هذا الوضوح ومن الصعب الجزم بأن الإنسان لا يدخل في مرحلة التدبر إلا بعد أن يتم مرحلة الإدراك . فإن الإدراك والتدبر ينفعل أحدهما مع الآخر التدبر لا يزن فيها الإنسان الأمر على هذا النحو المادي ، فيستخلص أسبابا للإقدام على العمل وأخرى للإحجام عنه ، فإن العمل النفسي أكثر تعقيدا وأقل وضوحًا . فإذا انتهينا إلى مرحلة الإرادة خيل لمن يتتبع التحليل المتقدم أن هناك قوة نفسية مستقلة ، غير قوة الإدراك وقوة التدبر ، هي التي تتولى البت في الأمر وتكون حكا لا تعقيب على حكمه ، مع أن الإرادة ليست إلا ما ينتهي إليه الإدراك والتدبر ، فهي ليست مستقلة عنهما ، وما هي إلا امتداد طبيعي لما أودع في الإنسان من تكفير وتمييز وتبصير .
( 1 ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المشروع التمهيدي ( م 124 ) على الوجه الآتي : " 1 – يجوز التعبير عن الإرادة بالألفاظ وبالكتابة وبالإشارة المتداولة عرفا ، كما يجوز ذلك أيضًا باتخاذ موقف يكون من شأنه تعبا للظروف ألا يدع شكا فيما يشتمل عليه هذا التعبير . 2 – ويجوز أن يكون التعبير عن الإرادة ضمنيا إذا لم يقض القانون أو ينفق الطرفان على أن يكون صريحًا " . فأدخلت لجنة المراجعة عليه تعديلات لفظية أصبح بعدها مطابقًا للنص الوارد في القانون ، وأخذ رقم المادة 92 من المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على النص دون تعديل تحت رقم 92 . ولما تليت المادة في لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ دارت مناقشات طويلة حولها انتهت إلى أن أغلبية اللجنة رأت حذفها ، ثم رجع عن هذا الرأي في جلسة أخرى وأقرت بقاءها ، وأصبح رقم المادة 90 . ووافق مجلس الشيوخ على النص كما أقرته اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 14 و ص 15 ـ ص 19 ) .
( 1 ) وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على النص الآتي ( م 134 من المشروع ) : " 1 - يعتبر عرض البائع مع بيان ثمنها إيجابا 2 - أما النشر والإعلان وبيان الأسعار الجاري التعامل بها وكل بيان آخر متعلق بعرضو أو طلبات موجهة للجمهور أو للأفراد ، فلا يعتبر عند الشك إيجابًا ، وإنما يكون دعوة إلى التفاوض " فاقترح حذف هذا النص في لجنة المراجعة لعدم الحاجة إليه إذ يسهل على القضاء تطبيق هذا الحكم دون نص عليه " فوافقت اللجنة على ذلك . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 41 في الهامش ) .
( 2 ) وقد يكون السكوت تعبيرًا صريحًا عن القبول كما سيجيء ( قارن حكما لمحكمة النقض ـ الدائرة المدنية ـ في 21 إبريل سنة 1949 مجموعة عمر 5 رقم 410 ص 760 ، وقد استخلصت المحكمة قبول المنذر إليه قبولا ضمنيا من سكوته عن الرد على ما تضمنه الإنذار ) . .
( 1 ) أما إذا استأجر العين من الواعد فهذا دليل على رفض الوعد بالبيع . وقد استخلصت محكمة النقض عدول الموعود بالبيع عن الشراء من طلبه من الواعد أن يؤجره أطيانا تشمل العين الموعود ببيعها ( نقض مدني 6 يونيه سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 90 ص 188 ) . ولم تر محكمة النقض أن تستخلص إيجابا ضمنيا بالهبة من أن المورث فتح حسابا خاصا في البنك لولديه أودع فيه باسمهما المبلغ المتنازع عليه ، وقالت في هذا الصدد ما يأتي : " إذا كان كل ما قاله الحكم لإثبات الهبة أن المورث قد فتح حسابا خاصا في البنك لولديه أودع فيه باسمهما المبلغ المتنازع عليه وأنه فتتح هذا الحساب الخاص مع وجود حساب باسمه هو في ذات البنك ، فهذا الذي قاله الحكم ليس فيه ما يدل على صدور إيجاب بالهبة من المورث لأن نية الهبة لا تفترض ، وفعل الإيداع ليس من شأنه بمجرده أن يفيدها إذ هو يحتمل احتمالات لا يرجح أحدها إلا بمرجح " . ( نقض مدني 8 أبريل سنة 1948 مجموعة عمر 5 رقم 298 ص 590 ) .
( 2 ) وقد لا يصل المشرع إلى حد أن يتطلب تعبيرًا صريحًا ، ولكنه يتطلب مثلا اتفاقا خاصًا ( أنظر م 309 و م 445 وم 781 ) ، أو ينص على أن الإرادة لا نفترض ( أنظر 279 وم 354 وم 360 ) ، أو يستوجب أن يكون تغير الإرادة تفسيرًا ضيقًا ( أنظر م 555 ) وفي جميع هذه الأحوال لا يشترط التعبير الصريح ، ولكن تجب الحيطة والتشدد في استخلاص التعبير الضمني .
( 1 ) أنظر آنفا فقرة 48 في الهامش .
( 2 ) وقد جرى القضاء المصري على الاعتداد بالتعبير الضمني عن الإرادة كما يعتد بالتعبير الصريح ( استئناف مختلط في 13 فبراير سنة 1896 م 8 ص 118 ـ وفي 12 مارس سنة 1930 م 42 ص 352 ) . وذهب كذلك إلى أن مسلكا معينًا أو ضربًا من ضروب التصرف قد يعتبر إفصاحًا عن الإرادة ( استئناف مختلط في 16 مايو سنة 1929 م 41 ص 401 ) .
( 3 ) بعض المراجع الرئيسية : سالي في الإعلان عن الإرادة ـ بنكاز تكملة بودري جزء 2 ـ ديموج في الالتزامات جزء أول ـ بلانيول وريبير وإسمان جزء أول ـ ديريه ( Dereux ) رسالة في تفسير الأعمال القانونية سنة 1905 ، وانظر أيضًا مقالا له في المجلة الانتقادية سنة 1901 ـ مقال الأستاذ مينال ( Meynial ) في الإعلان عن الإرادة في مجلة القانون المدني الفصيلة سنة 1902 ص 545 ـ ص 573 ـ مقال الأستاذ هوريو ( Hauriou ) والأستاذ جيليوم دي بيزان ( Guillaume de Bezin ) في الإعلان عن الإرادة في القانون الإداري الفرنسي في مجلة القانون المدني الفصلية سنة 1913 ص 543 ـ 586 ـ نظرية العقد للمؤلف ص 150 وما بعدها ـ أصول الالتزامات للدكتور حلمي بهجت بدوي بك ص 82 وما بعدها ـ نظرية الالتزام للدكتور أحمد حشمت أبو ستيت بك ص 70 وما بعدها .
( 1 ) وقد تأثر القانون الألماني بالفقه الألماني ، فأخذ إلى حد كبير بنظرية الإرادة الظاهرة وطبق القانون الإنجليزي هذه النظرية في كثير من الفروض ( أنظر جنكس م 77 : إذا استعمل شخص طرقا للتعبير عن إرادته بحيث يكون من المعقول تبعًا للظروف أن يفهم منها معنى معين ، فلا يجوز له أن ينكر هذا المعنى في مواجهة شخص تصرف عن حسن نية تصرفا يتلاءم مع هذا المعنى . وانظر أيضًا بولوك في العقد طبعة تاسعة ص 5 ـ ص 6 ـ وولتن في العقد جزء أولى فقرة 94 ) .
أما الشريعة الإٍسلامية فلو أن القاعدة فيها أن العبرة بالمعاني أي بالإرادة الحقيقية للمتعاقدين ، إلا أن الفقهاء في كثير من الفروض يقفون عند المعاني الظاهرة من الألفاظ التي استعملها المتعاقدان ، فلا يتعدونها إلى المعاني الكامنة في السريرة . ولعل هذا يفسر تحليلهم الدقيق لبعض العبارات والألفاظ ، ووقوفهم طويلا عند شرح ما تتضمنه هذه العبارات من المعاني ، وما يستتبعه اختلاف التعبير من اختلاف الأحكام فليس هذا منهم في رأينا استمساكًا باللفظ ، بل هو تغليب للإرادة الظاهرة على الإرادة الباطنة . هذه إلى أن هناك ثلاثًا جدهن جد وهزلهن جد ، أي أن الإرادة الظاهرة تتغلب فيها حما على الإرادة الباطنة ، وهي الزواج والطلاق والعتاق ( التلويح والتوضيح جزء 2 ص 787 ـ 789 ) .
( 1 ) ذلك أن أنصار الإرادة الظاهرة لا يغفلون الإرادة الباطنة على نحو مطلق . فهم يشترطون أن يكون وراء مظهر التعبير إرادة كامنة ، ولكن هذه الإرادة تكون مقصورة على أن يقصد بالإرادة الظاهرة أن تتخذ مظهرها الخارجي لتحدث أثرها القانوني ( Volonte de declarer ) فمن يعبر عن إرادته بالكتابة لا يقصد بهذه الإرادة المكتوبة أن تتخذ مظهرها الخارجي في الكتابة لتحدث أثرها القانوني إلا وقت أن يوقع على هذه الكتابة ، بل هو في الغالب لا يقصد ذلك إلا بعد أن يسلم الورقة المكتوبة ، أو بعد أن يقوم بتصديرها . ويترتب على ذلك أن أفعال الطفل أو المجنون لا يصح أن تؤخذ مظهرًا ماديا يعتد به في التعبير عن الإرادة ، لأن إرادة الطفل أو المجنون معدومة ، فلا يصح أن يقال إنه قصد أن تتخذ إرادته هذا المظهر الخارجي لتحدث أثرها القانوني ( أنظر المادتين 127 و 128 من المشروع التمهيدي وقد مر ذكرهما . وانظر في هذا المعنى فون تور Von Tuhr ص 132 ـ سالي في إعلان الإرادة ص 2 ـ رسالة الدكتور الشيني المقدمة لمعهد القانون المقارن بجامعة باريس في تكوين العقد وتفسيره في القانون المدني المصري الجديد ص 64 هامش رقم 3 ) .
ولا بد من وجود الإرادة الظاهرة وجودًا حقيقيًا ، فالإرادة المكتوبة لا وجود لها إذا كانت مزورة ، أما إذا لم تكن مزورة فهي موجودة حتى لو وجهت إلى غير الشخص المقصود ، بأن وجهت خطأ إلى شخص آخر يحمل اسم الشخص المقصود ( فون تور von tuhr ص 136 ـ رسالة الدكتور الشيني المشار إليها ص 84 فقرة 75 ) .
هذا والنتائج العملية للتمييز بين مبدأي الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة محدودة ، وهو لا تظهر إلا إذا أمكن تقديم دليل على أن الإرادة الظاهرة تختلف عن الإرادة الباطنة ، وقاما يستطاع إثبات ذلك ، وفي الأحوال القليلة التي يمكن فيها تقديم هذا الدليل بتقارب المبدآن من ناحية أخرى . ذلك أن مبدأ الإرادة الباطنة لا يترك المظهر الخارجي الخاطئ دون جزاء ، بل يرتب عليه الحق في التعويض ، على أساس المسئولية التقصيرية ، لمن اطمأن لهذا المظهر حماية للثقة المشروعة .
ومهما يكن من الأمر فلا يزال هناك فرق بين المبدأين لا يجوز إغفاله ، فنظرية الإرادة الظاهرة تنظر إلى الإرادة باعتبارها ظاهرة اجتماعية . أما نظرية لإرادة الباطنة فتنظر إلى الإرادة باعتبارها ظاهرة نفسية . وهذا الفارق يترتب عليه نتيجتان عمليتان : ( 1 ) عند تفسير العقد إذا أخذا لقاضي بمبدأ الإرادة الظاهرة فهو لا يكون ملزمًا أن يتحسس الإرادة الداخلية فيما تجته سريرة المتعاقدين ، بل هو يقف عند المظهر الخارجي للتعبير عن الإرادة ، فيفسره تفسيرًا اجتماعيًا لا نفسيًا ، مستندًا في ذلك إلى العرف الجاري وإلى المألوف في التعامل . ( 2 ) إذا أخذ القاضي بمبدأ الإرادة الظاهرة فإن مسألة تفسير العقد تصبح مسألة قانون تخضع لرقابة محكمة النقض ما دام الغرض ليس هو تفسير نية المتعاقدين بل تفسير نص العقد ، فيكون حكم ذلك حك تفسير نص القانون . أما إذا كان التفسير يتجه إلى بحث الإرادة الباطنة ، فهذه مسألة واقع لقاضي الموضوع فيها الرأي الأعلى ، وسنتناول هذه المسألة بتفصيل أوفى عند الكلام في تفسير العقد .
( 1 ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المشروع التمهيدي ( م 125 ) على الوجه الآتي :
" 1 ـ ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت الذي يصل فيه إلى من وجه إليه بحيث يتمن هذا من العلم به . ولا يكون له أثر إذا وصل عدول عنه إلى من وجه إليه التعبير عن الإرادة قبل أن يصل إليه هذا التعبير أو في الوقت الذي وصل إليه فيه 2 ـ إذا وصل عدول بعد وصول التعبير عن الإرادة ، وكان قد صدر بحيث كن يصل في الظروف المعتادة ، قبل وصول التعبير عن الإرادة ، وكان قد صدر بحيث كان يصل ، في الظروف المعتادة ، قبل وصول التعبير عن الإرادة أوفي الوقت ذاته ، فيجب على من وجه إليه العدول أن يخطر الطرف الأخر فورًا بهذا التأخر ،فإذا تهاون في الإخطار اعتبر وصول العدول في وقت غير متأخر " ولما تلى النص في لجنة المراجعة ، اقترح حذف الجزء الثاني من الفقرة الأولى لعدم الحاجة إليه ، وكذلك الفقرة الثانية جميعها لأنها تقرر حكا تفصيليا لا يحسن أن يقرر بنص تشرعي ، فوافقت اللجنة على ذلك . ثم ناقشت الجزء الباقي من المدة ، واستقر الرأي على أن التعبير عن الإرادة ينتج أثره بالعلم ، ولكن لما كان العلم أمرًا متعذر الإثبات فيحسن أن يؤخذ الوصول قرينة عليه لأنه أكثر انضباطًا . على أن تكون هذه القرينة قابلة لإثبات العكس " والطرف الذي وجه إليه التعبير عن الإرادة هو الذي يتحمل عبء إثبات العكس . وأصبحت المادة في صيغتها النهائية ( م 93 من المشروع النهائي ) كما يأتي : " ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت لذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه ، ويعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به إلا أن يقام الدليل على عكس ك " . وقد وافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 93 ثم عرضت على لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، فرأت الأغلبية حذفها ، ثم أعادت اللجنة النظر فيها فأقرت بقاءها ، وأصبح رقمها 91 . ووافق مجلس الشيوخ عليها بعد ذلك ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 19 ـ ص 28 ) .
ونذكر هنا أن القانون المدني السوري الجديد الذي صدر بعد القانون المدني المصري الجديد بزمن قليل ـ وعين لنفاذه تاريخ سابق على التاريخ الذي عين لنفاذ القانون المصري نفسه ـ سار على نهج القانون المصري في الغالبية العظمى من نصوصه وأحكامه . ومن الفروق النادرة ما بين القانونين أن القانون السوري لم ينقل عن القانون المصري نص المادة 91 . ويبدو أنه أراد بذلك أن يجعل التعبير عن الإرادة لا يتأخر إنتاجه لأثره إلى الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه . ويعزز هذا التفسير أنه جعل التعاقد فيما بين الغائبين يتم في المكان الذي صدر فيه القبول ( م 98 من القانون السوري ) لا في المكان الذي علم فيه الموجوب بالقبول ( م 97 من القانون المصري ) . وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام في التعاقد ما بين الغائبين .
( 1 ) لم تورد المذكرة الإيضاحية للمادة 125 من المشروع التمهيدي ( وهي المقابلة للمادة 91 من القانون الجديد ) الأمر على النحو الذي بيناه في المتن . فهي قد بنت إنتاج التعبير لأثره عند وصوله إلى علم من وجه إليه على فكرة أن الإيجاب ملزم بوجه عام ، فقبل العلم يكون الإيجاب موجودًا وجودًا فعليا ووجودًا قانونيًا ولكن يجوز الرجوع فيه إلى وقت العلم ، ومنذ هذا ا لوقت يكون ملزمًا لا يجوز الرجوع فيه ، وكان هذا النظر يتمشى مع المشروع التمهيدي الذي جعل الإيجاب ملزمًا ( م 129 من هذا المشروع ) . وهذا ما ورد في المذكرة الإيضاحية في صدد المادة 125 من المشروع التمهيدي : " تتناول هذه المادة تعيين الوقت الذي يصبح فيه التعبير عن الإرادة نهائيًا لا يجوز العدول عنه ( اقرأ : الرجوع فيه ) . فمن الواجب التمييز بين وجود التعبير ، وهذا الوجود يتحقق وقت صدوره إذ يصبح عملا قانونيًا قائمًا لا يتأثر وجوده بوفاة من صدر منه أو يفقد أهليته ، وبين استكمال هذا التعبير لحكمه وتوفر صفة اللزوم له تفريعًا على ذلك ، وهذا لا يتحقق إلا في الوقت الذي يصل فيه التعبير إلى من وجه إليه " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 19 ـ ص 20 ) .
ولما كان المشروع النهائي ، ومعه القانون الجديد ، قد عدل عن جعل الإيجاب ملزمًا بوجه عام ، فحذف المادة 129 من المشروع التمهيدي ، كان من الواجب أن يدخل تعديل في الاعتبارات التي من أجلها لا ينتج التعبير أثره إلا من وقت العلم به ، على النحو المبسوط في المتن .
( 1 ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 126 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي :
" لا يؤثر في صحة التعبير عن الإرادة أن يكون من صدر منه أو من وجه إليه هذا التعبير قد مات أو فقد أهليته ، ما لم يتبين العكس من إرادة الطرفين أو من طبيعة التعامل " ولما عرض النص على لجنة المراجعة دارت مناقشة طويلة حوله وكان هناك من يرى أن التعبير يسقط إذا مات صاحبه أو فقد أهليته قبل العلم به . وبعد المناقشة جعل هذا الحكم مقصورًا على موت من وجه إليه التعبير أو فقده لأهليته . وانتهت المناقشة إلى تعديل النص على الوجه الذي استقر في القانون الجديد ، وأصبح رقم المادة 94 في المشروع النهئي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 94 . وكذلك وافقت لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ على النص تحت رقم 92 ، وجاء في تقريرها ما يأتي : " اقترح الاستعاضة عن المادة 92 بالنص الاتي : " ينقض التعبير عن الإرادة بموت صاحبه أو بفقد أهليته قبل أن يتصل التعبير بعلم من وجه إليه ، لأن نص المشروع في هذه المسألة يخالف المستقر والمألوف في صمر وفرنسا ، ولأنه قد يفضي إلى الإضرار بورثه المتوفى أو فاقد الأهلية ، إذ قد لا يتيير للورثة أو ممثل فاقد الأهلية الإحاطة في الوقت المناسب بتصرفات من عبر عن الإرادة ولم تر اللجنة الأخذ بهذا الاقتراح لأن التعبير عن الإرادة متى صدر صريحًا ارتبطت به مصالح لا يجوز إهدارها بسبب حادث طارئ هو موت من صدر منه هذا التعبير أو فقده لأهليته ، ولا يبقى بعد ذلك من سند للاقتراح إلا الإبقاء على المألوف ، ولكن اللجنة راعت أن هذا المألوف لا يستند إلى أساس ففهي أو منطق سليم ، بل الفقه والمنطق يقضيان بالاعتراض للتعبير عن الإرادة بكيان ذاتي ، ومثل هذا الوضع أكثر ضمانًا لاستقرار المعاملات وحماية المصالح ط . وقد وافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها اللجنة . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 29 ص 35 ) .
( [124] ) انظر محكمة الاستئناف الوطنية في 9 مارس سنة 1930 المحاماة 4 ص 44 ) – محكمة طنطا في 6 ديسمبر سنة 1930 المجموعة الرسمية رقم 32 ص 305 – وكانت المادتان 50 / 72 من القانون القديم تطبقان هذا المبدأ في عقد الهبة فتنصان على ما يأتي : " تبطل الهبة بموت الواهب أو بفقد أهليته للتصرف قبل قبول الموهوب له " .
( 1 ) هذا ولو اعتبرنا الإيجاب ملزمًا كما كان الأمر في المشروع التمهيدي ، لأمكن القول أيضًا بتمام العقد في الفرض الآتي : شخص في مصر كتب لآخر في فرنسا يعرض عليه صفقة ، ومات الموجب قبل أن يصل الكتاب إلى الطرف الآخر ، ولم يكن هذا عند وصول الكتاب إليه بعلم بموت الموجب ، فقبل الصفقة .
والسبب في أن الصفقة لا تتم في هذا الفرض إذا لم تعتبر الإيجاب ملزمًا هو أن القبول لا يصل إلى الموجب إلا بعد موته ، ومن ثم فلا ينتج أثره . أما إذا اعتبرنا الإيجاب ملزمًا ومات الموجب ، فإن التزامه بالبقاء على إيجابه ينتقل إلى ورثته ، فإذا وصلهم القبول أنتج أثره وعلى هذا الأساس الأخير سارت المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي إذ كان الإيجاب ملزمًا في هذا المشروع .
( 1 ) ولما كان القانون الجديد قد استحدث هذا الحكم ، فلا يكون له أثر رجعي . فلو أن القابل مات أو فقد أهليته قبل نفاذ القانون الجديد ( أي قبل 15 أكتوبر سنة 1949 ) ، فإن قبوله يسقط بالموت أو يفقد الأهلية طبقًا للقانون القديم . لكن إذا صدر القبول قبل نفاذ القانون الجديد ومات القابل أو فقد أهليته بعد نفاذه ، فإن القبول لا يسقط بالموت أو فقد الأهلية طبقًا للقانون الجديد ، وذلك تطبيقًا لنظرية الأثر الفوري ( effet immediate ) .
( 1 ) وقد سارت المذكرة الإيضاحية للمادة 126 من المشروع التمهيدي ( وهي التي تقابل المادة 92 من القانون الجديد ) على الأساس الذي سارت عليه في المادة السابقة ، فاعتبرت أن عدم سقوط التعبير للموت أو فقد الأهلية إنما جاء نتيجة منطقية لكون الإيجاب ملزمًا ، فورد في هذا الصدد ما يأتي : " " يقضى النص بأن التعبير عن الإرادة لا يسقط بموت من صدر منه أو بفقد أهليته ، وهذا الحكم ليس إلا نتيجة منطقية للزوم التعبير عن الإرادة . فالالتزام بالإبقاء على التعبير ، أو بعبارة أدق بالارتباط به ، يظل قائمًا بعد الموت أو فقد الأهلية ، شأنه في ذلك شأن أي التزام آخر . فإذا كان التعبير عن الإرادة إيجابًا وفقد الموجب أهليته قبل صدور القبول ، وجه القبول بداهة إلى نائبه لا إلى شخصه " .
وهذا التعليل إذا صلح في قانون يعتبر الإيجاب ملزمًا بموجه عام كما كان الأمر في المشروع التمهيدي ، فهو لا يصلح تعليلا في قانون لا يعتبر الإيجاب ملزما إلا في حالات خاصة . على أن المذكرة الإيضاحية سارت إلى مدى أبعد في تقرير عدم سقوط التعبير بالموت أو فقد الأهلية حتى لو لم يكن التعبير ملزما ، إذا قالت : " ووجود التعبير ، حتى قبل أن يصبح لازما ، لا يتأثر هو أيضًا بالموت أو بفقد الأهلية … " وغنى عن البيان أن حق العدول ينتقل إلى ورثة الشخص أو ممثليه إذا حدثت الوفاة أو طرأ فقد الأهلية قبل وصول التعبير " . وهذه الفقرة من المذكرة الإيضاحية تصلح تفسيرًا صحيحًا للقانون الجديد ، ويضاف إليها أن حق الرجوع في الإيجاب ينتقل هو أيضًا إلى ورثة الشخص أو ممثليه إذا حدثت الوفاة أو طرأ فقد الأهلية بعد وصول التعبير ، وذل كفي الحالات التي لا يكون فيها الإيجاب ملزمًا .
( أنظر في كل ذلك مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 31 ) .
( 2 ) وكان المشروع التمهيدي ( م 126 ) يقرر غير ذلك ، على الوجه الذي بيناه فيما تقدم ولكن المشروع النهائي عدل النص على الوجه الذي رأيناه في القانون الجديد كما أسلفنا القول وقد كان القانون القديم يستثنى عقد الهبة من المبدأ القاضي بأن موت من وجه إليه التعبير أو فقده لأهليته بسقط التعبير ، فكانت المادتان 51 / 73 من هذا القانون تنصان على أنه " يسوغ أن يحصل قبول الهبة من ورثة الموهوب له إذا كان قد توفى قبل القبول ، وفي حالة الهبة لمن ليس أهلاً للقبول يصح قبولها من يقوم مقامه " ولم يرد لهذا النص القديم مقابل في القانون الجديد ، فلا يؤخذ الآن بهذا الحكم الاستثنائي إذ لا نص عليه .
هذا ، ويجب التمييز بين المبدأين أخذ بهما القانون الجديد ، فهو من جهة قرر أن التعبير عن الإرادة لا يسقط بموت صاحبه . وهو من جهة أخرى قرر أن هذا التعبير لا ينتج أثره إلا إذا وصل إلى علم من وجه إليه . ولكل من هذين المبدأ نطاقه الخاص . ويترتب على الجمع بينهما ما يأتي : ( 1 ) إذا صدر تعبير من الموجب ، ومات هذا قبل أن يصل الإيجاب إلى علم الطرف الآخر ، فإن التعبير يبقى قائما ولهذا الطرف الآخر أن يقبل الإيجاب ولكن هذا القبول لا ينتج أثره إلا إذا وصل هو أيضًا إلى علم الموجب ، وهذا قد مات فلا يتم العقد ( 2 ) إذا صدر قبول من الطرف الآخر ومات هذا ، بقى قبوله قائمًا ، ومتى وصل إلى علم الموجب تم العقد . لكن إذا مات الموجب قبل أن يصل القبول إلى عامه ، فإن القبول لا ينتج أثره ولا يتم العقد .
( 1 ) إذا كانت النيابة تبدو في القانون الحديث نظاما منطقيًا معقولا " فإن الأمر لم يكن كذلك في القوانين القديمة . فقد كانت هذه القوانين تستعصبى على فكرة النيابة ، ولم تسلم بها إلا ندرجًا وفي حدود معينة .
كان القانون الروماني يعترف من قديم بنيابة الابن والعبد عن رب الأسرة ، ولكن في جعله دائنا لا مدينًا . ثم أخذ يعترف بنيابتها في جعل رب الأسرة مدينًا أيضًا ولكن في حدود معينة . أما غير الابن والعبد فلم يكن له أن ينوب عن غيره ممن لا يخضع لسلطته لا دائنا ولا مدينا . فإذا وكل شخص آخر في عمل يقوم به مع الغير ، فالغير لا يعرف إلا الوكيل يرجع عليه ، وكذلك شخص آخر في عمل يقوم به مع الغير ، فالغير لا يعرف إلا الوكيل يرجع عليه ، وكذلك الموكل لا يعرف إلا الوكيل . ولم تكن هناك علاقة مباشرة بين الغير والموكل . ثم تطور القانون فصار للغير دعوى قبل الموكل مع استيفاء دعواه الأصلية قبل الوكيل ، ما لم يكن النائب وكيلا تحكم القانون كالوصي والقيم ، فقد كان يعطى دفعًا لدعوى الغير ، وفي في هذه الحالة كان الغير لا يستطيع الرجوع إلا على الأصيل فكانت النيابة كاملة . أما أن يعطي الموكل دعوى قبل الغير ، أي أن يصبح الشخص دائنا بوكيل ، فهذا ما لم يتم في القانون الروماني إلا في حالات معينة منها حالة النيابة القانونية . وبقى الوكيل هو الدائن للغير ، ويؤدي بعد ذلك حسابا للموكل فيكون مديناً له ( انظر جيرار ص 678 ، ص 690 – وانظر في القانون الفرنسي القديم بريسو ( Brissaud ) ص 1442 وما بعدها ) .
وفي الشريعة الإسلامية اختلفت المذاهب في هذا الموضوع . فأبو حنيفة يرجع حكم العقد إلى الموكل ، أما حقوق العقد فترجع إلى الوكيل ، وهو في هذا قريب من القانون الروماني على النحو الذي تقدم . والشافعي يرجع حكم العقد وحقوقه إلى الموكل دون الوكيل ، وهو في هذا يتفق مع القانون الحديث ( انظر البدائع 6 ص 33 – ص 34 ) .
( [130] ) وقد ينظر إلى النيابة بالنسبة إلى المصدر الذي يضفي على النائب صفة النيابة . فتكون قانونية كام في الولي ، فإن القانون هو الذي يعين الأولياء . وتكون قضائية كما في الوصى والقيم والحارس القضائي ، فإن جهة قضائية هي التي تختار هؤلاء . وتكون اتفاقية كما في الوكيل ، فان العقد هو الذي يعينه . ومن ثم تكون نيابة الوكيل نيابة اتفاقية بالنسبة إلى المصدر الذي يحدد نطاقها وبالنسبة إلى المصدر الذي يضفي صفة النيابة . وتكون نيابة كل من الولى والفضولى والدائن نيابة قانونية بالمعنيين معا . وتكون نيابة كل من الوصي والقيم والحارس والسنديك نيابة قانونية بالمعنى الأول ونيابة قضائية بالمعنى الثاني .
وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على نصين حذفا من المشروع النهائي لوضوح حكمهما . فكانت المادة 155 من المشروع التمهيدي تنص على ما يأتي : " يجوز التعاقد بالإصالة أو بطريق النيابة ما لم ينص القانون على خلاف ذلك " . وكانت المادة 156 من هذا المشروع تنص على ما يأتي : " 1 – النيابة اتفاقية أو قانونية . 2 – يحدد التفويض الصادر من الأصيل نطاق سلطة النائب عندما تكون النيابة اتفاقية ، فإذا كانت قانونية فالقانون هو الذي يحدد تلك السلطة " . ( انظر في هذا وفي المذكرة الإيضاحية لهذين النصين المحذوفين مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 90 – ص 91 ) .
( [131] ) وهذا هو الفرق ما بين النائب والرسول كما سنرى ، فالنائب يعبر عن إرادته هو لا عن إرادة الأصيل ، أما الرسول فيعبر عن إرادة المرسل لا عن إرادته هو . فإذا تلقى النائب تعليمات محددة من الأصيل ، كان رسولا في حدود هذه التعليمات ونائبا في خارج هذه الحدود ( انظر في هذا المعنى بلانيول وربير وإسمان 1 فقرة 57 ) .
ويذهب الدكتور حلمي بهجت بدوي إلى وجوب التمييز بين النيابة الاتفاقية والنيابة القانونية . ففي الأولى تشترك إرادة الأصيل والنائب في إمضاء العقد ، ونتيجة لهذا الاشتراك توزع شروط الإرادة على هاتين الإرادتين بقدر مساهمتهما في إمضاء العقد . أما في النيابة القانونية فالعقد ينعقد بإرادة النائب وحده ، ولكن اثر العقد هو حكم من أحكام القانون ينصرف إلى الأصيل ( الدكتور حلمي بهجت بدوي ص 79 – 80 – وانظر في النظريات المختلفة التي تقول باشتراك ارادتي النائب والأصيل في إبرام العقد ديموج 1 ص 147 – 150 ) .
وانظر أيضاً في النظريات المختلفة في طبيعة النيابة ، وهل النائب يتقمص شخص الأصيل عن طريقة الافتراض القانوني ( fiction ) كما هو الرأي القديم ، أو أن النائب ليس إلا رسولا كما يقول سافيني ، أو أن إرادة النائب تحل محل إرادة الأصيل كما يقول إهرنج ، أو إن إرادته تشترك مع إرادة الأصيل كما يقول ميتييس ( Mitteis ) ، إلى رسالة حديثة في النيابة والدور الذي تقوم به في إنشاء الالتزامات للدكتور جان كلاريز ( Jean Clarise ) ليل سنة 1949 ص 147 – ص 165 . ويذهب الدكتور كلاريز صاحب هذه الرسالة إلى أن إرادة النائب وحدها ، أو مشتركة مع إرادة الأصيل ، هي التي تحدد نطاق الالتزام ( contenu de l'obligation ) ، أما الذي يخلق الرابطة القانونية ( lien de droit ) ما بين نطاق الالتزام وذمة الأصيل فهي إرادة الأصيل في النيابة الاتفاقية والقانون ذاته في النيابة القانونية ( انظر الرسالة المتقدمة الذكر ص 167 – ص 178 ) . وانظر في رأي للأستاذ بولانجية ( Boulanger ) يذهب إلى أن إرادة النائب تشترك مع إرادة الأصيل إذا كان عقد الوكالة هو مصدر النيابة ، أما إذا كان مصدرها القانون أو القضاء فإرادة النائب تحل محل إرادة الأصيل ، إلى المقدمة التي وضعها الأستاذ بولانجيه للرسالة المذكورة .
ويشير الدكتور كلاريز في رسالته ( ص 137 – ص 140 و 223 ) إلى جواز أن تكون النيابة في عمل مادي ( fait materiel ) لا في عمل قانوني ( acte juridique ) ، ويضرب مثلا لذلك نيابة التابع عن المتبوع فيما يرتكب الأول من خطأ يسأل عنه الثاني ، فالمتبوع في هذه الحالة يكون مسئولا عن تابعه لأن هذا يعتبر نائبا عنه ل لا في الأعمال القانونية فحسب بل وفي الأعمال المادية ( انظر في هذا المعنى شيروني ( Chironi ) في المسئولية اللاعقدية جزء أول فقرة 156 وما بعدها – مازو جزء أول فقرة 934 وما بعدها ) . وتكون النيابة على هذا الأساس إما نيابه في الإرادة كنيابة الوكيل عن الموكل ، أو نيابة في المصلحة كنيابة الولي عن الصغير ، أو نيابة في العمل كنيابة التابع عن المتبوع ونيابة الفضولي عن رب العمل إذا كان العمل الذي قام به الفضولي عملا مادياً .
( [132] ) قارن ديموج 1 فقرة 147 – فقرة 150 ، والدكتور حلمي بهجت بدوي ص 79 – ص 80 ، والدكتور احمد حشمت أبو ستيت ص 93 – ص 94 .
( [133] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 157 من المشروع التمهيدي على النحو الآتي : " يكون شخص النائب لا شخص الأصيل هو محل الاعتبار عند النظر في صحة التعبير عن الإرادة ، ومدى ما يتأثر به هذا التعبير من وجود عيب في الإرادة ، أو من العلم ببعض الظروف الخاصة أو وجوب العلم بها " . ولما عرض على لجنة المراجعة ، اقترح استكمال الحكم بما يسمح في بعض الأحوال بأن يعتد بإرادة الأصيل إلى جانب إرادة النائب ، وقدمت المادة في المشروع النهائي تحت رقم 107 بالنص الآتي : " 1 - إذا تم العقد بطريق النيابة ، كان شخص النائب لا شخص الأصيل هو محل الاعتبار عند النظر في عيوب الإرادة أو في أثر العلم ببعض الظروف الخاصة ، أو افتراض العلم بها .
2 - ومع ذلك إذا كان النائب وكيلا ويتصرف وفقا لتعليمات معينة صدرت له من موكله ، فليس للموكل أن يتمسك بجهل النائب لظروف كان يعلمها هو ، أو كان المفروض حتما أن يعلمها . " وقد وافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 107 . ووافقت لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ على النص بعد تعديل جاء عنه في تقريرها ما يأتي : " عدلت العبارة الأخيرة في الفقرة الأولى فأستعيض عن التعبير ، " بوجوب العلم بها " بالتعبير " بافتراض العلم بها حتما " ، حتى تكون دلالة النص أضيق . وعدلت العبارة الأخيرة من الفقرة الثانية تعديلا يتمشى مع ما تقرر بالنسبة إلى الفقرة الأولى " . وأصبح رقم المادة 104 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجنة .
وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ليست الأحكام الواردة في هذه المادة سوى تطبيقات للنظرية الحديثة في النيابة القانونية . فما دامت إرادة النائب هي التي تنشط لإبرام العقد بجميع ما يلابسها من ظروف ، فيجب أن يناط الحكم على صحة التعاقد بهذه الإرادة وحدها دون إرادة الأصيل . وعلى هذا النحو يكون للعيوب التي تلحق إرادة النائب أثرها في التعاقد . فإذا انتزع رضاه بالإكراه ، أو صدر بتأثير غلط أو تدليس ، كان العقد قابلا للبطلان لمصلحة الأصيل ، رغم أن إرادته براء من شوائب العيب . أما فيما يتعلق بالظروف التي تؤثر في الآثار القانونية للتعاقد فيجب أيضاً أن يكون مرجع الحكم عليها شخص النائب لا شخص الأصيل ، وعلى ذلك يجوز أن يطعن بالدعوى البوليصية في بيع صادر من مدين معسر توطأ مع نائب المشتري ولو أن الأصيل ظل بمعزل عن هذا التواطؤ " . ( انظر في كل هذا مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 90 – ص 94 ) .
( [134] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 17 مايو سنة 1905 م 17 ص 277 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 206 .
( [135] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 30 يناير سنة 1913 م 25 ص 161 . والعبرة في توافر الأهلية في الأصيل بالوقت الذي يباشر فيه النائب العقد ، فلو أن الأصيل بالوقت الذي يباشر فيه النائب العقد ، فلو أن الأصيل لم يكن أهلاً لهذا العقد وقت إعطاء الوكيل ، وكان أهلاً له وقت مباشرة الوكيل للتعاقد ، صح العقد ، ولا يصح إذا كان الأصيل أهلاً وقت التوكيل وغير أهل وقت مباشرة العقد .
( [136] ) وقد قضت محكمة الاستئناف الوطنية بأنه يجوز للسفيه المحجور عليه أن يكون وكيلا عن الغير ، ولا تشترط فيه أهلية خاصة ، لأنه لا يعمل باسمه بل باسم موكله ( 8 يونيه سنة 1915 المجموعة الرسمية 16 ص 148 ) .
( [137] ) ويلاحظ أنه إذا اختار الوكيل القاصر أن يبطل عقد الوكالة ، فإن نيابته المستمدة من هذا العقد تبطل ببطلان العقد ، ويصح أن ينقلب إلى فضولي إذا توافرت شروط الفضالة . هذا وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ، في صدد توافر الأهلية في الأصيل دون النائب ، ما يأتي : " وعلى تقيض ما تقدم يعتد في الحكم على الأهلية بشخص الأصيل دون النائب . فإذا كان الأصيل أهلاً للتعاقد بالأصالة ، صح تعاقد النائب عنه ولو لم يكن هذا النائب كامل الأهلية . وقد يكون مصدر النيابة في الصورة الأخيرة وكالة ، فما دام النائب غير أهل لعقدها ، كان عقد الوكالة وحده قابلا للبطلان " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 92 ) .
( [138] ) وكان المشروع التمهيدي يشتمل على نص يخول للغير أن يطلب من النائب صورة من سند نيابته ، فكانت المادة 158 فقرة ثانية من هذا المشروع تنص على ما يأتي : " ولمن يتعاقد مع النائب أن يطلب منه إثبات نيابته ، فإذا كانت النيابة ثابتة بعقد مكتوب فله أن يحصل منه على صورة مطابقة للأصل تحمل توقيعه " . وبقى هذا النص في المشروع النهائي وفي المشروع الذي وافق عليه مجلس النواب . ولما عرض على لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ قررت هذه اللجنة حذفه ، " إذ اعترض عليه بإنه لا فائدة منه إطلاقاً ، على أن سند النيابة قد يكون عرفياً ، فإذا أريد الإبقاء على هذه الفقرة فيجب أن ينص فيها على أن يكون سند النيابة رسميا ، لاسيما أن لهذه المادة مقابلا في القانون الحالي وهي المادة 518 مدني – وكانت المادتان 518 / 634 من القانون القديم تقضيان بالحق لمن يعامل الوكيل في أن يطلب منه صورة رسمية من سند التوكيل – ولما تبين من المناقشة أن هذه الفقرة لا ضرورة لها لأن الشخص الذي يتعاقد مع نائب عن الغير تقضي عليه الظروف بالاحتياط والحكمة في معاملته ، فقد يكتفي بسند عرفي ، وقد يصر على طلب سند رسمي ، وقد يصرف النظر عن هذا وذاك ، فالمرجع في هذا الخصوص إلى رغبة المتعاقد مع النائب عن الغير " . وجاء في تقرير اللجنة : " حذفت الفقرة الثانية من هذه المادة لأنها تتناول مسالة عملية تفصيلية ، في القواعد العامة ما يغني عن النص عليها " . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجنة . ( انظر في كل هذه مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ، ص 95 – ص 97 ) .
وجاء في المذكرة الإيضاحية للنص المحذوف ما يأتي : " فإذا احتفظ النائب بسند نيابته بعد انقضائها ، كان لمن تعاقد معه بناء على ثقته في هذا السند حق التمسك بالنيابة . ويستوي في هذه الحالة أن يكون النائب عالماً وقت العقد بانقضاء نيابته أو أن يكون جاهلا بهذه الواقعة . وقد روعى في تقرير هذه القاعدة ما هو ملحوظ من خطأ الأصيل في عدم سحب السند من النائب بعد انقضاء النيابة مباشرة " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 102 – ص 103 ) .
( [139] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 160 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " ما دام النائب لم يعلم بانقضاء نيابته ، فإن اثر العقد الذي يبرمه ، حقا كان أو التزاما ، ينصرف إلى الأصيل وخلفائه كما لو كانت النيابة لا تزال باقية ، هذا إذا كان الغير الذي تعاقد معه النائب يجهل هو أيضاً أن النيابة قد انقضت " . ولما عرضت المادة على لجنة المراجعة أقرتها بعد أن أبدلت عبارة " ينصرف إلى الأصيل " بعبارة " يضاف إلى الأصيل " ، وأصبح رقم المادة 110 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 110 . وعدلت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ صياغة الادة إلى الوجه الذي استقرت عليه في القانون حتى يكون المعنى اوضح دون مساس بجوهر الحكم ، وأصبح رقم المادة 107 ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجة – هذا ، وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " قد تنقضي النيابة دون أن يعلم النائب بذلك ، كما إذا كان يجهل موت الأصيل أو الغاء التوكيل ، فإذا تعاقد في هاتين الحالتين مع شخص حسن النية لا يعلم بانقضاء النيابة ، كان تعاقده ملزما للأصيل وخلفائه . وقد قصد من تقرير هذا الحكم إلى توفير ما ينبغي للمعاملات من أسباب الثقة والاستقرار " . ( انظر في كل هذا مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 102 – ص 104 ) .
( [140] ) ويلاحظ أنه في الفرضين الأولين – النيابة المستمرة وبقاء سند النيابة في يد النائب – ينتج عمل النائب أثره بالنسبة إلى الأصيل لأن هذا قد ارتكب خطأ ، فيكون نفاذ عمل النائب في حقه بمثابة التعويض . أما في الفرضين الأخيرين – جهل النائب والغير لانقضاء النيابة والظروف التي يغلب معها الظن أن الموكل يوافق على تصرف الوكيل – فنفاذ عمل النائب في حق الأصيل إنما هو تطبيق لقواعد الفضالة .
( [141] ) فلو كان النائب وكيلا وجاوز حدود الوكالة ، جاز القول إنه نصب نفسه وكيلا بإرادته . المنفردة فيما جاوز فيه حدود الوكالة ، على أن يقره الموكل بعد ذلك . ويكون مصدر النيابة في هذه الحالة هو القانون ، فقد جعل الوكيل – بناء على إرادته – نائبا فيما يجاوز حدود الوكالة . والنيابة هنا ليست منجزة ، بل هي معلقة على شرط موقف هو أن يصدر إقرار من الموكل .
( [142] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 159 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " إذا لم يعلن العاقد وقت إبرام العقد أنه يتعاقد بصفته نائبا ، فان أثر العقد لا يضاف إلى الأصيل دائنا أو مدينا ، إلا إذا كان من المفروض حتما أن من تعاقد معه النائب يعلم بوجود النيابة ، أو كان يستوي عنده أن يتعامل مع الأصيل أو النائب " . فأقرته لجنة المراجعة بعد تعديلات لفظية تحت رقم 109 من المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 109 . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ ، استعيض عن عبارة " إلا إذا كان يستفاد من الظروف " بعبارة " إلا إذا كان من المفروض حتما " ، وأصبح رقم المادة 106 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجنة . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 98 – ص 101 ) .
وانظر أيضاً المادة 32 فقرة 2 و 3 من قانون الالتزامات السويسري . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وقد استحدث المشروع باقتباس هذا النص من تقنين الالتزامات السويسري حكماً هاماً يطابق أحكام الشريعة الإسلامية . أما القواعد الخاصة بالاسم المستعار أو التسخير ، وهي التي تقضي بانصراف آثار العقد إلى النائب أو المسخر ، فلا تنطبق إلا إذا كان من يتعامل مع هذا النائب يجهل وجود النيابة ، أو كان لا يستوي عنده التعامل معه أو مع من فوضه " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 96 ) .
هذا ويلاحظ أن الفضولي ، وهو نائب نيابة قانونية عن رب العمل كما قدمنا ، إذا عمل باسمه لا باسم رب العمل ، فإن الأثر ينصرف إليه هو لا إلى رب العمل ، تطبيقاً للمبدأ المتقدم الذكر .
( [143] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 158 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 – إذا ابرم النائب عقداً في حدود نيابته وباسم الأصيل ، فإن ما ينشأ عن هذا العقد من حقوق والتزامات ينصرف إلى الأصيل مباشرة . 2 – ولمن يتعاقد مع النائب أن يطلب منه إثبات نيابته ، فإذا كانت النيابة ثابتة بعقد مكتوب ، فله أن يحصل منه على صورة مطابقة للاصل تحمل توقيعه " . فأقرت لجنة المراجعة المادة بعد تعديلات لفظية ، وأصبح رقمها 108 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 108 . ولما عرضت على لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، وافقت اللجنة على الفقرة الأولى ، أما الفقرة الثانية فقد قررت حذفها للأسباب التي تقدم ذكرها ، وأصبح رقم المادة 105 . ووافق مجلس الشيوخ عليها كما عدلتها اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 95 – ص 97 ) .
وانظر أيضاً المادة 30 من المشروع الفرنسي الايطالي . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروعي التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " إذا كان شخص النائب هو الواجب الاعتداد به فيما يتعلق باتمام العقد ، فعلى النقيض من ذلك ينبغي أن يرجع إلى شخص الأصيل وحده عند تعيين مصير آثاره ، فالأصيل دون النائب هو الذي يعتبر طرفاً في التعاقد ، واليه تنصرف جميع اثاره ، فيكسب مباشرة كل ما ينشأ عنه من حقوق ، ويقع على عاتقه كل ما يترتب من التزامات . ولعل هذا الأثر المباشر أهم ما أحرز القانون الحديث من تقدم في شأن النيابة " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 95 – ص 96 ) .
( [144] ) ومن هنا حرمت بعض الشرائع تعاقد الشخص مع نفسه لأن نظرية النيابة تقضي بأن النائب إنما يعبر عن إرادته هو لا عن إرادة الأصيل ، فاجتماع طرفي العقد في شخص واحد ، سواء كان نائباً عن كل منهما أو ناباً عن احدهما وأصيلاً عن نفسه ، يجعلنا من الوجهة الواقعية ومن الوجهة القانونية معاً أمام إرادة واحدة لا إرادتين . ومعروف أن العقد لا يتم إلا بتوافق إرادتين .
أما أنصار الإباحة فينقسمون إلى فريقين : فريق يرى أن تعاقد الشخص مع نفسه هو عقد حقيقي توافق فيه القبول مع الإيجاب ، ولكن شخصاً واحدا هو الذي عبر عن كل من الإيجاب والقبول طبقاً لمنطق نظرية النيابة ( بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 68 ص 88 ) . وفريق آخر يرى أن تعاقد الشخص مع نفسه لا ينطوي إلا على إرادة منفردة جعلها القانون تنتج اثرا ( ديموج 1 فقرة 42 – فقرة 43 ) ، ونحن نميل إلى ترجيح هذا الرأي الثاني . ( انظر رأياً آخر للدكتور حلمي بهجت بدوي يتمشى فيه مع رأيه الذي سبقت الإشارة إليه من اشتراك إرادة الأصيل وإرادة النائب في إمضاء العقد إذا كانت النيابة اتفاقية ، ومن جعل اثر العقد حكما من أحكام القانون إذا كانت النيابة قانونية في مؤلفة " أصول الالتزامات " ص 124 – ص 125 ) .
( [145] ) نظرية العقد للمؤلف ص 231 – ص 236 .
( [146] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 161 من المشروع التمهيدي مع اختلال لفظي بسيط . وأقرته لجنة المراجعة بعد تعديلات لفظية جعلته مماثلا لنص المادة 108 ، وقدمته تحت رقم 111 وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تساءل أحد الاعضاء عن الجزاء عن مخالفة نص هذه المادة ، فأجيب بأنه لا يترتب على المخالفة البطلان وإنما لا يحتج بالعقد على الأصيل . وتساءل عضو آخر هل الترخيص السابق يغني عن الإجازة اللاحقة ، فكان الجواب بالإيجاب . واعترض على تحريم تعاقد الشخص مع نفسه بأن هذا يخالف القاعدة التقليدية ، فأجيب على هذا الاعتراض بأن القانون يشترط لتمام العقد تقابل إرادتين ، ولا ينطوي تعاقد الشخص مع نفسه إلا على إرادة واحدة ، فإما أن يكون الشخص وكيلا عن اثنين فيكون هناك تضارب في المصالح ، وإما أن يكون الشخص أصيلاً عن نفسه ووكيلا عن خيره فيكون التضارب اكبر ، لذلك نص على عدم إمكان تعاقد الشخص مع نفسه باسم من ينوب عنه . وقد وافقت اللجنة على بقاء المادة كما هي تحت رقم 108 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 105 – ص 108 ) .
وانظر في هذه المسألة المادة 37 من المشروع الفرنسي الإيطالي .
( [147] ) وهذا التطبيق الخاص وردت فيه نصوص صريحة في القانون الجديد . فقد نصت المادة 479 على أنه " لا يجوز لمن ينوب عن غيره بمقتضى اتفاق أو نص أو أمر من السلطة المختصة أن يشتري بنفسه مباشرة أو باسم مستعار ولو بطريق المزاد العلني ما نيط به بيعه بموجب هذه النيابة ، ما لم يكن ذلك بإذن القضاء ومع عدم الاخلال بما يكون منصوصا عليه في قوانين أخرى " . ونصت المادة 480 على أنه " لا يجوز للسماسرة ولا للخبراء أن يشتروا الأموال المعهود إليهم في بيعها أو في تقدير قيمتها سواء أكان الشراء بأسمائهم أم باسم مستعار " . ( ويلاحظ هنا أن السمسار والخبير انزلا منزلة النائب لاتحاد العلة ) . وجاء في المادة 481 : " يصح العقد في الأحوال المنصوص عليها في المادتين السابقتين إذا أجازه من تم البيع لحسابه " .
( [148] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " يتصور أن يتعاقد الشخص مع نفسه في حالتين : فقد يكون الشخص طرفا في التعاقد لحساب نفسه من ناحية ، ومتعاقداً بالنيابة عن الطرف الآخر من ناحية أخرى ، وبذلك يتحقق التعارض بين مصالحه الشخصية ومصالح الأصيل . وقد يتعاقد الشخص بصفته نائباً عن الطرفين في أن واحد ، وفي هذه الحالة يكون عمله أقرب إلى معنى التحكيم منه إلى معنى النيابة " . . وغنى عن البيان أن مصلحة الأصيل لا تتيسر لها ضمانات الحماية الواجبة في كلتا الحالتين ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 105 – ص 106 ) .
( [149] ) وقد جاء في هذه المذكرة ما يأتي : " ولهذه العلة اعتبر تعاقد الشخص مع نفسه قابلا للبطلان لمصلحة الأصيل . . . ومن الواضح أن البطلان المقرر في هذا الشأن قد أنشيء بمقتضى نص خاص " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 106 ) .
( [150] ) وقد قضى قانون المحاكم الحسبية بأن تعين المحكمة وصياً خاصاً عند تعارض مصلحة القاصر مع مصلحة وليه أو عند تعارض مصالح القصر بعضها مع بعض ( م 12 ) . كما قضى بأنه " اذا تعارضت مصلحة الاقصر مع مصلحة الوصي أو زوجه أو أحد اصوله أو فروعه أو من يمثله الوصيث ، ولم يبلغ هذا التعارض مبلغا يخشى معه على اموال القاصر طبقا للفقرة الرابعة من المادة 16 ، ففي هذه الحالة تقيم المحكمة وصيا خاصا " . ويجوز كذلك تعيين وصي خصومة ولو لم يكن للقاصر مال ( م 17 ) .
( [151] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي . " ويجوز أن تقضي بعض نصوص التشريع أو بعض قواعد التجارة بصحة تعاقد الشخص مع نفسه . فمن ذلك بإباحة تعامل الولي ولده وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية ، وإباحة تعامل الوكيل بالعمولة باسم طرفي التعاقد وفقا لقواعد القانون التجاري " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 106 ) .
( [152] ) هناك عقود تتم عادة دون مفاوضات تسبقها ، منها : العقود المألوفة في الحياة اليومية كمن يأكل في مطعم أو ينزل في فندق أو يشتري صحيفة ، والعقود التي تبرم دون سابق مفاوضة في الحياة التجارية وهي تقتضي السرعة في البت والتعامل ، وعقود الإذعان وهي تتميز بايجاب بات في بادئ الأمر يعقبه اذعان من المتعاقد الآخر أو قبول لا بد منه على ما سنرى .
( [153] ) وقد سبت الإشارة إلى هذا النص عند الكلام في التعبير الصريح والتعبير الضمني ( انظر فقرة 76 ) ، وبينا هناك أن هذا النص في حذف في لجنة المراجتة لعدم الحاجة إليه ، إذ يسهل على القضاء تطبيق هذا الحكم دون نص عليه .
( [154] ) 2 مارس سنة 1904 م 16 ص 147 – انظر أيضاً حكماً آخر في 24 ابريل سنة 1902 م 14 ص 264 .
( [155] ) استئناف مختلط في 30 يناير سنة 1896 م 8 ص 101 – وفي ) يونيه سنة 1898 م 10 ص 322 – وفي 8 مارس سنة 1900 م 12 ص 156 – وفي 2 مارس سنة 1904 م 16 ص 147 – وفي 21 ابريل سنة 1904 م 16 ص 213 – وفي 15 نوفمبر سنة 1923 م 36 ص 32 – وفي 13 مارس سنة 1945 م 57 ص 88 .
( [156] ) استئناف مختلط في 21 مايو سنة 1879 بوريللي بك م 301 فقرة 5 – وفي 18 يناير سنة 1912 م 24 ص 100 – وفي 23 نوفمبر سنة 1917 م 30 ص 62 .
( [157] ) محكمة الإسكندرية الابتدائية المختلطة في 6 يناير سنة 1923 جازيت 14 ص 13 رقم 17 .
( [158] ) أنظر كتاب " نظرية العقد " للمؤلف ص 244 – ص 246 .
( [159] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 130 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 - إذا حدد ميعاد للقبول التزم الموجب بإيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد . 2 – وقد يستخلص الميعاد ضمناً من الظروف أو من طبيعة التعامل " . وفي لجنة المراجعة اقترح أن يكون التزام الموجب لا بإيجابه بل بالبقاء على إيجابه ، فإن هذا أدق في الدلالة على المعنى المقصود ، فوافقت اللجنة على ذلك كما ادخلت بعض تعديلات لفظية ، وأصبح رقم المادة 95 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 95 . ووافقت عليها كذلك لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ومجلس الشيوخ تحت رقم 93 . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 36 – ص 38 ) .
وكان المشروع التمهيدي يشتمل على نص يسبق هذا النص جاء فيه ما يأتي : " كل من صدر منه إيجاب يلتزم بإيجابه ما لم يصرح بأنه غير ملزم أو ما لم يتبين من الظروف أو من طبيعة التعامل أنه لم يقصد أن يلتزم بإيجابه " ( م 129 من المشروع التمهيدي ) . وحذف هذا النص في المشروع النهائي اكتفاء بالنص الذي استبقى في حالة الإيجاب المقترن بأجل ، إذ أن هذه الحالة هي وحدها التي تظهر فيها الفائدة العملية من القول بالضفة الملزمة للإيجاب . أما إذا لم يقترن الإيجاب بأجل ، فيمكن القول بأنه لو كان النص المحذوف قد استبقى لأفاد أن الموجب يبقى في هذه الحالة ملزماً بالبقاء على إيجابه المدة المعقولة ، وحذف النص جعله غير ملزم . ولكن الفائدة العملية من هذا القول تكاد تكون معدومة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 30 ) .
( [160] ) هذه العبارات مأخوذة من المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 37 ) .
( [161] ) وقد كانت المادة 132 من المشروع التمهيدي تجري على هذا الوجه ، وحذفت في المشروع النهائي اكتفاء بتطبيق القواعد العامة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 40 ) . ويلاحظ إننا انتقلنا في هذا الفرض من تعاقد يصدر الإيجاب فيه لحاضر في مجلس العقد إلى تعاقد يصدر الإيجاب فيه لغائب .
( [162] ) أنظر في مثل ثالث لتحديد ميعاد للقبول تحديداً ضمنياً محكمة الاستئناف المختلطة في 18 يناير سنة 1912 م 24 ص 100 .
هذا وتقديم عطاء في مناقصة متى وصل إلى علم من وجه إليه العطاء – والعلم هنا يقع على تقديم العطاء في ذاته ولا يشمل مضمون العطاء لأن هذا يكون سريا كما تقضي بذلك طبيعة المعاملة – يكون ملزماً لا يجوز الرجوع فيه حتى قبل فض المظاريف ، لأن الإيجاب قد أقترن بأجل ضمني هو الميعاد الذي حدد لإرساء العطاء .
( [163] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 36 – وانظر أيضاً في هذا المعنى محكمة الاستئناف المختلطة في 17 نوفمبر سنة 1917 م 3 ص 62 .
( [164] ) كان المشروع التمهيدي يشتمل على نص يعدد الحالات التي يسقط فيها الإيجاب ، فكانت المادة 133 من هذا المشروع تنص على ما يأتي : " يسقط الإيجاب : 1 ) إذا انقضت صفته الملزمة قبل أي قبول . 2 ) إذا رفضه من وجه إليه . 3 ) إذا كان من وجه إليه الإيجاب قد عارضه بإيجاب آخر " . ولما عرضت هذه المادة على لجنة المراجعة قررت حذفها لأنها تشتمل على تعداد يحسن تركه للفقه ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 40 – ص 41 في الهامش ) .
( [165] ) أنظر في حالة وصول القبول متأخراً ، سواء لأنه صدر بحيث يصل في الميعاد ولكنه وصل متأخراً بالفعل أو صدر بحيث لا يمكن أن يصل في الميعاد ، نظرية العقد للمؤلف ص 253 حاشية رقم 1 و 2 .
هذا وقد كانت الفقرة الأولى من المادة 141 من المشروع التمهيدي تجري على الوجه الآتي : " يعتبر القبول بعد الميعاد بمثابة إيجاب جديد ، ومع ذلك إذا كان القبول قد أرسل في الوقت المناسب ، ولكنه وصل إلى الموجب بعد الميعاد ، وكان الموجب ينوي إلا يرتبط بهذا القبول ، وجب عليه ، إن علم أن القبول رغم تأخره في الوصول قد أرسل في الوقت المناسب ، أن يخطر الطرف الآخر فوراً بتأخر القبول ، فإذا نهاون في الأخطار اعتبر القبور غير متأخر " وجاء في المذكرة الإيضاحية لهذا النص ما يأتي : " ويجب التفريق بين القبول الذي يرسل بعد انقضاء الميعاد المحدد له وبين القبول الذي يرسل في الوقت المناسب ولكن يتأخر وصوله إلى الموجب . فالقبول الثاني دون الأول هو الذي يرتب على عاتق الموجب ، إذا انصرفت نيته إلى عدم الارتباط به ، الالتزام بأن يخطر الآخر فوراً بذلك . فإذا تهاون في الأخطار وأصبح التأخير بذلك منسوباً إلى خطئه ، فيعتبر أن القبول قد وصل في الوقت المناسب " . ولما عرض النص على لجنة المراجعة قررت حذفه اكتفاء بتطبيق القواعد العامة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 49 – ص 51 ) .
( [166] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 131 من المشروع التمهيدي على الوجه الوارد في القانون الجديد ( فيما عدا فروقا لفظية طفيفة ) . ولما تلى النص في لجنة المراجعة لوحظ أن المشروع اخذ بنظرية مجلس العقد في الفقه الإسلامي على أن يكون مفهوماً أنه لم يرد الإمعان في وجهة النظر المادية التي نراها عادة في كتب الفقه . فوافقت اللجنة على النص بعد تعديلات لفظية طفيفة ، وأصبح رقم المادة 96 في المشروع النهائي ، ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 96 . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تساءل أحد الاعضاء عما إذا كان من الممكن الاستغناء عن الفقرة الثانية من المادة فأجيب بالنفي لأن تلك الفقرة تعالج حكم القبول إذا صدر قبل ارفضاضا مجلس العقد . وقد وافقت اللجنة ووافق مجلس الشيوخ على المادة تحت رقم 94 . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 39 – ص 44 ) .
( [167] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 42 .
( [168] ) أنظر المادة 4 من تقنين الالتزامات السويسري والمادة 147 فقرة 1 من التقنين الألماني .
( [169] ) نحن هنا نأخذ بالمذهب الحنفي وهو المذهب الذي قصد القانون الجديد أن يستمد منه في هذه المسألة . وقد اختلفت الحنفية مع الشافعية في ذلك . فالحنفية يرون كما قدمنا جواز القبول ولو تراخى عن الإيجاب ما دام قد صدر في مجلس العقد . أما الشافعية فيشترطون الفور في القبول ، فإذا لم يصدر القبول فوراً سقط الإيجاب ولو لم يرجع فيه الموجب . ولكنهم في الوقت ذاته يقولون بخيار المجلس ، فيجوز للموجب له أن يرجع في قبوله قبل انفضاض مجلس العقد . ومن ثم أصبح مذهب الشافعي ، بفضل هذه الصياغة الفنية ، معقولا ، وأصبح الفرق بينه وبين المذهب الحنفي محدود المدى من الناحية العملية . فالحنفية يقولون إن الموجب له يستطيع أن يؤخر قبوله إلى ما قبل انفضاض المجلس ، والشافعية يقولون بل يجب أن يقبل فورا ، ولكنه يستطيع الرجوع في قبوله إلى ما قبل انفضاض المجلس . أما المذهب الملاكي فيشترط الفورية كالذمهب الشافعي ، ويمنع خيار المجلس كالمذهب الحنفي ، وهذا هو مذهب القوانين الحديثة . ولم يختره القانون الجديد لما ينطوي عليه من ضيق وحرج .
وتنقل هنا بعض ما جاء في البدائع في هذه المسألة : " وأما الذى يرجع إلى مكان العقد فواحد وهو اتحاد المجلس ، بأن كان الإيجاب والقبول في مجلس واحد . فان اختلف المجلس لا ينعقد ، حتى لو أوجب أحدهما البيع فقام الاخر عن المجلس قبل القبول أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس ثم قبل لا ينعقد ، لان القياس أن لا يتأخر أحد الشطرين عن الآخر في المجلس ، لانه كما وجد احدهما انعدم في الثاني من زمان وجوده ، فوجد الثاني والاول منعدم فلا ينتظم الركن ، الا ان اعتبار ذلك يؤدى إلى انسداد باب البيع ، فتوقف أحد الشطرين على الآخر حكما . وجعل المجلس جامعا للشطرين مع تفرقهما للضرورة ، وحق الضرورة يصير مقضيا عند اتحاد المجلس ، فإذا اختلف لا يتوقف . وهذا عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله الفور مع ذلك شرط لا ينعقد الركن بدونه . وجه قوله ما ذكرنا ان القياس أن لا يتأخر أحد الشطرين عن الآخر والتأخر لمكان الضرورة وانها تندفع بالفور . ولنا ان في ترك اعتبار الفور ضرورة لان القابل يحتاج إلى التأمل ، ولو اقتصر على الفور لا يمكنه التأمل " ( البدائع 5 ص 137 ) .
هذا التحليل الرائع هو الذي تقف عنده . ولا نجاري المذهب الحنفي بعد ذلك في تصويره لمجلس العقد تصويراً مادياً ضيقاً يخرج به عن مقتضيات الحياة . وهذا بعض ما جاء في البدائع في صدد هذا التصوير الضيق : " وعلى هذا إذا تبايعا وهما يمشيان أو يسيران على دابتين أو دابة واحدة في محمل واحد ، فان خرج الإيجاب والقبول منهما متصلين انعقد ، وان كان بينهما فصل وسكوت وان قل لا ينعقد ، لان المجلس تبدل بالمشى والسير وان قل . . . ولو تبايعا وهما واقفان انعقد لاتحاد المجلس . ولو أوجب أحدهما وهما واقفان فسار الآخر قبل القبول أو سارا جميعا ثم قبل لا ينعقد ، لانه لما سارا وسارا فقد تبدل المجلس قبل القبول ، فلم يجتمع الشطران في مجلس واحد . . . . . ولو تبايعا وهما في سفينة ينعقد ، سواء كانت واقفة أو جارية ، خرج الشطران متصلين أو منفصلين ، بخلاف المشى على الأرض والسير على الدابة ، لان جريان السفينة بجريان الماء لا بإجرائه ، ألا ترى أن راكب السفينة لا يملك وقفها فلم يكن جريانها مضافا إليه فلم يختلف المجلس ، فأشبه البيت . بخلاف المشى والسير . أما المشى فظاهر لانه فعله ، وكذا سير الدابة مضاف إليه ، ألا ترى انه لو سيرها سارت ولو وقفها وقفت ، فاختلف المجلس بسيرها " ( البدائع 5 ص 137 ) .
ونرى من ذلك أن فقهاء الحنفية يشترطون اتحاد المجلس الحقيقي ، ثم يقلبون المسألة على وجوهها المنطقية ، فيخلص لهم أنه إذا اختلف المجلس بالتنقل الاختياري ( المشي أو السير على الدابة ) لا ينعقد البيع ، أما إذا اختلف بالتنقل غير الاختياري ( جريان السفينة ) ينعقد . وفي هذا ذهاب بالمنطق إلى ابعد مدى ، وفيه من الحرج في التعامل مالا يخفى ، إذ يمتنع على " شخصين يمشيان أنو يسافران على دابة أو على غيرها من وسال النقل أن يتعاقدا لاختلاف المجلس ، مع أنه لا يوجد ما يدعو إلى الوقوف عند الاتحاد الحقيقي للمجلس ، فيكفي الاتحاد الحكمي ، وقد اقر فقهاء الحنفية هذا الاتحاد الحكمي في التنقل غير الاختياري للضرورة ، والضرورة ذاتها هي التي تقضي علينا أن نكتفي بالاتحاد الحكمي في التنقل الاختياري أيضاً . وقد أراد شارح المجلة الأستاذ سليم باز رفع الحرج في حالة يكثر وقوعها وهي السفر بالسكة الحديدية ، فذكر في هذه المسألة ما يأتي : " أما لو تبايعا وهما في السفينة فإنه يصح لكون السفينة كالبيت فلا ينقطع المجلس بجريانها لأنهما لا يملكان إيقافها ( طحطاوي عن النهر ) ، قلت ومثل السفينة سكة الحديد " ( شرح المجلة لسليم باز ص 86 ) .
( [170] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 45 – ص 46 .
( [171] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 45 في الهامش . وقد جاء أيضاً في المذكرة الإيضاحية في صدد النشرات والإعلانات التي يوجهها التجار إلى الجمهور ما يأتي : " وقد تقدم في الفقرة الثانية من المادة 134 من المشروع أن النشرات والإعلانات وقوائم الأسعار التي يجري التعامل بها وغير ذلك من البيانات الموجهة للجمهور أو الافراد تعتبر في الأصل دعوة لحث الناس على الإيجاب . فليس ينصرف حكم النص في الصورة التي يواجههاالى الإيجاب النهائي الملزم الذي ينقلب إلى ارتباط تعاقدي متى اقترن به القبول ، وإنما ينصرف هذا الحكم إلى مجرد الدعوة للتقدم بالإيجاب . والاستجابة لهذه الدعوة هي التي تعتبر إيجاباً نهائيا ملزما ، يمتاز عما عداه من ضروب الإيجاب بأن من وجه إليه لا يجوز له أن يرفضه لغير سبب مشروع " ، ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 45 في الهامش ) .
( [172] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 46 . أنظر أيضاً محكمة استئناف أسيوط في 3 يونيه سنة 1948 المحاماة 28 رقم 273 ص 805 .
( [173] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 138 من المشروع التمهيدي على الوجه الوارد في القانون الجديد مع بعض فروق لفظية . ولما تلى في لجنة المراجعة لاحظ بعض الأعضاء أن التمييز بين المسائل الجوهرية والمسائل التفصيلية أمر دقيقي في بعض الأحوال ، فلا يحسن تركه لتقدير القاضي خشية التحكم ، ودارت مناقشة طويلة حول هذه المسألة ، واستقر الرأي على إبقاء المادة بعد تعديلات لفظية تحت رقم 97 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب عليها دون تعديل ، ثم وافق عليها كل من لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ومجلس الشيوخ تحت رقم 95 ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 45 – ص 49 ) .
وانظر أيضاً المادة 2 من تقنين الالتزامات السويسري والمادة 61 فقرة 2 من تقنين الالتزامات البولوني .
( [174] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وفي هذه الحالة يتولى القاضي أمر الفصل في المسائل التفصيلية التي أرجئ الاتفاق عليها ما لم يتراض العاقدان بشأنها . وعلى هذا النحو يتسع نطاق مهمة القاضي ، فلا يقتصر على تفسير إرادة العاقدين بشأنها . وعلى هذا النحو يتسع نطاق مهمة القاضي ، فلا يقتصر على تفسير إرادة العاقدين ، بل يستكمل ما نقص منها " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 46 ) .
( [175] ) يؤيد ذلك ما جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي : " ومهما يكن من أمر فينبغي التنويه بأن هذه الأحكام لا تعدو أن تكون مجرد تفسر لإرادة المتعاقدين . فإذا تعارض هذا التفسير مع ما أراده المتعاقدان ، بأن اشترطا صراحة أو ضمنا أن يكون العقد باطلا عند عدم الاتفاق على المسائل التي احتفظ بها ، وجب الاحترام هذه الإرادة ، ولا يتم العقد ما لم يحصل الاتفاق على تلك المسائل " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 47 ) .
( [176] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 141 من المشروع التمهيدي ، وكانت هذه المادة تشتمل على فقرتين ، حذفت الفقرة الأولى منهما في المشروع النهائي اكتفاء بتطبيق القواعد العامة كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، أما الفقرة الثانية فجاءت مطابقة للنص الذي ورد في القانون الجديد . وقد وافقت عليها لجنة المراجعة ومجلس النواب ولجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ومجلس الشيوخ دون تعديل ، وأصبحت المادة 96 في القانون الجديد ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 49 – ص 51 ) .
( * ) بعض المراجع : بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 108 – ديموج في الالتزامات 1 فقرة 185 وما بعدها و 2 فقرة 556 – فاليري ف يالعقد بالمراسلة فقرة 21 وما بعدها وتعليقاته في داللوز 1905 – 1 – 345 و 1908 – 2 – 10 و 1913 – 1 – 281 – جيز في نظرية العمل السلبي ( مجلة القانون العام 10905 ص 746 ) – بارولت في السكوت باعتباره منشئاً للالتزامات ديجون 1912 – كوهن في العقد بالمراسلة باريس 1921 ص 103 وما بعدها – ليفي ديجون 1912 – كوهن في العغقد بالمراسلة باريس 1921 ص 103 وم ابعدها – ليفي ديجون 1927 – كوهين ( Cohin ) في العمل السلبي الخاطئ باريس 1929 – أوبري ورو 4 فقرة 343 – بودري وبارد 1 فقرة 44 – فقرة 48 – بنكاز تكملة بودري 2 فقرة 395 – والتون 1 ص 197 – ص 199 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 160 – فقرة 166 – الدكتور حلمي بهجت بدوي فقرة 54 – الدكتور حشمت أبو ستيت فقرة 88 .
( [177] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ينبغي التفريق بين التعبير الضمني عن الااردة وبين مجرد السكوت . فالتعبير الضمني وضع ايجابي ، أما السكوت فهو مجرد وضع سلبي . وقد يكون التعبير الضمني بحسب الأحوال ايجاباً أو قبولا ، أما السكوت فمن الممتنع على وجه الاطلاق أن يتضمن ايجاباً ، وإنما يجوز في بعض الفروض الاستثنائية أن يعتبر قبولاً " مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 57 ) .
( [178] ) قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن سكوت الحكومة عن الرد على صاحب مصنع يطلب ترخيصاً لإقامة آلة ميكانيكية في مصنعه لا يعد قبولا أو ترخيصا من جانبها حتى لو تأخرت الحكومة عن الرد في الميعاد القانوني وحتى لو حصل صاحب المصنع على تصريحات شفيوة من بعض الموظفين بأن الحكومة ستعطيه الترخيص المطلوب ( 26 ديسمبر سنة 1929 م 42 ص 123 ) . وكذلك قضت محكمة إسكندرية الابتدائية المختلطة في دائرتها التجارية بأن سكوت المشتري أكثر من ثمانية أيام دون أن يرد على بعرض يعرضه البائع ويشترط فيه شرطاً في صفقة ظلت المفاوضات دائرة فيها بين البائع والمشتري مدة أسابيع عديدة لا يعتبر رضاء من المشتري ، بل يجب أن يكون رضاؤه واضحاً جلياً بعد هذه المفاوضات الطويلة ( 6 ديسمبر سنة 1926 جازيت 17 ص 187 رقم 276 ) . وقضت المحاكم الفرنسية بأن مجرد سكوت شخص عن الرد على خطاب يعتبره فيه مرسله مساهما في شركة معينة ويخبره فيه أنه سجل في حسابه قيمة الأسهم التي احتسبها عليه ، لا يعتبر قبولا بالاكتتاب في الأسهم المذكورة ( نقض فرنسي في 25 مايو سنة 1870 داللوز 70 – 1 – 257 وفي 18 أغسطس سنة 1909 داللوز 1910 – 1 – 207 ) ، وبان الناشر الذي يرسل لشخص دون سابق اتفاق مجلة دورية لا يحق له أن يعتبر هذا الشخص قد اشترك في هذه المجلة ما دام لم يصدر منه قبول بذلك ، ولا يعتبر قبولا مجرد امتناع هذا الشخص عن رد المجلة حتى لو ذكر في المجلة أن عدم الرد يعد قبولا بالاشتراك ( محكمة السين الابتدائية في 19 ابريل سنة 1893 جازيت دي باليه 93 – 2 – 162 – محكمة دوية الإستئنافية في 10 مارس سنة 1874 داللوز 74 – 2 – 153 ) ويلاحظ أن من يتلقى المجلة ويسكت ، إذا كان سكوته لا يعد قبولا ، فإن قبوله قد يستخلص ضمناً من أعمال مادية ايجابية يقوم بها ، كأن يواظب على تسلم المجلة وقراءتها بانتظام ( أنظر دي هلتس 1 لفظ ( convention ) فقرة 6 ) .
( [179] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 142 من المشروع التمهيدي على الوجه الوارد في القانون الجديد فيما عدا فروقا لفظية طفيفة وفيما عدا عبارة وردت في المشروع التمهيدي في آخر الفقرة الثانية نصها كالآتي : " ويكون كذلك سكوت المشتري بعد أن يتسلم البضائع التي اشتراها قبولا لما ورد في ( القانون ) من شروط " . ووافقت لجنة المراجعة على النص ، بعد إدخال تعديلات لفظية طفيفة ، وأصبح رقم المادة 100 في المشروع النهائي ، ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 100 . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ اعترض على الجزء الأخير من الفقرة الثانية " ويكون كذلك سكوت المشتري ألخ ألخ " . وبعد المناقشة قررت اللجنة بقاء المادة مع حذف هذا الجزء الأخير لأنه يواجه تطبيقاً يحسن أن يترك فيه التقدير للقضاء في كل حالة بخصوصها ، وأصبح رقم المادة 98 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 64 ) .
وانظر فيما يقابل هذا النص المادة 6 من قانون الالتزامات السويسري والمادة 180 من قانون الالتزامات اللبناني .
( [180] ) ويجوز أن يكون السكوت بمنزلة القبول لا بالنسبة إلى إتمام العقد فحسب ، بل وكذلك بالنسبة إلى إلغائه أو الإقالة منه ( استئناف مختلط 11 ابريل سنة 1917 م 29 ص 358 ) .
( [181] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ويجوز أن يجعل عرف التجارة للسكوت شان التبول . وتفريعا على ذلك قضى بأنه لا تجوز المنازعة في بيع يعتبر ف يعرف السوق تامان وفقاً للشروط المدونة في بطاقة أو مذكرة لم يردها العاقد من فوره ، متى كان هذا العرف يفرض على من يطلب نقض البيع بعد فوات الوقت أن يقيم الدليل على عدم انعقاد العقد ، وهو دليل لا يسوغ للعاقد أن يستخلصه من إهماله أو خطئه الشخصي ( استئناف مختلط في 12 فبراير سنة 1930 م 42 ص 272 ) " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 59 ) .
( [182] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 22 مارس سنة 1905 م 17 ص 169 – 9 ديسمبر سنة 1909 م 22 ص 73 – 3 فبراير سنة 1915 م 27 ص 146 – 2 مايو سنة 1916 م 28 ص 287 – 14 ديسمبر سنة 1916 م 29 ص 111 – ويلاحظ أن الأحكام السابقة إذا اعتبرت السكوت موافقة على الحساب المقدم ، فإنها تستثنى حالة الغلط في الحساب والحذف والإضافة والتزوير ، وما إلى ذلك ، فمثل هذا يصحح .
( [183] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 12 فبراير سنة 1930 م 42 ص 272 ( وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم ) – نقض فرنسي في 11 يوليه سنة 1923 سيريه 1924 – 1 – 117 – وفي 15 يوليه سنة 1926 سيريه 1926 – 1 – 262 .
( [184] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 27 ابريل سنة 1899 م 11 ص 200 – 2 مايو سنة 1912 م 24 ص 315 – 18 نوفمبر سنة 1925 م 38 ص 56 .
( [185] ) مثل استكمال تنفيذ العقد مشتر لآلات ميكانيكية استنفد الأجل المضروب لفحص هذه الآلات وطلب أجلاً جديدا لفحص تكميلي كان متوقعا في عقد البيع ، فله أن يعتبر سكوت البائع رضاء بمنحه هذا الأجل الجديد ( تقض فرنسي في 7 مارس سنة 1905 سيري 1905 – 1 – 427 ) . ومثل تعديل العقد ما قضت به محكمة الاستئناف المختلطة من أنه إذا عدل البائع من شروط البيع فلم يضرب للتسليم أجلاً محددا بل جعله في أقرب ميعاد مستطاع ، وسكت المشتري على ذلك ، فسكوته يعتبر رضاء بهذا التعديل ( استئناف مختلط 18 نوفمبر سنة 1915 م 38 ص 56 ) . ومثل فسخ العقد أن شخصاً أوصى بكميات كبيرة من الفحم من انجلترا ، ثم نشبت الحرب ، فأخبره المصنع أنه يستحيل عليه إرسال ما يطلب بعد أن منعتة الحكومة الانجليزية تصدير الفحم ، فسكت ، ثم عاد بعد ذلك يطالب المصنع بتنفيذ تعهده . فقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه بصرف النظر عما إذا كان التزام المصنع أصبح تنفيذه مستحيلا بقوة قاهرة ، فإن سكوت المشتري قد جعل المصنع على حق في اعتقاده بفسخ العقد ( 11 ابريل سنة 1917 م 29 ص 358 ) .
( [186] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن الشخص الذي يصدر منه إيجاب بضمان آخر يريد استئجار عين من الحكومة يعد مقيداً بهذا الضمان بمجرد رسو المزاد على من كفله دون حاجة لقبول الكفالة من جانب الحكومة ، إذ السكوت في هذه الحالة يعتبر قبولا ( 13 فبراير سنة 1896 م 8 ص 118 ) .
( [187] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " أما السكوت فمن الممتنع على وجه الإطلاق أن يتضمن إيجاباً ، وإنما يجوز في بعض فروض استثنائية أن يعتبر قبولا . وقد تناول النص هذه الفروض ، وتقل بشأنها عن تقنين الالتزامات السويسري ضابطاً مرنا يهيئ للقاضي أداة عملية للتوجيه قوامها عنصران : أولهما التثبت من عدم توقع أي قبول صريح ، وهذه الواقعة قد تستخلص من طبيعة التعامل أو من عرف التجارة وسنتها أو من ظروف الحال . والثاني التثبت من اعتصام من وجه إليه الإيجاب بالسكوت فترة معقولة . . . ويراعى . . . أن انقضاء الميعاد المعقول أو المناسب هو الذي يحدد وقت تحقق السكوت النهائي الذي يعدل القبول ويكون له حكمه ، وفي هذا الوقت يتم العقد . أما فيما يتعلق بمكان الانعقاد فيعتبر التعاقد قد تم في المكان الذي يوجد فيه الموجب عند انقضاء الميعاد المناسب إذ هو يعلم بالقبول في هذا المكان . ولم تعرض التقنينات اللاتينية ، فيما عدا استثناءات خاصة ، لقيمة السكوت كطريق من طرق التعبير عن الإرادة . بيد أن التقنينات الجرمانية وغيرها من التقنينات التي تأثرت بها تورد على النقيض من ذلك أحكاماً وافية في هذا الشأن . ويستخلص من دراسة مختلف المذاهب ومقارنتها في النصوص التشريعية وأحكام القضاء أن مجرد السكوت البسيط لا يعتبر إفصاحاً أو تعبيراً عن الإرادة . أما السكوت " الموصوف " وهو الذي يعرض حيث يفرض القانون التزاما بالكلام فلا يثير إشكالاً ما ، لأن القانون نفسه يتكفل بتنظيم أحكام . وليس يبقى بعد ذلك سوى " السكوت الملابس " وهو ما تلابسه ظروف يحمل معها محمل الإرادة ، فهو وحده الذي يواجهه النص ، محتذياً في ذلك حذو أحدث التقنينات وأرقاها " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 57 – ص 58 ) .
( [188] ) قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن تنفيذ أحد العاقدين لاتفاق رغم وجود بعض مآخذ كان بوسعه أن يتمسك بها قبل التنفيذ يحول دون طلب القضاء بإبطال هذا الاتفاق أو تعديل شروطه فيما بعد ( 20 مارس سنة 1935 م 47 ص 213 ) . وقضت محكمة الإسكندرية الابتدائية المختلطة بأنه يجوز أن يستفاد الرضاء من القيام بعمل من أعمال التنفيذ لا سبيل معه إلى الشك في انصراف نية العاقد الذي لم يوقع العقد إلى القبول ( 6 يونية سنة 1916 جازيت 7 ص 19 ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن خير طريقة لتفسير العقد تستخلص من التنفيذ الذي ارتضاه العاقدان ( 16 مايو سنة 1916 م 28 ص 233 – 16 فبراير سنة 1922 م 34 ص 182 ) . وقضت أيضاً بأن شركة المياه التي تعاقدت مع مشترك على توريد المياه له على أساس الربط الجزاف لا يجوز لها أن تلزمه بدفع ثمن ما يستهلكه على أساس ما يحتسبه العداد ما لم تقم الدليل على إنها ألغت التعاقد على أساس الربط الجزاف ( 21 مارس سنة 1917 م 29 ص 301 – 24 ابريل سنة 1930 م 42 ص 447 ) .
( [189] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 56 – ص 57 . وانظر المادة 3 من المشروع الفرنسي الإيطالي .
( [190] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " يتناول هذا النص حالة تقرب من حالة السكوت . إلا أن التنفيذ الاختياري الذي يكون متقدما على الرد يدخل في نطاق القبول الضمني . ويراعى أن الأخطار ببدء التنفيذ ليس إلا إبلاغاً للقبول الضمن الذي صدر منذ أن حدث البدء في التنفيذ . فهذا الحادث هو الذي يحدد الزمان والمكان اللذين يتم فيهاما العقد دون حاجة إلى انتظار علم الموجب بذلك . وقد استثنيت هذه الحالة كما استثنيت حالة السكوت من حكم القاعدة التي تقضي بأن التعاقد ما بين الغائبين يعتبر تاما في الزمان والمكان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 56 – ص 57 في الهامش ) . ويلاحظ أنه اشير في المذكرة الإيضاحية إلى استثناء حالة السكوت أيضاً من حكم القاعدة التي تقضي بأن التعاقد ما بين الغائبين يعتبر تاما في الزمان والمكان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول . وهذا يحتاج إلى تفصيل . فقد رأينا فيما قدمناه في موضع آخر من المذكرة الإيضاحية أن هذا الاستثناء لا يقوم إلا في تحديد الزمان . أن تحديد المكان فتجري عليه القاعدة العامة ، ويعتبر التعاقد عن طريق السكوت قد تم في المكان الذي يوجد فيه الموجب عند انقضاء الميعاد المناسب إذ هو يعمل بالقبول في هذا المكان . على أن الاستثناء بالنسبة إلى زمان العقد ليس إلا استثناء ظاهريا ، إذ أن السكوت إذا اعتبر قبولا يكون صدوره والعلم به حاصلين في وقت واحد ، فلا ؟؟؟ نظريتي الإعلان والعلم في هذا الخصوص .
( [191] ) وقد قضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأن العطاء الذي يتقدم به شخص في بيع يجري بالمزاد العلني أمام المجلس الحسبي ، ثم يرجع فيه قبل موافقة المجلس ، يعتبر إيجاباً يجب أن يتعلق به قبول المجلسن ويجوز على ذلك الرجوع فيه قبل القبول ( 9 يونيه سنة 1932 المحاماة 13 ص 281 ) . وقد يشترط من يطرح الصفقة في المزاد صراحة أن له الخيار بلا قيد في قبول أي عطاء أو رفضه ، فيكون الشرط صحيحاً . وقد قضت محكمة النقض في هذا المعنى بأنه إذا عرضت في المزاد ارض لتأجيرها على مقتضى شروط واردة بقائمة المزاد تتضمن أن لصاحب الأرض الخيار بلا قيد في قبول أو رفض أي عطاء ، فإن تقديم العطاء ، ومجرد قبول المالك لجزء من التامين النقدي وتحريره إيصالاً عنه لم ينص فيه إلا على أن صاحب العطاء ملتزم بدفع باقي التامين في اجل حدده بكتابة منه على القائمة ولم يشر فيه بشيء إلى حقوق صاحب الأرض الواردة في قائمة المزاد ، بل بالعكس اشر على القائمة في يوم حصول المزاد الذي حرر فيه الإيصال بأن المالك لا يزال محتفظا بحقه في قبول أو رفض العطاء – كل ذلك لا يفيد تمام عقد الإيجار بين الطرفين ، ولا يمنع المالك من أن يستعمل حقه في قبول العطاء أو عدم قبوله في أي وقت شاء حتى بعد انصراف صاحبه . فإذا هو فعل ذلك في نفس اليوم فقبل عطاء آخر بأجرة أكثر وحرر بالفعل عقد الإيجار بعد أن دون هذا العطاء الآخر في القائمة قبل إقفال المزاد ، كان هذا هو العقد التام اللازم ( نقض مدني في 15 ديسمبر سنة 1938 مجموعة عمر 2 رقم 149 ص 443 ) .
أما إذا أرسى من طرح الصفقة المزاد على من رسا عليه ، فقد تم العقد ولا يجوز للراسى عليه المزاد الرجوع فيه بعد ذلك . وقد قضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأنه ما دام قد ثبت بمحاضر جلسة المجلس الحسبي أن الراسى عليه المزاد قبل الشراء بثمن معين ، ووافق المجلس الحسبي على هذا الثمن وقرر إيقاع البيع ، وما دام الإيجاب والقبول قد وقعا ممن يملكون التعاقد وحصل الاتفاق على المبيع والثمن ، فيكون البيع قد تم ، ولا عبرة بتحرير العقد لأن العقد ليس إلا السند الكتابي للبيع ، وليس للراسي عليه المزاد أن يرجع بعد ذلك في العقد من تلقاء نفسه ، لأنه لا يملك الجوع بغير إرادة الطرف الآخر ( 14 فبراير سنة 1935 المحاماة 15 رقم 317 / 2 ص 372 ) .
وقد يقدم شخص عطاء يكون عرضاً مستجداً ومستقلا عن شروط المناقصة ، فإذا قبله من طرح الصفقة في المناقصة تم العقد بينهما ، ولا يجوز الرجوع فيه بعد ذلك ( أنظر في هذا المعنى : نقض مدني في 13 يناير سنة 1949 مجموعة عمر 5 رقم 368 ص 699 ) .
ويلاحظ في كل ما قدمناه أن هذا هو القضاء المصري في ظل القانون القديم ، حيث كان الإيجاب غير ملزم ويجوز الرجوع فيه مادام أنه لم يقترن بالقبول . أما في ظل القانون الجديد حيث الإيجاب ملزم إذا اقترن بأجل ولو ضمني ، فقد قدمنا أن صاحب العطاء لا يجوز له الرجوع في عطائه بعد أن يصل العطاء إلى علم من وجه له ، لأن العطاء يعتبر إيجاباً ملزماً إذ هو قد اقترن بأجل ضمني هو فض المظاريف وإرساء العطاء على من يرسو عليه .
( [192] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 144 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " لا يتم العقد في المزايدات إلا برسو المزاد . ويسقط العطاء بعطاء يزيد عليه ، أو باقفال المزاد دون أن يرسو على أحد " . ولما تلى النص في لجنة المراجعة ، اضافت اللجنة عبارة " ولو كان باطلا " بعد عبارة " عطاء يزيد عليه " ، وأصبح رقم المادة 101 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 101 . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تناقش الأعضاء في حكم المزايدات التي يشترط في اعلانها أن لصاحب الشان الحق في رفض أو قبول أي عطاء يقدم فيها ، فقيل إن إرساء المزاد لا يتم إلا باستعمال حق الخيار المشروط في الإعلان ، وفي حكم المزايدات الحكومية التي تحتاج إلى تصديق طبقا للقواعد المالية ، فقيل أنه لا يمكن إرساء المزاد إلا بعد التصديق عليه إذ التصديق هو القبول بارساء ممن يملكه . وسال أحد الأعضاء كيف يكون العطاء باطلا ، فاجيب . بإمكان تحقق ذلك فيما لو كان صاحب العطاء قاصراً أو معتوهاً . ثم وافقت اللجنة على المادة مع حذف عبارة " أو بإقفال المزاد دون أن يرسو على أحد " ، وقد راعت في ذلك أن الارساء هو الذي يتم به العقد ، فإيراد هذه العبارة يكون مجرد تزيد قد يحمل على محمل آخر . وأصبح رقم المادة 99 . ثم وافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 64 – ص 67 ) .
هذا وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ينطبق هذا النص على جميع عقود المزايدات ، وبوجه خاص على البيوع والإيجارات التي تجري بطريق المزايدة وهو يحم خلافاً طال عهد الفقه به . فافتتاح المزايدة على الثمن ليس في نطق النص إلا دعوة للتقدم بالعطاءات . والتقدم بالعطاء هو الإيجاب . أما القبول فلا يتم إلا برسو المزاد . وقد اعرض المشروع عن المذهب الذي يرى في افتتاح المزايدة على الثمن إيجاباً وفي التقدم بالعطاء قبولا . ويراعى أن العطاء الذي تلحق به صفة القبول ، وفقاً لحكم النص ، يسقط بعطاء يزيد عليه حتى لو كان هذا العطاء باطلا أو قابلا للبطلان ، بل ولو رفض فيما بعد . ويسقط كذلك إذا اقفل المزاد دون أن يرسو على أحد . وليس في ذلك إلا تطبيق للقواعد العامة ، فما دام التقدم بالعطاء هو الإيجاب فهو يسقط إذا لم يصادفه القبول قبل انقضاء الميعاد المحدد . أما الميعاد في هذا الفرض فيحدد اقتضاء من دلالة ظروف الحال ومن نية المتعاقدين الضمنية ، وهو ينقضي بلا شك عند التقدم بعطاء اكبر أو بإقفال المزاد دون أن رسو على أحد " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 64 – ص 65 ) .
نضيف إلى ما تقدم أن العطاء اللاحق يسقط العطاء السابق ، لا باعتباره تصرفا قانونياً بل باعتباره واقعة مادية . ولا يمنع العطاء اللاحق أن يكون واقعة مادية أنه وقع باطلا كتصرف قانوني .
* بعض المراجع ك سالي في إعلان الإرادة 229 وما بعدها – ديجيه في تطورات القانون الخاص ص 121 – الدولة والقانون الموضوعي والقانون الوضعي ص 55 – هوريو في مبادئ القانون العام ص 207 – ريبير في القاعدة الخلقية في الالتزامات ص 55 وما بعدها – بلانيول وريبير وإسمان 1 ص 122 وما بعدها – ديموج في الالتزامات 2 ص 616 وما بعدها – موران 0 ( Morin ) في القانون والعقد سنة 1927 ص 36 وما بعدها – ديريه ( dereux ) في تفسير الأعمال القانونية باريس سنة 1905 ص 152 و ص 210 – جونو ( Gounot ) في مبدأ سلطان الإرادة ديجون سنة 1909 ص 227 وما بعدها – دولا ( Dollat ) باريس سنة 1905 – فورتييه ( Fortier ) ديجون سنة 1909 – بيشون ( Pichon ) ليون سنة 1913 – سارا ريم ( Sarat - Remy ) في مراجعة الشروط التعسفية في عقود الإذعان باريس سنة 1928 – ميسول ( Missol ) في عقد التأمين كعقد من عقود الإذعان باريس سنة 1934 – ساليه ( Salle ) في التطور الفني للعقد باريس سنة 1930 ص 11 وما بعدها – جوسران في مجموعة دراسات جيني جزء 2 ص 333 – وفي مجموعة دراسات لامبير جزء 3 ص 143 – ومقال في مجلة القانون المدني ربع السنوية سنة 1937 ص 21 – نظرية العقد للمؤلف ص 279 – ص 288 – الدكتور حلمي بهجت بدوي ص 222 – ص 226 – الدكتور احمد حشمت أبو ستيت ص 82 – ص 85 – الدكتور محمد عبد الله العربي في الإكراه الاقتصادي ليون سنة 1924 – الدكتور عبد المنعم فرج الصدة في عقود الإذعان في القانون المصري القاهرة سنة 1946 .
( [194] ) ويسمى الفرنسيون العقود التي يكون فيها القبول على النحو المتقدم بعقود الانضمام ( contrats d'adhesion ) ، لأن من يقبل العقد إنما ينضم إليه دون أن يناقشه . وهذه تسمية ابتدعها الأستاذ سالي في كتابه الإعلان عن الإرادة ( ص 229 – ص 230 ) . وقد آثرنا أن نسمى هذه العقود في العربية بعقود الإذعان ، لما يشعر به هذا التعبير من معنى الإضرار في القبول . وقد صادفت هذه التسمية رواجاً في اللغة القانونية من فقه وقضاء ، وانتقلت إلى التشريع الجديد .
( [195] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 145 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " القبول في عقود الإذعان يكون مقصورا على التسليم بشروط مقررة يضعها الموجب ولا يقبل مناقشة فيها " . ولما تلى النص في لجنة المراجعة أدخلت عليه تعديلات لفظية أصبح بعدها مطابقاً للنص الوارد في القانون الجديد ، وأصبح رقم المادة 102 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النوابعلى المادة دون تعديل . ووافقت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ومجلس الشيوخ على المادة دون تعديل تحت رقم 100 ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 67 – ص 71 ) . وانظر المادة 172 الفقرة الثانية من قانون الالتزامات اللبناني .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " من حق عقود الإذعان وهي ثمرة التطور الاقتصادي في العهد الحاضر ، أن يفرد لها مكان في تقنين يتطلع إلى مسايرة التقدم الاجتماعي الذي اسفرت عنه الظروف الاقتصادية . وقد بلغ من أمر هذه العقود أن اصبحت ، في رأي بعض الفقهاء ، سمة بارزة من سمات التطور العميق الذي اصاب النظرية التقليدية للعقد . على أن المشروع لم يرمجاراة هذا الرأي إلى عايته ، بل اجتزأ بذكر هذه العقود ، واعتبر تسليم العاقد بالشروط المقررة فيها ضربا من ضروب القبول . فثمة قبول حقيقي تتوافر به حقيقة التعاقد . ومع ذلك فليس ينبغي عند تفسير هذه العقود إغفال ما هو ملحوظ في إذعان العاقد ، فهو أقرب إلى معنى التسليم منه إلى معنى المشيئة . ويقتضي هذا وضع قاعدة خاصة لتفسير هذه العقود تختلف عن القواعد التي تسري على عقود التراضي . وقد أفرد المشروع لهذه القاعدة نصاً خاصاً بين النصوص المتعلقة بتنفيذ العقود وتفسيرها . وتتميز عقود الإذعان عن غيرها باجتماع مشخصات ثلاثة : اولها تعلق العقد بسلع أو مرافق تعتبر من الضروريات الأولى بالنسبة للمستهلكين أو المنتفعين . والثاني احتكار هذه السلع أو المرافق احتكاراً قانونياً أو فعلياً أو قيام منافسة محدودة النطاق بشأنها . والثالث توجيه عرض الانتفاع بهذه السلع أو المرافق إلى الجمهور بشروط متماثلة على وجه الدوام بالنسبة لكل فئة منها . وعلى هذا النحو يعتبر من عقود الإذعان تلك العقود التي يعقدها الافراد مع شركات الكهرباء والغاز والمياه والسكك الحديدة ، أو مع مصالح البريد والتليفونات والتلغرافات ، أو مع شركات التأمين " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 68 – ص 69 .
( [196] ) استئناف مختلط في 20 يونية سنة 1928 م 40 ص 437 .
( [197] ) عقد الإيجار للمؤلف فقرة 129 ص 129 هامش رقم 2 .
( [198] ) استئناف مختلط في 29 يناير سنة 1890 م 2 ص 360 – وفي 11 ابريل سنة 1906 م 18 ص 188 .
( [199] ) استئناف مختلط في 7 ديسمبر سنة 1921 م 34 ص 44 – وفي ) مارس سنة 1929 جازيت 20 ص 108 .
( [200] ) استئناف مختلط في 20 ابريل سنة 1927 م 39 ص 405 – محكمة الإسكندرية الجزئية المختلطة في 25 يونية سنة 1921 جازيت 12 ص 35 – محكمة القاهرة التجارية الوطنية في 30 اكتوبر سنة 1948 المحاماة 28 رقم 443 ص 1076 .
( [201] ) استئناف مختلط في 22 يناير سنة 1919 م 31 ص 134 – وفي 19 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 41 .
( [202] ) محكمة مصر الكلية الوطنية في 21 ابريل سنة 1940 المحاماة 21 رقم 126 ص 267 – محكمة الإسكندرية التجارية المختلطة ؟؟؟ 1915 جازيت 6 ص 22 .
( [203] ) استئناف مختلط في 11 يونية سنة 1913 م 25 ص 435 – وفي 10 ينايرة سنة 1924 م 36 ص 140 – وفي 6 مايو سنة 1926 م 38 ص 396 – وفي 7 مايو سنة 1947 م 59 ص 207 .
( [204] ) استئناف مختلط في 12 ابريل سنة 1926 م 40 ص 295 . وتشدد المحاكم في إعمال شرط من شروط الإسقاط في بوليصة التأمين : استئناف مختلط في 6 ديسمبر سنة 1944 م 57 ص 18 – وفي 17 مارس سنة 1948 م 60 ص 86 .
( [205] ) وقد قضت محكمة مصر الابتدائية المختلطة بأن اعتياد شركة التأمين على أن تقصد المؤمن له في محل إقامته لنستوفى الأقساط يلغى الشرط القاضي بأن الدفع يكون في محل الشركة ( 16 يناير سنة 1928 جازيت 20 رقم 93 ص 87 ) .
( [206] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 217 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " إذا تم العقد بطريق الإذعان ، وكان الطرف المذعن بقبوله دون مناقشة ما عرض عليه لم ينتبه إلى بعض الشروط التعسفية التي تضمنها العقد ، جاز للقاضي أن يجعل ذلك محلا للتقدير " . فاقترحت لجنة المراجعة تعديله على الوجه الآتي : " إذا تم العقد بطريق الإذعان ، وكان قد تضمن شروطا تعسفية ، جاز للقاضي أن يعدل هذه الشروط أو أن يعفي الطرف المذعن عن تنفيذها ، وذلك وفقا لما تقضي به العدالة ، ويقع باطلا كل اتفاق على خلال ذلك " . وأصبح رقم المادة 153 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ اقترحت إضافة عبارة في آخر النص هي ما يأتي : " دون إخلال بحق المذعن في التعويض إن كان له محل " ، لأنه لا يكفي في مثل هذه العقود أن يعفي القاضي المذعن من تنفذها ، بل يجب أيضاً تعويضه إن كان للتعويض محل . وبعد أن وافقت اللجنة على هذا الاقتراح رجعت في موافقتها ورفعت هذه الإضافة لأن القواعد تغني عن الحكم الوارد في العبارة المضافة ، واستبدلت كلمة " منها " بعبارة " من تنفيذها " . وأصبح رقم المادة 149 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجنة . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 291 – ص 294 ) .
هذا ويلاحظ مما تقدم أن النص الذي كان وارداً في المشروع التمهيدي اضعف من نص القانون الجديد في ناحيتين : الأولى أنه يشترط في الشروط التعسفية أن يكون الطرف المذعن لم يتنبه إليها ، والثانية أن الجزاء على شرط تعسفي لم يتنبه له الطرف المذعن جاء منطوياً على شيء من الغموض ، فلم يصرح النص بأن للقاضي أن يعدل الشرط أو يلغيه ، بل اقتصر على القول بأنه يجوز للقاضي أن يجعله محلا للتقدير . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " في هذا النطاق الضيق يطبق هذا الاستثناء ، فلا يبلغ الأمر حد استبعاد الشرط الجائر بدعوى أن المذعن قد أكره على قبوله متى تنبه إليه هذا العاقد وارتضاه . فالإذعان لا يختلط بالإكراه ، بل إن التوحيد بينهما أمر ينبو به ما ينبغي للتعامل من أسباب الاستقرار . ثم إن ما يولى من حماية إلى العاقد المذعن ينبغي أن يكون محلا لأحكام تشريعية عامة – كما هو الشأن في حالة الاستغلال – أو لتشريعات خاصة " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 292 ) . ولا شك أن النص الذي خرج به القانون الجديد أصلح في معالجة استغلال الطرف المذعن من نص المشروع التمهيدي . وقد زاده مجلس الشيوخ تأكيداً ، فقد كانت العبارة الواردة فيه : " أو أن يعفى الطرف المذعن منها " قد وردت على النحو الآتي : " أو أن يعفى الطرف المذعن من ؟؟؟ " ، فرؤى أن الإعفاء يكون من الشرط التعسفي ذاته لا من تنفيذه فحسب .
( [207] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 216 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " يفسر الشرك في مصلحة المدين " ، وفي الفقرة الثانية من المادة 217 على الوجه الآتي : " لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان ضاراً بمصلحة الطرف المذعن " . فضمت الفقرتان في مادة واحدة في لجنة المراجعة ، وأصبح رقمها 155 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب عليهادون تعديل . ثم وافقت عليها لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ومجلس الشيوخ دون تعديل تحت رقم 151 ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 299 – ص 301 ) .
( [208] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 300 – هذا وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة في ظل القانون القديم أن عقد التأمين يفسر لمصلحة المؤمن له ( 28 مايو سنة 1941 م 93 ص 205 ) .
( [209] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 67 – ص 68 في الهامش . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لهذين النصين في المشروع التمهيدي ما يأتي : " لا يطرأ على القبول في عقود الجماعة مجرد عرض يغير من أوصافه ، بل يجاوز أمره ذلك فيصبح القبول معدوماً على وجه الإطلاق . والحق أن هذه العقود وهي من ابرز مظاهر النشاط الاقتصادي الحديث لا تنطوي على حقيقة التعاقد . وأظهر ما يكون هذا المعنى بالنسبة للأقلية التي ترتبط بقبول الأغلبية دون أن ترتضي ذلك . وقد بلغ من أمر الثغرة التي أصابت مبدأ سلطان الإرادة من جراء هذا الوضع أن أصبح اصطلاح " الارتباطات النظامية " أغلب على الالسنة في هذا المقام من اصطلاح " عقود الجماعة " . وقديما وعت قوانين التجارة في نظام الصلح في الافلاس صورة من صور هذه العقود . بيد أن صورة أخرى أعظم أهمية وابلغ أثراً قد أخذت بظهور عقد العمل الجماعي مكانها في الحياة الاقتصادية الحديثة تحت ضغط حركات العمال والنقابات . فقد يتفق أرباب العمل والعمال على قواعد خاصة بشروط العمل ، وبهذا يتكون عقد جماعة يرتبط به أولئك وهؤلاء جميعاً سواء فيهم من قبل أو من لم يقبل . ويترتب على ذلك بطلان كل حكم في عقود العمل الفردية يتعارض مع نصوص هذا العقد . ويجب التفريق بين عقود الجماعة والعقود النموذجية ، فللأخيرة حقيقة التعاقد . وإحالة الطرفين إلى النموذج التي تولت وضعه أو إقراره السلطات العامة أو الهيئات النظامية ( كالنقابات مثلا ) تفترض قبولهما للشروط الواردة فيه " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 68 في الهامش ) .
( [210] ) والتعاقد فيما بين الغائبين ممكن في أكثر العقود . ولا تستثني إلا عقود خاصة تستلزم بعض القوانين فيها حضور المتعاقدين بنفسيهما في مجلس واحد وقت التعاقد ، فلا يجوز فيها حتى التعاقد بطريق النيابة ، كما يقضي القانون الفرنسي بذلك في الزواج ( acte de marriage ) وفي عقد الزوجية المالي ( Contrat de marriage ) وفي عقد التبني ( adoption ) .
( [211] ) ولو قبل شخص إيجاباً صدر من أصم وهما في مجلس واحد ، فلم يسمع الموجب القبول ، فكتبه له الطرف الآخر ، فإن معرفة الوقت الذي تم فيه العقد ، هل هو وقت صدور القبول أو وقت كتابة القبول للموجب وتمكن هذا من قراءته ، تتبع فيه قواعد التعاقد ما بين غائبين ( أنظر في هذا الفرض إيموس وأرمانجون : اسئلة في القانونين المدني والتجاري المصريين سنة 1904 ص 39 رقم 57 ) .
( [212] ) ولا يعتبر تعاقداً بين غائبين تبادل مكاتبات تسجل اتفاقاً ثم بين حاضرين شفوياً قبل هذا التبادل ، فإن هذه المكاتبات ليست إلا وسيلة لإثبات عقد سبق إبرامه بين الطرفين وهما حاضران معاً مجلس العقد ( استئناف مختلط في 11 ابريل سنة 1934 م 46 ص 240 ) . كذلك لا يعتبر تعاقداً بين غائبين إبرام عقد بين أحد الطرفين ووكيل الآخر إذا كان كل منهما حاضرا مجلس العقد ، فحضور الوكيل مجلس العقد يغني عن حضور الأصيل ( استئناف مختلط في 23 ديسمبر سنة 1936 م 49 ص 43 ) .
( [213] ) وقد اشتمل المشروع التمهيدي على نص في هذا الموضوع ، فنصت المادة 140 من هذا المشروع على أنه " يعتبر التعاقد بالتلفون أو بأية طريقة مماثلة كأنه تم بين حاضرين فيما يتعلق بالزمان ، وبين غائبين فيما يتعلق بالمكان " . ولكن لجنة المراجعة قررت حذف هذا النص لوضوح حكمه . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : " لا يثير التعاقد بالتلفون ، أو بأية وسيلة مماثلة ، صعوبة إلا فيما يتعلق بتعيين مكان انعقاد العقد . فشأنه من هذه الناحية شأن التعاقد بين الغائبين الذين تفرقهم شقة المكان . ولذلك تسري عليه أحكام المادة السابقة الخاصة بتعيين مكان التعاقد بين الغائبين ، ويعتبر التعاقد بالتلفون قد تم في مكان الموجب إذ فيه يحصل العلم بالقبول ، ما لم يتفق على خلاف ذلك . أما فيما يتعلق بزمان انعقاد العقد ، فالتعاقد بالتلفون لا يفترق عن التعاقد بين الحاضرين ، لأن الفارق الزمني نبي إعلان القبول وبين علم الموجب به معدوم أو هو في حكم المعدوم . فليس للتفرقة بين وقت إعلان القبول ووقت العلم به أية أهمية عملية ، لأنهما شيء واحد . وتفريعاً على ذلك يعتبر التعاقد بالتلفون تاماً في الوقت الذي يعلن فيه من وجه إليه الإيجاب قبوله ، وهذا الوقت بذاته هو الذي يعلم فيه الموجب بالقبول . ويترتب على إعطاء التعاقد بالتلفون حكم التعاقد ما بين الحاضرين فيما يتعلق بزمان انعقاد العقد أو الإيجاب إذا وجه دون تحديد ميعاد لقبوله ، ولم يصدر القبول فور الوقت ، تحلل الموجب من إيجابه . وهذه هي القاعدة المقررة في الفقرة الأولى من المادة 131 من المشروع بشان الإيجاب الصادر من شخص إلى آخر بطريق التلفون أو بأي طريق مماثل " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 52 – ص 53 في الهامش ) .
( [214] ) وهناك أمر آخر يقع في التعاقد بالمراسلة ، هو أن تبلغ أحد المتعاقدين إرادة الآخر على غير حقيقته . فكثيرا ما يقع في المراسلات البرقية خطأ في تقل ما يريد المرسل تبيعه للمرسل إليه ، فيعتمد هذا على ما بلغه خطأ . مثل ذلك أن يظن المشتري أن البائع يعرض عليه البيع بثمن هو دون الثمن الذي يرضى به ، ويكون هذا نتيجة لوقوع خطأ في البرقية التي ارسلها البائع للمشتري . فإذا قبل المشتري التعاقد ، فهل يتم العقد ظ العقد لا يتم إذا اخذنا بالإرادة الباطنة ، وهذا ما يذهب إليه القضاء في مصر ( محكمة الاستئناف الوطنية في 21 اكتوبر سنة 1913 الشرائع 1 ص 288 – محكمة الاستئناف المختلطة في 2 ديسمبر سنة 1903 م 16 ص 15 – وفي 11 يناير سنة 1905 م 17 ص 72 – وفي 29 ديمسبر سنة 1910 م 33 ص 97 – وفي 12 مايو سنة 1926 م 38 ص 401 ) . ويتم العقد إذا أخذنا بالإرادة الظاهرة ، ولكن يرجع المتعاقد الذي أصابه ضرر بالتعويض على المسئول عن الخطأ الذي وقع . وسنعود إلى هذه المسألة عند الكلام في الغلط الذي يقع في نقل الإرادة ( أنظر المادة 172 من المشروع التمهيدي وسيأتي ذكرها ) .
( [215] ) وقد قيل إن الوقوف عند وقت صدور القبول في التعاقد ما بين الغائبين يلقى الموجب في حيرة فهو لا يعلم متى تم العقد . ولكن هذا القول مردود با ، الوقوف عند وقت العلم بالقبول هو أيضاً من شأنه أن يوقع القابل في حيرة إذ هو لا يدري متى وصل القبول إلى علم الموجب فلا يعلم متى تم العقد . ونرى من ذلك أن يختار وقت صدور القبول من شأنها ألا يطمئن الموجب ، واختيار وقت العلم بالقبول من شأنه ألا يطمئن القابل . فلا ميزة لقول على آخر من حيث اطمئنان المتعاقدين .
( [216] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للقانون السوري الجديد في هذا الصدد ما يأتي : " واشتمل القسم الأول من المشروع على الالتزامات ، فبين في الباب الأول من الكتاب الأول قواعدها بوجه عام وعدد مصادرها وفصل أحكام العقد وأركانه وآثاره وانحلاله ، وهي قواعد أخذت بجملتها من القانون المصري ، فيما عدا العقود بالمرسالة ، فقد أخذت من قانون الموجبات والعقود اللبناني ، فأصبح العقد بالمراسلة يتم بمجرد إعلان القبول وفي مكان الإعلان ، وذلك لكثرة المعاملات الجارية بين سورية ولبنان بحيث تقضي المصلحة بتوحيد النصوص التشريعية في هذا الموضوع بين البلدين لئلا يقع تنازع بين قانونيهما يؤدي إلى الإضرار بحقوق ذوى العلاقة " ( المذكرة الإيضاحية للقانون المدني السوري ص 11 ) .
( [217] ) محكمة النقض الفرنسية في 16 يونية سنة 1913 داللوز 1914 – 1 – 229 - و في 29 يناير سنة 1913 داللوز 1923 – 1 – 176 . وهذان الحكمان يتعلقان بزمان العقد . وهناك حكمان آخران يتعلقان بمكان العقد : 6 أغسطس سنة 1867 داللوز 68 – 1 – 35 – وفي أول ديسمبر سنة 1875 داللوز 77 – 1 450 .
( [218] ) وقد قضت محكمة الاستئناف الوطنية بأن العقد لا يتم ، خصوصاً في المواد المدنية ، طالما أن قبول الشخص الذي عرض عليه الإيجاب لم يصل لعلم العارض ( 26 مارس سنة 1912 المجموعة الرسمية 13 ص 183 ) . وانظر أيضاً في هذا المعنى محكمة استئناف مصر في أول فبراير سنة 1950 المحاماة 30 رقم 461 ص 1030 . ولكن هناك حكما قضى بأن التعاقد بالمراسلة يعتبر حاصلا من وقت وضع كتاب القبول في صندوق البريد ( دمياط الجزئية في 21 ابريل سنة 1915 الشرائع 2 ص 251 ) ، فهو قد اخذ بمذهب تصدير القبول .
( [219] ) فهناك أحكام قضت بأن العقد لا يتم إلا إذا علم الموجب بالقبول ، وقبل هذا العلم يجوز للموجب أن يرجع في غيجابه كما يجوز لمن صدر منه القبول أن يعدل عن قبوله ( محكمة الاستئناف المختلطة في 30 يناير سنة 1896 م 8 ص 101 – وفي ) فبراير سنة 1922 م 34 ص 157 – وفي 4 ابريل سنة 1933 م 45 ص 226 – محكمة الإسكندرية الجزئية المختلطة في 21 فبراير سنة 1922 جازيت 12 ص 35 – محكمة الإسكندرية التجارية المختلطة في 19 فبراير سنة 1923 جازيت 14 ص 34 – وفي 3 مارس سنة 1924 جازيت 15 ص 26 – وفي 3 يونية سنة 1944 م 56 ص 180 ) . وهناك أحكام أخرى قضت بأن العقد يتم بإعلان القبول ( محكمة الاستئناف المختلطة في 2 ديسمبر سنة 1915 م 28 ص 43 – وفي 13 يناير سنة 1926 م 38 ص 179 – وفي 9 فبراير سنة 1927 م 39 ص 227 – محكمة الإسكندرية الجزئية المختلطة في 5 مارس سنة 1928 جازيت 19 ص 256 – وفي 28 سبتمبر سنة 1941 المحاماة 22 رقم 59 ص 150 ) . وهناك طائفة ثالثة من الأحكام تأخذ بمذهب تصدير القبول ( استئناف مختلط في 6 مايو سنة 1925 م 37 ص 401 – وفي 24 فبراير 1943 م 55 ص 64 – وفي 5 ابريل سنة 1949 م 61 ص 91 ) .
( [220] ) من ذلك ما جاء بنظرية العقد للمؤلف : " يشعر المستعرض لحلول المتقدمة بشيء من الحيرة إذا أراد أن يختار منها حلا يرتضيه ، وذلك لتعدد هذه الحلول وذهاب كل منها إلى وجهة من النظر تختلف عن الأخرى ، وانقسام الفقه والقضاء في مصر وفي فرنسا ، وتباين التشريعات الحديثة والقوانين المختلفة في هذا الموضوع . ولكن المتأمل في المسألة لا يسعه إلا أن يماشي محكمة النقض الفرنسية في رأيها من أن الأمر يرجع قبل كل شيء إلى نية المتعاقدين . بل هو يرجع في الواقع إلى إرادة الموجب ، فهو الذي أنشأ العقد ابتداء بإيجابه ورسم حدوده ، وليس القبول إلا موافقة تامة للإيجاب . فالموجب إذن هو الذي يبين متى يريد أن يتم العقد وان يتم . أما لتاشريعات التي وردت فيها نصوص تتعرض للمسالة ، فلا نظنها موفقة في ذلك . والنص التشريعي الصالح في نظرنا هو الذي يقضي باتباع إرادة الموجب ، فإذا غمضت هذه الإرادة ولم يمكن الاهتداء إليها بوضوح فهنا نلجأ إلى الافتراض . وآمن فرض في تفسير إرادة الموجب أن يفرض ما هو في صالحه ، والأصلح ألا يتم العقد إلا عند علمه بالقبول . فنحن نأخذ إذن بنظرية العلم بالقبول . ولكن لا نأخذ بها اعتباطاً ، ولا للأسباب التي تذكر عادة في تأييدها ، بل نأخذ بها لأنها تتفرع عن المبدأ الأساسي الذي قررناه من أن العبرة بإرادة الموجب ، فإذا لم تتبين له إرادة فرضنا ما هو في مصلحته . فإذا كان لنا أن نقترح إدخال تعديل في التشريع المصري في هذا الصدد ، فنحن نرى أن يضاف إلى القانون المصري نص في هذا المعنى يقضي بأنه لمعرفة الوقت والمكان اللذين يتم فيهما لاعقد بالمراسلة يرجع إلى نية المتعاقدين ، وهذه تحددها إرادة الموجب . فإذا لم يمكن الاهتداء إلى معرفة هذه الإرادة فيفرض أن الموجب قد أراد أن يتم العقد عند علمه بالقبول . مثل هذا النص يضع قرينة قانونية تفسر بمقتضاها إرادة الموجب الغامذة . ولا بأس من إضافة قرينة قانونية أخرى يفرض بمقتضاها أن الموجب قد علم بالقبول بمجرد استلامه له ، وإن كان له أن يثبت عكس ذلك . فخلاصة الرأي الذي نذهب إليه هو الأخذ بإرادة الموجب الصريحة أو الضمنية ، وإلا فإرادة الموجب المفروضة ، وهذه الإرادة المفروضة هي التي تتفق مع نظرية العلم بالقبول ، على أن يكون استلام القبول قرينة قابلة لإثبات العكس على حصول العلم " ( نظرية العقد للمؤلف فقرة 304 – فقرة 305 ) .
أنظر أيضاً في الفقه المصري الذي أخذ بمذهب العلم بالقبول الدكتور حلمي بهجت بدوي ص 111 – ص 112 والدكتور احمد حشمت أبو ستيت ص 89 .
( [221] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 139 من المشروع التمهيدي على الوجه الوارد في القانون الجديد مع اختلاف لفظي طفيف . ووافقت عليه لجنة المراجعة بتعديل لفظي ، وأصبح رقم المادة 99 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب زووافقت عليه لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ومجلس الشيوخ تحت رقم 97 ومع إدخال تعديلات لفظية طفيفة . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 52 – ص 55 ) . وانظر أيضاً المادة 2 فقرة أولى من المشروع الفرنسي الإيطالي .
( [222] ) وقد ورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " تتضمن التشريعات المختلفة أحكاماً جد متباينة بشأن تعيين زمان التعاقد بالمراسلة ومكانه . وقد اختار المشروع مذهب العلم بالقبول ، ولم يجعل من الرد بالقبول ( المراد هو وصول القبول ) سوى لاينة بسيطة ( المراد قرينة قابلة لإثبات العكس ) على حصول العلم به . وبديهي أن هذا الحكم قر يسري حيث تنصرف نية المتعاقدين إلى مخالفته صراحة أو ضمنا ، أو حيث يقضي القانون بالعدول عنه إلى حكم آخر ، كما هي الحال بالنسبة للسكوت أو التنفيذ الاختياري ( وكان المشروع التمهيدي يشتمل على نص في التنفيذ الاختياري كما قدمنا ) اللذين ينزلهما القانون منزلة القبول . ولعل مذهب العلم هو أقرب المذاهب إلى رعاية مصلحة الموجب . ذلك أن الموجب هو الذي يبتدئ التعاقد ، فهو الذي يحدد مضمونه ويعين شروطه . فمن الطبيعي والحال هذه أن يتولى تحديد زمان العقد ومكانه . ومن العدل ، إذا لم يفعل ، أن تكون الإرادة المفروضة مطابقة لمصلحته عند عدم الاتفاق على ما يخالف ذلك . وبعد ، فمذهب العلم هو الذي يستقيم دون غيره مع المبدأ القاضي بأن التعبير عن الإرادة لا ينتج أثره إلا إذا وصل إلى من وجه إليه على نحو يتوفر معه امكان العلم بمضمونه – أنظر الفقرة الأولى من المادة 125 من المشروع – ومؤدى ذلك أن القبول بوصفه تعبيراً عن الإرادة لا يصبح نهائياً إلا في الوقت الذي يستطيع فيه الموجب أن يعلم به ، ولا يعتبر التعاقد تاماً إلا في هذا الوقت . ولم يستقر القضاء المصري على رأي معين في هذا الصدد . فقد اختارت محكمة الاستئناف الأهلية مذهب العلم ، وبوجه خاص في المسائل المدنية ( 26 مارس سنة 1912 المجموعة الرسمية 13 ص 183 ) . أما محكمة الاستئناف المختلطة فقضاؤها موزع بين مذهب العلم ( 30 يناير سنة 1896 م 8 ص 101 – ) فبراير سنة 1922 م 34 ص 157 – 4 أبريل سنة 1933 م 45 ص 226 ) . وبين مذهب الإعلان ( 13 يناير سنة 1926 م 38 ص 179 – ) فبراير سنة 1927 م 39 ص 227 ) . وليس ثمة شك في أن هذا المذهب الأخير هو أنسب المذاهي في المسائل التجارية . على أن مذهب الاصدار ( التصدير ) قد رددت صداه بعض أحكام القضاء المختلطة والقضاء الأهلي ( استئناف مختلط في 6 مايو سنة 1925 م 37 ص 401 – دمياط 21 ابريل سنة 1915 الشرائع 2 ص 251 ) . ولم تتح لمحكمة النقض حتى اليوم فرصة للفصل في هذه المسألة . وغنى عن البيان أن النص الذي اختاره المشروع يقضي على هذا الخلاف بأسره " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 53 – ص 54 ) .
( [223] ) ويقع كثيراً في بعض هذه الصور أن المتعاقدين يقصدان أن يكون العقد المبرم عقداً نهائياً ، ويسميانه مع ذلك عقداً ابتدائياً . والعبرة في ذلك بنية المتعاقدين ( أنظر المشروع في لجنة المراجعة : مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 77 ) .
( [224] ) تاريخ النص : وردت المادة 101 بفقرتيها في المشروع التمهيدي ( م 150 ) على الوجه الآتي : " الاتفاق الذي يعد بموجبه المتعاقدان أو أحدهما بإبرام عقد معين في المستقبل لا يكون صحيحاً إلا إذا حددت المسائل الأساسية للعقد المراد إبرامه والمدة التي يجب أن يتم فهيا العقد . 2 - إذا اشترط القانون لصحة العقد استيفاء شكل معين ، فهذا الشكل تجب مراعاته أيضاً في الاتفاق الابتدائي الذي يتضمن وعداً بإبرام هذا العقد " . ولما عوض النص على لجنة المراجعة عدلته على الوجه الآتي : " 1 - الاتفاق الابتدائي الذي يعد بموجبه كلا المتعاقدين أو احدهما بإبرام عقد معين في المستقبل لا ينعقد إلا إذا عينت جميع المسائل الجوهرية للعقد المراد إبرامه والمدة التي يجب إبرامه فيها . 2 – وإذا اشترط القانون لتمام العقد استيفاء شكل معين فهذا الشكل تجب مراعاته أيضاً في الاتفاق الذي يتضمن الوعد بإبرام هذا العقد " . وأصبح رقم المادة 103 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على النص دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ استفهم عما هو مقصود بالشكل المعين ، فأجيب أن المقصود بالشكل هي الرسمية في عرف الفقه والقضاء ، فمثلا عقد الهبة لا يتم إلا إذا كتب في ورقة رسمية طبقا للأوضاع المقررة ، فالوعد بالهبة لا يتم هو أيضاً إلا إذا كتب في ورقة رسمية ، وهذا هو مدلول الفقرة الثانية من المادة 013 . ( ملاحظة من المؤلف : الشكلية أوسع من الرسمية ، فعقد الشركة في القانون الجديد يجب أن يكون مكتوباً ( م 507 ) وليس من الضروري أن يكون مكتوباً في ورقة رسمية ، فهو عقد شكلي دون أن يكون عقداً رسمياً ، ويترتب علىذ لك أن الوعد بالشركة يجب أن يكون مكتوباً كعقد الشركة ذاته ) . واعترض أمام لجنة القانون المدني على كلمته " ابتدائي " الواردة في النص ، إذ هي قد تحدث لبسا ، لأن العمل قد جرى على اعتبار العقود الابتدائية عقوداً نهائية ، فوافقت اللجنة على حذف هذه الكلمة دفعاً للبس . ثم وافقت اللجنة ووافق مجلس الشيوخ على النص تحت رقم 101 ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 72 – ص 76 ) . وانظر المادة 2 من قانون الالتزامات السويسري والمادة 62 من قانون الالتزامات البولوني .
( [225] ) وقد قضت محكمة النقض بأن الثمن ركن من أركان البيع التي يجب التثبت من توافرها قبل الحكم بانعقاده ، وما يجريه قاضي الموضوع من هذا التثبت – في دعوى صحة التعاقد – يجب عليه أن يورده في أسباب حكمه ليقوم هذا الايراد شاهداً على أنه لم يغفل أمر هذا الركن من أركان العقد المتنازع فيه ، وليمكن به محكمة النقض من أن تأخذ بحقها في الاشراف على مراعاة أحكام القانون ، فإذا كان الحكم الصادر بثبوت حصول البيع بين طرفيه وبالترخيص بتسجيل الحكم ليقوم مقام العقد في نقل الملكية مجهلا فيه ركن الثمن المقول بأن البيع تم على أساسه ، فإنه يكون مشوباً بقصور أسبابه ، متعيناً نقضه ( نقض مدني في 28 فبراير سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 42 ص 113 ) .
( [226] ) أنظر هامش فقرة 134 في تاريخ هذا النص .
( [227] ) ويلاحظ أن العقد إذا كان رضائياً ، فإن الوعد بهذا العقد يكون رضائياً مثله ، حتى لو اشترط المتعاقدان عند الوعد بالتعاقد أن يكون العقد النهائي مكتوباً في ورقة رسمية . ذلك أن الرسمية المطلوبة في العقد النهائي قد اشترطها المتعاقدان ولم يشترطها القانون ، فالعقد الموعود به هو في أصله عقد رضائي لا عقد شكلي .
( [228] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " يتناول النص حكم الوعد بالتعاقد سواء فيما يتعلق بالعقود الملزمة للجانبين والعقود المزمة لجانب واحد . ويشترط لصحة مثل هذا الاتفاق التمهيدي تحديد المسائل الأساسية في التعاقد والمدة التي يتم فهيا . أما فيما يتعلق بالشكل فلا يشترط وضع خاص – على نقيض التقنين البولوني فهو يشترط الكتابة إطلاقا في المادة 62 فقرة 2 – إلا إذا كان القانون يعلق صحة العقد المقصود إبرامه على وجوب استيفاء شكل معين ، ففي هذه الحالة ينسحب الحكم الخاص باشتراط الشكل على الاتفاق التمهيدي نفسه . ويوجه هذا النظر أن إغفال هذا الاحتياط يعين على الافلات من قيود الشكل الذي يفرضه القانون ، مادام أن الوعد قد يؤدي إلى اتمام التعاقد المراد عقده فيما إذا حكم القضاء بذلك . ويكفي لبلوغ هذه الغاية أن يعدل المتعاقدان عن إبرام العقد الذي يرغب في الافلات من القيود الخاصة بشكله ، ويعمدا إلى عقد اتفاق تمهيدي أو وعد باتمام هذا العقد لا يستوفي فيه الشكل المفروض ، ثم يتصدرا حكما يقرر إتمام التعاقد بينهما ، وبذلك يتاح لهما أن يصلا من طريق غير مباشر إلى عدم مراعاة القيود المتقدم ذكرها . ومع ذلك فالوعد بإبرام عقد رسمي لا يكون خلواً من أي اثر قانوني إذا لم يستوف ركن الرسمية . فإذا صح أن مثل هذا الوعد لا يؤدي إلى اتمام التعاقد المقصود فعلا ، فهو بذاته تعاقد كامل يرتب التزامات شخصية ، طبقا لمبدأ سلطان الإرادة . وهو بهذه المثابة قد ينتهي عند المطالبة بالتنفيذ إلى اتمام عقد الرهن أو على الأقل إلى قيام دعوى بالتعويض ، بل والى سقوط اجل القرض الذي يراد ترتيب الرهن لضمان الوفاء به " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 73 – ص 75 ) .
وهذا وينتفق الدكتور أبو عافية في رسالته ( التصرف القانوني المجرد نسخة فرنسية ص 60 وما بعدها ) القانون الجديد في أنه جعل الوعد بالعقد الشكلي – إذا لم يفرغ في الشكل المطلوب – باطلا . وهو يرى وجوب التمييز في هذا الصدد بين ما إذا كان الشكل قد فرضه القانون لمصلحة العاقدين فيكون الوعد في هذه الحالة باطلا ، أو فرض لمصلحة الغير حماية لهم من الغش وإبرازاً لإرادة المتعاقدين فيكون الوعد في هذه الحالة صحيحاً ( أنظر في هذا المعنى قانون الالتزامات السويسري م 22 فقرة 2 ) . ويستند في ذلك إلى أن القانون هو الذي فرض الشكل وهو الذي يعين جزاءه ، فينبغي أن يكون هذا الجزاء مرناً يتلاءم مع الظروف في كل حالة ما دام الشكل أمراً خارجاً عن الإرادة ولا يغني عنها .
ونحن نسلم مع الدكتور أبو عافية بأن الشكل في القانون الحديث وظيفته خارجية لا داخلية ، وانه لا يغني عن وجود الإرادة . وعلى هذا الأساس يكون الشكل من صنع القانون ، وهو الذي يعين له الجزاء الكافي في حالة الاخلال به . فقد يجعل العقد الذي لم يستوف الشكل المطلوب باطلا لا ترد عليه الإجازة ، وقد يسمح ؟؟ كما في الهبة الباطلة شكلا ( م 489 جديد ) ، وقد يجعل الشكل من المرونة بحيث يقبل أن يستكمل ، وان يحتج به في فرض دون فرض كما في شركات التضامن والتوصية . بل إن هذا هو أيضاً شأن الشكل ذي الوظيفة الداخلية – كما كان الأمر في القانون الروماني – إذ القانون استقل هنا كذلك بصنع الشكل ، وأمعن في ذلك إلى حد أن استغنى به عن الإرادة .
فإذا رأى المشرع أن يجعل الوعد بالعقد الشكلي شكلياً مثله ، وأن يرتب على الإخلال بهذا الشكل بطلان الوعد – دون تفرقة بين ما إذا كان الشكل لمصلحة المتعاقدين أو لمصلحة الغير وهي تفرقة تدق في كثير من الأحيان – فله ذلك . وهو لا يخل في هذا بسلطان الإرادة ما دام قد ميز الوعد بالعقد وارتفع به عن محض اتفاق ملزم إلى جعله سبيلا للوصول إلى العقد الكامل عن طريق حكم قضائي . إذ لا يجوز في طبيعة الأشياء أن الوعد بعقد شكلي يؤدي مباشرة إلى هذا العقد الشكلى ما لم يكن الوعد ذاته مفرغاً في الشكل المطلوب ، وإلا جاز دائماً التحايل على الشكل .
ولكن لا يجوز للمشرع ، من ناحية مبدأ سلطان الإرادة ، أن ينكر على أي وعد قوته الملزمة حتى لو لم يفرغ في الشكل المطلوب ، لا باعتبار أنه وعد بعقد معين ، بل على أساس أنه اتفاق غير مسمى ، وهو ملزم على كل حال . وإنما يجب على المشرع أن ينكر على هذا الاتفاق أن يؤدي مباشرة إلى العقد الشكلي الكامل ما لم يكن مفرغاً في الشكل المطلوب . وهذا هو ما قررته المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ، وهو ما انتقده الدكتور أبو عافية في رسالته دون نظر إلى الاعتبارات التي قدمناها .
( [229] ) ويشترط طبعاً ألا يقع أي تعديل فيما التزم به الواعد وقت الوعد ( أنظر في هذا المعنى ديموج 2 فقرة 521 – بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 145 ) .
( [230] ) وكهلاك الشيء نزع ملكيته ، يتحمل الواعد تبعته ، ولكن لا يكون مسئولا عن الضمان . وقد قضت محكمة النقض بأنه لا يجوز بحال أن يحسب على الوعد نزع ملكية بعض العين للمنفعة العامة ، لأن نزع ملكية المبيع يجري عليه حكم هلاكه ، وهذا يكون حتما على المالك ، وبحكم اللزوم العقلي لا يضمن عنه الواعد بالبيع ( نقض مدني في 13 يناير سنة 1938 مجموعة عمر 2 رقم 84 ص 240 ) .
( [231] ) وإذا اختلف العقد النهائي عن الاتفاق الابتدائي فالعبرة بالعقد النهائي فهو الذي تم عليه الاتفاق نهائياً . وقد قضت محكمة النقض ، تطبيقاً لهذه القاعدة ، بأنه إذا كان الحكمف يما حصله من وقائع الدعوى لتحديد التزامات كل من طرفي التعاقد توطئه لمعرفة المقصر منهما قد رجع إلى عقد البيع الابتدائي دون العق النهائي الذي اختلفت شروطه عن العقد الابتدائي وبه استقرت العلاقة بين الطرفين ، فإنه يكون قد خالف القانون بعدم أخذه بهذه العقد الذي يكون هو قانون المتعاقدين ( نقض مدني في 23 مارس سنة 1944 مجموعة عمر 4 رقم 114 ص 302 ) .
( [232] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا اتفق الطرفان على أن لأحدهما الخيار في مدة معينة في أن يشتري العين ، فإن صاحب الخيار لا يتحلل من التضمينات إلا عند عدم قبول التعاقد في الفترة المحددة للاختيار . أما إذا قبل التعاقد فإنه يصبح مسئولا عن تنفيذه وملزماً بالتضمينات في حالة عدم التنفيذ ( نقض مدني في 14 مايو سنة 1952 مجموعة عمر 3 رقم 154 ص 430 ) .
( [233] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 151 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " إذا وعد شخص بإبرام عقد وامتنع عن تنفيذ وعده ، جاز للمحكم أن تحدد له أجلاً للتنفيذ إن طلب المتعاقد الآخر ذلك ، وكانت الشروط اللازمة لصحة العقد ، وبخاصة ما يتعلق منها بالشكل ، متوافرة . فإذا لم يتم إبرام العقد في الأجل المحدد ، يقوم الحكم ، متى حاز قوة الشيء المحكوم فيه ، مقام العقد " . ولما تلى النص في لجنة المراجعة لوحظ أن هذه المادة لا تعرض للحالة التي يوجد فيها عقد يسمى خطأ بالعقد الابتدائي وهو في الواقع عقد نهائي ، لأن هذه الحالة منصوص عليها في المادة 287 من المشروع التمهيدي ( تقابل المادة 210 من القانون الجديد ) ، وإنما يعرض النص لحالة ما إذا وجد عقد ابتدائي بالمعنى الصحيح يتلوه عقد نهائي ، لاسيما إذا كان العقد من العقود الشكلية كالرهن الرسمي ، فمتى وجد وعد برهن رسمي مثلا ، وكان هذا الوعد قد استوفى الشروط الشكلية ، جاز إذا لم ينفذ الواعد وعده أن يجبر على ذلك ، ويقوم الحكم مقام العقد النهائي . وهذا الحكم ليس مقطوعاً به في القانون الحالي فوجب النص حتى يزول كل شك . فأثير اعتراض على تحديد أجل التنفيذ ، واستقر الرأي بعد المناقشة على حذف هذا الشرط ، وأصبحت المادة في نصها النهائي كما يأتي : " إذا وعد شخص بإبرام عقد ثم نكل ، وقاضاه المتعاقد الآخر طالباً تنفيذ الوعد ، وكانت الشروط اللازمة لصحة العقد وبخاصة ما يتعلق منها بالشكل متوافرة ، قام المحكم ، متى حاز قوة الشيء المقضي به ، مقام العقد " . وأصبح رقم المادة 104 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ استبدلت عبارة " لتمام العقد " بعبارة " لصحة العقد ، وأصبح رقم المادة 102 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 77 – ص 79 ) – أنظر أيضاً المادة 62 الفقرة الثالثة من القانون البولوني .
( [234] ) أنظر مثلا المادة 1599 من القانون الفرنسي والمادة 1217 من القانون الإيطالي القديم . ومع ذلك أنظر المادة 170 من المشروع الفرنسي الإيطالي .
( [235] ) أنظر المادة 336 من القانون الألماني والمادة 158 من قانون الالتزامات السويسري والمادة 74 من القانون البولوني .
( [236] ) قضت محكمة الاستئناف المختلطة بان اشتراط العربو لا يدل على جواز العدول بل على إثبات حق الفسخ مع تحديد التعويض الواجب عند التخلف عن الوفاء ( 27 مارس سنة 1902 م 14 ص 242 – 17 ابريل سنة 1902 م 14 ص 254 ) ، على أن المشتري الذي يفقد العربون بسبب التخلف عن تنفيذ العقد لا يحق له إقامة الدليل على أن البائع لم يصبه ضرر من جراء ذلك على نقيض ما يجري بشأن الشرط الجزائي ( 16 نوفمبر سنة 1915 م 28 ص 22 – أول فبراير سنة 1922 م 34 ص 142 ) ، وقضت كذلك بأن العربون قد يدل على الثبات ( 3 ديسمبر سنة 1935 م 48 ص 45 ) .
وفى دعاوى أخرى قضت المحاكم المصرية بأن العربون في حالة الشك يدل على جواز العدول ( محكمة استئناف مصر الوطنية في 31 أكتوبر سنة 1939 المحاماة 21 رقم 26 ص 35 – القضاء المستعجل في 28 مارس سنة 1940 المحاماة 21 رقم 62 ص 111 – محكمة الاستئناف المختلطة في 31 مارس سنة 1948 م 60 ص 64 ) .
وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه إذا كان العربون دليل العدول لوقت معين ، فلا يجوز العدول عبد انقضاء هذا الوقت . أما إذا لم يعين وقت لجواز العدول فيجوز العدول إلى وقت التنفيذ . وبأنه لا تجوز اساءة استعمال الحق في العدول ، فالبائع الذي أظهر نيته في أن يمضي في العقد دون استعمال حقه في العدول وأخذ يقوم بالاجراءات اللازمة لاتمام العقد حتى اوشك على إنمائها ثم عدل بعد ذلك فجأة لا يقتصر على خسارة العربون بل يجب أيضاً أن يدفع تعويضا لإساءته استعمال حقه في العدول ( 5 ابريل سنة 1938 م 50 ص 215 ) .
( [237] ) وقد قضت محكمة النقض بان العربون هو ما يقدمه أحد العاقدين إلى الآخر عند إنشاء العقد ، وقد يريد المتعاقدان بالاتفاق عليه أن يجعلا عقدهما مبرما بينهما على وجه نهائي ، وقد يريدان أن يجعلا لكل منهما الحق في امضاء العقد أو نقضه ، ونية العاقدين هي وحدها التي يجب التعويل عليها في إعطاء العربون حكمه القانوني . وعلى ذلك إذا استخلص الحكم من نصوص العقد أن نية عاقديه انعقدت على تمامه ، وأن المبلغ الذي وصف فيه بأنه عربون ما هو في الواقع إلا قيمة التعويض الذي اتفقا على استحقاقه عند الفسخ المسبب عن تقصير أحد المتعاقدين في الوفاء بما التزم به ، وكان ما استظهرته محكمة الموضوع من نية المتعاقدين على هذا النحو تفسيراً للعقد تحتمله عباراته ، فذلك يدخل في سلطتها التقديرية التي لا تخضع فيها لرقابة محكمة النقض ( نقض مدني في 21 مارس سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 52 ص 132 ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن دلالة العربون ، وقد تكون لتأكيد العقد لا لجواز العدول عنه ، تترك لتفسير نية المتعاقدين ( 25 مايو سنة 1947 م 59 ص 157 ) .
( [238] ) وقد قضت محكمة استئناف مصر بأنه إذا دفع العربون وقت تحرير العقد الابتدائي كان هذا دليلا على جواز العدول ، أما إذا دفع عند تحرير العقد النهائي فلا يجوز العدول ( 21 فبراير سنة 1924 المجموعة الرسمية 26 رقم 39 ) – وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن العربون في العقد الابتدائي دليل على جواز العدول ، وفي العقد النهائي دليل على الثبات : 17 ديسمبر سنة 1919 م 32 ص 74 ( عقد ابتدائي ) – 30 أكتوبر سنة 1916 م 29 ص 22 – 7 فبراير سنة 1917 م 26 ص 204 – 11 ابريل سنة 1917 م 29 ص 352 – 4 نوفمبر سنة 1925 م 38 ص 11 ( عقد نهائي ) – 5 ابريل 1938 م 50 ص 215 ( وهو الحكم التي سبقت الإشارة إليه ) – محكمة الإسكندرية الكلية المختلطة في 15 ابريل سنة 1944 م 56 ص 103 ) .
( [239] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 152 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 - يكون العربون المدفوع وقت إبرام العقد دليلا على أن العقد أصبح باتاً لا على أنه يجوز العدول عنه ، إلا إذا قضى الاتفاق أو العرف بغير ذلك 2 – فإذا امتنع أحد المتعاقدين عن تنفيذ العقد ، فللمتعاقد الآخر أن يختار بين التنفيذ والفسخ . وله في حالة الفسخ أن يحتفظ بالعربون الذي قبضه أو أن يطالب بضعف العربون الذي دفعه ، حتى لو لم يلحق به الفسخ أي ضرر . هذا مع عدم الإخلال بحقه في استكمال التعويض إن اقتضى الأمر ذلك . 3 – ويسري حكم هذه المادة أياً كانت الألفاظ التي عبر بها المتعاقدان علن العربون " . ولما تلى النص في لجنة المراجعة أقرته اللجنة في المشروع النهائي تحت رقم 105 بعد إبدال نص الفقرة الأولى بالنص الآتي : " 1 - دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن العقد يفيد أن العقد بات لا يجوز العدول عنه إلا إذا قضى الاتفاق أو العرف بغير ذلك " . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ نوقشت المادة تفصيلا ، ورأت اللجنة أن تأخذ بحكم يخالف ما قررته ، وقالت في تقريرها ما يأتي : " رأت اللجنة أن تأخذ بحكم يخالف ما قررته المادة تمشيا مع العرف ، فعدلت الفقرة الأولى باستبدال عبارة " لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه " ، بعبارة " العقوبات لا يجوز العدول عنه " ، وحذف عبارة " أو العرف " لزوال وجه الحاجة إليها بعد التعديل ، واستعاضت عن الفقرة الثانية بالنص الآتي : " فإذا عدل من دفع العربون فقده ، وإذا عدل من قبضه رد ضعفه ، ولو لم يترتب على العدول ضرر " . وقد صدرت اللجنة في هذه الإضافة عن وجوب التمشي مع العرف ، ولم تر محلا للابقاء على الفقرة الثالثة فحذفتها تاركة أمر تفسير نية المتعاقدين لتقدير القاضي . وأصبح النص كالآتي : " 1 - دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك . 2 – فإذا عدل من دفع العربون فقده ، وإذا عدل من قبضه رد ضعفه . هذا ولو لم يترتب على العدول أي ضرر " . وأصبح رقم المادة 103 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 80 – ص 89 – وراجع المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في ص 81 – ص 84 ) .
هذا وقد تضمن المشروع التمهيدي نصين اخرين ، هما المادتان 153 و 154 من هذا المشروع . فنصت المادة 153 على ما يأتي :
" 1 – إذا نفذ الالتزام الذي من أجله دفع العربون خصم العربون من قيمة هذا الالتزام ، فإذا استحال الخصم استرد العربون من دفعه . 2 – ويتيعن كذلك رد العربون إذا استحال تنفيذ العقد لظروف لا يكون أحد من المتعقادين مسئولا عنها ، أو إذا فسخ العقد بخطأ من المتعاقدين أو باتفاق بينهما " . وقد حذف هذا النص في لجنة المراجعة لامكان الاستغناء عنه اكتفاء بتطبيق القواعد العامة . ونصت المادة 154 على ما يأتي : " إذا اتفق المتعاقدان على أن العربون دليل على جواز العدول عن العقد ، كان لكل منهما حق العدول ، فإن عدل من دفع العربون وجب عليه تركه ، وإن عدل من قبضه رد ضعفه " وقد حذفت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ هذا النص بناء على تعديل المادة 103 من القانون على الوجه السابق الذكر . ( أنظر في كل ذلك مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 80 – ص 82 في الهامش ) .
( [240] ) الصحيح لغة " ضعفية " لا " ضعفه " كما ورد في نص القانون . فالضعف هو المثل ، والمثلان ضعفان لا ضعف واحد . وضعف الشيء مثله في المقدار أو مثله وزيادة غير محصورة . وقد اختار القانون الجديد أن يقول الضعف وهو يريد الضعفين ، مؤثراً ذلك الخطأ المشهور على هذا الصواب المهجور ، حتى يتجنب اللبس في صدد نصوص تشريعية الخطأ في تطبيقها يؤدي إلى نتائج عملية خطيرة .
( [241] ) أنظر المواد 223 – 225 من القانون الجديد . ويختلف العربون عن الشرط الجزائي أيضاً في التكييف القانوني .
فالعربون الذي يدفع في مقابل العدول عن العقد يمكن تكييفه بأنه البدل في التزام بدلى . ويكون المدين ملتزماً أصلاً بالالتزام الوارد في العقد ودائناً بالحق الذي يقابل هذا الالتزام ، ولكن تبرأ ذمته من الالتزام ويسقط الحق المقابل إذا هو أدى العربون ( م 278 ) . ومؤدى اذلك أن العدول في حالة دفع العربون لا يكون عن العقد في جملته ، بل عن الالتزام الأصلي والحق المقابل له ، والعربون بدل مستحق بالعقد ، فدفعه إنما هو تنفيذ للعقد في أحد شرطيه وهو البدل ، لا عدول عنه في جملته .
أما الشرط الجزائي فكالتعويض تماماً ، بل هو تعويض مقدر اتفق عليه المتعاقدان مقدماً . فالتكييف القانونين للششرط الجزائي هو ذات التكييف القانونين للتعويض . ولا يجوز القول بأن التعويض بدل في االتزام بدلى ، لأن المدين لا يملك أن يؤديه بدلا من تنفيذ الالتزام الأصلي تنفيذاً عينياً إذا كان هذا التنفيذ ممكناً وطالب به الدائن . ولا هو أحد المحلين في التزام تخييري ، فالمدين لا يخير بينه وبين التنفيذ العيني إذا أراد الدائن هذا التنفيذ وكان ممكنناً ، ولا خيار للدائن كذلك بين المحلين إذا تقدم المدين بالتنفيذ العيني .
( [242] ) وقد تضمن المشروع التمهيدي نصاً هو المادة 162 من هذا المشروع يجري بما يأتي : " يجوز إبطال العقد : أولاً – لعدم توافر الأهلية في المتعاقدين أو في أحدهما . ثانياً – لعيب في الرضاء " . ولما تلى هذا النص في لجنة المراجعة اقترح حذفه لأنه يعد حالات منصوصاً عليها في المواد التالية ، فوافقت اللجنة على ذلك ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 110 في الهامش ) .
( [243] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في نظرة عامة في الأهلية ما يأتي : " اكتفى في أهلية التعاقد بالنص على اعتبار الشخص أهلاً للتعاقد ما لم يقرر القانون عدم أهليته ، وعلى القواعد الموضوعية الأساسية لا سيما ما تعلق منها بتحديد ما يكون لانعدام الأهلية أو نقصها من اثر في صحة الرضاء . أما التفصيلات فموضعها القوانين الخاصة بذلك . ولم ير محل للإبقاء على نص المادة 129 / 189 من التقنين الحالي لأنها تتناول تحديد دلالة الأهلية المطلقة والأهلية المقيدة ، وهي مسألة من مسائل التنظيم الموضوعية . أما المادة 130 / 190 من التقنين الحالي ، وهي الخاصة بتعيين القانون الواجب تطبيقه في مسائل الأهلية ، والمادتان 131 – 132 / 191 – 192 الخاصتان بالرجوع على القاصر بمقتضى قواعد الإثراء بلا سبب ، فقد حلت في المشروع مكانها الطبيعي ، فوضعت الأولى بين قواعد تتنازع القوانين في النصوص التمهيدي ، والمادتان الأخريان وردتا في سياق قواعد البطلان " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 109 ) .
( [244] ) هذا وقد صدر حكمان متناقضان من محكمة استئناف مصر الوطنية ، أحدهما يعترف بالقوانين المسيحية في الرهبنة ويطبقها على إنها عادة لها قوة القانون ( 25 مارس سنة 1931 المحاماة 12 رقم 364 ص 744 ) ، والحكم الثاني يقضي بعكس ما قضى به الحكم الأول ، فيعتبر قوانين الرهبنة قوانين دينية محضة لا يعترف بها القانون ، وهي مخالفة لقوانين الأهلية التي تعتبر من النظام العام ، وأن مجرد الرهبنة لا ينقل مال الراهب إلى الدير بل لا بلد من اتخاذ الطريق القانونية لذلك كأن توهب للدير أو توقف عليه ( 9 ابريل سنة 1931 المحاماة 12 رقم 365 ص 746 ) .
ثم صدر حكم من محكمة النقض يقضي بأن الرهبنة نظام جار عند بعض الطوائف المسيحية في صر ، وقد اعترفت به الحكومة المصرية إذ اختصت الرهبان ببعض المزايا فأعفتهم من الخدمة العسكرية ومن الرسوم الجمركية ، والقانون المادة 14 من الأمر العالي الصادر في 14 مايو سنة 1883 بترتيب واختصاصات المجلس المحلى لطائفة الاقباط الارثوذكس قد صرح بأن للرهبنة نظاماً خاصاً يجب احترامه والعمل على نفاذ الأحكام المقررة له . ومن هذه الأحكام أن كل ما يقتنيه الراهب بعد انخراطه في سلك الرهبنة يعتبر ملكا للبيعة التي كرس حياته لخدمتها . ويترتب على ذلك أن الأموال التي تؤول للرهبان عن طريق وظائفهم أو بسببها تصبح ملكاً للبيعة . فالحكم المطعون فيه إذ عد المطران مالكاً لما اشتراه وقت أن كان شاغلاً منصبه الديني لمجرد أن العقود صادرة له شخصياً لا بصفته نائباً عن الكنيسة قد أخطأ في عدم الأخذ بالقواعد الكنسية المحددة للعلاقة المالية بين الرهبان والكنيسة حالة كونها قانون الطرفين ( نقض مدني 24 مايو سنة 1942 مجموعة عمر 3 رقم 155 ص 431 ) .
والظاهر من هذه الأحكام أنه يجب التمييز بين : ( أولاً ) مايملكه الراهب قبل دخولهف ي الرهينة – وكذلك ما يملكه حتى بعد دخوله الرهينة عن ميراث أو وصية – فهذا يبقى ملكاً خاصاً له يورث عنه لأن شخصية الراهب لا تنعدم بدخوله سلك الرهبنة فإن ذلك مخالف للنظام العام . ( ثانياً ) ما يملكه بعد دخوله في سلك الرهبنة عن غير طريق الميراث أو الوصية ، فهذا يكون ملكا للكنيسة ، لا لأن شخصيته اعدمت ، بل لأنه يعتبر ، طبقاً لقوانين الكنيسة التي تطبق هنا لعدم مخالفتها للنظام العام ، نائباً عن الكنيسة في تملكه هذه الأموال . ويؤيد هذا التمييز ما ورد في كتاب القوانين لابن العسال ( طبعة سنة 1927 ص 315 ) : " ليكن معروفاً ما للأسقف إن كان له شيء ، وليكن معروفاً ما للبيعة ، لكي ما يكون له سلطان على ما كان له ليطيع فيه ربه ما أحب ويورثه لمن أراد . . فأما ما اقتناه بعد الأسقفية فهو للبيعة ، ليس له أن يوصي في شيء منه إلا ما صار إليه من ميراث من والدين أو إخوة أو أعمام " .
( [245] ) وسنرى أن الغائب إذا أقيم له وكيل ، والمحكوم عليه بعقوبة جنائية إذا نصب له قيم ، ومن تقررت له المساعدة القضائية إذا عين له مساعد ، فإن ذلك لا يرجع إلى انعدام الأهلية في هؤلاء . أما ما يقال عادة من أهلية الشخص للالتزام بالعمل غير المشروع أو بالإثراء دون سبب فليس تعبيراً دقيقاً . لأن الأصل أن يلتزم الشخص متى وجد مصدر الالتزام . فإن كان هذا المصدر هو العقد ( أو العمل القانوني بوجه عام ) فمن شروطه الأهلية ، ومناطها التمييز كما قدمناه . وإن كان المصدر هو العمل غير المشروع فلا بد من خطأ ، ومن شروط الخطأ التمييز ، فالتمييز ركن في الخطأ ، وقد لا يكون مطلوباً في بعض الأحوال فيسأل غير المميز عن عمله الضار . أما الالتزام بالإثراء دون سبب فيبقى على الأصل ، ولا يشترط فيه التمييز و لكن أصبح من المألوف التحدث عن الأهلية في هذه المواضع ، وقد جارينا هذا المألوف في بعض الأحيان .
( [246] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 163 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " يكون أهلاً للتعاقد كل من لا يقرر القانون عدم أهليته " . ولما عرض النص على لجنة المراجعة عدلته كما يأتي : " كل شخص أهل للتعاقد ما لم يقرر القانون سلب أهليته أو الحد منها " ، وقدم في المشروع النهائي تحت رقم 112 . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ اعترض على عبارة " فلم يقرر القانون سلب أهليته أو الحد منها " لأن القانون لا يسلب الأهلية ، فقد يكون الشخص مجنواً لم يحجز عليه بعد ويكون مع ذلك أهلاً للتعاقد ، فعدلت اللجنة النص على الوجه الآتي : " كل شخص أهل للتعاقد مال م تسلب أهليته اوي حد منها بحكم القانون " ، وأصبح رقم المادة 109 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 109 – ص 112 ) .
( [247] ) وقد قضت محكمة الاستئناف الوطنية بأن الأصل في الرجل الرشد وفقد الأهلية عارض ، ولذلك تعتبر العقود الصادرة من البالغ رشيداً صحيحة نافذة إلا إذا اثبت مدعى الخلاف طروء عارض فقد الأهلية على ذلك المتعاقد قبل العقد ( 18 يوليه سنة 1891 الحقوق 6 ص 191 – 21 يوليه سنة 1891 الحقوق 7 ص 225 ) – أنظر أيضاً في هذا المعنى محكمة الاستئناف المختلطة في 28 يونية سنة 1916 م 28 ص 446 ، وفي 28 مارس سنة 1918 م 30 ص 316 .
( [248] ) وقد قضت محكمة الاستئناف الوطنية بأنه يجب على من يتعاقد مع الغير أن يتحرى عن أهلية من تعاقد معه حتى يتأكد من صحة التعاقد ، وإلا فعليه أين تحمل تبعة تقصيره وإهماله . فلا يجوز لمن اشترى عقاراً من شخص قرر المجلس الحسبي استمرار الوصاية عليه بعد بلوغه سن الثماني عشرة سنة أن يتمسك بصحة عقد البيع ارتكاناً على أن ذلك القرار لم ينشر بالجريدة الرسمية ( 15 فبراير سنة 1921 المجموعة الرسمية 22 رقم 62 . وانظر أيضاً محكمة بني سويف الابتدائية في 8 فبراير سنة 1928 المحاماة 9 ص 524 ) .
( [249] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 165 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " لا يجوز للقاصر التمسك بنقص أهليته لإبطال العقد إذا كان قد لجأ إلى طرق احتيالية ليخفى قصره ، أما إذا اقتصر على أن يقرر أنه بلغ سن الرشد فإن ذلك لا يمنعه من التمسك بالبطلان " . وفي لجنة المراجعة لوحظ أن المشروع بعد حذف المادة 162 يكون غفلا من نص يجيز لناقص الأهلية أبطال العقد ، فينبغي أن يثبت هذا الحكم في صدر هذه المادة ، وبعد المناقشة وافقت اللجنة على أن تعدل المادة على الوجه الآتي : " يجوز لناقص الأهلية أن يطلب أبطال العقد ، ومع ذلك لا يجوز للقاصر التمسك بنقص أهليته لإبطال العقد إذا كان قد لجأ إلى طرق احتيالية ليخفي قصره " . وأصبح رقم المادة 123 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . ورأت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ أن تستعيض عن عبارة " ومع ذلك لا يجوز للقاصر التمسك بنقص أهليته الخ " بعبارة " وهذا مع عدم الإخلال بالزامه بالتعويض إذا لجأ إلى طرق احتيالية لاخفاء نقص أهليته " . فالمسالة تتعلق بتقرير الجزاء على التجاء القاصر ( وغيره من ناقصي الأهلية ) إلى طرق احتيالية لإخفاء نقص أهليته ، ولم تر اللجنة أن يكون الجزاء حرمان القاصر من حق طلب الإبطال وإنما آثرت أن تجري القواعد العامة المتعلقة بالمسئولية التقصيرية وجعلت الجزاء قاصراً على الحكم بالتعويض . وأصبح رقم المادة 119 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 133 – ص 138 ) .
( [250] ) أنظر محكمة الاستئناف المختلطة في 30 ديسمبر 1913 م 26 ص 117 – وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا رفع المشتري دعوى على البائع يطالبه فيها بتعويضه عما لحقه من الضرر بسبب عدم إتمام الصفقة التي تعاقد معه عليها ودفع له جزءاً من ثمنها ، مدعيا أن البائع دلس عليه بأن أوهمه بأنه تام الأهلية في حين أنه كان محجوراً عليه ، فرفضت المحكمة الدعوى على أساس ما استبانته من ظروفها ووقائعها من أن كل ما وقع من البائع هو أنه تظاهر للمشتري أنه كامل الأهلية وهذا لا يعدو أن يكون مجرد كذب لا يستوجب مساءلة مقترفة شخصياً ، فلا شأن لمحكمة النقض معها في ذلك مادامت الوقائع الثابتة في الدعوى مؤدية فعلا إليه ( نقض جنائي 4 مايو سنة 1945 المحاماة 27 رقم 149 ص 348 . وانظر أيضاً في هذا المعنى نقض مدني في 4 مايو سنة 1944 مجموعة عمر 4 رقم 128 ص 352 ) .
( [251] ) وقد تضمن المشروع التمهيدي نصاً هو المادة 164 من هذا المشروع ، جرت بما يأتي : " يرجع إلى قانون الأحوال الشخصية في تحديد ما يكون لانعدام أهلية الأداء أو نقصها من اثر في صحة الرضاء " . ولما تلى هذا النص في لجنة المراجعة ، ذكر أن المادة بالحالة التي هي عليها لا تؤدي المعنى المقصود ، فليس الراد وضع قاعدة لتنازع القوانين ، بل المراد الإشارة إلى قانون المجالس الحسبية الواجب التطبيق في هذه الأحوال . واقترح تعديل المادة كما يأتي : " ينظم الأهلية قانون خاص " . ثم رأت اللجنة حذف هذا النص والاستعاضة عنه بالمواد 113 – 118 في المشروع النهائي ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 112 – ص 113 في الهامش ) .
( [252] ) تاريخ النص : لم يرد هذا النص في المشروع التمهيدي . ولجنة المراجعة هي التي وضعته تحت رقم المادة 113 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ قيل إن حكم هذه المادة والمواد التي تليها من صميم قواعد الأحوال الشخصية ، فما الحكمة في ايرادها هنا في القانون المدني ؟ وسئل هل هذه النصوص تسري على الأجانب ؟ فأجيب أن المشرع أرا بوضع هذه الأحكام في صلب القانون المدني عدم الرجوع إلى أحكامها في الشريعة الإسلامية ، وقد احتاط المشرع في قانون المحاكم الحسبية بإيراد نص يفيد عدم نفاذ أحكامه على الأجانب ، هذا فضلا عن أنه يستفاد من المبادئ العامة التي نص عليها في الباب الأول من مشروع القانون المعروض إنها تتضمن أحكاماً عامة تسري على الأجانب إلا فيما يختص بسن الرشد . أما سن التمييز وهو سن الأهلية العقلية فأحكامه تسري على الأجانب . وقد وافقت اللجنة على المادة 113 دون تعديل وأصبح رقمها 110 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 112 – ص 114 ) .
( [253] ) الظاهر أن الأب إذا كان قاصراً ووليه أبوه ، فولاية الولي تشمل الأب وولده معاً ، فيكون جد الولد هو وليه مع وجود أبيه لأن هذا قاصر .
( [254] ) والظاهر أن قانون المحاكم الحسبية الجديد يقدم الجد على وصى الأب وإن لم يورد نصاً صريحاً في ذلك . وهناك خلال في المذهب الحنفي هل يتقدم الجد على وصى الأب أو وصى الأب هو الذي يتقدم ، فيأخذ الإمام محمد بالرأي الأول ، ويذهب الإمام الأكبر إلى الرأي الثاني . وكان القضاء المصري في مجموعة قبل صدور قانون المحاكم الحسبية الجديد يأخذ برأي الإمام الأكبر ويقدم وصي الأب على الجد ( محكمة الاستئناف الوطنية في 13 مارس سنة 1893 الحقوق 8 ص 67 – 17 مارس سنة 1924 المحاماة 4 ص 747 – المجلس الحسبي العالي في 19 ابريل سنة 1915 م 23 ص 37 . وانظر حكما قضى بعكس ذلك فقدم الجد على وصي الأب من محكمة الاستئناف الوصية في 6 ديسمبر سنة 1894 الحقوق 10 ص 12 والقضاء 2 ص 133 ) .
( [255] ) تاريخ النص : لم يرد هذا النص في المشروع التمهيدي . ولجنة المراجعة هي التي وضعته تحت رقم المادة 122 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب ثم لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم 118 ، ثم مجلس الشيوخ ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 132 – ص 133 ) .
( [256] ) تاريخ النص : لم يرد هذا النص في المشروع التمهيدي . ولجنة المراجعة هي التي وضعته تحت رقم المادة 114 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب . وعدلته لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تعديلا طفيفا بأن حذفت عبارة وردت في النص الذي وضعته لجنة المراجعة وهي " وكان غير مصاب بجنون أو عنه " ، والعلة في ذلك أن الجنون والعته لهما أحكام خاصة تنطبق في جميع الأحوال والصور . وأصبح رقم المادة 111 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 115 – ص 116 ) .
( [257] ) كان قانون المجالس الحسبية القديم يقضي بأنه إذا بلغ القاصر ثماني عشرة سنة ولم يمنع من التصرف جاز له تسلم أمواله ليديرها بنفسه ما لم يمنع من ذلك ، أي أن التسلم يكون بحكم القانون . فالنص يشير إلى هذا الحكم القديم .
( [258] ) تاريخ النص : لم يرد هذا النص في المشروع التمهيدي . ولجنة المراجعة هي التي وضعته تحت رقم المادة 115 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب . وحذفت منه لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ عبارة " غير مصاب بجنون أو عته " كما حذفتها من المادة السابقة . وأصبح رقم المادة 112 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 117 – ص 119 ) .
( [259] ) يؤكد هذا النص ما ورد في الفقرة الثانية من المادة 701 من القانون المدني الجديد ، وهي تنص على ما يأتي : " وبعد من أعمال الإدارة الإيجار إذا لم تزد مدته على ثلاث سنوات وأعمال الحفظ والصيانة واستيفاء الحقوق ووفاء الديون . ويدخل فيها أيضاً كل عمل من أعمال التصرف تقتضيه الإدارة كبيع المحصول وبيع البضاعة أو المنقول الذي يسرع إليه التلف وشراء ما يستلزمه الشيء محل الوكالة من أدوات لحفظه ولاستغلاله " . ويلاحظ أن نص قانون المحاكم الحسبية قد أورد قيوداً على الحق في الإيجار والحق في استيفاء الحقوق ووفاء الديون .
( [260] ) وقد قضت المادة 4 من قانون المحاكم الحسبية بما يأتي : " على المأذون له بالإدارة أن يقدم حسابا سنويا يؤخذ عند النظر فيه رأي الولي أو الوصي ، وللمحكمة أن تأمر بإيداع المتوفر من دخله إحدى خزائن الحكومة أو أحد المصارف ، ولا يجوز له سحب شيء منه إلا بإذن منها " . وقضت المادة بما يأتي : " إذا قصر المأذون له بالإدارة في تنفيذ ما قصت به المادة السابقة أو أساء التصرف في إدارته أو قامت أسباب تدعو إلى احتمال وقوع ضرر له ، جاز للمحكمة من تلقاء نفسها ، أو بناء على طلب النيابة العمومية أو أحد ذوى الشأن ، أن تحد من الإذن المعطي للقاصر أو تسلبه إياه بعد دعوته لسماع أقواله " .
( [261] ) وقد نصت المادة الأولى من قانون المحاكم الحسبية على أن " القاصر هو من لم يبلغ سن الرشد وهي إحدى وعشرون سنة كاملة " . وتحسب السن بالتقويم الميلادي . ويجب أن تكمل إحدى وعشرون سنة ، فلا يكون الشخص كامل الأهلية إلا عقب انقضاء آخر فترة من هذه المدة .
( [262] ) أو لأنه لا يؤمن على أمواله ( أنظر المادة 21 من قانون المحاكم الحسبية ) .
( [263] ) وقد قضت المادة 13 من قانون المحاكم الحسبية بأن " تنتهي الولاية ببلوغ القاصر إحدى وعشرين سنة ما لم تحكم المحكمة قبل بلوغه هذه السن باستمرار الولاية لسبب من أسباب الحجر ، إلا إذا بلغها معتوهاً أو مجنوناً فإن الولاية تستمر عليه ولو لم يصدر حكم بذلك من المحكمة " . وقضت المادة 30 بأن تنتهي مهمة الوصي " ببلوغ القاصر إحدى وعشرين سنة إلا إذا قررت المحكمة قبل بلوغ هذه السن استمرار الوصاية أو ما لم يبلغها معتوهاً أو مجنوناً فتستمر الوصاية عليه ولو لم تقرر المحكمة استمرار الوصاية " .
( [264] ) تاريخ النص : لم يرد هذا النص في المشروع التمهيدي . ولجنة المراجعة هي التي وضعته تحت رقم المادة 116 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب . وأضافت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ عبارة " وترفع الحجر عنهم " بعد عبارة " تحجر المحكمة عليهم " لاستظهار معنى أن الحجر لا يرفع إلا بحكم . وأصبح رقم المادة 113 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 119 – ص 121 ) .
( [265] ) تاريخ النص : لم يرد هذا النص في المشروع التمهيدي . ولجنة المراجعة هي التي وضعته تحت رقم المادة 117 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب . ثم وافقت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ وكذلك مجلس الشيوخ تحت رقم 114 ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 121 – ص 123 ) .
ويلاحظ أن تصرف المجنون قبل تسجيل الحجر – إذا كانت حالة الجنون غير شائعة وغير معروفة من الطرف الآخر – إنما يصح أخذا بالإرادة الظاهرة دون الإرادة الباطنة ، لأن الإرادة الباطنة عند المجنون لا وجود لها .
( [266] ) وقد قضت محكمة النقض بأن العته يعدم إرادة من يصاب به ، فتقع تصرفاته باطلة من وقت ثبوته . ولذلك لا يتطلب بطلانها توافر التحايل على القانون أو الغش أو التواطؤ بين المعتوه والمتصرف له كما هو الحال بالنسبة إلى المحجور عليه للسفه إذا ما أريد أبطال تصرفاته السابقة على قرار الحجر عليه ، كما أن هذا البطلان لا يكون نتيجة لانسحاب اثر قرار الحجر على الماضي وإنما لثبوت حالة العته المعدم لإرادة المعتوه وقت صدور التصرف منه ( نقض مدني 29 ديسمبر سنة 1949 طعن رقم 54 سنة 18 قضائية لم ينشر بعد ) .
( [267] ) أنظر في كل ذلك المادتين 113 و 114 من القانون المدني الجديد ، وقد سبق ذكرهما – هذا وقيام حالة العته عند أحد المتعاقدين مما يتعلق بفهم الواقع في الدعوى ، فلا يخضع فيه القاضي لرقابة محكمة النقض ( نقض مدني 27 أكتوبر سنة 1938 مجموعة عمر 2 رقم 138 ص 414 ) . ولكن إذا كانت محكمة الموضوع قد أقامت قضاءها بقيام حالة العته وقت التعاقد على أقوال شهود مؤداها أنه كانت تنتابه نوابات عصبية ويتهيج في بعض الأحيان ، وعلى أنه سبق أن حجر عليه للعته ، ورفع عنه الحجر ، ثم حجر عليه ثانياً للعته والسفه بعد تعاقده ثم رفع عنه الحجر ، ثم حجر عليه مرة ثالثة لضعف قواه العقلية ، فإن ما استدلت به من هذا ليس فيه ما من شأنه أن يؤدي إلى أن المحجور كان معتوهاً في ذات وقت التعاقد ، ويكون هذا الحكم قاصر التسبيب متميناً نقضه ( نقض مدني 20 فبراير سنة 1947 مجموعة عمر 5 رقم 157 ص 353 ) . ولعل محكمة النقض قد تأثرت في هذه القضية بأن المتعاقد قد تكرر رفع الحجر عنه ، فلا شيء يقطع في أنه وقت التعاقد بالذات كان معتوهاً . وهي في قضية أخرى لم تبد هذا التشدد في استخلاص قيام العته ، وذكرت أنه إذا كانت محكمة الموضوع قد أقامت قضاءها ببطلان عقد لعته المتصرف على شهادة الشهود الذين سمعتهم وعلى قرائن مستقاة من مصادر صحيحة من شأنها أن تؤدي إلى ما انتهت إليه ، فلا يقدح في حكمها أن يكون قاضي التحقيق قد سأل أحد الأطباء الذين عالجوا المتصرف " هل كانت حالة المريض حالة عته قانوني يلي الجنون في الدرجة " ، فأجاب بأنه " لم يكن على هذه الحالة وقت فحصه بمعرفتي ولكنه كان مشوش التفكير ضعيفاً في بنيته وتفكيره بمعنى أنه يمكن التأثير عليه ويكون في حالة تردد " ، فإن هذه الإجابة كاملة لا تشهد بسلامة عقله ، فضلا عن أن الطبيب ليس هو الذي يعطي الوصف القانوني للحالة المرضية التي يشهدها ، بل الشأن في ذلك للقضاء في ضوء ما يبيده الطبيب ( نقض مدني 31 أكتوبر سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 106 ص 238 ) .
( [268] ) يلاحظ أن مشروع القانون المدني سبق مشروع قانون المحاكم الحسبية إلى مجلس الشيوخ ، فلم يتمكن هذا المجلس من التنسيق ما بين القانونين في هذه المسألة ، فوجب أعمال نصوص كل منهما .
( [269] ) محكمة استئناف مصر الوطنية في 29 نوفمبر سنة 1942 المحاماة 24 رقم 78 ص 197 .
( [270] ) محكمة استئناف مصر الوطنية في 14 ديسمبر سنة 1926 المحاماة 8 ص 45 – وفي 26 نوفمبر سنة 1946 المحاماة 30 رقم 158 ص 161 – محكمة استئناف اسيوط في 16 نوفمبر سنة 1931 المحاماة 12 ص 633 – محكمة الاستئناف المختلطة في 5 فبراير سنة 1930 م 42 ص 252 – وفي 18 مارس سنة 1947 م 59 ص 167 . محكمة الجيزة في ) ابريل سنة 1940 المحاماة 21 رقم 223 ص 502 . وانظر سائر الأحكام المشار إليها في نظرية العقد للمؤلف ص 341 هاشم 3 – واستقر قضاء محكمة النقض على ذلك : نقض مدني في 8 ديسمبر سنة 1932 مجلة القانون والاقتصاد 3 ص 487 – ص 492 – وفي 5 يناير سنة 1950 طعن رقم 64 سنة 18 قضائية لم ينشر بعد – وقد قضت محكمة النقض أيضاً بأنه إذا كانت محكمة الموضوع قد أبانت ظروف التصرف الصادر من المتصرف قبل توقيع الحجر عليه للسفه وفي فترة طلب الحجر ، واستدلت به على أن المشترين غشوه فذهبوا به بعيداً عن بلدتهم حتى لا ينكشف أمرهم ، وهم على علم بالاجراءات المتخذة لتوقيع الحجر عليه ، لكي يتم بيع العين لهم قبل صدور قرار المجلس الحسبي بالحجر ، فانقاد لهم حتى يقبض متهم قبل غل يده ما دفعوه له من ثمن ، ثم قضت بإبطال التصرف ، فإنها تكون قد أقامت قضاءها هذا على مقدمات نتيجة وهي قيام التواطؤ بين المتصرف لهم والمتصرف مع علم المتصرف لهم بما كان يتردى فيه المتصرف من سفه وانتهازهم فرصة سفهه للأثراء من ماله حين كانت الإجراءات القانونية تتخذ لحمايته – ومتى كانت القرائن التي أخذت بها محكمة الموضوع في إثبات علم المشتري بحالة سفه البائع مؤدية عقلا إلى ما انتهت إليه من ذلك ، فلا شأن لمحكمة النقض معها ( نقض مدني 18 نوفمبر سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 77 ص 213 ) .
وقضت محكمة النقض من جهة أخرى بأنه إذا تعاقد شخص بعقد عرفي على البيع ، فلما علمت زوجته بذلك طلبت إلى المجلس الحسبي توقيع الحجر عليه ، وأرسلت إلى المشتري إنذاراً حذرته فيه من إتمام الشراء لأنها طلبت الحجر على البائع ، فلم يعبأ ونفذ الشراء بالعقد العرقي عن طريق عقد رسمي ، وقرر المجلس الحسبي بعد ذلك توقيع الحجر ، ثم حكمت المحكمة بصحة العقد ، وأوردت في حكمها ظروف التعاقد وملابساته على الوجه المتقدم ، واستخلصت منها استخلاصاً سليماً أن الصفقة لم تتم عن تواطؤ وغش ، وأن البيع الصادر من المحجور عليه قد انعقد بالعقد العرفي قبل الحجر ، وأن العقد الرسمي اللاحق لم ينشيء البيع بل إنه لم يكن إلا تنفيذاً للعقد الأول ، فهذا الحكم سليم ولا خطأ فيه ( نقض مدني في 6 نوفمبر سنة 1941 مجموعة عمر 3 رقم 125 ص 385 ) . ويلاحظ هنا أن البيع كان قد تم بالعقد العرفي قبل أن يعلم المشتري بإجراءات الحجر ، ولم يكن العقد الرسمي اللاحق إلا تنفيذاً للعقد العرفي السابق .
( [271] ) تاريخ المادتين 115 و 116 من القانون المدني الجديد : ( أولاً ) المادة 115 : لم يرد هذا النص في المشروع التمهيدي ، ولجنة المراجعة هي التي وضعته تحت رقم 118 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب ، ثم لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم 115 ، ثم مجلس الشيوخ – ( ثانياً ) المادة 116 : لم يرد هذا النص في المشروع التمهيدي ، ولجنة المراجعة هي التي وضعته تحت رقم 120 في المشروع النهائي ، وكان مقصوراً على الفقرة الأولى منه . ووافق عليه مجلس النواب . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ أضيفت الفقرة الثانية من النص توخياً لاستكمال الأحكام الموضوعية الخاصة بناقص الأهلية في المشروع وأصبح رقم المادة 116 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 123 – ص 128 ) .
هذا وقد كانت لجنة المراجعة وضعت نصاً هو المادة 119 من المشروع النهائي يجري على الوجه الآتي : " إذا كان طلب الحجر قد سجل قبل تسجيل قرار الحجر ترتب على تسجيل الطلب ما يترتب على تسجيل القرار " . وقد وافق مجلس النواب على هذا النص . وفي لجنة القانون المدني المجلس الشيوخ اقترح حذفه لأنه حكم تفصيلي ورد في قانون المحاكم الحسبية ، فوافقت اللجنة على ذلك ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 126 – ص 127 في الهامش ) .
( [272] ) ومن ثم فقد نصت المادة 45 من قانون المحاكم الحسبية على أن " تصرف القيم في مال المحجور عليه بطريق التبرع باطل " . ونصت المادة 46 من هذا القانون على أنه " يسري على القيم حكم المادة 33 من هذا القانون ، وفيما عدا ما استثنى بنص صريح في هذا الفصل يسري على القوامة ما يسري على الوصاية من أحكام أخرى " .
( [273] ) وقد جاء في كتاب " شرح القانون المدني " لفتحي زغلول ( ص 37 – ص 38 ) قريباً من هذا المعنى ، ما يأتي : " إن عدم أهلية المحكوم عليه اخف من عدم أهلية القاصر أو السفيه من وجه بقاء التصرفات له من إذن المحكمة . والواقع إنها أهلية من نوع خاص سببها اعتقال رب المال ، فلا هو قليل الخبرة ولا ضعيف العقل ولا هو غائب ، ولهذا يحترم رأيه غالباً في إدارة أعماله ، ويؤذن له كذلك بإجراء ما يريد من التصرفات " .
( [274] ) تاريخ النص : لم يرد هذا النص في المشروع التمهيدي . واقترحت لجنة المراجعة النص الآتي : " يكون قابلا للإبطال كل تصرف يصدر من شخص تقررت مساعدته قضائياً إذا صدر هذا التصرف بغير معاونة المساعد ، وذلك وفقاً للقواعد المقررة في القانون " ، وأصبح رقم المادة 121 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على هذا النص دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ اقترحت إضافة فقرة أولى تتضمن النص الوارد في المادة 47 من قانون المحاكم الحسبية في بيان حالة من تجب له المساعدة القضائية ، واقترح كذلك أن يكون حق طلب الأبطال قاصراً على التصرفات التي تقررت المساعدة القضائية في شأنها . وقد أخذت اللجنة بهذين الاقتراحين لأن أولهما يرمى إلى استكمال الأحكام الموضوعية في التقنين المدني فيما يتعلق بناقص الأهلية ، والثاني يقيد النص تقييداً انصرفت إليه نية واضعه . فأقرت اللجنة النص كما ورد في القانون ، وأصبح المادة 117 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 128 – ص 131 ) .
( [275] ) أنظر المادة 14 من المشروع الفرنسي الإيطالي . وكانت المادتان 133 / 193 من القانون المدني القديم تنصان على أنه " لا يكون الرضاء صحيحاً إذا وقع عن غلط أو حصل بإكراه أو تدليس " – هذا ولما تليت المادة 166 من المشروع التمهيدي في لجنة المراجعة اقترح حذفها لأن الأحكام التي تقررها منصوص عليها في المواد التالية ، فوافقت اللجنة على ذلك ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 141 في الهامش ) . وننقل هنا النظرة العامة التي وردت في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في شأن عيوب الإرادة ، ومنها يبين ما استحدثه القانون الجديد : " تتضمن النصوص المتعلقة بالغبن أهم ما استحدث المشروع من أحكام بشأن عيوب الرضاء . فقد اقتفت هذه النصوص اثر التقنينات الجرمانية والمشروع الفرنسي الإيطالي ، وجعلت من الغبن سبباً عاماً للبطلان النسبي وانتقاص العقود إذا اتيح لأحد المتعاقدين أن يستأثر بربح فاحش من طريق استغلال حاجة المتعاقد الآخر أو طيشه . وقد يؤخذ على هذا الحكم أن أعماله ينتهي إلى تحكم القاضي . يبدأن في سابقات التشريع ما يحمل على التغاضي عن هذا النقد والاطمئنان إلى ما جرى عليه المشروع . فالتقنينات الحديثة ، وفي طليتتها التقنين الألماني والتقنين السويسري والتقنين النمساوي المعدل والتقنين البولوني والتقنين اللبنانين والتقنين الصيني والتقنين السوفيتي ، بل والمشروع الفرنسي الإيطالي رغم نزعته المحافظة ، تجعل جميعاً من الغبن سبباً عاماً للبطلان . ثم إنه ليس ثمة ما يدعو إلى الإشفاق من تحكم القاضي في هذه الحالة أكثر من سواها ، فهو بذاته القاضي الذي يتولى في حياته اليومية تقدير الغلط الجوهري والنية الحسنة والباعث المشروع والضرر الجسيم والباعث المستحث وما إلى ذلك . وعلى أن النص في الغبن بوجه عام لا يستتبع اطراح الأحكام التقليدية الخاصة بصور معينة منه يعبر فيها عن معناه بالأرقام ، توخياً لإحلال الكم محل الكيف ، كأحوال الغبن في البيع والقسمة والاتفاق على سعر الفائدة – ويراعى من ناحية أخرى أن المشروع استحدث أحكاماً جزيلة الفائدة بشأن ما يشوب الرضا من عيوب أخرى ، فواجه مسائل عديدة أغفلها التقنين المصري الحالي ، كالغلط المشترك والغلط في القانون وغير ذلك . ثم إنه عدل النصوص المتعلقة بالتدليس تعديلا يكفل زوال الخلاف القائم بين النصوص العربية والنصوص الفرنسية في التقنين الحالي ( القديم ) . وتناول فوق ذلك مسائل أخرى كسكوت أحد المتعاقدين عمداً عن واقعة يجهلها المتعاقد الآخر . أما النصوص الخاصة بالإكراه فقد روعى في وضعها أن تكون متناسقة مع ما ورد بشأن التدليس . فالإكراه ، سواء أكان صادراً من أحد المتعاقدين أم من الغير ، له ما للتدليس من اثر في صحة العقد . وقد قضى المشروع ، فيما يتعلق بتقدير الإكراه ، على التناقض المعيب الذي تنطوي عليه نصوص التقنين الحالي ( القديم ) . . . بأن احتكم إلى معيار شخصي بحث ، قوامه الاعتداد بجنس المكره وسنه وحالته الاجتماعية والصحية ومزاجه وكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر في جسامة ما يقع عليه . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 139 – ص 140 ) .
( [276] ) هذا ما لم يؤخذ بالإرادة الباطنة وتستظهر مغايرتها للارادة الظاهرة ، فقد ترجع هذه المغايرة إلى غلط وقع فيه المتعاقد الذي صدرت منه هذه الإرادة . ولكن ليست كل مغايرة بين الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة غلطاً ، فالهازل والشخص الذي يضمر غير ما يظهر في حالة التحفظ الذهني ( reserve montale ) كلاهما تختلف إرادته الظاهرة عن إرادته الباطنة دون أن يكون واقعاً في غلط .
( [277] ) وقد يقع الغلط في الإرادة الظاهرة كما يقع في الإرادة الباطنة . والغلط الذي يقع في الإرادة الظاهرة ليس هو مغايرتها للإرادة الباطنة ، بل هو غلط يقع في التعبير عن الإرادة ذاته أي في الإرادة الظاهرة . ويأتي سالي بمثل على ذلك : شخص عنده حصانان ، حصان اسود فيه عيب يريد بيعه من اجله وحصان ابيض لا عيب فيه ولا يريد بيعه . فإذا قال : ابيعك الحصان الأبيض ، وهو يريد أن يقول : الأسود ، كان هناك غلط في الإرادة الظاهرة . أما إذا اعتقد خطأ أن الحصان الأبيض هو المعيب ، فقال ابيعك الحصان الأبيض ، كان هناك غلط في الإرادة الباطنة لا في الإرادة الظاهرة . والقانون الألماني يجعل العقد قابلا للإبطال لكل من هذين النوعين من الغلط ( أنظر في هذا الموضوع سالي في الإعلان الإرادة ص 11 وما بعدها – نظرية العقد للمؤلف ص 359 هامش رقم 4 ) .
( [278] ) وقد أشتمل المشروع التمهيدي على نص هو المادة 172 من هذا المشروع ، جرى بما يأتي : " تسري الأحكام الخاصة بالغلط في حالة ما إذا نقل رسول أو أي وسيط آخر إرادة أحد المتعاقدين محرفة " . وقد حذفت هذه المادة في المشروع النهائي " لأنها تقرر حكماً تفصيلياً لا حاجة إليه " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 166 – ص 167 في الهامش ) . والنص المحذوف مع مذكرته الإيضاحية يوهم أن الغلط في النقل أو في التفسير غلط يعيب الإرادة والصحيح أنه يكون سبباً في عدم توافق الإرادتين فلا ينعقد العقد . هذا ما لم يؤخذ بالإرادة الظاهرة في حالة التحريف في النقل ( قارن المادة 120 من القانون الألماني ) ، فيكون العقد صحيحاً ويؤخذ بالإرادة المحرفة على انها هي الإرادة الصحيحة لمن صدرت منه هذه الإرادة . والقضاء المصري يأخذ بالرأي الأول ولا يعتبر العقد قد تم لعدم توافق الإرادتين ، وقد سبق بيان ذلك ( أنظر آنفاً فقرة 122 في الهامش ) . وسواء اخذ بالرأي الأول تمشياً مع نظرية الإرادة الباطنة أو اخذ بالرأي الثاني تمشياً مع نظرية الإرادة الظاهرة ، فإن الوسيط الذي حرف الإرادة يكون مسئولا نحو المتعاقد الأول إذا انعقد العقد ، أو نحو المتعاقد الآخر إذا لم ينعقد .
ومن قبيل الغلط في النقل مجرد الغلط في الحساب وغلطات القلم . وهذا الغلط لا يؤثر في انعقاد العقد ولا في صحته . وقد ورد نص صريح في هذا المعنى في القانون الجديد ، فنصت المادة 123 على أنه " لا يؤثر في صحة العقد مجرد الغلط في الحساب ولا غلطات القلم ، ولكن يجب تصحيح الغلط " ( أنظر المادتين 536 / 658 من القانون القديم فيما يتعلق بتصحيح ارقام الحساب في عقد الصلح - وقد ورد نص القانون الجدي في المشروع التمهيدي تحت رقم المادة 170 ، وفي المشروع النهائي تحت رقم المادة 127 ، ووافق عليه مجلس النواب ، فلجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم المادة 123 ، فمجلس الشيوخ تحت الرقم ذاته . مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 164 – ص 166 ) . والقضاء المصري مضطرد في هذا المعنى : محكمة الاستئناف الوطنية في أول ديسمبر سنة 1914 الشرائع 2 ص 139 – محكمة الاستئناف المختلطة في 9 ديسمبر سنة 1931 م 44 ص 56 – وفي 7 مارس سنة 1933 م 45 ص 194 – وفي 8 مارس سنة 1933 م 45 ص 195 – وفي 16 نوفمبر سنة 1933 م 46 ص 36 – وفي 3 ابريل سنة 1934 م 46 ص 224 – وفي 21 ديسمبر سنة 1937 م 50 ص 57 . وقد قضت محكمة النقض بأن الخطأ في ذات الأرقام المثبتة بحساب المقاولة ( erreur de calcul ) يجوز طلب تصحيحه متى كان هذا الغلط ظاهراً في الأرقام الثابتة في كشف الحساب المعتمد من قبل ، أو متى كانت أرقام هذا الكشف قد نقلت خطأ من ورقة أخرى معترف بها ، أو كانت غير مطابقة لارقام أخرى ثابتة قانوناً . أما إعادة حساب تلك المقاولة من جديد فإن القانون يأباه ، لأن عمل المقاس والحساب النهائي عن المقاولة عبد إتمامها ما دام عملا متفقاً عليه في أصل عقدها ، فإن هذا الاتفاق متى نفذ بعمل المقاس والحساب فعلا ووقع عليه بالاعتماد ، فقد انقضت مسئولية كل عاقد عنه ، وأصبح هو ونتيجته ملزماً للطرفين ( نقض مدني في 7 نوفمبر سنة 1935 مجموعة عمر 1 رقم 297 ص 923 ) . وقضت محكمة النقض أيضاً بأنه متى كانت محكمة الموضوع قد تبينت من واقع الدعوى أن التبايع الذي هو محل النزاع قد وقع على عين معينة تلاقت عندها إرادة المشتري مع إرادة البائع ، وأن ما جاء في العقد خاصاً بحدود هذه العين قد شابه غلط في حدين من حدودها بذكر أحدهما مكان الآخر ، فإنها لا تكون مخطئة إذا ما اعتبرت هذا الغلط من قبيل الغلط المادي الواقع حال تحرير المحرر المثبت للتعاقد لا الغلط المعنوي الواقع حال تكوين الإرادة المفسد للرضاء ( نقض مدني في 11 ديسمبر سنة 1947 مجموعة عمر 5 رقم 242 ص 503 ) .
( [279] ) وثبوت واقعة الغلط مسألة موضوعية يستقل قاضي الموضوع بتقدير الأدلة فيها ( نقض مدني في أول ابريل 1948 مجموعة عمر 5 رقم 293 ص 586 ) .
( [280] ) أنظر في هذا المعنى ديرانتون 10 فقرة 114 – 116 – ماركاديه 4 فقرة 407 .
( [281] ) أنظر أوبري ورو 4 فقرة 343 مكررة ص 490 و 492 .
( [282] ) لوران 15 فقرة 488 .
( [283] ) بودري وبارد 1 فقرة 54 .
( [284] ) بلانيول 2 فقرة 1053 – كولان وكابيتان 2 ص 281 – جوسران 2 فقرة 69 – فقرة 72 .
( [285] ) أنظر في الفقه المصري دي هلتس الجزء الأول لفظ ( convention ) فقرة 56 – هالتون 1 ص 387 – فتحي زغلول ص 132 – والتون 1 ص 165 – ص 166 – الدكتور عبد السلام ذهني بك في الالتزامات فقرة 127 – الدكتور محمد صالح بك في الالتزامات فقرة 268 – الدكتور محمد وهيبة في النظرية العامة في الالتزامات فقرة 255 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 357 وما بعدها – الدكتور حلمي بهجت بهدوي فقرة 116 – الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت فقرة 156 وما بعدها .
وانظر في القضاء المصري محكمة النقض ( الدائرة المدنية ) في 7 نوفمبر سنة 1935 مجموعة عمر 1 ص 923 – محكمة قنا الاستئنافية في 26 مارس سنة 1908 المجموعة الرسمية 9 رقم 66 – محكمة الجزية الجزئية في 21 مارس سنة 1903 الحقوق 18 ص 140 – محكمة الاستئناف المختلطة في 7 يناير سنة 1892 م 4 ص 99 – وفي 22 ديسمبر سنة 1892 م 5 ص 56 – وفي 7 نوفمبر سنة 1910 م 23 ص 26 – وفي 19 يناير سنة 1911 م 23 ص 119 – وفي 17 مايو سنة 1911 م 23 ص 325 – وفي 16 مايو سنة 1917 م 29 ص 426 – وفي 16 مايو سنة 1917 م 29 ص 428 – وفي 25 مارس سنة 1922 م 36 ص 261 – وفي 26 نوفمبر سنة 1930 م 43 ص 44 .
( [286] ) أنظر المادة 23 من قانون الالتزامات السويسري ، والفقرة الأولى من المادة 37 من قانون الالتزامات البولوني . وانظر تاريخ نص المادة 120 من القانون الجديد فيما يلي عند الكلام في الغلط المشترك وفي الغلط الفردي ( فقرة 176 ) .
( [287] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 168 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 - يكون الغلط جوهريا إذا كان من الجسامة بحيث كان يمتنع الطرف الذي وقع فيه إبرام العقد لو لم يقع في الغلط وقدر الأمور تقديراً معقولاً . 2 - ويعتبر الغلط جوهريا على الأخص في الأحوال الآتية : أ - إذا وقع في صفة للشيء تكون جوهرية في اعتبار المتعاقدين أو بالنسبة لما يلابس العقد من ظروف ولما ينبغي أن يسود التعامل من حسن النية . ب ) إذا وقع في ذات الشخص أو في صفة من صفاته ، وكانت تلك الذات أو تلك الصفة السبب الوحيد أو السبب الرئيسي في التعاقد . ج ) إذا وقع الغلط في أمور يعتبرها المتعاقد الذي يتمسك بالغلط عناصر ضرورية للتعاقد طبقاً لما تقضي به النزاهة في التعامل " . وحذفت لجنة المارجعة الجزء ( ج ) من الفقرة الثانية لأن ذكر هذه الحالة مع الحالتين السابقتين يكاد يحيط بكل حالات الغلط فلا يصبح هناك معنى لايراد الفقرة الثانية على سبيل التمثيل . وأصبح رقم المادة 125 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وحذفت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ عبارة " وقدر الأمور تقديراً معقولاً " من الفقرة الأولى لأنها تتضمن قيداً يحسن أن يترك أمره لتقدير القاضي ، وحذفت عبارة " السبب الوحيد " من الفقرة الثانية حرف ( ب ) لأن في عموم عبارة " السبب الرئيسي " الواردة في الفقرة ذاتها ما يغني عنها ، وأصبح رقم المادة 121 . وقد وافق عليها مجلس الشيوخ كما عدلتها لجنته ( أنظر مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 155 – ص 158 ) . وانظر المادة 15 من المشروع الفرنسي الإيطالي والفقرة الثانية من المادة 37 من قانون الالتزامات البولوني .
( [288] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد المادة 121 ما يأتي : " وينبغي أن يكون الغلط المبطل للعقد جوهرياً . ولا يتحقق ذلك إلا إذا دفع من وقع فيه إلى التعاقد . ومؤدى هذا أن يناط تقدير الغلط بمعيار شخصي . وقد انتهى القضاء المصري والقضاء الفرنسي في هذا الشأن إلى تطبيقات ثلاثة تقررت في نصوص المشروع : ا ) أولها يتعلق بالغلط الذي يقع في صفة للشيء تكون جوهرية في اعتبار المتعاقدين أو بالنسبة لما يلابس العقد من ظروف ولما ينبغي أن يسود التعامل من حسن النية . وفي هذا الفرض يرتبط تقدير الغلط الجوهري بعامل شخصي هو حسن النية وبعامل مادي قوامه الظروف التي لابست تكوين العقد . 4 ) والثاني يتصل بالغلط الواقع في ذات شخص المتعاقد أو في صفة من صفاته ، إذا كانت هذه الذات أو تلك الصفة السبب الوحيد أو السبب الرئيسي في التعاقد . والمعيار في هذا الفرض شخصي بحث . ( ج ) والثالث خاص بالغلط الواقع في أمور يعتبرها من يتمسك به من المتعاقدين عناصر ضرورية للتعاقد طبقاً لما تقضي به النزاهة في التعامل ملاحظة : هذا التطبيق حذفته لجنة المراجعة كما قدمنا في تاريخ نص المادة 121 ) . وقد تنطوي صورة الغلط في الباعث في هذا التطبيق الثالث . بيد أنه يتعين الرجوع ، عند الإثبات ، إلى عنصر موضوعي أو مادي بحث ، هو عنصر نزاهة التعامل ، ويتضح من ذلك أن تقدير الغلط ، وإن كان قد نيط بمعيار شخصي بحث ، إلا أن تيسير الإثبات قد اقتضى الاعتداد بعناصر مختلفة ، فيها الشخصي والمادة " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 143 ) .
( [289] ) 7 يناير سنة 1892 م 4 ص 99 .
( [290] ) 7 نوفمبر سنة 1910 م 23 ص 26 – جازيت 1 ص 34 .
( [291] ) 19 يناير سنة 1911 م 23 ص 119 – وانظر حكماً ثانياً في 17 مايو سنة 1910 م 23 ص 325 – وحكماً ثالثاً في 18 يناير سنة 1939 م 51 ص 121 .
( [292] ) 18 مارس سنة 1946 م 58 ص 75 .
( [293] ) 19 مارس سنة 1913 م 25 ص 239 – وانظر حكماً آخر في 18 مارس سنة 1946 م 58 ص 74 ( وقد سبقت الإشارة إليه ) . وانظر في التمييز ما بين الغلط في الشيء والعيب الخفي فيه نظرية العقد للمؤلف فقرة 358 . وكان القانون القديم يوجب رفع دعوى العيب في ثمانية أيام من وقت العلم بالحقيقة ( م 324 / 402 ) ، أما القانون الجديد فجعل الدعوى تتقادم بانقضاء سنة من وقت تسليم المبيع ( م 452 ) .
( [294] ) 7 ابريل سنة 1931 م 43 ص 333 .
( [295] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 21 ديسمبر سنة 1916 م 29 ص 120 .
( [296] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 7 يناير سنة 1897 م ) ص 104 – وفي 8 ابريل سنة 1897 م ) ص 263 – وفي 18 ابريل سنة 1900 المجموعة الرسمية للقضاء المختلطة 25 ص 285 – وفي 7 فبراير سنة 1928 م 40 ص 187 .
( [297] ) أنظر في هذه الأمثلة وفي غيرها نظرية العقد للمؤلف فقرة 360 – فقرة 362 .
( [298] ) 16 مايو سنة 1917 م 29 ص 426 – جازيت 7 ص 135 رقم 400 – وفي قضية أخرى قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن الغلط يجعل العقد قابلا للإبطال إذا كان غلطاً يؤثر تأثيراً كبيراً في الثمن باعتباره الرابطة الرئيسية في التعاقد ( 25 مارس سنة 1922 م 36 ص 261 ) . وفي قضية كان المدين فيها مطالباً بالدافع بالعملة المصرية ، فدفع للدائن بالعملة الفرنسية وقبل ممثل الدائن ( وكان حارساً قضائياً ) الوفاء بهذه العملة معتقداً أن الاتفاق يعطي المدين هذا الحق ، ثم تبين بعد ذلك أن المدين ملزم بالوفاء بالعملة المصرية ، فقضت محكمة الاستئناف المختلطة بإلزام المدين بدفع الفرق بين سعر العملتين في اليوم الذي كشف فيه هذا الغلط ( 25 نوفمبر سنة 1925 م 38 ص 76 ) . كذلك إذا استوفى المدين مبلغاً أقل مما يستحق عن غلط منه ، لم يكن هذا الوفاء مبرئاً لذمة المدين في كل الدين ( محكمة الاستئناف المختلطة في 25 مارس سنة 1920 م 32 ص 235 ) . أنظر أيضاً في الغلط في القيمة محكمة الاستئناف المختلطة في 3 ابريل سنة 1934 م 46 ص 224 ، وفي الغلط في القيمة في عقد التخارج محكمة الاستئناف المختلطة في 25 مارس سنة 1922 م 34 ص 261 – وحكماً ثانياً في 12 ديسمبر سنة 1916 م 29 ص 103 – وحكماً ثالثاً في 11 يونية سنة 1903 م 15 ص 350 . وانظر أحكاماً أخرى تقضي بغير هذا المبدأ في نظرية العقد للمؤلف ص 377 حاشية رقم 2 .
هذا ويلاحظ أن الفرق ما بين الغلط في القيمة والغبن يقوم على أنه ليس من الضروري أن المتعاقد المغبون يكون قد وقع في غلط بالنسبة إلى قيمة الشيء الذي يتعاقد عليه ، فقد يكون على بينة من قيمة الشيء الحقيقية ويقبل الغبن بالرغم من ذلك .
( [299] ) أنظر ما جاء في نظرية العقد للمؤلف فقرة 364 ، حيث ذكر من الأمثلة على الغلط في الباعث أن يصطلح الوارث مع الموصى له على أن يسلم الأول للثاني جزءاً من الشيء الموصى به دون الباقي ، ويكون الباعث على هذا الصلح اعتقاد الوارث أن الوصية قائمة وقت وموت الموصى ، ويتضح بعد ذلك أن الموصى كان قد عدل عنها . والفرق ظاهر بين هذا المثل ومثل قسمة الوارث مع الموصى له . ففي الحالة الأولى ينازع الوارث في الوصية وينتهي بالمصالحة عليها وقد دفعه إلى ذلك اعتقاده أن الموصى لم يعدل عنها ، ولكن اثر النزاع بقى في أن الوارث لم يسلم للموصى له إلا جزاءً من الشيء الموصى به .فالغلط هنا يقع في الباعث . أما في قسمة الوارث مع الموصى له ، فالوارث يسلم بالوصية لا ينازع فيها ، لذلك اقتسم مع الموصى له العين الشائعة ، وأعطاه نصيبه ، وهو القدر الموصى به ، كاملا بمقتضى عقد القسمة . فالغلط هنا يقع في السبب بمعناه التقليدي .
( [300] ) ومن أمثلة الغلط في الباعث ما يظهر فيه لأول وهلة أن الغلط ينبغي إلا يؤثر في صحة العقد . فلو اشترى شخص سيارة معتقداً أن سيارته القديمة قد كسرت في حادث اصطدام ثم يتضح عدم صحة ذلك ، أو استأجر موظف منزلا في مدينة معتقداً أنه سينقل إليها ثم يتبين بعد ذلك أنه لم ينقل ، كان هذا غلطاً في الباعث ، وينبغي إلا يؤثر في صحة العقد وإلا تعرض التعامل لخطر التزعزع وعدمالاستقرار . ولكن هذه النظرة الأولى غير دقيقة ، فإن الذي يعرض التعامل للتزعزع في مثل هاتين الحالتين ليس هو أن الغلطفي الباعث يكون غلطاً جوهرياً ، بل إن المتعاقد الآخر لا يكون له اتصال بهذا الغلط . وسنرى فيما يلي أن الغلط الذي يجعل العقد قابلا للإبطال يجب أن يشترك فيه المتعاقد الآخر ، أو أن يكون على علم به ، أو أن يكون من السهل عليه أن يتبينه . فلا يزعزع التعامل في شيء أن يطلب مشترى السيارة أو مستأجر المنزل ، في المثلين المتقدمين ، إبطال العقد ، ما دام المشتري في المثل الأول يستطيع أن يثبت أن بائع السيارة كان يعتقد مثله أن سيارته القديمة قد كسرت ف يحادث اصطدام وأن هذه الواقعة الموهومة هي التي دفعت المشتري إلى الشراء ، أو أن البائع كان على علم بان الواقعة التي دفعت المشتري إلى الشراء إنما هي واقعة موهومة ، أو كان من السهل عليه أن يتبين ذلك – وما دام المستأجر ، في المثل الثاني ، يستطيع أن يثبت أن المؤجر كان يعتقد مثله أنه نقل إلى المدينة التي استأجر فيها المنزل وأن هذا هو الدافع للاستئجار ، أو أن المؤجر كان على علم بأن النقل الذي دفع الموظف إلى استئجار المنزل إنما هو واقعة موهومة ، أو اكن من السهل عليه أن يتبين ذلك .
( [301] ) أنظر في التوفيق ما بين الغلط في السبب والغلط في الباعث بلانيول وريبير وبولانجيه سنة 1949 الجزء الثاني فقرة 205 وفقرة 299 وفقرة 304 وفقرة 824 – أما الفقه المصري فقد سار وراء الفقه الفرنسي في هذا التنقاض : أنظر الدكتور عبد السلام ذهني بك في الالتزامات فقرة 130 – الدكتور محمد وهيبة فقرة 260 وفقرة 318 – قارن نظرية العقد للمؤلف ص 375 هامش رقم 2 – وقارن والتون 1 ص 52 – ص 53 – ومن الفقهاء المصريين من لا يزال يرى الغلط في الباعث ( في ظل القانون القديم ) لا يؤثر في صحة العقد إلا إذا اختلط بصفة جوهرية في الشيء أو في الشخص ( الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت فقرة 159 ) . ومنهم من يتبين أن نظرية الغلط هي نظرية السبب غير الصحيح ، ولكنه يلحق تلك بهذه فيجعل الغلط جزءاً من نظرية السبب ، ثم يعود بعد ذلك فيجعل الجزاء على كل من الغلط والسبب غير الصحيح هو البطلان النسبي ( قابلية العقد للإبطال ) لا البطلان المطلق ( الدكتور حلمي بهجت بدوي ص 173 و ص 179 و ص 198 و 232 – ص 234 ) . أنظر أيضاً في هذا الموضوع مؤلفاً موضوعاً بالفرنسية للدكتور شفيق شحاته في الالتزامات ص 42 – ص 43 .
ويرى أن الذي دعا إلى حيرة الفقه في هذه المسألة الدقيقة هو تطور النظريات القانونية وتدخلها بعضها في بعض ، فتبقى الحلول القديمة قائمة بالرغم من إنها تقصر عن مسايرة هذا التطور . فقد كان مسلما في ظل النظريات التقليدية أن السبب غير الباعث ، وانبنى على ذلك أن الغلط في السبب يجعل العقد باطلا ، أما الغلط في الباعث فلا يؤثر في صحة العقد . ومنذ تطورت النظرية التقليدية في الغلط ، واستبدل بالمعيار الموضوعي معيار ذاتي ، أصبح الغلط في الباعث يؤثر في صحة العقد . ولكن هذا التطور لم يزعزع سلامة التمييز ما بين الغلط في السبب بمعناه التقليدي والغلط في الباعث ، فلا زال الغلط في حالة الأولى يجعل العقد باطلا ، أما الغلط في الحالة الأخرى فأثره بقى مختلفاً عن أثره في الحالة الأولى وإن كان قد تطور فأصبح يجعل العقد قابلا للإبطال . إلى هنا بقى التمييز سليما ما بين الغلط في السبب والغلط في الباعث . ولكن منذ تطورت نظرية السبب هي أيضاً ، كما تطورت نظرية الغلط ، واختلط السبب بالباعث في النظرية الحديثة ، صار متعيناً أن نجعل حكم الغلط في السبب هو حكما لغلط في الباعث دون تمييز بين الحالتين . ومع ذلك بقى الفقه إلى حد كبير محتفظاً بهذا التمييز ، ولم يلق بالا إلى ما حدث من التطور .
( [302] ) وسنرى عند الكلام في نظرية السبب أن القانون الجديد قد أخرج السبب المغلوط ( أو السبب غير الصحيح ) من منطقة السبب ، واقتصر على ذكر السبب غير المشروع .
هذا ويلاحظ أنه إذا كان حكم الغلط في السبب بالمعنى الحديث هو حكم الغلط في الباعث فيكون العقد قابلا للإبطال في الحالتين كما قدمنا ، فإن الغلط في السبب بمعناه التقليدي ، أي الغلط المتعلق بالغرض المباشر الذي يقصد الملتزم الوصول إليه من وراء التزامه ، لا يزال غلطاً يحول دون تكوين العقد لانعدام الرضاء أو لانعدام المحل على ما سنرى عند الكلام في السبب ، فإذا وقع جعل العقد باطلا كما أسلفنا القول .
( [303] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 169 من المشروع التهيدي على الوجه الآتي : " الغلط في القانون كالغلط في الواقع ، يجعل العقد قابلا للبطلان ما لم يوجد نص يقضي بخلاف ذلك " . وقد وافقت عليها لجنة المراجعة مع تعديلات لفظية ، وأصبح رقم المادة 126 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وترددت لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ طويلا في استبقاء المادة أو حذفها اكتفاء بالقواعد العامة ، واستقر رأيها أخيراً على استبقائها بعد تعديلها على الوجه الآتي : " يكون العقد قابلا للإبطال لغلط في القانون إذا توافرت فيه شروط الغلط في الواقع طبقاً للمادتين السابقتين ، هذا ما لم يقض القانون بغيره " . وأصبح رقم المادة 122 . ووافق عليها مجلس الشيوخ كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 159 – ص 164 ) .
( [304] ) دي هلتس لفظ ( Convention ) فقرة 60 – والتون 1 ص 186 – ص 189 – الدكتور محمود وهيبة فقرة 272 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 372 – الدكتور حلمي بهجت بدوي فقرة 123 – الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت فقرة 165 .
وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بان الغلط الواقع في صفة جوهرية في الشيء يفسد الرضاء لا فرق في ذلك بين غلط في القانون وغلط في الواقع ( 20 مايو سنة 1915 م 27 ص 344 ) . وقضت كذلك بأن الاعتراف بصفة الحائز لعقار لا يكون صحيحاً إذا كان مبيناً على غلط في القانون ( 14 نوفمبر سنة 1918 م 31 ص 22 ) ، وبأن إمضاء الورثة على محضر جرد التركة ، وقد ذكر فيه بيع صادر من المورث في مرض الموت لأحد الورثة ، لا يعتبر إجازة لهذا البيع إذا كانت الورثة التي أمضت محضر الجرد تجهل حكم القانون في بيع المريض مرض الموت وانه يتوقف على إجازة الورثة ( 24 فبراير سنة 1897 م 2 ص 171 ) .
( [305] ) ولكن يجوز الطعن في الصلح لغلط في الواقع ، كما إذا صالح الدائن المدين على مبلغ الدين وكان الدافع لهذا الصلح توهم الدائن يسار المدين ( استئناف مختلط في 28 ابريل سنة 1938 م 50 ص 261 ) .
هذا وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد المادة 122 ما يأتي : " قد المشروع . . . إلى القضاء على كل شك فيما يتعلق بحكم الغلط في القانون . فكثيراً ما يستبعد هذا الغلط من بين أسباب البطلان النسبي استناداً إلى قاعدة افتراض عدم الجهل بالقانون . والواقع أن نطاق هذه القاعدة لا يتناول إلا القوانين المتعلقة بالنظام العام ، وعلى وجه الخصوص ما تعلق منها بالمسائل الجنائية . أما إذا جاوز الأمر هذا النطاق فيكون للغلط في القانون ، متى ثبت أنه جوهري ، شأن الغلط في الوقائع من حيث ترتيب البطلان السنبي ، ما لم يقض القانون بغير ذلك ، كما هي الحال مثلا في عقد الصلح . وقد جرى القضاء المصري على ذلك : أنظر استئناف مختلط في 20 مايو سنة 1915 م 27 ص 344 – 5 فبراير سنة 1918 م 30 ص 204 – 14 نوفمبر سنة 1918 م 31 ص 22 " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 159 ) .
ويلاحظ أن المراد بالغلط في القانون الغلط في القواعد القانونية التي ليست محلا للخلاف ، فهذا هو الذي يحتج به . أما الغلط في المسائل المختلف عليها وترجيح أحد الآراء خطأ فلا اثر له في صحة العقد ( محكمة الاستئناف المختلطة في 23 يناير سنة 1930 م 42 ص 226 – وفي 24 مايو سنة 1934 م 46 ص 302 – وفي 6 مارس سنة 1945 م 57 ص 84 ) . ولكن يشترط أن يكون المسألة قد اختلفت فيها المحاكم فعلا ، فإذا لم تكن عرضت على المحاكم ، فإن الشخص إذا رجح رأياً خطأ منه عد هذا غلطا في القانون ( محكمة الاستئناف المختلطة في 16 يناير سنة 1924 م 36 ص 156 ) . وقد يتفق أن مسألة قانونية يبت فيها القضاء على نحو معين ، ويجرى تعالم الناس على مقتضى الرأي الذي سار عليه القضاء ، ثم يرجع القضاء عن رأيه إلى رأي آخر ، ففي مثل هذه الحالة يجرد اعتبار الغلط في القانون مؤثراً في صحة العقد ( أنظر في تحليل القضاء الفرنسي في هذا الموضوع رسالة الدكتور فهمي نور ص 71 – ص 76 ) .
وقد قضت محكمة النقض بأنه لا يجوز للاحتجاج على فساد الرضاء التمسك بأنه بني على حصول غلط في القانون إلا إذا كان الغلط قد وقع في حكم منصوص عليه صراحة في القانون أو مجمع عليه من القضاء . فإذا حرر أحد منكوبي حريق حدث بقطار سكة حديد الحكومة إقرارا بأنه تسلم من خزانة المديرية 150 جنيها بصفة إحسان ، وانه ليس له بعد إحسان الحكومة وعطفها هذا أي حق في مطالبتها بشيء ما ، فهذا الإقرار لا يعتبر مشوباً بغلط في القانون . والحكم الذي يعتبره كذلك مستنداً إلى أن المقر كان حين الإقرار يعتقد أن مصلحة السكة الحديد غير مسئولة عن الحادث ، وانه إذن يكون تنازل عما كان يعتقد أنه لا حق له فيه ، هو حكم مخالف للقانون متعين نقضه . وذلك لأن الأمر الذي حتمل أن يصاحب الإقرار كان يجهله هو المسئولية المترتبة على الدولة بسبب الخلل في تنظيم المصالح الحكومية أو سوء إدارتها ، وهذه المسئولية لا يقطع بها في القانون المصري نص صريح فيه أو إجماع من جهة القضاء ، فجهلها إذن لا يشوب الإقرار بالغلط المستوجب لفساد رضاء المقر ، ويتعين إذن أعمال الإقرار واخذ صاحبه به ( نقض مدني في 3 يونيه سنة 1938 مجموعة عمر 2 رقم 127 ص 394 ) .
( [306] ) 5 فبراير سنة 1918 م 30 ص 204 – جازيت 8 رقم 193 ص 79 .
( [307] ) وقد سارت محكمة النقض في هذه النظرية إلى النهاية ، فاكتفت بأن يكون الغلط فردياً حتى لو كان الطرف الآخر حسن النية ، وأجازت الحكم له بتعويض تطبيقاً لقواعد المسئولية التقصيرية . فقضت بأنه إذا أثبت المتعاقد أنه كان واقعاً في غلط ، ثم أثبت أنه لولا هذا الغلط ما كان عقد لمشارطة ، حكم له ببطلانها ولو كان المتعاقد الآخر حسن النية غير عالم بغلط صاحبه ، إذ أن حسن نيته ليس من شأنه أن يقيم مشارطة باطلة ، وإنما هو قد يجعل له على الغلط حقاً في تعويض إن كان يستحقه طبقا لقواعد المسئولية . فإذا قضى الحكم ببطلان الإقرار الموقع من الممول بموافقته على تقدير مصلحة الضراب لأرباحه بناء على أن موافقته كانت عن غلط وقع فيه ، فإنه لا يكون بحاجة إلى تحري علم مصلحة الضرائب بغلطه ( نقض مدني في أول ابريل سنة 1948 مجموعة عمر 5 رقم 295 ص 586 ) . ولكن يلاحظ أن مصلحة الضرائب لها وضع خخاص ، وشأنها ليست كشأن المتعاقد العادي . فهي إذا لم تعلم بغلط الممول كان كل ما أصابها من ضرر هو أن فات عليها ربح غير مشروع ، فهل لها أن تشكو من ذلك !
( [308] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 167 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " إذا وقع المتعاقد في غلط جوهري وقت اتمام العقد ، فيجوز له أن يتمسك بالبطلان إن كان المتعاقد الآخر ، ولو لم يرتبك خطأ ، قد جره بموقفه إلى الوقوع في الغلط ، أو كان واقعاً مثله فيه ، أو كان يعلم بوقوع الغلط ، أو كان من السهل عليه أن يتبين ذلك " . وقد حذفت لجنة المراجعة عبارة " ولو لم يرتكب خطأ ، قد جره بموقفه إلى الوقوع في الغلط " لأن هذه العبارة تفترض حالة يندر وقوعها وإذا وقعت أمكن أن تندرج نحت حالة من الحالات الأخرى ، وحذفت عبارة " وقت اتمام العقد " لعدم ضرورتها . وأصبح رقم المادة 124 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . أما لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ فبعد تردد طويل وافقت على المادة كما أقرهامجلس النواب وأصبح رقمها 120 ، وقالت في تقريرها ما يأتي : " اقترح الاعراض عن نظرية الغلط المشترك كما تقررها المادة 120 من المشروع ، ولم تر اللجنة الأخذ بهذا الاقتراح لأن فكرة الغلط الفردي في إطلاقها تخل باستقرار المعاملات وتفسح المجال لضروب من الادعاءات والمفاجآت انعقد الإجماع على وجوب توقيها . ونص المشروع في الغلط يتمشى مع النظرية التقليدية ، ولا تزال هذه النظرية صالحة للعمل بها ، فهي تؤدي إلى تحصيل نفس النتائج التي يصل إليها الفقه الآن عن طريق نظريات أخرى ، هذا إلى إنها تمتاز بالوضوح وهي بعد تستعرض فروضاً مختلفة في الغلط إذا كانت تشترك جميعاً في أن الغلط فيها مبطل للعقد فإنها تختلف في بقية الأحكام ، فالغلط إذا كان مشتركا بين البائع والمشتري كان البائع حسن النية ولا يتعرض إلا إلى إبطال العقد ، أما إذا انفرد المشتري بالغلط فالبائع إما أن يكون على علم بذلك ويكون سيء النية ويلزم فوق إبطال العقد بالتعويض وهذه حالة أدنى ما تكون إلى التدليس ، وإما أن يكون من السهل عليه أن يتبين غلط المشتري وقد يكون في الظروف في هذه الحالة ما يجيز اعتباره مقصراً والزامه بالتعويض بسبب هذا التقصير " . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 140 – ص 154 ) .
( [309] ) بقاء العقد صحيحاً هو كما قررنا على سبيل التعويض . إذ أن العقد هنا لم يقم على إرادة المتعاقدين الحقيقية . لأن إرادة أحدهما غير صحيحة وهو يتمسك بإبطال العقد . بل قام العقد . بل قام العقد على أساس اعتبارات عملية تجرع لو استقرار المعاملات . وقد سبق أن أشرنا إلى أمثلة أخرى من هذا النوع ، منها العقد الذي تختلف فيه الإرادة الظاهرة عن الإرادة الباطنة ، ومنها العقد الذي لا يقترن فيه القبول بالايجار إلا حكماً ، فلا يقوم العقد في كل هذه الأحوال على توافق الارادتين ، بل على الثقة المشروعة .
وواضح في كل ما قدمناه أن المقصود بالارادة الإرادة الحقيقية لا الإرادة الظاهرة . ولو اعتددنا بالإرادة الظاهرة لقام العقد على توافق الارادتين . ومن ثم يصح القول بأن القانون الجديد قد أخذ في الحالات المتقدمة الذكر بالإرادة الظاهرة دون الإرادة الباطنة ، تحقيقاً لاستقرار التعامل .
( [310] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن الغلط الفردي كاف لإبطال العقد حتى لو لم يعلم به المتعاقد الآخر ما دام أنه كان يستطيع أن يعلم به . فقد اصطلح سنديك تاجر مفلس على دي للمفلس في ذمة إحدى الشركات ، وكان السنديك يجهل أن هذا الدين مضمون برهن ، ولو علم بذلك لما رضى بهذا الصلح . وثبت من جهة أخرى أن الشركة التي اصطلحت مع السنديك ، ولو إنها كانت لا تعلم بجهل السنديك بوجود الرهن ، إلا إنها كانت تستطيع أن تعلم ذلك من ظروف تعاملها مع هذا السنديك . فأبطلت المحكمة العقد للغلط ( 30 مارس سنة 1915 م 27 ص 250 ) .
( [311] ) والذي يدعى الوقوع في الغلط هو الذي ينهض بعء الإثبات . ويثبت وقوعه في الغلط واتصال المتعاقد الآخر بذلك بجميع طرق الإثبات ، لأنه يثبت وقائع مادية . ومما يجعل هذا الإثبات عسيراً أن يكون الغلط الذي وقع فيه غلطاً لا يعذر من اجله ، فإن مثل هذا الغلط يبعد أن يكون المتعاقد الآخر قد علم به أو كان من السهل عليه أن يتبينه . ومن هنا وجد معيار آخر هو الغلط المغتفر ( erreur excusable ) والغلط غير المغتفر ( erreur inexcusable ) . فالغلط المغتفر يفرض فيه أن المتعاقد الآخر كان على الأقل يسهل عليه أن يتبينه . أما الغلط غير المغتفر فيفرض فيه أن المتعاقد الآخر لم يكن من السهل عليه أن يتبينه إذ لا يتصور أن يقع أحد فيه . ويجوز إذن القول بأن الغلط إذا كان غير مغتفر كان هذا قرينة قضائية على جهل المتعاقد الآخر به وعلى أنه لم يكن من السهل عليه أن يتبينه .
( [312] ) هذا وقد رأينا أن المادة 167 من المشروع التمهيدي كانت تنص على حالة رابعة اغفلها المشروع النهائي لأنها تندرج في الحالات الأخرى ، وهي حالة ما إذا كان المتعاقد الآخر ، ولو لم يرتكب خطأ ، قد جر المتعاقد الأول بموقفه إلى الوقوف في الغلط .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ما يأتي : " كان من واجب المشرع أن يقطع برأي معين في مسألة المفاضلة بين اشتراط الغلط المشترك ، وهو مما يقوم بذهن العاقدين معاً ، والاجتراء بالغلط الفردي . وقد اكتفى المشروع بالغلط الفردي بوجه عام . بيد أنه اشترط لترتيب حكم الغلط عند عدم اشتراك طرفي التعاقد فيه ، أن يكون أحدهما قد جر الآخر إليه بموقفه ، أو أن يكون عالماً بوقوعه ، أو أن يكون من السهل عليه أن يتبينه . ويلاحظ أن المتعاقد الآخر في هذه الفروض الثلاثة ينسب إليه أمر يرتب مسئوليته ، وهذا ما يبرر طلب البطلان . أما إذا بقى بمعزل عن ظروف الغلط ، بأن وقف موقوفاً لا يجر إلى الوقوف فيه أو امتنع عليه العلم به أو تبينه ، فلا يجوز التسليم ببطلان العقد إلا إذا سلم بوجوب تعويض هذا المتعاقد ، عملا بنظرية الخطأ في تكوين العقد ، وهذا هو ما اتبعه التقنين الألماني . . . ما المشروع فقد ذهب إلى ما هو أيسر من ذلك ، فبدلا من أن يخول من وقع في الغلط حق التمسك بالبطلان ، ثم يلزمه في ذات الوقت بتعويض ما يصيب العاقد الآخر من خسارة ، جعل للعقد حكم الصحة وهيأ بذلك اجدى تعويض لهذا العاقد . وليس هذا إلا تطبيقاً تشريعياً خاصاً لنظرية الخطأ في تكوين العقد . . هذا وينبغي التنويه بأمرين : ( أولهما ) أن الغلط الذي يبرر إبطال العقد ، وهو ما يشترك فيه المتعاقدان ، أو يتسبب فيه أحدهما ، أو يعلم به ، أو يكون في مقدوره أن يعلم به ، قد يلقب اصطلاحاً " بالغلط المغتفر " . ويصبح الغلط " غير مغتفر " ، ولا يؤدى بذلك إلى إبطال العقد ، إذا وقع فيه أحد المتعاقدين دون أن يشاركه فيه المتعاقد الآخر ، أو يجره إليه ، أو يعلم به ، أو يستطيع العلم به . ( والثاني ) أنه لا يقصد بعلم الطرف الآخر بالغلط تبينه واقعة الغلط فحسب ، بل ووقوفه على أن هذا الغلط كان دافعاً إلى ابرا العقد " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 142 – ص 143 ) .
هذا ويلاحظ أن القانون الجديد ، باشتراطه اتصال المتعاقد الآخر بالغلط ، وباتخاذه قرائن موضوعية لإثبات الغلط في ذاته ، قد تخفف من النزعة النفسية المغرقة التي تميز نظرية الغلط في المدرسة اللاتينية . وقد يرى بعض انصار هذه المدرسة في هذا ابتعاداً عن التقاليد اللاتينية ، ولكنه ابتعاد تبرره الرغبة في استقرار التعامل ، وهو على كل حال ليس ابتعاداً عن تقاليد الفقه والقضاء في مصر . والصلة ظاهرة بين القرائن الموضوعية التي تثبت الغلط وبين اتصال المتعاقد الآخر بالغلط ، فإن هذه القرائن الموضوعية كثيراً ما تثبت الغلط وتثبت اتصال المتعاقد الآخر به في وقت واحد .
( [313] ) أنظر في هذا المعنى الدكتور حلمي بهجت بدوي ص 190 هذا ، وحتى يتيسر للمتعاقد الذي وقع في الغلط أن يثبت ما يجب عليه إثباته ، يلجأ في أكثر الأحيان إلى أن يبين في العقد صراحة ما قام في ذهنه من الاعتبارات التي دفعته إلى التعاقد ، كأن يذكر الوصف الذي اعتبره في الشيء أو في الشخص أو الباعث الذي حمله على أن يتعاقد أو القيمة التي يقدرها للشيء ، حتى يثبت بذلك علم المتعاقد الآخر بالدوافع التي ساقته إلى التعاقد ، فإذا تبين بعد ذلك أنه كن واهما فيما قدره ثبت في الوقت ذاته أن المتعاقد الآخر كان عالما بما وقع فيه من الغلط . والقضاء الفرنسي يلجأ في كثير من أحوال الغلط إلى الاستناد إلى أن الشيء الذي وقع فيه الغلط كان محل بيان في العقد .
ونص القانون الجديد واضح في أن المطلوب إثباته هو أن يكون المتعاقد الآخر واقعاً في ذات الغلط الجوهري الذي وقع فيه المتعاقد الأول ، أو أن يكون على علم بهذا الغلط الجوهري أي على علم بان الغلط كان هو الدافع إلى التعاقد ، أو أن يكون من السهل عليه أن يتبين أن هذا الغلط الجوهري هو الذي ساق إلى إبرام العقد . وهذا معناه أن الغلط الجوهري يجب أن يقع في دائرة التعاقد ( dens le champs contractual ) . وكان من الممكن أن يقف القانون عند هذا الضابط الأخير ( أنظر الدكتور حلمي بهجت بدوي ص 190 ) ، لولا أن الحالات الثلاث التي فصلها النص يحسن تمييز كل حالة منها عن الأخرى لأهمية ذلك من الناحيتين العملية والقانونية .
أما الناحية العملية فأمرها ظاهر ، إذ التفصيل يرسم في ؟؟ صورة عملية من هذا الضابط . فلو اقتصر القانون على أن يذكر أن الغلط الجوهري يجب أن يقع في دائرة التعاقد لاحتاج النص إلى بيان وتفسير ، ولا يتم التفسير إلا بتفصيل هذه الحالات الثلاث ، ولعاب النص فوق ذلك أن تكون صيغته أدنى إلى الفقه النظري منها إلى التشريع العملي .
وأما الناحية القانونية فتستلزم تفصيل الحالات الثلاث لأن أحكامها ليست واحدة . فالحالة الأولى ، وهي حالة الغلط المشترك ، لا محل فيها للتعويض على المتعاقد الذي وقع في الغلط ، وبحسبه أن يبطل العقد ، ما دام المتعاقد الآخر كان مثله واقعاً في الغلط أي كان حسن النية . أما الحالتان الآخريان – وهما حالة علم المتعاقد الآخر بالغلط وحالة سهولة تبينه للغلط – فقد يكون فيهما محل للتعويض عن الضرر الذي أصابه من جراء سوء نية المتعاقد الآخر في حالة علمه بالغلط ، أو من جراء تقصيره في حالة ما إذا كان من السهل عليه أن يتبين الغلط . ( أنظر بلانبول وريبير وإسمان 1 فقرة 189 ) ، والتعويض أقرب مثالا في الحالة الثانية منه في الحالة الثالثة .
( [314] ) ومن ذلك يتبين أن محكمة استئناف مصر كان في استطاعتها أن تلجأ الىهذا المبدأ لتبرير حكم أصدرته على الوجه الآتي : " إذا باع شخص عقاراً لتسديد دين مورثه ، وظهر له بعد ذلك أنه ليس مديناً ، فلا يجوز له أن يرفع دعوى ببطلان البيع للغلط لأنه كان يجهل براءة مورثه من الدين ، وذلك لأن الغلط في هذه الحالة يكون في الباعث له على التعاقد لا في سببه . والغلط في الباعث لا اثر له في صحة العقد اخذاً بالنظرية التقليدية للغلط الذي يعيب الإرادة . أما إذا أخذ بما استحدثه القه والقضاء من أن الغلط المؤثر في صحة العقد هو الحاصل في الدافع الرئيسي إلى التعاقد ، ومن ثم لا يعود هناك محل للتفرقة بين السبب والباعث ، فإنه إذا تبين من ظروف الأحوال أن الدائن قد خاصم هذا الوارث بعد وفاة المورث من أجل هذا الدين ، وانه أخذ في تدسدي الدين فعلا ، وانه في سبيل هذا التسديد باع عقاره أخيراً ليسدد ما اعتقد أنه باق من الدين في ذمته ، دون أن يعني بتحقيق هذا المسألة ومحاسبة الدائن ، و :أنه قبل التعاقد وهو في دخيلة نفسه يتحمل تبعة ما ينجلي عنه الواقع ، في هذه الصورة لا يعتبر العقد باطلا للغلط إذا اخلف الواقع ظنه ، لأن الواقع لم يخالف إرادته الفعلية بل هو خيب مجرد الأمل الذي يجول في خاطره دون أن يرقى إلى منطقة الإرادة " ( 5 ديسمبر سنة 1945 المحاماة 29 رقم 104 ص 150 ) . ولو أن المحكمة قالت إن المشتري من الوارث لم يشترك في هذا الغلط الدافع ولم يعلم به ولم يكن من السهل عليه أن يتبينه لوصلت إلى عين النتيجة عن طريق قانوني سليم .
أما محكمة الاستئناف المختلطة فكانت أكثر توفيقاً في إبراز المعنى الصحيح حين قالت : " لا يجوز للقضاء أن يبطل عقداً لمجرد أن أحد المتعاقدين قد وقع في غلط ما دام المتعاقد الآخر كان حسن النية وكان يجهل هذا الغلط ولم يكن واجباً عليه أن يتحقق ، وجوده " ( أول يونيه سنة 1943 م 55 ص 171 ، وانظر حكماً آخر من محكمة الاستئناف المختلطة في 24 يناير سنة 1939 م 51 ص 126 ) .
( [315] ) تاريخ النص : ورد هذا النص كما هو في المادة 171 من المشروع التمهيدي . وأقرته لجنة المراجعة ، وأصبح رقم المادة 128 في المشروع النهائي . ووافق مجلس الشنواب على المادة دون تعديل . وقررت أغلبية لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ استبقاء النص دون تعديل ، وأصبح رقم المادة 124 . وتبين من مناقشات هذه اللجنة أن النص يعتبر تطبيقاً لنظرية التعسف في استعمال الحق . ووافق مجلس الشيوخ على النص كما أقرته لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 166 – ص 170 ) . وانظر المادة 25 من قانون الالتزامات السويسري والمادة 38 من قانون لالتزامات البولوني . وانظر أيضاً حكم محكمة الاستئناف المختلطة في 3 ابريل سنة 1934 م 46 ص 224 .
( [316] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد المادة 124 ما يأتي : " ابيح لمن وقع في الغلط أن يطلب بطلان العقد لأنه لما كان ليتعاقد لو أنه تبين وجه الأمور وقدرها تقديراً معقولا . تلك هي علة حق التمسك بالبطلان ، وهي بذاتها مرجع حدوده . فمتى كان من المحقق أن العاقد قد أراد أن يبرم عقداً ، فمن الواجب أن يلتزم بهذا العقد ، بصرف النظر عن الغلط ، ما دام أن العاقد الآخر قد اظهر استعداده لتنفيذه . وعلى ذلك يظل من يشتري شيئاً ، معتقداً خطأ أن له قيمة أثرية ، مرتبطاً بعقد العبي ، إذا عرض البائع استعداده لأن يسلمه نفس الشيء الذي انصرفت نيته إلى شرائه . ويقارب هذا الوضع ما يتبع في تحويل العقود كما سيأتي بيان ذلك " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 167 ) . وسنرى عند الكلام في تحويل العقد إلى أي حد يتقارب الوضعان المشار إليهما في المذكرة الإيضاحية وإلى أي حد يختلفان .
( [317] ) أنظر في التمييز بين التدليس المدني والتدليس الجنائي حكم محكمة الاستئناف المختلطة في 8 مايو سنة 1934 م 46 ص 282 .
( [318] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 173 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 - يكون التدليس سبباً في بطلان العقد إذا كانت الحيل التي لجأ إليها أحد المتعاقدين ، أو شخص ينوب عنه ، أو أجنبي اشترك معه في هذه الحيل ، من الجسامة بحيث لولاها لم يبرم الطرف الثاني العقد . 2 - ويعتبر سكوت أحد المتعاقدين عمداً عن واقعة أو ملابسة يجهلها المتعاقد الآخر سكوتاً تدليسياً إذا ثبت أن العقد ما كان ليتم لو علم هذا المتعاقد بهذه الواقعة أو تلك الملابسة " . وفي لجنة المراجعة تقرر حذف عبارة " أو أجنبي اشترك معه فيه " من الفقرة الأولى لأن حكمها مستفاد من المادة التالية ، وتقررت إعادة صياغة المادة بفقرتيها بحيث أصبحت مطابقة لنص القانون الحديد . وأصبح رقم المادة 129 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة بعد استبدال عبارة " لما أبرم " في الفقرة الأولى بعبارة " لم يبرم " ووافقت لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ على المادة دون تعديل ، وأصبح رقمها 125 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 171 – ص 174 ) . وانظر المادة 21 من المشروع الفرنسي الإيطالي ، والمادتين 56 / 52 من التقنينين التونسي والمراكشي ، والمادة 94 من التقنين البرازيلي .
( [319] ) أنظر المادة 209 من قانون الالتزامات اللبناني ، وانظر تاريخ النص فيما يلي ( فقرة 184 ) .
( [320] ) والذي يطلب من المتعاقدين إبطال العقد للتدليس هو الذي يحمل عبء إثبات هذا التدليس بعنصريه . ويثبت ذلك بجميع طرق الإثبات ، بما في ذلك البينة والقرائن ، حتى لو كان العقد المطعون فيه بالتدليس مكتوباً لأن التدليس واقعة مادية ( استئناف مختلط في 13 نوفمبر سنة 1934 م 37 ص ) – محكمة بني سويف الجزئية في 4 نوفمبر سنة 1899 المحاكم 11 ص 2177 ) .
ووقوع التدليس مسألة موضوعية ، لقاضي الموضوع فيها الرأي النهائي . ولكن الوصف القانوني لوقائع التدليس مسألة قانونية تخضع الرقابة محكمة النقض ، وذلك كالبت فيما إذا كان مجرد الكذب أو الكتمان يكفي للتدليس ، وفيما إذا كان التدليس اصادر من الغير يؤثر في صحة العقد ( نقض مدني في 18 مايو سنة 1 933 مجموعة عمر 1 رقم 123 ص 214 – وفي 20 فبراير سنة 1936 مجموعة عمر 1 رقم 327 ص 1049 ) .
( [321] ) وقد ورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد المادتين 125 و 126 ما يأتي : " يشترط في التدليس إذا صدر من أحد المتعاقدين ، سواء أصدر من المتعاقد نفسه أم من نائبه أم من شريك له ، أن ينطوي على حيل . بيد أن هذه الحيل تختلف عن مسيها في النصب الجنائي ، إذ يكفي فيها مجرد الامتناع من جانب العاقد ، كسكونه عمداً عن واقعة جوهرية يجهلها العاقد الآخر . والواقع أنه ليس ثمة تطابق بين تعريف التدليس المدني والتدليس الجنائي . ومهما يكن من أمر ، فليس ينبغي أن يعتد في تقدير التدليس بما يسترسل فيه المتعاقد من آراء بشأن ما للتعاقد من مزايا أو عيوب ، متى كانت هذه الآراء من قبيل الاعتبارات العامة المجردة عن الضبط والتخصيص ( أنظر المادة 667 من التقنين الألماني ) . ويشترط كذلك أن تكون الحيل إلى تقدمت الإشارة إليها قد دفعت من ضلل بها إلى التعاقد . ومناط التقدير في هاذ الصدد نفسي أو ذاتي ، كما هي الحال بالنسبة لعيوب الرضاء جميعاً " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 172 ) .
( [322] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن الجمعية التي تتخذ لها مظاهر من الإعلان توهم أن أعضاءها مسئولون شخصياً عن التزاماتها ترتكب تدليساً يبطل التعاقد الذي يتم بينها وبين الغير ( 3 ابريل سنة 1929 م 41 ص 333 ) . ويكون باطلا للتدليس عقد التامين الذي يتقدم فيه شخص آخر غير المؤمن له للكشف الطبي ( استئناف مختلط في ) ديسمبر سنة 1925 م 38 ص 90 ) . وإذا اظهر الدائن ما من شأنه إيهام الكفيل بقيام المدين بتعهداته فجدد الكفيل كفالته تحت تأثير هذا الإيهام ، فالتجديد قابل للإبطال ( محكمة الاستئناف الوطنية في 30 مارس سنة 1893 الحقوق 8 ص 75 – أنظر حكماً آخر لهذه المحكمة في 25 ابريل سنة 1922 المحاماة 3 ص 22 ) . وانظر نظرية العقد للمؤلف ص 393 حاشية رقم 1 .
( [323] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 3 ابريل سنة 1897 م ) ص 263 – وفي 8 ديسمبر سنة 1915 م 28 ص 48 .
( [324] ) وقد قضت محكمة مصر الكلية الوطنية بأن التأكيدات غير الصحيحة التي تصدر من أحد المتعاقدين ويكون لها على الطرف الآخر التأثير الذي يحمله على قبول التعاقد من شأنها أن تجعل العقد قابلا للإبطال متى تثبت أنه لولا هذه التأكيدات لما حصل الرضاء ( 24 يناير سنة 1923 المحاماة 3 ص 281 ) . وقضت محكمة اسيوط الكلية بأن الكذب للتحايل للحصول على عمل بإعطاء بيانات غير صحيحة عن كفاية الطالب وخدماته السابقة من شأنها أن يؤثر التأثير الكافي في رضاء من تم التعاقد معه على العمل ، وبذلك يكون العقد قابلا للإبطال ( 29 مارس سنة 1928 المحاماة 9 ص 555 ) .
( [325] ) على أن الأصل هو أن مجرد الكذب لا يكفي للتدليس ما لم يتبين بوضوح أن العاقد المخدوع لم يكن يستطيع استجلاء الحقيقة بالرغم من هذا الكذب ، فإذا كان يستطيع ذلك فلا تدليس ( محكمة الاستئناف المختلطة في 8 ابريل سنة 1897 م 9 ص 263 – وفي 9 مارس سنية 1898 م 10 ص 184 – وفي 8 ديسمبر سنة 1915 م 28 ص 48 – محكمة المنيا الجزئية في 3 أكتوبر سنة 1922 المحاماة 5 ص 267 ) . ويلاحظ أنه كثيراً ما يعتبر إعطاء بيانات كاذبة لشركة التايمن تدليساً يبطل العقد ، كما إذا ذكر المؤمن له وهو بحار أنه مزارع فيخفي بذلك عن الشركة الأخطار التي تنجم عن مهنته ( محكمة الاستئناف المختلطة في 28 مايو سنة 1919 م 31 ص 316 ) ، وكما إذا ذكر المؤمن له بيانات كاذبة عن تاريخ صنع السيارة المؤمن عليها وتاريخ شرائها ( محكمة الاستئناف المختلطة في 26 فبراير سنة 1930 م 42 ص 325 ) . وتعتبر المبالغة عن سوء نية في قيمة الشيء المؤمن عليه أو في مقدار الضرر الحاصل تدليساً ( محكمة الاستئناف المختلطة في 25 مايو سنة 1893 م 5 ص 269 – وفي 13 فبراير سنة 1929 جازيت 20 ص 79 – وفي 4 فبراير سنة 1931 م 43 ص 203 – وفي 2 فبراير سنة 1933 م 45 ص 154 ) . أما المبالغة عن حسن نية فلا تكون تدليساً بشرط إلا يصر عليها المؤمن له بعد أن يتبين الحقيقة . كذلك إذا أخفى المؤمن له نفسه وذكر اسم شخص آخر ، فإن هذا البيان الكاتب يعتبر تدليسا ( محكمة الاستئناف المختلطة في 25 مايو سنة 1893 م 5 ص 269 – 2 فبراير سنة 1933 م 45 ص 154 ) .
( [326] ) أنظر مثلا المادة 746 من القانون المدني الجديد في التأمين على الحياة .
( [327] ) مثل ذلك أن يصطلح وارث مع مدين للتركة ، ويكتفي الوارث بأخذ جزء من الدين وهو يجهل أن هناك تأميناً يضمن الدين كله ، ويعلم المدين جهل الوارث بذلك فيكتم عنه أمر الضمان حتى يحمله على هذا الصلح ، وكأن يبيع شخص لآخر منزلا ويكتم عنه أن هذا المنزل قد شرع في نزع ملكيته للمنفعة العامة . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بان بائع العقار إذا كتم عن المشتري أن هذا العقار مستحق كلياً أو جزئياً وهو يعلم بذلك ، أو أخفى عنه ما يثقل العقار من الحقوق ، كان هذا تدليساً ( 11 فبراير سنة 1909 م 21 ص 227 ) . ولكن مجرد علم البائع أن دعوى استحقاق رد رفعت ضده ، فلا يخير المشتري بذلك دون أن تكون عنده نية التدليس ، بل وهو لصحيح الاعتقاد بملكيته وبملكية من باع له ، لا يعد تدليسا ، وبهذا قضت محكمة النقض وقالت في أسباب حكمها ما يأتي : " وحيث إنه حتى إذا أخذ في مثل صورة الدعوى بالتدليس السلبي ، واعتبر المدعى عالما بدعوى الاستحقاق ، واستنتج علمه من وصول إعلان الدعوى المختلطة إليه في حينه وقبل تحرير العقد الابتدائي . فإن ما جاء على لسان البائع من أن المبيع خال من جيمع الرهون والحكر والحقوق العينية كانت وما جاء به من أنه مكلف بتقديم مستندات التمليك قبل العقد النهائي ومن قيام هذا البائع بتسليم عقد البيع الرسمي الصادر له من البائعين وكشفو خلو العين المبيعة من التصرفات على ما سبق تفصيله بصدر هذا الحكم – ما جاء من ذلك يدل على أن البائع كان صحيح الاعتقاد بملكيته وملكية من باع له ، وانه ليس في حاجة إلى أن يخدع المشترية بكتمان دعوى الاستحقاق أمام المحكمة المختلطة لأن الملك على كل حال هو من ضمانه وضمان بائعيه ، فإذا استحق عليه أن على المشتريه منه كان له عند ذلك أن ترفع دعوى الضمان فسخاً للبيع والزماً له بالتضمينات " ( نقض مدني في 20 فبراير سنة 1936 مجموعة عمر 1 رقم 327 ص 1094 ) .
وقضت محكمة النقض بأنه إذا تعاقد شخص مع شركة تأمين على التأمين عن البضائع الموجودة بمحله من السرقة ، وقرر كذباً في اجابته عن الأسئلة المدونة في طلب التأمين أنه يقيد مشترياته ومبيعاته في سجل خاص وانه يحتفظ بقائمة جرد بضاعته ، وكان منصوصا ًفي وثيقة التأمين على بطلان عقد التأمين إذا كان ما قرره طالب التأمين غير صحيح ، ثم استخلص الحكم استخلاصا سائغاً أن البيانات المشار إليها هي بيانات جوهرية ذات اثر في تكوين التعاقد ، ورتب على عدم صحتها سقوط حق المؤمن له في مبلغ التأمين إعمالاً لنص العقد ، فإنه لا يكون أخطأ في تطبيق القانون . ولا يغير من ذلك أن البيان الكاذب لم يكن له دخل في وقوع الخطر الذي حصل من اجله التأمين ( نقض مدني 14 ابريل سنة 1949 مجموعة عمر 5 رقم 408 ص 756 – ملاحظة : تنص المادة 750 من القانون المدني الجديد على بطلان كل شرط تعسفي يرد في وثيقة التأمين ، ويتبين أنه لم يكن لمخالفته اثر في وقوع الحادث المؤمن منه ) . ولكن محكمة النقض قضت من جهة أخرى بأنه إذا ابطلت المحكمة التعاقد على التأمين تأسيساً على أن تقرير المؤمن له أن لديه دفاتر منظمة لقيد مشترياته ومبيعاته وقائمة لجرد البضاعة يراجعها بانتظام لم يكن صحيحا ، وأن الدفتر الذي ظهر أنه يعنيه غير باعث على الاطمئنان لعدم انتظامه ووجود شطب فيه ، وأن تقريره هذا كان في خصوص أمر جوهري لتعلقه بسجل هو المرجع الرئيسي لتعيين ما على شركة التأمين أن تؤدي إليه في حالة وقوع الخطر المؤمن منه ، فهذا منها قصور في تسبيب حكمها ، إذ أن عدم انتظام القيد في الدفاتر لا يؤدي عقلا إلى القول بكذب التقرير بوجود دفاتر ، بل كل ما يترتب عليه هو التأثير في قوة الدفتر كأداة إثبات . وإذ أن المحكمة حين اعتبرت البيان عن السجل وقائمة الجرد جوهرياً لتعلقه بإثبات الضرر الذي يلحق المؤمن له من وقوع الخطر المؤمن منه وانه يحدد فيما بين العاقدين طريقة إثباته ، لم تبن ذلك على اعتبارات من شأنها أن تبرره ، وخصوصاً أن عبء إثبات الضرر يقع دائماً على المؤمن له دون الشركة المؤمنة ، مما مفاده أن تعلق ذلك البيان بالإثبات ليس من شأنه أن يفيد أنه جوهري له ( نقض مدني في 16 مايو سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 76 ص 172 ) .
( [328] ) وقد قضت محكمة النقض بأن مجرد الكتمان لا يبلغ أن يكون تدليساً ما لم يقترن بحيلة غير مشروعة ( نقض مدني في 25 فبراير سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 29 ص 59 ) . وقضت محكمة استئناف اسيوط بأن مجرد الكتمان لا يكفي اعتباره غشاً وتدليساً ما دام الأمر الذي تعمد أحد العاقدين كتمه على المتعاقد معه يمكن لهذا أن يعرفه من طريق آخر ( استئناف أسيوط في 12 فبراير سنة 1942 المحاماة 22 رقم 244 ص 698 ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه لا يعتبر تدليساً كتمان الدائن المرتهن عن مشتري العقار المرهون أن هناك رهناً آخر على العقار لم يكشف عنه صاحب العقار المرهون ( 26 يدسمبر سنة 1940 م 53 ص 51 : ويلاحظ أن الاتفاق الذي لا يعتبر الكتمان فيه تدليساً في هذه القضية هو اتفاق المشتري مع الدائن المرتهن على أن يدفع له جزءاً من الثمن سداداً لحقه في نظير موافقته على البيع ، والكتمان لا يعتبر هنا تدليساً لأن المشتري كان يستطيع من طريق الكشف عن العقار معرفة الرهن الثاني ) .
ومن جهة أخرى قضت محكمة النقض بأنه إذا أخفى شريك على شريكه وهو يقتسم معه أن الأطيان التي يأخذها هذا الشريك هي أطيان مرفوع بها دعوى استحقاق من جهة وقف بحيث لو علم الحقيقة وأن معظم ما اختص به بمقتضى عقد القسمة يدخل في مستندات الوقف وأن معظم ما اختص به شريكه يخرج عنها لما رضى بالقسمة ، فإن هذا يكفي لاعتباره في حكم المادة 136 مدني ( قديم ) حيلة تفسد رضاء من خدع بها ( مستفاد من حكم لمحكمة النقض في دائرتها المدنية في أول ديسمبر سنة 1949 ، طعن رقم 69 سنة 18 قضائية ولم ينشر بعد – هذا وفي وقائع هذه القضية أن الشريط زاد على مجرد الكتمان أنه اخبر شريكه أن ما يختص به غير مهدد بخطر الاستحقاق ) . وقضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأنه إذا تبين أن المشتري كان تحت تأثير ما ذكره البائع له من بيانات خاصة بدين الدائن على العقار المبيع وعدم استحقاق شيء منه ولا من فوائده وقت تحرير العقد ، فأثر ذلك في نفسه ودفعه التعاقد ، ولم يكن يعلم أنه أدخل عليه الغش والتدليس بأن كتم وأخفى عنه مقدار الفوائد المستحقة على العقار قبل تحرير عقد البيع كما أخفى عليه ما اشترطه الدائن من حق الاحتفاظ بالمطالبة بالدين والفوائد عند التقصير في دفع الفوائد في مواعيدها ، الأمر الذي أدى إلى حلول جميع الدين وترتب عليه نزع ملكية العقار ورسا مزاده على الدائن ، فمثل هذه التصرفات هي نوع من الغش والتدليس الموجب لبطلان العقد ( 31 ديسمبر سنة 1936 المحاماة 17 رقم 312 ص 645 : وهنا أيضاً جاوز البائع مجرد الكتمان إلى الكذب عن طريق بيانات غير صحيحة أدلى بها للمشتري ) .
( [329] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن كتمان المؤمن على حياته لمرض أصابه قبل التأمين يعد تدليساً ( 9 ديسمبر سنة 1925 م 38 ص 90 ) . وكذلك يعد تدليساً كتمان المؤمن له عن شركة التأمين أن شريكه كان قد توعده أمام شهود باحراق متجره ، لأن هذا الكتمان من شأنه أن يؤثر في تقدير التبعة ( استئناف مختلط في 5 فبراير سنة 1930 جايزت 20 ص 79 ) .
( [330] ) على أن هذا لا يمنع من وقوع المتعاقد الآخر في الغلط ، ويبطل العقد للغلط لا للتدليس . ويعرف القانون الانجليزي ما يسميه بالتصوير غير الصحيح ( misrepresentation ) وهو قريب من حالتنا هذه ، إذ يعلن أحد المتعاقدين الآخر معلومات غير صحيحة ، ولكن عن حسن نية ، فيبطل العقد للغلط لا للتدليس .
( [331] ) أنظر نظرية الالتزام للدكتور أحمد حشمت أبو ستيت فقرة 171 ص 123 .
( [332] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 3 يونية سنة 1911 م 23 ص 351 – 18 نوفمبر سنة 1925 م 38 ص 54 – 31 يناير سنة 1934 م 46 ص 147 – محكمة مصر الكلية الوطنية في 4 يناير سنة 1923 المجموعة الرسمية 25 رقم 15 / 3 .
( [333] ) مثل ذلك أن يطلع بائع العقار المشتري على عقود إيجار لهذا العقار ، وهي عقود مصطنعة أو قديمة يريد أن يوهمه بها أن ريع العقار مرتفع ، فإذا حمله بذلك على شراء العقار بثمن عال كان للمشتري أن يطلب تعويضاً من البائع هو زيادة الثمن الذي دفعه عن الثمن الذي كان يدفعه لو علم بحقيقة الأمر . وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن بائع السند بثمن مقسط إذا لم يستوف الاقساط الواجبة الدفع ، وأنذر المشتري بفسخ البيع بعد أن ربح السند المبيع الجائزة الكبرى ، وحمل المشتري بذلك ، بعد أن أوهمه أنه يستطيع فسخ البيع ، على أن يصطلح معه على شروط باهظة ما كان يقبلها لولا هذا التدليس ، يكون قد ارتكب تدليساً غير دافع ، ويلتزم بدفع تعويض هو الفرق بين ما قبله المشتري وما كان يقبله لو كان التعامل على غير غش ( 31 ديسمبر سنة 1929 م 42 ص 134 – 20 مارس سنة 1935 م 47 ص 362 ) . وقد يحدث أن من يعرض شيئاً ليبيعه في المزاد يتفق مع شخص على أن يتقدم في المزاد – ويزاد عليه مزايدة وهمية ، فإذا فعل ذلك وقدم عطاء اكبر ، فهذا العطاء الوهمي قد يكفي لإلغاء العطاء الذي سبقه ، ويكون لصاحب العطاء السابق حق طلب التعويض للغش أو التمسك بصورية العطاء الأكبر . أما إذا نجحت الحيلة وتقدم شخص وزاد على العطاء الوهمي ورسا عليه المزاد ، فله أن يطعن في العقد بالتدليس ، ويكون التدليس هنا غير دافع يستوجب التعويض لا إبطال العقد ( ديموج 2 فقرة 608 مكررة ) .
( [334] ) وقد أشتمل المشروع التمهيدي على نص في هذا المعنى . فقد قضت المادة 175 من هذا المشروع بما يأتي : " التدريس الذي يجعل العقد اثقل عبئاً دون أن يكون هو الدافع إلى التعاقد لا يعطي للمدلس عليه إلا الحق في مطالبة المدلس بالتعويض " . وجاء في المذكرة الإيضاحية بصدد هذه المادة ما يأتي : " إذا لم يكن من اثر التدليس دفع من دلس عليه إلى التعاقد ، وإنما اقتصر أمره على استدراجه إلى قبول شروط اشد وقراً مما كان يقبله لو تبين حقيقة الواقع ، فلا يعتبر عيباً من عيوب الرضاء ، بل يعتبر تقصيراً أو خطأ من جانب المدلس تترتب عليه مسئوليته ، ويعطي الحق في طلبه التعويض ، سواء اوقع التدليس من أحد المتعاقدين أم من أجنبي عن العقد " . وقد حذف هذا النص في المشروع النهائي لأنه يقرر حكماً يكفي فيه تقرير قواعد المسئولية ( أنظر في كل ذلك مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 175 في الهامش ) .
( [335] ) أنظر في هذا المعنى بلانيول وريبير وبولانجيه طبعة سنة 1949 فقرة 228 . ومع ذلك أنظر نظرية العقد للمؤلف فقرة 384 . ويلاحظ أن هناك وجهاً للتوفيق بين من يقول بهذا التمييز ومن لا يقول به . ففي التدليس غير الدافع إذا اختار العاقد المخدوع إبطال العقد وفقاً لرأي القائلين بعدم التمييز ، جاز للعاقد الآخر أن يعوضه عن الضرر الذي أصابه بسبب التدليس فيمنعه بذلك من إبطال العقد . ونحن نقيس في ذلك التدليس على الغلط في ا ، كلا منهما لا يجوز التمسك به على وجه يتعارض مع حسن النية . ومتى استقام هذا الحل اقتصر لعاقد المخدوع على التعويض وفقاً لكل من الرأيين ( قارن محكمة الاستئناف المختلطة في 7 مارس سنة 1946 م 58 ص 60 ) .
( [336] ) والتون 1 ص 252 – ص 254 – الدكتور محمد صالح في أصول التعهدات فقرة 285 ص 242 – الدكتور محمد وهيبة ص 195 – دي هلنس 1 لفظ ( convention ) فقرة 64 – هالتون 1 ص 320 – ص 321 – فتحي زغلول ص 133 – محكمة الاستئناف المختلطة في 15 مايو سنة 1912 م 24 ص 341 – وفي 29 مايو سنة 1913 م 25 ص 417 – محكمة المنيا الجزئية في 3 أكتوبر سنة 1922 المحاماة 3 رقم 130 ص 182 – 18 ديسمبر سنة 1930 المحاماة 11 رقم 439 ص 849 .
وقد قضت محكمة النقض بأن التدليس الحاصل من أجنبي بطريق التواطؤ مع أحد المتعاقدين يفسد الرضاء كالتدليس الحاصل من المتعاقد نفسه ( نقض مدني في 18 مايو سنة 1933 مجموعة عمر 1 رقم 123 ص 214 ) . فلم تعتد محكمة النقض التدليس الصادر من أجنبي إلا أنه متواطئ مع أحد المتعاقدين .
وقد خالف هذا الرأي في ظل القانون القديم فقهاء قالوا بعدم التمييز ما بين تدليس صادر من أحد المتعاقدين وتدليس صادر من الغير : أنظر نظرية العقد للمؤلف فقرة 386 – فقرة 392 – الدكتور حلمي بهجت بدوى فقرة 128 – الدكتور عبد السلام ذهني ص 128 – ص 130 .
( [337] ) فقد كان " البريطور " في القانون الروماني يعطي الدعوى والدفع فيما يختص بالتدليس ضد الشخص الذي صدر منه التدليس . فإذا ما داخل العقد تدليس صادر من الغير لم يكن للمتعاقد الذي وقع في التدليس إلا الرجوع علىهذا الغير ، ولا رجوع له على المتعاقد الآخر ، فيبقى العقد صحيحاً لا سبيل إلى ابطاله . وهذا بخلاف الإكراه فإنه حتى إذا وقع من الغير يمكن الاحتجاج به ضد المتعاقد الآخر ( جيرار طبعة سادسة ص 471 ) .
( [338] ) أنظر محاولة للدفاع عن هذا التمييز ما بين التدليس والإكراه ونقد هذه المحاولة في نظرية العقد للمؤلف ص 409 حاشية رقم 5 .
( [339] ) وكنا نأخذ بهذا الرأي في ظل القانون القديم وقد سبقت الإشارة إلى ذلك . وفي رأينا أن المشرع المصري في القانون القديم أراد العدول عن القاعدة الفرنسية التي تقضي بأن التدليس يجب أن يكون صادراً من الغير ، لأنها قاعدة منتقدة كما رأينا ، فأورد النص الفرنسي للمادتين 136 / 196 ، وهو النص الأصلي وإن لم يكن النص الرسمي ، قاطعاً في أنه لا يشترط أن يكون التدليس صادراً من الغير . ثم ترجم هذا النص إلى العربية ، ولكن المترجم تصرف فيه ، فيدلا من أن يتقيد بالأصل فيذكر أن " التدليس يعيب الإرادة إذا كانت الحيل المستعملة ضد المتعاقد جسيمة . . " ، ذكر أن " التدليس يعيب الرضاء إذا كان رضاء أحد المتعاقدين مترتباً على الحيل المستعملة له من المتعاقد الآخر . . . " . فهو لما أورد لفظ " رضاء " وأسندها إلى " أحد المتعاقدين " انساق إلى ذكر " المتعاقد الآخر " بشيء من المقابلة الطبيعية . ولعله يكون قد فهم خطأ من النص الفرنسي الذي ترجمه أن الحيل المستعملة ضد أحد المتعاقدين هي حيل صادرة من المتعاقد الآخر ، وأن هذا يفهم من مدلول النص . فجاءت الترجمة مخالفة للأصل . والواجب في هذه الحالة الأخذ بالنص الفرنسي دون النص العربي ، لأن النص الأول هو الذي يعبر بأمانة عن قصد المشرع ( نظرية العقد للمؤلف فقرة 386 ) .
( [340] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 174 من المشروع التهيدي على الوجه الآتي : " 1 – التدليس الصادر من غير المتعاقدين لا يعطي حقاً للمدلس عليه في طلب إبطال العقد ، ما لم يثبت أن الطرف الآخر كان يعلم ، أو اكن في استطاعته أن يعلم ، بهذا التدليس وقت إبرام العقد . 2 – فإذا كان الطرف الآخر لا يعلم ، أو ليس في استطاعته أن يعلم ، بصدور تدليس من الغير ، فلا يترتب على التدليس إلا تخويل المدلس عليه حق مطالبة المدلس بالتعويض " . وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذه المادة ما يأتي : " اختلفت المذاهب في شأن التدليس الصادر من الغير ، ففريق لا يرتب عليه بطلان العقد . . ، وفريق يجعل له حكم التدليس الصادر من المتعاقدين من حيث ترتيب البطلان . . ، وفريق يتوسط بين هذين المذهبين . . فيشترط لاعتبار التدليس الصادر من الغير عيباً من عيوب الرضاء ، أن يثبت من ضلل به أن الطرف الآخر كان يعلم به ، أو كان في استطاعته أن يعلم به ، وقت إبرام العقد . وفي هذا تطبيق خاص لنظرية الخطأ في تكوين العقد التي سبق تطبيقها فيما يتعلق بالغلط . وقد اختار المشروع ما اتبعه الفريق الثالث . ويراعى أنه إذا انصرفت منفعة من منافع العقد مباشرة إلى شخص غير العاقد ( كالمستفيد في اشتراط لمصلحة الغير ) فلا يجوز إبطال العقد بالنسبة له ، إلا إذا كان يعلم ، أو كان في إمكانه أن يعلم ، بالتدليس . . ويختلف عن ذلك حكم التبرعات ، فهي تعتبر قابلة للبطلان ، ولو كان من صدر له التبرع لا يعلم بتدليس الغير ولم يكن يستطيع أن يعلم به ، لأن نية التبرع يجب أن تكون خالصة من شوائب العيب . وغنى عن البيان أنه لا يكون لدى العاقد سبيل للانتصاف سوى دعوى المطالبة بالتعويض إذا لم يعلم العاقد الآخر بالتدليس أو لم يكن في مقدوره أن يعلم به " . وفي لجنة المراجعة تقرر حذف الفقرة الثانية من المادة لأنها تقرر حكماً يكفي فيه تقرير قواعد المسئولية ، وأعيدت صياغة المادة على الوجه الآتي : " إذا صدر التدليس من غير المتعاقدين فليس للمتعاقد المدلس عليه أن يطلب إبطال العقد ما لم يثبت أن المتعاقد الآخر كان يعلم أو كان في استطاعته أن يعلم بهذا التدليس " . وأصبح رقم المادة 130 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ استبدلت عبارة " أو كان من المفروض حتماً أن يعلم " بعبارة " أو كان في استطاعته أن يعلم " ، وأصبح رقم المادة 126 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 174 – ص 178 ) .
( [341] ) ويلاحظ أن القانون الجديد اشترط في التدليس والإكراه الصادرين من الغير ، إذا أريد التمسك بهما لإبطال العقد ، أن يثبت المتعاقد المدلس عليه أو المتعاقد المكره أن المتعاقد الآخر ، إذا لم يكن يعلم علما يقينياً بالتدليس أو بالإكراه ، فهو على الأقل مفروض فيه حتما أن يعلم بذلك . وهذا بخلاف الغلط ، فقد اكتفى القانون الجديد فيه بإثبات أن المتعاقد الآخر كان من السهل عليه أن يتبينه ، ولا يوجد سبب ظاهر لهذه التفرقة بين الغلط من جهة والتدليس والإكراه من جهة أخرى ، حتى يتحمل المتعاقد في الحالة الثانية عبئاً في الإثبات أثقل من العبء الذي يتحمله في الحالة الأولى . ولعله يكون في الحالة الأولى أولى بالرعاية : فمن جهته هو ليس للغلط عادة مظاهر مادية تبرر التشدد معه في الإثبات بينما أن للتدليس وللإكراه هذه المظاهر ، ومن جهة من تعاقد معه إذا وقع في غلط يكون أقل عذراً مما لو كان ضحية تدليس أو إكراه . ويبدو أن التفرقة لا مبرر لها ، ولا تفسر إلا بأن لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ عندما عدلت النصوص الخاصة بالتدليس والإكراه سهي عليها أن تجري تعديلا مماثلا في النصوص الخاصة بالغلط . ومن ثم يحسن عدم التشدد في إبراز هذه التفرقة عند التطبيق العملي .
( [342] ) ويصح القول هنا بأن القانون الجديد أخذ بالإرادة الظاهرة دون الإرادة الباطنة ، وعندئذ يقوم العقد على توافق الإرادتين .
( [343] ) أنظر في هذا المعنى محكمة الاستئناف المختلطة في 31 يناير سنة 1934 م 46 ص 147 .
( [344] ) اغفل القانون البرتغالي التدليس كعيب مستقل من عيوب الرضاء ( أنظر م 657 و 663 من هذا القانون ) . وكذلك فعل القانون النمساوي ( م 870 من القانون النمساوي القديم وم 55 من القانون النمساوي المعدل ) – أنظر أيضاً بلانيول 2 فقرة 1066 – ديموج 1 فقرة 364 – مذكرات الأستاذ ليفي إيلمان في الالتزامات في الربع الأول من القرن العشرين ص 394 .
( [345] ) محكمة الاستئناف الوطنية في 17 مايو سنة 1899 المحاكم 11 ص 2151 .
( [346] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وقد يصح التساؤل عن جدوى إقامة نظرية مستقلة للتدليس ما دام أن أثره في الإرادة يرد إلى ما يولد في ذهن العاقد من غلط يدفع به إلى التعاقد ، بمعنى أن ما يشوب الرضاء من عيب بسببه يرجع إلى الغلط لا إلى الحيلة . إلا أن لوجود التدليس مزيتين عمليتين : فإثباته أيسر من إثبات الغلط من ناحية ، وهو يخول حق مطالبة من صدر منه التدليس بالتعويض فضلا عن حق التمسك بالبطلان من ناحية أخرى " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 172 – ص 173 ) .
( [347] ) نظرية العقد للمؤلف ص 437 – ص 444 .
( [348] ) خلط القانون المدني الفرنسي في المادة 1112 بين المعيار الموضوعي والمعيار الذاتي . وسبب ذلك أن بوتييه عند بحثه في الإكراه ذكر أن القانون الروماني كان يتخذ لجسامة الإكراه معيار " الرجل الشجاع " ، وعقب على ذلك بأن قواعد الإكراه في القانون الروماني عادلة وهي تتفق مع القانون الطبيعي إلا هذا المعيار الشديد ، فإنه معيار جامد قاس ولا يصح اتباعه ، ولكن يجب النظر في هذه المسألة إلى سن الشخص وجنسه وحالته . فأخذ واضعو القانون المدني الفرنسي معيار القانوني الروماني الموضوعي بعد أن عدلوه ، فذكروا " الرجل المعتاد " بدلا من " الرجل الشجاع " ، ثم أضافوا إلى هذا المعيار الموضوعي معيار بوتييه الذاتي ، وفاتهم أن المعيبارين متعارضان ، وأن بوتييه إنما أراد إبدال معيار القانون الروماني الموضوعي بمعياره الذاتي ، أو هم توهموا أن نقد بوتييه لمعيار " الرجل الشجاع " من شأنها أن ينزل المعيار إلى " الرجل المعتاد " ، ولم ينتبهوا إلى أن بوتييه لم ير إبدال معيار موضوعي معيار موضوعي آخر ، بل قصد وضع معيار ذاتي محض ( نظرية العقد للمؤلف ص 434 حاشية رقم 3 ) .
( [349] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 176 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 – يكون العقد قابلا للبطلان إذا تعاقد شخص تحت سلطان رهبة بعثها المتعاقد الآخر في نفسه دون حق ، على أن تكون الرهبة قائمة على أساس . 2 - وتعتبر الرهبة قائمة على أساس إذا كان للطرف الذي يعديها أن يعتقد ، تبعاً للظروف ، أن خطراً جسيماً حالا يهدده هو أو أحد أقاربه في النفس أو الجسم أو الشرف أو المال . 3 – وينظر في تقدير الإكراه إلى جنس من وقع عليه هذا الإكراه وسنه وحالته الاجتماعية والصحية ومزاجه وكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر في جسامة الإكراه . وفي لجنة المراجعة أبدلت عبارة " أحد اقاربه " بكلمة " أو غيره " ، ولوحظ في ذلك أن عبارة " أحد أقاربه " أوسع مما ينبغي في بعض الأحوال واضيق مما ينبغي في الحالات الأخرى . وقد يكون للشخص صديق اعز عليه من اقاربه ، وروعى أن الخطر الجسيم الذي يحدق بالغير فيبعث الرهبة في النفس إلى حد التعاقد فيه تحديد كاف للغير الذي يعتبر الخطر المحدق به اكراها . وأبدلت كلمة " حالا " التي تصف الخطر الجسيم في الفقرة الثانية بكلمة " محدقا " . واعيدت صياغة المادة بما جعلها تطابق نص القانون الجديد مع استبقاء كلمة " ومزاجه " فيما يراعى في تقدير الإكراه . وأصبح رقم المادة 131 في المشروع النهائي . وفي مجلس النواب حذفت كلمة " النفس " اكتفاء بكلمة " الجسم " لأن الخطر الذي يهدد النفس يعتبر أنه يهدد الجسم أيضاً . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ حذفت كلمة " ومزاجه " الواردة في الفقرة الثالثة لأن إيراد هذه الكلمة يفتح الباب لاشكالات كثيرة بسبب كثرة اختلاف الأمزجة ، وأعيدت كلمة " النفس " التي كان مجلس النواب قد حذفها لأن الآلام النفسية قد يصل تأثيرها على الشخص مبلغ الآلام الجسمانية كمن يخطف عزيز لديه فيقع تحت تأثير هذا الخطف . وأصبح رقم المادة 127 . وواق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 178 – ص 184 ) . أنظر المادتين 29 و 30 من قانون الالتزامات السويسري .
( [350] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 177 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 – إذا صدر الإكراه من غير المتعاقدين ، فليس للمكره أن يطلب إبطال العقد إلا إذا اكن الطرف الآخر يعلم بوقوع الإكراه ، أو كان في استطاعته أن يعلم ذلك . 2 – فإذا كان الطرف الآخر لا يعلم بوقوع الإكراه ، ولم يكن في استطاعته أن يعلم به ، فليس للمكره إلا أن يطالب المكره بالتعويض " . وفي لجنة المراجعة تقرر حذف الفقرة الثانية لأنها تقرر حكماً تكفي فيه قواعد المسئولية ، وأدخلت تعديلات لفظية على الصياغة بما جعل المادة تطابق تقريباً نص القانون الجديد ، وأصبح رقمها 132 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب عليها . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ تقرر بعد مناقشة طويلة استبقاء المادة كما هي – لأن الإكراه الصادر من الغير كالتدليس الصادر من الغير يجب أن يتصل به المتعاقد الآخر وتجب التسوية بين الإكراه والتدليس في هذه المسألة – مع استبدال عبارة " أو كان من المفروض حتما أن يعلم " بعبارة " أو كان في استطاعته أن يعلم " . وأصبح رقم المادة 128 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 185 – ص 188 ) . أنظر المادة 29 من قانون الالتزامات السويسري .
( [351] ) والذي يطلب من المتعاقدين إبطال العقد للإكراه هو الذي يحمل عبء إثبات هذا الإكراه بعنصريه ( محكمة الاستئناف المختلطة في 25 مارس سنة 1920 م 32 ص 237 – وفي 23 مارس سنة 1926 م 38 ص 302 ) . ويثبت ذلك بجميع طرق الإثبات بما فيها البنية والقرائن لأنه يثبت واقعة مادية .
ووقوع الإكراه مسألة واقعية لقاضي الموضوع فيها الرأي النهائي . ولكن الوصف القانوني لوقائع الإكراه مسألة قانون تخضع لرقابة محكمة النقض ، كالبت فيما إذا كان يكفي أن يصدر الإكراه من الغير ، وفيما إذا كان مجرد استعمال النفوذ الأدبي بعد إكراه ، وفيما إذا كانت الوسائل المشروعة تعد اكراها في بعض الظروف ( نظرية العقد للمؤلف ص 420 حاشية رقم 2 ) . وانظر محكمة النقض ( الدائرة المدنية ) في 2 يونيه سنة 1932 المحاماة 13 رقم 62 ص 157 ومجموعة عمر 1 رقم 55 ص 120 ، وقد جاء في أسباب هذا الحكم ما يأتي : " وبما أن تقدير درجة الإكراه وهل هو شديد ومؤثر أو غير مؤثر على الشخص الواقع عليه متروك لقاضي الموضوع بلا سلطان عليه من محكمة النقض ، أما كون الأعمال التي وقع بها الإكراه مشروعة أو غير مشروعة متى تعينت في الحكم فمما يدخل تحت رقابة محكمة النقض لأنه وصف قانوني لواقعة معينة يترتب على الخطأ فيها الخطأ في تطبيق القانون " . وانظر أيضاً محكمة النقض ( الدائرة المدنية ) في 7 نوفمبر سنة 1935 مجموعة عمر 1 رقم 297 ص 923 .
( [352] ) وكان هذا هو القانون القديم : استئناف مختلط في 27 مايو سنة 1943 م 55 ص 167 .
( [353] ) وكانت النظرية التقليدية للإكراه تشترط أن يكون الخطر حالا ، وهذا ما نصت عليه صراحة المادة 1112 من القانون المدني الفرنسي ، فهي تذكر " الخوف من تعريض النفس أو المال لخطر جسيم حال ( present ) " . وقد جاء في بوتييه : " يجب أن يكون هذا الخطر حالا ، أي أن يكون الشخص مهدداً بالوقوف فيه في الحال إذا لم يفعل ما طلب منه " ( التزامات فقرة 25 ) . على أن النظرية التقليدية قد عدلت من موقفها في هذا الشأن وتحور النص ، فأصبح الحال ليس هو الخطر ذاته ، بل الخوف من الخطر ( نظرية العقد للمؤلف ص 430 ) .
وقد كان المشروع التمهيدي للقانون الجديد يشترط هو أيضاً أن يكون الخطر حالا ، فكانت الفقرة الثانية من المادة 176 من هذا المشروع تنص ، كما رأينا ، على ما يأتي : " وتعتبر الرهبة قائمة على أساس إذا كان الطرف الذي يعديها يعتقد ، تبعاً للظروف ، أن خطراً جسيماً حالا يهدده هو أو أحد أقاربه في النفس أو الجسم أو الشرف أو المال " . ولكن جاء المذكرة الإيضاحية المشروع ما يأتي : " وتعتبر الرهبة قائمة على أساس إذا اعتقد من وقع تحت سلطانها أن خطراً جسيماً أصبح وشيك الحلول " . وقد عدل في المشروع النهائي عن شرط حلول الخطر ، واستبدل به شرط أن يكون الخطر محدقاً ، وهذا أصح وأكثر تمشياً مع المذكرة الإيضاحية ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 179 – ص 182 ) .
هذا وقد تجنبت القوانين الحديثة أن تصف الخطر بكونه " حالا " ، فلا تجد هذا الوصف في القانون الألماني ولا في القانون السويسري ولا في القانون البولوني .
( [354] ) أنظر الفقرة الثانية من المادة 176 من المشروع التمهيدي ، وقد أوردناها في الحاشية السابقة . ويعتبر المشروع التمهيدي على ما فيه من عيب في تحديد طائفة الأقارب ، أكثر مرونة من القانون المدني الفرنسي ، فإن هذا القانون في المادة 1113 حدد فريقاً معينا من الأقارب هم الأصول والفروع وأضاف الزوج والزوجة . وقد انقسمت الفقهاء في تفسير المادة 1113 إلى فريقين : فريق يرى أن الأشخاص المذكورين في النص وردوا على سبيل الحصر ، فإذا هدد الخطر واحداً منهم كانت هناك قرينة قانونية على أن الخطر قد اثر في نفس المتعاقد ، وإذا هدد أحداً غيرهم لم تقم هذه القرينة القانونية ولكن للمتعاقد أن يثبت أن الخطر الذي هدد الغير قد أثر في نفسه إلى حد الإكراه . وينكر الفريق الآخر أن الخطر الذي يهدد أحداً من غير المذكورين في المادة 1113 من شأنها أن يؤثر في نفس المتعاقد إلى حد إفساد رضائه ( نظرية العقد للمؤلف ص 431 – ص 432 ) .
أما ما ورد في المشروع التمهيدي فهو لا يحدد صنفاً معيناً من الأقارب كما قدمنا ، بل ينتظمهم جميعاً . وقد ورد في المذكرة الإيضاحية في هذا الصدد ما يأتي : " ولا يشترط أن يتهدد الخطر لمتعاقد ذاته ، بل يجوز أن يتهدد أحد اقاربه . وقد ترك للقاضي أمر تقدير درجات القرابة أو الصلة في كل حالة بخصوصها ، لأن بيان هذه الدرجات في النصوص على سبيل الحصر على نحو ما هو متبع في التقنين الفرنسي ( م 1113 ) وسائر التقنينات اللاتينية ( أنظر كذلك المادة 19 من المشروع الفرنسي الإيطالي ) قد يكون احياناً ضيق الحدود لا يتسع لصور جديرة بالرعاية ، وقد يكون احياناً من السعة بحيث يجاوز الغرض المقصود " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 180 ) .
أما القانون الجديد فقد جاء أكثر إطلاقاً من المشروع التمهيدي ولم يقيد الغير حتى بأن يكون قريباً .
( [355] ) وقد هجرت القوانين الحديثة هذا المذهب العتيق في تعداد طائفة معينة من الأشخاص ، فلم يذكر القانون الألماني شيئاً من ذلك ، وذكر قانون الالتزامات السويسري " الخطر الجسيم الداهم الذي يهدد الشخص نفسه أو أحداً من ذويه " ( م 30 ) .
هذا ويقع على المتعاقد العبء في إثبات أن الخطر الذي تهدد الغير قد اثر في نفسه إلى حد إفساد رضائه . وقد يكون الغير الذي وقع عليه الإكراه هو نفس الشخص الذي صدر منه الإكراه ، كأن يهد شخص آخر بأن ينتحر إذا لم يمض هذا الأخير عقداً ، ويكون المهدد بالانتحار عزيزاً عند المهدد ( نظرية العقد للمؤلف ص 426 حاشية رقم 5 ) .
( [356] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه إذا اضطر الأب إلى ضمان دين على ابنه خوفاً من المقاضاة فلا يبطل هذا الضمان للإكراه ( 3 يونيه سنة 1911 م 23 ص 351 ) . وقضت كذلك بان إجبار الدائنين لشركة على أن تعطيهم ضماناً لديونهم في نظير أن يؤجلوا هذه الديون لا يكون إكراهاً ما دام الدائنون لم يسيئوا استعمال حقهم ( 24 يونيه سنة 1914 م 26 ص 479 ) . وقضت أيضاً بان التهديد بالالتجاء إلى طرق مشروعة كمباشرة الإجراءات الجنائية لا يعد إكراهاً ما دام هذا التهديد لم يتحول إلى استغلال غير مشروع ( 29 يناير سنة 1914 جازيت 4 رقم 223 ص 88 ) ، وبأن تهديد الوارث بالطعن في وصية حتى يحصل بذلك على التنازل له عن جزء من الميراث لا يكون إكراهاً ما دام الوارث ليس بسيء النية ( 26 ديسمبر سنة 1929 جايزت 20 رقم 64 ص 60 ) ، وبأن تهديد الدائن بأن يعلن إفلاس مدينه إذا لم يقر المدين بما عليه من الدين لا يكون اكراهاً ( 16 ديسمبر سنة 1896 م ) ص 58 ) ، وبأن تهديد شخص لآخر رسا عليه المزاد بأن يزيد عليه العشر حتى يجبره بذلك على أن يبيع له شيئاً معيناً مما رسا فيه المزاد لا يعد اكراهاً لا سيما إذا كان الثمن الذي دفع في هذا الشيء اكبر من الثمن الذي رسا به المزاد ( 7 فبراير سنة 1928 م 40 ص 186 ) ، وبأن المجني عليه في جريمة تبديد إذا استعمل حقه ضد المبدد للحصول على ماله دون زيادة لا يعتبر هذا منه إكراهاً ( 25 مارس سنة 1947 م 59 ص 154 ) – وقد قضت محكمة النقض ( الدائرة المدنية : وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم ) بان المادة 135 مدني ( قديم وتقابل م 127 جديد ) وإن لم تنص على اشتراط عدم مشروعية العمل الذي يقع به الإكراه المبطل للمشارطات إلا أن ذلك مفهوم بداهة ، إذ الأعمال المشروعة قانوناً لا يمكن أن يرتب عليها الشارع بطلان ما ينتج عنها . وكون الأعمال التي وقع بها الإكراه مشروعة أو غير مشروعة متى تعينت في الحكم يدخل تحت رقابة محكمة النقض لأنه وصف قانوني لواقعة معينة يترتب على الخطأ فيها الخطأ في تطبيق القانون . فإذا صدر حكم على مستأجر بإخلاص العين المستأجرة ، وترتب على الشروع في تنفيذ هذا الحكم أن استأجر المستأجر تلك العين ، فلا يصح القول بان عقد الإجارة قد شابه من تنفيذ الحكم إكراه مبطل له بل يكون هذا العقد صحيحا منتجا لكل آثاره ( 2 يونيه سنة 1932 المحاماة 13 رقم 62 ص 157 – مجموعة عمر 1 رقم 55 ص 120 ) .
هذا وقد يبقى الغرض مشروعا ولكن تستعمل للوصول إليه وسائل إكراه غير مشروعة ، كما إذا هددت امرأة عاشرت رجلا مدة من الزمن بالتشهير به عند خطيبة له إذا لم يمض التزاما يعوضها ما يصيبها من الضرر بسبب تركه إياها . في مثل هذا الفرض يمكن القول بأنه رغما من عدم مشروعية الوسائل التي التجأت إليها المرأة ، إلا أن الغرض الذي أرادت الوصول إليه هو غرض مشروع ، فالعقد لا يبطل في هذه الحالة للإكراه . وقد قضت محكمة النقض الفرنسية بأنه يجوز استعمال الإكراه للوصول إلى حق أو لتأدية واجب أو للحصول على مصلحة مشروعة ( 17 نوفمبر سنة 1925 سيريه 1926 – 1 – 121 ) . كذلك يجوز أن يحصل شخص بطريق التهديد على سند لحق له أو على ضمان لهذا الحق أو على الإقرار بالتزام طبيعي وتحويله إلى التزام مدني ، ما دام الغرض الذي يراد الوصول إليه مشروعاً ( ديموج 1 فقرة 317 ) ، وما دام أن الشخص الذي استعمل التهديد لا يحصل على أكثر من حقه ( ديموج 1 فقرة 298 ) . وقاعدة كهذه ليست في الواقع إلا تطبيقاً للمبدأ الذي يقضي بأن الغاية تبرر الواسطة ، وهي تبيح في الوقت ذاته للشخص أن يستقضي حقه بنفسه مادام لا يتعسف في ذلك وما دام لا يرتكب عملا إجرامياً يعاقب عليه القانون الجنائي ( بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 196 ص 263 – ديموج 1 فقرة 318 ) . ومن هنا نرى وجوب الاحتياط في استعمال هذا الحق ، فإن القصد والاعتدال فيه صعب بقدر ما هو واجب ( نظرية العقد للمؤلف ص 429 ) .
وبعد فنحن إذا نظرنا إلى الإكراه باعتباره عيباً من عيوب الرضاء رأينا أنه يفسد الإرادة ، سواء كانت وسائله مشروعة أو غير مشروعة ، وسواء كان الغرض الذي يراد الوصول إليه مشروعا أو غير مشروع . فالإكراه في جميع هذه الحالات يضغط على الإرادة ويفسدها لذلك يكون من الحق أن نقول إن العقد في الصورتين اللتين نحن بصددهما – الصورة التي تكون فيها وسائل الإكراه مشروعة للوصول إلى غرض مشروع والصورة التي تكون فيها وسائل الإكراه غير مشروعة للوصول إلى غرض مشروع – يجوز ، من ناحية منطق الإرادة ، إبطاله للإكراه . إلا أنه لما كان الغرض مشروعا في كل من الصورتين ، فإن المتعاقد المكره إذا استعمل حقه في إبطال العقد يكون قد نقض الغرض المشروع الذي أريد من العقد تحقيقه ، ويعتبر هذا منه تعسفا في استعمال حق الإبطال . والتعسف في استعمال الحق يستوجب التعويض ، وخير تعويض ما كان عينيا ، فيمنع المتعاقد المكره من طلب إبطال العقد . ويتبين من هذا التحليل أن العقد يبقى في الصورتين المشار إليهما لا على أساس من الإرادة الحقيقية بل على أساس من التعويض أو من الإرادة الظاهرة . وقد سبقت الإشارة إلى حالات أخرى مماثلة . أما إذا كان الغرض غير مشروع ، سواء كانت وسائل الإكراه مشروعة أو غير مشروعة ، فالإكراه متحقق ، والعقد يجوز إبطاله لعيب في الإرادة ، وإذا استعمل المتعاقد المكره حقه في إبطال العقد ، فلا يصح القول هنا – والغرض الذي يقصد تحقيقه من العقد غير مشروع – أنه متعسف في استعمال هذا الحق .
( [357] ) أنظر محكمة الاستئناف المختلطة في 16 ديسمبر سنة 1896 م ) ص 58 – وفي 28 ديسمبر سنة 1933 م 46 ص 106 – وقارن محكمة الاستئناف المختلطة في 14 مارس سنة 1917 م 29 ص 288 . كذلك إذا هدد رب العمل مستخدمه أن يبلغ عنه لاختلاسات ارتكبها أو يمضي له تعهداً بألا يعمل في متجر مماثل لمدة معينة كان هذا التعهد باطلا للإكراه ، لأنه لا علاقة بين ما ارتكبه المستخدم من الاختلاسات وما تعهد به لرب العمل ( محكمة باريس الاستئنافية في 31 يناير سنة 1896 جازيت دي باليه 96 – 1 – 398 ) . وبعد إكراهاً كذلك تهديد الزوج زوجته برفع دعوى الزنا عليها إذا لم تنزل له عن مال لها عنده ( محكمة النقض الفرنسية في 6 فبراير سنة 1903 جايزت دي باليه 1903 – 1 – 728 ) . وقد قررت محكمة النقض الفرنسية في قضية أخرى هذا المبدأ على الوجه الآتي : " إذا استعمل أحد الطرفين وسائل قانونية ضد الآخر ، فلا يعد هذا في ذاته إكراهاً بالمعنى الذي يقصده القانون ، ولا يمكن أن يكون سبباً في إبطال العقد الذي ينجم عن ذلك . ولكن هذه القاعدة ليست مطلقة إذ يجب البحث فيما إذا كان الدائن لم يفعل في الواقع إلا أنه استعمل حقه كما ينبغي أو أنه اساء استعمال هذا الحق . وللقاضي حسب الأحوال أن يرى في الوسائل التي استعملت لانتزاع التزامات باهظة من المدين إكراهاً غير مشروع من شأنه أن يفسد الرضا " ( 10 نوفمبر سنة 1908 سيريه 1909 – 1 – 76 ) .
وقد اشتملت بعض الوقانين الحديثة على نصوص تقرر هذا المبدأ كقانون الالتزامات السويسري ( م 27 فقرة 2 ) والقانونين التونسي والمراكشي ( م 52 / 48 ) والقانون اللبناني ( م 212 ) والقانون البرازيلي ( م 100 ) . واشتمل المشروع التمهيدي للقانون الجديد على نص في هذا المعنى ، فقضت الفقرة الأولى من المادة 178 بأنه " لا يعتبر إكراهاً الخوف من المطالبة بحق ما لم يستغل الضيق الذي وقع فيه الطرف المهدد فيبتز منه ما يزيد كثيراً على ما في ذمته من حق " . وجاء في المذكرة الإيضاحية في هذا الصدد ما يأتي : " وما دام الغرض مشروعاً فلا يعتبر الإكراه قد وقع بغير حق . أما إذا كان الغرض من الإكراه غير مشروع ، كما إذا استغل المكره ضيق المكره ليبتز منه ما يزيد كثيراً على ما في ذمته من حق ، فيكون الإكراه على نقيض ما تقدم واقعاً بغير حق . ولو أن حق الدائن في هذا الفرض قد اتخذ وسيلة لبلوغ الغرض المقصود " . وقد حذفت لجنة المراجعة هذا النص في المشروع النهائي اكتفاء بتطبيق القواعد العامة ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 185 – ص 186 في الهامش ) .
( [358] ) وكما أن النفوذ الأدبي إذا قصد به الوصول إلى غرض مشروع لا يعد اكراهاً ، كذلك العطف والحنو لا يعتبر وسيلة من وسائل الإكراه . والنفوذ الأدبي سلطة للأب على ولده ، أما العطف والحنو فعاطفة من الأب نحو ولده ، فإذا وجد الولد نفسه مضطراً بحكم النفوذ الأدبي ، أو وجد الأب نفسه مدفوعاً بحكم العطف الأبوي ، إلى إمضاء عقد لا يبهظ الملتزم ، فإن هذا العقد لا يكون مشوباً بعيب الإكراه . وقد قضت محكمة الاستئناف الوطنية بأن كون أحد الأبناء اثر في والده المقيم معه ليتصرف له تصرفاً في منفعته بشيء من ماله لا يعد في حد ذاته سبباً لا بطال العقد ( 21 مارس سنة 1905 الاستقلال 4 ص 310 – أنظر أيضاً محكمة الاستئناف المختلطة في 23 مارس 1926 م 38 ص 320 ) . وتقضي المحاكم الوطنية في كثي رمن القضايا بصحة العقود التي تصدر من الآباء لأولادهم يميزونهم بها عن بقية الورثة بدافع من العطف والحنو .
هذا وسنرى أن بعض هذه العقود قد تقوم على استغلال هوى جامح تثيره زوجة جديدة في نفس زوجها فيؤثرها هي وأولادها على زوجته الأولى وأولاده منها ، وفي هذه الحالة تطبق قواعد الاستغلال وقواعد الاستهواء والتسلط على الإرادة التي سيأتي بيانها . والفرق بين الشوكة والنفوذ الأدبي من جهة والاستهواء والتسلط على الإرادة من جهة أخرى أن الأولى يفرض فيها أن شخصاً مقامه كبير في عين المتصرف ، كأب أو رئيس أو معلم ، استعمل نفوذه الأدبي . والثانية لا يشترط فيها أن الشخص المتسلط على الإرادة له مقام كبير ، فقد يكون زوجة أو أولاداً للمتصرف .
( [359] ) ولكن يشترط أن يكون النفوذ الأدبي كافياً للتأثير في إرادة المتعاقد ، فإذا لم يستعمل الأخ أية وسيلة من وسائل الضغط على أختيه المتزوجتين والمستقلتين عنه – وبخاصة إذا كان هناك خلاف بين الأخ وأختيه – وقد ابرم العقد المطعون فيه بالإكراه على يد لجنة من العمد والمشايخ ، فلا يمكن أن يقال إن وسائل ضغط قد حصلت من الأخ على أختيه أحدثت عندهما خوفاً شديداً حملهما على قبول ما لم تكونا تقبلانه اختياراً ( محكمة استئناف أسيوط في 12 فبراير سنة 1942 المحاماة 22 رقم 244 ص 698 ) .
وقضت محكمة النقض ( الدائرة المدنية ) بان مجرد النفوذ الأدبي أو هيبة الأقارب لا يكفي لبطلان العقد ، بل يجب أن يقترن ذلك بوسائل إكراه غير مشروعة ( 25 فبراير سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 29 ص 59 ) . وقضت أيضاً بأنه إذا كانت المحكمة قد أثبتت بأدلة مقبولة أن حصول المشترى على عقد البيع من البائعة لم يكن بطريق الإكراه بل بطريق الاقناع والتأثير البرئ ، وأن وقائع الإكراه التي ادعتها – بفرض صحتها – لم تكن لتؤثر في نفسها تأثيراً يحملها على توقيع العقد لأخيها بغير رضاء وتسليم ، فلا يكون ثمة محل لمجادلتها في ذلك ( 12 ابريل سنة 1945 مجموعة عمر 4 رقم 237 ص 628 ) .
( [360] ) وقد قضت محكمة استئناف أسيوط بأن المورثة التي تنقض ما أبرمته من تصرفات سابقة بالبيع والوصية ، وتتجرد تجرداً يكاد يكون تاماً من غير مقابل لفائدة رئيس ديني استعمل نفوذه لابعادها عن أقاربها ابعادا تاماً ، وأحاطها بخصومها الألداء ، وجعلها تنزل عن دعوى حساب بمبالغ جسيمة كانت قد رفعتها عليهم ، وتعطي لاحدهم توكيلا عنها ، تدل بهذه التصرفات والإجراءات المتناقضة على إنها كانت ضعيفة الإرادة مسلوبة الرضاء واقعة تحت تأثير الرئيس الديني الذي تسلط عليها تسلطاً جعلها تنقاد لارادته وتتصرف وفقاً لما يمليه عليها وتسير في الطريق التي رسمها ، فالوقفية التي تصدرها في هذه الظروف عن أطيان سبق لها الايصاء بها لبعض أقاربها ، والتي تقيم فهيا ذلك الرئيس الديني ( المطران ) ناظراً وتفوض له التصرف في الريع على الفقراء وغيرهم دون رقيب ولا حسيب ، تكون باطلة طبقاً للمواد 128 و 133 و 136 من القانون المدني ( القديم ) لانعدام ( كذا ) رضائها وقت التصرف ( 8 مايو سنة 1929 المحاماة ) رقم 477 ص 861 ) .
وتشتمل بعض القوانين الأجنبية على نصوص في هذا الموضوع تقرر أن النفوذ الأدبي وحده لا يكفي لإبطال العقد ، بل يجب أن تقترن به وسائل إكراه أخرى . وقد قضت المادة 1114 من القانون المدني الفرنسي بأن " مجرد الخشية الصادرة عن احترام ( la seule crainte reverentielle ) واجب للأب أو الأم أو أي أصل آخر ، دون أن يكون هناك إكراه واقع ، لا يكفي لإبطال العقد " . أنظر أيضاً القانونين التونسي والمراكشي ( م 55 / 51 ) والقانون اللبناني ( م 212 ) والقانون البرازيلي ( م 100 ) والمشروع الفرنسي الإيطالي ( م 20 ) . وهي نصوص منتقدة ، لأنه إذا كان صحيحاً كقاعدة عامة أن مجرد النفوذ الأدبي لا يكفي وحده وسيلة للإكراه ، إلا أن هذا لا يمنع من أن تتحقق حالات يكفي فيها النفوذ الأدبي لإبطال العقد ، وهي الحالات التي يساعد فيها استعمال هذا النفوذ لابتزاز التزامات باهظة كما تقدم القول . على أنه يمكن الوصول إلى مثل هذه النتيجة من طريق نظرية التعسف في استعمال الحق ، فإن صاحب النفوذ الأدبي يكون قد تعسف في استعمال نفوذه إذا هو قصد به الوصول إلى غرض غير مشروع ، فيلتزم بالتعويض ، وخير تعويض هنا هو إبطال العقد . وكما يقوم العقد على أساس من التعويض وإن أعوزته الإرادة ، كذلك يبطل على أساس من التعويض وإن لم تعوزه الإرادة . فالأولى إذن أن تتسع نظرية الإكراه حتى تتناول كل فرض من هذه الفروض ( أنظر نظرية العقد للمؤلف ص 438 – ص 439 ) .
وقد أشتمل المشروع التمهيدي للقانون الجديد على نص في هذا الموضوع . فقضت الفقرة الثانية من المادة 178 بأنه " لا يعتبر مجرد النفوذ الأدبي ، إذا لم يصحبه تأثير غير مشروع ، سبباً كافياً لإبطال العقد " . وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وتعرض المادة 178 من المشروع لتطبيقات ثلاثة للإكراه بوصفه عيباً من عيوب الرضاء . . . والتطبيق الثاني خاص بالنفوذ الأدبي ، وهو بمجرده لا يعيب الرضاء ، وإنما يعيبه إذا صحبه الإكراه وفقاً لعبارة المشروع الفرنسي الإيطالي ( المادة 20 أنظر أيضاً التقنينات اللاتينية ) ، أو إذا كان هناك " تأثير غير مشروع " على حد تعبير المشروع . ويقصد بعبارة " التأثير غير المشروع " استغلال ، أو اساءة استعمال ، الاحترام الواجب لوالد أو لرئيس أو لرجل من رجال الدين . . . الخ . بقصد ابتزاز مغنم فاحش أو منفعة مفرطة . وعلى هذا الوضع يكون النص أرحب سعة مما لو اقتصر الأمر على اشتراط توافر عمل معين من أعمال الإكراه " . وقد حذفت لجنة المراجعة هذا النص في المشروع النهائي اعتماداً على ما تقرره القواعد العامة في هذا الصدد وتكملها قواعد الاستغلال التي وردت في هذا المشروع على ما سنرى ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 185 – ص 186 في الهامش ) .
ويعرف القانون الإنجليزي ما يسمى بالتأثير غير المشروع ( undue influence ) وفيه يسيء الشخص استعمال ثقة شخص آخر به أو نفوذه الأدبي عليه . فمتى وجدت علاقة تقوم على الثقة ما بين شخصين ، كأب وابنه أو كطبيب ومريض أو كمحام وعمليه أو كرئيس ديني ورجل متدين ، واستغل الشخص الموثوق به هذه العلاقة لإكراه الشخص الآخر على إمضاء عقد ، فإن العقد يكون قابلا للإبطال . ولكن يجب طلب ذلك في مدة معقولة من وقت انتهاء التأثير غير المشروع ( أنظر بولوك في العقد ص 648 – ص 689 – كارتر في العقد ص 85 – ص 87 ) .
( [361] ) أنظر آنفاً فقرة 190 – وقد حاول بعض الفقهاء في فرنسا أن يزيل التعارض ما بين المعيارين الذاتي والموضوعي ، وهو التعارض الوارد في المادة 1112 من القانون المدني الفرنسي على ما رأينا ، فذهب إلى وجوب التفريق ما بين المعيارين على الوجه الآتي : إذا كان المتعاقد فوق الوسط طبق المعيار الموضوعي ، واكتفى في جسامة الخطر بأن يكون من شأنه أن يؤثر في الوسط من الرجال . أما إذا كان المتعاقد دون الوسط وجب تطبيق المعيار الذاتي ، ونظرا إلى حالة المتعاقد وسنه وجنسه وما إلى ذلك ( كولميه دي سانتيير فقرة 22 مكررة ( 1 ) – بفنوار ص 606 – كولان وكابيتان 2 ص 285 ) . وظاهر أن هناك عيباً وضاحاً في هذا التوفيق ، فإن المتعاقد إذا كان فوق الوسط فإن إرادته لا تفسد بإكراه ليس من شأنه أن يفسد إرادة من هم فوق الوسط ، فكيف يقال بعد ذلك أن إرادته قد فسدت بمثل هذا الإكراه !
( [362] ) ولا يوجد مانع من الجمع بين الأخذ بمعايير ذاتية في عيوب الإرضاء والأخذ بالإرادة الظاهرة فيما يقتضيه استقرار التعامل . ولا يوجد قانون واحد خلا من هذا الجمع . وإنما القوانين تطاوع المقتضيات العملية ، فتأخذ تارة بالإرادة الظاهرة والمعايير الموضوعية حيث يغلب اعتبار استقرار التعامل ، وتأخذ طوراً بالإرادة الباطنة والمعايير الذاتية حيث يغلب اعتبار العدالة والمنطق القانونين . وتتفاوت القوانين في التوفيق ما بين الاعتبارين فمنها ما يغلب عليه ترجيح الاستقرار ، ومنها ما يغلب عليه ترجيح العدالة ، ومنها ما يرضى الاعتبارين على حد سواء بالقدر الذي يقتضيه كل منهما فيكون بينهما قواماً .
( [363] ) محكمة الاستئناف الوطنية في 25 أكتوبر سنة 1891 الحقوق 6 ص 302 – محكمة أسيوط الكلية في 26 ابريل سنة 1928 المحاماة 10 رقم 223 ص 447 – محكمة الاستئناف المختلطة في 15 يونيه سنة 1916 م 28 ص 431 – وفي 19 يونيه سنة 1923 م 35 ص 510 – هالتون 1 ص 318 – دي هاتس 1 لفظ ( convention ) فقرة 44 – والتون 1 ص 226 – ص 227 – الدكتور عبد السلام ذهني بك فقرة 134 – الدكتور محمد صالح بك فقرة 279 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 413 – الدكتور حلمي بهجت بدوي فقرة 88 – الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت فقرة 184 .
( [364] ) مرشد الحيران م 288 : " يختلف الإكراه باختلال أحوال الأشخاص وسنهم وصنعتهم ومناصبهم وجاههم ودرجة تأثرهم من الجنس والضرب كثرة وقلة ، وشدة وضعفاً "
( [365] ) القانون المدني الألماني م 123 – قانون الالتزامات السويسري م 30 .
( [366] ) وهذا ما انتهى إليه الفقه المصري في ظل القانون القديم . وقد جاء في هذا المعنى في كتاب نظرية العقد للمؤلف ما يأتي : " قلنا إن شرطاً واحداً كان يكفي في الإكراه ، وهو المعيار الذي تقاس به سامته . فإذا قيل إن الإكراه يجب أن يصل إلى حد من الجسامة بحيث يكون هو الذي دفع إلى التعاقد ، فإن الشروط الأخرى التي ذكرت إلى جانب هذا الشرط تصبح غير ضرورية . . . ويتبين مما تقدم أن الشروط التفصيلية التي تتطلبها النظرية التقليدية في الإكراه غير صحيحة في كثير من تطبيقاتها . والأولى أن نغفل هذه الشروط وأن نكتفي بالمعيار المرن الذي ذكرناه ، فيتحقق الإكراه إذا وجد المتعاقد المكره بالنسبة لظروفه الشخصية في حالة اضطرار ضغط على إرادته وحملته على التعاقد " ( نظرية العقد ص 437 و ص 444 ) .
( [367] ) ويلاحظ أن الخطر إذا كان يهدد المال ، فالمفروض أنه لا يؤثر في إرادة التعاقد إلا إذا كان المال الذي يتعرض للخطر أكثر مما يفقده الشخص من وراء التعاقد الذي اكره عليه . وقد يكون التهديد بالاستيلاء على المال غصباً سبباً لإفساد الرضاء حتى لو كان صاحب العمال يستطيع استرداده بعد غصبه مادام التهديد قد اثر في إرادته .
ولا يعتبر القانون الإنجليزي الخطر الواقع على المال إكراهاً ، لأنه كان في استطاعة المتعاقدان يدع الخطر يتحقق ثم يرجع بتعويض على من تسبب في ضياع المال ( يولوك في العقد ص 645 ) . وهذه نظرية تغفل احتمال عدم الجدوى في الرجوع بالتعويض .
( [368] ) وقد قضت محكمة النقض ( الدائرة المدنية – وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم ) بأن لقاضي الموضوع السلطة التامة في تتدير درجة الإكراه من الوقائع ، وهل هو شديد ومؤثر أو غير مؤثر في الشخص الذي وقع عليه الإكراه ، ولا رقابة لمحكمة النقض عليه في ذلك ( 2 يونيه سنة 1932 المحاماة 13 رقم 62 ص 157 – مجموعة عمر 1 رقم 55 ص 120 ) .
( [369] ) وقد قضت محكمة النقض ( الدائرة المدنية ) بأن جسامة الخطر الذي ينشأ منه الإكراه إنما تقدر بالمعيار النفسي للشخص الواقع عليه الإكراه ، وهذا يستدعى مراعاة حالته عملا بالمادة 135 من القانون المدني ( م 127 جديد ) . فإذا كان الكفيل قد دفع ببطلان الكفالة للإكراه قولا منه بأنه كان له في ذمة المكفول له دين بسند مستحق وقت الطلب ، فضاع منه السند ، فلجأ إلى مدينة ليكتب له بدلا منه ، فأبى إلا إذا وقع هو له اقراراً بكفالة أخيه في دين له قبله ، فلم يجد مناصاً من القبول ، فرد الحكم على هذا الدفع بأن فقد سند الدين لم يكن ليؤثر في إرادة الكفيل ، وهو رجل مثقف خبير بالشؤون والمعاملات المالية ، إلى الحد الذي يعيب رضاءه بكفالة أخيه ، فهذا رد سديد . وإذا كان الحكم بعد ذلك قد قال بأن فقد السند ، بحكم كونه واقعة لا يد للمكفول له فيها ، لا يكون الإكراه المبطل للعقود ، فهذا تزيد منه لا يعيبه أن يكون قد أخطأ فيه ( أول ابريل سنة 1948 مجموعة عمر 5 رقم 294 ص 585 ) .
( [370] ) والقضاء والفقه في مصر متفقان على هذا الحكم حتى في ظل القانون القديم : محكمة الاستئناف المختلطة في 11 ابريل سنة 1888 المجموعة الرسمية للقضاء المختلط 13 ص 171 – وفي 19 يونية سنة 1923 م 35 ص 510 – ذي هانس 1 لفظ ( convention ) فقرة 45 – هالتون 1 ص 318 – والتون 1 ص 234 – الدكتور ذهني بك فقرة 136 – فقرة 141 – الدكتور محمد صالح بك فقرة 281 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 40 – الدكتور حلمي بهجت بدوي فقرة 89 – الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت فقرة 186 .
( [371] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 19 يونية سنة 1923 م 35 ص 510 ( وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم ) . وقارن المادة 29 من قانون الالتزامات السويسري . هذا ويصح القول هنا أيضاً بان القانون الجديد أخذ بالإرادة الظاهرة دون الإرادة الباطنة على النحو الذي سبق أن قررناه في صدد الغلط والتدليس .
( [372] ) وقد أشتمل المشروع التمهيدي على نص في هذا المعنى ، فقضت الفقرة الثانية من المادة 177 من هذا المشروع بأنه " إذا كان الطرف الآخر لا يعلم بوقوع الإكراه ، ولم يكن في استطاعته أن يعلم به ، فليس للمركه إلا أن يطالب المكره بالتعويض " . وقد حذفت هذه الفقرة في المشروع النهائي لأنها تقرر حكماً تكفي فيه قواعد المسئولية ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 185 و ص 187 ) .
( [373] ) أنظر في هذه النظرية التقليدية : نظرية العقد للمؤلف ص 425 .
( [374] ) وذلك أن القانون الروماني كان يجعل للإكراه جزاء مستقلا غير إبطال العقد . أما الإكراه الذي تهيأت ظروفه مصادفة فلم يكن عليه جزاء ، لأنه لا يمكن في هذه الحالة توجيه الدعوى ضد شخص معين صدر منه الإكراه . فانتقلت هذه القاعدة إلى القانون الفرنسي بالرغم من أن هذا القانون يجعل جزاء الإكراه إبطال العقد ، ولا يكتفي بدعوى تعويض ضد من صدر منه الإكراه . وظاهر أن دعوى الإكراه يمكن توجيهها ضد المتعاقد الآخر دون حاجة إلى تلمس شخص صدر منه الإكراه ( أنظر بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 195 – أنظر أيضاً جوسران 2 فقرة 88 وهو يرى أن العقد يكون قابلا للإبطال في هذه الحالة لاننا لا ننظر هل كان الدائن ملوماً أو غير ملوم من حيث وجود هذا الإكراه ، بل ننظر هل كان المدين إرادته حرة مختارة أم صدرت إرادته تحت ضغط دافع ) .
وظاهر مما تقدم أن القانون الروماني كان لا ينظر إلى الإكراه إلا باعتباره أنه عمل غير مشروع ، فإذا تهيأت ظروفه مباشرة فلا مسئولية على أحد ، ولا جزاء على مثل هذا الإكراه . أما الآن فنحن ننظر إلى الإكراه ، لا يوصف أنه عمل غير مشروع فحسب ، بل أيضاً بوصف أنه عيب في الرضاء . فالإكراه الذي تهيأت ظروفه مباشرة إذا فاته الوصف الأول فلا يفوته الوصف الثاني ، ويكون إذن سبباً في إبطال العقد .
( [375] ) نصت الفقرة الثالثة من المادة 178 من المشروع التمهيدي – وقد حذفت في المشروع النهائي اكتفاء بالقواعد العامة – على ما يأتي : " إذا ابرم شخص عقداً للخلاص من خطر جسيم حال ، يهدده هو أو أحد أقاربه ، فلا يعتبر هذا العقد قابلا للبطلان بسبب الإكراه إذا كان الطرف الآخر حسن النية ولم يقصد أن يستغل الطرف المهدد " . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : " . . . أما التطبيق الثالث فهو خاص بحالة من يجد غيره مهدداً بخطر جسيم حال لا يد له فيه ، فستغل هذا الموقف . فهو وإن لم يكن المتسبب في الظرف المجئ ، إلا أنه انتفع به للحصول على مغنم فاحش . ويعتبر الإكراه في هذه الصورة عيباً في الرضاء ( قارن الاستغلال ) . وعلى النقيض من ذلك ينتفي الإكراه ويكون الرضاء صحيحاً إذا لم يحاول المتعاقد الآخر في مثل هذا الفرض أن يحصل على منفعة مفرطة ، بل اقتصر على انقاذ المتعاقد الآخر في مقابل منفعة معقولة . فمناط الحكم في هذه التطبيقات الثلاثة هو فكرة ( الإفراط في الغنم ) . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 185 – ص 186 في الهامش ) . أنظر أيضاً المادة 1447 من القانون الإيطالي الجديد .
هذا والحكم يبقى صحيحاً حتى لو اعتقد المتعاقد المهدد أن المتعاقد الآخر قد افرط في الغنم ، ما دام هذا الأخير كان حسن النية ولم يهدف إلى استغلال الخطر الذي يتهدد المتعاقد معه . فإذا اتفق جراح شهير مع مريض على إجراء عملية خطيرة ، وتقاضى أجراً لعمله مبلغاً كبيراً ولكنه يتناسب مع خطورة العملية ، فالعقد صحيح حتى لو تمسك المريض فيما بعد بأن إرادته لم تكن حرة وقت التعاقد . وتعليل ذلك أن الطبيب كان حسن النية ، فلو فرض أن المريض لم يكن حر الإرادة وأراد إبطال العقد ، فمن حق الطبيب أن يتقاضى تعويضاً من المريض في هذه الحالة ، وخير تعويض هو استبقاء العقد صحيحاً كما مر ذلك في صور مختلفة .
( [376] ) وقد أخذ بهذا الرأي الفقه والقضاء في مصر حتى في ظل القانون القديم : والتون 1 من 237 – ص 238 – الدكتور ذهني بك فقرة 135 – الدكتور محمد صالح بك فقرة 282 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 421 – الدكتور حلمي بهجت فقرة 89 – الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت فقرة 187 – وأبطلت محكمة الاستئناف المختلطة الاتفاق الذي يعقد في حالة الاضطرار الناجمة من وجود سفينة في خطر ( 22 مارس سنة 1899 م 11 ص 166 ) ، واكتفت بإعطاء دعوى الفضولي ( 11 مايو سنة 1892 م 4 ص 235 ) . أنظر أيضاً محكمة الاستئناف المختلطة في 13 يونيه سنة 1909 م 21 ص 3 – وفي 18 نوفمبر سنة 1925 م 38 ص 54 – وفي 25 يناير سنة 1933 م 45 ص 141 ( وفي هذا الحكم الأخير ذكرت المحكمة في أسباب الحكم أن القانون المصري ( القديم ) لم ينقل من القانون الفرنسي كلمة " ينتزع " ( extorque ) الواردة في المادة 1109 من هذا القانون الأخير ، والتي كانت السبب في أن الفقه الفرنسي لا يجعل حالة الاضطرار التي تهيأت مصادفة إكراها يبطل العقد ) .
هذا والقانون المقارن في هذا الموضوع متجه إلى جعل حالة الاضطرار مؤثرة في صحة العقد ، وسنرى ذلك عند الكلام في نظرية الاستغلال ( نظرية العقد للمؤلف ص 441 حاشية رقم 1 ) .
( [377] ) وسنرى أن الاستغلال قد يقع في العقود الاحتمالية بل وفي عقود التبرع ، فهو أوسع مدى من الغبن .
( [378] ) أنظر أيضاً القانون الإيطالي الجديد ( م 1448 الفقرة الأولى ) والقانون البولوني ( م 42 ) والقانون اللبناني ( م 214 ) والقانون النمساوي ( م 879 ) والقانون الصيني ( م 74 ) . وقد قدم النائبان الفرنسيان جيبال وديبان ( Guibal et Dupin ) إلى مجلس النواب الفرنسي في 20 يونيه سنة 1920 مشروع قانون يكمل المادة 1118 من القانون الفرنسي ويضع نصاً عاما يحرم الاستغلال في جميع العقود ، فيقضي بأن يكون الغبن سبباً في إبطال العقد إذا كان الاختلال في التعادل ما بين الالتزامات التي تنشأ عنه جسيما ، وكان هذا يرجع إلى استغلال حاجة الطرف المغبون أو خفته أو عدم تجربته ( أنظر الوثائق البرلمانية الفرنسية : مجلس النواب سنة 1920 الملحق فقرة 1112 ص 1786 ) .
هذا ويستخلص من بحث أجرى في البلاد التي تتضمن قوانينها المدنية نصوصاً عاماة في الاستغلال على النحو الذي تقدم ذكره أن هذه النصوص نادرة التطبيق ، وكان كثير من النقاد يتوقعون عكس ذلك ويخشون من أن هذه النصوص تكون مدعاة لكثرة التقاضي ( أنظر مذكرات غير مطبوعة للاستاذ مورل ( Morel ) في بعض مسائل متعلقة بتكوين العقود وبقوتها الملزمة : باريس سنة 1948 – 1949 ص 387 ) .
( [379] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 179 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 - إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل مطلقاً مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بوجب العقد ، أو لا تتعادل مطلقاً مع التزامات المتعاقد الآخر ، بحيث يكون مفروضاً ، تبعاً للظروف ، أن الطرف المغبون قد استغلت حاجته أو طيشه أو عدم خبرته أو ضعف إدراكه ، أو بحيث يتبين بوجه عام أن رضاءه لم يصدر عن اختيار كاف ، فيجوز للقاضي بناء على طلب الطرف المغبون أن يبطل العقد أو أن ينقص التزامات هذا المتعاقد . ويسري هذا الحكم حتى إذا كان التصرف الذي صدر من الطرف المغبون تبرعا . 2 – ويجوز في عقود المعاوضة أن يتوقى الطرف الآخر دعوى البطلان إذا عرض ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن " . وقد ادخلت لجنة المراجعة بعض تعديلات على المادة ، وأصبح رقمها 133 في المشروع النهائي . ووافق عليها مجلس النواب كما وردت في المشروع النهائي . أما لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ فقد تناقشت طويلا في هذه المادة ، وكانت تميل في أول الأمر إلى حذفها ، ثم اتجهت إلى تقييدها على الوجه الآتي : " 1 – إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الآخر ، وتبين أن المتعاقد المغبون لم يبرم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشاً بيناً أو هوى جامحاً ، جاز للقاضي بناء على طلب المتعاقد المغبون أن يبطل العقد أو ينقص التزامات هذا المتعاقد . 2 – ويجب أن ترفع الدعوى بذلك خلال سنة من تاريخ العقد وإلا كانت غير مقبولة . 3 – ويجوز في عقود المعاوضة أن يتوقى الطرف الآخر دعوى الإبطال إذا عرض ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن " . ولوحظ أن الهوى معناه الشهوة الجامحة لا المودة والعطف ، وقد ترك تحديد الطيش والهوى لتقدير القاضي . وراعت اللجنة في التعديل الذي أجرته أن تعدل عن التوسع الذي اختاره نص المشروع وأن تجعل أساس النص قاصراً على استغلال الطيش البين أو الهوى الجامح . وحذفت من الفقرة الأولى عبارة " ويسرى هذا الحكم ولو كان التصرف الذي صدر من الطرف المغبون تبرعاط لأنها من قبيل التزيد . وأضافت قيداً يتعلق بميعاد رفع الدعوى . وجاء في ملحق لتقريرها ما يأتي : " اقترح حذف المادة 129 الخاصة بالاستغلال إذ قد يكون في استيفائها ما يهدد المعاملات ، ولم تر اللجنة الأخذ بهذا الاقتراح لأن وضع أحكام خاصة في شأن الاستغلال لا يقتصر أثره على دعم الأسس الخلقية في تنظيم المعاملات بل يجاوز ذلك إلى إقالة القضاء من عناء التحايل على النصوص وتحميل القواعد ما لا تطبق بطبعها . فالقضاء في ظل القانون الحالي قد استنبت فكرة الايحاء والتسلط والاغواء وتوسع في تطبيق ( الغلط في القيمة ) عندما يكون دافعاً إلى التعاقد وتوسل بشتى الوسائل لدفع الحور في صور كثيرة من صور الاستغلال حفلت بها مجموعات الأحكام . وما من شك في أن هذه الحالة بذاتها تعرض المتعاملين لاحتمالات من خلال التقدير وتفاوت مزاج المجتهدين في استحسان الخروج على القواعد العامة ولا تعين على توطيد الاستقرار في قليل أو كثير . لذلك رأت اللجنة أن أفراد نص للاستغلال يكون ادعى إلى إدراك المتعاملين لما قد يتعرض له العقد من طعن في نطاق ضيق واضح الحدود . ولكنها توسطت فلم تر أن يكون نطاق هذا النص رحباً على غرار نظيره في أكثر التقنينات الحديثة ، ومنها التقنين الألماني والسويسري والبولوني واللبنانين والمشروع الفرنسي الإيطالي ، بل اقتصرت فيه على حالتي " الهوى الجامح والطيش البين " .
وأصبح رقم المادة 129 ، ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 189 – ص 203 ) .
( [380] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 180 من المشروع التهيدي على الوجه الآتي : " يراعى في تطبيق المادة السابقة عدم الإخلال بالأحكام الخاصة بالغبن في بعض العقود وبما يسمح به القانون من سعر الفائدة " . فعدلته لجنة المراجعة على الوجه الوارد في نص القانون الجديد ، لجعل النص أدق في الأدلة على المعنى المقصود ، وأصبح رقم المادة 134 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب ، ثم وافقت عليه لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ ، وأصبح رقمه 130 . ووافق عليه مجلس الشيوخ ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 203 – ص 204 ) .
( [381] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وتحسن الإشارة إلى أن العقود الاحتمالية ذاتها يجوز أن يطعن فيها على أساس الغبن إذا اجتمع فيه معنى الإفراط ومعنى استغلال حاجة المتعاقد أو طيشه أو عدم خيرته أو ضعف إدراكه " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 191 ) . وقد نص القانون اللبنانين صراحة على ذلك ، فجاءت الفقرة الأخيرة من المادة 214 من هذا القانون ما يأتي : " العقود الاحتمالية ذاتها قد تكون قابلة للإبطال بسبب الغبن " .
( [382] ) وقد كان المشروع التمهيدي يتضمن النص الآتي : " ويسري هذا الحكم حتى إذا كان التصرف الذي صدر من الطرف المغبون تبرعا " . ولكن لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ حذفت هذا النص لأنه من قبيل التزيد ، وقد أسلفنا الإشارة إلى ذلك ( أنظر فقرة 204 في الهامش ) . وبقيت الفقرة الثالثة من المادة 129 وهي تفيد ضمناً كما رأينا أن الاستغلال قد يقع في عقود التبرع .
( [383] ) وقد ترتب على تضييق الدائرة التي يطبق فيها الاستغلال أن أصبحت المادة 178 من المشروع التمهيدي – وهي المادة التي حذفت من المشروع النهائي وتعرض كما أسلفنا الحالات خاصة في الإكراه هي حالة الخوف من المطالبة بحق وحالة النفوذ الأدبي وحالة الضرورة – نصاً كان من المفيد استبقاؤه لأن نظرية الاستغلال أصبحت بعد هذا التعديل تضيق بالحالات المشار إليها . وقد قدمنا أنه يمكن اعتبار المادة 178 المحذوفة ليست إلا تطبيقاً للقواعد العامة في الإكراه ، فيستغنى عنها بتطبيق هذه القواعد .
( [384] ) وقد عرضت فعلا هذه الاقضية وأمثالها على المحاكم المصرية في ظل القانون القديم فكانت تعالجها في بعض الأحوال معالجة ناقصة عن طريق تطبيق القواعد العامة ( في الإكراه ) أو عن طريق تطبيق قواعد العدالة ، وفي أحوال أخرى كانت تسير وراء القضاء الفرنسي في نظرية الاستهواء والتسلط على الإرادة التي سيأتي ذكرها فيما يلي :
وقد قضت محكمة النقض ( الدائرة المدنية ) بأنه إذا كان الحكم قد بنى قضاءه ببطلان عقد البيع على فساد رضاء البائع لكونه متقدماً في السن ومصاباً بأمراض مستعصية من شأنها أيضاً أن تضعف إرادته فيصير سهل الانقياد خصوصا لأولاده المقيمين معه الذي صدر العقد لهم ، فإنه لا سبيل إلى الجدل في ذلك لدى محكمة النقض لتعلقه بتقدير محكمة الموضوع لوقائع الدعوى ( 2 يناير سنة 1941 مجموعة عمر 3 رقم 89 ص 296 ) . وقضت في حكم ثان بأنه متى كانت المحكمة قد استخلصت من وقائع الدعوى وظروفها أن السند المطالب بقيمته صدر من المورث بمحض إرادته واختياره ، ولم يؤخذ منه بالاستهواء أو بالتسلط على الإرادة ، وكان هذا الاستخلاص سائغاً ، فلا تدخل لمحكمة النقض لأن ذلك من سلطة قاضي الموضوع ( 29 ابريل سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 55 ص 152 ) . وفي قضية ثالثة كانت الزوجة تريد أن يطلقها زوجها حتى تتزوج من آخر ، فاستغل الزوج هذه الظروف ، وحصل من زوجته على مال وسندات ومنزل وعقد توكيل وعقد إيجار بما تتناهز قيمته خمسين ألفاً من الجنيهات ، ثم طلقها ، ولما طعنت الزوجة في هذا التصرف ، قضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأن ما اعطته الزوجة لزوجها يعتبر بدل خلع ، ولكن الزوجة كانت في حالة اضطرار عقد تقرير هذه الالتزامات بذمتها ، وأن الرأي الصواب الذي يتحقق به العدل ( أي تطبيقاً لقواعد العدالة ) هو تخفيض هذه الالتزامات إلى الحد المناسب ( محكمة استئناف مصر الوطنية في 12 يناير سنة 1936 المحاماة 16 ص 723 ) . وقد نقضت محكمة النقض هذا الحكم على أساس أن بدل الخلع في الشريعة الإسلامية يجب أن يكون مقترناً بصيغة الطلاق وأن المسألة على كل حال يجب أن تحال على القضاء الشرعي للفصل فيها ( نقض مدني في 28 أكتوبر سنة 1937 مجموعة عمر 2 رقم 66 ص 178 ) . وقد اعيدت القضية إلى محكمة الاستئناف ولكن الخصوم لم يروا السير في الدعوى الشرعية التي قضت محكمة النقض أن تقف الدعوى المدنية بسببها ، واتفقوا على تسوية النزاع فيما بينهم .
وقضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأنها إذا ثبت أن سند دين صدر من شخص وهو في حالة مرضية كانت حياته فيها مهددة بالخطر مما جعله يفكر في الانتحار ويحاوله مراراً وينتحر بالفعل نف ضلا عن كونه في حالة عقلية تجعله مسلوب الإرادة ، فتعاقده غير مبنى على رضاء صحيح ، ولا تلزم ورثته بوفاء ما تعهد به في هذا السند ( 31 مايو سنة 1933 المحاماة 14 رقم 86 / 2 ص 167 ) . وقضت محكمة مصر الكلية الوطنية بأنها إذا استغل أحد المتعاقدين حالة الأضرار التي وجد فيها المتعاقد الآخر للوصول إلى غرض غير مشروع أي إلى التزام باهظ ، فالعقد يكون باطلا للإكراه ، فإذا صدرت عدة تعهدات تحت تأثير ضغط الإرادة ونتيجة استغلال رغبة جامعة ، فللمحكمة إقرار التعهدات التي أجازها المتعهد بمحض اختياره بعد زوال الإكراه والحكم ببطلان ما لم يجزه منها صراحة أو ضمنا ( أول ديسمبر سنة 1934 المحاماة 15 رقم 61 / 2 ص 343 ) – أنظر أيضاً محكمة استئناف مصر الوطنية في 9 فبراير سنة 1 937 المحاماة 17 ص 1171 – ومحكمة أسيوط الكلية في 12 يونية سنة 1937 المحاماة 18 ص 261 .
هذا ولما كان القانون المدني الفرنسي لا يتضمن نصا عاما في الاستغلال ، فقد خلق الفقه والقضاء الفرنسيان نظرية الاستهواء ( Captation ) أو الاستغواء ( seduction ) . وقد قصراها على عقود التبرع دون عقود المعاوضة . ولا نرى فرقا بين نظرية الاستغلال في عقود المعاوضة ونظرية الاستهواء في عقود التبرع . والجزاء في الحالتين واحد هو قابلية العقد للإبطال . والأولى إدماج نظرية الاستهواء في نظرية الاستغلال واعتبارهما نظرية واحدة . وقد رأينا القضاء في مصر يلجأ إلى نظرية الاستهواء عندما كانت نظرية الاستغلال تعوزه ( نقض مدني في 29 ابريل سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 55 ص 152 وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم – قارن استئناف مختلط في 18 مارس سنة 1947 م 59 ص 167 – وانظر آنفاً فقرة 197 في الهامش ) . ويرى الدكتور وديع فرج في مذكرات له غير مطبوعة التفريق ما بين نظرية الاستغلال ونظرية الاستهواء ، ويذهب في هذا إلى مدى بعيد ، ويقول أن الجزاء في الاستغلال هو البطلان النسبي أما الجزاء في الاستهواء هو البطلان المطلق ( أنظر ص 138 من هذه المذكرات ) .
( [385] ) أنظر سالي في إعلان الإرادة باريس سنة 1929 فقرة 98 على المادة 138 من القانون الألماني .
( [386] ) أنظر سالي المرجع المتقدم فقرة 99 ( م 138 الماني ) . وانظر آنفاً فقرة 201 .
( [387] ) أنظر سالي المرجع المتقدم فقرة 95 – فقرة 97 ( م 138 الماني ) .
( [388] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " لم يأخذ المشروع بمذهب التقنين الألماني فيما يتعلق باستغلال المتعاقد ، بل اقتفى اثر المشروع الفرنسي الإيطالي . وليس معنى هذا التقنين ( الألماني ) أن المغبون قد خضع لتأثير لم يستطع التغلب عليه بإرادته ، وإلا كان من اثر ذلك إلحاق الاستغلال بعيوب الرضاء . ولكن يعيبه أمر مختلف هو أن الطرف الآخر قد استغل فيمن تعاقد معه ما قام به من ضعف وما اشتد عليه من عوز . فليس ينطوي الأمر على عيب في الرضاء ، بل هو ينطوي على عمل مخالف للآداب صدر من المتعاقد الذي حصل على منفعة لا تتناسب مع التزاماته . ولذلك كان الجزاء هو البطلان المطلق لا البطلان النسبي . . تلك وجهة التقنين الألماني . وقد اثر المشروع اطراحها وإتباع ما اختاره المشروع الفرنسي الإيطالي في هذا الصدد . فلم يعتبر الغبن عملا مخالفاً للآداب ، بل اعتبره عيباً من عيوب الرضاء يستتبع وجوده بطلان العقد بطلاناً نسبياً " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 190 – ص 191 ) .
( [389] ) ولم يكن المشروع التمهيدي يفرق في هذا الصدد ما بين دعوى الإبطال في الغلط والتدليس والإكراه ودعوى الإبطال أو الإنقاص في الاستغلال ، فكل هذه الدعاوى كانت تتقادم بثلاث سنوات ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 247 ) . ولكن لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ادخلت التعديل الذي يقضي بهذا التفريق كما مر بنا ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 200 – ص 201 ) .
( [390] ) وإذا صح للقاضي أن يحكم بالإنقاص ولو طلب المتعاقد المغبون الإبطال ، فإن لا يصح له أن يحكم بالإبطال إذا طلب المتعاقد المغبون الإنقاص ، لأن هذا قد قدر مصلحته واقتصر على الإنقاص ، فلا يصح للقاضي أن يحكم بالإبطال وإلا اعتبر أنه قد قضى للخصم بأكثر مما طلب . ويبقى القاضي مقيداً بطلب الإنقاص إذا تقدم به المتعاقد المغبون حتى لو كان الطرف الآخر اثر على إنقاص العقد إبطاله ، ذلك أنه لا يستطيع أن يطلب إبطال عقد استغل هو فيه الطرف المغبون .
( [391] ) ومن هؤلاء الدكتور وديع فرج إذ يقول في مذكراته غير المطبوعة ( ص 134 ) ما يأتي : " ولا أبالغ إذا قلت إن هذا النص الخاص بالاستغلال سيعرض المعاملات لشيء كبير من القلقلة وعدم الاستقرار ، وسيكون مصدراً غزيراً للمناعات والدعاوى " .
( [392] ) أنظر بلانيول وريبير وبولانجيه باريس سنة 1949 جزء 2 فقرة 271 – وانظر أيضاً مذكرات غير مطبوعة للأستاذ مورل ( Morel ) في بعض مسائل متعلقة بتكوين العقود وبقوتها الملزمة : باريس سنة 1948 – سنة 1949 ص 387 ( وقد سبقت الإشارة إليها آنفاً فقرة 203 في الهامش ) .
( [393] ) وغنى عن البيان أن العقود التي تكون قد أبرمت قبل نفاذ القانون المدني الجديد يسري عليها القانون القديم ، فلا تطبق بالنسبة إليها قواعد الاستغلال التي مر ذكرها ، بل يقتصر فيها على تطبيق القواعد العامة على الوجه الذي كان معمولا به في القانون القديم . أما العقود التي تكون قد أبرمت منذ نفاذ القانون الجديد ( أي منذ 15 أكتوبر سنة 1949 ) ، فهذه هي التي تسري عليها المادة 129 من هذا القانون .
( [394] ) اقتصر القانون المدني القديم في الكلام على المحل على نص واحد ، هو المادتان 95 / 149 . وهما تنصان على أنه " يجب أن يكون الغرض من التعهد فعلا ممكناً جائزاً ، وإلا كان باطلا . فإن كان الغرض منه إعطاء شيء ، وجب أن يكون ذلك الشيء مما يجوز التبايع فيه لوزم تعيينه بالنوع وأن يكون صنفه مبيناً بكيفية تمنع الاشتباه على حسب الأحوال " . وقد أشتمل المشروع التمهيدي للقانون الجديد على نص يسرد شروط المحل على هذا النحو ، فنصت المادة 181 من هذا المشروع على ما يأتي : " يجب أن يكون محل الالتزام الذي ينشأ عن العقد أمراً ممكناً ومعيناً أو قابلا للتعيين وجائزاً شرعاً ، وإلا كان العقد باطلا " . ولكن لجنة المراجعة حذفت هذا النص في المشروع النهائي اكتفاء بالأحكام المفصلة التي وردت في المواد التالية ( م 131 – 135 ) ، ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 207 في الهامش ) .
( [395] ) أنظر تاريخ النص فيما يلي ( فقرة 217 في الهامش ) وانظر المادة 26 من المشروع الفرنسي الإيطالي . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " يجب أن يكون محل الالتزام موجوداً وقت التعاقد . فإذا كان قد وجد ولكنه هلك من قبل ، فلا يقوم الالتزام لانعدام المحل . وينطبق نفي الحكم من باب أولى اذاكان المحل لم يوجد أصلاً ولا يمكن وجوده في المستقبل . ويستثنى من نطاق تطبيق هذا الحكمحالة العقود الاحتمالية . . . فإذا كان المحل غير موجود أصلاً وقت التعاقد ولكنه سيوجد فيما بعد فهذا هو الشيء المستقبل . وهو يصح أن يكون محلا للالتزام بشرط أن يكون معيناً أو على الأقل قابلا للتعيين . وليس ثمة محل للتفريق بين بيع الثمار المنعقدة وبيع الثمار قبل انعقادها على نحو ما فعل التقنين المختلط ( م 330 – 331 ) متأثراً في ذلك بأحكام الشريعة إسلامية " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 2 ص 208 ) .
( [396] ) نقول المعروف من أحكام الفقه الإسلامي لأن هناك من فقهاء المسلمين ، كأبن القيم ، من يقول بجواز التعامل في الشيء المستقبل إذا امتنع الغرر ، ومثل ذلك أن يبيع شخص محصول أرضه قل أن ينبت بسعر الوحدة لا بثمن مقدر جزافاً .
( [397] ) ثم نصت المادة 331 من القانون المدني المختلط على ما يأتي : " ومع ذلك فبيع الأثمار المنعقدة وبيع الزرع النابت يشمل أيضاً الأثمار التي تنعقد والزرع الذي ينبت بعد العبي " . أنظر في القضاء المختلط نظرية العقد للمؤلف فقرة 457 .
( [398] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وقد قصد فيما يتعلق بالشرط الأول ، وهو وجود المحل ، أن يزيل كل شك يكتنف حكم الأشياء المستقبلة ، فقرر صلاحيتها لأن تكون محلا للالتزام " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 206 ) .
( [399] ) وقد يكون البيع الواقع على التتام معاً احتمالياً ، فيصبح وجد النتاج أو لم يوجد ، ويراعى ذلك طبعاً في تقدير الثمر .
( [400] ) تاريخ النص : ورد هذا النص ( بفقرتيه ) في المادة 182 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 - يجوز أن يكون محل الالتزام شيئاً مستقبلا . 2 – غير أن التعامل في تركة إنسان على قيد الحياة باطل ، إلا أن يكون برضاه وبورقة رسمية " . ونرى من ذلك أن المشروع التمهيدي يجيز التعامل في التركة المستقبلة برضاء المورث . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " والأصل حظر التعامل في تركة الإنسان ما بقى على قيد الحياة وفقاً للقواعد التقليدية التي جرى العمل لعيها من عهد الرومان . بيد أن المشروع قد استحدث في هذا الشأن أحكاماً هامة ، فأباح التصرف في التركة المستقبلة إذا ارتضى صاحبها ذلك . والحق أن علة تقرير البطلان ، وهي الخوف من مضاربة الوارث على حياة مورثة ، ينبغي استبعادها إذا كان المورث نفسه قد صح عنده من الأسباب المعقولة ما يقر من اجله التصرف . وبهذا ابيح للورثة أن يتفقوا على تنظيم شؤون التركة وأن يتصرفوا فيما يحتمل أن يؤول إليهم منها ما دام المورث قد اقرهم على ذلك " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 205 في الهامش ) . وورد في موضع آخر من المذكرة الإيضاحية ما يأتي : " ورد على قاعدة جواز التعامل في الأشياء المستقبلة استثاء يتعلق بالتركات المستقبلة ، إذ حظر التعامل فيها بضروب التصرفات جميعاً ، كالبيع والمقايضة والشركة والصلح والتنازل وما إلى ذلك . ويراعى أن النص الذي تضمنه المشروع اعم من نص المادتين 263 / 332 من التقنين الحالي ، حيث يقتصر الحظر على البيع . بيد أن بين قواعد المشروع وبين قواعد التقنين الحالي خلافاً أهم مما تقدم يتصل بحكم التعامل في التركة المستقبلة إذا كان حاصلا برضاء صاحبها . فقد احتذى هذا التقنين مثال اغلب التقنينات الأجنبية ، وقضى ببطلان التعامل في تركة إنسان على قيد الحياة ولو برضاه لعدم مشروعية المحل ، باعتبار أن المضاربة على الموت تتعارض مع الآداب . وقد بلغ من أمر هذا الاتجاه أن اعتبر التصرف باطلا ولو كان صادراً من صاحب التركة نفسه كما إذا باع شخص كل أمواله الحاضرة والمستقبلة . أما المشروع فقد اتبع في هذا الشأن مذهباً لا يزال نصيبه من الذيوع غير كبير ( أنظر مع ذلك المادة 636 من تقنين الالتزامات السويسري والمادة 312 من التقنين الالمانين وكذلك المادة 1271 من التقنين الأسباني والمادة 1370 من التقنين الهولندي والمادة 58 من التقنين البولوني ) ، فاستبعد فكرة المضاربة على حياة المورث إذا تدخل هذا في التصرف وارتضاه . وليس كيفي لاتمام التعاقد في هذه الصورة رضاء المتعاقدين ، بل لا بد أيضاً من رضاء المورث ، ويجب أن يكون رضاء الجميع ثابتاً في عقد رسمي . واذاكان التصرف لا ينعقد إلا باجتماع إرادات ثلاث ، فلهذه الحالة نظير في التقنين المصري الحالي ، فحوالة الحق لا تنعقد إلا إذا اقترن رضاء المحال عليه برضاء طرفي الحوالة . وعلى هذا النحو يكون التعامل في التركات المستقبلة قد وصل وفقاً لأحكام المشروع إلى مرحلة جديدة في تطوره . فقد كانت الفكرة في مبدأ الأمر حماية الوارث ، ولهذا شرع البطلان النسبي لمصلحته . ثم اعتبر البطلان بعد ذلك مطلقاً لمخالفة التصرف للآداب من حيث استنكار فكرة المضاربة على موت إنسان لا يزال على قيد الحياة . وانتهى الأمر بالمشروع ، والتقنينات التي اقتبس منها ، إلى وضع المسألة وضعاً جديداً . فكل تصرف يرد على تركة مستقبلة لا يقتصر على المتعاقدين وحدهم ، بل يتناول شخصاً ثالثاً ، يعتبر تدخله ضرورة لا معدى عنها ، إذ الأمر يتعلق بتركته . وإذا كان هذا التدخل إقرارا ضرورياً يصدر من صاحب المصلحة الأولى في التصرف ، فهو في الوقت ذاته كفيل باستبعاد فكرة المضاربة التي استند إليها لاعتبار التصرف مخالفاً للآداب . وغنى عن البيان أن لهذا الوضع الجديد مزايا لا يستهان بها . فهو يبيح اتفاقات لها ، بغير شك ، نفعها من الناحية العملية ، ولا يحول دون الإفادة منها إلا الحظر القائم . فللمورثة مثلا أثناء حياة مورثهم وبموافقته أن يتفقوا على قسمة التركة المستقبلة . ولا شك أن قسمة من هذا القبيل تكون أفضل وابقى من قسمة يجريها الأصول ويلتزم بها الورثة دون أن تكون وليدة إرادتهم . كذلك يجوز لكل وارث أن يتصرف فيما قد يؤول إليه من التركة مع مراعاة الأحكام المقررة بمقتضى قواعد الميراث " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 208 – ص 209 ) .
وبالرغم من الاعتبارات المتقدمة رأت لجنة المراجعة أن تعدل عن هذا التجديد وأن تعود إلى الحكم القديم في تحريم التعامل في التركة المستقبلة ولو برضاء المورث ، فعدلت نص المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 – يجوز أن يكون محل الالتزام شيئا مستقبلا . 2 – غير أن التعامل في تركة إنسان على قيد الحياة باطل إلا في الأحوال التي نص عليها في القانون " . وقد لوحظ في الرجوع إلى الحكم القديم أن أهم أمر كان يراد تحقيقه من وراء إباحة التعامل في التركة المستقبلة برضاء المورث هو إجازة قسمة المورث ، وقد أجازها القانون الجديد بنصوص صريحة ، فتحقق بذلك ما كان مقصودا ًن ولا ضير بعد هذا من المحافظة على تقاليد القانون القديم فيما يجاوز هذا المقصد . وقد أصبح رقم المادة 135 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ أضيفت إلى الفقرة الثانية عبارة " ولو كان برضاه " زيادة في الإيضاح ونسجاً على منوال التقنين القديم . وأصبح رقم المادة 131 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 206 – ص 211 ) . وانظر المادة 26 من المشروع الفرنسي الإيطالي – وقارن المادة 312 من التقنين الألماني والمادة 636 من تقنين الالتزامات السويسري .
هذا وقد كان القانون المدني القديم يتضمن نصاً مماثلا لنص القانون الجديد ، إلا أنه كان مقصوراً على البيع دون غيره من أنواع التعامل ، . فكانت المادتان 263 / 332 تقضيان بان " بيع الحقوق في تركة إنسان على قيد الحياة باطل ولو برضاه " . ولكن الفقه والقضاء في مصر كانا يعتبران هذا النص تطبيقا لقاعدة عامة هي تحريم كل ضروب التعامل من بيع وغير بيع ( نظرية العقد للمؤلف فقرة 456 ) .
( [401] ) أما إذا وقع التعامل على مال لم ينظر فيه إلى أنه يدخل ضمن أموال التركة ، فإنه يصح ، وعلى ذلك لا يعتبر باطلا أن يبيع شخص كل ماله الحاضر ، ولكن إذا تصرف في كل ماله الحاضر والمستقبل إلى وقت موته عد هذا تعاملا في تركة مستقبلة . ولا يعد تعاملا في تركة مستقبلة أن يؤجل المدين وفاء الدين إلى وقت موت مورثه ولو كان الباعث له على ذلك أمله في سداد الدين من التركة التي سيرثها ، ولا تأجيل المدين وفاء الدين إلى يوم موته هو ، فليس في هذا تعامل في مال يدخل ضمن تركة مستقبلة ، بل هو تحديد لأجل دين لا علاقة له بالتركة . ولا يكون التعاقد باطلا حتى لو كان الباعث عليه توقع موت شخص معين ، كما إذا كان الدائن لمستحق في وقف قد حصل على أن يكون المستحق التالي في الوقف كفيلا لمدينه توقعاً لموت هذا المدين ، لأن التعامل هنا لم يقع على مال في تركة مستقبلة . كذلك لا يعتبر باطلا تعهد أخ لأخته بان يدفع لها مبلغاً معيناً على إلا تطالب بشيء من ميراث والدتها إذا تبين أن الأم وهبت ابنها جميع أملاكها واشترطت عليه أن يكتب لأخته سنداً بهذا المبلغ ، إذ يعتبر تصرف الأم هبة مال حاضر لا يدخل في تركة مستقبلة وقد اقترنت الهبة بشرط لصالح الأخت ( محكمة الإسكندرية الكلية الوطنية في 18 يونية سنة 1939 المحاماة 10 ص 99 ) .
ولكن يعد تعاملا في تركة مستقبلة أن يتفق الورثة قبل موت مورثهم على عدم الطعن في أية وصية تصدر من المورث لاحدهم أو لأجنبي ، أو اتفاقهم على اعتبار أية وصية تصدر من المورث لأي منهم باطلة . كذلك يعد تعاملا في تركة مستقبلة تصرف لا يحدد فيه الوارث تركة بذاتها بل يبيع حقوقه في أية تركة تؤول إليه ، والزام المورث أحد الورثة دون غيره بتسديد دين من ديون التركة ، وقصر المورث على أحد الورثة دون الآخرين منفعة تعود عليه من عقد .
( [402] ) وهناك فرق بين أن يبيع الوارث مالا معيناً على أنه سيؤول إليه في تركة مورثه – وهذا بيع باطل لأنه تعامل في تركة مستقبلة – وبين أن يبيع هذا المال المعين على أنه ملكه في الحال – وهذا بيع ملك الغير وهو قابل للإبطال . فإذا باع شخص عقاراً مملوكا لمورثه واشترط أن البيع لا ينفذ إلا بعد موت المورث ، فهم من ذلك أن البائع يتصرف في حق من حقوقه المحتملة في تركة مستقبلة ، وكان البيع باطلا ( محكمة مصر الكلية الوطنية في 30 أكتوبر سنة 1918 المجموعة الرسمية 21 رقم 44 ) .
( [403] ) وقد قضت محكمة النقض بأن كون الإنسان وارثا أو غير وارث ، وكونه يستقل بالإرث أو يشركه فيه غيره ، إلى غير ذلك من أحكام الإرث وتعيين الورثة وانتقال الحقوق في التركات بطريق التوريث لمن لهم الحق فيها شرعا ، كل هذا مما يتعلق بالنظام العام . والتحيل على مخالفة هذه الأحكام باطل بطلانا مطلقا لا تحلقه الإجازة ، ويحكم القاضي به من تلقاء نفسه في أية حالة كانت عليها الدعوى . وتحريم التعامل في التركات المستقبلة يأتي نتيجة لهذا الأصل ، فلا يجوز قبل وفاة أي إنسان الاتفاق على شيء يمس بحق الإرث عنه ، سواء من جهة إيجاد ورثة غير من لهم الميراث شرعاً أو من جهة الزيادة أو النقص في حصصهم الشرعية أو من جهة التصرف في حق الإرث قبل انفتاحه لصاحبه واستحقاقه إياه ، بل جميع هذه الاتفاقات وما شابهها مخالف للنظام العام ، فإذا حررت زوجة لزوجها عقد بيع بجميع أملاكها على أن يتملكها إذا ماتت قبله ، وحرر هذا الزوج لزوجته مثل هذا العقد لتتملك هي ماله في حالة وفاته قبلها ، فإن التكييف الصحيح الواضح لتصرفهما هذا أنه تبادل منفعة معلق على الخطر والغرر ، وانه اتفاق مقصود به حرمان ورثة كل منهما من حقوقه الشرعية في الميراث ، فهو اتفاق باطل . أما التبرع المحض الذي هو قوام الوصية وعمادها فلا وجود له فيه ، ويشبه هذا التصرف أن يكون من قبيل ولاء الموالاة ولكن في غير موطنه المشروع هو فيه مادام لكل من المتعاقدين ورثة آخرون ، بل هو من قبيل الرقبى المحرمة شرعا ( نقض مدني في 14 يونية 1934 مجموعة عمر 1 رقم 199 ص 449 ) .
ولكن لا يوجد ما يمنع المورث ، أن يبيع لوارثه في الحال مالا مملوكا له ، أو يهبه إياه ، فليس هذا تعاملا في تركة مستقبلة ، بل هو تصرف في مال حاضر . وقد قضت محكمة النقض بأن قوانين الإرث لا تطبق إلا على ما يخلفه المورث من الأموال بعد موته ، وأن تقيد التصرفات لا يكون إلا ابتداء من مرض المورث . وأما قبل ذلك فالمالك الكامل الأهلية حر التصرف في ملكه ، ولو أدى تصرفه هذا إلى حرمان ورثته أو تعديل انصبتهم ، ولو كان التصرف صادراً لأحد الورثة ، وهذا بطبيعة الحال ما لم يكن التصرف مشوباً بعيب . وأن هذا حق لا غبار عليه ، ولا يناقض ما قررته محكمة النقض في حكمها الصادر في 14 يونية سنة 1934 ( وهو الحكم السابق الإشارة إليه ) ( نقض مدني في 4 يونية سنة 1936 مجموعة عمر 1 رقم 372 ص 1138 ) .
هذا والتعليل الذي ذكرناها في تحريم التعامل في التركة المستقبلة على المورث نفسه هو التعليل الذي قالت به محكمة النقض كما رأينا . وهو تعليل غير مقنع ، إذ يكفي لتجنب ما سيق من اعتراض يرجع إلى التحليل على مخالفة أحكام الميراث إلا يحرم من هذا التعامل إلا ما كان فيه مخالفة لهذه الأحكام ، ويبقى صحيحاً تعامل المورث في تركته إذا لم يخرج على أحكام الإرث والوصية . وقد سبقت الإشارة إلى أن المشروع التمهيدي تضمن حكما في هذا المعنى حذف في المشروع النهائي .
( [404] ) فإذا تعهد شخص بإيجار عين ستؤول إليه في تركه كان عقده باطلا ( محكمة النقض الفرنسية في دوائرها المجتمعة في 2 يوليه سنة 1903 داللوز 1903 – 1 – 553 ) .
( [405] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 183 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 – إذا كان محل الالتزام الذي نشأ عن العقد أمراً مستحيلا استحالة مطلقة ، كان العقد باطلا . 2 – أما إذا كان الأمر مستحيلا على المدين دون غيره ، صح العقد وألزم المدين بالتعويض لعدم وفائه بتعهده " . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " إذا كانت الاستحالة مطلقة ، فالمحل غير موجود في الواقع . ولا يكون الالتزام نصيب من الوجود إلا إذا طرأت الاستحالة بعد قيام العقد ، فيكون للمتعاقد في هذه الحالة أن يرفع دعوى الفسخ لا دعوى البطلان . أما إذا كانت الاستحالة نسبية ، أي قاصرة على الملتزم وحده ، فالعقد صحيح ويلزم المتعاقد بتنفيذه . على أن التنفيذ إذا استحال على المدين ، كان للدائن أن يقوم به على نفقة هذا المدين طبقاً للقواعد العامة ، وله أيضاً أن يطالب بالتعويض إلا إذا اختار فسخ العقد مع المطالبة بتعويض إضافي ، إن كان ثمة محل لذلك . وقد اقتصر المشروع فيما يتعلق باستحالة المحل على ذلك القاعدة العامة ولم ير داعياً لتفصيلها بالاستكثار من التطبيقات الجزئية . فبعض هذه التطبيقات قد ورد في مواضع أخرى من المشروع ، وبعضها من اليسير أن يستنبط من المبادئ العامة ( أنظر المادة 307 من التقنين الألماني والمادة 20 من تقنين الالتزامات السويسري والمادتين 56 و 57 من التقنين البولوني ألخ . . . على الأخص فيما يتعلق بالاستحالة الجزئية ورجوع من يجهلها من المتعاقدين بالتعويض ) " . وفي لجنة المراجعة حذفت الفقرة الثانية من النص لصعوبة تحديد معيار الاستحالة النسبية واكتفى بالفقرة الأولى بعد تحديد الاستحالة فيها بان الأمر يكون مستحيلا في ذاته ، وأصبح النص كما يأتي : " إذا كان محل الالتزام مستحيلا في ذاته كان العقد باطلا " . وأصبح رقم المادة 136 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ قيل أن المراد من أن الأمر يكون " مستحيلا في ذاته " هو أن يكون مستحيلا استحالة مطلقة ، وقد وافقت اللجنة على المادة دون تعديل وأصبح رقمها 132 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 211 – ص 214 ) .
( [406] ) لا تكون الاستحالة مطلقة إلا إذا رجعت إلى الالتزام في ذاته ، فيكون الالتزام مستحيلا بالنسبة إلى موضوعه ، لا بالنسبة إلى شخص معين سواء كان هذا الشخص هو الملتزم أو كان شخصاً غيره . فيجب إذن أن تكون الاستحالة استحالة موضوعية ( impossibilite objective ) بالنسبة إلى جميع الناس ، لا استحالة شخصية ( impossibilite subjective ) بالنسبة إلى بعض دون بعض .
ومن ثم فبيع ملك الغير تعتبر الاستحالة فيه استحالة نسبية . وإذا كان الالتزام بنقل الملكية في هذا البيع مستحيلا على البائع ، فليس هو بالأمر المستحيل في ذاته ، ويستطيع المالك الحقيقي ، بل يستطيع نفس البائع إذا أصبح مالكا ، أن يقوم بتنفيذ هذا الالتزام ، ولولا ورود نص يجعل بيع ملك الغير قابلا للإبطال ( م 466 من القانون المدني الجديد ) ، لكان هذا البيع صحيحا قابلا للفسخ .
( [407] ) وقد تكون الاستحالة المطلقة اللاحقة لوجود العقد قوة قاهرة ، إذا هي لم ترجع إلى تقصير الملتزم ، فينقضي الالتزام بها ، وينفسخ العقد إذا كان ملزماً للجانبين .
( [408] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 184 من المشروع التمهيدي على النحو الآتي " 1 - يجب أن يكون الشيء محل الالتزام معيناً بذاته ، أو بنوعه ومقداره ، 2 – ويكفي أن يكون الشيء معيناً بنوعه فقط إذا تضمن العقد ما يستطاع به تعيين مقداره . وإذا لم يتفق المتعاقدان صراحة أو ضمناً على درجة الشيء من حيث جودته ولم يمكن استخلاص ذلك من أي ظرف آخر ، التزم المدين بأن يسلم شيئاً من صنف متوسط " . وفي لجنة المراجعة تقرر إدخال بعض تعديلات لفظية ، والنص على حكم البطلان بعد أن استغنى عن المادة 181 من المشروع ، وحذف عبارة " صراحة أو ضمنا " من الفقرة الثانية لأن الاتفاق الضمني يندرج تحت عبارة " استخلاص ذلك من أي ظرف آخر " وإضافة العرف كتخصيص يليه تعميم في عبارة " من أي ظرف آخر " . فأصبح النص كالآتي : " 1 – إذا لم يكن محل الالتزام معيناً بذاته وجب أن يكون معيناً بنوعه ومقداره ، وإلا كان العقد باطلا . 2 – ويكفي أن يكون المحل معيناً بنوعه فقط إذا تضمن العقد ما يستطاع به تعيين مقداره ، وإذا لم يتفق المتعاقدان على درجة الشيء من حيث جودته ، ولم يمكن استخلاص ذلك من العرف أو من أي ظرف آخر ، التزم المدين بان يسلم شيئاً من صنف متوسط " . وأصبح رقم المادة 137 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وكذلك فعلت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، وأصبح رقم المادة 133 . ووافق مجل الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 214 – ص 217 ) . أنظر المادة 190 فقرة 2 من التقنين اللبنانين والمادة 243 من التقنين الألماني .
( [409] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 186 من المشروع التمهيدي على النحو الاتيك " 1 - إذا كان محل الالتزام نقوداً فلا يكون المدين ملزماً إلا بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي اثر ما لم يتفق المتعاقدان على خلاف ذلك . 2 – إذا لم يكن للنقد المعين في العقد سعر قانونين في مصر جاز للمدين أن يبقى دينه بنقود مصرية بعسر القطع في الزمان والمكان اللذين يتم فيهما الوفاء ، فإذا لم يكن في مكان الوفاء سعر معروف للقطع ، فيسعر قطعها في أقرب سوق تجارية . كل هذا ما لم يوجد اتفاق يقضي بغير ذلك . 3 – إذا تأخر المدين عن الوفاء في ميعاد الاستحقاق بتقصير منه كان ملزماً بفرق السعر ، دون إخلال بفوائد التأخير " . وفي لجنة المراجعة اقترح حذف النص كله لأنه يقرر حكما في مسائل اقتصادية يحسن تركها لقانون خاص ، وبعد المناقشة وافقت اللجنة على ذلك مع استبقاء الفقرة الأولى على أن يحذف منها العبارة الأخيرة " ما لم يتفق المتعاقدان على خلاف ذلك " ، فاصحب النص الذي اقرته اللجنة هو ما يأتي : " ( إذا كان محل الالتزام نقودا التزام المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي اثر " . وأصبح رقم المادة 138 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل ، وكذلك فعلت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، وأصبح رقم المادة 134 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 218 – ص 222 ) .
أنظر المادة 24 من المشروع الفرنسي الإيطالي . هذا وقد كان القانون المدني القديم يتضمن النص الآتي ( م 474 / 577 ) : " إذا كان الشيء المستعار نقوداً لزم رده بعين قيمته العددية ، أياً كان اختلاف أسعار المسكوكات الذي حصل بعد وقت العارية " . وهذا النص لا يختلف في المعنى عن النص الجديد ، وإن كان مقصوراً على عقد الفرض .
( [410] ) وقد يترك تعيين المحل لأجنبي كما إذا باع شخص عيناً بثمن يترك تقديره لحكم . فإذا قدر الحكم الثمن كان تقديره ملزماً للمتعاقدين ، وقام التزام المشتري على محل معين ، أما إذا لم يقدره فلا يجوز للقاضي أن يقوم مقامه في التقدير ، لأن عمل العقود لا يدخلفي مهمة القاضي ، فيبقى الثمن غير معين ، ويكون البيع باطلا . ولا يجوز ترك تعيين المحل لإرادة أحد المتعاقدين المحضة إذ يصبح المتعاقد الآخر تحت رحمته ، إلا إذا كانت عناصر التعيين معروفة بحيث لا يكون هناك مجال للتحكم .
هذا وقد أشتمل المشروع التمهيدي على نص يعرض لهذه المسائل هو المادة 185 من هذا المشروع ، وقد جرت على النحو الآتي : " 1 - إذا ترك تعيين الشيء لأحد المتعاقدين أو لأجنبي عن العقد ، فيجب أن يكون هذا التعيين قائماً على أساس عادل . فإذا ابطأ التعيين أو قام على أساس غير عادل ، فيكون تعيني الشيء بحكم من القضاء . 2 – ومع ذلك إذا ترك التعيين لأجنبي عن العقد ولمحض اختياره ، فإن العقد يصبح باطلا إذا لم يستطع هذا الأجنبي أن يقوم بالتعيين أو لم يرد القيام به أو لم يقم به في وقت معقول أو قام به وكان تقديره غير عادل " . وقد حذفت لجنة المراجعة هذا النص في المشروع النهائي لأنه يعرض لحالات تفصيلية قليلة الأهمية ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 215 – ص 216 في الهامش ) . وبعد حذف النص لم يعد هناك مجال لاتباع أحكامه فيما خالفت فيه القواعد العامة التي تقدم ذكرها . أنظر أيضاً في هذا الموضوع المواد 315 و 317 و 319 من القانون الألماني ، وعن هذه المواد اقتبس المشروع التمهيدي المادة 185 التي حذفتها لجنة المراجعة .
( [411] ) محكمة النقض الفرنسية في 17 مايو سنة 1927 داللوز 1928 – 1 – 25 – وفي 31 ديسمبر سنة 1928 سيريه 1930 – 1 – 41 ) مع التعليق هيبير Hubert ) – محكمة باريس الاستئنافية في 21 فبراير سنة 1935 داللوز 1925 – 2 – 115 – وفي 13 ابريل سنة 1926 داللوز 1296 – 2 – 105 .
( [412] ) أو برى ورو الطبعة الخامسة 4 ص 318 – ص 360 – كابيتان في داللوز الاسبوعي سنة 1926 باب المقالات ص 1 وص 17 و ص 33 ، وسنة 1927 ص 1 ، وسنة 1928 ص 53 – ديموج في مقال له في جريدة موثقي العقود ( Journal des notaries ) سنة 1921 ص 137 ، وسنة 1923 ص 97 – جيز في مقال له في مجلة العلم والتشريع المالي ( Revue de science et de legislation financiers ) سنة 1924 ص 5 – ليون كان في تعليقه في سيريه 1920 – 1 – 193 – سافاتييه جازيت داللوز 1924 ص 89 وتعليقه في داللوز 1926 – 2 – 89 و 105 و 153 وسنة 1927 – 2 – 153 و 156 – بلانيول وريبير وجابولد 2 فقرة 11686 . على أن كثيراً من الفقهاء يذهبون إلى عكس هذا الرأي ويقولون بصحة شرط الذهب حتى في المعاملات الداخلية ( بودري وبارد 2 فقرة 1475 – ديبويش ( Dupuich ) في تعليقه في داللوز 1920 – 1 – 137 – جني في مجلة القانون المدني ربع السنوية سنة 1926 ص 557 و سنة 1928 ص 5 – لالو ( Lalou ) في تعليقه في داللوز سنة 1924 – 2 – 17 و 97 – وسنة 1926 – 2 – 69 و 95 – ما تر ( Mater ) في مجلة قانون البنوك ( Revne du droit bancaire ) 1 ص 193 و ص 289 و 2 ص 193 – جوسران 2 فقرة 859 ) .
هذا وقد تضمن المشروع التمهيدي نصاً في هذه المسألة هو المادة 187 ، وقد جرت بما يأتي : " ومع ذلك إذا تقرر سعر إلزامي للنقد الورقي فلا يجوز الاتفاق على أن يكون الوفاء بنقود أجنبية محسوبة بسعر قطعها " . وفي هذا النص تحريم لشرط الذهب . وقد ورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ولهذا يعتبر اشتراط الدفع بالذهب أو على أساس قيمة الذهب باطلا في حالة تقدير سعر إلزامي ( حتى في المعاملات الدولية : المرسوم بقانون رقم 45 لسنة 1935 – قارن القانون الفرنسي في 25 يونية سنة 1928 التقويم السنوي للتشريع الفرنسي سنة 1928 ) ويترتب على بطلان الشرط بطلان العقد بأسره إذا كان الشرط هو الدافع الحافز على التعاقد . ومع ذلك فيجوز الاتفاق على أن يتم الوفاء بنقود أجنبية تحتسب بسعر قطعها إذا كان الدين قد عقد بنقد أجنبي . وليس في هذا مساس بنص في القانون لأن النقد الأجنبي ليس له سعر إلزامي أصلاً . ثم أن العدل يقضي من ناحية أخرى بان يتم الوفاء في المعاملات الدولية على أساس سعر القطع الذي يمثل العلاقة بين النقد الوطني والنقد الأجنبي " . وقد حذفت لجنة المراجعة نص المشروع التمهيدي في المشروع النهائي لأنه يقرر حكماً في مسائل اقتصادية متغيرة يحسن تركها لقانون خاص – ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 218 – ص 219 في الهامش وص 220 – ص 221 ) . وسنرى فيما يلي أن هذا القانون الخاص الذي تركت المسألة لحكمه هو المرسوم بقانون رقم 45 لسنة 1935 ، ويبطل هذا القانون شرط الذهب حتى في المعاملات الخارجية ( الدولية ) . ويغلب أن تترك التقنينات مسألة التعامل بالنقود الأجنبية إلى تشريعات خاصة . وقد نصت المادة 135 من القانون المدني السوري الجديد على أنه " إذا كان محل الالتزام نقوداً ، التزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي اثر ، ما لم ينص القانون على أحكام خاصة بتحويل النقد الأجنبي " .
( [413] ) محكمة النقض الفرنسية في 23 يناير سنة 1924 داللوز 1924 – 1 – 41 وفي 3 يونية سنة 1930 دللوز 1931 – 1 – 5 وفي 2 يولية سنة 1935 داللوز الأسبوعي 1935 – 457 – وفي 17 نوفمبر سنة 1934 ( Nem . Jur ) 1943 فقرة 2670 – محكمة بوردو الاستئنافية في 23 مايو سنة 1 921 داللوز 1923 – 2 – 6 – محكمة باريس الاستئنافية في 16 ابريل سنة 1926 داللوز 1926 – 2 – 105 – وفي ) يولية سنة 1926 داللوز الأسبوعي 1926 – 537 – وفي ) نوفمبر سنة 1928 داللوز الاسبوعي 1929 – ) – محكمة بيزانسون الاستئنافية في 19 يناير سنة 1 929 سيريه 1929 – 2 – 55 . هذا وقد أيد المشرع الفرنسي وجهة نظر القضاء في هذا الموضوع فنص صراحة على اعتبار شرط الذهب صحيحا في المعاملات الخارجية ( أنظر قانون 25 يونية سنة 1928 وقانون 18 فبراير سنة 1 937 ) . أنظر في هذه المسألة بلانيول وريبير وجابولد 2 فقرة 1180 وفقرة 1185 – جوسران 2 فقرة 860 مكررة – كولان وكابيتان الطبعة العاشرة سنة 1948 فقرة 492 .
( [414] ) أنظر في معنى البطلان محكمة الاستئناف المختلطة في 29 ديسمبر سنة 1927 م 40 ص 112 – وفي معنى الصحة محكمة الاستئناف المختلطة في 24 يناير سنة 1923 م 35 ص 182 – وفي 28 مارس سنة 1928 م 40 ص 256 – وفي ) مارس سنة 1929 م 41 ص 291 – وفي 6 ديسمبر سنة 1934 م 47 ص 53 – وفي معنى التمييز ما بين المعاملات الداخلية والمعاملات الخارجية محكمة الاستئناف المختلطة في 26 نوفمبر سنة 1931 م 44 ص 35 – وفي 13 يونية سنة 1934 م 46 ص 331 .
وكانت بعض المحاكم الكلية المختلطة تجزئ أحكام مرسوم سنة 1 914 ، ففيه حكمان وهما اللذان يقرران السعر القانونين والسعر الإلزامي لأوراق البنك الأهلي ينفذان على الأجانب دون حاجة لموافقة الجمعية التشريعية لمحكمة الاستئناف المختلطة ، لانهما صدرا من الدولة المصرية بمالها من حق السيادة ، وأما الحكم الثالث وهو الذي ينص على بطلان شرط الذهب فلا ينفذ على الأجانب في رأي هذه المحاكم لأنه لم يصدر من الدولة المصرية بما لها من حق السيادة ، وهو يتناقض مع المادة 149 من القانون التجاري المختلط التي تقضي بأن وفاء الكمبيالة يون بالعملة التي تذكر فيها ، ولم توافق عليه الجمعية التشريعية . أنظر في أحكام المحاكم المختلطة في هذا المعنى محكمة إسكندرية الكلية في 21 مارس سنة 1 933 جازيت 23 ص 255 – وفي 4 ابريل 1933 جازيت 23 ص 256 – محكمة مصر الكلية في 8 يونية سنة 1933 جازيت 23 ص 257 – وفي 31 يناير سنة 1933 جازيت 23 ص 262 – قضية الدين العام ) . ومع ذلك أصدرت محكمة اسكندرية الكلية المختلطة في 3 مارس سنة 1934 حكما قضت فيه بان مرسوم 2 أغسطس سنة 1914 يدخل في أعمال السيادة وذلك في جميع أحكامه ورتبت على ذلك أن شرط الذهب يكون باطلا ( أنظر في هذا الحكم وفي غيره من أحكام أخرى نظرية العقد للمؤلف ص 515 حاشية رقم 1 ) .
( [415] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية تفنيد للأحكام المصرية التي تقضي بالتمييز بين المعاملات الداخلية والمعاملات الخارجية تنقله فيما يلي : " اتفق لبعض الأحكام في سياق بحثها في تطبيق مرسوم 2 أغسطس سنة 1914 على الاتفاقات الداخلية ( تلك التي تنشأ ويكون الوفاء بها في القطر المصري ) أن تشير – عرضاً ودون أن تقيم الدليل على رأيها – إلى أن أحكام ذلك المرسوم لا تسري على الاتفاقات ذات الصبغة الدولية . وذهبت أحكام أخرى في دعاوى قائمة بالذات على هذا النوع الأخير من الاتفاقات إلى أن مدى تطبيق المرسوم المذكور لا يتعدى حدود الديار المصرية ، وإلى أنه إذا صح تطبيقه على أحوال الوفاء داخل القطر فإنه لا يعفي المدين حيث يكون الوفاء في الخارج من دفع دينه ذهبا . ومن أجل ذلك تنكر تلك الأحكام أن يكون لأوراق البنكنوت سعر رسمي إلزامي حتى في داخل القطر المصري إذا كان الوفاء تنفيذاً لاتفاقات ذات صبغة دولية لأن في ذلك إضراراً بليغاً بالدائنين الذين يقتضون ديونهم في القاهرة أو في الإسكندرية ، ولانه يترتب عليه تفرقة غير مقبولة في المعاملة بين الدائنين . وواضح أن الأحكام المشار إليها تستمد التمييز بين نصوص الاتفاقات من القضاء الفرنسوي ، وإنما جاز ذلك التعبير في فرنسا لعدم وجود حكم تشريعي يقضي ببطلان شرط الدفع ذهباً ، ولان بطلان هذا الشرط لم ينتج إلا من أن أوراق البنكنوت جعل لها سعر إلزامي إلى جانب سعرها الرسمي ، فكان للمحاكم مطلق الحرية في تحديد مدى بطلان شرط الدفع ذهباً مستوحية في ذك أسباب النظام العام القومي وحدها . ورغما من الحملات المتكررة آلت يحملها بعض الفقهاء على أحكام القضاء في هذا الشأن فإن المحاكم لم تلق صعوبة في الحكم ببطلان شرط الدفع ذهبا في الاتفاقات الداخلية ، على أن سيرتها كانت غير ذلك بالنسبة للاتفاقات ذات الصبغة الدولية . وقد حاولت المحاكم الفرنسوية أول الأمر ( راجع حكم محكمة النقض والإبرام الصادر في 2 يونية سنة 1920 ) اعتبار شرط الدفع ذهباً باطلا إذا كان المدين فرنسويا وصحيحاً حيث يكون من شان وفاة الأجنبي بدينه دخول الذهب في فرنسا . ولكنها انتهت إلى اعتماد صحة شرط الدفع ذهباً في العقود ذات الصبغة الدولية إطلاقاً . ويرى بعض الشراح أن المذهب الأخير لا يختلف عن المذهب الأول في تحقيق المصالح القومية إذ كانت فرنسا دائنة للبلاد الأجنبية غير مدينة . وقد ايد قانون تثبيت النقد الصادر في سنة 1928 قضاء المحاكم بان استثنى الديون الدولية المشروط دفعها ذهباً بقيمة الفرنك الجديد ، ولولا النص صراحة على هذا الاستثناء لانسحب حكم ذلك القانون على الديون الداخلية والدولية على السواء . على انه بالرغم مما لقضاء المحاكم الفرنسوية من قوة السند والحجة فإن التفرقة بين هذين النوعين من الوفاء ( ولم يحاول أحد بناءها على أساس قانونين مقبول ) غير مسلمة في جميع البلاد . فالمحاكم الإنجليزية الثلاث التي نظرت في دعوى شركة " تعاون البلديات البلجيكية للكهرباء " قضت اثنتان منها ( المحكمة الابتدائية والمحكمة الإستئنافية ) ببطلان شرط الدفع ذهباً ، وقضى مجلس اللوردات بصحة الشرط المذكور ، دون أن يجعل أي تلك الأحكام الثلاثة للصبغة الدولية للاتفاق أي شأن فيما ذهب إليه من الصحة أو البطلان ، ثم أن قانون النقد الإنجليزي ينطبق على وتيرة واحدة على العقود الداخلية والدولية . وفي ايطاليا من جهة أخرى كان قد صدر قانون في أول مايو سنة 1866 يقضي على الحكومة والأفراد بقبول التعامل بأوراق البنكنوت ( وكان لها سعر إلزامي ) بقيمتها الاسمية كما لو كان لها نفس القيمة الفعلية للمكوكات ولو نص العقد على خلاف ذلك . وظل ذلك القانون معمولا به حتى سنة 1881 ، ولم تكن محاكم ايطاليا تفرق في تطبيق هذا القانون بين العقود تبعاً لوصفها بأنها داخلية أو دولية ، وكانت تقضي ببطلان ما تضمنته الاتفاقات الدولية من شروط الدفع ذهباً . وفي مصر يحكي نظام أوراق البنكنوت من حيث سعرها الرسمي والالزامي ما هو حاصل في وقتنا هذا بامريكا وبين سنتي 1866 و 1881 في ايطاليا . ذلك أنه يوجد نص صريح لا يحتمل أي تفرقة بين العقود التي يسري عليها حكمه . . . " ( مجموعة القوانين والمراسيم والاوامر الملكية سنة 1935 ص 173 – ص 175 ) .
( [416] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 18 فبراير سنة 1936 م 48 ص 142 . وقد قضت هذه المحكمة في حكم آخر ( 31 مارس سنة 1938 م 50 ص 203 ) بأن بطلان شرط الذهب والشروط المماثلة في عقد لا يستتبع بطلان العقد كله أو بطلان الشروط الأخرى التي اتفق عليها المتعاقدان وتلاقت عندها ارادتاهما في صدد طريقة وفاء الدين ومواعيد الوفاء والفوائد وغير ذلك . وحيث يكون شرط الذهب ممنوعا فإنه يكون باطلا سواء كان صريحاً أو ضمنياً ، فيكون إذن باطلا كل شرط – أياً كانت صورته – أملاه اعتبار يرجع لعدم الثقة في العملة الوطنية ، وبخاصة الشروط التي يخير بمقتضاها المتعاقد بين أنواع العملة وشروط الدفع بعملة أجنبية . وأن المرسوم بقانون رقم 45 لسنة 1935 نبذ على وجه قاطع التمييز ما بين المعاملات الداخلية والمعاملات الدولية . وإذا كان شرط الذهب المتفق عليه في عقد فرض باطلا ، فإنه لا يجوز للدائن أن يطالب على أساس المسئولية التقصيرية وبدعوى الغش بمبلغ يساوي ما خسره من جراء نزول الجنيه المصري ، فإن ذلك يكون تحايلا منه للحصول بطريق غير مباشر على ما لم يستطع الحصول عليه بطريق مباشرة بمقتضى شرط الذهب – ومع ذلك قضت محكمة الاستئناف المختلطة في أحكام أخرى بأنه إذا اشترطان يكون الدفع بعملة أجنبية صح الشرط ، ووجب الدفع بهذه العملة : 23 ابريل سنة 1936 م 48 ص 242 – 4 نوفمبر سنة 1936 م 49 ص 3 .
( [417] ) وقد رأينا فيما تقدم ( فقرة 22 في الهامش ) أن المشروع التمهيدي تضمن نصاً ( م 187 ) يحرم شرط الذهب ولكن يبيح في الوقت ذاته شرط الوفاء بنقود أجنبية محسوبة بسعر قطعها . وقد حذف النص في المشروع النهائي لأنه يقرر حكما في مسائل اقتصادية متغيرة يحسن تركها لقانون خاص . وكانت مزية هذا النص أنه يحسم الخلاف في صحة شرط الوفاء بنقود أجنبية مسحوبة بسعر قطعها . والآن وقد حذف النص فإن الخلاف في صحة هذا الشرط يبقى قائماً ، وقد رأينا تضارب أحكام القضاء المختلط في هذه المسألة .
( [418] ) أما إذا كان الشيء يمكن التعامل فيه ولكن لا مالك له ، فهو مال مباح ، كالطير في الهواء والسمك في البحر ، ويملكه من يستولى عليه ويستطيع أن يتعامل فيه .
( [419] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 188 من المشروع التمهيدي على النحو الآتي : " يكون محل الالتزام غير مشروع إذا كان مخالفا للنظام العام أو الآداب " . وفي لجنة المراجعة عدل النص لايراد الحكم القاضي ببطلان العقد ، فأصبح مماثلا للنص الذي انتهى إليه القانون الجديد ، وقدم في المشروع النهائي تحت رقم 139 . ووافق مجلس النواب عليه تحت الرقم ذاته . ثم وافقت عليه لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم 135 ، وكذلك وافق عليه مجلس الشيوخ دون تعديل ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 222 – ص 224 ) .
( [420] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ويلاحظ أن فكرة النظام العام فكرة مرنة جداً . وقد بلغ من أمر مرونتها أن عمد التقنين الألماني إلى إغفال النص عليها عند صياغة المادة 138 . فعلى اثر مناقشات هامة عنيفة جرت بوجه خاص في مجلس الريشتاج انتهى الأمر إلى استبعاد نصوص مختلفة جاء ففيها ذكر العقد المخالف للآداب وللنظام العام كذلك . وكان الاعتقاد السائد أن نظرية النظام العام تنطوي على فكرة عامة مجردة قد تترتب عليها نتائج بالغة الخطورة ، من بينها أن القاضي ربما أباح لنفسه أن يتخذ من النظام العام نظرية فلسفية أو دينية يبينها على مجموعة المبادئ الدستورية أو على سياسة التشريع العامة أو على رأيه الخاص في المسائل الاجتماعية أو الفلسفة الأخلاقية أو الدينية . وقد دافع الحزب الاشتراكي بكل قوته عن النص المقرر لمفكرة النظام العام . وكان يرمي من ذلك إلى اعتبار كل عقد لا يتفق ومبادئ حماية الطبقة العاملة مخالفا للنظام العام . على أن هذه النتائج بذاتها هي التي جعلت غالبية أعضاء الريشتاج تنفر من النص المقرر للنظام العام ومن كل معيار نظري ، وترغب في وضع معيار عملي بحث قوامه العرف والمبادئ المستقاة من الآداب العامة . وعلى هذا النحو لا تكون الاتفاقات التي أشار إليها الحزب الاشتراكي باطلة طبقاً لمذهب من المذاهب الاشتراكية وإنما بناء على التيار الاجتماعي للآداب العامة ( تعليقات على التقنين الألماني الجزء الأول ص 154 – ص 155 ) . ومهما يكن من أمر فليس في الوسع نبذ فكرة النظام العام دون أن يستتبع ذلك اطراح ما توطد واستقر من التقاليد . وقد رؤى من الواجب أن يفرد مكان لهذه الفكرة في نصوص المشروع لتظل منفذاً رئيسياً تجد منهن التيارات الاجتماعية والأخلاقية سبيلها إلى النظام القانوني لتثبت فيه ما يعوزه من عناصر الجدة والحياة . بيد أنه يخلق بالقاضي أن يتحرز من إحلال آرائه الخاصة في العدل الاجتماعي محل ذلك التيار الجامع للنظام العام أو الآداب . فالواجب يقتضيه أن يطبق مذهباً عاماً تدين به الجماعة بأسرها لا مذهبا فردياً خاصاً " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 223 ) .
( [421] ) وقد يستعين القانون على جعل القواعد الخلقية تتدخل في الروابط القانونية من طريق الالتزام الطبيعي . فالاعتراف بالجميل قاعدة خلقية لا يجعلها القانون ملزمة ، ولكن إذا أعطى شخص آخر مالا ، لا تكرما منه بل اعترافا بجميل عليه ، فالقانون يعد هذا وفاء لالتزام طبيعي وليس تبرعا . فالقانون إذن قد ينهي بطريق غير مباشر عما تنهي عنه الأخلاق مباشرة ، بان يجعل الاتفاق المخالف للآداب باطلا . وقد يأمر ، بطريق غير مباشر أيضاً ، بما تأمر به الأخلاق مباشرة ، بان يجعل هذا الذي تأمر به التزاما طبيعيا في ذمة المدين .
( [422] ) ومن هنا كان البت فيما إذا كانت قاعدة قانونية تعتبر من النظام العام أو من الاداب مسالة قانون ن تخضع لرقابة محكمة النقض ز
( [423] ) ومما هو جدير بالذكر أنه حيث تتسع دائرة النظام العام يضيق مبدأ سلطان الإرادة ، وحيث تضيق هذه الدائرة يتسع المبدأ . وقد سبق أن بينا أن مبدأ سلطان الإرادة يتقيد بالنظام العام والآداب .
( [424] ) محكمة النقض الفرنسية في 24 أكتوبر سنبة 1916 داللوز 1916 – 1 – 247 وسيريه 1920 – 1 – 17 مع تعليق بنكاز – أنظر في هذه المسألة بلانبيول وريبير وإسمان 1 فقرة 248 .
( [425] ) محكمة النقض الفرنسية في 2 يولية سنة 1900 سيريه 1904 – 1 – 175 – حكم ثان في 14 مارس سنة 1904 سيريه 1904 – 1 – 444 – حكم ثالث في 15 يونية سنة 1922 سيريه 1922 – 1 – 200 .
وانظر محكمة مصر الكلية الوطنية في 27 مارس سنة 1912 المجموعة الرسمية 13 رقم 120 ص 250 – محكمة بني سويف في 22 ابريل سنة 1913 المجموعة الرسمية 14 رقم 95 ص 184 – محكمة مصر الكلية الوطنية في 21 يولية سنة 1930 المحاماة 11 رقم 315 من 655 محكمة الاستئناف المختلطة في 12 ديسمبر سنة 1901 م 14 ص 46 – وفي 7 ديسمبر سنة 1921 م 34 ص 42 – وفي 2 فبراير سنة 1933 م 45 ص 156 .
( [426] ) محكمة النقض الفرنسية في 17 مايو سنة 1911 سيريه 1913 – 1 – 253 – محكمة الاستئناف المختلطة في 7 ابريل سنة 1920 م 32 ص 260 – وفي 7 ديسمبر سنة 1921 م 34 ص 42 – وفي 28 يناير سنة 1930 جازيت 20 ص 162 رقم 146 – محكمة مصر الكلية الوطنية في 3 نوفمبر سنة 1949 المحاماة 29 رقم 429 ص 790 .
وانظر في هذا الموضوع رسالة لنا باللغة الفرنسية في القيود التعاقدية الواردة على حرية العمل – ليون سنة 1925 – وانظر أيضاً لا باتي ( Labatut ) في القيود الاتفاقية الواردة على حرية التجارة والصناعة والعمل في القضاء الفرنسي – تولوز سنة 1928 .
( [427] ) ولكن التصرف في العملاء يجوز على النحو الآتي : يتعهد طبيب مثلا إلا يباشر مهنة الطب في جهة معينة وأن يقدم الطبيب الجديد – وهو الدائن في هذا التعهد – لعملائه على اعتبار أنه خليفته ، ويصحب هذا التعهد في الغالب تنازل من الطبيب القديم إلى الطبيب الجديد عن إيجار المكان الذي جعل فيه " عيادته " . ( أنظر في هذه المسألة نظرية العقد للمؤلف ص 503 هامش رقم 2 ) .
( [428] ) محكمة الاستئناف الوطنية في 13 فبراير سنة 1906 الاستقلال 5 ص 255 ( السعي للحصول على رتبة أو نيشان ) – وانظر أيضاً في المعنى ذاته محكمة مصر الكلية الوطنية في 5 يونية سنة 1901 الحقوق 6 ص 179 – المجموعة الرسمية 3 رقم 85 / 2 .
( [429] ) فلا يجوز للمحامي أن يجعل وسيطا بينه وبين موكليه ويؤجر الوسيط على وساطته ، فهذا نوع من السمسرة يأباه شرف المهنة . ولا يجوز أن يتفق طبيب مع صيدلي على أن يرسل الطبيب عملاءه للصيدلي ليشتروا منه الأدوية اللازمة لهم في مقابل جعل . ولا يجوز للمحامي أن يأخذ في مقابل " أتعابه " جزءاً من الحق المتنازع عليه ، فإن هذا نوع من الاتجار بالمهنة واستغلال لضعف الموكل .
( [430] ) أنظر آنفاً فقرة 226 .
( [431] ) أنظر في قواعد الإثبات وهل تعتبر من النظام العام ، نظرية العقد للمؤلف فقرة 487 ص 507 – ص 510 .
( [432] ) ومن ذلك أن يتفق البائع والمشتري – في البيع بالتقسيط – على أن يسميا البيع ايجارا حتى تتوافر أركان جريمة التبديد .
( [433] ) أما إذا تعهد الزوج بتعويض زوجته إذا طلقها ، فليس في ذلك مخالفة لأحكام الشريعة ولا للنظام العام . لكن هذا التعهد ينتفي الالتزام به إذا كان الزوج لم يطلق زوجته إلا بناء على فعل اتته هي اضطره إلى ذلك ( نقض مدني في 29 فبراير سنة 1940 مجموعة عمر 3 رقم 35 ص 85 ) . ويكيف التعهد بأنه التزام أصلي معلق على شرط موقف هو وقوع الطلاق بناء على فعل الزوج .
( [434] ) وأول من قال بهذه المقارنة المشهورة بين المحل والسبب هو الأستاذ اودو ( Audot ) ، ثم نقلاه عنه كثير من الفقهاء : اوبرى ورو 4 ص 546 هامش رقم 2 – هيك 7 ص 75 – ديمولومب 24 فقرة 345 وفقرة 355 – لوران 16 فقرة 109 – بودري وبارد 1 فقرة 297 وفقرة 302 – ديموج 2 فقرة 744 – بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 279 .
( [435] ) أنظر آنفاً فقرة 68 .
( [436] ) لم يقتصر " السبب المدني " ( causa civilis ) في القانون الروماني على العقود الشكلية ، بل كان بوجه عام هو المصدر القانونين الذي يكون العقد ويضفى عليه قوته الملزمة . ومن ثم يكون " السبب المدني " للعقود الشكلية هو الشكل ، وللعقود العينية هو تسليم الشيء ، وللعقود الرضائية هو مجرد الاتفاق ، وللعقود غير المسماة هو قيام أحد المتعاقدين بتنفيذ التزاماته ، وهكذا .
( [437] ) ومن ثم كان أول مظهراً لفكرة السبب في تطورها مظهر اتخذت فيه صورة الإثراء بلا سبب ، على فرق ما بين معنيي " السبب " في الحالتين .
( [438] ) وقد عدلت القاعدة بعد ذلك وأصبح عء الإثبات لا يقع على المقرض إلا إذا لم يذكر في العقد المكتوب أن الالتزام له سبب في نفذ ( cautio discreta ) أي إذا لم يعترف المدين كتابة أنه تسلم مبلغ القرض . فإذا اعترف بهذا كان هو المكلف بإثبات أنه لم يتسلم . ولم تقف القاعدة عند حد عقد القرض الواقع على مبلغ من النقود ، بل جاوزت هذا العقد إلى عقد المهر ، ثم إلى عقد القرض الواقع على المثليات غير النقود : وعممت القاعدة بعد ذلك ، فأصبحت تشمل جميع العقود ( أنظر كابيتان في السبب فقرة 44 – بلانيول وريبير وبولانجيه جزء 2 فقرة 284 ) .
( [439] ) أنظر كابيتان في السبب ص 94 .
( [440] ) أما في عقد الإيجار فإن الارتباط يجاوز التكوين إلى التنفيذ ، إذ كانت الأجرة في هذا العقد تقابل الانتفاع ، فإذا تعذر الانتفاع ولو بقوة قاهرة ، عند تكوين العقد أو عند تنفيذه ، فإن الأجرة لا تجب . وإذا تأخر المستأجر عن دفع الأجرة مدة سنتين ، كان للمؤجر الحق في استرداد العين المؤجرة ( كابيتان في السبب ص 98 ) . ويرجع هذا إلى أن عقد الإيجار عقد زمني ، الزمن فيه عنصر جوهري ، وهو محل العقد ذاته .
( [441] ) وإذا لم يقم المتعاقد الآخر بتنفيذ التزامه من تسليم ما عنده للمتعاقد الأول ، كان لهذا أن يطالبه بالتنفيذ كما قدمنا . وكان له أيضاً أن يسترد ما سلمه بدلا من المطالبة بالتنفيذ . وقد يكون هذا أثراً من دعوى الاسترداد التي كانت للمتعاقد الأول قبل الاعتراف بالقوة الملزمة للعقود المسماة ، أو قد يكون الحق في الاسترداد نتيجة لفسخ العقد ، وفي هذا اعتراف بالسبب فهو الذي بنى على تخلفه فسخ العقد ( كابيتان في السبب فقرة 51 ) .
( [442] ) كاتبيتان في السبب فقرة 55 .
( [443] ) على أن هذا التصوير الخاص لفكرة السبب لم يكن إلا نتيجة للصياغة الرومانية الشكلية ، فلم تضع الرومان أية نظرية للسبب ، بل إنهم كانوا إذا أطلقوا كلمة " السبب " قصدوا بها " السبب المدني " ( causa civilis ) الذي رأيناه فيما تقدم .
( [444] ) أنظر بنوع خاص في هذا العهد كابيتان فيا لسبب فقرة 57 – فقرة 77 – شيفرييه ( chevrier ) في تاريخ السبب في الالتزامات باريس سنة 1 929 – بوا جيزان ( Bois – Juzan ) في السبب في القانون الفرنسي بوردو سنة 1939 ص 110 – ص 144 – والمراجع المشار إليها في هذه المؤلفات .
( [445] ) وهو صاحب المثل المشهور : " يربط البقر بقرونه ، ويربط الرجل بكلامه ، ومجرد الوعد أو الاتفاق يعدل العقود اللفظية في القانون الروماني " ' On lie les boeufs par les cornes et les homes par los parcels p et autant vaut une simple promesse ou convenance que les stipulations du Droit Romain' . ( Inst . cont . max . 357 )
( [446] ) أنظر بنوع خاص في هذا العهد : كابيتان في السبب فقرة 77 – فقرة 80 – شيفرييه ص 246 – وما بعدها – تمبال ص 88 وما بعدها – يوناسكو ص 42 وما بعدها – بواجيزان ص 144 وما بعدها .
( [447] ) فقد كان دوما من دعاة القانون الطبيعي ، وعرف بأنه هو الذي احيي التفكير المنطقي في الفقه المدني ، فوضع كتابه المشهور " القوانين المدنية وفقاً للنظام الطبيعي " ( Lois Civiles dans leur ordre naturel ) ، ولم ينهج فيه نهج من سبقه من الفقهاء في شرح نصوص القانون الروماني ( Corpus Juris Civilis ) ، بل كان لا يرجع إلى هذه النصوص إلا لتكون مؤيدة لما يقرره من أحكام العقل والمنطق ، فيكون ذلك ابلغ في الاقناع وادعى إلى الاطمئنان ( mettre l'esprit en repos ) كما يقول .
( [448] ) الكتاب الأول – الباب الأول – الفرع الأول فقرة 7 .
( [449] ) ويذكر كابيتان في كتابه في السبب ( ص 160 – ص 163 و ص 163 هامش رقم 1 ) أن دوما تأثر في نظريته في السبب بفقهاء مدنيين ينتمون إلى الفقهاء الرومانيين ، من أمثال كونان ( Connan ) و دونو ( Doneau ) أنظر أيضاً في هذا المعنى بلانيول وربيير وبولانجيه 2 فقرة 287 .
( [450] ) " القوانين المدنية " الكتاب الأول – الباب الأول – الفرع الأول – وقرر دوما في موضع آخر من الكتاب أن الالتزام قالذي قام على سبب انقطع بعد ذلك يصبح باطلا ( الكتاب الأول – الباب الأول – الفرع الأول فقرة 13 ) ، فهو يستصحب السبب من تكوين العقد إلى تنفيذه .
( [451] ) " القوانين المدنية " الكتاب الأول – الباب الأول – الفرع الأول .
( [452] ) " القوانين المدنية " الكتاب الأول – الباب العاشر – الفرع الأول فقرة 13 .
( [453] ) كابيتان في السبب فقرة 79 . قارن بواجيزان ( ص 150 – ص 155 ) وهو يستخلص من هذه العبارات أن دوما يعتد بالباعث في التبرعات ، ويجعل له أثراً في صحتها – ويبدو أن دوما يميز بين الباعث الدافع للهبة ، ومظهره أن يكون شرطاً مفروضا في العقد ، وهو يؤثر في صحة التبرع ، وبين الدوافع التي تذكر في العقد دون أن تفرض شروطاً ، وهذه لا تؤثر لاحتمال أن يكون هناك دوافع أخرى حملت على التبرع .
( [454] ) ( Principes de la Juris . Fr . Suivant l'ordre . des actions . ) القسم الثاني – الباب الثامن – الفصل الثاني .
( [455] ) كابيتان في السبب فقرة 80 – ويرى بريفودي لاجانس أن التعهد المكتوب يكون ذا سبب صحيح إذا ذكر المتعهد أنه يقر بمديونيته ويتعهد بالدفع ، فالإقرار بالمديونية سبب كاف للالتزام ( بواجيزان ص 158 – ص 159 ) .
( [456] ) فقرة 42 .
( [457] ) " الالتزامات " فقرة 43 .
( [458] ) وزاد بوتييه أيضاً في أنه مير بين السبب بمعنى مصدر الالتزام والسبب بمعنى الغرض الذي يقصد إليه الملتزم ، فوضع بذرة التقسيم الثلاثي للسبب الذي سنراه في النظرية التقليدية .
( [459] ) أنظر بسطاً وافياً للنظرية التقليدية للسبب في ديمولومب 24 ص 329 وما بعدها .
( [460] ) وهذا هو الأصل الفرنسي : ' L'obligation n'existe que si elle a une eause certaine et licite' .
( [461] ) وقد رأينا أصل هذا التمييز فيما نقله المحشون والبارتوليون عن الفلسفة اليونانية من التمييز بين السبب ( causa proxima , finalis ) والباعث ( causa remote, impulsive ) ( أنظر آنفاً فقرة 256 ) ، وفي التمييز الذي قال به بوتييه بين السبب بمعنى مصدر الالتزام والسبب بمعنى الغرض الذي يقصد إليه الملتزم ( أنظر آنفاً فقرة 260 في الهامش ) .
( [462] ) وهذا في غير القانون المصري الجديد الذي ألغى العقود العينية كما رأينا ، ولم يبق منها إلا هبة المنقول . ثم هذا بفرض أن العقود العينية ملزمة لجانب واحد كما يذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء .
( [463] ) كابيتان في السبب فقرة 28 .
( [464] ) ويلاحظ أن القانون الروماني كان يأبى أن يدفع فكرة السبب في عقد البيع إلى حد أن يتطلب بقاء السبب بعد تكوين العقد ، بل كان يقف بفكرة السبب عند تكوين العقد ، دون أن يجاوز مرحلة التكوين إلى مرحلة التنفيذ . فلم يكن يسلم بأية نظرية من هذه النظريات الثلاث : الدفع بعدم التنفيذ والفسخ وتحمل المدين تبعة استحالة التزامه ( أنظر آنفاً فقرة 352 ) . فالنظرية التقليدية في السبب متقدمة في هذه الناحية على القانون الروماني .
( [465] ) ويتحقق انعدام السبب ، دون وهم أو إكراه ، في عقد احتمالي يسمى " كرة الثلج " ( boule de neige ) ( أنظر في ذلك نظرية العقد للمؤلف ص 551 هامش رقم 3 ) كما قد يتحقق في سائر العقود الاحتمالية – وهي عقود السبب فيها هو احتمال المكسب والخسارة في كل من الجانبين – فإذا انعدم هذا الاحتمال في جانب انعدم سبب الالتزام ، وقد يكون ذلك عن بينة وفي غير إكراه .
( [466] ) أنظر في هذا المعنى المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 227 ) .
( [467] ) محكمة مصر الكلية الوطنية في 5 يونية سنة 1901 الحقوق 16 ص 179 . محكمة الاستئناف المختلطة في 27 يناير سنة 1909 م 21 ص 136 – وفي 8 ديسمبر سنة 1920 م 33 ص 59 – وفي 24 فبراير سنة 1921 م 34 ص 83 – و في 12 يناير سنة 1922 ص 34 ص 119 .
( [468] ) اوبرى ورو 4 ص 553 – لارو مبيير م 1132 فقرة 11 – ديمولومب 24 فقرة 335 – لوران 16 فقرة 150 – بفنوار ص 541 .
( [469] ) نقض فرنسي في أول مايو سنة 1855 داللوز 1855 – 1 – 147 .
( [470] ) محكمة عابدين الجزئية في 17 مارس سنة 1915 المجموعة الرسمية 16 رقم 56 – وانظر أيضاً محكمة مصر المختلطة في 8 ديسمبر سنة 1919 جازيت 11 رقم 99 .
( [471] ) ويؤيد هذا الرأي والتون ( جزء أول ص 285 – ص 288 ) والدكتور محمد صالح بك ( الالتزامات ص 254 ) .
( [472] ) 24 فبراير سنة 1921 م 34 ص 85 – وانظر أيضاً محكمة مصر المختلطة في 23 يناير سنة 1922 جازيت 12 رقم 161 ص 90 .
( [473] ) سنة 1826 ص 250 – ص 264 .
( [474] ) جزء 16 فقرة 111 .
( [475] ) في رسالة عنوانها : " بمناسبة تنقيح القانون المدني ، السبب في العقود " بروكسل سنة 1890 :
' A propos de la revision du Code Civil – De la Cause dans les conventions' . Bruxelles 1890 .
( [476] ) نذكر منهم أرتير ( Artur ) في السبب في القانون الروماني والقانون الفرنسي باريس سنة 1878 – تامبال ( Timbal ) في السبب في العقود والالتزامات تولوز سنة 1882 – سيفريادس ( Seferiades ) بحث انتقادي في نظرية السبب باريس سنة 1897 – أنظر أيضاً هيك الجزآن السادس والسابع .
( [477] ) الجزء الثاني فقرة 1037 – فقرة 1039 .
( [478] ) الجزء الأول فقرة 321 – فقرة 327 .
( [479] ) " نظرية السبب " بروكسل سنة 1919 .
( [480] ) ويقول الأستاذ والتون إن نظرية السبب التقليدية مثار للنقد الشديد ، ويتوقع أن التقنين المدني عند تنقيحه يستبعد فكرة السبب كركرن في الالتزام ، ويسير في ذلك على نهج التقنينين الألماني والسويسر ( والتون 1 ص 59 – ص 60 ) .
( [481] ) أنظر أيضاً علماء الفقه التقليدي كأوبري ورو وديمولومب وبيدان وبفنوار . وانظر بريسو في رسالة من بوردو سنة 1879 ، وكولان في رسالة من باريس سنة 1895 ويوناسكو في السبب سنة 1923 .
( [482] ) ويبني كابيتان على أن السبب هو تنفيذ الالتزام لا وجوده ارتباط مصير كل من الالتزامين المتقابلين بمصير الالتزام الآخر . ويرتب على هذا الارتباط نظريات الفسخ والدفع بعدم التنفيذ وتحمل التبعة ، فهذه النظريات جميعاً لا يمكن أن تقوم إلا على أساس أن السبب هو تنفيذ الالتزام لا وجوده .
ويحدد كابيتان السبب في العقد الملزم للجانبين إذا كان احتمالياً بوجود الاحتمال ذاته في العقد ( السبب فقرة 18 ص 40 ) ، وفي العقد الملزم للجانبين الذي يتوخى فيه جميع المتعاقدين غرضاً مشتركا ، كالجمعيات والشركات ، بالغرض المشترك الذي قصد المتعاقدون تحقيقه ( السبب فقرة 19 ) .
( [483] ) كابيتان في السبب فقرة 25 – ويستعرض كابيتان العقود الأخرى الملزمة لجانب واحد : فالوكالة بغير اجر سبب الالتزام فيها هو إسداء جميل للموكل كما في الوديعة بغير اجر – والوعد بالتعاقد سبب الالتزام فيه هو إتمام التعاقد النهائي – والالتزام بوفاء دين يختلف السبب فيه ، فهو تارة يكون فكرة التبرع ، وطوراً يكون فكرة التجديد ، وثالثة يكون تحويل التزام طبيعي إلى التزام مدني ( ويرى كابيتان أن الاعتراف بالالتزام الطبيعي ليس تجديداً له بل هو إنشاء لالتزام مدني السبب فيه هو الالتزام الطبيعي ) – والكفالة سبب التزام الكفيل فيها العلاقة بينه وبين المدين ، وكذلك الإنابة في الوفاء ، وقد يكون هذا السبب تبرعا ، وقد يكون وفاء لدين في ذمة الكفيل للمدين أو في ذمة المناب للمنيب ، أو قرضاً يعطيه الأول للثاني ( كابيتان في السبب فقرة 26 – فقرة 32 ) .
( [484] ) إلى جانب الحالتين اللتين رأينا كابيتان يخلط فيهما الباعث بالسبب توجد حالة ثالثة يعتد فيها كابيتان بالباعث أيضاً ، وذلك إذا أدخل المتعاقدان الباعث في دائرة التعاقد ( champ contractual ) ، وأصبح جزءاً من العقد متفقاً عليه . ويختلف كاسبيتان في هذا عن النظرية الحديثة ، فعنده لا تكفي للاعتداد بالباعث أن يكون معروفاً من المتعاقدين كما تقول النظرية الحديثة ، بل يجب أن يكون متفقاً عليه بينهما ( كابيتان في السبب ص 244 ) .
( [485] ) ويعتبر القرض في هذه الحالة عقداً ملزماً للجانبين ، يلتزم به المقرض أن يسلم للمقترض مبلغ القرض ، ويلتزم به المقرض أن يرد هذا المبلغ للمقرض . فهناك ارتباط ظاهر بين الالتزامين ، وسنرى أن فكرة الارتباط في العقود الملزمة للجانبين تغني عن فكرة السبب . فإذا لم ينفذ المقرض التزامه ، سقط التزام المقترض لما يوجد من ارتباط بين الالتزامين .
( [486] ) أنظر بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 252 ص 350 – فيفورنو في العقد في المشروع الفرنسي الإيطالي وفي القانون المقارن فقرة 124 ص 432 – ص 433 – أنظر أيضاً أوبرى وروى 4 فقرة 345 هامش رقم 1 – ديمانت وكولميه دي سانتير 5 فقرة 46 .
( [487] ) أنظر في المقابلة ما بين جمود النظرية التقليدية ومرونة النظرية الحديثة إلى بنكاز ملحق بودري 2 فقرة 550 وفقرة 613 .
( [488] ) أنظر في تحليل القضاء إلى دابان في نظرية السبب فقرة 152 – فقرة 165 .
( [489] ) ديموج 2 فقرة 746 ص 543 – ليفي اولمان في مذكراته في الالتزامات في الريع الأول من القرن العشرين ص 320 وص 328 – ص 334 – بنكاز ملحق بودري جزء 2 فقرة 608 و 609 و 212 – جوسران 2 فقرة 148 .
( [490] ) وليست نظرية الباعث خصبة فحسب في نطاق القانون المدني والقانون الخاص بوجه عام ، بل هي أيضاً خصبة في نطاق القانون العام . . فنظرية التعسف في استعمال السلطة في القانون الإداري – وهي التي بنى على غرارها نظرية التعسف في استعمال الحق في القانون المدني – إنما هي تطبيق لفكرة الباعث . فإذا كان الباعث للموظف الذي صدر منه القرار الإداري غير مشروع ، كان القرار باطلا للتعسف في استعمال السلطة .
وكما جاز أن يقال بالتعسف في استعمال السلطة الإدارية تطبيقاً لفكرة الباعث ، إلا يجوز أن يقال بالتعسف في استعمال السلطة التشريعية تطبيقاً للفكرة ذاتها ؟ فلا يكون العيب في التشريع أن يكون مخالفاً للدستور فحسب ، كما يخالف القرار الإداري القانون ، بل يجوز ايضاً أن يكون التشريع منطوياً على تعسف إذا هو مثلا مس حقوقاً مكتسبة لا ينبغي أن تمس ، أو إذا كان تحت ستار أن ه قاعدة عامة مجردة لم يتناول في الواقع إلا حالة فردية ذاتية ؟ هذا أمر نكتفي بالإشارة إليه ، فليس هنا مكان البحث فيه .
( [491] ) ومع ذلك يعتد ريبير بالباعث حتى إذا انفرد به أحد المتعاقدين ولم يعلمه المتعاقد الآخر ، اغرقاً منه في فكرته المأثورة من وجوب اخضاع التعامل لقواعد الآداب ( القاعدة الأدبية في الاتلزامات فقرة 35 ص 65 ) .
( [492] ) أنظر آنفاً فقرة 274 في الهامش – وانظر كابيتان في السبب ص 244 .
( [493] ) أنظر جوسران في البواعث ( Les Mobiles ) فقرة 159 ص 201 وفقرة 160 ص 203 .
( [494] ) أنظر بواجيزان ( Bois - Juzan ) في السبب في القانون الفرنسي ص 573 – ص 580 .
( [495] ) لوران 25 فقرة 65 – بودري وفال 1 فقرة 157 .
( [496] ) أنظر كتاب الإيجار للمؤلف فقرة 113 ص 157 – وانظر أيضاً كابيتان في السبب فقرة 110 – ومن الأحكام الفرنسية التي قضت ببطلان عقد الإيجار إذا كان المستأجر قد قصد إدارة العين المؤجرة للعهارة : محكمة ليون الإستئنافية في 11 يولية سنة 1862 سيريه 63 – 2 – 165 – محكمة باريس الإستئنافية في 26 ديسمبر سنة 1899 جازيت دي باليه 1900 – 1 – 132 . وهناك أحكام قضت ببطلان عقد الاستخدام في محل يدار للعهارة : عمحكمة النقض الفرنسية في 11 نوفمبر سنة 1890 داللوز 91 – 1 – 484 . وأحكام قضت ببطلان عقد بيع مفروشات لمحل يدار للعهارة : محكمة السين التجارية في أول مايو سنة 1888 جازيت دي باليه 88 – 1 – 797 . وأحكام قضت ببطلان بيع مشروبات اشتراها مرشح في الانتخاب لتقديمها إلى الناخبين حتى يحملهم على انتخابه وكان بائع المشروبات يعرف قصد المشتري : محكمة تارب ( Tarbes ) الابتدائية في 14 مارس سنة 1899 داللوز 1904 – 2 – 201 .
( [497] ) محكمة بو الإستئنافية في 28 يونية سنة 1906 سيريه 1907 – 2 – 61 – متجر ) – محكمة نيس الابتدائية في 18 نوفمبر سنة 1909 جازيت دي تربيينو 1910 – 1 – 119 ( مجرد مكان ) .
( [498] ) نقض فرنسي في 4 يوليوة سنة 1892 داللوز 92 – 1 – 500 .
( [499] ) نقض فرنسي في أول ابريل سنة 1895 سيريه 96 – 1 – 289 .
( [500] ) نقض فرنسي في 17 ابريل سنة 1923 داللوز 1923 – 1 – 172 .
( [501] ) أنظر مذكرات الأستاذ ليفي أولمان في الالتزامات في الربع الأول من القرن العشرين ص 327 .
( [502] ) نقض فرنسي في 6 ديسمبر سنة 1876 داللوز 77 – 1 – 492 – وفي 29 يونيه سنة 1887 سيريه 87 – 1 – 358 .
( [503] ) نقض فرنسي في 8 يولية سنة 1925 سيريه 1927 – 1 – 294 – وفي 8 يونية سنة 1926 داللوز 1927 – 1 – 113 .
( [504] ) نقض فرنسي في 11 مارس سنة 1918 سيريه 1918 – 1 – 170 .
( [505] ) نقض فرنسي في 2 يناير سنة 1907 داللوز 1907 – 1 – 137 .
( [506] ) نقض فرنسي في 17 يولية سنة 1883 سيريه 84 – 1 – 305 – وفي 8 مايو سنة 1901 داللوز 1902 – 1 – 220 – وفي 23 يوليوة سنة 1913 داللوز 1915 – 1 – 49 – وفي 31 أكتوبر سنة 1922 داللوز 1922 – 1 – 239 .
( [507] ) يفسر الدكتور أبو عافية – في رسالته " التصرف المجرد " القاهرة سنة 1947 – التصرف المجرد علىاساس الإرادة الظاهرة . وعنده أن التصرف المجرد هو التصرف الذي صح بغض النظر عن اختلاف الإرادة الظاهرة عن الإرادة الباطنة ( فقرة 84 من الرسالة المشار إليها ) . ويرتب على ذلك أن التصرف المجرد " نظام استثنائي خارج على القواعد العامةط ولا فرق في ذلك بين القانون الألماني والقانونين المصري والفرنسي " ( فقرة 85 ) . ويرفض أن يكون المعيار في التصرف المجرد هو تجرده عن السبب ، ويذهب إلى أن المعيار هو تجدر التصرف عن الإرادة الباطنة ليتمحض إرادة ظاهرة .
ونلاحظ على هذا المذهب أن التصرف المجرد وهو يتجرد عن الإرادة الباطنة يتجرد في الوقت ذاته عن السبب ، وذلك سواء اعتبر السبب عنصراً مستقلا عن الإرادة الباطنة كما هي الحال في القوانين اللاتينية ، أو اعتبر عنصراً غير مستقل عن الإرادة الباطنة وعد من مقومات هذه الإرادة كما هي الحال في القانون الألماني . فالتصرف المجرد يتميز في جميع الأحوال بتجرده عن السبب . على أن المذهب الذي يقول به الدكتور أبو عافية يضيف شيئاً جديداً ، هو أن التصرف المجرد يتميز لا بتجرده عن السبب فحسب ، بل أيضاً بتجرده عن الإرادة الباطنة ذاتها .
( [508] ) أنظر كابيتان في السبب فقرة 83 – فقرة 84 وبنوع خاص ص 181 – ص 182 . ويستعرض الدكتور أبو عافية في رسالته المشار إليها ( فقرة 41 وما بعدها ) نظرية السبب في القانون الألماني من ناحيتي التصرف المجرد ومبدأ الإثراء بلا سبب . فيبدأ بتحديد ما يسميه الألمان " الإضافة إلى الذمة " ( Vermogenszuwendug ) ، وهي عبارة عن منفعة مالية أو إثراء يتحقق لصالح شخصي بمقتضى عمل إرادي مشروع ( تصرف قانونين أو عمل مادي ) يصدر من المفقتر . وسبب " الإضافة إلى الذمة " هو عبارة عن الغرض المباشر الذي يرمي إلى تحقيه المضيف للذمة . ويحدد هذا السبب وفقاً للفقه الألماني على أساس تقسيم ثلاث للسبب موروث عن دعاوي الإثراء في القانون الروماني ، يكون السبب بمقتضاه إما الوفاء ( causa solvendi ) أو الادانة ( causa credendi ) اوالتبرع ( causa donandi ) . والادانة هي التصرف بمقابل ، وهذا المقابل إما أن يكون موضوعه استرداد ما أعطاه المضيف أو استرداد قيمته كما في القرض وفي الوكالة ، وإما أن يكون موضوعه شيئاً آخر يحدد بالاتفاق كما في العقود الملزمة للجانبين فالبائعيحصل على دين بالثمن في مقابل التزامه بنقل ملكية المبيع . ولا يختلط سبب الإضافة إلى الذمة بالباعث عليها . ويلاحظ الفقهي الألماني فون تور أنه " لا يجب الخلط بين السبب القانونين والاغرراض البعيدة التي يرمى إليها المضيف ، أي البواعث ( Beweggrunde ) التي تدفعه إلى تنفيذ التزامه أو إلى الحصول على مقابل أو إلى الهبة . فوراء كل سبب قانونين بواعث تختلف باختلاف الأحوال . فالهبة مثلا قد تتم بناء على عطف أو بسبب الرأي العام ، ولكن هذه البواعث لا تدخل في حسابنا كقاعدة عامة لتقدير وجود الإضافة ونتائجها القانونية إلا إذا كانت قد اشترطت في التصرف القانونين " . وسنعود إلى هذه المسألة مرة أخرى عند الكلام في الإثراء بلا سبب وتحديد معنى السبب في الإثراء في القانون الألماني . ويكفينا هنا أن نشير إلى التقارب الواضح بين معنى السبب في النظرية التقليدية ومعنى سبب الإضافة إلى الذمة في الفقه الألماني .
أنظر أيضاً في نظرية مادية للسبب في الفقه الإيطالي ، على أساس أن السبب يرتبط بإرادة القانون لا بإرادة الأفراد وباعتبار أن لكل تصرف وظيفة قانونية فهذه الوظيفة هي السبب ، إلى رسالة الدكتور أبو عافية المشار إليها فقرة 36 .
( [509] ) وقد عبد الطريق أمام التقنين الألماني في إجازة الالتزام المجرد أن المؤتمر التاسع لفقهاء الألمان ، تحت تأثير إهرنج الفقيه الألماني المعروف ، اقر هذا الضرب من الالتزام .
( [510] ) أنظر في موضوع التصرف المجرد في القوانين الجرمانية كابيتان في السبب فقرة 85 – فقرة 86 وفقرة 165 – فقرة 174 – سالي في الالتزامات في القانون الاماني فقرة 260 – فقرة 266 – مذكرات الأستاذ ليفي اولمان ص 361 – ص 364 – فيفورنو فقرة 128 – ديموج 1 فقرة 91 و 2 فقرة 847 . ويربط ديموج نظرية الالتزام المجرد بنظرية الإرادة الظاهرة كما فعل الدكتور أبو عافية في رسالته المشار إليها ، فما دمنا نأخذ بالإرادة الظاهرة كما هي فلا شأن لنا بالغاية التي تسعى إليها هذه الإرادة ولا بالباعث الذي حركها ( نظرية العقد للمؤلف فقرة 560 ) .
( [511] ) أنظر في هذا المعنى محكمة الاستئناف المختلطة في 10 فبراير سنة 1931 م 43 ص 208 – وفي 4 يناير سنة 1933 م 45 ص 101 – وفي 17 مارس سنة 1936 م 48 ص 191 – وقارن حكما لمحكمة الاستئناف المختلطة في 25 مايو سنة 1939 م 51 ص 361 قصرت فيه هذه القاعدة على الإنابة الكاملة دون الإنابة غير الكاملة ( وهي التي لا تنطوي على تجديد الدين ) ، أما القانون الجديد فنصه هو كما رأينا عام مطلق لا يميز بين الإنابة الكاملة والإنابة غير الكاملة . أنظر أيضاً الدكتور أبو عافية في التصرف المجرد فقرة 62 .
ويذهب الدكتور أبو عافية ( التصرف المجرد فقرة 61 ) إلى أن المناب لا يجوز له أيضاً أن يتمسك بالدفوع التي تكون للمنيب قبل المناب لديه ، فلو دفع المنيب الدين للمناب لديه فإن هذا لا يمنع المناب لديه أن يطالب المناب بالدين الذي التزم به ، ويرجع المنيب في هذه الحالة بدعوى الإثراء على المناب الديه . ونرى ، مع محكمة الاستئناف المختلطة ( أول يدسمبر سنة 1925 م 38 ص 78 ) التي انتقد الدكتور أبو عافية حكمها ، أن المنيب إذا دفع الدين للمناب لديه كان هذا رجوعا في الإنابة يستطيع المناب أن يتمسك به ، فإذا طالب المناب لديه بعد ذلك المناب بالدين ، جاز لهذا أن يدفع المطالبة بانقضاء الدين ، ولي في نص المادة 361 من القانون الجديد ما يحول دون هذا الدفع . ولكن إذا حول المناب لديه حقه قبل المناب إلى أجنبي ، بقى التزام المناب مجرداً بالنسبة إلى هذا الأجنبي – ذلك أن التصرف المجرد إرادة ظاهرة تجردت عن الإرادة الحقيقية وعن السبب ، وفقا لما يقضي به القانون لمصلحة يتواخها . فالقانون هو الذي يمسك بزمام التجريد ، فلا يبيحه إلا لضرورة ، وبقدر هذه الضرورة . ومن ثم تدرج التجريد تبعاً للقدر الذي تقتضيه الضرورة . وفي المثال السابق يزول التجريد بالنسبة إلى المناب لديه لأن الضرورة لا تقتضيه ، ويبقى بالنسبة إلى الأجنبي لأن الضرورة تستوجب بقاءه .
( [512] ) أنظر في هذا المعنى محكمة الاستئناف المختلطة في 20 ابريل سنة 1930 م 42 ص 470 – الدكتور أبو عافية في التصرف المجرد فقرة 59 – فقرة 60 .
( [513] ) ويلاحظ أنا لشرائع التي تأخذ بالإرادة الظاهرة يغلب إلا تفسح مجالا واسعا لنظرية السبب ، وتكون فكرة السبب عندها فكرة مادية ، وتقر التصرف المجرد زراينا ذلك في القوانين الجرمانية ، وتقول الآن كلمة موجوزة عن الشريعة الإسلامية وعن القانون الإنجليزي .
فالشريعة الإسلامية تأخذ بالإرادة الظاهرة إلى مدى بعيد . ويظهر أن هذا هو الذي منع من تقدم نظرية السبب فيها مع إنها شريعة مشبعة بالروح الدينية والخلقية كالقانون الكنسي الذي هو المصدر الأول لنظرية السبب الحديثة . وإذا أمكن أن نستخلص من نصوص الفقه الإسلامي نظرية للسبب ، فهذه النظرية لا يمكن إلا أن تكون نظرية مادية . ويستطيع الباحث أن يستخلص من نصوص الفقه الإسلامي التمييز ما بين الغرض المباشر الذي قصد المتعاقدان الحصول عليه من العقد وبين الباعث له على التعاقد . فالباعث لا اثر له في صحة العقد إلا إذا ذكر صراحة وأصبح جزءاً من الاتفاق ( أنظر بحثاً في هذه المسألة في نظرية العقد للمؤلف فقرة 562 ) .
والقانون الإنجليزي كالشريعة الإسلامية نظرية السبب فيه نظرية مادية . والعقود عنده إما شكلية وهذه يكفي في صحتها الشكل وحده و وإما رضائية وهذه لا بد فيها من وجود اعتبار ( consideration ) وهو ما يقابل السبب بالمعنى المفهوم من النظرية التقليدية ، أي السبب المادي الداخلي الذي لا يتغير من ويختلف " الاعتبار " عن " السبب " في أمرين : ( 1 ) الفكرة في الاعتبار ليست هي الغنم الذي حصل عليه الملتزم من وراء التزامه كما هو الأمر في السبب ، بل هو الغرم الذي تحمله الدائن حتى يحصل على التزام المدين ( 2 ) نية التبرع لا تصلح " اعتباراً " في القانون الإنجليزي وتصلح " سبباً " في النظرية التقليدية . ومن هنا كانت عقود التبرع في القانون الإنجليزي شكلية لخلوها من " الاعتبار " ( نظرية العقد للمؤلف فقرة 561 ) .
( [514] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادتين 189 و 190 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : م 189 : يكون العقد باطلا إذا التزم المتعاقد دون سبب أو لسبب غير مشروع – م 190 – كي كون السبب غير مشروع إذا كان مخالفاً للنظام العام أو للآداب . وفي لجنة المراجعة ادمجت المادتان في مادة واحدة على الوجه الآتي : " إذا لم يكن للالتزام سبب ، أو كان سببه مخالفاً للنظام العام أو الآداب ، كان العقد باطلا " . وأصبح رقم المادة 140 في المشروع النهائي – ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وكذلك فعلت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، وأصبح رقم المادة 136 . ووافق عليها مجلس الشيوخ دون تعديل ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 226 – ص 228 ) .
( [515] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 225 . وقد أشارت المذكرة الإيضاحية إلى تعديلين استحدثهما القانون الجديد فقالت : " ورغم أن المشروع قد التزم حدود التصوير التقليدي للسبب كما ارتسمت معالمه في التقنينات اللاتينية ، إلا أنه عرض له بتعديلين متفاوتي الأهمية . فيراعى أولاً أنه اقتصر على رد عدم مشروعية السبب إلى تعارضه مع النظام العام أو الآداب دون أن يشير إلى مخالفته لنص من نصوص القانون . وهو بإغفال هذه الإشارة يخالف ما اتبعه التقنين الفرنسي وأكثر التقنينات اللاتينية معتدا في ذلك بعين الاعتبارات التي أملت عليه مسلكه فيما يتعلق بعدم مشروعية المحل . والواقع أنه قد يؤخذ على الإشارة إلى مخالفة السبب لنص من نصوص القانون إفراطها في السعة أو تجردها من الفائدة . فهي تجاوز حدود المقصود إذا صرفت عبارة " نص القانون " إلى الأحكام التشريعية كافة . وهي تصبح عديمة الغناء إذا اقتصر المقصود من هذه العبارة على الأحكام الامرة التي لا يجوز الخروج عليها بمشيئة الأفراد . ويراعى من ناحية أخرى أن المشروع قد اغفل ذكر " السبب الصحيح " ، وهو ما يكون غير مطابق للواقع ، وهذا هو أهم التعديلين " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 225 ) .
( [516] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 227 .
( [517] ) وقد يقال أيضاً – كما قيل في صدد الغلط والتدليس والإكراه – إن العقد يقوم لا على التراضي ، بل على سبيل التعويض .
( [518] ) أنظر الدكتور عبد السلام ذهني بك في النظرية العامة في الالتزامات ص 145 وما بعدها – الدكتور محمد صالح بك في أصول التعهدات ص 264 وما بعدها .
( [519] ) أنظر والتون 1 ص 61 – ص 63 – الدكتور محمد وهيبة في النظرية العامة في الالتزامات فقرة 318 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 544 – فقرة 548 .
( [520] ) وقد أشارت المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي إلى نظرية السبب المزدوجة التي أخذ بها التقنين اللبنانين ولم يأخذ بها القانون الجديد ، فقالت في هذا الصدد ما يأتي : " ويفرق ا لتقنين اللبنانين بين سبب الالتزام وسبب العقد ( م 194 ) . فسبب الالتزام هو الباعث الذي يدفع إليه مباشرة . وهو بهذا الوصف يتمثل في صورة واحدة في كل ضرب من ضروب الالتزام ، ويعتبر جزءاً من التعاقد نفسه . فهو في العقود الملزمة للجانبين الالتزام المقابل ، وفي العقود العينية تسلم المعقود عليه ، وفي التبرعات نية التبرع ، وفي المعاوضات الملزمة لجانب واحد التزام مدني أو طبيعي كان قائماً بين المتعاقدين قبل التعاقد ( م 195 ) . أما سبب العقد فهو الباعث الشخصي الذي يدعو المتعاقد إلى إبرامه ، وهو لا يعتبر شقاً من التعاقد ، فهو يختلف باختلاف الأحوال في العقد الواحد . بيد أن هذه التفرقة ليست في الواقع إلا إبقاء على التمييز بين دلالة السبب في الفقه التقليدي وبين دلالته الحديثة كما استخلصها القضاء . ولما كان التصوير التقليدي ضيق الحدود فقد رؤى الإعراض عنه " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 227 ) – أنظر أيضاً جوسران 2 فقرة 148 .
وممن يقول بازدواج السبب الدكتور حشمت أبو ستيت بك فقرة 242 ، وهو صريح في هذا المعنى . أنظر أيضاً الدكتور بهجت بدوي بك ص 173 – ص 174 .
( [521] ) 24 فبراير سنة 1915 الشرائع 2 رقم 216 ص 210 .
( [522] ) 13 يونية سنة 1909 المجموعة الرسمية 11 رقم 3 ص 6 – الحقوق 24 ص 230 .
( [523] ) 20 فبراير سنة 1930 المحاماة 11 رقم 39 ص 72 .
( [524] ) 26 نوفمبر سنة 1929 المحاماة 10 رقم 147 ص 295 .
( [525] ) 3 نوفمبر سنة 1932 مجلة القانون والاقتصاد 3 ص 476 .
( [526] ) 22 نوفمبر سنة 1877 المجموعة الرسمية للقضاء المختلط 3 ص 18 .
( [527] ) 27 يناير سنة 1909 م 21 ص 136 .
( [528] ) 22 يناير سنة 1924 م 36 ص 170 – ولمحكمة النقض قضاء في مسألة كهذه في حكم لها صدر اخيراً ( لم ينشر بعد ) ذهبت فيه إلى أن الشفيع يعتبر من الغير بالنسبة إلى الثمن الصوري ، فله أن يأخذ به دون الثمن الحقيقي ما دامت له مصلحة في ذلك . وعندهنا أن الشفيع لا يعتبر من الغبر في عقد البيع الذي ذكر فيه الثمن الصوري المخفض ، لأن الغير في الصورية هو شخص ثبت له حق على العين محل التصرف الصوري دون أن يكون هذا الحق ناشئاً عن التصرف الصوري ذاته ، والشفيع شخص ثبت له حق على العين الشمفوعة نشا عن البيع الصوري فلا يكون " غيراً " . وإذا أراد الأخذ بالشفعة وجب أن يدفع الثمن الحقيقي ، قل هذا الثمن عما هو مذكرو في العقد أو زاد . وسنعرض لهذه المسألة بتفصيل أوفى عند الكلام في الصورية .
أما قضاء محكمة الاستئناف المختلطة الذي أوردناه هنا ، فوجه الاستشهاد به أنه يأخذ بالنظرية الحديثة في السبب ، ولكن نأخذ عليه أنه إذا اعتبر الاتفاق على الثمن الحقيقي باطلا لعدم مشروعية السبب ، وجب أيضاً أن يعتبر الاتفاق على الثمن الصوري غير موجود لصوريته ، فيسقط الاتفاق في الحالتين . ولا يستطيع الشفيع أن يتمسك لا بالثمن الصوري ولا بالثمن الحقيقي . بل هو لا يستطيع الأخذ بالشفعة إطلاقاً لن البيع الذي يريد بسببه الأخذ بالشفعة ير موجود لانعدام الثمن .
( [529] ) 25 فبراير سنة 1897 م 9 ص 194 – 15 مايو سنة 1929 م 41 ص 394 .
( [530] ) 24 يونية سنة 1931 جازيت 22 رقم 279 ص 249 .
( [531] ) 16 مارس سنة 1933 م 45 ص 203 .
( [532] ) 5 ديسمبر سنة 1934 م 47 ص 50 .
( [533] ) 8 يونية سنة 1916 جازيت 6 رقم 536 ص 176 .
( [534] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 10 مارس سنة 1897 م 9 ص 190 .
( [535] ) أنظر آنفاً فقرة 173 .
( [536] ) من ذلك ما ورد في بلانيول وريبير وبولانجيه ( الطبعة الثالثة 1949 ) 2 فقرة 205 وفقرة 304 وفقرة 824 ( وقد سبقت الإشارة إليها آنفاً في حاشية الفقرة 173 من هذا الكتاب ) من أن الغلط في الباعث هو في الواقع غلط في السبب ، والجزءا في الحالتين هو البطلان النسبي لا البطلان المطلق ، وذلك لأن شرط الصحة في السبب تراد به حماية مصلحة فردية ، فجزاء الإخلال به البطلان النسبي ، أما شرط المشروعية فتراد به حماية مصلحة عامة ، فجزاء الإخلال به البطلان المطلق – أنظر أيضاً في هذا المعنى بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 263 .
ومن ذلك أيضاً ما هب إليه الدكتور حلمي بهجت بدوى بك ( أصول الالتزامات ص 179 و ص 186 وص 232 ) من أن الغلط صورة من صور السبب غير الصحيح ، فهو يصوغه على أنه قصور الغرض المباشر الذي اتجهت إليه إرادة المتعاقد عن إجابة الحافز الرئيسي الذي حفزه للتعاقد ، ويقول إن هذه الصيغة هي بعينها صيغة السبب غير الصحيح ، وهي على هذا الوجه صالحة للتطبيق على جميع أنواع الغلط دون حاجة إلى تقسيم الغلط إلى غلط في الشخص وغلط في الشيء وغلط في غير ذلك ، لأن العبرة ليست بذات الشخص أو بذات الشيء وإنما بالغرض الذاتي أي بالحافز الرئيسي . فإذا ما خلص له أن حالتي الغلط والتدليس هما بعينهما حالة السبب غير الصحيح ، جعل الجزاء في كل هذه الأحوال البطلان النسبي لا البطلان المطلق . فهو يلحق الغلط بالسبب في ماهيته ، ثم يلحق السبب بالغلط في جزائه . وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ( أنظر آنفاً حاشية الفقرة 173 ) .
( [537] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ويراعى من ناحية أخرى أن المشروع قد اغفل ذكر " السبب غير الصحيح " ، وهو ما يكون غير مطابق للواقع ، وهذا هو أهم التعديلين . فالحق أن الغلط في هذا الشأن لا يعدو أن يكون غلطا في الباعث . وقد كان يخلق التنبيه إلى ما في الإبقاء على التفرقة بين الغلط والسبب غير الصحيح من تشبث بأهداب السطحيات والفوارق الصناعية ، بعد أن أصابت فكرة الغلط من السعة ما جعلها تجاوز نطاقها المادي الضيق ، وتصبح فكرة نسفية تتناول الباعث المستحث ، وتنتهي بذلك إلى صورتها السوية في " الغلط الجوهري " . ولهذا رؤى إخراج " السبب غير الصحيح " أو الغلط في السبب من بين أسباب البطلان المطلق واعتباره سبباً للبطلان النسبي ، شأنه في ذلك شأن سائر ضرور الغلط . ولم يتسبق المشروع من صور السبب غير الصحيح إلا السبب الصوري . ومع ذلك فقد رد حكمه إلى فكرة المشروعية ، وجعل السبب الحقيقي مرجع الحكم فيما يرتب العقد من آثار ، فإن كان هذا السبب مشروعاً صح العقد ، وإن كان غير مشروع بطل العقد لعدم مشروعية سببه لا للصورية " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 225 – ص 226 ) .
( [538] ) ولا يجوز أن يقال إنه يمكن الاستغناء عن مشروعية السبب ، والاقتصار على اشتراط أن يكون العقد غير مخالف للنظام العام أو الآداب كما فعل التقنين الألماني مثلا . فإن هذا الاشتراط لا يستقيم إلا إذا قيل إن المقصود به أن يكون غرض العقد غير مخالف للنظام العام أو الآداب . وغرض العقد هو سببه ، والتعبير عن الغرض بالسبب أدق من ناحية الصياغة الفنية .
( [539] ) أنظر في هذا المعنى بلانيول وريبير وبولانجيه ( الطبعة الثالثة سنة 1949 ) 2 فقرة 281 ، وقد جاء في هذه الفقرة ما يأتي : " لم يستخدم القضاء كثيراً فكرتي انعدام السبب والسبب غير الصحيحن فقد كان لديه لهذا الغرض أداة أخرى هي إبطال العقد الغلط . ولكنه على النقيض من ذلك استخدم إلى مدى بعيد فكرة السبب غير المشروع ، فقد أعطته المادة 1133 وسيلة من وسائل الصنعة الفنية لتقرير جزاء للقاعدة التي اشتملت عليها المادة السادسة من القانون المدني الفرنسي " .
( [540] ) وكان من الحير أن تصاغ المادة 136 على الوجه الآتي : " إذا التزم المتعاقد لسبب غير مشروع ، كان العقد باطلا " .
( [541] ) قارن الدكتور أبو عافية في التصرف المجرد فقرة 54 ص 199 هامش رقم 9 .
( [542] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 192 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : ط 1 – يفترض في كل التزام أن له سبباً مشروعاً ، ولو لم يذكر هذا السبب في العقد ، ما لم يقم الدليل على غير ذلك . 2 – ويعتبر السبب المذكور في العقد هو السبب الحقيقي حتى يقوم الدليل على ما يخالف ذلك . 3 – فإذا قام الدليل على صورية السبب أو على عدم مشروعيته فعلى من يدعى أن للالتزام سبباً آخر مشروعاً أن يثبت ما يدعيه " . وقد اقترح في لجنة المراجعة إدماج الفقرتين الثانية والثالثة في فقرة واحدة وحذف عبارة " أو على عدم مشروعيته " من الفقرة الثالثة لأنها تنص على حالة من حالات صورية السبب ، واقترح أحد الاضعاء إدخال تعديل لفظي على الفقرة الأولى ، فوافقت اللجنة على هذه الاقتراحات ، وأصبح نص المادة النهائي ( م 141 ) مطابقا للنص الوارد في القانون الجديد . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ اقترح حذف العبارة الأخيرة من الفقرة الثانية وهي : " فإذا قام الدليل على صورية السبب فعلى من يدعى أن للالتزام سبباً آخر مشروعاً أن يثبت ما يدعيه " ، لأن هذه العبارة ليست إلا تطبيقاً للقواعد العامة في الإثبات ، ولكن اللجنة انتهت آخر الأمر إلى إقرار بقائها . وأصبح رقم المادة 137 . ووافق مجلس الشيوخ عليها دون تعديل ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 229 – ص 232 ) .
( [543] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 227 .
( [544] ) سواء ذكر في السند المكتوب الذي يثبت العقد أو ذكر عند التعاقد ذاته . وغنى عن البيان أن السبب الذي يذكر في العقد هو الباعث الدافع إلى التعاقد ، وإن كان الباعث قل أن يذكر في العقد . ويبدو أن نص المادة 137 من القانون الجديد أكثر مسايرة للسبب بمعناه في النظرية التقليدية ، لاسيما عندنا تتحدث المذكرة الإيضاحية عن عبء إثبات عدم وجود السبب ، ولكن لا شيء يمنع من أن يذكر السبب بمعنى الباعث في العقد ، وعندئذ يعتبر هذا السبب المذكور هو السبب الحقيقي حتى يقوم الدليل على صورية السبب أو على عدم مشروعيته .
( [545] ) نقض مدني في 7 ديسمبر سنة 1933 مجموعة عمر 1 رقم 151 ص 284 – وفي 11 يناير سنة 1945 مجموعة عمر 4 رقم 182 ص 517 – استئناف وطني في 18 مارس سنة 1914 المجموعة الرسمية 15 رقم 82 ص 161 – محكمة استئناف مصر في 13 مايو سنة 1943 المحاماة 26 رقم 49 ص 105 .
وهناك فرق بين عقد غير مذكور سببه وعقد مجرد : الأول إذا اثبت المدين أن له سبباً غير مشروع يكون باطلا كما رأينا ، أما الثاني فلا يبطل ولكن يدفع بدعوى الإثراء بلا سبب فيتخلص منه المدين إذا كان لم يوفه أو يسترده إذا كان قد وفاه . وقد تقدم ذكر ذلك في التصرف المجرد .
( [546] ) دى هلتس 3 ص 117 فقرة 14 – هالتون 1 ص 241 – والتون 1 ص 102 – عبد السلام ذهني بك فقرة 173 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 549 – الدكتور حلمي بهجت بدوي فقرة 106 – الدكتور حشمت أبو ستيت فقرة 244 .
( [547] ) استئناف مختلط في 10 مارس سنة 1897 م ) ص 190 – وفي 2 فبراير 1911 م 23 ص 151 – وفي 26 فبراير سنة 1930 م 42 ص 324 – وفي 13 مايو سنة 1931 – م 43 ص 390 – وفي أول ابريل سنة 1943 م 55 ص 116 – وفي 19 يونية سنة 1945 م 57 ص 183 .
( [548] ) ومن ذلك نرى أن السبب إذا لم يذكر في العقد فهو مفروض ، وعلى المدين إثبات العكس . أما إذا ذكر واثبت المدين صوريته فإن عبء الإثبات السبب الحقيقي ينتقل إلى الدائن ( نقض مدني في 3 نوفمبر سنة 1932 مجموعة عمر 1 رقم 67 ص 138 – وفي 28 مايو سنة 1942 مجموعة عمر 3 رقم 165 ص 469 ) . وانظر في أحكام القضاء المصري هذه المسألة نظرية العقد للمؤلف ص 579 هامش رقم 2 .
وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا اقر الدائن بعدم صحة السبب الوارد في سند الدين وذكر سبباً آخر مشروعاً على أنه السبب الحقيقي ، كان إقراره هذا غير قابل للتجزئة ، وكان الالتزام قائماً وصحيحاً ما لم يثبت المدين أن هذا السبب الأخير غير صحيح ( 15 ابريل سنة 1937 مجموعة عمر 2 رقم 52 ص 150 – وفي هذا المعنى استئناف مختلط في 22 مارس سنة 1933 م 45 ص 209 ) .
( [549] ) وقد قضت محكمة النقض بان عقد القرض يجوز إثبات صورية سببه بالأوراق الصادرة من المتمسك به ، فإذا كانت سندات الدين مذكوراً فيها أن قيمتها دفعت نقداً ، ثم أتضح من الرسائل الصادرة من مدعية الدين إلى مدينها في مناسبات وظروف مختلفة قبل تواريخ السندات وبعدها إنها كانت تستجدي المدين وتشكر له احسانه وتبرعه لها ، فهذه الرسائل يجوز اعتبارها دليلا كتابياً كافياً في نفي وجود قرض حقيقي ( 10 نوفمبر سنة 1932 مجموعة عمر 1 رقم 67 ص 138 – ويلاحظ أن السبب هنا مفهوم بالمعنى المعروف في النظرية التقليدية ، ويغني عنه ركن التراضي على عقد القرض ، فيكون عقد القرض ذاته في هذه القضية هو العقد الصوري ، ولا محل للكلام في صورية السبب ، إلا إذا اتخذت طبيعية العقد قرينة على سببه ، وهذا ما يقع غالباً ) .
( [550] ) استئناف مصر الطنية في 14 ديسمبر سنة 1922 المجموعة الرسمية 25 رقم 34 / 1 – وفي 12 مارس سنة 1930 المجموعة الرسمية 31 رقم 126 ص 324 – وفي 23 يناير سنة 1932 المحاماة 12 رقم 24 ص 69 – استئناف مختلط في 7 يونية سنة 1917 م 29 ص 489 – وفي 22 يناير سنة 1919 م 31 ص 136 – وفي 31 مايو سنة 1923 م 35 ص 483 – وفي 20 ديسمبر سنة 1923 م 36 ص 104 – هذا وإذا تبين أن سبب السند هو الربا الفاحش فللمدين إثبات ذلك بجميع الطرق لأن السبب غير مشروع ( استئناف مصر الوطنية في 12 مارس سنة 1930 المجموعة الرسمية 31 رقم 126 ص 324 – استئناف مختلط في 25 نوفمبر سنة 1896 م 9 ص 37 – وفي 22 ديسمبر سنة 1897 م 10 ص 48 ) . على أن مجرد الادعاء بوجود الربا الفاحش لا يكفي للتخريص في إثباته ، إذ أنه لاي جوز قبول الإثبات بالينة على ما ياخلاف المكتوب ما لم تدل الوقائع الثابتة في الدعوى على أن هناك قرائن قوية على وجود الربا الفاحش ( استئناف وطني في 2 ابريل سنة 1913 المجموعة الرسمية 14 رقم 89 – وفي 29 مارس سنة 1917 المجموعة الرسمية 18 رقم 69 – استئناف مختلط في 3 ديسمبر 1930 جازيت 22 رقم 310 ص 263 – وفي 4 مارس سنة 1931 جازيت 22 رقم 307 ص 263 ) . فإذا نبت أن هناك فوائد ربوية ، فعلى الدائن أن يثبت كم كان المقدار المقترض ، فإذا لم يثبت ذلك فإن المحكمة تقبل اعتراف المدين ( استئناف مختلط في ) ديسمبر سنة 1930 جازيت 22 رقم 307 ص 263 وهو الحكم الذي سبقت الإشارة إليه ) .
( [551] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " اتقي المشروع ما تستهدف له التقنينات اللاتينية من مآخذ حين تجمع بين أحكام البطلان وأسباب انقضاء الالتزامات في صعيد واحد . وقد نهج في هذا الشأن نهج التقنين البرازيلي . وجعل للبطلان نظرية جامعة ، فهيأ بذلك مكانا مناسباً لطائفة من الأحكام تناثرت وانفرط عقدها ، مع ما بينهامن سبب جامع ، كالنصوص الخاصة بالتزام ناقص الأهلية برد ما تسلمه عند إبطال العقد . وقد استمسك المشروع بتقاليد المذهب اللاتيني فيما استحدث في هذا الشأن بوجه عام ، على أن المذهب الجرماني لم يعدم أثره في هذه الناحية . فقد اقتبس المشروع أحكاماً هامة من التقنينين الألماني والسويسري . فمن ذلك . . . نظرية انتقاص العقود ونظرية تحويل العقود أو انقلابها ، وتطبق الأولى عند ورود البطلان المطلق أو النسبي على شق من العقد ، وتطبق الثانية إذا توافرت للعقد الباطل أو القابل للبطلان شروط انعقاد عقد آخر ( أنظر المادتين 139 ، 140 من التقنين الألماني ) . ويراعى من ناحية أخرى أن المشروع قد نص على تقادم دعوى البطلان بانقضاء ثلاث سنوات ، مستلهما في ذلك تقنين الالتزامات السويسري ( أنظر المادة 229 وهي تجعل المدة سنة واحدة ) ، هذا فضلا عن التقادم الطويل المقرر بمقتضى القواعد العامة . ويراعى أن مبدأ سريان التقادم القصير في هذه الحالة يختلف عن مبدأ سريان التقادم الطويل ، ولذلك يكون لهذا التقادم الطويل أثره إذا اكتملت مدته قبل انقضاء أجل السنوات الثلاث " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 233 – ص 234 ) .
( [552] ) أنظر دروجول ( Drogoul ) في رسالته في النظرية العامة في البطلان ص 206 وما بعدها – جابيو ( japiot ) في رسالته في بطلان العقود ص 151 وص 154 .
( [553] ) أنظر في هذا المعنى بلانيول وريبير وبولانجيه فقرة 819 – فقرة 820 .
( [554] ) وقد ورد في " نظرية العقد " للمؤلف ( ص 618 هامش رقم 1 ) في هذا الصدد ما يأتي : " لا توجد هناك ثلاث أحوال للعقد مستقلة بعضها عن البعض الآخر : الصحة والبطلان النسبي والبطلان المطلق ، بل لا توجد إلا حالتان : الصحة والبطلان المطلق . والعقد الباطل بطلاناً نسبياً هو عقد يمر على هاتين الحالتين واحدة بعد الأخرى ، فهو متميز عن العقد الصحيح الذي لا يمر إلا على حالة الصحة ، ومتميز عن العقد الباطل بطلاناً نسبياً متميزاً على هذا النحو ، فالبطلان النسبي نفسه ليس حالة قائمة بذاتها بين الصحة والبطلان المطلق " .
( [555] ) أنظر آنفاً فقرة 135 في الهامش .
( [556] ) وقد تضمن المشروع التمهيدي نصاً يجمع الحالات التي يكون فيها العقد باطلا ، فنصت المادة 193 من هذا المشروع على ما يأتي :
" يكون العقد باطلا في الحالات الآتية :
أ ) إذا ابرمه شخص لا أهلية له إطلاقاً .
ب ) إذا انعدم فيه الرضاء أو المحل أو السبب ، أو إذا لم تتوافر في المحل أو في السبب شروطه الجوهرية .
ج ) إذا اشترط القانون في العقد شكلا يكون باطلا بدونه ولم يستوف العقد هذا الشكل . أو إذا اغفل المتعاقدان إجراء شكلياً يعتبره القانون ركناً في تكوين العقد .
د ) إذا ورد في القانون نص خاص على البطلان " .
وقد حذفت هذه المادة في المشروع النهائي " لأن أحكامها منصوص عليها في المواد السابقة " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 250 في الهامش ) .
( [557] ) وقد تضمن المشروع التمهيدي نصا يجمع الحالات التي يكون فيها العقد قابلا للإبطال . فنصت المادة 195 من هذا المشروع على ما يأتي :
" يعتبر العقد قابلا للإبطال في الأحوال الآتية :
ا ) إذا كان أحد المتعاقدين ناقص الأهلية .
ب ) إذا شاب الرضاء غلط أو تدليس أو إكراه أو استغلال .
ج ) إذا ورد في القانون نص خاص يقضي بأن العقد قابل للبطلان " .
وقد حذفت هذه المادة في المشروع النهائي " لأن أحكامها منصوص عليها في المواد السابقة " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 235 في الهامش ) .
( [558] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ترد أسباب البطلان المطلق إلى تخلف ركن من أركان العقد ، كعدم توافر الأهلية اطلاقاً بفقدان التمييز وانعدام الإرادة تفريعاً على ذلك أو كانتفاء الرضاء أو عدم وجود المحل حقيقة أو حكماً . وغنى عن البيان أن تخلف ركن من أركان العقد ، في حكم الواقع زوحكم القانون ، يحول دون انعقاده أو وجوده . وهذا هو ما يقصد بالبطلان المطلق . أما البطلان النسبي فهو يفترض قيام العقد أو وجوده من حيث توافر أركانه ولكن ركناً من أركانه هو الرضاء يفسد بسبب عيب يداخله ، أو بسبب نقص أهلية أحد العاقدين ، ولذلك يكون العقد قابلا للبطلان بمعنى أنه يبطل إذا طلب ذلك من شرع البطلان لمصلحته ، وهو من داخل رضاءه العيب أو من لم تكتمل أهليته . ومن الجلى أن قابلية العقد للبطلان إنما تمثل العقد في مرحلتين متتابعتين : الأولى مرحلة الصحة وينتج فيها العقد جميع آثاره ، والثانية مرحلة البطلان ويعتبر العقد فيها باطلا لا حكم له من وقت نشوئه . فليست ثمة مراحل ثلاث ، الصحة وقابلية البطلان والبطلان ، وإنما توجد مرحلتان ، الصحة والبطلان . وقد يقرر البطلان المطلق أو النسبي بمقتضى نص خاص في القانون " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 255 – ص 256 ) .
هذا ويمكن القول إن القوانين الأخرى ، من قديمة وحديثة ، تعرف تقسيم البطلان إلى مراتب متعددة ، وتجعل هذه المراتب متدرجة طبقاً لما ينتجه العقد الباطل من الآثار .
فالقانون الألماني يعرف البطلان المطلق والبطلان النسبي ( م 141 – 142 ) . بل إن الفقه الألماني يعرف العقد المنعدم .
ويميز قانون الالتزامات السويسري بين العقد الباطل بطلاناً مطلقاً ( م 11 و 19 و 20 ) والعقد الباطل بطلاناً نسبياً ( م 21 و 23 و 25 و 26 و 28 و 29 ) .
والقانون الإنجليزي يميز بين العقد الباطل بطلاناً مطلقاً ( void ) ويدخل فيه العقد المنعدم ، والعقد الباطل بطلاناً نسبياً ( voidable ) والعقد غير النافذ ( unenforceable ) . ويريد بالاخير عقد صحيحاً لا يمكن إثباته طبقاً للقواعد القانونية ، كعقد غير مكتوب لا يجوز إثباته بغير الكتابة . مثل هذا العقد لا يكون باطلا ولا يجوز طلب إبطاله ، ولكن لا تمكن المطالبة بتنفذه ، على أنه إذا نفذه الملتزم اختياراً فليس له أن يسترد ما فدع . وظاهر أن هذا الفرض هو إحدى حالات الالتزام الطبيعي في القانونين المصري والفرنسي ، ولما كان القانون الإنجليزي لا يعترف بالالتزام الطبيعي كنظرية عامة ، فقد وضع إحدى حالاته في نظرية البطلان .
أما الشريعة إسلامية فلها نظامها الخاص في تدرج العقد على مراتب متعددة من حيث ظهور أثره . ومراتب العقود حسب تدرجها من الضعف إلى القوة هي العقد الباطل ، ثم الفاسد ، ثم الموقوف ، ثم النافذ ، ثم اللازم وهو أقوى مراتب العقود من حيث ظهور الأثر . فالعقد الباطل ما ليس مشروعاً لا أصلاً ولا وصفاً ، أي ما كان في ركنه أو في محله حلل ، وهو لا ينعقد أصلاً ولا يفيد الملك في الأعيان المالية ولو بالقبض . والعقد الفاسد هو ما كان مشروعاً بأصله لا بوصفه ، بان يكون المعقود عليه أو بدله مجهولا جهالة فاحشة ، أو يكون العقد خالياً من الفائدة ، أو يكون مقروناً بشرط من الشرائط الموجبة لفساد العقد . وهو لا يفيد الملك في المعقود عليه إلا بقبضه برضا صاحبه . والعقد الموقوف هو ما كان العاقد فيه فضولياً تصرف في ملك غيره بلا إذنه ، أو كان صبياً مميزاً . فلا يظهر اثر العقد الموقوف ولا يفيد ثبوت الملك إلا إذا أجازه المالك في الصورة الأولى ، والولى أو الوصى في الصورة الثانية . والعقد النافذ هو ما صدر من ذى أهلية كاملة فيما يملك التصرف فيه . والعقد اللازم هو ما كان خالياً من خيارات أربعة : خيار التعيين وخيار الشرط وخيار العيب وخيار الرؤية . ويستخلص من ذلك أن قواعد البطلان في الشريعة الإسلامية تختلف اختلافاً واضحاً عن قواعد البطلان في القانون الحديث .
( [559] ) وقد يكون العقد القابل للإبطال قبل أن يتقرر بطلانه منتجا لبعض الآثار كواقعة مادية لا كعقد . فهو يصلح أن يكون سبباً صحيحاً ناقلا للملكية يستند إليه الحائز في التملك بالتقادم الخمسي ، بخلاف العقد الباطل فإنه لا يصلح لذلك . فإذا اشترى شخص عقاراً من غير المالك ، وكان البائع قاصراً ، صلح هذا البيع أن يكون سبباً صحيحاً ، وتملك المشتري العقار بالتقادم الخمسى ، وظاهر أن البيع الصادر من القاصر غير المالك يعتبر في العلاقة ما بين المشتري والمالك الحقيقي واقعة مادية لا عقداً . وهو لا يكون سبباً صحيحاً إلا قبل إبطاله ، أما ذاا أبطله القاصر أو المشتري فإنه لا يعود صالحاً لأن يكون سبباً صحيحاً . ويتصور أن المشتري يبطله إذا كان من مصلحته أن يرجع العقار إلى صاحبه ويرجع بالثمن على القاصر ، لاسيما إذا نزلت قيمة العقار عن الثمن وأمكن المشتري أن يرجع بالثمن على القاصر باعتبار أنه قد أفاد منه إفادة كاملة .
( [560] ) فتح القدير 5 ص 30 وما بعدها وص 40 وما بعدها .
( [561] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 203 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " إذا كان العقد باطلا أو قابلا للبطلان وتوافرت فيه أركان عقد آخر ، فإن العقد يكون صحيحاً باعتباره العقد الذي توافرت أركانه إذا تبين أن المتعاقدين كانت نيتهما تنصرف إلى إبرام هذا العقد لو إنهما كانا يعلمان ببطلان العقد الأول " . وفي لجنة المراجعة ادخلت بعض تعديلات لفظية ، وأصبح رقم المادة 148 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ جرت مناقشات طويلة حول حذف العبارة الأخيرة من النص ، وقيل في الرد على ذلك بأن المقصود بهذه المادة أن نضع للقاضي معياراً لتحقيق العدالة ، فنحن لا تلزمه بالبحث عن نية المتعاقدين ، ولكنا نطالبه أن يستخلص ما كانت تنصرف إليه نية المتعاقدين عند إبرام العقد ، وهذا التكييف القانونين من القاضي يقع تحت رقابة محكمة النقض على أن يكون مفهوماً أن القاضي يبحث في النية التي كان مفروضاً قيامها قبل النزاع . وانتهت اللجنة إلى الاقتصار على حذف عبارة " لو إنهما كانا يعلمان ببطلان العقد الأول " لأنها تزيد لا محل له ، ولان المسألة نيط أمرها بالنية ، ولا لمحل للتقيد بعد ذلك بالعلم أو بأي ظرف آخر ما دام الأمر سيرجع في النهاية إلى تقدير القاضي . وأصبح رقم المادة 144 – ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 262 – ص 267 ) .
( [562] ) وقد قضت المادة 140 من التقنين الألماني بما يأتي : " إذا كان العمل القانونين الباطل يفي بشروط عمل قانونين آخر ، فهذا العمل الأخير هو الذي يؤخذ به إذا فرض أن المتعاقدين كانا يريدانه لو كانا يعلمان بالبطلان " . ويجمع هذا النص شروط التحول الثلاثة التي سيأتي ذكرها ، وقد أخذ بالإرادة الاحتياطية ولا بانعدام الإرادة العكسية على ما سيأتي بيانه ( أنظر في هذا الموضوع سالي في إعلان الإرادة م 140 ص 158 ) .
( [563] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " استقيت أحكام المادة 203 ( م 144 جديد ) من التقنين الألماني أيضاً . بيد أن فكرة تحويل العقد أو انقلابه أدق من فكرة الانتقاص التي تقدمت الإشارة إليها . فليس يرد أمر التحويل إلى مجرد تفسير لإرادة المتعاقدين . بل الواقع أن القاضي يحل نفسه محلهما ، ويبدلهما من عقدهما القديم عقداً جديداً يقيمه لهما . ويشترط لاعمال أحكام التحويل أن يكون العقد الأصيل باطلا أو قابلا للطبلان . فإذا كان صحيحاً فلا يملك القاضي بوجه من الوجوه أن يحل محله عقداً آخر قد يؤثره المتعاقدان لو فصل لهما أمره . ويشترط كذلك أن تكون عناصر العقد الجديد التي يقيمه القاضي قد توافرت جميعاً في العقد الأصيل الذي قام به سبب من أسباب البطلان ، فلا يملك القاضي على أي تقدير أن يلتمس عناصر إنشاء العقد الجديد خارج نطاق العقد الأصيل . ويشترط أخيراً أن يقوم الدليل على أن نية المتعاقدين كانت تنصرف إلى الارتباط بالعقد الجديد لو إنهما تبينا ما بالعقد الأصيل من أسباب البطلان . ويستخلص مما تقدم أن سلطة القاضي في نطاق التحويل ليست سلطة تحكمية . فإذا كان يتولى عن العاقدين إعادة إنشاء التعاقد إلا أنه يسترشد في ذلك بارادتهما بالذات . وليست الشروط الثلاثة المتقدمة سوى قيود قصد بها أن تحد من إطلاق تقدير القاضي على نحو يتيح تقريب الشقة ما أمكن بين نية المتعاقدين المفترضة ونيتهما الحقيقية . ولعل اعتبار الكمبيالة التي لا تستوفى ما ينبغي لها من الشروط الشكلية سنداً أذنياً أو مجرد تعاقد مدني من ابرز التطبيقات العملية التي يمكن أن تساق في صدد فكرة التحويل " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 263 – ص 264 ) .
( [564] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 202 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " إذا كان العقد في شق منه باطلا أو قابلا للبطلان ، فهذا الشق وحده هو الذي يبطل ، أما الباقي من العقد فيظل صحيحاً باعتباره عقداً مستقلا ، إلا إذا تبين أن العقد ما كان ليتم بغير الشق الذي وقع باطلا أو قابلا للبطلان " . وفي لجنة المراجعة ادخلت بعض تعديلات لفظية ، وأصبح رقم المادة 147 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب المادة دون تعديا . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ حذفت عبارة " أما الباقي من العقد فيظل صحيحاً باعتباره عقداً مستقلا " لأن هذه العبارة جاءت على سبيل الإيضاح وهي تقرر نتيجة تستخلص في غير عناء من النص نفسه ، وأصبح رقم المادة 143 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 259 – ص 261 ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " اقتبس المشروع أحكام المادة 202 ( م 143 جديد ) من التقنينات الجرمانية ، ومن بينها التقنين الألماني وتقنين الالتزامات السويسري والتقنين البولوني بوجه خاص ( أنظر أيضاً المادتين 327 / 308 من التقنينين التونسي والمراكش ي 9 . وهي تعرض لانتقاص العقد عندما يرد البطلان المطلق أو النسبي على شق منه . فلو فرض أن هبة اقترنت بشرط غير مشروع ، أو أن بيعاً ورد على عدة أشياء وقع العاقد في غلط جوهري بشأن شيء منها ، ففي كلتا الحالتين لا يصيب البطلان المطلق أو النسبي من العقد إلا الشق الذي قام به سببه . وعلى ذلك يبطل الشرط المقترن بالهبة بطلاناً مطلقاً ، ويبطل البيع فيما يتعلق بالشيء الذي وقع الغلط فيه بطلاناً نسبياً ، ويظل ما بقى من العقد صحيحاً باعتباره عقداً مستقلاً ، ما لم يقم من يدعى البطلان الدليل على أن الشق الذي بطل بطلاناً مطلقاً أو نسبياً لا ينفصل عن جملة التعاقد ( قارن المادة 139 من التقنين الألماني والمادتين 327 / 308 من التقنينين التونسي والمراكشي ، وهي تلقى عبء الإثبات على عاتق من يتمسك بصحة ما بقى من أجزاء العقد ) . وغنى عن البيان أن هذه الأحكام التشريعية بست إلا مجرد تفسير لإرادة المتعاقدين " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 260 ) .
( [565] ) محكمة الزقازيق في 16 أكتوبر سنة 1929 المحاماة 10 رقم 165 ص 232 – وانظر في موضوع الانتقاص مقالا للدكتور حلمي بهجت بدوي في مجلة القانون والاقتصاد 3 ص 405 – ص 407 – وانظر أيضاً المادة 20 فقرة 2 من تقنين الالتزامات السويسري .
( [566] ) ومن ثم لا يعد تحولا ما نصت عليه المادة 124 من القانون المدني الجديد . وقد رأينا ، تطبيقاً لهذه المادة ، أن الشخص الذي اشترى شيئاً وهو يعتقد أنه أثرى يظل مرتبطاً بالعقد إذا عرض البائع أن يعطيه الشيء الاثرى الذي قصد شراءه ( أنظر آنفاً فقرة 178 ) . وليس في هذا تحول بيع شيء غير أثرى إلى بيع شيء أثرى ، لأن البيع الثاني أدخل عليه عنصر جديد لم يكن موجوداً في البيع الأول ، وهو الشيء الأثرى بالذات ، فتخلف بذلك شرط من شروط التحول .
ويحسن في هذه المناسبة أن نشير إلى وجوب التمييز ما بين تصحيح العقد وتحوله واجازته .
فتصحيح العقد يكون بإدخال عنصر جديد عليه يؤدي قانوناً إلى جعله صحيحاً . فعرض البائع على المشتري أن يعطيه الشيء الأثرى الذي قصد شراءه في المثل المتقدم يجعل المشتري مرتبطاً بالعقد كما قدمنا ، وإدخال هذا العنصر الجديد - الشيء الأثرى – على العقد قد أدى قانوناً إلى جعل العقد صحيحاً . وفي الاستغلال يجوز في عقود المعاوضة أن يتوقى الطرف المستغل دعوى الإبطال إذا عرض ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن ، فعرض ما يكفي لرفع الغبن . هو إدخال عنصر جديد في العقد أدى إلى تصحيحه . وكذلك الحال في تكملة الثمن إلى أربعة أخماس ثمن المثل في بيع العقار المملوك لشخص لا تتوافر فيه الأهلية إذا كان في البيع غبن يزيد على الخمس ، ويعتبر أيضاً تصحيحاً لعقد القسمة إكمال نصيب المتقاسم المغبون ما نقص من حصته إذا لحقه غبن يزيد على الخمس . ومن قبيل تصحيح العقد تخفيض الفوائد الاتفاقية إلى 7% ، وتخفيض الأجل الاتفاقي للبقاء في الشيوع إلى خمس سنين ، وإن كان التصحيح في هاتين الحالتين الأخيرتين قد أتى عن طريق انتقاص العقد وهو إجباري بمقتضى القانون لا اختاري بإرادة المتعاقد . ويجري التصحيح ، كما رأينا ، بتغيير في عنصر من عناصر العقد : إما بإبداله بعنصر جديد كما في إبدال غير الأثرى بالأثرى ، وإما بزيادة فيه كالتكملة في حالتي الاستغلال والغبن ، وإما بانتقاص منه كتخفيض الفوائد الاتفاقية وإنقاص الأجل الاتفاقي للبقاء في الشيوع . والتصحيح هو مزيج من تصرف إرادي وعمل مادي يصدر ، بخلاف الإجازة ، من الطرف الذي لم يتقرر بطلان العقد لصالحه . وله اثر رجعي كالإجازة ، فيعتبر العقد المصحح صحيحاً من وقت نشوئه لا من وقت تصحيحه – وتصحيح العقد غير مراجعة القاضي للعقد . فالتصحيح يكون بمقتضى إرادة المتعاقد أو بمقتضى حكم القانون ، أما مراجعة العقد فتكون من عمل القاضي . والتصحيح لا يكون إلا في عقد نشأ معيباً منذ البداية ، أما مراجعة العقد فقد تكون في عقد نشأ معيباً كإنقاص الالتزامات في الاستغلال وفي عقود الإذعان ، وقد تكون في عقد نشأ صحيحاً كاستكمال القاضي للمسائل غير الجوهرية التي لم يتفق عليها المتعاقدان ( م 95 جديد ) وكإنقاص الالتزام المرهق في نظرية الحوادث الطارئة .
أما تحول العقد فهو ، كما رأينا ، استبدال عقد جديد بعقد قديم من غير إدخال أي عنصر جيد ، بل تبقى عناصر العقد القديم كما هي ، وإنما تكيف تكييفاً قانونياً غير التكييف الأول ، فيقع بذلك استبدال العقد الجديد بالعقد القديم . وعدم إدخال أي عنصر جديد هو الذي يميز التحول من التصحيح .
وأما إجازة العقد فهي ، كما سنرى ، استبقاء العقد القابل للإبطال بعناصره كما هي ، وفي هذا تتفق الإجازة مع التحول وتختلف عن التصحيح ، مع استبقاء العقد المجاز على تكييفه القانونين الأصلي دون أن يكيف تكييفاً جديداً ، وفي هذا تتفق الإجازة مع التصحيح وتختلف عن التحول .
( [567] ) ويبرر ذلك أن التصرف الصحيح قد قام على الغاية التي قصد إليها المتعاقدان ( volonte teleologique ) كما يقول سالي . فهناك غاية عملية يريد المتعاقدان الوصول إليها ، وقد اختارا لذلك طريقاً قانونياً تبين بطلانه . فإن كان هناك طريق قانونين صحيح يؤدي إلى الغاية ذاتها ، فمن الممكن القول بأنهما كانا يريدان هذا الطريق القانونين الصحيح ، لو أنهما كانا يعلمان ببطلان الطريق القانونين الذي اختاراه ، ما دام الطريق الصحيح يؤدي إلى الغاية العملية التي قصداها . فالعبرة إذن بالغاية العملية ، لا بالإرادة القانونية .
هذا وهناك من أنصار نظرية الإرادة الباطنة من يشترط في التحول أن تنصرف إرادة المتعاقدين احتياطياً إلى التصرف الصحيح الذي تحول إليه التصرف الباطل . فلا تكفي الإرادة المحتملة . بل يجب أن يتوقع المتعاقدان احتمال بطلان التصرف الأصلي فتتصرف ارادتهما احتياطياً إلى التصرف الآخر عند تحقق هذا الاحتمال . والإرادة الاحتياطية هي كما نرى إرادة حقيقية . ويكون المتعاقدان قد أرادا تصرفاً باطلا في الأصل ، وأرادا تصرفاً صحيحاً على سبيل الاحتياط . فيقوم التصرف الصحيح على إرادة حقيقة لا على إرادة محتملة .
وعلى النقيض من ذلك يوجد من أنصار نظرية الإرادة الظاهرة من لا يتطلب لا إرادة احتياطية ولا إرادة محتملة ، بل يكتفي بانعدام الإرادة العكسية . فيتحول العقد ما لم يتضح من الظروف أن نية المتعاقدين قد انصرفت إلى استبعاد هذا التحول .
( [568] ) إهرنج : أعماله المختارة ( الترجمة الفرنسية ) جزء 2 ص 10 وما بعدها .
( [569] ) وقد ضرب إهرنج لذلك مثلا : متجر في مدينة كولونيا ابرق إلى مصرف في مدينة فرانكفورت أن يبيع لحسابه عدداً معيناً من السندات . ولكن لفظ " يبيع " بالألمانية ( verkaufen ) وقع فيه خطأ مادي ، وحذف منه المقطع الأول ( vor ) فأصبح ( kaufen ) ، وهذا اللفظ معناه " يشتري " . فكان من ذلك أن اشترى المصرف لعميله بدلا من أن يبيع . نزل سعر السندات بعد ذلك ، فبلغت الخسارة مبلغاً جسيماً ( إهرنج : أعماله المختارة الترجمة الفرنسية جزء 2 ص 7 – ص 8 ) .
( [570] ) إهرنج : أعماله المختارة ( الترجمة الفرنسية ) جزء 2 ص 28 – ص 30 .
( [571] ) اهرنج : أعماله المختارة ( الترجمة الفرنسية ) جزء 2 ص 18 – ص 22 .
( [572] ) ساليم في الالتزامات في القانون الألماني فقرة 161 – أنظر أيضاً في هذا المعنى بتوسع كبير بودري وبارد 1 فقرة 362 .
( [573] ) بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 131 وفقرة 324 – ومع ذلك أنظر فقرة 189 . مازو 1 فقرة 116 – 121 – هلسنراد ص 75 و ص 189 – ص 190 .
( [574] ) نظرية العقد للمؤلف فقرة 592 .
( [575] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 263 في الهامش – وكانت المادة 204 من المشروع التمهيدي تجري على الوجه الآتي : " 1 – إذا كان العقد باطلا أو قابلا للبطلان ، فعلى الطرف الذي يتمسك بالبطلان أن يعوض الطرف الآخر عن الضرر الذي لحقه بسبب اعتقاده صحة العقد ، دون أن تجاوز قيمة التعويض قدر المنفعة التي كانت تعود عليه لو كان العقد صحيحا . 2 – على أنه لا محل للتعويض إذا كان من أصابه الضرر من بطلان العقد له يد في وقوع هذا البطلان ، أو كان يعلم بسببه ، أو ينبغي أن يعلم به " . وقد اقترح في لجنة المراجعة حذف النص لأن نظرية الخطأ عند تكوين العقد نظرية ألمانية دقيقة يحسن عدم الأخذ بها ، فوافقت اللجنة على ذلك . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 263 في الهامش ) .
( [576] ) قارن الدكتور حلمي بهجت بدوى في أصول الالتزامات فقرة 174 – فقرة 179 – ولا يغيب عن البال أننا ، وقد جعلنا المسئولية تقصيرية ، نوجب الأخذ بقواعد هذه المسئولية . فيجب على من يطالب بالتعويض إثبات أن العقد الباطل قد استكمل عناصر الخطأ ، لأن الخطأ واجب الإثبات هنا . ويجب أيضاً أن يلاحظ أن الخطأ التقصيري يختلف عن الخطأ العقدي في الأهلية وفي مدى التعويض وفي الإعذار وفي التضامن وفي الإعفاء الاتفاقي من المسئولية ، وسيأتي بيان هذا كله عند الكلام في المسئولية التقصيرية .
( [577] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وتظهر أهمية التفريق بين البطلان المطلق والبطلان النسبي من وجوه : . . . . . ( ب ) وما دام البطلان الملطق يستتبع اعتبار العقد معدوماً ، فلا يتصور اطلاقاً أن ترد عليه الإجازة . ويختلف عن ذلك حكم العقود القابلة للبطلان ، فهي تصحح الإجازة ، ولو كان ضمنية ، بشرط أن تتوافر شروط صحتها وقت إجازة ( كبلوغ المتعاقد الاقصر سن الرشد وقت الإجازة مثلا ) وأن تكون الإجازة ذاتها منزهة عن العيب ، إذ ينبغي أن تستكمل ما يلزم من الشروط لصحتها باعتبارها تصرفاً قانونيناً . وإذا كان اثر الإجازة يستند ، أو ينعطف على الماضي ، إلا إنها لا تضر بحقوق الغير . فلا تضر الإجازة مثلا من يشتري عقاراً كان قد سبق لمالكه بيعه ، إذا كان الشراء قد تم بعد صدور البيع الأول وقبل إجازة هذا البيع . ولما كان التدليس والإكراه من قبيل الأفعال الضارة التي تلحق بها صفة التقصير المدني ، فيظل مرتكبهما مسئولا عما وقع منه بمقتضى القواعد العامة ، رغم إجازة العاقد الآخر للتعاقد ، ما لم تنطو الإجازة على إسقاط هذه المسئولية . ( ج ) وما دام العقد المطلق البطلان معدوماً ، أو غير موجود ، فلا يتصور أن يرد عليه التقادم . وعلى النقيض من ذلك ينعدم البطلان النسبي بانقضاء خمس عشرة سنة من تاريخ إنشاء العقد ، سلطان الإكراه . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 256 – ص 257 ) .
( [578] ) أنظر تاريخ النص فيما يلي ( فقرة 319 في الهامش ) .
( [579] ) وقد قضت محكمة الإسكندرية الكلية الوطنية بان الهبة الباطلة شكلا ليست مجردة من كل الآثار القانونية ، إذ ينشأ عنها التزام أدبي في ذمة الواهب ، بمعنى أنه إذا اوفاه لا يستطيع استرداده ، وبمعنى أنه ينقلب التزاماً مدنياً . إذا حصل استبداله ( 30 مايو سنة 1930 المحاماة 11 رقم 324 ص 653 ) .
( [580] ) كما يوجد فرق بين هذين وبين إقرار العقد ( ratification ) . فإقرار العقد عمل قانونين صادر من جانب المقر ، وهو من الغير ، فيجعل العقد بهذا الإقرار سارياً في حقه ، كالمالك يقر ببيع الغير لملكه ، وكالموكل يقر عقداً ابرمه الوكيل مجاوزاً فيه حدود الوكالة .
( [581] ) ترايخ النص : ورد هذا النص في المادة 198 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 - العقد الباطل بطلانا نسبياً تصححه الإجازة الصريحة كما تصححه الإجازة الضمينة . وتتحقق الإجازة على الأخص إذا نفذ العقد مختاراً من له الحق في طلب البطلان وهو عالم بذلك . ويشترط لاجازة العقد أن تتوافر فهي و قت الإجازة الشروط اللازمة لصحته ، وأن تكون الإجازة ذاتها خالية من كل عيب . 2 – وتنسحب الإجازة إلى التاريخ الذي تم فيه العقد ، دون إخلال بحقوق الغير " . وفي لجنة المراجعة حور النص تحويراً لفظياً ، وأصبح رقم المادة 143 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ تقرر أن تكون الفقرة الأولى من المادة كما يأتي : " نزول حق إبطال العقد بالاجازة الصريحة والضمنية " مع حذف بقية الفقرة لأن في القواعد العامة ما يغني عن ايرادها . ثم انتقلت اللجنة إلى الفقرة الثانية من المادة فتساءل الرئيس كيف تخل الإجازة بحقوق الغير ، ؟؟ بأن ذلك يتحقق مثلا في حالة شخص باع منزله مرتين وكان البيع الأول قابلا للإبطال ، فرأي البائع إجازة هذا العقد ، فالمشتري الثاني تجب حمايته لأن التصرف الثاني يعتبر بمثابة تنازل عن حق الإجازة ، ولذلك يجب عدم نفاذ الإجازة في حق المشتري الثاني . وبعد مناقشة طويلة انتهى رأي اللجنة إلى استبقاء الفقرة الثانية متضمنة عبارة " دون إخلال بحقوق الغير " ، وأقرت اللجنة النص في النهاية على الوجه الوارد في القانون الجديد ، وأصبح رقم المادة 139 – ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 240 – ص 246 ) .
( [582] ) استئناف مختلط في 27 ابريل سنة 1926 م 38 ص 365 .
( [583] ) وشذ بيع ملك الغير ، إذ يجوز فيه أن تصدر الإجازة من المالك الحقيق مع أنه لا يملك التمسك بالبطلان . ويفسر هذا علة البطلان في بيع ملك الغير ، وهي ترجع إلى أن هذا البيع لا ينقل الملكية إلى المشتري ، فإذا أجاز المالك الحقيقي العقد لم يعد هناك مانع من انتقال الملكية ، فتنتفي علة البطلان ، فيزول .
( [584] ) استئناف مختلط في 17 يونية سنة 1915 م 27 ص 417 – وفي 5 مارس سنة 1922 م 24 ص 261 – والتون 1 ص 149 .
( [585] ) استئناف مختلط في 16 ديسمبر سنة 1986 م ) ص 58 – وفي 2 نوفمبر سنة 1916 م 29 ص 31 .
( [586] ) كبنائه على الأرض التي اشتراها . وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بان استيلاء الشريك على الجزء المفرز الذي وقع في نصيبه بعد القسمة وقيامه فيه بالأعمال التي يقوم بها المالك في ملكه بعد أن كشف العيب الذي شاب عقد القسمة يعتبر إجازة ضمنية للعقد ( 29 مايو سنة 1913 م 25 ص 417 ) – كذلك يعد إجازة ضمنية للقسمة استيلاء القاصر بعد بلوغه سن الرشد على ربع الجزء المفرز الذي وقع في نصيبه في قسمة تمت دون مراعاة الإجراءات القانونية وقت أن كان قاصراً ، واستمراره مدة طويلة على هذه الحال .
( [587] ) استئناف مختلط في 2 مارس سنة 1916 م 28 ص 148 – وفي 2 مارس سنة 1922 م 34 ص 215 . وتصرف البائع في الثمن إجازة ضمنية لبيع قابل للإبطال ( استئناف مختلط في 27 ابريل سنة 1926 م 38 ص 365 ) . وسماح القاصر بعد بلوغه سن الرشد لوكيله بالاستمرار في الإدارة إجازة ضمنية لعقد الوكالة ( استئناف مختلط في 27 يناير سنة 191؟؟ ) وانضمام القاصر بعد بلوغه سن الرشد لأبيه في طلب قسمة عقار ؟؟؟؟ عام للإجراءات القانونية قبل بلوغ القاصر سن الرشد ( استئناف مختلط في 13 فبراير سنة 1913 م 25 ص 175 ) . واستئجار قاصر بعد بلوغه سن الرشد للعقار الذي باعه وهو قاصر إجازة ضمنية للبيع ( استئناف وطني في 25 نوفمبر سنة 1908 المجموعة الرسمية 10 رقم 53 ص 123 ) – ولا يعتبر تنفيذ الالتزام مع التحفظ الصريح إجازة ضمنية ( استئناف مختلط في 20 ديسمبر سنة 1906 م 19 ص 45 ) – ومجرد السكوت عن طلب البطلان لا يعتبر إجازة مهما طالت المدة ، إلا إذا سقط الحق بالتقادم ( استئناف مختلط في 3 فبراير سنة 1915 م 27 ص 146 – وفي 15 يونية سنة 1926 م 38 ص 472 ) ، ما لم يفهم من هذا السكوت أن المتعهد قد نزل عن طلب البطلان ( بني سويف الجزئية في 31 مارس سنة 1900 الحقوق 15 ص 133 ) – ولا يعتبر إجازة ضمنية أن يدفع المتعاقد بوجه من وجوه البطلان ويترك الوجوه الأخرى ( استئناف مختلط في 26 مايو سنة 1904 م 16 ص 285 ) ، ولا دخول المتعاقد في مفاوضات للصلح لم تكن منتجة ( إسكندرية المختلطة التجارية في 2 فبراير سنة 1925 جازيت 16 رقم 1 ص 4 ) ، ولا الإمضاء على محضر حصر التركة المشار فيها إلى العقد القابل للإبطال ما دام من أمضى لا يقصد بإمضائه إجازة العقد .
( [588] ) بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 306 – قارن دي هلتس 1 لفظ ( confirmation ) فقرة 12 .
( [589] ) ومن الفقهاء من يقول بعكس هذا الرأي على التخريج الآتي : البيع الصادر من القاصر صحيح حتى يتقرر بطلانه ، ولذلك تنتقل الملكية إلى المشتري ، ويكون الرهن الصادر من القاصر بعد بلوغه سن الرشد صادراً من غير مالك ، فلا يسري في حق المالك وهو المشتري ، وبعد إجازة البيع تنتقل العين نهائياً إلى المشتري خالية من الرهن ( بلانيول 2 فقرة 1301 ) .
هذا وإذا كان العقد القابل للإبطال من شأنه أن يشهر حتى يصير حجة على الغير ، فلا حاجة لإعادة شهره بعد إجازته ، ويبقى الشهر الأول حافظاً لحجيته ( بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 304 ص 418 – بودري وبارد 3 فقرة 1992 ) .
( [590] ) تاريخ النص ( المادة 141 بفقرتيها ) : ورد هذا النص في المادة 194 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " للمتعاقدين وللخلف العام والخاص وللدائنين التمسك بأوجه البطلان الواردة في المادة السابقة ، كما أن للمحكمة أن تقضي بالبطلان من تلقاء نفسها ، وهذا البطلان لا تلحقه الإجازة ولا يزول التقادم " . وفي لجنة المراجعة عدل صدر المادة واستعملت عبارة " كل ذي مصلحة " لأنها أكثر شمولا من التعبير الوارد في النص الأصلي . وطرحت مسألة زوال البطلان بالتقادم ، وبعد المناقشة والرجوع إلى الاستفتاءات قررت اللجنة أن تسقط دعوى البطلان بالتقادم ، ولكن الدفع بالبطلان لا يسقط . مثال ذلك هبة باطلة شكلا إذا لم يسلم الواهب الشيء الموهوب ، ومضى على الهبة أكثر من 15 سنة ، ورفع الموهوب له دعوى يطالب بالموهوب بمقتضى عقد الهبة الباطل ، فللواهب أن يدفع بالبطلان حتى بعد مرور 15 سنة . أما إذا كان الواهب في هذا المثال قد سلم الهبة للموهوب له بعد سنتين مثلا من وقت العقد ، ثم انقضت 13 سنة من وقت التسليم ، وأراد الواهب أن يرفع دعوى ببطلان الهبة ، فلا يجوز له ذلك ، لأن دعوى البطلان تكون قد سقطت بمضى 15 سنة من وقت الهبة . ويلاحظ أن التقادم هنا هو التقادم المسقط ، لا التقادم المكسب الذي يقتضي أن الموهوب له بعد تسلم الهبة يضع يده عليها خمس عشرة سنة . وأقرت لجنة المراجعة نص المادة بعد إضافة فقرة ثانية على النحو الآتي : " وتسقط دعوى البطلان بمضى خمس عشرة سنة من وقت العقد دون الدفع به " ، وأصبح رقم المادة 145 في المشروع النهائ يز ووافق مجلس النواب على النص بعد تعديلات . وحذفت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ عبارة " دون الدفع به " من الفقرة الثانية لأن من المتفق عليه أن الدفع لا تتقادم . وأصبح رقم المادة 141 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها لجنت 0 مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 250 – ص 253 ) .
( [591] ) نظرية العقد للمؤلف فقرة 625 .
( [592] ) نقض فرنسي في 5 مايو سنة 1879 داللوز 1880 – 1 – 145 .
( [593] ) بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 310 .
( [594] ) أنظر أيضاً في هذا المعنى الدكتور حلمي بهجت بدوى بك فقرة 161 .
( [595] ) أنظر تاريخ نص المادة 241 والأعمال التحضيرية الخاصة بها ، وقد سبق ذكرها في هامش هذه الفقرة ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 250 – ص 253 ) .
( [596] ) وهذا بخلاف ما ذاا كن العقد قابلا للإبطال ، فإن بطلان العقد يزول بالتقادم كما سنرى . وفي المثل الذي نحن بصدده ، لو كان البيع قابلا للإبطال وتقادمت الدعوى ، فإن المشتري يكسب ملكية الأرض ، لا عن طريق التقادم المكسب لحق الملكية ، بل عن طريق عقد البيع ذاته الذي غطى التقادم عنه .
( [597] ) أنظر الدكتور حلمي بهجت بدوى بك فقرة 161 ص 247 .
( [598] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 199 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 – لا يجوز الطعن في عقد باطل بطلاناً نسبياً إذا لم يقم من له حق الطعن فيه بإعلان البطلان للطرف الآخر في ظرف ثلاث سنوات . 2 - ويبدأ سريان هذه المدة إذا كان سبب البطلان عدم توافر الأهلية من الوقت الذي يزول فيه هذا السبب ، وإذا كان سبب الطبلان وجود غلط أو تدليس فمن الوقت الذي ينكشف فيه الغلط أو التدليس ، وإذا كان سبب البطلان هو الإكراه فمن اليوم الذي ينقطع فيه الإكراه ، وإذا كان السبب هو الاستغلال فمن اليوم الذي يتم فيه العقد . وفي كل حال لا يجوز التمسك بالبطلان لغلط أو تدليس أو إكراه إذا انقضى خمسة عشر عاماً من وقت تمام العقد . 3 – وتسقط كذلك التقادم الدعوى التي يراد بها انقصا الالتزامات في حالة الاستغلال إذا ا نقضت ثلاث سنوات من وقت العقد " . وادخلت لجنة المراجعة في النص بعض تعديلات لفظية وأصبح رقم المادة 144 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على النص ، وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ حذفت من الفقرة الثانية الإشارة إلى الاستغلال وحذفت كذلك الفقرة الثالثة بأكملها ، لأن حكم سقوط الحق في رفع الدعوى المترتبة على الاستغلال قد واجهته الفقرة الأولى من المادة 133 ( م 129 فقرة ثانية جديد ) . وأصبح رقم المادة 140 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 246 – ص 249 ) .
( [599] ) ويلاحظ أن الدفع بالإبطال في العقد القابل للإبطال يختلف عن الدفع بالبطلان في العقد الباطل في أن الدفع في الحالة الأولى هو في حقيقته دعوى وكذلك هو في صورته ، إذ سيتخذ ، من ناحية الإجراءات ، صورة دعوى فرعية يقيمها المدعى عليه ويطلب فيها إبطال العقد ، أما الدفع في الحالة الثانية فهو دفع محض من ناحية الموضوع ومن ناحية الإجراءات . ومن ثم فالدفع بالإبطال يتقادم ، لأنه دعوى والدعاوى يرد عليها التقادم . أما الدفع بالبطلان فلا يتقادم ، لأنه دفع والدفوع لا تتقادم .
( [600] ) أنظر في كل ذلك المادة 8 من القانون الجديد . وسنعود لتطبيق هذه المادة في شأن التقادم في العمل غير المشروع ، ويقاس تطبيقها في شأن التقادم في الإثراء بلا سبب على كل من هذين التطبيقين .
( [601] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " فما دام البطلان المطلق يستتبع اعتبار العقد معدوما – وليس ثمة محل للتفريق بين العقد الباطل والعقد المعدوم – فيجوم لكل ذي مصلحة أن يتمسك بهذا البطلان ولو لم يكن طرفاً في التعاقد ، كالمستاجر مثلا في حالة بطلان بيع الشيء المؤجر بطلاناً مطلقاً ، بل ويجوز للقاضي أن يحكم به من تلقاء نفسه . أما البطلان النسبي فلا يجوز أن يتمسك به إلا طرف من اطراف التعاقد هو الطرف الذي يشرع البطلان لمصلحته ، ويكون من واجبه أن يقم الدليل على توافر سببه ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 256 ) . وكان المشروع التمهيدي يقضي في المادة 200 منه بأن " كل من ادعى سبباً للبطلان المطلق أو النسبي يكون عليه إثباته " ، فحذف هذا النص في المشروع النهائي لعدم الحاجة إليه ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 254 – ص 255 في الهامش ) .
( [602] ) أنظر تاريخ النص آنفاً فقرة 319 في الهامش .
( [603] ) محكمة المنصورة الكلية الوطنية في 14 فبراير سنة 1943 المحاماة 23 رقم 112 ص 247 .
( [604] ) استئناف مختلط في 27 نوفمبر سنة 1946 م 59 ص 35 ( وكان الدفع بالبطلان للغلط ، وهو في هذا مثل الدفع بالبطلان المطلق ) . وقضت محكمة النقض بأن الدفع بالبطلان ، الذي جوزت المادة 133 من قانون المرافعات ( قديم ) إبداءه قبل الدخول في موضوع الدعوى وقضت المادتان 138 و 139 مرافعات ( قديم ) بسقوط الحق فيه بالحضور أو بالرد على الورقة الباطلة ، بما يفيد اعتبارها صحيحة ، إنما هو الدفع الخاص ببطلان صحيفة افتتاح الدعوى وبطلان أوراق الإجراءات والمرافعات . فليس يصح تعدية هذه الأحكام إلى الدفع ببطلان العقود ، لأن الدفع يكون عندئذ من الدفوع الموضوعية التي يجوز تقديمها في أية حالة تكون عليها الدعوى أو تطبق عليه أحكام الإجازة الخاصة إذا كان البطلان نسبياً لا مطلقاً ( نقض مدين في 20 ديسمبر سنة 1934 مجموعة عمر 1 رقم 213 ص 510 ) .
( [605] ) أنظر تاريخ النص فيما يلي ( فقرة 335 في الهامش ) .
( [606] ) وقد يكون كل من المتعاقدين ناقص الأهلية فلكل منهما أن يتمسك بالبطلان ، ولا يكون العقد لذلك باطلا بل يبقى قابلا للإبطال ، فتصح إجازته ويزول بطلانه بالتقادم ، ولو كان العقد باطلا لما حاز ذلك .
( [607] ) استئناف مختلط في 11 ديسمبر سنة 1928 م 41 ص 93 .
( [608] ) تقضي الفقرة الأولى من المادة 143 من القانون الألماني بأن البطلان يتقرر بإعلان يتوجه إلى الطرف الآخر . وتقضي المادة 31 من قانون الالتزامات السويسري بأن العقد إذا شابه غلط أو تدليس أو إكراه يعتبر قد أجيز إذا كان الطرف الذي لا يلزمه هذا العقد سكت سنة دون أن يعلن للطرف الآخر تصميمه على إبطاله ، أو دون أن يسترد ما دفعه ، وتسري السنة من وقت انكشاف الغلط أو التدليس أو من وقت زوال الإكراه ( أنظر في ترجيح هذا الحكم نظرية العقد للمؤلف ص 648 هامش رقم 2 وهامش رقم 3 ) .
( [609] ) كان هناك نصان في المشروع التمهيدي هما اللذان يقابلان المادة 138 من القانون الجديد ، وكان يجريان على الوجه الآتي : " م 196 – ليس لغير الأشخاص الذين تقرر البطلان النسبي لمصلحتهم أن يتمسكوا بأوجه البطلان الواردة في المادة السابقة . وهذا البطلان تلحقه الإجازة ويزول بالتقادم . م 197 – 1 : يكفي في تقرير البطلان النسبي إعلان الطرف الآخر به اعلاناً رسمياً – 2 : وإذا كان العقد بالاط بطلاناً نسبياً ، وتقرر بطلانه ، اعتبر باطلا من وقت صدوره لوكنه يبقى منتجاً لاثاره حتى يتقرر الطبلان – 3 : على أن إبطال العقود الناقلة للملكية لا يضر بالغير حسن النية إذا ترتب له حق على عقار قبل تسجيل الإعلان بالبطلان " . وفي لجنة المراجعة ادمج النصان في مادة واحدة ، بعد حذف الفقرة الثالثة من المادة 197 لأن حكمها وارد في مكان آخر ، وبعد جعل جواز إبطال العقد بمجرد الإعلان مقصوراً على حالة نقض الأهلية مع إعطاء الحق للطرف الآخر في التمسك بصحة العقد بدعوى يرفعها في خلال سنة ، وبعد تحوير في اللفظ يجعل النص أقرب إلى التطبيق العملي من التقرير الفقهي ، فأصبح النص في المشروع النهائي ( م 142 ) يجري على الوجه الآتي : " 1 - إذا جعل القانون لأحد المتعاقدين حقاً في إبطال العقد ، فليس للمتعاقد الآخر أن يتمسك بهذا الحق . 2 – ويكفي لإبطال العقد بسبب نقص الأهلية إعلان المتعاقد الآخر بذلك اعلاناً رسمياً يبين فيه سبب البطلان وأدلته ، فإذا تم الإعلان على هذا الوجه اعتبر العقد باطلا من وقت صدوره دون إخلال بحق المتعاقد الآخر في التمسك بصحة العقد بدعوى يرفعها في خلال سنة من وقت وصول الإعلان " . ووافق مجلس النواب على هذا النص – وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ دارت مناقشات طويلة حول تقرير بطلان العقد لنقص الأهلية عن طريق الإعلان ، وانقسمت اللجنة في ذلك ، ثم وافقت الأغلبية على عدم قبول هذا الحكم وعلى حذف الفقرة الثانية توخياً لتعميم القواعد المتعلقة بطلب الإبطال وتجنباً لما تحتمل أن ينشأ عن تطبيق النص المقترح من صعوبات عملية ، وأصبح رقم المادة 138 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 235 – ص 240 ) .
( [610] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 201 من المشروع التمهيدي علىالوجه الآتي : " 1 – إذا تقرر بطلان العقد بطلانا مطلقاً أو نسبياً ، اعيد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد . فإذا كان ذلك مستحيلا استبدلا به تعويضاً يعادله . 2 – ومع ذلك لا يلزم ناقص الأهلية ، إذا أبطل العقد لنقص أهليته ، أن يرد غير ما عاد عليه من منفعة بسبب تنفيذ العقد . 3 – لا يجوز لمن وفي بالتزام مخالف لابداب أن يسترد ما فدعه ، إلا إذا كان هو في التزامه لم يخالف الآداب " . وفي لجنة المراجعة حور النص تحويراً لفظياً لتجنب استعمال ألفاظ البطلان المطلق والبطلان النسبي ، وحذفت الفقرة الثالثة لأنها لا تتمشى مع منطق البطلان . فأصبح النص مطابقا للوجه الوارد في القانون الجديد ، وأصبح رقم المادة 146 في المشروع النهاي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . ووافق لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ عليها دون تعديل أيضاً ، وأصبح رقمها 142 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 254 – ص 259 ) .
هذا وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " بيد أن عبء إثبات البطلان يقع دائماً على عاتق من يتمسك به . وتتبع القاعدة نفسها ، بل ويكون اتباعها أولى فيما يتعلق بالبطلان المطلق . فإذا حم بالبطلان المطلق أو النسبي استند أثره واعتبر العقد باطلا من وقت نشئوه ، دون أن يخل ذلك بما يكون الغير حسن النية قد اكتسب من حقوق عقارية ، سجلت قبل تسجيل إعلان التصريح بالبطلان في حالة البطلان النسبي ( وقد اتبع المشروع التمهيدي نظام تقرير البطلان النسبي عن طريق الإعلان كما رأينا ) . ويلتزم كل من المتعاقدين بأن يرد ما تسلمه بمقتضى العقد . ويستثنى من هذه القاعدة حالتان : أولهما حالة ناقص الأهلية ، فهو لا يسال عن الرد إلا وفقاً لقواعد الإثراء بلا سبب . والثانية حالة وفاء أحد المتعاقدين بالتزام في عقد باطل لسبب مخالفته للآداب ، فلا يجوز لمثل هذا المتعاقد أن يسترد ما أدى إذا نسب إليه ما يخالف الآداب . وعلى هذا النحو ابان المشروع وجه الحكم في مسألة أثير بشأنها خلال شديد ( أنظر المادتين 1305 و 1306 من التقنين الأسباني ، والمادة 692 من التقنين البرتغالي ، والمادة 27 من المشروع الفرنسي الإيطالي والمادتين 77 / 72 من التقنينين التونسي والمراكشي ، والمادة 817 من التقنين الألماني ، والمادة 66 من تقنين الالتزامات السويسري ، والمادة 132 من التقنين البولوني ، والمادة 971 من التقنين البرازيلي ، والمادة 180 من التقنين الصيني ، والمادة 147 من التقنين السوفييتي ) .
( [611] ) فيما عدا ما قدمناه من آثار عرضية أو أصلية تترتب على العقد الباطل .
( [612] ) أما إذا هلك المبيع في يد المشتري بقوة قاهة ، فلما كان البائع إنما يرجع على المشتري طبقاً لأحكام دفع غير المستحق كما قدمنا ، كان الواجب في هذه الحالة تطبيق هذه الأحكام . وهي تقضي – كما سنرى عند الكلام في دفع غير المستحق – بان المشتري إذا كان حسن النية ، أي يعتقد أنه تسلم ما هو مستحق له ، فلا يكون مسئولا إلا بقدر ما عاد عليه من منفعة ترتبت على هلاك العين ، وللبائع في جميع الأحوال أن يسترد المبيع التالف في الصورة التي آل إليها بعد التلف دون أن يتقاضى تعويضاً عن التلف . أما إذا كان المشتري سيء النية ، أي يعلم أنه تسلم شيئاً غير مستحق له ، التزم برد قيمة المبيع وقت الهلاك ، ولا يعفيه من هذه المسئولية إلا أن بثبت أن المبيع كان يهلك ولو كان في يد البائع ( قارن نظرية العقد للمؤلف ص 653 هامش رقم 1 ) .
( [613] ) تولييه 6 فقرة 126 و 11 فقرة 62 – 1 اوبري ورو 6 فقرة 46 مكرر ص 322 هامش رقم 8 – لارومبيير م 1133 فقرة 10 .
( [614] ) ديمولومب 27 فقرة 43 – لوران 16 فقرة 164 – هيك 8 فقرة 392 – بفنوار ص 654 – بودري وبارد 1 فقرة 316 – ديموج 2 فقرة 878 ص 810 .
( [615] ) أنظر تحليلا تفصيلياً في القضاء الفرنسي في كابيتان في السبب فقرة 115 – فقرة 118 . ويستخلص كابيتان من استعراض القضاء الفرنسي في هذه المسألة أن هذا القضاء لا يطبق القاعدة الرومانية في جميع العقود غير المشروعة ، بل يقصر تطبيقها على العقود المخالفة للآداب دون العقود المخالفة للقوانين أو للنظام العام . ويذهب في ذلك إلى أن العقود المخالفة للآداب لا يليق أن تنظر فيها المحاكم ، بل الجدير أن تغسل يدها من مثل هذه القضايا الملوثة ، فلا تحكم فيها بقبول أو برفض : أنظر بنوع خاص في هذا المعنى محكمة بورج الإستئنافية في 13 يونية سنة 1889 داللوز 89 – 5 – 329 – محكمة الجزائر الإستئنافية في 5 مايو سنة 1894 سيريه 94 – 2 – 302 – وانظر محكمة النقض الفرلنسية في 4 يناير سنة 1897 داللوز 97 – 1 – 126 في الاتصال الجنسي غير المشروع – وفي 15 مارس سنة 1911 داللوز 1911 – 1 – 382 في الرشوة – وانظر أيضاً ديموج 2 فقرة 877 .
( [616] ) محكمة الاستئناف الوطنية في 18 ابريل سنة 1911 المجموعة الرسمية 12 رقم 85 ص 160 – محكمة الاستئناف المختلطة في 14 مارس سنة 1888 المجموعة الرسمية للقضاء المختلط 13 ص 115 – وانظر في القضاء المصري تفصيلا نظرية العقد للمؤلف ص 655 هامش رقم 3 ومرجع القضاء ملحق م 147 رقم 5277 – 5283 – بسطوروس 2 ص 435 – ص 436 – . هذا وقد ضهبت بعض الأحكام في مصر إلى مدى أبعد مما ذهبت إليه القاعدة الرومانية ذاتها ، فقضت بأن من يدفع فوائد تربو على النصاب القانونين ليس له أن يطلب استنزال ما دفعه زيادة عن ذلك النصاب من أصل دينه ( استئناف وطني في 16 فبراير سنة 1915 المجموعة الرسمية 16 رقم 66 – وفي ) مارس سنة 1915 الشرائع 2 ص 217 رقم 229 – استئناف مختلط في 17 ديسمبر سنة 1902 م 15 ص 62 – وفي 14 مارس سنة 1917 م 29 ص 288 ) . ذلك أن المدين الذي دفع الفوائد الربوية غير ملوث ، والملوث هو الدائن الذي اضطر المدين إلى ذلك ( أنظر في جواز استرداد الفوائد الربوية استئناف مختلط في 4 مارس سنة 1896 م 8 ص 147 – والمادة 227 فقرة أولى من القانون الجديد ) .
( [617] ) محكمة مصر الكلية الوطنية في 5 يونية سنة 1901 المجموعة الرسمية 3 رقم 85 / 3 ص 224 – وقضت محكمة العطارين الجزئية في 17 ديسمبر سنة 1932 ( ا لمحاماة 12 رقم 307 ص 603 ) بأنه وإن اختلفت الآراء في جواز استرداد ما دفع تنفيذاً لتعهد قائم على سبب مخالف للآداب أو للنظام العام ، إلا أنه مما لا شك فيه أن نتيجة الرأي القائل بعدم جواز الاسترداد يؤدي حتما إلى إقرار حالة يأباها القانون ، لأن حرمان أحد المتعاقدين من استرداد ما دفعه عقاباً له على ما فرط منه معناه تمكين العاقد الآخر من الاستمتاع بما حصل عليه جزاء على إجرامه أو تدليسه أو خروجه على الآداب العامة ومهما قال أنصار هذا الرأي في تأييده فإن الأوفق والأكثر انطباقا على القانون إلا يرتب على العقد ذى السبب غير المشروع أي اثر قانونين وأن تعود الحالة إلى ما كانت عليه قبل العقد ، ويكفي المسترد عقاباً ما يناله من تشهير يترتب على أذاعت محتويات العقد وما كان يدبره في الخفاء مخالفاً للقانون والآداب .
( [618] ) وأخذت بها بعض التقنينات الأقدم عهداً : القانون النمساوي ( م 1174 ) والقانون الأسباني ( م 1305 – 1306 ) والقانون البرتغالي ( م 671 – 692 – ويقضي بأن المال الذي لا يسترد يكون ملكاً للخزينة تصرفه في أغراض خيرية ) .
( [619] ) هذا وإذا اعتبرنا أن القانون الجديد قد جاء مفسراً للقاعدة القانونية التي يجب اتباعها في صدد العقود غير المشروعة وجواز استرداد ما دفع تنفيذاً لها ، فإنه يطبق بأثر رجعي ، شأن سائر القوانين المفسرة ، ويسري على جميع العقود ، حتى التي ابرم منها في ظل القانون القديم . أما إذا اعتبرنا القانون الجديد قد استحدث الحكم الذي أتى به ، فإن هذا الحكم لا يسري على العقود التي أبرمت في ظل القانون القديم فلا يجوز فيها الاسترداد ، ويسري على العقود التي أبرمت في ظل القانون الجديد فيجوز الاسترداد فيها . ونحن نميل إلى اعتبار الحكم مستحدثاً ، لأنه أتى مخالفاً لما جرت عليه الكثرة من الأحكام .
( [620] ) وينصرف كذلك إلى الدائنين على نحو معين سنبينه في الجزء الثاني عند الكلام فيما يكفل حقوق الدائنين من وسائل تنفيذ ووسائل ضمان . وقد تضمن المشروع التمهيدي نصاً هو المادة 207 من هذا المشروع ، جرت على الوجه الآتي : " يحتج بالعقد على دائني المتعاقدين إلا إذا انطوى على غش أو كان عقداً صورياً " . فحذف النص في المشروع النهائي لأن أحكامه مذكورة بالتفصيل في نصوص تالية ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 274 في الهامش ) . وعند معالجة اثر العقد بالنسبة إلى الدائنين يأتي الكلام في الدعاوى الثلاث المعروفة : الدعوى غير المباشرة والدعوى البوليصية ودعوى الصورية ( أنظر المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد : مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 268 – ص 269 ) .
وانصراف دائرة العقد إلى الدائن لا يعني أنه خلف عام أو خلف خاص ، بل إن الدائن بالنسبة إلى العقود التي يبرمها مدينه في موقف يتميز عن موقف كل من الخلف العام والخلف الخاص .
( [621] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 205 من المشروع التمهيدي على الوجه الوارد في القانون الجديد ( فيما عدا تحويراً لفظياً ) ، وأقرته لجنة المراجعة بعد هذا التحوير اللفظي تحت رقم 149 فأصبح مطابقاً لنص القانون الجديد ثم أقره مجلس النواب ، فلجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم 145 ، فمجلس الشيوخ ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 271 – ص 273 ) . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " لا تقتصر آثار العقد على المتعاقدين بذواتهم ، بل تجاوزهم إلى من يخلفهم خلافة عامة من طريق الميراث أو الوصية ما لم تكن العلاقة القانونية شخصية بحتة . ويستخلص ذلك من إرادة المتعاقدين ، صريحة كانت أو ضمنية ، أو من طبيعة العقد كما هو الشأن في شركات الأشخاص والايراد المرتب مدى الحياة ، أو من نص في القانون ، كما هي الحال في حق الانتفاع . وعلى ذلك ينتقل إلى الوارث ما يرتب العقد من حقوق والتزامات . أما الحقوق فيكون انتقالها كاملا . بيد أن حكم الالتزامات يقتضي تحفظاً خاصاً يتصل بأحكام الميراث . ذلك أن الوارث لا يلتزم بديون مورثه وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية إلا بقدر ما يؤول إليه من التركة . . . فليس ينبغي أن يعزل هذا النص عن النصوص التي تضمنها المشروع بشأن تصفية التركات " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 272 ) .
( [622] ) وسنرى أن هناك فروضاً يكون فيها الخلف العام من الغير ، فلا يكون العقد حجة عليه إلا إذا كان ثابت التاريخ .
( [623] ) ولكن لا يجوز أن يشترط البائع على المشتري أن ما يتبقى من أقساط الثمن بعد موت البائع يدفع إلى أحد الورثة دون الآخرين ، إلا في حدود الوصية .
( [624] ) وهذا بخلاف الدائن فإن القانون يحميه أكثر مما يحمي الوارث ، فلا يبيح للمدين أن يتصرف في ماله ولو معاوضة إذا قصد الأضرار بالدائن . وفرق ما بينهما أن الوارث يتلقى المال من غير عوض ، أما الدائن فيتلقاه بعوض .
( [625] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه لا يعتبر الواث قائماً مقام المورث في صدد حجية التصرف الذي صدر منه لأحد الورثة إلا في حالة خلو هذا التصرف من محل طعن ، فإذا كان التصرف يمس حق وارث في التركة عن طريق الغش والتدليس والتحيل على مخالفة أحكام الإرث ، فلا يكون الوارث ممثلا للمورث بل يعتبر من الاغيار ، ويباح له الطعن في التصرف واثبات صحة طعنه بكافة الطرق ( نقض مدني في 15 ابريل سنة 1937 مجموعة عمر 2 رقم 52 ص 150 ) .
ويلاحظ أن الورثة لا يكونون من الغير إلا إذا اثبتوا أن التصرف صادر في مرض الموت ، ولذلك كان عبء الإثبات عليهم في ذلك . وقبل هذا الإثبات يكون التاريخ العرفي للتصرف حجة عليهم لانهم لم يصبحوا بعد من الغير ، حتى إذا ما اثبتوا أن التصرف صدر في رمض الموت اصبحوا من الغير ، ولا يكون عندئذ حجة عليهم إلا التاريخ الثابت للتصرف – وقد قضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأن التصرف في مرض الموت إما أن يكون بمحرر ذى تاريخ ثابت أو غير ثابت ، فإذا كان تاريخه ثابتاً فلا يصح الاحتجاج به على الوارث إلا من اليوم الذي اكتسب فيه هذا التاريخ الثابت بناء على أنه من الاغيار ، ولا عبرة في هذه الحالة بالتاريخ العرفي الذي يحمله المحرر طبقاً للمادة 288 مدني ( قديم ) . أما إذا كان تاريخه غير ثابت كان للوارث الحق في أن يثبت بكل الطرق القانونية أن هذا التاريخ صوري وأن التصرف واقع في مرض الموت . وظاهر أن هذا ترخيص يمنح للوارث المذكور في هذه الحالة لإثبات ما يدعيه لأنه أجنبي عن التصرف بحيث إذا لم يقم بإثباته كان التاريخ العرفي المعترف به من المورث حجة عليه ( 19 أكتوبر سنة 1947 المحاماة 31 رقم 133 ص 357 – أنظر أيضاً في هذا المعنى محكمة مصر الكلية الوطنية في 16 ابريل سنة 1930 المحاماة 11 رقم 378 ص 740 – استئناف مختلط في 8 مايو سنة 1890 م 2 ص 409 ) .
( [626] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 206 من المشروع التمهيدي بما يتفق مع نص القانون الجديد مع تحوير لفظي بسيط . ووافقت أغلبية لجنة المراجعة على استبقائه في المشروع النهائي تحت رقم المادة 150 – ووافق عليه مجلس النواب – وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ استبدلت بعبارة " إذا أنشأ العقد حقوقاً والتزامات " عبارة " إذا أنشأ العقد التزامات وحقوقاً شخصية " لأن النص يتعلق بالخلافة الخاصة لاو ينتقل من طريق هذه الخلافة إلا ما كان شخصياً منم الحقوق التي يولدها العقد . وحذف من الشق الأخير من النص عبارة " أو يستطيع أن يعلم به " حتى يقتصر حكم النص على ما يعلم به الخلف من الحقوق والالتزمات دون أن يجاوزه إلى ما كان يستطيع أن يعلم به لدقة الوضع . وأصبح رقم المادة 146 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 274 – ص 278 ) .
( [627] ) فيجوز أن يستعمل حقوق مدينه بطريق الدعوى غير المباشرة ، كأن يقطع التقادم ضد شخص وضع يده على العين المؤجرة ، ويجوز كذلك أن يطعن في تصرف مدينه بالدعوى البوليصية ، كما إذا باع المؤجر العين متواطئاً مع المشتري حتى يتخلص من حق المستأجر بفرض أن الإيجار غير ثابت التاريخ .
( [628] ) والظاهر أن انتقال الشيء من السلف إلى الخلف يجب أن يكون بعمل إرادي ، كعقد أو وصية ، فمن يكسب عيناً بالتقادم لا يكون خلفاً خاصاً للمالك الأصلي ( دي هلتس 1 في الخلف فقرة 22 – الدكتور حلمي بهجت بدوي بك فقرة 201 – قارن لابورد لاكوست فقةر 116 وما بعدها ) . والأدق من الناحية الفنية أن يقال إن انتقال الشيء إلى الخلف يكون بأي سبب من أسباب انتقال الملك كالعقد والوصية والتقادم ، ولكن لا ينصرف اثر العقد من السلف إلى الخلف إلا إذا كان انتقال الشيء يعمل إرادي ، فهو وحده الذي يتمشى مع فكرة حوالة الحق أو الدين وهي الفكرة التي يؤسس عليها عادة انصراف اثر العقد إلى الخلف كما سنرى .
( [629] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " الخلف الخاص هو من يكتسب ممن يستخلفه حقاً عينياً على شيء معين كالمشتري والموهوب له والمنتفع ، فإذا عقد المستخلف عقداً يتعلق بهذا الشيء انتقل ما يرتب هذا العقد من حقوق والتزامات إلى الخلف الخاص بشروط ثلاثة : أولها أن يكون تاريخ العقد سابقاً على كسب هذا الخلف لملكية الشيء ويراعى أن العقد يجب أن يكون ثابت التاريخ . . . " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 275 ) .
والحكم كالعقد لا يتعدى أثره إلى الخلف الخاص إلا إذا صدر قبل انتقال الشيء إلى الخلف ، ولا يكفي أن تكون الدعوى قد رفعت قبل انتقال الشيء إذا كان الحكم قد صدر بعد ذلك ( أنظر في هذا المعنى محكمة مصر الكلية الوطنية في 15 مايو سنة 1940 المحاماة 20 رقم 621 ص 1428 ) .
( [630] ) ونحن في هذا لم نفرق بين ما إذا كان الحق الذي انتقل إلى الخلف حقاً شخصياً أو حقاً عينياً ، خلافاً لما ورد في الأعمال التحضيرية أمام لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ ( قارن أيضاً الدكتور حلمي بهجت بدوي بك فقرة 204 – فقرة 204 مكررة ) .
( [631] ) وكالتأمينات دعاوى الفسخ فهي من شأنها تأكيد الحق ، فالمحال له بالثمن ينتقل إليه حق البائع في الفسخ إذا لم يستوف الثمن من المشتري ، بخلاف دعاوى البطلان فهي لا تنتقل إذ هي تتنافى مع لاحق لا تؤكده . كذلك ينتقل الحق في الحصول على سند تنفيذي بالدين المحال به ( محكمة استئناف أسيوط في 9 مارس سنة 1948 المحاماة 28 رقم 428 ص 1048 ) .
( [632] ) وهذا ما استقر عليه القضاء الفرنسي أولاً ، ثم عدل عن ذلك وأصبح الأمر الآن يتعلق بتفسير عقد التأمين ويرد فيه عادة شرط يقضي بانتقال الحقوق الناشئة عنه إلى الخلف بقيود معينة ( بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 331 ص 454 هامش رقم 4 ) . أما القضاء المصري فالظاهر أنه يرى أن الحق الناشئ عن عقد التأمين لا ينتقل مع الشيء المؤمن عليه إلى الخلف ( محكمة مصر الوطنية مستعجل في 10 يولية سنة 1932 المحاماة 13 رقم 570 ص 1143 – استئناف مختلط في 16 ابريل سنة 1931 م 34 ص 35 ) . . ولكن المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي تشير صراحة إلى عكس ذلك فتقول : " . . . أن تكون الحقوق والالتزامات الناشئة عن العقد مما يعتبر من مستلزمات هذا الشيء ، ويتحقق ذلك إذا كانت هذه الحقوق مكملة له كعقود التأمين مثلا ، أو إذا كانت هذه الالتزامات تحد من حرية الانتفاع به كما هو الشأن في الالتزام بعدم البناء " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 275 ) . أنظر أيضاً في هذا المعنى قانوناً خاصاً صدر في سويسراً سنة 1908 .
( [633] ) بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 331 ص 455 .
( [634] ) وللمشتري أن يرجع بدعوى مباشرة على البائع لبائعه بضمان الاستحقاق أو بضمان العيب أو بأي ضمان اشترطه البائع لنفسه . ويترتب على ذلك أنه إذا اشترط البائع عدم الضمان ، فإن هذا لا يمنع المشتري من الرجوع بالضمان على البائع للبائع .
( [635] ) ويقال عادة إن الالتزام ينتقل إلى الخلف عن طريق حوالة الدين ، كما ينتقل الحق إليه عن طريق حوالة الحق . وقد كان القانون المدني القديم لا يعرف حوالة الدين ولم يكن فيه نص يقضي بانصراف اثر العقد إلى الخلف الخاص ، ومن ثم كانت هناك مشقة في تأصيل انتقال الالتزام إلى الخلف ، فلجأ الفقه إلى قاعدة الاشتراط لمصلحة الغير مصوراً أن السلف اشترط على الخلف أن يقوم بالالتزام لمصلحة الدائن ( نظرية العقد للمؤلف ص 741 هامش رقم 1 – قارن الدكتور حلمي بهجت بدوي بك ص 207 وما بعدها ) ، أما في القانون الجديد فلا حاجة بنا إلى هذا التصوير بعد أن اعترف هذا القانون بحوالة الدين ونظمها في نصوصه . بل إن نص المادة 146 من القانون الجديد أصبح الآن يكفي وحده سنداً لانصراف اثر العقد إلى الخلف ، وتكون حوالة الحق أو الدين تمت بحكم القانون .
( [636] ) كذلك التزام صاحب المتجر نحو مستخدميه لا ينتقل إلى المشتري للمتجر ، فلا يجبر المشتري على احترام عقود هؤلاء المستخدمين إلا إذا اشترط عليه ذلك ، ويبقى البائع وحده مسئولا نحوهم ، كما أن حق البائع قبلهم لا ينتقل إلى المشتري – هذا ويلاحظ أن المتجر في ذاته مجموع من المال ، فلو اعتبرنا أن المشتري يخلف البائع في هذا المجموع فيصبح بهذا الاعتبار خلفاً عاماً ، لانتقلت جميع حقوق المتجر والتزاماته إلى المشتري ، وقد يدخل في ذلك حقوق المتجر والتزاماته نحو المستخدمين إذا اعتبرناها داخلة في هذا المجموع من المال ، ولكنا نعتبر مشتري المتجر خلفاً خاصاً لمانع ، لأن المتجر وإن كان في ذاته مجموعاً من المال ، إلا أنه بالنسبة إلى مجموع مال البائع لا يخرج عن أن يكون عيناً معينة وليس بجزء شائع في هذا المجموع .
( [637] ) أنظر مع ذلك محكمة الاستئناف المختلطة وقد قضت بأنه إذا اشترى شخص من آخر حق صنع مواد معينة والتزم بأن يمتنع عن تصدير هذه المواد إلى الخارج قطعاً للمنافسة ، ثم باع الحق الذي اشتراه إلى مشتر ثان ، فإن الالتزام الذي ترتب في ذمته لا ينتقل إلى المشتري الثان ( 4 ابريل سنة 1923 م 35 ص 338 – 26 فبراير سنة 1930 م 42 ص 327 ) .
ويقع أن تبيع الحكومة أرضا ، وتشترط على المشتري إنها " إذا نزعت ملكيتها للمصلحة العامة في خلال مدة معينة فلا تلتزم إلا برد الثمن فقط " فإذا باع المشتري الأرض لمشتر ثان التزم المشتري الثاني بهذا الشرط باعتباره خلفاً خاصاً للمشتري الأول .
( [638] ) ويمكن القول بوجه عام أنه ما لم ينتقل الحق ، فإن الالتزام هو أيضاً لا ينتقل .
( [639] ) استئناف مختلط في 10 ابريل سنة 1901 م 13 ص 223 – ولا ينتقل إلى المشتري الالتزام الذي نشا عن وعد بالبيع صدر من البائع قبل أن يبيع العين للمشتري .
( [640] ) أنظر الأعمال التحضيرية التي سبقت الإشارة إليها آنفاً فقرة 349 ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 277 – ص 278 ) .
( [641] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 208 من المشروع التمهيدي على وجه مطابق لنص القانون الجديد . وأقرته لجنة المراجعة تحت رقم المادة 156 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ جرت مناقشات طويلة لتعديله ثم انتهت اللجنة إلى إقراره كما هو تحت رقم المادة 152 . ووافق عليه مجلس الشيوخ ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 301 – ص 304 ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " الأصل في العقود أن تقتصر آثارها على عاقديها . فلا يترتب ما تنشيء من التزامات إلا في ذمة المتعاقدين ومن ينوب عنهم من الخلفاء والدائنين ، وليس الوعد بالتزام الغير إلا تطبيقاً لهذه القاعدة . وكذلك الشأن فيما ترتب العقود من حقوق ، فلا ينصرف نفعها إلا إلى المتعاقدين ومن ينوب عنهم . على أنه يجوز الاشتراط لمصلحة الغير ، وهذا هو الاستثناء الوحيد الذي يرد على القاعدة " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 302 ) .
ويقابل هذا النص في القانون الجديد النصوص الآتية في القانون القديم :
" م 141 / 202 : لا يترتب على المشارطات منفعة لغير عاقديها . . "
" م 142 / 203 : لا يترتب على المشارطات ضرر لغير عاقديها . . " .
( [642] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 209 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 - إذا وعد شخص بان يجعل الغير يلتزم بأمر فإنه لا يلزم الغير بوعده ولكن يلزم بنفسه . ويجب عليه أن يعوض من تعاقد معه إذا رفض الغير أن يلتزم . ويجوز له مع ذلك أن يتخلص من التعويض بأن يقوم هو نفسه بتنفيذ الالتزام الذي وعد به ، إذا كان ذلك في استطاعته من غير أن يضر بالدائن . 2 – أما إذا اقر الغير هذا الوعد فإن إقراره لا ينتج أثراً إلا من وقت صدوره ما لم يتبين أنه قصد صراحته أو ضمنا أن ينسحب اثر الإقرار إلى اليوم الذي صدر فيه الوعد " وفي لجنة المراجعة أدخلت تعديلات لفظية على النص وأصبح رقمه 157 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ استبدلت كلمة " تعهد " ومشتقاته بكلمة " وعد " ومشتقاتها ، لأن التعهد يؤدي معنى الالتزام وهذا ما لا يفيده الوعد ، وحذفت عبارة " إذا أمكن ذلك دون اضرار بالدائن " من الفقرة الأولى ، وأدخلت تعديلات لفظية أخرى حتى أصبح النص مطابقاً لنص القانون الجديد ، وأصبح رقم المادة 153 . ووافق مجلس الشيوخ على النص كما عدلته لجنته . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 305 – ص 309 ) .
( [643] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وقد اشير ابتداء إلى الفارق الجوهري بين الاشتراط لمصلحة الغير والوعد بالتزام الغير ( التعهد عن الغير ) . فالأول يخول الغير حقاً مباشرا ، على نقيض الثاني فهو لا يلزم الغير بذاته ، فالواعد يلتزم شخصياً ، ويكون من واجبه أن يعوض من تعاقد معه عيناً أو نقداً إذا رفض الغير أن يتعاقد . ومؤدى هذا أن الغير لا يلتزم إلا بمقتضى إقراره للوعد ، ولا يكون لهذا الإقرار اثر إلا من وقت صدوره ما لم يتنصرف النية إلى غير ذلك " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 269 – ص 270 ) .
( [644] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " فإذا وعد شخص بان يجعل الغير يلتزم بأمر ، ونصب نفسه زعيماً بذلك ، فلا يكون من اثر هذا التعهد إلزام هذا الغير . وكل ما هنالك أن الواعد يتعهد بالوفاء بالتزام بعمل شيء هو الحصول على إقرار الغير للوعد الذي بذل عنه . ذلك هو مدى التزام الواعد على وجه الدقة . فليس يكفي عند رفض الإقرار أن يكون هذا الواعد قد بذل ما في وسعه للحصول عليه ، ولا يشترط كذلك أن يقوم من بذل الوعد عنه بتنفيذ تعهده إذا ارتضى إقراره . وهذا ما يفرق الوعد بالتزام الغير عن الكفالة " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 306 ) .
هذا وقد قضى تقنين الالتزامات السويسري ( م 111 ) بأن المتعهد عن الغير لا يكفل إيجاد الالتزام في ذمة الغير فحسب ، بل يكفل أيضاً تنفيذ هذا الالتزام . فالتعهد عن الغير في القانون السويسري يتضمن الكفالة .
( [645] ) وقد كان الفقه في القانون القديم يميل إلى أن يجعل للقبول أثراً رجعياً ( أنظر نظرية العقد للمؤلف ص 870 – ص 871 وبنوع خاص الحاشيتين 1 و 2 في ص 871 ) – هذا وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ويتحلل الواعد من التزامه بمجرد إقرار الغير للوعد . والواقع أن التزام الواعد ينقضي في هذه الصورة من طريق الوفاء . ويترتب على الإقرار أن يصبح الغير مديناً مباشرة للعاقد الآخر ، لا على أساس الوعد الذي قطعه الواعد ، بل بناء على عقد جديد يقوم بداهة من تاريخ هذا الإقرار ، ما لم يتبين أنه قصد صراحة أو ضمناً أن يستند اثر الإقرار إلى الوقت الذي صدر الوعد فيه . وغنى عن البيان أن الإقرار ينزل منزلة القبول من هذا العقد الجديد " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 306 – ص 207 ) .
( [646] ) استئناف مختلط في 10 ديسمبر سنة 1908 م 21 ص 66 .
( [647] ) استئناف مختلط في 28 يناير سنة 1914 م 26 ص 182 .
( [648] ) ولكن يعتبر سبباً أجنبياً ( قوة قاهرة ) أن يكون الغير قد أصبح في حالة لا يستطيع معها أن يصدر منه قبول صحيح بعد أن كان يستطيع ذلك وقت التعهد عنه ، بأن يكون قد حجر عليه أو مات وكان الالتزام متصلا بشخصه لا تستطيع ورثته أن تقوم به .
( [649] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وإذا امتنع الغير عن إجازة الوعد ، فلا تترتب على امتناعه هذا أية مسئولية ، ذلك أن الوعد لا يلزم إلا الواعد ذاته . ويكون من واجبه تنفيذ التزامه ، إما بتعويض العاقد الآخر الذي صدر الوعد لمصلحته ، وإما بالوفاء عيناً بالتعهد الذي ورد الوعد عليه إذا أمكن ذلك دون إلحاق ضرر بالدائن . ويستوي في هذا أن يكون الوعد متعلقاً بالتزام بنقل حق عيني أو بعمل شيء أو بالامتناع عنه " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 306 ) .
هذا وقد كان الفقه المصري في القانون القديم متردداً في أن يجيز للغير أن يعدل عن التعويض إلى تنفيذ الالتزام عيناً ( أنظر في هذه المسألة نظرية العقد للمؤلف ص 873 هامش رقم 7 ) . وقد جاء نص القانون الجديد صريحاً في حسم هذا الخلاف ، وقضى بجواز ذلك .
( [650] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 210 من المشروع التمهيدي على وجه لا يختلف عما هو إلا في بعض تعبيرات لفظية . وقد أقرته لجنة المارجعة ، بعد تعديلات لفظية ، تحت رقم المادة 158 في المشروع النهائي . وأقره مجلس النواب . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ أضيفت عبارة " بتنفيذ الالتزام " بعد لفظ " المتعهد " في الفقرة الثانية لإزالة الشبهة التي قامت حول كلمة " المتعهد " وجواز انصرافها إلى كل من العاقدين ، وأدخلت بعض تعديلات لفظية أخرى حتى أصبح النص مطابقاً لنص القانون الجديد . وأقرت اللجنة النص تحت رقم المادة 154 . ووافق عليه مجلس الشيوخ كما عدلته لجنته . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 309 – ص 313 ) .
( [651] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 211 من المشروع التمهيدي على وجه مطابق . وقد أقرته لجنة المراجعة تحت رقم المادة 159 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ قيل في تفسير عبارة " ما لم يكن ذلك مخالفاً لما يقتضيه العقد " إن نقض الاشتراط يكون مخالفاً لما يقتضيه العقد إذا كانت العلاقة ما بين المشترط والمنتفع تقوم مثلا على هبة من الأول للثاني ، وتكون هبة لا يجوز الرجوع فيها . وأقرت اللجنة النص تحت رقم المادة 155 . ووافق على النص مجلس الشيوخ ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 313 – ص 315 ) .
( [652] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 212 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " يجوز في الاشتراط لمصلحة الغير أن يكون المنتفع شخصاً مستقبلاً ، كما يجوز أن يكون شخصاً لم يعين وقت العقد ما دام تعيينه مستطاعا وقت أن ينتج العقد اثر ، وأقرت لجنة المراجعة النص ، مع استبدال عبارة " متى كان " بعبارة " ما دام " ، تحت رقم المادة : 16 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على النص . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ أضيفت عبارة " أو جهة مستقبلة " بعد عبارة " شخصا مستقبلا " لأن الاشتراط يجوز أن يكون لمصلحة جهة تنشأ فيما بعد ، وعدل النص تعديلا لفظياً يناسب هذه الإضافة . وأقرت اللجنة النص تحت رقم المادة 156 . ووافق مجلس الشيوخ على النص كما عدلته لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 315 – ص 319 ) .
( [653] ) أنظر في انعقاد الغموض والاضطراب في هذا النص ، وفي الحيرة بين أن يكون نصا في الفضالة أو في التعهد عن الغير أو في الاشتراط لمصلحة الغير نظرية العقد للمؤلف فقرة 778 .
( [654] ) وإلى هذا تشير المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي عندما تقول في هذا الصدد : " . . . أصبح اليوم الاشتراط لمصلحة الغير قاعدة عامة بعد أن كان استثناء لا يعمل به إلا في حالات بخصوصها . ولهذه العلة استبدل المشروع بالمادة الغامضة الوحيدة التي تضمنها التقنين الحالي نصوصاً جلية مفصلة حددت في وضوع شروط الاشتراط لمصلحة الغير وأثاره ، فأوجبت أن يكون للمشترط مصلحة شخصية ، أو أدبية ، في تنفيذ الالتزام المشترط لمصلحة الغير . واباحت له أن ينقض الاشتراط أو يستبدل بالمنتفع شخصاً آخر ، بل واباحت له أن يستاثر لنفسه ولورثته بمنفعة المشارطة ما دام الغير لم يعلن رغبته في الاستفادة منها . ويتلقى المنتفع بمقتضى الاشتراط حقاً مباشراً مصدره العقد ذاته ، وفي هذه الناحية تتجلى الفكرة الأساسية في فقه هذا الوضع بأسره ، فإن الغير يكسب حقاً بناء على عقد لم يكن طرفاً فيه . ويجوز للمنتفع أو المشترط أن يطالب بقضاء هذا الحق ، لأن لكل منهما مصلحة في ذلك . وأخيراً نص على جواز الاشتراط لمصلحة شخص مستقبل أو شخص غير معين وقت العقد ، ويعتبر ذلك قصارى ما وصل إليه تطور هذا النظام " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 269 ) .
( [655] ) أنظر في هذه المسألة نظرية العقد للمؤلف فقرة 802 .
( [656] ) أنظر في هذه المسألة نظرية العقد للمؤلف فقرة 802 .
( [657] ) أنظر في هذه المسألة نظرية العقد للمؤلف فقرة 801 – وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ومع ذلك فلم يكن من الهين إدراك فكرة انصراف منفعة العقد إلى غير عاقدية باعتبارها صورة من صور الأوضاع القانونية مع ما هو ملحوظ من بساطتها . فالتقنين الفرنسي ذاته ، واغلب التقنينات اللاتينية من بعده ، قد جعلت منها جميعاً مجرد استثناء لا يطبق إلا في حالتين . ولم يسم هذا الاستثناء إلى مرتبة الأصل ، ويبسط نطاقه على سائر الحالات ، إلا في خلال القرن التاسع عشر ، وعلى وجه الخصوص على اثر ما أصاب عقد التأمين من نمو وذيوع . وقد بلغ التوسع في تطبيق هذا الأصل شأوا بعيداً ، وانتهى الأمر إلى إباحة الاشتراط إذا كان المنتفع شخصاً مستقبلا أو شخصاً لم يعين وقت التعاقد ما دام تعيينه مستطاعا عندما ينتج هذا التعاقد أثره كما هو الشأن في التأمين لمصلحة من ولد ومن يولد من ذرية المؤمن . وقد نقل المشروع قواعد الاشتراط لمصلحة الغير في صورتها التي انتهت إليها في آخر مرحلة من مراحل تطورها " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 316 – ص 317 ) .
( [658] ) استئناف مختلط في 2 مارس سنة 1916 م 18 ص 184 – وفي 18 يناير سنة 1919 م 31 ص 127 – وقضت محكمة النقض بأنه إذا تعهد أحد المتبادلين في أطيان بأن يدفع بعض المستحق عليه من فرق البدل في نصيب المتبادل الآخر من دين على أطيان أخرى هو شريك له فيها على الشيوع ، فهذا التعهد هو من قبيل الاشتراطات لمصلحة الغير ، لا يصح فيه للتبادل الآخر أن يطلب دفع المبلغ إليه ، بل له فقط أن يطالب المتعهد بتنفيذ تعهده ( نقض مدني في 27 مارس سنة 1941 مجموعة عمر 3 رقم 109 ص 337 ) .
( [659] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن اشتراط البائع على المشتري أن يدفع الدين إلى الدائن المرتهن لا يعتبر اشتراطاً لمصلحة الدائن إلا إذا تدخل الدائن في عقد البيع وقبل الاشتراط لمصلحته ( 8 يونية سنة 1935 م 47 ص 363 ) . ونرى أنه ليس من الضروري تدخل الدائن في عقد البيع ذاته ، ويكفي أن يصدر منه قبول ولو مستقلا عن البيع ، وبهذا تقضي القواعد المقررة في قبول المنتفع . ولكن إذا رفض الدائن قبول الاشتراط ، زال حقه الشخصي قبل المشتري . وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة في هذا المعنى بأنه إذا قبل المشتري أن يدفع الدين المضمون بالرهن على العقار المبيع ، فإن هذا يعتبر اشتراطاً لمصلحة الغير ، ويكون للدائن المرتهن حق مباشر قبل المشتري ، ولكن إذا استمر الدائن المرتهن في إجراءات التفنيذ على العقار المرهون التي كان بدأها قبل البيع ، فإنه لا يستطيع الرجوع بدعوى شخصية على المشتري لأن هذا لم يقبل الاشتراط لمصلحة الغير إلا على أساس أن الدائن المرتهن لا ينزع ملكية العقار ( 4 يناير سنة 1934 م 46 ص 114 ) .
( [660] ) أول ابريل سنة 1897 م ) ص 255 – ويلاحظ أنه كان من المقرر في القانون القديم أن الشفيع لا يصح نزوله عن حقه في الأخذ بالشفعة إلا بعد قيام هذا الحق ببيع العقار المشفوع فيه . فكان من المستطاع مداورة هذا الحظر عن طريق تصوير الشفيع متعهداً بالامتناع عن عمل هو المطالبة بالشفعة في اشتراط لمصلحة المشتري . أما في القانون الجديد فيجوز أن ينزل الشفيع عن حقه في الأخذ بالشفعة ولو قبل البيع ( م 948 جديد ) .
( [661] ) أنظر في تطبيق قاعدة الاشتراط لمصلحة الغير على الأوراق التجارية نظرية العقد للمؤلف فقرة 795 .
( [662] ) قارن استئناف مختلط في 13 يناير سنة 1927 م 39 ص 167 .
( [663] ) أما إذا أمن رب العمل على مسئوليته نحو العمال عما يحدث لهم من الضرر أثناء العمل ، وبوجه عام إذا امن شخص على مسئوليته عن الحوادث ، كحوادث السيارات وحوادث النقل ونحو ذلك ، فإن المؤمن له لا يكون مشترطاً لمصلحة اليغر بل لمصلحته هو . ولا يكسب من يكون دائناً في هذه المسئولية حقاً مباشراً قبل شركة التأمين ، وإن كان يستطيع أن يستعمل دعوى مدينه المؤمن له قبل شركة التأمين ولكن يتعرض في هذه الحالة المزاحمة دائني المؤمن له ( استئناف مختلط في 27 مارس سنة 1930 م 42 ص 389 – وانظر عكس ذلك استئناف مختلط في 15 يونية سنة 1932 جريدة مصر القضائية ( L’Egypte Judiciaire ) السنة الأولى العدد العاشر ص 10 – وانظر في رجوع شركة التأمين بما دفعته من تعويض للمؤمن له رجوعاً مباشراً على المسئول عن الحريق في حالة التأمين من الحريق المادة 771 من القانون المدني الجديد ) .
( [664] ) والتون 2 ص 59 .
( [665] ) استئناف مختلط في 4 ديسمبر سنة 1929 م 42 ص 71 .
( [666] ) استئناف مختلط في 20 ديسمبر سنة 1894 م 7 ص 46 – وفي 25 يناير سنة 1923 م 25 ص 165 – قارن استئناف مختلط في 13 مايو سنة 1890 م 2 ص 412 .
( [667] ) ومن تطبيقات الاشتراط لمصلحة الغير الاكتتابات العامة ، فإذا فتحت جريدة أو مجلة اكتتاباً لعمل خيري أو عمل عام ، أمكن القول إن المكتتب تعاقد مع من نظم الاكتتاب مشترطاً لمصلحة الغير ( والتون 2 ص 58 – ص 59 ) . وقضت محكمة مصر الكلية الوطنية في 18 ابريل سنة 1938 ( المحاماة 18 رقم 465 ص 1066 ) بان قول الوارث الآخر إن المورث لم يقصد بإيداع أموال لبعض الورثة أن يهبهم إياه ، بل أراد إما التحايل على نظام صناديق التوفير الذي لا يجير لأحد أن يكون له أكثر من دفتر واحد ولا أن تزيد وديعته على خمسمائة جنه ين وإما الوصية بتلك الأموال لمن أودعت باسمه ، قول لا يقبل ما لم يقم عليه دليل مقنع . ومجرد بقاء الدفاتر تحت يد المورث لا يكفي لاثباته ، بل الراجح الذي يؤيده العارف الجاري بين الاباء هو أن المورث أراد بالإيداع أن يكون المال من حق من أودع الودائع باسمه في الحال ، وقد يكون له بواسطة بقاء الدفتر عنده الإشراف الفعلي فقط على تصرف هذا الوارث . على أنه حتى إذا كان المورث قد أراد إلا يؤول المال المودع إلى الوارث المذكور إلا بعد وفاته ، فإن هذا لا يجعل التصرف وصية ما دام الإيداع قد حصل باسم الوارث ، لأنه طبقاً لقواعد الاشتراط لمصلحة الغير يرجع حق المنتفع دائماً إلى يوم العقد نفسه ولو كانت المنفعة لا تؤول إليه فعلا إلا بعد وفاة المشترط كما في حال التأمين على الحياة .
ويلاحظ أن الحكم في فرصة الأخير يكيف العقد بأنه وديعة اشترط المودع فيها أن يسلم المودع عنده المال بعد وفاة المودع لشخص بالذات وهبه المودع هذا المال حال حياته .
( [668] ) قارن نظرية العقد للمؤلف ص 908 هامش رقم 1 .
( [669] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا جعل شخص من شخص آخر مستحقاً لقيمة التأمين الذي تعاقد عليه مع شركة تأمين ، فهذا اشتراط لمصلحة الغير اشترطه المؤمن له على الشركة لمصلحة المستحق لا يرتب حقاً للمستحق قبل المشترط أو ورثته من بعده بسبب إلغاء بوليصة التأمين لامتناع المشترط عن دفع اقساطه ، إلا إذا كان الاشتراط قد حصل مقابل حق للمستحق على المشترط . وليس هو حوالة من المشترط للمستحق تفيد بذاتها مديونية المشترط له بمقابل قيمتها ( نقض مدني في ) يناير سنة 1947 مجموعة عمر 5 رقم 135 ص 296 ) .
( [670] ) ومتى تحددت قيمة التبرع على النحو المتقدم ، فهذه هي القيمة التي تعتبر عند تطبيق الأحكام الموضوعية للهبة في العلاقة ما بين المشترط والمنتفع . فلو طعن دائن المشترط بالدعوى البوليصية في عقد التأمين الصادر من مدينه وتوافرت شروطها ، فإن الدائن لا ينفذ بحقه إلا بمقدار أقساط التأمين ( استئناف مختلط 27 ديسمبر سنة 1916 جازيت 7 رقم 136 ص 48 – أنظر أيضاً في حق الورثة في الرجوع بأقساط التأمين على المنتفع باعتبارها وصية لا تنفذ في حقهم ( استئناف مختلط 18 يناير سنة 1 917 م 29 ص 163 ) . وإذا أراد المؤمن له الرجوع في الهبة فإنه يرجع على المنتفع بمقدار الاقساط التي دفعها لشركة التأمين ، وهذا بخلاف ما إذا كان المشترط قد نقض حق المنتفع فإنه يسترد الحق في مبلغ التأمين لا في الاقساط وحدها .
( [671] ) رأينا المادة 152 من هذا القانون تصرح بان العقد لا يرتب التزاماً في ذمة الغير " ولكن يجوز أن يكسبه حقاً " .
والذي تقرره هنا من أن عقد الاشتراط هو الذي أنشأ حق المنتفع هو ما سبق أن قررناه في كتابنا " نظرية العقد " ص 911 ، وقرره بعد ذلك الدكتور حلمي بهجت بدوي بك في عبارات لا تخرج عن هذا المعنى ، إذ يقول : " ما الذي يحول في القواعد العامة دون اجتماع إرادة شخصين على أن ينشأ لثالث حق مباشر قبل أحدهما ؟ اللهم لا حائل يحول دون ذلك ، لا من القواعد التي ننتهي إليها من تحليل الإرادة ولا من قواعد النظام العام " . ( أصول الالتزامات ص 354 – ص 355 ) . ويبدو أن الدكتور حلمي بهجت بدوي لم ينتبه للرأي الذي قلنا به ، فهو عندما عرض للنظريات التقليدية في هذا المضووع حشريا بين فقهائها ( أنظر أصول الالتزامات فقرة 245 ص 352 هامش رقم 1 ) ، ومضى بعد ذلك يقرر ما سبق لنا أن قررناه .
ونحن لم نقتصر على إدخال قاعدة الاشتراط لمصلحة الغير في حظيرة القواعد العامة ، بل نبهنا إلى أن قاعدة التعهد عن الغير هي الأخرى في حاجة إلى إمعان في النظر . ولم نر ما يمنع في المنطق القانونين من أن تقوم قاعدة التعهد عن الغير على غرار قاعدة الاشتراط لمصلحة الغير ، تلزم الغير بعقد التعهد ذاته لا بعقد جديد . وفسرنا قصور قاعدة التعهد عن الغير في الوصول إلى هذه المرحلة من التطور بأن الضرورات العملية لم تقتض بعد ، كما اقتضت في قاعدة الاشتراط لمصلحة الغير ، جواز أن يلتزم الغير من عقد لم يشترط فيه ، ولو اقتضت هذا لما حال المنطق القانونين دون ذلك .
وهذا ما سبق لنا أن قلناه في هذا الصدد : " ويمكن القول بوجه عام أن القانون الحديث ، بعد تدرج في التطور ، أصبح يعترف بأن المتعاقدين يستطيعان بارادتهما أن يشترطا حقا للغير . ولكنه وقف عند ذلك ، فلم يعترف حتى اليوم بأن المتعاقدين يستطيعان بإرادتهما كذلك أن ينشئاً التزاما في ذمة الغير ، ولم يجر هذا التطور إلا تحت ضغط الضرورات العملية ، فهي التي اقتضت جواز أن يستفيد الغير حقا من عقد لم يكن طرفا فيه ، ولعلها لم قتض بعد جواز أن يلتزم الغير من عقد لم يشترك فيه ، ولو اقتضت هذا لما حال المنطق القانوني دون ذلك " . ( نظرية العقد ص 863 – ص 864 ) .
ثم قلنا في الحاشية : " والواقع من الأمر أن القاعدة التي تقضي بأن العقد لا ينصرف أثره إلى الغير قاعدة عتيقة باليه ، ورثناها عن القانون الروماني ، ونحن نستبقيها الآن اسماً لا فعلاً ، وإلا فنحن نخرج عليها كلما اقتضى تقدم المعاملات ذلك وكثيراً ما يقتضيه . . . وليس في المنطق القانونين ما يمنع من أن يشخصين يتفقان على إنشاء حق لشخص ثالث أو توليد التزام في ذمته . وليس هذا معناه أن هذا الشخص الثالث يصبح صاحب الحق أو المدين بالالتزام ولو لم يرض ذلك ، فقبوله ضروري في الحالتين حتى لا يكون دائناً أو مديناً بالرغم من إرادته ، ولكنه إذا قبل يعتبر الحق الذي كسبه أو الالتزام الذي تعلق في ذمته قد نشأ من نفس العقد الذي لم يكن طرفاً فيه . . ولا فرق بين الاشتراط لمصلحة الغير والتعهد عن الغير في ذلك . ولا يجوز أن يقال إن الاشتراط لمصلحة الغير ينشيء حقاً أما التعهد عن الغير فيولد التزاماً ، وأنه إذا صح أن الغير بكسب حقاً من عقد لم يكن طرفاً فيه ، فلا يصح أن يتعلق في ذمته التزام من عقد لم يصدر منه قبول به . ذلك لأن قبول الغير ضروري في الحالتين كما قدمنا . ففي الاشتراط لمصلحة الغير لا بد من قبول المنتفع كما سيرى . كذلك في العهد عن الغير لا بد من اشتراط قبول الغير ، فإذا صدر هذا القبول فما الذي يمنع ، من حيث المنطق القانونين ، من اعتبار الالتزام الذي نشأ في ذمة الغير ، وقد قبله التزاما في ذمته ، متوالداً من العقد الذي لم يكن طرفاً فيه ، كما هو الأمر في الاشتراط لمصلحة الغير ؟ " ( نظرية العقد ص 864 هامش رقم 1 , 2 – أنظر أيضاً ص 871 هامش رقم 2 ) – هذا ولم يرض القانون المدني الجديد أن يسبق الزمن ، فأبقى قاعدة التعهد عن الغير عند مرحلتها القاصرة ، وسجل لقاعدة الاشتراط لمصلحة الغير تطورها الأخير ، وقال في المادة 152 : " لا يرتب العقد التزاماً في ذمة الغير ، ولكن يجوز أن يكسبه حقاً " .
( [672] ) أنظر ورمز ( Worms ) رسالة من باريس سنة 1891 ص 114 – بودري وبارد 1 فقرة 161 – كولان وكابيتان 2 ص 328 – جوسران 2 فقرة 304 .
( [673] ) وإلى هذا تشير المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي إذ تقول : " ينطوي الاشتراط لمصلحة الغير على خروج حقيقي على قاعدة اقتصار منافع العقود على المتاعقدين دون غيرهم . فالمتعهد يلتزم قبل المشترط لمصلحة المنتفع ، فيكسب الأخير بذلك حقاً مباشراً ولو أنه ليس طرفاً في التعاقد ، وبهذه المثابة يكون التعاقد ذاته مصدراً لهذا الحق . ولهذا التصوير على بساطته ووضوحه فضل الكشف عن وجه هذا النظام وإبراز مشخصاته من حيث شذوذه عن حكم القواعد العامة ، وهو فضلا عن ذلك يقبل من عناء استظهار سائر وجوه التفسير والتخريج التي جهد الفقه التقليدي في التماسها وتفصيل جزئياتها " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 316 ) .
( [674] ) هيك 8 فقرة 51 – بودري وبارد 1 فقرة 204 – بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 362 – ديموج 7 فقرة 813 مكررة – والتون 2 ص 61 – ص 62 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 816 – الدكتور حلمي بهجت بدوي بك فقرة 244 – الدكتور حشمت أبو ستيت بك فقرة 328 – نقض فرنسي في 22 يونية سنة 1891 سيريه 92 – 1 – 177 – وفي ) مارس سنة 1896 داللوز 96 – 1 – 391 – وفي 29 يونية سنة 1896 سيريه 96 – 1 – 361 – محكمة المنيا الكلية في 30 سبتمبر سنة 1929 المحاماة 10 رقم 132 ص 460 – محكمة طنطا الكلية في 23 ابريل سنة 1931 المحاماة 12 رقم 83 ص 140 – استئناف مختلط في 11 فبراير سنة 1900 م 12 ص 111 – وفي 28 نوفمبر سنة 1904 م 14 ص 27 – وفي 7 ابريل سنة 1910 م 22 ص 249 – وفي 18 يناير سنة 1917 م 29 ص 163 – وفي 13 فبراير سنة 1927 م 39 ص 167 – قارن استئناف مختلط في أول مايو سنة 1924 م 36 ص 348 – وفي 2 يناير سنة 1930 م 42 ص 142 .
( [675] ) ومما يترتب أيضاً من النتائج على أن المتعهد أصبح مديناً للمنتفع لا للمشترط أن المتعهد لا يستطيع أن يتمسك بالمقاصة بين حق له على المشترط والتزامه نحو المنتفع ( استئناف مختلط في ) يونية سنة 1927 م 39 ص 536 ) . ويترتب أيضاً على ذلك أن المتعهد لا يستطيع عند رجوع المنتفع عليه أن يطلب تجريد المشترط ( استئناف مختلط في 17 ديسمبر سنة 1914 م 27 ص 71 ) .
( [676] ) استئناف مختلط في 18 يناير سنة 1917 م 29 ص 163 .
( [677] ) أنظر في الفرق ما بين الاشتراط لمصلحة الغير والانابة في الوفاء نظرية العقد للمؤلف ص 916 هامش رقم 1 .
( [678] ) وإذا كان العقد ما بين المشترط والمتعهد عقداً صورياً ، جاز في نظرنا للمتعهد أن يتمسك قبل المنتفع بالصورية حتى لو كان المنتفع حسن النية لا يعلم بصورية العقد . ذلك أن المنتفع لا يعتبر " غيرا " في هذه الصورية حتى يستطيع التمسك بالعقد الظاهر ، فهو قد استمد حقه من هذا العقد ، وشرط الغير في الصورية إلا يكون حقه الذي تراد حمياته من الصورية مستمداً من العقد الصوري ذاته . وقد سبقت الإشارة إلى هذه المسألة ، وسنعود إليها ببيان أو في عند الكلام في الصورية .
( [679] ) أنظر آنفاً فقرة 378 – وقد ضربنا مثلا لذلك أن تتعاقد الحكومة مع شركة احتكار مشترطة عليها شروطاً في مصلحة الجمهور ، ولكنها تحتفظ لنفسها ، دون أفراد الجمهور بحق إلزام الشركة بتنفيذ هذه الشروط ( أنظر في هذا المعنى استئناف مختلط في 3 يونية سنة 1896 م 8 ص 313 – وفي 17 مايو سنة 1905 م 17 ص 283 – والتون 2 ص 57 – ص 58 ) .
( [680] ) نقض مدني في 27 مارس سنة 1941 مجموعة عمر رقم 109 ص 337 – أنظر أيضاً استئناف مختلط في 17 يونية سنة 1930 م 42 ص 567 .
( [681] ) أنظر مناقشات لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، وقد ذكر هذا المثل أمامها ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 315 ) .
( [682] ) استئناف مختلط في 17 ديسمبر سنة 1914 م 27 ص 71 – وفي 28 نوفمبر سنة 1918 م 31 ص 38 . أنظر أيضاً بلانيول وريبير وغسمان 1 فقرة 358 .
( [683] ) استئناف مختلط في 24 ابريل سنة 1904 م 16 ص 217 .
( [684] ) ومن قبل النقض الجزئي أن يرهن المؤمن له بوليصة التأمين لدائنه ، فلا يعود مبلغ التأمين إلى المنتفعين إلا بعد أن يستوفى الدائن حقه ( استئناف مختلط في 27 فبراير سنة 1902 م 14 ص 162 ) .
وقضت محكمة النقض بأنه إذا اتفق البائع والمشتري على أن يحتفظ المشتري ببعض الثمن تأميناً وضمانا لدين آخر على البائع ، فهذا الاتفاق يعتبر قانوناً اشترطاً لمصلحة الغير ، وحكمه أن للمشترط الحق في نقضه ما لم يعلن من حصل الشرط لمصلحته قبوله له . ولا يجب في نقض الاتفاق أن يكون بشكل مخصوص ، بل هو كما يقع صريحا يصح أن يكون ضمنياً ، ولا محل هنا لتطبيق المادة 141 من القانون المدني ( القديم ) لتمكين دائن البائع من استعمال حق مدينه والرجوع على المشتري ، فإن هذه المادة مجالها أن يكون حق المدين ( هنا البائع ) لا يزال باقياً في ذمة المتعهد ( هنا المشتري ) عند استعمال الدائن هذا الحق ، فإذا ما انقضى بالوفاء فلا يبقى للمدين بعد ذلك أي حق يصح للدائن أن يباشره اسمه ( نقض مدني في 11 يونية سنة 1942 مجموعة عمر 3 رقم 171 ص 473 ) . ونلاحظ هنا أن دائن المشترط لا يجوز له أن يستعمل حق النقض باسم مدينه لما قدمناه من أن هذا الحق شخصي للمشترط ، وقد ورد نص القانون الجديد صريحاً في ذلك كما رأينا . فإذا امتنع على دائن البائع أن يستعمل حق النقض باسم مدينه ، فإن هذا يرجع الىش خصية حق النقض ، لا إلى أن الثمن لم يعد باقياً في ذمة المشتري كما ذهبت المحكمة .
( [685] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وللمشترط أن ينقض المشارطة قبل إقرار المنتفع لها إلا أن يكون ذلك منافياً لروح التعاقد . وله عند نقض المشارطة أن يعين منتفعاً آخر أرأب يستأثر لنفسه بمنفعتها ، ما لم تكن نية المتعقادين قد انصرفت صراحة أو ضمناً إلى أن الالغاء يترتب عليه أن تبرأ ذمة المتعهد قبل المشترط . ولما كان نقض المشارطة أمراً يرجع إلى تقدير المشترط ذاته ، فقد قصر استعمال هذه الرخصة عليه دون دائنيه أو ورثته . وإذا رفض المنتفع المشارطة نهائياً فيكون للمشترط عين الحقوق التي تقدمت الإشارة إليها في الفرض السابق ، والظاهر أنه يجوز له فوق ذلك أن يطلب فسخ العقد باعتبار أن المتعهد يستحيل عليه تفنيذ التزامه قبل المنتفع " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 317 ) .
( [686] ) وإذا صدر نقض من المشترط وإقرار من المنتفع قبل أن يعلم أحدهما بما فعل الآخر ، فالعبرة ليست بتاريخ صدور النقض والإقرار ، بل بتاريخ اعلانهما إلى المتعهد ، فمن أعلن المتعهد أولاً هو الذي يسري تصرفه ، ويعتبر حق المنتفع منقوضاً إذا سبق المشترط إلى إعلان النقض للمتعهد ، أو يعتبر قد تثبت غير قابل للنقض إذا سبق المنتفع إلى إعلان إقراره للمتعهد ( بلانيول وريبير وغسمان 1 فقرة 361 ) .
( [687] ) استئناف مختلط في 2 مارس سنة 1916 م 38 ص 184 – وفي 14 فبراير سنة 1918 م 30 ص 221 – وقضت محكمة النقض بأن المادة 137 من القانون المدني ( القديم ) نصت على أن من عقدت على ذمته مشارطة بدون توكيل منه فله الخيار بين قبولها ورفضها ، ولم يطلب القانون ممن حصل العقد على ذمته أن يظهر رغبته في قبولها في زمن معين ، وكل ما اقتضاه منه في حالة عدم القبول أن يعلن الرفض ، أما القبول فيكفي فيه السكوت ( نقض مدني في 17 ديسمبر سنة 1931 مجموعة عمر 1 رقم 18 ص 30 ) .
هذا ويجوز لكل من المشترط والمتعهد أن يحدد أجلا معقولا للمنتفع يختار فيه بين الإقرار والرفض ، فإذا انقضى الأجل عد رافضاً . وللقاضي الرقابة علىما إذا كان الأجل معقولا ( أنظر المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 317 ) .
( [688] ) وإلى هذا كله تشير المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي إذا تقول : " وإذا صح عزم المنتفع على قبول الاشتراط ، فيجوز له أن يعلن المتعهد أن المشترط بإقراره ، ويراعى أن هذا الإقرار تصرف قانونين ينعقد بارادة منفردة . ولا يشترط له استيفاء شكل ما ، ولم يحدد المشرع أجلاً معيناً لصدوره ، ولكن يجوز إنذار المنتفع بالافصاح عما يعتزم في فترة معقولة . ويصبح حق المنتفع لازماً أي غير قابل للنقض بمجرد إعلان الإقرار . وهو حق مباشر مصدره العقد ، ويترتب على ذلك نتيجتان : الأولى أنه يجوز للمنتفع أن يطالب بتنفيذ الاشتراط ما لم يتفق على خلاف ذلك . ولما كان للمشترط مصلحة شخصية في هذا التنفيذ ، وهو يفترق عن الفضولي من هذا الوجه ، فيجوز له أيضاً أن يتولى المطالبة بنفسه إلا إذا قضى العقد بغير ذلك والثانية أنه يجوز للمتعهد أن يتمسك قبل المتنفع بالدفوع التي تتفرع عن العقد " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 317 ) .
( [689] ) بعض المراجع : ديريه ( Dereux ) في تفسير التصرفات القانونية رسالة من باريس سنة 1905 – جونو ( Gounot ) رسالة من ديجون سنة 1912 – جني ( Geny ) في طرق التفسير طبعة ثانية سنة 1919 – سالي ( Saleilles ) في الالتزامات في القانون الألماني – وفي إعلان الإرادة – بلانيول وريبير وغسمان 1 فقرة 373 – فقرة 375 – بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 449 – فقرة 459 – الدكتور الشيتي في تكوين العقد وتفسيره في القانون المصري الجديد رسالة تقدم بها إلى معهد القانون المقارن بجامعة باريس سنة 1949 – حامد فهمي ( باشا ) والدكتور محمد حامد فهمي بك في النقض في المواد المدنية والتجارية – والتون 1 ص 362 – ص 394 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 826 وما بعدها – الدكتور حلمي بهجت بدوي بك فقرة 185 وما بعدها – الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت بك فقرة 346 وما بعدها .
( [690] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 21 من المشروع التمهيدي على وجه مطابق ، فيما عدا بعض خلافات لفظية طفيفة وفيما عدا عبارة " وبالغرض الذي يظهر أن المتعاقدين قد قصداه " فقد تضمنها نص المشروع التمهيدي . وقد حذفت هذه العبارة في لجنة المراجعة اكتفاء بعبارة " فيجب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين " ، وأجريت بعض تعديلات لفظية ، فأصبح النص مطابقاً لنص القانون الجديد ، وأقرته لجنة المراجعة تحت رقم المادة 154 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب . وكذلك وافقت عليه لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم المادة 150 . ثم وافق عليه مجلس الشيوخ ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 295 – ص 298 ) .
( [691] ) أنظر تاريخ النص آنفاً فقرة 118 .
( [692] ) ويلاحظ الدكتور الشيتي في رسالته " تكوين العقد وتفسيره في القانون المصري الجديد " ( ص 45 – ص 46 ) أن نظرية التفسير ضرورية للبحث في انعقاد العقد وفي صحته وفي تحديد اثاره ، إذ يتوقف على تفسير التعبير عن الإرادة لكل من المتعاقدين معرفة ما إذا كانت هاتان الارادتان متطابقتين ، وهذا هو انعقاد العقد ، وما إذا كانت الإرادة الظاهرة تتفق مع الإرادة الباطنة ، وهذه هي صحة العقد ، وما هو مدى هاتين الارادتين المتطابقتين الصحيحتين ، وهذا هو تفسير العقد لتحديد اثاره . ويستخلص الدكترو الشبني من ذلك الأهمية البالغة التي لنظرية التفسير ، ويعتبر أنها هي المحك الذي يميز ما بين النظم القانونية المختلفة .
( [693] ) استئناف وطني في 11 مايو سنة 1905 الاستقلال 4 ص 345 – استئناف مختلط في 11 يونية سنة 1908 م 20 ص 270 – وفي 15 يونية سنة 1911 م 23 ص 373 – وفي 7 فبراير سنة 1917 م 29 ص 204 – وفي 16 نوفمبر سنة 1921 م 34 ص 14 – وفي 29 ديسمبر سنة 1927 م 40 ص 12 – وفي 6 ديسمبر سنة 1934 م 47 ص 53 .
( [694] ) استئناف مختلط في 20 مارس سنة 1940 م 92 ص 221 – نقض فرنسي في 31 أكتوبر سنة 1923 سيريه 1924 – 1 – 159 – وفي 5 ديمسبر سنة 1927 سيريه 1928 – 1 – 138 .
( [695] ) نقض مدني في أول مارس سنة 1934 مجموعة عمر 1 رقم 168 ص 328 – أنظر أيضاً ما قررته محكمة النقض من أنه إذا كان لقاضي الموضوع السلطة التامة في فهم الواقع في الدعوى من دلائلها المقدمة له تقديماً صحيحاً ، ولا رقابة عليه في ذلك لمحكمة النقض ، إلا أنه متى اثبت لهذا الفهم دليلا وهمياً لا وجود له ، أو كان موجوداً ولكنه مناقض لما أثبته ، أو غير مناقض ولكن يستحيل عقلا استخلاص هذا الفهم منه ، فإن حكمه يقع إذن تحت رقابة محكمة النقض لمخالفته لقواعد الإثبات القانونية . فإذا انتحل الحكم للحادث الضار سبباً تقصيرياً لا يمكن استخلاصه فعلا من عناصر التحقيق التي كانت أمام المحكمة تعين نقضه ( نقض مدني في 27 مارس سنة 1935 مجموعة عمر 1 رقم 235 ص 630 ) .
( [696] ) تالامون ( Talamon ) في رقابة محكمة النقض على تفسير العقود وتطبيقها رسالة من باريس سنة 1926 – مارتي ( Marty ) في التمييز بين الواقع والقانون أمام محكمة النقض رسالة من تولوز سنة 1929 – حامد فهمي باشا والدكتور محمد حامد فهمي بك في النقض في المواد المدنية والتجارية فقرة 299 وما بعدها .
وقد قضت محكمة النقض بأن من حقها أن تشرف على محكمة الموضوع فيما تعطيه من الأوصاف والتكييف القانونين لما تثبته في حكمها من الوقائع ، وذلك لتعرف ما إذا كان هذا التكييف قد جاء موافقاً للقانون أم مخالفاً له . فإذا ادعى بائع قطعة من الأرض إلى زوجته بعقد مسجل بثمن معين اقر بقبضه أن هذا البيع هو في الحقيقة وصية ، واستدل على ذلك بإقرار قدمه صادر له من المشترية تبيح له فيه الانتفاع بالعين المبيعة مدة حياته وتصرح فيه بأنه في حالة وفاتها قبله تعود ملكية القدر المبيع إليه ، وتمسكت هي في دفع هذه الدعوى بورقة صادرة من البائع بعد تاريخ الإقرار الصادر منها بمدة طويلة يتنازل لها فيه عن ريع الأرض المبيعة ، واعتبرت المحكمة هذا التنازل مكيفاً للعقد المتعلق بالملكية الوارد في إقرار المشترية ومتمما لعقد البيع بجميع أركانه زعماً بأنها بعد هذا التنازل تكون قد نقلت ملكية الرقبة والمنفعة معاً الىالمشترية ، فهذا الاعتبار لا يمكن حسبانه تفسيراً لعقد البيع ولا لإقرار المشترية أو تنازل البائع ، وإنما هو وصف وتكييف للعقد ، أغفلت المحكمة فيه عنصراً هاماً هو ما نص عليه في إقرار المشترية من عودة الملكية إلى البائع إذا ما توفيت هي قبله ، ويكون لمحكمة النقض أن تصحح تكييف هذا العقد على موجب قيام هذا العنصر الذي لا خلاف على ثبوته ولا على دلالته ، فتعتبره وصية لا بيعاً صحيحاً ( نقض مدني في 2 مارس سنة 1933 مجموعة عمر 1 رقم 108 ص 192 ) – والمتعاقدان قد يخطئان في تكييف العقد جهلا أو عمداً ، والتعمد يكون عادة لاخفاء غرض غير مشروع ، كربا فاحش يستتر تحت اسم إيجار أو بيع ( استئناف وطني في 29 ديسمبر سنة 1908 المجموعة الرسمية 10 رقم 85 ) ، وكرهن حيازة يستتر تحت اسم بيع وفاء في القانون المدني القديم ، وكشركة مخاصة هي في الواقع قرض ( استئناف مختلط في 8 مايو سنة 1901 م 13 ص 306 ) ، وكبيع هو في الواقع تأمين لدين على البائع للمشتري ( زقازيق استئنافي في 12 نوفمبر سنة 1908 الحقوق 23 ص 30 ) ، وقد يوصف الصلح بأنه وكالة ( استئناف وطني في 14 نوفمبر سنة 1922 المجموعة الرسمية 25 رقم 52 / 1 – أنظر أيضاً استئناف مختلط في 2 يناير سنة 1919 م 31 ص 93 – وفي 10 مايو سنة 1924 م 36 ص 364 – وفي 24 فبراير سنة 1926 م 38 ص 294 ) .
وكثيراً ما تستتر الوصية تحت اسم آخر ، كالبيع ، فعلى محكمة الموضوع أن تتبين إرادة المتصرف ، وأن تكيف هذه الإرادة التكييف القانونين الصحيح خاضعة في ذلك لرقابة محكمة النقض ( أنظر نظرية العقد للمؤلف ص 928 هامش رقم 1 وفيه إشارة لأحكام كثيرة لمحكمة استئناف مصر تكيف التصرف تارة بأنه وصية وطوراً بأنه بيع – ويضاف إلى هذه الأحكام ما يأتي : استئناف مصر في 27 يناير سنة 1935 المحاماة 16 رقم 23 ص 48 – وفي 21 مايو سنة 1935 المحاماة 16 ص 301 – وفي 31 ديسمبر سنة 1935 المحاماة 17 رقم 55 ص 112 – وفي 17 فبراير سنة 1 937 المحاماة 17 رقم 589 ص 1178 – وفي 2 مارس سنة 1937 المحاماة 17 رقم 159 ص 1181 – وفي 7 ديسمبر سنة 1937 المحاماة 18 رقم 359 ص 737 – وفي 13 يناير سنة 1938 المحاماة 19 رقم 162 ص 373 – وفي 25 ابريل سنة 1939 المحاماة 19 رقم 532 ص 1424 .
وتخضع محكمة النقض هذه التصرفات لرقابتها تارة عن استظهار نية المتصرف وهي مسألة موضوعية ، ولكن محكمة النقض تشترط في استظهار النية كما رأينا أن تكون الوقائع التي استخلصت منها هذه النية قائمة علىمصادر موجودة غير متناقضة ومؤدية إلى النتيجة التي قررتها في حكمها ( نقض مدني في 25 مايو سنة 1933 مجموعة عمر 1 رقم 126 ص 227 ) ، ونية المتصرف تقوم عليها علامات كثيرة كاستمرار وضع يد البائع على العين واستغلالها إلى حين وفاته وكفقر المشتري وعدم قدرته على دفع الثمن المسمى في العقد وكعدم تسجيل العقد وكاستمرار قيام البائع بدفع الأموال الأميرية أو العوائد من تاريخ البيع إلى تاريخ وفاته ( استئناف مصر في 31 مارس سنة 1940 المحاماة 22 رقم 229 ص 664 ) – وطوراً عن طريق اخضاع التكييف القانونين للتصرف لرقابتها ، وقد رأينا في الحكم السابق ذكره الصادر في 3 مارس سنة 1933 إنها كيفت التصرف وصية لا بيعاً ، وفي حكم آخر كيفته هبة لاة وصية ، فقضت بأنه وإن كان لمحكمة الموضوع كامل السلطة في تفسير العقود المختلف على معناها بحسب ما تراه أدنى إلى نية المتعاقدين ، مستيعنة في ذلك بجميع وقائع الدعوى وظروفها ، إلا أنه إذا أدى هذا التفسير إلى إعطاء العقد وصفا قانونيا خاطئاً ، فإن حكمها في ذلك يكون خاضعاً لرقابة محكمة النقض التي يجب عليها في هذه الحالة تصحيح ما وقع من الخطأ ، فإذا صدر عقد من شخص إلى حفيده ببيع قطعة من الأرض له ، نص فيه على أن البائع باع تلك الاطيان لحفيده بيعاً قطعياً لا رجوع فيه ونزل له عنها في مقابل ثمن قدره كذا قبضه من المشتري ، وأنه سلم الاطيان للمشتري لكي يضع يده عليها ويزرعها ويبيع محصولاتها الخاصة بنفسه إلى غير ذلك ، وسجل هذا العقد تسجيلا تاماً ، واستمر البائع واضعاً يده على الاطيان ، ثم تنازع مع المشتري على ملكيتها ، ودفع لديى القضاء بأن هذا العقد وصية وأنه سبق أن أخذ ورقة ضد من المشترى مقتضاها أن تبقى الأطيان تحت يده هو يستغلها لحين وفاته ولكن هذه الورقة ضاعت منه ، إذا حصل ذلك وحكمت محكمة الموضوع باعتبار هذا العقد وصية بناء على ما بان لها من الظروف التي لابست تحرير العقد وحالة البائع وظرف المشتري ومركزه بالنسبة للبائع وبقاء العين تحت يد صاحبها ، كان حكمها خاطئاً في تطبيق القانون ووجب علىمحكمة النقض تصحيحه باعتبار هذا العقد عقد تبرع منجز أي هبة مستترة في صورة بيع ، فهي هبة صحيحة ( نقض مدني في 2 يونية سنة 1932 مجموعة عمر 1 رقم 53 ص 118 ) .
وقد كان تكييف التصرف على أنه وصية أو هبة أو بيع في القانون المدني القديم أمراً محيراً ( أنظر إلى ما جاء في ذلك من الضوابط نظرية العقد للمؤلف ص 928 في آخر الحاشية رقم 1 وتجد الأحكام مشارا إليها في أسفل ص 932 – ص 933 ) . وتضمن القانون الجديد نصاً في هذه المسألة هو المادة 917 وتقضي بأنه " إذا تصرف شخص لأحد ورثته ، واحتفظ بأية طريقة كانت بحيازة العين التي تصرف فيها وبحقه في الانتفاع بها مدى حياته ، اعتبر التصرف مضافا إلى ما بعد الموت وتسري عليه أحكام الوصية ما لم يقم دليل يخالف ذلك " . ويبرر مسلك القانون الجديد وميله إلى ترجيح جانب الوصية على جانب البيع أو الهبة ، مما يؤدي في الغالب إلى تقييد التصرف ، أن باعث القضاء على التساهل في تفسير التصرف على ا ،ه بيع أو هبة لا على أنه وصية قد انعدم ، فقد كان القضاء يرجح جانب البيع أو الهبة على جانب الوصية لما كانت أحكام الوصية تضيق عن الايصاء لوارث ، فكان القضاء يعالج بهذا التساهل عيباً في القانون ليصحح وصايا لها ما يبررها في ظروف الأسرة تحت ستار إنها بيوع أو هبات منجزة . أما اليوم فقد عدل المشرع المصري من أحكام الوصية ، فأجاز الوصية لوارث فيما لا يزيد على ثلث التركة وجعلها كالوصية لغير الوارث ، فلم يعد هناك مقتض لتسمية التصرفات بغير أسمائها الحقيقية ، وما دامت الوصية السافرة للوارث جائزة ، فلا محل إذن للوصية المستترة .
وقد كانت محكمة النقض ، قبل القانون المدني الجديد ، جعل احتفاظ المتصرف بايحازة العين لا بحقه في الانتفاع بها مدى حياته قرينة قضائية على أن التصرف وصية – قبل أن تصبح في القانون الجديد قرينة قانونية – لاسيما إذا اقترن ذلك باشتراط عدم تصرف المشتري في الرقبة طول حياة البائع : أنظر في هذا ا لمعنى نقض مدني في 14 مايو سنة 1942 مجموعة عمر 3 رقم 158 ص 445 – وفي 11 مارس سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 36 ص 69 – وفي 29 ابريل سنة 1948 مجموعة عمر 5 رقم 307 ص 612 – وفي 3 نوفمبر سنة 1949 طعن رقم 43 سنة 18 قضائية لم ينشر – ومع ذلك أنظر : نقض مدني في 13 ابريل سنة 1939 مجموعة عمر 2 رقم 179 ص 547 – وفي 8 يونية سنة 1939 مجموعة عمر 2 رقم 188 ص 547 ( إقرار الغى شرط المنع من التصرف ) – وفي 18 ابريل سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 66 ص 153 – وفي 16 مايو سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 75 ص 171 – وفي 3 فبراير سنة 1949 مجموعة عمر 5 رقم 379 ص 710 – وفي 19 مايو سنة 1949 مجموعة عمر 5 رقم 422 ص 781 – وفي 29 ديسمبر سنة 1949 طعن رقم 73 سنة 18 قضائية لم ينشر – كذلك قضت محكمة النقض بأن عدم تسجيل العقد قرينة على أنه وصية ( نقض مدني في 16 نوفمبر سنة 1939 مجموعة عمر 3 رقم 4 ص 11 – وفي 14 مايو سنة 1942 مجموعة عمر 3 رقم 158 ص 445 – وفي أول ابريل سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 43 ص 107 – وفي 16 ديسمبر سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 83 ص 231 – وفثي 16 مايو سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 78 ص 174 – وفي 2 مارس سنة 1950 طعن رقم 83 سنة 18 قضائية لم ينشر . ومع ذلك أنظر : نقض مدني في 18 ابريل سنة 1949 مجموعة عمر 5 رقم 413 ص 764 – وانظر في أن تنازل البائع عن ورقة الضد يدل على تنجيز العقد : نقض مدني في 23 مارس سنة 1 950 طعن رقم 126 سنة 18 قضائية ، وفي أن تسليم البائع العقد للمشتري وتخليه من الحيازة له قبل الوفاة ( حتى لو ثبت أن العقد لم يسجل وأن ثمناً لم يدفع ) يدل على التنجيز وعلى تخلي المورث عن فكرة الرجوع في التصرف : نقض مدني في 11 مارس سنة 1948 مجموعة عمر 5 رقم 286 ص 564 – وفي 16 مارس سنة 1950 طعن رقم 51 سنة 19 قضائية لم ينشر ، وفي أن التصرف يعتبر وصية إذا كان البائع قد أصدر عقد البيع منفرداً ولم يقبض ثمناً ولم يسلمس العقد للمشترين بل احتفظ به طوال حياته : نقض مدني في ) مارس سنة 1950 طعن رقم 122 سنة 18 قضائية لم ينشر ، وانظر في الهبة بعوض وهي سافرة : نقض مدني في 22 مايو سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 82 ص 178 ، وفي الهبات المستترة في صورة سندات : نقض مدني في 23 مايو سنة 1940 مجموعة عمر 3 رقم 62 ص 210 – وفي 28 يناير سنة 1934 مجموعة عمر 4 رقم 21 ص 47 – وفي 29 ابريل سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 55 ص 152 – وفي ) نوفمبر سنة 1944 مجموعة عمر 4 رقم 156 ص 437 .
ومن ذلك نرى أن القرينة القانونية التي أقامها القانون الجديد – وهي احتفاظ المورث بالحيازة وبحقه في الانتفاع مدى حياته – هي الشيء الثابت في هذه المسألة . وهي قرينة قابلة لإثبات العكس ، فيجوز إثبات أن التصرف بيع أو هبة لا وصية بتقديم قرائن في هذا المعنى ، كتسجيل التصرف والتنازل عن شرط منع التصرف وتبرير الاحتفاظ بحيازة العين عن طريق أن المشتري قاصر وأن البائع باشر الحيازة نيابة عنه وغير ذلك من الظروف التي تعارض قرينة التصرف وصية .
والذي يعنينا أن تقرره هنا هو أن لمحكمة النقض رقابة تامة على التكييف القانونين للعقد . وقد قضت بأن تمليك كل من الزوجين الآخر ماله بعد وفاته هو تبادل منفعة معلق على الخطر والضرر ، ولا غرض منه سوى حرمان ورثة كل منهما من حقوقه الشرعية في الميراث ، وهو من قبل الرقى المحرمة شرعا ( نقض مدني في 14 يونية 1934 مجموعة عمر 1 رقم 199 ص 499 – وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم عند الكلام في التركة المستقبلة فقرة 217 ) . وقضت أيضاً بأن العقد الذي يزيد فيه ما يدفع من الثمن نقداً عما يدفع منه عينا هو بيع لا مقايضة ، فتكييف محكمة المضووع العقد على هذا النحو لا غبار عليه ( نقض مدني في 30 مايو 1935 مجموعة عمر 1 رقم 273 ص 814 ) .
( [697] ) وقد قررت محكمة النقض هذا المبدأ في أحكام كثيرة ، من ذلك ما قضت به من أن استظهار نية المتعاقدين من ظروف الدعوى ووقائعها مما يدخل في سلطة قاضي الموضوع ولارقابة لمحكمة النقض عليه فيه ، فله أن يستخلص من نص عقد البيع ومن ظروف الدعوى وأحوالها أن العاقدين قصدا به أن يكون البيع تاما منجزا بشرط جزائي ، ولم يقصدا أن يكون بيعاً بعربون أو بيعاً معلقاً على شرط فاسخ ( نقض مدني في 5 يناير 1933 مجموعة عمر 1 رقم 91 ص 163 ) . وقضت كذلك بأن تفسير العقود هو من شؤون محكمة الموضوع ، فلها أن تقرر معناها على أي وجه تراه مفهوما من صيغتها وتعتبره متفقا مع قصد المتعاقدين ، ولا رقابة لمحكمة النقض عليها في ذلك ما دامت عبارة العقد تحتمل المعنى الذي تأخذ به ( نقض مدني في 2 فبراير 1933 مجموعة عمر 1 رقم 95 ص 171 ) . وقضت أيضاً بان استظهارنية المتصرف مسألة موضوعية لا مدخل فيها لمحكمة النقض ما دامت الوقائع التي سردتها المحكمة في حكمها والظروف التي بسطتها فيه تؤدي إلى النتيجة القانونية التي قررتها ( نقض مدني في 25 مايو 1933 مجموعة عمر 1 رقم 126 ص 2227 ) . وقضت بأن لقاضي الموضوع السلطة التامة في بحث الدلائل والمستندات المقدمة له تقديماً صحيحاً ، وفي موازنة بعضها بالبعض الآخر ، وترجيح ما تطمئن نفسه إلى ترجيحه منها ، واستخلاص ما يرى أنه هو واقعة الدعوى دون أن يكون لمحكمة النقض أية رقابة عليه في ذلك ولو أخطأ في نفس الأمر ، لأن خطأه يكون في فهم الواقع في الدعوى لا في فهم حكم القانون في هذا الواقع ، ومحكمة النقض لا تنظر إلا في مسائل القانون . ولا يستثنى من هذه القاعدة إلا صورة واحدة هي أن يثبت القاضي مصدراً للواقعة التي يستخلصها يكون وهمياً لا وجد له ، أو يكون موجوداً ولكنه مناقض لما اثبته ، أو غير مناقض ولكن يستحيل عقلا استخلاص الواقعة منه كما فعل هو ( نقض مدني أول مارس 1934 مجموعة عمر 1 رقم 168 ص 328 ) . وقضت أنه بحسب قاضي الموضوع أن يبين الحقيقة التي اقتنع بها وأن يذكر دليلها ، وما عليه أن يتتبع الخصوم في مناحي أقوالهم ومختلف حججهم وطلباتهم ويرد استقلال على كل قول أو حجة أو طلب اثاروه في مرافتهم ، ما دام قيام الحقيقة التي اقتنع بها وأورد دليلها فيه التعليل الضمني المسقط لتلك الأقوال والحجج والطلبات ( نقض مدني في 31 مايو 1934 مجموعة عمر 1 رقم 189 ص 414 ) .
أنظر أيضاً في هذا المعنى أحكاماً كثيرة نذكر منها : نقض مدني 17 نوفمبر سنة 1932 مجموعة عمر 1 رقم 72 ص 1402 – وفي 13 ابريل سنة 1 933 مجموعة عمر 1 رقم 119 ص 205 – وفي 21 ديسمبر سنة 1933 مجموعة عمر 1 رقم 155 ص 291 – وفي 22 فبراير سنة 1934 مجموعة عمر 1 رقم 167 ص 327 – وفي 27 ديسمبر سنة 1934 مجموعة عمر 1 رقم 215 ص 520 – وفي 21 مارس سنة 1935 مجموعة عمر 1 رقم 238 ص 646 – وفي 13 يناير سنة 1938 مجموعة عمر 2 رقم 83 ص 240 – وفي 11 يناير سنة 1940 مجموعة عمر 3 رقم 22 ص 51 – وفي 21 مارس سنة 1940 مجموعة عمر 3 رقم 46 ص 40 – وفي 18 ابريل سنة 1940 مجموعة عمر 3 رقم 52 ص 177 – وفي 6 يونية سنة 1940 مجموعة عمر 3 رقم 66 ص 231 – وفي 24 أكتوبر سنة 1940 مجموعة عمر 3 رقم 72 ص 259 – وفي 2 يناير سنة 1941 مجموعة عمر 3 رقم 87 ص 10 وفي 11 ديسمبر سنة 1941 مجموعة عمر 3 رقم 130 ص 393 – وفي 29 أكتوبر سنة 1942 مجموعة عمر رقم 182 ص 488 – وفي 18 فبراير سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 28 ص 58 - وفي 13 مايو سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 57 ص 154 – وفي 27 يناير سنة 1944 مجموعة عمر 4 رقم 94 ص 251 – وفي 3 فبراير سنة 1944 مجموعة عمر 4 رقم 97 ص 256 – وفي 17 فبراير سنة 1944 مجموعة عمر 4 رقم 99 ص 264 – وفي 2 مارس سنة 1944 مجموعة عمر 4 رقم 106 ص 274 – وفي 15 مايو سنة 1945 مجموعة عمر 4 رقم 207 ص 567 – وفي 17 مايو سنة 1945 مجموعة عمر 4 رقم 253 ص 680 .
هذا ويلاحظ أن تفسير إرادة المتعاقدين لا يكون مسألة موضوعية إذا أخذنا بنظرية الإرادة الظاهرة ، فإن تفسير هذه الإرادة يكون إذن مسألة قانونية كتفسير نصوص القانون ذاته ، ويكون التفسير في هذه الحالة خاضعاً لرقابة محكمة النقض ( نظرية العقد للمؤلف ص 927 هامش رقم 2 ) .
( [698] ) نقض مدني في 10 مارس سنة 1932 مجموعة عمر 1 رقم 41 ص 83 – قضت محكمة النقض أيضاً بأن لمحكمة الموضوع السلطة المطلقة في تفهم نصوص العقد وما قصده العاقدان منها دون أن تنقيد بألفاظها ، وليس لمحكمة النقض أية رقابة عليها في ذلك ما دامت قد بينت في أسباب حكمها وجهة نظرها وما دعاها إلى الأخذ بما أخذت به في قضائها ، ولماذا لم تأخذ بظاهر ألفاظ العقد ، وما هي الظروف والملابسات التي رجحت عندها ما ذهبت إليه ( نقض مدني في 10 مارس سنة 1932 مجموعة عمر 1 رقم 42 ص 84 ) . وقضت أيضاً بأنه مهما يقل بأن للمحكمة أن تعدل عن المعنى الظاهر للعقد إلى ما تراه هي أنه مقصود العاقدين ، فلا شك في أنه يكون عليها إذا ما رأت أن تأخذ بغير ظاهر العقد أن تبين في حكمها لم عدلت عن المدلول الظاهر إلى خلافه ، وكيف أفادت صيغته المعنى الذي أخذت به ورجحت أنه مقصود العاقدين ، بحيث يتضح من هذا البيان إنها قد اعتمدت في تأويلها إياه على اعتبارات مقبولة يصح معها استخلاص ما استخلصته منها . فإذا هي لم تفعل . كان حكمها معيباً بصور أسبابه ( نقض مدني في 3 يناير سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 18 ص 36 ) . وقضت أيضاً بأنه إذا لم تأخذ المحكمة بظاهر مدلول عبارة وردت في ورقة من أوراق الدعوى ، وأوردت في أسباب حكمها الاعتبارات التي دعتها إلى ذلك ، وكانت هذه الاعتبارات مقبولة عقلا ، فلا يصح النعي على حكمها إنها مسخت الورقة التي قصدت لتفسيرها أو إنها حرفت معناها ( نقض مدني في 4 ابريل سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 57 ص 144 ) .
أنظر أيضاً في هذا المعنى : نقض مدني في 29 ديسمبر سنة 1932 مجموعة عمر 1 رقم 89 ص 161 – وفي 7 ديسمبر سنة 1933 مجموعة عمر 1 رقم 149 ص 283 – وفي 5 يناير سنة 1936 مجموعة عمر 1 رقم 312 ص 1020 – وفي 22 يونية سنة 1936 مجموعة عمر 1 رقم 375 ص 1155 – أنظر كذلك " النقض في المواد المدنية والتجارية " لحامد فهمي باشا والدكتور محمد حامد فهمي بك فقرة 102 والأحكام المشار إليها فيه ، وانظر فقرة 103 وفقرة 104 من هذا الكتاب في نقد قضاء محكمتي النقض المصرية والفرنسية في هذه المسألة وإلى رأي خاص لمؤلفي هذا الكتاب .
وقد ذهبت محكمة النقض الفرنسية هذا المذهب في أحكامها ، وعنها أخذت محكمة النقض المصرية كما أسلفت الإشارة : أنظر نقض فرنسي في 15 ابريل سنة 1872 داللوز 72 – 1 – 176 – وفي أول يوليو سنة 1886 داللوز 87 – 1 – 217 – وفي 3 فبراير سنة 1886 داللوز 86 – 1 – 469 – وفي 21 ديسمبر سنة 1891 داللوز 92 – 1 – 104 – وفي 27 نوفمبر سنة 1901 سيريه 1903 – 1 – 267 – وفي 26 يناير سنة 1914 سيريه 1917 – 1 – 127 – وفي 28 مارس سنة 1921 سيريه 1922 – 1 – 79 – وفي 16 مارس سنة 1925 سيريه 1925 – 1 – 166 – وفي أول يولية سنة 1926 سيريه 1926 – 1 – 286 – وفي 21 يولية سنة 1930 – سيريه 1930 – 1 – 365 – وانظر في تحليل قضاء محكمة النقض الفرنسية والعهود الثلاثة التي مر بها هذا القضاء كتاب " النقض في المواد المدنية والتجارية " لحامد فهمي باشا والدكتور محمد حامد فهمي بك فقرة 89 – فقرة 101 .
هذا ولعل فيما قدمناه من جواز تفسير العبارة الواضحة رداً على ما استدركه الدكتور أبو عافية ( في رسالته في التصرف المجرد نسخة عربية ص 284 هامش رقم 8 ) على القانون المدني الجديد ، فقد ذهب إلى أن الفقرة الأولى من المادة 150 تمنع من تفسير العبارة الواضحة للعقد . وقد رأينا أن هذا النص في القانون الجديد لمي قصد به إلا تقنين قضاء محكمة النقض في هذه المسألة ، تمنع وليس . من تفسير العبارة الواضحة بالشرطين اللذين بيناهما .
( [699] ) وإلى هذا تشير المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي إذ تقول : " ويلاحظ اخيراً أن القاضي ينبغي أن يلجا إلى الوسائل المادية دون غيرها لاستخلاص إرادة المتعاقدين الذاتية ، سواء أكان هناك محل لتفسير العقد أم لا . فليس للقاضي المدني ما يتمتع به القاضيالجنائي من حرية في تكوين عقيدته . وغنى عن البيان أن مراعاة هذه القاعدة الهامة مسألة من المسائل القانونية التي تخضع لرقابة محكمة النقض – أنظر قضاء هذه المحكمة فيما يتعلق بقصور الأسباب " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 297 فقرة 3 ) .
( [700] ) وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي تأييداً لذلك ما يأتي : " لا ريب أن إرادة المتعاقدين هي مرجع ما يرتب التعاقد من آثار . بيد أن هذه الإرادة ، وهي ذاتية بطبيعتها ، لا يمكن استخلاصها إلا بوسية مادية أو موضوعية ، هي عبارة العقد ذاتها . فإذا كانت هذه العبارة واضحة ، لزم أن تعد تعبيراً صادقاً عن إرادة المتعاقدين المشتركة ، وليس يجوز الانحراف عن هذا التعبير لاستقصاء ما أراده العاقدان حقيقة من طريق التفسير أو التأويل . تلك قاعدة يقتضى استقرار التعامل حصراً بالغاً في مراعاتها " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 296 فقرة 1 ) .
( [701] ) وتقول المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وإذا كانت عبارة العقد غير واضحة أو مبهمة بحيث تحتمل في جزئياتها أو في جملتها أكثر من معنى ، تعين الالتجاء إلى التفسير . والجوهري في هذا هو كشف الإرادة المشتركة للعاقدين ، لا الإرادة الفردية لكل منهما " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 296 – ص 297 ) .
( [702] ) ويقول الدكتور محمود أبو عافية في هذا المعنى ، بعد أن ينعي على الفقهين الفرنسي والمصري الخلط بين صحة التصرفات القانونية وتفسيرها ، ما يأتي : " وهذا خطأ بين يجب استبعاده بفصل هاتين المسالتين إحداهما عن الأخرى للسبب السابق ذكره ، وهو أن تحديد أثر التصرف مسألة لا توضع إلا بعد التسليم بصحته ، وصحة التصرف نفترض بدورها اتفاق الإرادة المعلنة مع الإرادة الحقيقية ، بل يجب التقيد بمضمون الإرادة المعلنة . . . يجب إذن فصل المنطقة التي يعمل فيها مبدأ اتفاق الإرادة المعلنة مع الإرادة الحقيقية كشرط لصحة التصرف عن منطقة المبدأ المتعلق بتحديد أثر التصرف . والنتيجة التي تترتب على ذلك هي أنه ما دام التعبير عن الإرادة صحيحاً فتفسيره لتحديد أثره لا يجوز أن يكون وسيلة لتغليب الإرادة الحقيقية على الإرادة المعلنة ، وإنما وسيلة الاستخلاص الإرادة الحقيقية من صيغة التعبير . ولا نزاع في أن للقاضي عندئذ أن يصرف النظر عن المعنى الحرفي للألفاظ المستعملة ليهتم فقط بمعناها المقصود ف يالحقية والذي يتبين من مجموع الظروف الخارجية التي لابست التعبير . ولكن القاضي عندما يفعل ذلك لا يغفل التعبير عن الإرادة وإنما يفسره " ( التصرف المجرد : نسخة عربية ض 283 – ص 284 ) .
أنظر أيضاً في تحديد منطقة كل من الغلط والتفسير ولكن مع جعل الإرادة الباطنة أساساً لكل منهما الدكتور حلمي بهجت بدوي بك فقرة 186 .
( [703] ) أنظر في هذا المعنى الدكتور الشيتي في رسالته في " تكوين العقد وتفسيره في القانون المصري الجديد " ص 58 .
( [704] ) سالي : في الالتزامات في القانون الألماني ( المادة 157 ص 228 وما بعدها ) – وانظر انتقاد الدكتور الشيني لرأي سالي في رسالته في " تكوين العقد وتفسيره ف يالقانون المصري الجديد " ص 55 حاشية رقم 23 .
( [705] ) أنظر أيضاً : استئناف مختلط في 25 يونية سنة 1932 م 44 ص 392 – نقض فرنسي في 11 نوفمبر سنة 1901 داللوز 1903 – 1 – 213 .
( [706] ) أنظر نظرية العقد للمؤلف فقرة 834 .
( [707] ) أنظر في هذا المعنى المادة 1105 من القانون المدني الجديد . وانظر في أمثلة أخرى نظرية العقد للمؤلف فقرة 833 .
( [708] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا كانت المحكمة – في دعوى طلب إثبات صحة تعاقد دفعها المدعي عليه بأن الاتفاق الذي تم بينه وبين المدعى على البيع قد عدل عنه وزال أثره – قد بسطت الوقائع كما استخلصتها من الأوراق ، ثم حصلت من المكاتبات التي تبودلت بين محاميي الطرفين أن المدعى أنكر التعاقد منذ حصوله ، مستعينة على ذلك بإيراد ألفاظ وعبارات من تلك المكاتبات مؤدية إلى محا حصلته ، فلا عليها إذا كانت لم تقف عندما ورد في مكاتبة منها على سلان محامي المدعى عليه مفيداً أن موكله يرى أن المدعى لا ينكر البيع وإنما ينازع في تفصيلاته فقط ، إذ المحكمة حين تفسر المحررات إنما تفسرها كما تفهمها هي ، وهي إذ تعالج تفسير محررات متبادلة مترابطة إنما تعتبرها بما تفيده من جملتها لابما تفيده عبارة معينة من عباراتها ( نقض مدني في 16 أكتوبر سنة 1947 مجموعة عمر 5 رقم 220 ص 469 ) – أنظر أيضاً نظرية العقد للمؤلف فقرة 835 .
( [709] ) نقض مدني في 27 أكتوبر سنة 1932 مجموعة عمر 1 رقم 65 ص 173 .
( [710] ) 30 ديسمبر سنة 1931 م 43 ص 109 .
( [711] ) استئناف مختلط في 23 فبراير سنة 1910 م 22 ص 162 .
( [712] ) مسينا جزء 1 فقرة 61 .
( [713] ) استئناف مختلط في 15 فبراير سنة 1916 م 28 ص 154 .
( [714] ) 20 يناير سنة 1915 م 27 ص 130 .
( [715] ) استئناف مختلط في 5 يناير سنة 1926 م 38 ص 161 .
( [716] ) نقض مدني في 28 مارس سنة 1940 مجموعة عمر 4 رقم 47 ص 141 .
( [717] ) أنظر في القضاء المصري نظرية العقد للمؤلف فقرة 828 .
هذا وقد تتضح إرادة المتعاقدين عن طريق أي عامل آخر خارجي عن العقد . مثل ذلك ما قضت به محكمة النقض من أنه إذا كانت المحكمة ، حين قالت أن العقد المتنازع عليه عقد قر ضلا بيع خلافاً لظاهره ، قد أقامت ذلك على أن نية طرفية كانت منصرفة إلى القرض لا إلى البيع ، مستخلصة هذه النية من ورقة الضد التي عاصرت تحرير العقد ومن التحقيق الذي أجتره في الدعوى والقرائن الأخرى التي اوردتها استخلاصاً لم يرد عليه طعن الطاعن في حكمها ، فيتعين رفض هذا الطعن ( نقض مدني في 3 ابريل سنة 1947 مجموعة عمر 5 رقم 180 ص 390 ) .
( [718] ) وهذا يقرب من النظرية الألمانية المعروفة بنظرية الثقة ( Vertauenstheorie ) التي أشار إليها الدكتور الشيتي في رسالته " في تكوين العقد وفي تفسير في القانون المصري الجديد " ص 51 – ص 53 . وقد أسلفنا الإشارة إلى ذلك .
( [719] ) وتشير المذكرة الإيضاحية إلى هذا الاعتبار فيما يأتي : " إذا عرض ما يدعو إلى تفسير العقد ، وبقى الشك يكتنف إرادة المتعاقدين المشتركة رغم إعمال أحكام التفسير التي تقدمت الإشارة إليها ، فسر هذا الشك في مصلحة المدين دون الدائن . تلك قاعدة أساسية أخذت بها اغلب التقنينات ، وهي ترد إلى أن الأصل في الذمة البراءة ، وعلى الدائن أن يقم الدليل على وجود دينه باعتبار أنه يدعى ما خالف هذا الأصل ، فإذا بقى شك لم يوفق الدائن إلى إزالته فمن حق المدين أن يفيد منه " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 299 ) .
( [720] ) وقد قضت محكمة النقض بأن الاشتباه في الغرض المقصود من المشارطة الذي يجب معه تفسير المشارطة بما فيه الفائدة للمتعهد هو الاشتباه الذي يقوم في نفس القاضي لخلو الدعوى من دليل مقنع . فإذا كان المستفاد من الحكم أن المحكمة قد استخلصت في اقتناع تام من أدلة الدعوى المرفوعة على المشتري بمطالبته بثمن القطن المبيع له أنه تسلم المبيع ، ثم قضت بإلزامه بالثمن ، فإن حكمها يكون سليما ولا غبار عليه ( نقض مدني في 14 ديسمبر سنة 1944 مجموعة عمر 4 رقم 169 ص 478 ) .
( [721] ) أنظر آنفاً فقرة 118 – ومما جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وينبغي كذلك تفسير ما يغمض من الشروط فيها على وجه لا يضر بالمذعن ، دائناً كان أو مديناً ، إذ ليس له ، على كلا الحالتين ، يد في هذا الغموض " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 271 ) .
( [722] ) استئناف مختلط في 20 نوفمبر سنة 1902 م 15 ص 11 .
( [723] ) استئناف مختلط في 27 مارس سنة 1902 م 14 ص 242 – وفي 11 يونية سنة 1908 م 20 ص 270 .
( [724] ) استئناف مختلط في 19 نوفمبر سنة 1914 م 27 ص 29 .
( [725] ) محكمة اسكندرية الكلية التجارية المختلفطة في 13 فبراير سنة 1922 جازيت 12 رقم 287 ص 165 – أنظر أيضاً استئناف مصر الوطنية في 25 يناير سنة 1932 المحاماة 12 رقم 25 ص 73 – محكمة مصر الكلية الوطنية في 21 ابريل سنة 1940 المحاماة 21 رقم 126 ص 267 – استئناف مختلط في 17 مايو سنة 1900 م 12 ص 262 – وفي 6 يونيه سنة 1901 م 13 ص 362 – وفي 20 نوفمبر سنة 1902 م 15 ص 11 – وفي 18 ديسمبر سنة 1930 م 43 ص 94 – وفي 8 ديسمبر سنة 1931 م 44 ص 53 – وفي 11 ديسمبر سنة 1934 م 47 ص 59 – وفي 22 ابريل سنة 1936 م 48 ص 239 – وفي 21 ابريل سنة 1937 م 49 ص 200 – وفي 11 يونية سنة 1940 م 52 ص 298 – أنظر أيضاً نظرية العقد للمؤلف فقرة 840 ص 948 .
( [726] ) تاريخ النص : تقتصر على الفقرة الثانية من هذا النص وهي التي تعنينا هنا ، مرجئين الفقرة الأولى إلى المطلب الثالث عند الكلام في إلزام المتعاقدين بتنفيذ العقد . وقد ورد النص في المادة 214 فقرة 2 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " ولا يقتصر العقد على إلزام المتعاقد بما ورد فيه ، ولكن يلزمه أيضاً بما تقتضيه طبيعة الالتزام ، وفقاً للعدالة والعرف والقانون " . وفي لجنة المراجعة عدلت العبارة الأخيرة من النص على النحو الآتي : " وفقاً للقانون والعرف والعدالة " ، وأصبح رقم المادة 152 فقرة 2 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على النص كما هو في المشروع النهائي . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ اعترض على النص بأنه يعطي للقاضي سلطة خطرة إذ يمكنه أن يزيد في التزامات المتعاقدين وفي ذلك إهدار لقاعدة أن العقد شريعة المتعاقدين ، ولما كانت المادة 154 تتكلم عن تفسير العقود فيمكن الاستغناء بها عن المادة 152 لأن الالتزام بالعرف والعادة ونية الطرفين يكون في تفسير العقود وليس في تنفيذها . وبعد مناقشة استعيض عن عبارة " ولكن يلزمه أيضاً بما تقتضيه طبيعة الالتزام " بعبارة " ولكن يتناول أيضاً ما هو من مستلزماته " وأضيفت عبارة " بحسب طبيعة الالتزام " في آخر الفقرة ، وقالت اللجنة في تقريرها إن التعديل يجعل الحكم أوضح دون أن يمس جوهره . وأصبح رقم المادة 148 فقرة 2 . ووافق مجلس الشيوخ على النص كما أقرته لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 287 – ص 290 ) .
( [727] ) التمييز بين تفسير العقد وتحديد نطاقه وتنفيذه يعين على رفع اللبس في مسائل تبقى مضطربة دون هذا التمييز . ففي تفسير العقد تعني بالبحث عن النية المشتركة للمتعاقدين . في تحديد نطاق العقد نضيف إلى هذه النية المشتركة ما لم تتناوله في الواقع ولكنه يعتبر من مسلتزماته . وفي تنفيذ العقد نجعل هذه النية المشتركة بعد أن نضيف إليها مسلتزماتها هي شريعة المتعاقدين فلا يجوز نقض العقد ولا تعديله إلا باتفاق الطرفني أو للأسباب التي يقررها القانون ويجب تنفيذه طبقاً لما أشتمل عليه وبطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية . ونرى هذا التمييز واضحاً في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ، وإن ذهبت هذه المذكرة إلى أنه يبدأ بتحديد نطاق العقد ثم يعرض بعد ذلك أمر التفسير ، على أن هذا الترتيب العكسي لم يخلط ما بين المسألتين بل أبقى كل منهما في الحدود المرسومة لها . وهذا ما ورد في المذكرة الإيضاحية في هذا الشأن : " ومما هو جدير بالذكر أن الفقرة الثانية من المادة 214 ( م 148 جديد ) تنص على طبيعة الالتزام في معرض تحديد مضمون العقد ، وتنص . . . على العرف الجاري في شرف التعامل بصدد كيفية تنفيذه . والواقع أن التفرقة من هذا الوجه بين تحديد مضمون العقد وتفسيره وكيفية تنفيذه جد دقيقة . ذلك أنه يبدأ بتحديد مضمون العقد ، وقد يستتبع ذلك استكمال ما لم يصرح به فيه . ثم يعرض أمر تفسير هذا المضمون وهو يقتصر على شقة الثابت بالعبارة دون ما يستكمل منه من طريق الدلالة . فإذا تم للمتعاقدين تحديد مضمون العقد وتفسيره عمدا إلى تنفيذه وفقاً لما يفرضه حسن النية وما يقتضي العرف في شرف التعامل ( أنظر م 221 من التقنين اللبنانين ) . وإذا كان التفريق بين هذه المرالح الثلاث ميسوراً من الناحية المنطقة البحتة ، فمن البين إنها تختلط في الواقع ببعضها ، ويتجلى ذلك بوجه خاص فيما يتعلق بتحديد مضمون العقد وتفسيره " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 297 ) .
( [728] ) وقد رأينا أن نص المشروعين التمهيدي والنهائي واضح في أن طبيعة الالتزام تتحدد وفقاً للقانون والعرف والعدالة . وغمض هذا المعنى بعد التعديل الذي أدخلته لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، على أن اللجنة تقول في تقريرها إنها قصدت من التعديل أن تجعل الحكم أوضح دون أن تمس جوهرة . وليس ثمة كبير أهمية لهذه التحويرات ، فطبيعة الإلتزام والقانون والعرف والعدالة كلها عوامل تساهم في تحديد نطاق العقد . وعلى هذا الوجه جرينا في شرح النص .
( [729] ) أنظر الدكتور حلمي بهجت بدعوى بك فقرة 284 ص 400 – ويقول الاساتذة بلانيول وريبير وبلاونيجه وسيطهم إن القضاء الفرنسي يضيف إلى نطاق العقد التزامات ثلاثة يستخلصها من طبيعة العقد . الالتزام الأول هو العمل بحسن نية ( agir de conne foi ) ، وظاهر أن هذا الالتزام يتصل بتنفيذ العقد لا بتحديد نطاقه . والالتزام الثاني هو التزام الضمان ( oblig garantie ) ، وقد نظم القانون التزام الضمان هذا في بعض العقود كالبيع والاجيار ، ولكنه التزام قائم في كل العقود التي تقتضي طبيعتها ذلك . والالتزام الثالث هو ضمان السلامة ( oblige ce securite ) ، وهو التزام تقتضيه طبيعة بعض العقود ، فعقد العمل يقتضي أن يضمن رب العمل سلامة العمال ، وعقد نقل الأشخاص يقتضي أن يضمن أمين النقل سلامة الأشخاص الذين ينقلهم من مكان إلى مكان ( بلانيول وريبير وبلاونجيه سنة 1949 جزء 2 فقرة 455 – 459 وفقرة 958 – 963 ) .
( [730] ) وهذه غير الحالة المنصوص عليها في المادة 95 ، والتي مر ذكرها ، وهي حالة ما إذا اتفق الطرفان على جميع المسائل الجوهرية في العقد واحتفظا بمسائل تفصيلية يتفقان عليها فيما بعد ، ولم يشترطا أن العقد لا يتم عند عدم الاتفاق عليها ، فإن المحكمة تقضي فيها طبقاً لطبيعة المعاملة ولأحكام القانون والعرف والعدالة . والفرق بين الحالتين أن المتعاقدين ف يالحالة التي نحن بصددها اغفلا بعض التفصيلات لأنهما لم يتوقعاها أو توقعها ولكن تركا تنظيمها لأحكام القانون . أما في الحالة المنصوص عليها في المادة 95 فإن التفصيلات التي تركها المتعاقدان دون تنظيم هي تفصيلات توقعاها وأرادا أن ينظماها باتفاقهما ، ولكنهما لم يستطيعا الوصول إلى هذا الاتفاق . والقاضي في هذه الحالة الأخيرة لا يفسر نية المتعاقدين ولا يكمل نطاق العقد ، وإنما يحل محل المتعاقدين في صنع العقد .
( [731] ) استئناف مختلط في 6 يونية سنة 1944 م 56 ص 182 .
( [732] ) وإلى هذا الرأي ذهبت محكمة النقض عندما قضت بان الخطأ في تطبيق نصوص العقد خطأ في تطبيق القانون يخضع لرقابة محكمة النقض . نفى دعوى المقاول الذي لم يدلع للمدعى عليه ( وزارة الحربية ) غير التأمين المؤقت ، وعندما أعلن بقبول عطائه وكلف بإيداع التأمين النهائي امتنع ولم يحرر عقد التوريد وطلب اعفاءه من التعهد ، فألغى المدعى عليه عطاءه وانصرف إلى غيره في استيراد المطلوب له – في هذه الدعوى إذا طبقت المحكمة بعض شروط العقد دون بعضها الذي كان يجب تطبيقه ، فلمحكمة النقض أن تنقض الحكم وتفصل في الدعوى على أساس الشروط الواجبة التطبيق . ولا يرد على ذلك بأن تطبيق بعض شروط عقد المناقصة وعدم تطبيق بعضها الآخر على الدعوى هو مما يدخل في ولاية قاضي الموضوع دون رقابة عليه فيما يرتئيه من تفسير هذه الشروط ، لأن تطبيق نص من نصوصن العقد دون نص آخر أولى منه هو اجتهاد يخضع فيه القاضي لرقابة محكمة النقض ( نقض مدني في 16 ديسمبر سنة 1937 مجموعة عمر 2 رقم 79 ص 223 ) – وقضت محكمة النقض أيضاً بأن تفسير بند في العقد تفسيراً صحيحاً مع ترك البنود الأخرى يوجب نقض الحكم ( نقض مدني في 23 مارس سنة 1939 مجموعة عمر 2 رقم 173 ص 532 ) . أنظر أيضاً في هذا المعنى " النقض في المواد المدنية والتجارية " لحامد فهمي باشا والدكتور محمد حامد فهمي بك ص 296 – ص 299 ( والتمييز غير واضح في هذا المرجع بين تفسير العقد وتحديد نطاقه ) .
( [733] ) وإلا فإن القانون أورد استثناءات أخرى كثيرة تفرقت في أماكن مختلفة كما سنرى .
( [734] ) أنظر آنفاً فقرة 118 وما بعدها .
( [735] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في الفقرة الأولى من المادة 213 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " العقد شريعة المتعاقدين ما دام قد انعقد صحيحاً ، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين أو للأسباب التي يقررها القانون " . وأقرته لجنة المراجعة بعد حذف عبارة " مادام قد انعقد صحيحاً " لعدم الحاجة إليها ، وأصبح رقم النص الفقرة الأولى من المادة 151 من المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب ، ثم لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم 147 فقرة أولى ، ثم مجلس الشيوخ ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 278 – ص 286 ) .
( [736] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في الفقرة الأولى من المادة 214 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " يجب تنفيذ العقد طبقاً لما أشتمل عليه وبطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية وما تقتضيه نزاهة التعامل " ، وأصبح رقم النص المادة 152 فقرة أولى في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ قيل تعليقاً على النص إنه وإن كان العقد شريعة المتعاقدين فليس ثمة عقود تحكم فيها المباني لا المعاني كما كان الشأن في بعض العقود عند الرومان ، فحسن النية يظل العقود جميعاً سواء فيما يتعلق بتعيين مضمونها أم فيما يتعلق بكيفية تنفيذها . وحذفت اللجنة عبارة " وما قتضتيه نزاهة التعامل " ، وعللت هذا الحذف في تقريرها بأن " في عموم تعبير حسن النية ما يغني عنها " ، وأصبح رقم المادة 148 فقرة أولى . ووافق عليها مجلس الشيوخ ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 287 – ص 290 ) .
( [737] ) وإذا كان العقد شريعة المتعاقدين ، فليس هذا معناه أن نصوص العقد تأخذ حكم نصوص القانون على وجه مطلق . وقد عقد جوسران ( جزء 2 فقرة 247 – فقرة 248 ) مقارنة بين العقد والقانون . أما وجوه الشبه ففي أن كلا منهما ملزم ، وفي أن كلا منهما يجوز أن يخرج على قانون أو على عرف ، وفي أنه يجوز حل العقد كما يجوز إلغاء القانون بعين الطريقة التي صنع بها كل منهما ، وفي أن العقد يفسر كما يفسر القانون طبقاً لمقتضيات العدالة وحسن النية . ووجوه الخلاف هي أن العقد لا يجوز أن يخرج على قانون يعتبر من النظام العام أما القانون فيلغي قانوناً آخر مثله ولو كان معتبراً من النظام العام ، والعقد قد يحل فإرادة واحدة فيمكن إذن حله بطريقة غير التي صنع بها في أحوال استثنائية بخلاف القانون فلا يلغي إلا بالطريقة التي صنع بها ، وتفسير العقد مسألة موضوعية ( على تفصيل سبق بيانه ) لا رقابة لمحكمة النقض عليها أما تفسير القانون فمسالة قانونية تخضع لرقابة محكمة النقض .
( [738] ) وتقو المذكرة الإيضاحية في هذا الصدد ما يأتي : " العقد شريعة المتعاقدين ، ولكنه شريعة اتفاقية ، فهو يلزم عاقديه بما يرد الاتفاق عليه متى وقع صحيحاً . والأصل أنه لا يجوز لأحد طرفي التعاقد أن يستقل بنقضه أو تعديله " ، بل ولا يجوز ذلك للقاضي ، لأنه لا يتولى إنشاء العقود عن عاقديها وإنما يقتصر عمله على تفسير مضمونها بالرجوع إلى نية هؤلاء العاقدين . فلا يجوز إذن نقض العقد أو تعديله إلا بتراضي عاقديه – ويكون هذا التراضي بمثابة عقد جديد – أو لسبب من الأسباب المقررة في القانون كما هو الشأن في أسباب الرجوع في الهبة " مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 279 ، ص 280 ) .
( [739] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 288 .
( [740] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 290 .
( [741] ) وتقول المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ويستخلص مما تقدم أن العقد وإن كان شريعة المتعاقدين ، فليس ثمة عقود تحكم فيها المباني ون المعاني كما كان الشأن في بعض العقود عند الرومان ، فحسن النية يظل العقود جميعاً سواء فيما يتعلق بتعين مضمونها أم فيما يتعلق يكفية تنفيذها " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 288 ) – وتقول الاساتذة بلانيول وريبير وبولانجيه في وسيطهم ( جزء 2 فقرة 455 – فقرة 457 ) إن القاضي كما يمنع التدليس ( dol ) في تكوين العقد ، كذلك يمنع الغش ( fraude ) في تنفيذه . والتدليس والغش شيء واحد يتخذ اسمين مختلفين ، فهو تدليس عند تكوين العقد ، وهو غش عند تفيذه .
( [742] ) نقض فرنسي في 19 يناير سنة 1925 داللوز الأسبوعي 1925 ص 77 .
( [743] ) نقض فرنسي في 31 يناير سنة 1887 سيريه 87 – 1 – 420 .
( [744] ) الدكتور حلمي بهجت بدوي بك ص 391 – ص 399 . وقد أورد تطبيقات كثيرة لفكرة التعاون .
( [745] ) بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 455 – فقرة 457 .
( [746] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في الفقرة الثانية من المادة 213 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائية لا يمكن توقعها ، وترتب على حوادثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي ، وإن لم يصبح مستحيلا ، صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة ، جاز للقاضي ، بعد الموازنة بين مصلحة الطرفين ، أن ينقص الالتزام المرهق إلى الحد المعقول ، إن اقتضت العدالة ذلك " . وأضافت لجنة المراجعة كلمة " عامة " بعد عبارة " حوادث استثنائية " ، والمراد بإضافة هذا الوصف أن الحوادث الاستثنائية ينبغي إلا تكون خاصة بالمدين ، بل يجب أن تكون عامة شاملة لطائفة من الناس كفيضان عال غير منتظر يكون قد اغرق مساحة واسعة من الأرض أو غارة غير منتظرة للجراد أو انتشار وباء . وحذفت اللجنة العبارة الأخيرة من المادة وهي " أن اقتضت العدالة ذلك " على أن يحل محلها عبارة " ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك " . وأصبح رقم المادة 151 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة كما وردت ف يالمشروع النهائي . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ قيل في إيضاح النص الحواثد الاستثنائية العامة تتصرف إلى ما كان عاماً من هذه الحوادث كالفيضان والجراد ، ولا تتصرف إلى الحوادث الفردية – كحريق المحصول مثلا – ولا يعد انتشار الدودة حادثاً استثنائياً عاما لأنه خطر متوقع . وقيل أيضاً إن أساس النظرية هو تضحية من الجانبين وليس اخلاء أيهما من التزامه ، بل يتحمل كل منهما شيئاً من الخسارة لا أن يتحملها أحدهما بإبطال العقد . وذكر أن المشروع قنع في تحديد الحادث غير المتوقع بوضع ضابط للتوجيه دون أن يورد أمثلة تطبيقية فقهية الصيغة وبذكل غاير القانون البولوني الذي اخذ عنه نص المادة لأن هذا التقنين قد أخطأ التوفيق في هذا الصدد غذ جمع بين الحرب والوباء وبين هلاك المحصول بأسره في بعض ما ساق من تطبيقات فخلط بذلك بين العلة والمعلول . وقيل كذلك إن استعمال القاضي للرخصة في إنقاص الالتزام المرهق خاضع لمراقبة محكمة النقض من حيث توافر الشروط التي تبيح استعمال هذه الرخصة . ولما اعترض على عبارة " ينقص الالتزام المرهق " لأن القاضي قد يرى زيادة الالتزام المقابل لا إنقاص الالتزام المرهق كان الرد أن الإنقاص غير مقصود به الإنقاص المادي وإنما قصد به التعديل وينسب دائماً إلى عبء الالتزام ، فاستعاضت اللجنة عن عبارة " ينقص الالتزام المرهق إلى الحد المعقول " بعبارة " يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول " . ثم قام اعتراض على النص في ذاته بدعوى أنه يخرج القاضي عن وظيفته ، إذ أن وظيفته هي تفسير إرادة المتعاقدين لا تعديل هذه الإرادة ، وبدعوى أن النص يثير مشاكل ومنازعات تهدد المعاملات لأن أقل حادث سياسي قد يترتب عليه تارة رفع الأسعار وأخرى انهيارها ، فأجيب على هذه الاعتراضات بأن القاضي يحكم طبقاً لقواعد العدالة عندما لا يجد نصاً في العقد وهو في هذا يعمل في حدود وظيفته . وبعد مناقشة لم تر اللجنة الأخذ بهذه الاعتراضات ، وأقرت النص تحت رقم المادة 147 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 278 – ص 286 .
( [747] ) فلو أن الالتزام نشأ في ذمة المدين مرهقاً فادحاً منذ تكوين العقد ، كمن يتعهد بحفر بئر تبلغ تكاليف حفرها أضعاف ما قدره ( دي باج فقرة 574 ص 491 ) ، لبقينا في دائرة تكوين العقد ولم تخرج إلى مرحلة تنفيذه ، ولكان علينا أن نلتمس العلاج في عيوب الرضاء من غلط أو تدليس أو نحو ذلك .
( [748] ) وفي هذا تقول المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي : " فيلاحظ أولاً أن نظرية الطوارئ غير المتوقعة ليست على وجه الاجمال إلا بسطة في نطاق نظرية الاستغلال . فالغبن عاصر انعقاد العقد ( وهو الاستغلال ) أو كان لاحقا له ( وهي حالة الحادث غير المتوقع ) لا يعدم أثره فيما يكون للتعاقد من قوة الإلزام . فقد يكون سبباً في بطلانه أو في انتقاصه على الأقل " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 281 ) .
( [749] ) وتعين نظرية الظروف الطارئة على التوازن ما بين التنفيذ العين للعقد وتنفيذه من طريق التعويض . ففي تنفيذ العقد من طريق التعويض لا يلتزم المدين إلا بتعويض الضرر الذي كان يمن توقعه عادة وقت التعاقد . وها نحن ، بفضل نظرية الظروف الطارئة ، تقرر ما يقرب من ذلك في التنليذ العيني ، فلا يلتزم المدين بتنفيذ التزامه التعاقدي تنفيذا عينياً إلا بالقدر الذي كان يمكن توقعه عادة وقت التعاقد ، وما زاد على هذا القدر المتوقع فلا يتحمل تبعته كاملة . وتقول المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا المعنى ما يأتي : " ويلاحظ من ناحية أخرى أن نظرية الطوارئ غير المتوقعة تقيم ضربا من ضروب التوازن بين تنفيذ الالتزام التعاقدي تنفيذا عينيا وتنفيذه من طريق التعويض . إذ تقضي الفقرة الثانية من المادة 299 ( من المشروع التمهيدي وتقابل الفقرة الثانية من المادة 221 من القانون الجديد ) بأن المدين لا يلتزم إلا بتعويض الضرر الذي كان يمكن نوقعه عادة وقت التعاقد . ويجوز بفضل هذه النظرية أن يقتصر التنفيذ العيني إلى حد بعيد عما كان في الوسع أن يتوقع عقلا وقت انعقاد العقد " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 282 ) .
هذا وتختلف نظرية الظروف الطارئة ومعها نظرية الإذعان عن نظريةق الاستغلال في أن نظرية الاستغلال ذات معيار شخصي : استغلال هوى جامح أو طيش بين . أما نظريتا الحوادث الطارئة والإذعان فلهما معيار مادي : حادث طارئ عام واحتكار لسلعة أو مرفق .
( [750] ) أم في القانون الروماني فلا نسمع لها صدى إلا في اقوال الفلاسفة من امثال شيشرون ( cicerone ) وسينيك ( seneque ) .
( [751] ) البدائع 4 ص 197 – والعذر إما أن يرجع للعين المؤجرة كمن استأجر حماماً في قرية مدة معلومة ، فنفر الناس ووقع الجلاء ، فلا يجب الأجر ( الفتاوى الهندية 4 ص 463 ) . وإما أن يرجع للمؤجر ، كأن يلحقه دين فادح لا يجد قضاءه إلا من ثمن العين المؤجرة ، فيجعل الدين عذراً في فسخ الإجارة ، وكذلك لو اشترى شيئاً فآجره ثم الطع على عيب به له أن يفسخ الإجارة ويرده بالعيب ( البدائع 4 ص 198 – ص 199 – الفتاوى الهندية 4 ص 459 – ص 463 ) . وإما أن يرجع العذر للمستأجر ، نحو أن يفلس فيقوم من السوق ، أو يريد سفرا ، أو ينتقل من الحرفة إلى الزراعة ، أو من الزراعة إلى التجارة ، أو ينتقل من حرفة إلى حرفة ( البدائع 4 ص 197 ) ، وكما إذا كانت الإجارة لغرض ولم يبق ذلك الغرض ، أو كان عند تمنعه من الجري على موجب العقد شرعاً ، تنتقض الإجارة عمن غير نقض ، كما لو استأجر انساناً لقطع يده عند وقوع الأكلة أو لقلع السن عند الوجع ، فبرأت الأكلة وزال الوجع ، تنتقض الإجارة ( لافتاوى الهندية 4 ص 458 – ابن عابدين 5 ص 76 ) .
ونظرية العذر في الفقه الإسلامي – كما نرى – واسعة . وقد وضع الفقهاء للعذر معياراص مرناً ، فقال ابن عابدين ( جزء 5 ص 76 ) : " والحاصل أن كل عذر لا يمكن معه استيفاء المعقود عليه إلا بضرر يلحقه في نفسه أو ماله يثبت له حق الفسخ " . فالنظرية تنتظم ما يعتبره القانون الحديث قوة قاهرة ، وما يعتبره حوادث طارئة ، وما يعتبره دون هذه وتلك . قارن أيضاً تصقيع الحكر ( عقد الإيجار للمؤلف فقرة 161 ص 209 ) .
( [752] ) ريبير في القاعدة الأدبية فقرة 84 وما بعدها – بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 396 .
( [753] ) قارن بلانيول وريبير وغسمان 1 فقرة 396 ص 554 .
( [754] ) بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 396 ص 555 .
( [755] ) بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 462 .
( [756] ) أنظر قانون فايو ( Faillot ) الصادر في فرنسا في 21 يناير سنة 1918 – وراجع في التشريع الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية مذكرات غير مطبوعة لقسم الدكتوراه للأستاذ موران ( Morin ) – وأنظر في اقتصار المشرع على التدخل عند الاقتضاء في حالات استثنائية الدكتور حلمي بهجت بدوي بك فقرة 329 – ص 415 – الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت بك فقرة 358 – فقرة 359 – وأنظر عكس ذلك في وجوب تدخل المشرع بنص عام يقرر النظرية في جملتها الدكتور حامد زكي ( باشا ) في رسالته في الحوادث الطائرة في القانون الانجليزي ص 375 ونظرية العقد للمؤلف ص 976 هامش رقم 1 .
( [757] ) نقض فرنسي في 6 مارس سنة 1876 سيريه 1876 – 1 – 961 – أنظر حكماً آخر في 8 أغسطس سنة 1900 سيريه 1903 – 1 – 46 .
( [758] ) نقض فرنسي في 9 يناير سنة 1856 سيريه 56 – 1 – 129 – أنظر أيضاً أحكاماً رفضت الأخذ بنظرية الظروف الطارئة : نقض فرنسي في 17 يونية سنة 1907 سيريه 1908 – 1 – 109 – وفي 6 يونية سنة 1921 سيريه 1921 – 1 – 193 .
( [759] ) استئناف مختلط في 13 ديسمبر سنة 1899 م 12 ص 39 – 29 مايو سنة 1912 م 24 ص 368 – 16 فبراير سنة 1916 م 38 ص 155 – 15 مارس سنة 1916 م 28 ص 414 – 7 يونية سنة 1916 م 28 ص 416 – 17 يناير سنة 1917 م 29 ص 1500 – 7 مايو سنة 1921 م 33 ص 308 – 8 مارس سنة 1922 م 34 ص 226 – 30 مارس سنة 1922 م 34 ص 279 – 6 يونية سنة 1922 م 34 ص 468 – 13 يونية سنة 1922 م 34 ص 481 – 29 ديسمبر سنة 1917 م 40 ص 112 – 26 نوفمبر سنة 1931 م 44 ص 35 – 6 ديسمبر سنة 1934 م 47 ص 53 – قارن استئناف مختلط في 9 ديسمبر سنة 1924 م 37 ص 51 – 4 مارس سنة 1925 ( مشار إليه في رسالة الدكتور حامد زكي ( باشا ) ص 140 – ص 141 ) .
( [760] ) 2 يونية سنة 1948 م 60 ص 133 .
( [761] ) استئناف مصر الوطنية في 9 ابريل سنة 1931 المحاماة 12 رقم 41 ص 63 – وانظر تعليقاً للدكتور حامد زكي ( باشا ) في مجلة القانون والاقتصاد السنة الثانية .
( [762] ) نقض مدني في 14 يناير سنة 1932 مجموعة عمر 1 رقم 32 ص 52 .
( [763] ) 15 يناير سنة 1942 المحاماة 22 رقم 238 ص 683 .
( [764] ) نقض مدني في 15 مايو سنة 1947 مجموعة عمر 5 رقم 200 ص 435 .
( [765] ) مجلس الدولة الفرنسي في 30 يونية سنة 1916 سيريه 1916 – 3 – 17 .
( [766] ) مجلس الدولة الفرنسي في 8 فبراير سنة 1918 سيريه 1924 – 3 – 2 - وفي 25 نوفمبر سنة 1921 سيريه 1923 – 3 – 33 – وفي 27 مارس سنة 1926 سيريه 1926 – 3 – 108 .
( [767] ) أنظر في هذه النظرية في القانون الانجليزي مقالا للأستاذ ليفي اولمان في حوليات القانون التجاري سنة 1921 ص 279 وسنة 1922 ص 41 – ورسالة الدكتور حامد زكي ( باشا ) في نظرية الحوادث الطارئة في القانون الانجليزي باريس سنة 1930 .
( [768] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وقد استحدث المشروع . . . حكما بالغ الأهمية ، إذ استثنى مبدأ الطوارئ غير المتوقعة من نطاق تطبيق القاعدة التي تحجر على القضاء تعديل العقود . وقد بادر القضاء الإداري في فرنسا إلى قبول هذا المبدأ هن ومضى في هذا السبيل قدماً مخالفاً في ذلك ما جرى عليه القضاء المدنين ولما طرح الأمر على محكمة النقض المصرية اختارت مذهب القضاء المدني في فرنسا ، فلم تر الأخذ بنظرية الطوارئ غير المتوقعة ، وألغت في هذه المناسبة حكما أصدرته محكمة الاستئناف على خلاف هذا الرأي . وقد احتذى المشروع مثال التقنين البولوني ( م 269 ) فيما أورد من أحكام تشريعية في هذا الشأن ، إلا أنه تقدم على هذا التقنين من ناحيتين : ( ا ) فيراعى من ناحية أن رسم في وضوح ما يفرق بين حالة الطوارئ غير المتوقعة وحالة القوة القاهرة من حدود . ففي الحالة الأولى يصبح تنفيذ الالتزام التعاقدي على حد تعبير المشروع مرهقاً يجاوز حدود السعة دون أن يكون مستحيلا ، ومؤدى ذلك أن الحالة الثانية هي التي تتحقق فيها هذه الاستحالة . ( ب ) ويراعى من ناحية أخرى أنه قنع في تحديد الحادث غير المتوقع بوضع ضابط للتوجيه ، دون أن يورد أمثلة تطبيقية فقهية الصبغة ، إذ جمع بين الحرب والوباء ، وبين هلاك المحصول بأسره ، في بعض ما ساق من ؟؟؟ فنخلط بذلك بين العلة والمعلول " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 280 ) .
( [769] ) أنظر الدكتور عبد الحي حجازي في عقد المده ص 163 – ص 166 – بلانيول وريبري وإسمان 1 فقرة 397 ص 555 – هذا ويجب استبعاد العقود الاحتمالية وعقود المضاربة في البورصة لأنها بطبيعتها تعوض أحد المتعاقدين لخسارة جسيمة أو لمكسب كبير ( بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 397 ص 556 ) .
( [770] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 282 .
( [771] ) أنظر ما دار من المناقشة في هذا الصدد في لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، وقد قلناه في تاريخ نص الفقرة الثانية من المادة 147 ( أنظر آنفاً فقرة 414 في الهامش وأنظر مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 2 ص 283 – ص 284 ) .
( [772] ) ومن ثم قضت المادة 134 من القانون الجديد بأنه إذا كان محل الالتزام نقوداً ، التزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد ، دون أن يكون لارتفاع قيمة النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي أثر .
( [773] ) أنظر ما دار من المناقشة في هذا الصدد في لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، وقد نلقناه في تاريخ نص الفقرة الثانية من المادة 147 ، وقد قيل في هذه اللجنة وفي لجنة المراجعة إن انتشار الدودة لا يعد حادثا استثنائياً عاماً لأنه خطر متوقع ، أما الفيضان العالي غير المنتظر أو غارة الجراد غير المنتظرة أو انتشار الوباء فهذه حوادث ليس في الوسع توقعها ( أنظر انفا فقرة 414 في الهامش – وانظر مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 282 – ص 284 ) .
( [774] ) ولكن إذا كان العقد ملزماً للجانبين ، فالمدين الذي انقضى التزامه لاستحالة تنفيذه بقوة قاصرة يتحمل التبعة في صورة أخرى ، فهو إذا لم يتحمل تبعة عدم تنفيذ التزامه ، إلا أن العقد ينفسخ ، فيسقط الالتزام المقابل الذي كان فيه هذا المدين دائناً ، فيتحمل المدين التبعة من هذه الجهة . وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام في الفسخ .
( [775] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ولما كانت نظرية الطوارئ غير المتوقعة نظرية حديثة النشأة ، أسفر التطور عن إقامتها إلى جانب النظرية التقليدية للقوة القاهرة دون أن تكون صورة منها ، فمن الأهمية بمكان أن نستبين وجوه التفرقة بين النظريتين . فالطارئ غير المتوقع تنتظمه مع القوة القاهرة فكرة المفاجأة والحتم . ولكنه يفترق عنها في أثره في تنفيذ الالتزام . فهو لا يجعل هذا التنفيذ مستحيلا ، بل يجعله مرهقاً يجاوز السعة دون أن يبلغ به حد الاستحالة . ويستتبع ذلك قيام فارق آخر يتصل بالجزاء . فالقوة القاهرة تفضي إلى انقضاء الالتزام ، وعلى هذا النحو يتحمل الدائن تبعتها كاملة . أما الطارئ غير المتوقع فلا يترتب عليه إلا انقضاء الالتزام إلى الحد المعقول ، وبذلك يتقاسم الدائن والمدين تبعثه " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 281 ) .
( [776] ) أنظر في هذا المعنى بلانيول وريبير وغسمان 1 فقرة 397 ص 556 .
( [777] ) هذه هي العبارة الأخيرة من الفقرة الثانية من المادة 147 من القانون المدني الجديد .
( [778] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 284 – ص 286 – أنظر أيضاً انفا فقرة 414 ( في الهامش ) .
( [779] ) بلانيول وريبير وغسمان 1 فقرة 396 .
( [780] ) قارب من ذلك نظرة الميسرة المنصوص عليها في المادة 346 فقرة ثانية .
( [781] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 285 .
( [782] ) بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 396 ص 558 .
( [783] ) وقد قيل في لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ " إن أساس النظرية هو تضحية من الجانبين ، وليس إخلاء أيهما من التزامه ، بل يتحمل كل منهما شيئاً من الخسارة ، لا أن يتحملها أحدهما بإبطال العقد " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 284 – وانظر آنفاً فقرة 414 في الهامش ) .
( [784] ) والجزاء الذي جعله القانون المصري الجديد لنظرية الظروف الطارئة – وهو رد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول – هو كما نراه جزاء مرن ييسر على القاضي أن يعالج كل حالة بحسب ظروفها الخاصة مع الموازنة بين مصلحة الطرفين . ولم يجعل القانون معيار النظرية ذاتياً ، بل جعله معياراً موضوعياً يحد من تحكم القاضي . وفي هذا تقول المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي : " وإذا كانت نظرية الطوارئ غير المتوقعة تستجيب لحالة ملحة تقتضيها العدالة ، فهي تستهدف للنقد باعتبارها مدخلا لتحكم القاضي . بيد أن المشروع قد جهد في أن يكفل لها نصيباً من الاستقرار ، فأضفى عليها صبغة مادية يتجلى أثرها في تحديد الطارئ غير المتوقع وفي إعمال الجزاء الذي يترتب على قيامه . فلم يترك أمر هذا الطارئ للقضاء يقدره تقديراً ذاتياً أو شخصياً ، كما فعل القانون البولوني في نصه على إثبات خيار المحكمة في هذا الصدد إذا رأت ضرورة لذلك ، بل اتخذ المشروع من عبارة " إن اقتضت العدالة ذلك " ، ( وقد استبدل بها في لجنة المراجعة عبارة " تبعاً للظروف " ، وهي لا تقل في الموضوعية ) بديلا من هذا النص . وهي عبارة تحمل في ثناياها معنى الإشارة إلى توجيه موضوعي النزعة . وفضلا عن ذلك فإذا تثبت القاضي من قيام الطارئ غير المتوقع ، وعمد إلى إعمال الجزاء بإنقاص الالتزام الذي أصبح يجاوز السعة ، فهو ينقص منه إلى " الحد المعقول " ، وهذا قيد آخر مادي الصبغة لا نظير له في التقنين البولوني " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 280 – ص 281 ) .
( [785] ) وقد اقترحت هذه الإضافة في لجنة المارجعة ، وروعى في اثباتها أن الجزاء فد يغدو صورياً لا قيمة له إذا سمح للمتعاقدين أن يتفقا مقدما على ما يخالفه ، فيستطيع المتعاقد القوي أن يملي شرط المخالفة دائماً على المتعاقد الضعيف ، وهذا ضرب من الاذعان تفاداه القانون الجديد بهذا النص ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 282 ) . وإذا كان القانون الجديد قد أباح الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة القوة القاهرة ( م 217 فقرة أولى ) ولم يبح الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة الحادث الطارئ وهو أقل خطراً من القوة القاهرة ، فذلك لأن الاتفاق على تحمل المدين لتبعة القوة القاهرة إنما هو ضرب من التأمين لا يقدم المدين عليه مضطراً ، أما الاتفاق على تحمل المدين لتبعة الحادث الطارئ فمغامرة قد تهون حالة الاضطرار الإقدام عليها .
هذا ويجوز للمدين المرهق ، بعد وقوع الحادث الطارئ ، أن يتفق مع دائنه على ما يخالف هذا الجزاء ، إذ الاتفاق عندئذ لا يحاط بشبهة الضغط على المدين . فيجوز للمدين إذن أن ينزل من حقه في التمسك بالحادث الطارئ ، وأن يتعهد بوفاء التزامه كاملا بغير منقوص .
( [786] ) وفي هذا تقول المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي : " ويراعى أخيراً أن تطبيق نظرية الطوارئ غير المتوقعة ونظرية الاستغلال يخرج بالقاضي من حدود المألوف في رسالته ، فهو لا يقتصر على تفسير التعاقد ، بل يجاوز ذلك إلى تعديله " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 282 ) .
( [787] ) تنص المادة 346 فقرة 2 من القانون الجديد على أنه " يجوز للقاضي ف يحالات استثنائية ، إذا لم يمنع نص في القانون ، أن ينظر المدين إلى أجل معقول أو آجال ينفذ فيها التزامه ، إذا استدعت حالته ذلك ولم يلحق الدائن من هذا التأجيل ضرر جسيم " . وهذا النص قد يكون في بعض صوره تطبيقاً لنظرية الحوادث الطارئة إذا وقف القاضي تنفيذ العقد لحادث طارئ ، وقد مرت الإشارة إلى ذلك .
( [788] ) تنص المادة 709 فقرة 2 من القانون الجديد على أنه " إذا انفق على أجر للوكالة ، كان هذا الأجر خاضعاً لتقدير القاضي " . وهنا أيضاً قد يكون هذا النص في بعض صوره تطبيقاً لنظرية الحوادث الطارئة إذا جد بعد إبرام الوكالة حادث طارئ يبرر تخفيض أجر الوكيل أو زيادته .
( [789] ) تنص المادة 608 من القانون الجديد على أنه " إذا كان الإيجار معين المدة ، جاز لكل من المتعاقدين أن يطلب إنهاء العقد قبل انقضاء مدته إذا جدت ظروف خطيرة غير متوقعة من شأنها أن تجعل تنفيذ الإيجار من مبدأ الأمر أو في أثناء سريانه مرهقاً ، على أن يراعى من يطلب إنهاء العقد مواعيد التنبيه بالإخلاء المبينة بالمادة 563 ، وعلى أن يعوض الطرف الآخر تعويضاً عادلا " . وتنص المادة 609 على أنه " يجوز للموظف أو المستخدم إذا اقتضى عمله أن يغير محل إقامته أن يطلب إنهاء إيجار مسكنه إذا كان هذا الإيجار معين المدة ، على أن يراعى المواعيد المبينة في المادة 563 ، ويقع باطلا كل اتفاق على غير ذلك " . وتنص المادة 601 على أنه " إذا مات المستأجر جاز لورثته أن يطلبوا إنهاء العقد إذا اثبتوا أنه بسبب مورثهم أصبحت اعباء العقد اثقل من أن تتحملها مواردهم ، أو أصبح الإيجار مجاوزاً حدود حاجتهم . وفي هذه الحالة يجب أن تراعى مواعيد التنبيه بالإخلاء المبينة في المادة 563 وأن يكون طلب إنهاء العقد في مدة ستة أشهر على الأكثر من موت المستأجر " . أنظر أيضاً م 616 فقرة 2 في إيجار الأراضي الزراعية – ويلاحظ أن الحوادث الطارئة في هذه الحالات جميعها هي حوادث شخصية لا عامة .
( [790] ) تنص المادة 658 فقرة 4 من القانون الجديد على أنه " إذا انهار التوازن الاقتصادي بين التزامات كل من رب العمل والمقاول بسبب حوادث استثنائية عامة لم تكن في الحسبان وقت التعاقد ، وتداعى بذلك الأساس الذي قام عليه التقدير المالي لعقد المقاولة ، جاز للقاضي أن يحكم بزيادة الأجر أو بفسخ العقد " – ويلاحظ هنا أن الحادث الطارئ هو حادث استثنائي عام ، كما تقضي بذلك نظرية الحوادث الطارئة ، ولكن النص أجاز للقاضي فسخ العقد على خلاف ما تقضي به هذه النظرية .
( [791] ) تنص المادة 1023 فقرة 2 من القانون الجديد على أنه " إذا كان الموضع الذي عين أصلاً ( لاستعمال حق الارتفاق ) قد أصبح من شأنه أن يزيد في عبء الارتفاق ، أو أصبح الارتفاق مانعاً من إحداث تحسينات في العقار المرتفق به ، فلمالك هذا العقار أن يطلب نقل الارتفاق إلى موضع آخر من العقار ، أو إلى عقار آخر مملكه هو أو يملكه أجنبي إذا قبل الأجنبي لذلك . كل هذا متى كان استعمال الارتفاق في وضعه الجديد ميسوراً لمالك العقار المرتفق بالقدر الذي كان ميسوراً به في وضعه السابق " . وتصن المادة 1029 على أن " لمالك العقار المرتفق به أن يتحرر من الارتفاق كله أو بعضه إذا فقد الارتفاق كل منفعة للعقار المرتفق أو لم تبق له غير فائدة محدودة لا تتناسب ألبتة مع الأعباء الواقعة على العقار المرتفق به " . أنظر أيضاً المادتين 1024 و 1025 – وهنا الحادث الطارئ هو حادث شخصي لا حادث عام .
( [792] ) والأصل أن العقد يحكمه القانون الذي أنعقد في ظله ، سواء من حيث تكوينه أو من حيث آثاره أو من حيث إنقضاؤه ، حتى أنه لو تكون العقد في ظل قانون معين ، ثم أنتج أثره أو أنقضى في ظل قانون آخر ، فقانون العقد هو القانون الأول ، ويستبعد القانون الجديد في تطبيقه الرجعي ( retroactif ) وفي تطبيقه الفوري ( immediat ) على السواء ( أنظر روبييه ( Roubier ) في تنازع القوانين من حيث الزمان 1 ص 565 – وأنظر في سريان التشريع الجديد على العقود الزمنية أو عقود المدة رسالة الدكتور عبد الحي حجازي في عقد المدة ص 143 – ص 147 ) .
( [793] ) القاعدة أنه إذا كان القانون الجديد معتبراً من النظام العام ، طبق بأثر فوري – لا بأثر رجعي – على الحوادث التي تستجد من وقت سريان هذا القانون . مثل ذلك أن يعدل قانون جديد من السعر الاتفاقي للفائدة ، فيسري السعر الجديد حتى على العقود التي أبرمت قبل سريان القانون الجديد ، ولكن بالنسبة إلى الفوائد التي تستحق منذ سريان هذا القانون . أما الفوائد التي استحقت قبل ذلك ، فلا يسري عليها القانون الجديد بأثر رجعي ( أنظر في هذا المعنى المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد تخفيض السعر الاتفاقي من 8% إلى 7% : مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 584 – وأنظر عكس ذلك محكمة النقض الفرنسية في ) ديسمبر سنة 1942 جازيت دي باليه في 2 مارس سنة 1943 وقد أشير إلى هذا الحكم في رسالة الدكتور عبد الحي حجازي ص 147 ) .
( [794] ) بعض المراجع : مازو في المسئولية المدنية التقصيرية والعقدية - سافاتبيه في المسئولية المدنية – بنكاز ( ملحق بودري ) جزء 2 – ديموج في الالتزامات جزء 6 – بالنيول وريبير وإسمان جزء 1 – بنواييه مذكرات لقسم الدكتوراه - هنرى مازو مذكرات لقسم الدكتوراه – جرانمولان رسالة من رن سنة 1892 – مينييه ( Meynie ) رسالة من ليل سنة 1924 – فإن رين ( Van ryn ) رسالة من بروكسل سنة 1933 – ماري مادلين ديفور ( Marie - mad . dufort ) رسالة من باريس سنة 1937 – رينولت ( Renault ) رسالة من باريس سنة 1938 – أميو ( Amiot ) رسالة من باريس غير مطبوعة سنة 1945 – رابيت ( Rabut ) رسالة من باريس غير مطبوعة سنة 1946 – ليفبفر ( Lefebvre ) مقال في المجلة الانتقادية سنة 1886 – إميل بيكيه ( Emile becque ) مقال في مجلة القانون المدني الفصلية سنة 1914 ص 251 – ص 320 – كروزيل ( Crouzel ) مقال في المجلة العامة سنة 1926 ص 11 وص 65 – هنري مازو مقال في مجلة القانون المدني الفصلية سنة 1929 ص 551 - إسمان مقال في مجلة القانون المدني الفصلية سنة 1933 ص 627 و ما بعدها – فيني ( vigny ) مقال في مجلة القانون المدني الفصلية سنة 1935 ص 42 وما بعدها – بيندكس ( Beindix ) مقال في المجلة الانتقادية سنة 1939 ص 657 – جاردينا ( Gardenat ) تعليق في الأسبوع القانوني ( Sem .jur ) 1939 - 1 – 102 – تونك ( Tune ) مقال في مجلة القانون المدني الفصلية سنة 1945 ص 235 وما بعدها – صليب سامي باشا مقال في المحاماة سنة 12 عدد ) – نصيف زكي بك مقال في المحاماة سنة 13 عدد 2 – نظرية العقد للمؤرلف فقرة 848 وما بعدها – الدكتور حلمي بهجت بدوي بك فقرة 286 وما بعدها – الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت بك فقرة 361 وما بعدها .
( [795] ) سنحدد بالتفصيل نطاق المسئولية العقدية عند مقابلتها بالمسئولية التقصيرية ( أنظر ما يلي فقرة 513 ) .
( [796] ) ويترتب على ذلك ألا قيام للمسئولية العقدية إذا كان محل الالتزام العقدي هو دفع مبلغ من النقود ، فالتنفيذ العيني هنا ممكن دائماً ، ولا محل للمسئولية العقدية ( بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 687 ) .
( [797] ) وننبه إلى أن كثيراً من أحكام المسئولية التقصيرية تسرى على المسئولية العقدية . ونستطيع أن نقرر بوجه عام أن كل ما سيقال في المسئولية التقصيرية ينطبق على المسئولية العقدية . إذا إلا تعارض مع القواعد الخاصة التي تقررها في المسئولية العقدية . فمن المسائل التي تتحد فيها أحكام هذين النوعين من المسئولية : علاقة السببية والسبب الأجنبي – السبب المنتج والسبب المباشر - دعوى المسئولية – تقدير الضرر – التأمين من المسئولية إلخ إلخ .
( [798] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 288 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 - في الالتزام بعمل إذا كان المطلوب من المدين هو أن يحافظ على الشيء ، أو أن يقوم بإدارته ، أو كان مطلوباً منه أن يتوخى الحيطة في تنفيذ التزامه ، فإن المدين يكون قد وفى بالالتزام إذا بذل في تنفيذه من العناية ما يبذله الشخص المعتاد ، حتى لو لم يتحقق الغرض المقصود – 2 - ومع ذلك يكون المدين قد وفى بالالتزام إذا هو بذل في تنفيذه من العناية ما يبذله في شؤونه الخاصة ، متى تبين من الظروف أن المتعاقدين قصدا ذلك . وفي كل حال يبقى المدين مسئولاً عما يأتيه من غش أو خطأ جسيم " . وفي لجنة المراجعة أضيفت العبارة الآتية في آخر الفقرة الأولى : " هذا ما لم ينص القانون أو الاتفاق على غير ذلك " ، وحذف صدر الفقرة التالية اكتفاء بهذه الإضافة ، وأدخلت بعض تحويرات لفظية ، فأصبح النص مطابقاً لما ورد في القانون الجديد ، وأصبح رقمه المادة 217 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب . ثم وافقت عليه لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، وأصبح رقمه 211 . ووافق عليه مجلس الشيوخ . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 531 – ص 534 ) .
وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ترد المادة 288 صور الالتزام بعمل إلى طائفتين جامعتين . تنتظم أولاهما ما يوجب على الملزم المحافظة على الشيء أو إدارته أو توخى الحيطة في تنفيذ ما التزم الوفاء به ، وبعبارة أخرى ما يتصل الإلزام فيه بسلوك الملزم وعنايته . أما الثانية فيدخل فهيا ما عدا ذلك من صور العمل ، كالالتزام بإصلاح آلة . وتقتصر المادة 288 على حكم الطائفة الأولى ، فتحدد مدى العناية التي يتعين على المدين أن يبذلها في تنفيذ الالتزام . والأصل في هذه العناية أن تكون مماثلة لما يبذل الشخص المعتاد ، فهي بهذه المثابة وسط بين المراتب ، يناط بالمألوف في عناية سواد الناس بشؤونهم الخاصة . وعلى هذا النحو يكون معيار التقدير معياراً عاماً مجرداً ، فليس يطلب من المدين إلا التزام درجة وسطى من العناية ، أياً كان مبلغ تشدده أو اعتداله أو تساهله في العناية بشؤون نفسه . على أن نية المتعاقدين قد تنصرف إلى العدو عن هذا المعيار العام المجرد إلى معيار خاص معين . ومن ذلك ما يقع في الوكالة والوديعة غير المأجورة . فغالباً ما يستخلص من الظروف أن العناية التي يقصد اقتضاؤها من الوكيل أو الوديع هي عناية كل منهما بشؤونه الخاصة ، دون ا ، تجاوز في ذلك درجة العناية الوسطى به وعلى نقيض ذلك يقصد في عارية الاستعمال عادة إلى إلزام المدين ببذل ما يبذل من العناية في شؤونه الخاصة ، على ألا يقصر في ذلك عن درجة العناية الوسطى . ومتى تقررت درجة العناية الواجب اقتضاؤها من المدين ، اعتبر كل تقصير في بذل هذه العناية ، مهما يكن طفيفاً ، خطأ يرتب مسئولية المدين . ومهما يكن من أمر فمن المسلم أن المدين يسأل على وجه الدوام عما يأتي من غش أو خطأ جسيم ، سواء أكان معيار العناية الواجبة معياراً عاماً مجرداً أم خاصاً معيناً " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 532 – ص 533 ) .
( [799] ) وهذا التمييز لا يقتصر على الالتزامات العقدية ، فالالتزام بعدم الإضرار بالغير ، وهو التزام قانوني ، التزام ببذل عناية . والالتزام بعدم الإثراء على حساب الغير ، وهو أيضاً التزام قانوني ، التزام بعناية .
( [800] ) أنظر مازو 1 فقرة 669 – 2 والحواشي والمراجع المشار إليها في هذه الفقرة . وعند مازو يكون خطأ عقدياً في الالتزام بغاية ألا ينفذ المدين التزامه عمداً أو بإهماله أو بفعله . فلا توجد منطقة بين الإهمال والسبب الأجنبي هي انعدام الخطأ ( absence de faute ) ، وما لم يوجد سبب أجنبي فالخطأ العقدي قائم ليغطي منطقة الإهمال ومنطقة انعدام الخطأ معاً . وما يقوله الأستاذان صحيح ، بل صحيح أيضاً أن الخطأ العقدي يكون قائماً حتى مع وجود السبب الأجنبي ، فالسبب الأجنبي لا ينفي الخطأ بل ينفي علاقة السببية كما هو معروف . ( أنظر الدكتور سليمان مرقص في الأسباب القانونية للإعفاء من المسئولية المدنية ص 93 – ص 96 ) – ويقول مازو إن معيار الخطأ العقدي في الالتزام بتحقيق غاية هو بعينه معيار الخطأ التقصيري ، فعدم تحقيق الغاية المتفق عليها يعد انحرافاً عن السلوك المألوف للرجل المعتاد ، وسنرى أن هذا هو أيضاً معيار الخطأ التقصيري ( مازو 1 فقرة 673 – 2 ) .
( [801] ) وقد سجلت محكمة استئناف الإسكندرية الوطنية هذا المذهب في حكم حديث لها جاء فيه ما يأتي : " إن الخطأ في المسئولية التعاقدية هو بذاته واقعة الإخلال التي يتكون منها وينحصر فيها عدم تنفيذ الالتزام ، وذلك طالما لم يثبت الملتزم قيام السبب الخارجي الذي يدعى به . وفي هذه الحالة يتبين أن تلك الواقعة وحدها هي كل ما يتعين على طالب التعويض إثباته ، وأنه متى قام بإثباتها فإنه يكون قد أثبت الخطأ الذي تبنى عليه مسئولية الملتزم . أما ما يتحقق به وجود الإخلال بالالتزام حتى يمكن القول بثبوته ، فإنه بالنسبة للالتزام بغاية – ومثله كما هو مقرر فقهاً الالتزام الضمني في عقد النقل بسلامة الراكب في أثنائه - ينحصر في مجرد فعل الإخلال ذاته أي عدم تنفيذ ما التزم به الملتزم ، دون نظر إلى ما قد يدعى بأنه قد بذله من جهد أو عناية أو احتياط لتحقيق الغاية التي تعهد بها ، لأن هاذ إنما يكون بالنسبة للالتزام بوسيلة حيث يقوم ثبوت الإخلال به على ما يبين من سلوك الملتزم ومطابقته لما يسلكه الرجل الحريص ( استئناف إسكندرية في 5 فبراير سنة 1950 المحاماة 30 رقم 276 ص 501 ) .
( [802] ) مازو 1 فقرة 694 والمراجع المشار إليها في هذه الفقرة .
( [803] ) مازو 1 فقرة 662 – 2 ص 619 - ص 620 .
( [804] ) التزام الطبيب بعلاج المريض ليس التزاماً بتحقيق غاية هي شفاء المريض ، بل هو التزام ببذل العناية الواجبة في علاج المريض وفقاً لأصول صنعة الطب .
( [805] ) أنظر مازو 1 فقرة 662 وما بعدها – بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 377 – الدكتور سليمان مرقص في الأسباب القانونية للإعفاء من المسئولية المدنية ص 89 – ص 97 – ومع ذلك قارن بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 699 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 851 – الدكتور حلمي بهجت بدوي فقرة 296 – فقرة 303 وفقرة 315 – فقرة 321 .
وأصحاب الرأي الآخر يذهبون إلى أن عبء الإثبات يقع على المدين ، سواء كان ذلك في نطاق التنفيذ العيني أو كان في نطاق المسئولية العقدية . فالدائن يثبت الالتزام . وعلى المدين بعد هذا أ ، يثبت أنه قد قام بتنفيذه . فإن عجز عن ذلك حكم عليه بالتنفيذ العيني أو بالتعويض غير أنه في الالتزام ببذل عناية ، إذا عجز المدين عن إثبات أنه قد قام بتنفيذ التزامه ، فالغالب أن التنفيذ العيني يصبح مستحيلاً ، ولا يبقى إلا الحكم بالتعويض . فالمدين في المسئولية العقدية هو الذي يقع عليه إذن عبء الإثبات . أما في المسئولية التقصيرية فالدائن هو الذي يقع عليه عبء إثبات الخطأ التقصيري . ويبرر ذلك أن الخطأ التقصيري هو إخلال بالتزام قانوني عام بالامتناع عن الإضرار بالغير ، ولما كان هذا الالتزام يترتب في ذمة الناس كافة ، فمن المعقول أ ، نفرض أنه مرعى منفذ حتى يثبت الدائن أ ، شخصاً بالذات لم ينفذه . أما الخطأ العقدي فهو إخلال بالتزام عقدي مترتب في ذمة مدين بالذات ، فعلى هذا المدين أن يثبت أنه قد قام بتنفيذ التزامه طبقاً للقواعد المقررة في الإثبات ، وإلا ألزم بالتنفيذ العيني أو بالتعويض .
ومهما يكن من أمر هذا الخلاف ، فإن أثره محدود من الناحية العملية . ففي العمل يبدأ الدائن بإثبات الالتزام . ثم هو لا يقف مكتوف اليد بعد ذلك ، ينتظر حتى يثبت المدين أنه نفذ الالتزام أو حتى يعجز عن هذا الإثبات ، بل هو يبادئ المدين مقدماً ما عنده من الأدلة على عدم تنفيذ الالتزام . والمدين من جهته لا ينتظر حتى يفرغ الدائن من تقديم ما عنده من الأدلة ، بل يتقدم بأدلته هو أيضاً ليثبت أنه قد قام بتنفيذ الالتزام . وهكذا يتقدم كل من الدائن والمدين بأدلته ، والقاضي يوازن ما بينها ، ويحكم لمن ترجح أدلته أدلة الآخر . فإن كان هو الدائن ، حكم له بالتنفيذ العيني أو بالتعويض بعد أن ثبت عنده أن المدين لم يقم بتنفيذ التزامه . وإن كان هو المدين ، رفض طلب الدائن بعد أن ثبت عنده أن المدين قد قام بتنفيذ الالتزام . ( قارن مازو 1 ص 645 – 653 ) .
( [806] ) القوانين المدنية : الكتاب الأول الباب الأول الفرع الثالث الفقرة الرابعة .
( [807] ) الالتزامات فقرة 142 .
( [808] ) أنظر مازو 1 فقرة 659 – فقرة 661 ، وأنظر في هامش فقرة 659 عرضاً للآراء المختلفة في محاولة التوفيق ما بين النصين – الدكتور سليمان مرقص في الأسباب القانونية للإعفاء من المسئولية المدنية ص 74 – ص 100 – وقارن نظرية العقد للمؤلف فقرة 851 .
( [809] ) أما القانون المصري القديم فلم يتضمن نصين يقابلان تماماً نصي القانون الفرنسي المتقدم ذكرهما ، وإن كان قد أورد في بعض نصوصه ما يفيد أن المدين لا يكون مسئولاً عن عدم تنفيذ التزامه إلا إذا كان عدم التنفيذ بخطأ منه ( أنظر المواد 119 / 177 و 177 – 178 / 240 – 241 ) . ولكن الفقه والقضاء في مصر ، في ظل القانون القديم ، كانا يفسران هذه النصوص بما تفسر به المادة 1147 من القانون المدني الفرنسي ، فكان عدم تنفيذ المدين لالتزامه في العقد يعد خطأ في جانبه ( أنظر الدكتور سليمان مرقص في الأسباب القانونية للإعفاء من المسئولية المدنية ص 107 – ص 112 ) .
( [810] ) أما القانون المصري القديم فلم يتضمن نصاً كنص المادة 1137 من القانون المدني الفرنسي ، ولكنه كان في العقود المختلفة يطلب تارة عناية الشخص بملكه ( مثلاً المادتان 376 / 461 في الإيجار والمادتان 482 / 590 في الوديعة ) ، ويطلب طوراً العناية التامة فيحاسب حتى على الخطأ اليسير ( مثلاً 468 – 469 / 569 - 571 في عارية الاستعمال ) ، فلم يكن واضحاً لا في إثبات نظرية تدرج الخطأ ولا في نفيها .
( [811] ) أنظر مثلاً المادة 521 في الشركة ، والمادة 583 فقرة 1 في الإيجار ، والمادة 641 في العارية ، والمادة 685 في عقد العمل ، والمادة 704 في الوكالة ، والمادة 720 في الوديعة .
( [812] ) وهذه بعض أمثلة تشريعية من القانون الجديد للمسئولية العقدية في بعض العقود المسماة : عقد البيع ( التزام البائع بتسليم المبيع هو التزام بغاية م 431 و 437 و 438 – والتزام البائع بضمان الاستحقاق وبضمان العيوب الخفية هو التزام بغاية م 439 و 447 ) – عقد الإيجار ( التزام المستأجر بالمحافظة على العين المؤجرة هو التزام بعناية م 583 – والتزام المستأجر بالمحافظة على العين من الحريق هو التزام بغاية م 584 – والتزام المستأجر برد للعين المؤجرة هو التزام بغاية م 590 ) – عقد العارية ( التزام المعير بتسليم العين التزام بغاية م 636 – والتزام المستعير بالمحافظة على العين التزام بعناية م 641 – والتزام المستعير برد العين التزام بغاية م 642 ) – عقد الوكالة ( التزام الوكيل بتنفيذ الوكالة التزام بعناية م 704 ) – عقد الوديعة ( التزام المودع عنده بالمحافظة على العين التزام بعناية م 720 – والتزام المودع عنده برد العين التزام بغاية م 722 ) – عقد رهن الحيازة ( التزام الدائن المرتهن بالمحافظة على الشيء المرهون التزام بعناية والتزام برده التزام بغاية م 1103 وقد تضمنت الالتزامين معاً ) .
( [813] ) أنظر المادة 571 فقرة 2 من القانون المدني الجديد .
( [814] ) وهو نص المادة 174 الذي يقرر مسئولية المتبوع عن تابعه .
( [815] ) أنظر أيضاً في مسئولية المستأجر نحو المؤجر عن أعمال المستأجر من الباطن أو المتنازل له عن الإيجار المواد 595 – 597 .
( [816] ) أنظر في المسئولية العقدية عن البواب ، في صديد مسألتين هامتين هما سرقة ؟ المراسلات ، مازو 1 فقرة 997 - 2 .
( [817] ) أنظر في الموضوع مازو 2 ص 325 – ص 341 .
( [818] ) تاريخ النص : ورد هاذ النص في المادة 295 من المشروع التمهيدي على وجه مماثل بخلاف لفظي طفيف . وقد أدخل هذا التعديل اللفظي في لجنة المراجعة فأصبح النص مطابقاً للنص الوارد في القانون الجديد ، وأصبح رقم النص هو المادة 224 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب ، ثم لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم 217 ، ثم مجلس الشيوخ . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 552 – ص 554 ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ليست أحكام المادة 295 إلا تقنينا للقواعد التي جرى القضاء المصري على إتباعها في هذا الشأن . فقد يجعل عبء المسئولية أشد وقراً بالاتفاق على تحمل تبعة الحادث الفجائي ، وبهذا يكون المدين مؤمناً للدائن من وجه . وقد تخفف المسئولية ، على نقيض ذلك ، باشتراط الإعفاء من تبعة الخطأ التعاقدي ، إلا أن تكون قائمة على غش أو خطأ جسيم ، فليس للأفراد حرية مطلقة في الاتفاق على تعديل أحكام المسئولية ، فكما أن الاتفاق على الإعفاء من الخطأ الجسيم والغش لا يجوز في المسئولية التعاقدية ، كذلك يمتنع اشتراط الإعفاء من المسئولية التقصيرية ، أياً كانت درجة الخطأ ، ويعتبر مثل هذا الاشتراط باطلاً لمخالفته للنظام العام . على أن ذلك لا ينفي جواز التأمين على الخطأ ، ولو كان جسيماً ، بل وفي نطاق المسئولية التقصيرية ذاتها ، متى كان لا يرتفع إلى مرتبة الغش . كما أن للأفراد أن يتفقوا على الإعفاء من المسئولية الناشئة عن خطأ من يسألون عن أعمالهم ، بل وعن الغش الواقع من هؤلاء ، سواء أكانت المسئولية تعاقدية أم تقصيرية " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 553 ) .
( [819] ) أنظر آنفاً فقرة 428 – وأنظر تاريخ النص في هامش هذه الفقرة .
( [820] ) استئناف مختلط في 5 فبراير سنة 1918 م 30 ص 209 .
( [821] ) استئناف مختلط في 21 ديسمبر سنة 1894 م 7 ص 11 – وفي 16 نوفمبر سنة 1898 م 11 ص 14 – وفي 30 ديسمبر سنة 1908 م 21 ص 93 – والتون 2 ص 270 – ص 272 - الدكتور عبد السلام ذهني بك فقرة 273 – الدكتور محمد صالح بك في أصول التعهدات فقرة 47 .
وفي عقود النقل كان القضاء المصري يحرم الإعفاء من المسئولية عن العمد والخطأ الجسيم ( استئناف مختلط في 31 يناير سنة 1917 جازيت 7 رقم 322 ص 73 ) . وكان من شأن الإعفاء من المسئولية عن الخطأ اليسير أ ، ينقل عبء الإثبات فيجعله في جانب الدائن كما كان الأمر في فرنسا قبل قانون رايبيه ( Rabier ) ( استئناف مختلط في 2 أبريل سنة 1896 م 8 ص 198 - وفي 18 يناير سنة 1900 م 12 ص 90 – وفي 16 مايو سنة 1900 م 12 ص 251 ) . ولكن قضت محكمة الاستئناف المختلطة بعد ذلك بأ ، شرط الإعفاء من المسئولية في عقود النقل غير جائز حتى عن الخطأ اليسير ، بل ليس من شأن هذا الشرط أن ينقل عبء الإثبات إلى الدائن ( استئناف مختلط في 8 ديسمبر سنة 1921 م 34 ص 45 – قارن استئناف مختلط في 12 مايو سنة 1920 م 32 ص 320 - أنظر والتون 2 ص 279 – ص 280 ) . وبذلك سارت محكمة الاستئناف المختلطة على حكم قانون رايبيه دون أن يكون في مصر قانون مماثل ، وذلك لاعتبارات خاصة في عقود النقل تجعل التشددي في مسئولية أمين النقل أمراً مرغوباً فيه ( أنظر في هذه الاعتبارات والتون 2 ص 280 – ص 283 ) . وقد تصلح نظرية عقود الإذعان سبباً لإبطال الإعفاء من المسئولية في عقود النقل .
أما الإعفاء الاتفاقي من المسئولية العقدية عن عمل الغير في الخطأ اليسير فجائز في مصر في القضاء والفقه ( استئناف مختلط في 2 أبريل سنة 1896 م 8 ص 198 – والتون 2 ص 272 – ص 274 ) . وإذا كان خطأ الغير جسيماً أو عمدياً ، فكان القضاء في مصر لا يجيز الإعفاء من المسئولية ( استئناف مختلط في 16 نوفمبر سنة 1898 م 11 ص 14 – وفي 31 يناير سنة 1917 جازيت 7 رقم 222 ) ، ويجيزه الفقه في الخطأ الجسيم ( والتون 2 ص 271 - ص 272 ) ، والقانون المدني الجديد يجيزه حتى في العمد كما بينا ( قارن مازو 3 فقرة 2527 ) . هذا ولا يعتبر خطأ من عمل الغير خطأ مدير الشركة ، فالمدير أداة ( oragane ) الشركة لا وكيل عنها ، فلا يجوز للشركة أ ، تعفى نفسها من العمد أو الخطأ الجسيم إذا صدر من مديرها . ولكن يجوز أن تعفى نفسها من العمد أو الخطأ الجسيم إذا صدر من عمالها .
( [822] ) تدرج مقدار العناية المطلوبة من المدين ، بحيث تندرج المسئولية معها عن أخطاء متدرجة ، من الفعل العمد إلى الخطأ الجسيم إلى الخطأ اليسير كثافة ، هو القدر الذي يصلح للبقاء في رأينا من نظرية تدرج الخطأ المهجورة . أما توزيع هذه الأخطاء المتدرجة على طوائف مقسمة من العقود ، وهو الأساس الذي قامت عليه هذه النظرية ، فهذا هو الذي ظهر فساده وكان السبب في هجر النظرية .
( [823] ) ويقع عبء الإثبات في المسئولية العقدية المخففة على الدائن ، وقد رأينا أن هذا العبء يقع عليه في المسئولية العقدية الكاملة ، فأولى أن يقع في المسئولية المخففة . ففي عقد النقل – حيث يلتزم أمين النقل بسلامة الراكب ، والتزامه التزام غاية فيكون مسئولاً إلا إذا أثبت السبب الأجنبي – إذا اشترط أمين النقل إعفاءه من المسئولية العقدية وأمكن تفسير ذلك على أنه إعفاء من المسئولية عن الفعل المجرد من الخطأ وعن الخطأ التافه ، فلا يكون أمين النقل مسئولاً إلا إذا أثبت الراكب في جانبه خطأ يسيراً ، ومن ثم يصبح عبء الإثبات على الراكب لا على أمين النقل . أما القضاء الفرنسي فيذهب هذا المذهب ، ولكن على أساس أن شرط الإعفاء من المسئولية يسقط المسئولية العقدية ، فتبقى المسئولية التقصيرية إذا أثبت الراكب خطأ في جانب أمين النقل . وعيب هذا التأسيس أنه يسمح بالخيرة بين المسئولية العقدية والمسئولية التقصيرية ، وسنرى عند الكلام في المسئولية التقصيرية أنه لا خيرة بين المسئوليتين ، وأن المسئولية العقدية إذا تحققت لا تفسح للمسئولية التقصيرية مكاناً إلى جانبها ( أنظر في هذا الموضوع مازو 3 فقرة 2545 وما بعدها ) . وسنعود إلى هذه المسألة فيما يلي ( فقرة 441 ) .
( [824] ) قارن مازو 3 فقرة 2527 – ويرى الأستاذان أن المدين ، يستطيع أن يشترط إعفاءه من الفعل العمد أو الخطأ الجسيم حتى لو كان صادراً من الغير ، لأن الخطأ الصادر من الغير يعتبر صادراً منه هو .
( [825] ) هذه القواعد التي بسطناها في الإعفاء الاتفاقي من المسئولية العقدية في حاجة إلى مزيد من التأمل في فروض ثلاثة ، حيث تستهدف لاعتراضات يسهل دفعها :
( أ ) قد تشترط شركة إعفاءها من المسئولية العقدية عن الغش أو الخطأ الجسيم الصادر من مديرها . وقد أخذ على قواعد الإعفاء الاتفاقي المتقدم ذكرها أنها تجعل هذا الشرط صحيحاً لأنه إعفاء من المسئولية عن فعل الغير ، وكان الواجب أ ، شرطاً كهذا لا يصح . وردها على ذلك ما قدمناه من أن مدير الشركة لا يعتبر وكيلاً عنها ، بل يعتبر أداة لها ( organe ) ، فمسئولية الشركة عن فعله تعتبر مسئولية عن فعل شخصي لا عن فعل الغير ، فلا يجوز إذن للشركة أن تعفى نفسها من المسئولية عن الغش أو الخطأ الجسيم الصادر منها أو من مديرها ، فهذا وذاك بمنزلة سواء .
( ب ) تستطيع شركات النقل أن تعفى نفسها من المسئولية عن السرقات التي ترتكبها عمالها ، إذ أن هذا يعتبر إعفاء من المسئولية عن فعل الغير وهو صحيح وفقاً للقواعد المتقدم ذكرها . وردنا على ذلك أن مثل هذا الشرط إذا فرضته شركات النقل الكبرى على عملائها يعتبر شرط إذعان يجوز للقاضي إبطاله وفقاً للمادة 149 .
( ج ) يستطيع المدين أ ، يعفى نفسه من المسئولية العقدية عن الضرر الذي يحدثه بالدائن في جسمه بخطأه اليسير ، ويكون الإعفاء صحيحاً طبقاً للقواعد المتقدم ذكرها ، مع أن هناك ميلاً إلى جعل الإعفاء من المسئولية لا يجوز إلا في الضرر الذي يلحق المال دون الجسم ( أنظر مازو 3 فقرة 2529 وما بعدها ) . وعلاج ذلك أ ، نميز بين ما إذا ورد هذا الشرط في عقد من عقود الإذعان ، كعقد النقل أو العقد الذي يتم بين الطبيب والمريض ، فيجوز للقاضي أن يبطله ، وما إذا ورد في غير عقود الإذعان فيصح ، والقضاء الفرنسي يعتبر الشرط صحيحاً في جميع الأحوال . ويحسن ، بالنسبة إلى عقد النقل ، أن يصدر في شأنه تشريع خاص يواجه ملابساته المختلفة .
( [826] ) هذا وقد قدمنا أنه يمكن تفسير الإعفاء من المسئولية العقدية في بعض العقود ، وبخاصة في عقد النقل ، على أنه إعفاء من الفعل المجرد من الخطأ ومن الخطأ التافه ، فإذا استقام هذا التفسير في عقد ، جاز القول في نظرنا إن مسئولية المدين العقدية – لا التقصيرية – تحقق إذا أثبت الدائن في جانب المدين خطأ يسيراً . ويكون الخطأ في هذه الحالة خطأ عقدياً لا خطأ تقصيرياً ( أنظر سابقاً فقرة 440 في الهامش ) . ولكن يغلب أن يتناول شرط الإعفاء من المسئولية العقدية كل ما يمكن الإعفاء منه في هذه المسئولية ، فيشمل المسئولية عن الفعل المجرد من الخطأ وعن الخطأ النابع عن الخطأ اليسير ، دون المسئولية عن الفعل العمد أو الخطأ الجسيم ، فهذان لا يجوز الإعفاء من المسئولية عنهما كما قدمنا .
( [827] ) مازو 3 فقرة 2562 – فقرة 2564 . وهذا إلا إذا ثبت أن شرط الإعفاء من المسئولية العقدية كان هو الدافع إلى التعاقد ، فيبطل العقد كله ، ولا يتحقق هذا نادراً .
وتسري القواعد التي قدمناها في صورتين تعتبران إعفاء اتفاقياً محوراً من المسئولية العقدية : ( الصورة الأولى ) أن يشترط المدين في المسئولية العقدية ألا تجاوز مسئوليته ، إذا تحققت ، مبلغاً معيناً من المال أقل من الضرر الذي وقع . ولكن يشترط أ ، يكون المبلغ المتفق عليه جدياً ، لا رمزياً يقصد به الإعفاء الكامل من المسئولية . أما إذا قصد أن يكون المبلغ معادلاً للضرر ، فهذا هو الشرط الجزائي . ( والصورة الثانية ) أن يشترط المدين في المسئولية العقدية مدة لتقادم التزامه العقدي تكون أقصر من المدة المقررة قانوناً .
( [828] ) أنظر فيما يتعلق بعقد النقل مازو 2 فقرة 1682 .
( [829] ) أنظر في الفقه الفرنسي مازو 1 فقرة 329 – فقرة 334 .
( [830] ) نظرية العقد للمؤلف فقرة 853 ص 959 .
( [831] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في الفقرة الثانية من المادة 299 من المشروع التمهيدي على وجه مطابق . وقد أقرته لجنة المراجعة تحت رقم المادة 228 في المشروع النهائي . وأقره مجلس النواب ، ثم لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم المادة 221 ، ثم مجلس الشيوخ . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 563 – ص 566 ) .
ويقابل هذا النص في القانون المدني القديم المادتان 122 / 180 من هذا القانون ، ويجريان على الوجه الآتي : " ومع ذلك إذا كان عدم الوفاء ليس ناشئاً عن تدليس من المدين ، فلا يكون ملزماً إلا بما كان متوقع الحصوص عقلا وقت العقد " .
وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ويكون للمسئولية التعاقدية ، في حالتي الغش والخطأ الجسيم ، حكم المسئولية التقصيرية . أما في غير هاتين الحالتين فلا يسأل المدين عن النتيجة الطبيعية للتخلف عن الوفاء بمجردها ، بل يشترط أن تكون النتيجة مما يمكن توقعه عادة وقت التعاقد . فإذا لم يتحقق في النتيجة هذا الشرط ، خرجت بذلك من نطاق المسئولية التعاقيدة وسقطت وجوب التعويض عنها ، ويراعى في هذا الصدد أن توقع المتعاقدين للضرر الواجب تعويضه يجب إلا يقتصر على مصدر هذا الضرر أو سببه ، بل ينبغي أن يتناول فوق ذلك مقداره أو مداه " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 565 ) .
( [832] ) نظرية العقد للمؤلف فقرة 854 ص 959 .
( [833] ) استئناف مختلط في 8 ابريل سنة 1897 م 9 ص 263 – وفي 10 يناير سنة 1924 م 36 ص 140 – وفي 9 ديسمبر سنة 1924 م 37 ص 51 – نقض فرنسي في 18 مايو سنة 1915 سيريه 1917 – 1 – 38 .
( [834] ) مازو 3 فقرة 2377 .
( [835] ) أنظر مازو 3 فقرة 2375 – 3 إلى فقرة 2376 .
( [836] ) نقض فرنسي في 7 يولية سنة 1924 سيريه 1925 – 1 – 321 – ومع ذلك أنظر نقض فرنسي في 11 يونية سنة 1928 جازيت دي باليه 1928 جازيت دي باليه 1928 – 2 – 327 – مازو 3 فقرة 2388 .
( [837] ) أنظر انتقاداً لقاعدة قصر المسئولية العقدية على الضرر المتوقع في مازو 3 فقرة 2391 .
( [838] ) أنظر أيضاً المادة 1147 من القانون المدني الفرنسي .
( [839] ) أنظر في الإيجار م 563 ، وفي الشركة م 529 ، وفي عقد العمل م 694 فقرة 2 – هذا وقد يبقى العقد حتى بعد انتهاء مدته ، ويكون هذا إجراء استثنائياً يقضي به القانون في ظروف استثنائية ، كما في التشريعات الخاصة بعقود إيجار المباني عند اشتداد أزمة المساكن عقب حرب أو نحو ذلك . وقد ينقضي العقد حتى قبل انتهاء مدته بموت أحد المتعاقدين إذا روعيت شخصيته عند التعاقد ، كما في الشركة والمزارعة والإيجار الذي تراعى فيه شخصية المستأجر .
( [840] ) وقد قضت محكمة النقض بان التفاسخ ( التقايل ) كما يكون بإيجاب وقبول صريحين يكون بإيجاب وقبول ضمنين ، وبحسب محكمة المضووع إذا هي قالت بالفسخ الضمني أن تورد من الوقائع والظروف ما اعتبرته كاشفاً عن ارادتي طرفي التعاقد ، وأن تبين كيف تلاقت هاتان الارادتان على حل العقد ( نقض مدني في 16 أكتوبر سنة 1947 مجموعة عمر 5 رقم 221 ص 470 ) . وقضت أيضاً بأن حصول التفاسخ من المسائل الموضوعية التي يستقل قاضي المضووع بتقديرها ، فإذا كانت المحكمة قد استخلصت حصول التفاسخ من عبارات واردة في أوراق الدعوى مؤدية إليه ، فلا سبيل عليها لمحكمة النقض فإذا كان كل ما شرطه المشتري في انذاره البائع لقبول التفاسخ هو عرض الثمن المدفوع مع جميع المصاريف والملحقات عرضاً حقيقياً على يد محضر في ظرف أسبوع ، وكانت هذه العبارة لا تدل بذاتها على أن الإيداع أيضاً في ظرف الأسبوع كان شرطاً للتفاسخ : وكان الثابت بالحكم أن المشتري تمسك بأن العرض لا يتحقق به فسخ البيع مستنداً في ذلك إلى أن المبلغ المعروض لم يكن شاملا الرسوم التي دفعت توطئة للتسجيل دون أية إشارة إلى شرط الإيداع في الأسبوع ، فإنه لا يجوز للمشتري أن يأخذ على الحكم أنه قد أخطأ إذ قال بصحة العرض في حين أن إيداع المبلغ المعروض لم يتم في الأسبوع ( نقض مدني في 15 أبريل سنة 1 948 مجموعة عمر 5 رقم 301 ص 601 ) .
( [841] ) وقد تضمن المشروع التمهيدي ثلاثة نصوص في إلغاء العقد ، حذفتها لجنة المراجعة جميعاً في المشروع النهائي لأنها تطبيق للقواعد العامة ، ويمكن الاستغناء عنها بالمادة 213 من هذا المشروع ( تقابلها المادة 147 من القانون الجديد ) .
وهذه النصوص هي :
م 255 من المشروع التمهيدي : لا يجوز إلغاء العقد إلا باتفاق المتعاقدين جميعاً ، وذلك فيما عدا العقود التي تنتهي بموت أحد المتعاقدين .
م 226 من المشروع التمهيدي : 1 – ومع ذلك يجوز أن ينفرد أحد المتعاقدين بإلغاء العقد إذا كان هذا الحق قد اشترط في العقد أو نص عليه في القانون . 2 – فإذا كان من أعطى الحق في إلغاء العقد قد تسف في استعمال هذا الحق جاز الرجوع عليه بالتعويض .
م 227 من المشروع التمهيدي : إذا ألغى العقد فلا ينتهي إلا من يوم انحلاله دون أن يكون لذلك أثر رجعي .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " والأصل أن إلغاء العقود لا يقع إلا بتراضي المتعاقدين ، فيجوز مثلا إلغاء عقد الإيجار إذا كان محدد المدة قبل انقضاء الأجل المعين له باتفاق المؤجر والمستأجر على ذلك ، ولكن يجوز أن يقع الإلغاء دون حاجة إلى التراضي في أحوال ثلاث : أولاها حالة العقود التي تكون فيها شخصية المتعاقد ملحوظة لذاتها كالزراعة ، فيقع الغاؤها بموت من كانت شخصيته محلا للاعتبار . والثانية حالة العقود التي يحتفظ فيها أحد المتعقادين لنفسه بحق الالغاء ، فيكون له أن يلغى العقد بارادته المنفردة ، ويكون للعاقد الآخر أن يقتضي ما يجب له من التعويض عند اساءة استعمال هذا الحق . أما الحالة الثالثة فهي حالة العقود التي ينص القانون بصددها على تخويل حق الإلغاء بارادة منفردة ، والأصل في هذه العقود أن تكون غير محددة المدة ( كالشركة والإجارة ) ، أو أن تكون قابلة للنقض بطبيعتها ( كالوكالة ) ، ويقع الإلغاء في هذه الحالة بالإرادة المنفردة التي خولها القانون ذلك ، في غير إخلال بما يكون للعاقد الآخر من حق في التعويض عند الاساءة في استعمال الحق " .
( أنظر في كل هذا مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 331 – ص 332 في الهامش ) .
هذا ويتبين مما نقلناه من نصوص المشروع التمهيدي ومذكرته الإيضاحية أن إلغاء العقد بارادة منفردة قد يكون مشترطاً في العقد ذاته ، لا آتياً من نص في القانون ، فيستمد من له حق إلغاء العقد بارادته المنفردة هذا الحق من اتفاق سابق . وهذا ضرب من التقايل يتم باتفاق ارادتين سابقتين مقرونتين بصدور إرادة لاحقة ، ويشترط فيه ألا يتعسف صاحب حق الإلغاء في استعمال حقه .
( [842] ) والفسخ هو انحلال العقد؟؟؟؟؟؟؟؟
( [843] ) بعض المراجع : كابيتان في السبب – مقال لبيكار ( Picard ) وبريدوم ( Prudhomms ) في مجلة القانون المدين الفصلية سنة 1912 ص 61 – ص 109 – مقال لبيريت ( Lebret ) في المجلة الانتقادية سنة 1924 ص 581 – مقال لكاسان ( Cassin ) في مجلة القانون المدني الفصلية سنة 1945 ص 159 – كاسان ( Cassin ) رسالة من باريس سنة 1914 – مورى ( Maury ) رسالة من تولوز سنة 1920 – بواييه ( Boyer ) رسالة من تولوز سنة 1924 – شيفرييه ( Chevrier ) رسالة من باريس سنة 1929 – ليبلتييه ( Lepeltier ) رسالة من كان سنة 1934 – كونستانتينسكو ( Constantinessco ) رسالة من باريس سنة 1939 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 629 وما بعدها – الدكتور حلمي بهجت بدوي فقرة 334 وما بعدها – الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت فقرة 380 وما بعدها .
( [844] ) lex Commissoria ( أنظر جيرار ص 733 ) .
( [845] ) ومن ثم نرى أن استعمال عبارتي " الشرط الفاسخ الضمني " و " الشرط الفاسخ الصريح " ، اللتين تردان كثيراً في لغة القضاء المصري وبخاصة في لغة محكمة النقض ، ليس بالتعبير الدقيق .
( [846] ) قارن نظرية العقد للمؤلف فقرة 633 .
( [847] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 218 من المشروع التمهيدي على وجه يكاد يكون مطابقاً . واقر في لجنة المراجعة مع تعديلات لفظية طفيفة جعلته مطابقاً ، وأصبح رقم المادة 161 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب ، فلجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم 157 ، فمجلس الشيوخ . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 319 – ص 322 ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " يفترض الفسخ وجود عقد ملزم للجانبين يتخلف فيه أحد العاقدين عن الوفاء بالتزامه فيطلب الآخر فسخه ، ليقال بذلك من تنفيذ ما التزم به . ويقع الفسخ بناء على حكم يقضي به أو بتراضى العاقدين أو بحكم القانون . وبذلك يكون الفسخ قضائياً أو اتفاقياً أو قانونياً على حسب الأحوال . ففي حالة الفسخ القضائي يتخلف أحد العاقدين عن الوفاء بالتزامه ، رغم أن الوفاء لا يزال ممكناً ، ويكون العاقد الآخر بالخيار بين المطالبة بتنفيذ العقد وبين طلب الفسخ ، على اني كون قد اعذر المدين من قبل . فإذا اختار الدائن تنفيذ العقد وطلبه ، وهو يدخل في حدود الإمكان ، كما هو حكم الفرض ، تعين أن يستجيب القاضي لهذا الطلب ، وجاز له أن يحكم بالتعويض إذا اقتضى الحال ذلك . أما إذا اختار الفسخ ، فلا يجبر القاضي على اجابته إليه ، بل يجوز له أن ينظر المدين إلى ميسرة إذا طلب النظرة ، مع الزامه بالتعويض عند الاقتضاء ، بل ويجوز له أن يقضي بذلك من تلقاء نفسه . وله كذلك ، ولو كان التنفيذ جزئياً ، أن يقتصر على تعويض الدائن عما تخلف عن تنفيذه إذا كان ما تم تنفيذه هو الجزء الاهم في الالتزام . على أن للقاضي أن يجيب الدائن إلى طلبه ويقضي بفسخ العقد مع إلزام المدين بالتعويض دائماً إن كان ثمة محل لذلك . ولا يكون التعاقد ذاته ، في حالة الفسخ ، أساساً للالزام بالتعويض إذ هو ينعدم انعداماً تاماً يستند أثره بفعل الفسخ ، وإنما يكون مصدر الإلزام في هذه الحالة خطأ المدين أو تقصيره . على أن القاضي لا يحكم بالفسخ إلا بتوافر شروط ثلاثة : اولها أن يظل تنفيذ العقد ممكناً ، والثاني أن يطلب الدائن فسخ العقد دون تنفيذه ، والثالث أن يبقى المدين على تخلفه ، فيكون من ذلك مبرر للقضاء بالفسخ . فإذا اجتمعت هذه الشروط تحقق بذلك ما ينسب إلى المدين من خطأ أو تقصير " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 327 – ص 328 ) .
( [848] ) أنظر أيضاً المادة 1978 من القانون المدني الفرنسي ، وهي لا تمنع الفسخ إلا في حالة عدم الوفاء بالايراد دون الحالات الأخرى المذكورة في نص القانون المصري القديم .
( [849] ) أنظر نظرية العقد للمؤلف فقرة 638 .
( [850] ) ويعلل الفرنسيون النص الذي ورد في قانونهم بتعليلين كل منهما محل للنظر : ( الأول ) أن عقد الايراد المرتب مدى الحياة عقد احتمالي . فإذا سمحنا بفسخ العقد وإعادة الشيء إلى أصله ، وامكن الدائن أن يرد إلى المدين ما قبضه من الايراد ، فماذا يسترد المدين ؟ إذا اكتفى باسترداد رأس المال ، يكون قد حرم من جزء من الغلة المدة التي بقى فيها رأس المال عند المدين هو الفرق ما بين غلة رأس المال جميعه وغلة المقبوض من الايراد . وإذا قيل إن الدائن يستبقى ما قبضه من الايراد ولا يسترد من رأس المال إلا بنسبة ما بقى من عمره إلى ما انقضى منه منذ قبض الايراد ، تعذرت معرفة الباقي من عمره إذ ليس لقانون الاحتمال أثر في حادث فردي – ولم نر هذا التعليل مقنعاً ، فمن السهل عند فسخ العقد أن نجعل الدائن يرد ما قبضه من الايراد مع فوائده القانونية ويسترد رأس المال مع فوائده القانونية ، وبذلك نعيد كل متعاقد إلى حالته الأصلية قبل التعاقد ( قارن ما أوردناه في هذا الخصوص في نظرية العقد ص 684 هامش رقم 1 ) . ( والتعليل الثاني ) أن الدائن يكون عادة في حاجة إلى الايراد يؤثره على رأس المال ، ففيه ضمان لحاجته وامن من تقلبات سعر الاستغلال فيما لو استرد رأس المال ، والفسخ يضيع عليه ذلك – ولكن هذا التعليل هو أيضاً غير مقنع ، فإن الفسخ إنما يكون جائزاً للدائن ولا واجباً عليه ، فما عليه إذا رأى المصلحة في عدم الفسخ إلا أن يعدل عنه إلى طلب التنفيذ ، ويطلب الفسخ إذا كان في مصلحته كما إذا رأى أنه يستطيع أن يستغل رأس المال عند استرداده على وجه أكثر نفعاً .
( [851] ) نقض فرسي في 9 مايو سنة 1832 سيريه 32 – 1 – 367 .
( [852] ) على أن القضاء الفرنسي ذاته أجاز اشتراط جواز الفسخ في عقد القسمة ( نقض فرنسي في 6 يناير سنة 1846 داللوز 46 – 1 – 16 ) .
( [853] ) أنظر في هذا المعنى محكمة مصر الوطنية في 10 مايو سنة 1905 الاستقلال 4 ص 467 – نقض فرنسي في 5 مايو سنة 1920 جازيت دي باليه 15 يونية سنة 1920 – قارن نظرية العقد للمؤلف ص 685 هامش رقم 1 والمراجع المشار إليها في هذا المكان .
( [854] ) محكمة الاستئناف الوطنية في أول ابريل سنة 1913 المجموعة الرسمية 14 رقم 78 ص 149 – محكمة الاستئناف المختلطة في 28 يناير سنة 1891 م 3 ص 165 .
( [855] ) محكمة مصر الكلية الوطنية في 30 يولية سنة 1932 المحاماة 12 رقم 95 ص 216 – محكمة الاستئناف المختلطة في 30 مايو سنة 1914 م 26 ص 404 .
( [856] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 14 يونية سنة 1900 م 1 ص 35 .
( [857] ) قضت محكمة النقض بأنه من المتفق عليه فقهاً وقضاء أن الشرط الفاسخ الضمني ، كالتأخر عن دفع الثمن في ميعاده ، لا يققتضي بذاته الفسخ ، بل لا بد لفسخ العقد من حكم قضائي بذلك ، وهذا الحكم يصدر بناء على طلب البائع لجواز اختياره تنفيذ العقد لا فسخه ( 8 ديسمبر سنة 1932 مجموعة عمر 1 رقم 81 ص 152 – أنظر أيضاً في هذا المعنى محكمة الاستئناف الوطنية في 9 يناير سنة 1922 المجموعة الرسمية 24 رقم 42 – وفي 28 ابريل سنة 1930 الحاماة 11 رقم 25 ص 48 – محكمة الاستئناف المختلطة في 17 مايو سنة 1900 م 12 ص 262 – وفي 30 مايو سنة 1914 م 26 ص 404 – وفي 28 فبراير سنة 1922 34 ص 208 – وفي 19 مايو سنة 1925 م 37 ص 437 – وفي 19 يناير سنة 1926 م 38 ص 187 – وفي 4 مارس سنة 1941 م 53 ص 123 .
( [858] ) استئناف مصر في 28 يناير سنة 1936 المحاماة 18 رقم 323 ص 671 .
وقضت محكمة النقض بأن شرط الفسخ الصريح وشرطه الضمني يختلفان طبيعة وحكماً . فالشرط الفاسخ الضمني لا يستوجب الفسخ حتما إذ هو خاضع لتقدير القاضي ، وللقاضي أن يمهل المدين حتى بعد رفع دعوى الفسخ عليه ، بل المدين نفسه له أن يتفادى الفسخ بعرض دينه كاملا قبل أن يصدر ضده حكم نهائي بالفسخ . أما الشرط الفاسخ الصريح فهو فيما تقضي به المادة 334 من القانون المدني ( القديم ) موجب للفسخ حتما ، فلا يملك معه القاضي إمهال المشتري المتخلف عن أداء الثمن ، ولا يستطيع المشتري أن يتفادى الفسخ بأداء الثمن أو عرضه بعد إقامة دعوى الفسخ عليه متى كان قد سبقها التنبيه الرسمي إلى الوفاء ، بل قد يكون الشرط الفاسخ الصريح موجباً للفسخ بلا حاجة إلى تنبيه إذا كانت صبغته صريحة في الدلالة على وقوع الفسخ عند تحققه بلا حاجة إلى تنبيه ولا إنذار . وعلى ذلك فإنه إذا كانت محكمة الدرجة الأولى قد اقامت قضاءها بفسخ العقد على أن المشتري إذ قصر في الوفاء بجزء من الثمن كان البائع محقاً في طلب الفسخ بناء على الشرط الفاسخ الضمني المفترض في جميع العقود التبادلية ، ثم جاءت محكمة الاستئناف فقالت إن الفسخ كان متفقاً عليه جزاء للتخلف عن أداء الثمن وأنه قد ثبت لها تخلف المشتري فهي تقرر حق البائع في الفسخ نزولا على الشرط الفاسخ الصريح عملا بنص المادة 334 مدني ( قديم ) . ثم لم تلبث أن قالت في آخر حكمها إنها تؤيد الحكم المستانف لاسبابه وتاخذ منه أسباباً لحكمها ، فحكمها هذا يكون قد أقيم على أمرين واقعيين متغايرين لا يمكن أن يقوم حكم عليهما مجتمعين لاختلاف شرطي الفسخ الصريح والضمني طبيعة وحكماً ، وهذا تعارض في أسباب الحكم يعيبه ويستوجب نقضه ( نقض مدني في 2 مايو سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 16 ص 35 ) – على أنه قد يجتمع الفسخ بحكم القضاء والفسخ بحكم الاتفاق في عقد واحد . وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا كان عقد البيع مذكوراً فيه أن البائع قد اشترط لمصلحة نفسه أن عدم دفع القسط الأول يجعل البيع لاغياً ، ورأت محكمة الموضوع أن هذا الشرط ليس معناه أن القسط الأول إذا دفع ولم تدفع الاقساط الباقية يكون البائع محروماً مما يخوله له القانون من طلب فسخ البعي عند عدم دفع المتأخر من الثمن ، بل إن هذا الحق ثبات له بنص القانون وباق له من غير أي اشتراط في العقد بخصوصه ، فإن تفسيرها لا غبار عليه ( نقض مدني في 2 مايو سنة 1935 مجموعة عمر 1 رقم 259 ص 750 ) .
( [859] ) استئناف مختلط في 13 نوفمبر سنة 1913 م 26 ص 137 – وفي 12 ديسمبر سنة 1916 م 29 ص 96 – وفي 19 يناير سنة 1929 م 38 ص 187 .
( [860] ) استئناف مختلط في 12 ديسمبر سنة 1916 م 29 ص 96 وقد سبقت الإشارة إليه – وفي 18 ديسمبر سنة 1917 م 30 ص 88 .
( [861] ) ولمحكمة الموضوع أن تقدر هل تعتبر العمل الذي صدر من المدين نزولا عن أحد الطلبين ، كما إذا تقدم في توزيع لمال المدين ويراد أن يفهم من ذلك نزوله عن الفسخ : نقض فرنسي في 16 مارس سنة 1840 سيريه 140 – 1 – 121 – وكما إذا رضى ببيع صدر من المشتري منه فنزل بذلك عن حقه في المطالبة بفسخ البيع الأول : نقض فرنسي في 15 مارس وسنة 1909 سيريه 1909 – 1 – 391 – وكما إذا أجرى المشتري اصلاحات في العقار الذي اشتراه فنزل بذلك ضمنا عن حقه في طلب فسخ البيع : استئناف مختلط في 3 ابريل سنة 1912 م 24 ص 249 – وكما إذا طالب البائع المشتري بدفع الثمن واتخذ إجراءات تحفظية لذلك فنزل ضمنا عن الفسخ : استئناف مختلط في 12 ديسمبر سنة 1916 م 29 ص 96 و سبقت الإشارة إليه – وكما إذا تقدم البائع كدائن بالثمن في تفليسة المشتري فلا يجوز له يطلب استرداد الشيء المبيع بعد ذلك : استئناف مختلط في 18 ديسمبر سنة 1917 م 30 ص 88 وقد سبقت الإشارة إليه .
( [862] ) وقد قضت محكمة الاستئناف الوطنية بأنه يسوغ للمستأجر أن يمنع الحكم بفسخ الإيجار إذا عرض عرضاً حقيقياً دفع المبلغ المستحق قبل صدور الحكم النهائي ( 23 يناير سنة 1900 المجموعة الرسمية 1 ص 283 ) . وقضت بأنه إذا طلب البائع من المحكمة فسخ البيع لعدم قيام المشتري بدفع ثمن المبيع ، فللمشتري أن يتدراك فسخ البيع بعرض الثمن ، ولو بعد صدور الحكم عليه ، وإنما قبل اكتساب هذا الحكم قوة الشيء المحكوم به أو تأييده استئنافياً . وهذا الحق الذي للمشتري يرجع إليه بمجرد قبول المحكمة طلب التماس تقدم بعد حكمت ، ولو كانت المحكمة قد حكمت بالفسخ ، لأن قبول الالتماس يعيد إلى الخصوصم حقوقهم التي كانت لهم قبل صدور الحكم المنقوض ( 25 مايو سنة 1905 المجموعة الرسمية 7 رقم 49 – أنظر أيضاً في هذا المعنى محكمة الاستئناف الوطنية في 9 يناير سنة 1922 المجموعة لارسمية 24 رقم 42 – وفي 20 ديسمبر سنة 1929 المجموعة الرسمية 29 رقم 39 / 2 – محكمة الاستئناف المختلطة في 31 ديسمبر سنة 1917 م 30 ص 114 ) – على أن كثيرا من أحكام القضاء المختلط كان يذهب إلى عكس ذلك ، ولا يجعل المدين يتجنب الفسخ بأن ينفذ التزامه قبل صدور الحكم النهائي : استئناف مختلط في 21 نوفمبر سنة 1916 م 29 ص 58 – وفي 12 ديسمبر سنة 1916 م 29 ص 101 – وفي 9 يناير سنة 1918 جازيت 8 رقم 109 ص 47 – وفي 27 ابريل سنة 1922 م 34 ص 371 . ولكن محكمة النقض حسمت الأمر ، فقضت بأنه إذا كان الشرط الذي تضمنه العقد شرطاً فاسخاً ضمنياً ، فللمشتري – لي أن يصدر الحكم النهائي بالفسخ – الحق في توقى الفسخ بدفع الثمن – وإذا كان المشتري يعرض على البائع باقي الثمن إلا عند رفعه الاستئناف عن الحكم الصادر بالفسخ ، فمن الخطأ أن تحمل محكمة الاستئناف البائع كل مصروفات الدرجتين في حكمها برفض دعوى الفسخ ، إذ هو كان محقاً في طلب الفسخ حتى اتقاه المشتري بهذا العرض ، فلا يلزم بمصروفات الدرجة الأولى ولا بمصروفات الاستئناف إلى وقت حصول العرض ( نقض مدني في 17 يناير سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 25 ص 58 ) .
( [863] ) محكمة الاسنكدرية الوطنية في 27 مارس سنة 1917 المجموعة الرسمية 18 رقم 94 – محكمة طنطا الكلية في 19 يناير سنة 1922 المحاماة 2 رقم 135 ص 418 – استئناف مختلط في 26 ينايرس نة 1911 م 23 ص 139 – وفي أول ابريل سنة 1915 م 27 ص 258 – وفي 28 فبراير سنة 1922 م 34 ص 208 – وفي 19 مايو سنة 1925 م 37 ص 437 – ومع ذلك أنظر استئناف مختلط في 18 يونية سنة 1890 م 2 ص 350 – ولكن القانون الجديد صريح في جواز عدم استجابة القاضي لطلب الفسخ وإعطاء المدين مهلة لتنفيذ التزامه .
( [864] ) أو أن يكون الفسخ مشترطاً صراحة إذا تحققت ظروف معينة على وجه التحديد استئناف مختلط في 23 نوفمبر سنة 1937 م 50 ص 26 ) .
( [865] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا لم يتفق على شرط فاسخ صريح ، وكان الفسخ مقاما على الشرط الفاسخ الضمني ، فإن محكمة الموضوع تملك رفض هذا الطلب في حالة الإخلال الجزئي إذا ما بان لها أن هذا الإخلال هو من قلة الشأن بحيث لم يكن يستأهل في قصد العاقدين فسخ العقد . وسلطة المحكمة في استخلاص هذه النتيجة مطلقة لا معقب عليها ( نقض مدني في 4 ديسمبر سنة 1947 مجموعة عمر 5 رقم 237 ص 498 ) .
( [866] ) استئناف مختلط في أول ابريل سنة 1915 م 27 ص 258 ( ولم يتسلم المشتري السندات ، ولكن ذلك لم يصبه بضرر ما وكان في إمكانه تسلمها ) – وفي 9 نوفمبر سنة 1930 م 33 ص 8 ( أراد البائع الأرض انتهاز فرصة أن المشتري تأخر قليلا عن دفع جزء من ليفسخ الصفقة بعد أن ارتفع ثمن الأراضي ) .
( [867] ) وإذا كان هناك خطأ في جانب كل من الطرفين ، فقد يدعو ذلك القاضي إلى عدم الحكم بالفسخ والاكتفاء بالتعويض ( استئناف مختلط في 3 فبراير سنة 1904 م 16 ص 120 ) . وقد يخطئ المدين في تفسير العقد فيتأخر وهو حسن النية عن تنفيذ التزامه ، فلا يكون هذا التأخر مبرراً للفسخ ( محكمة مصر المختلطة الجزئية في أول فبراير سنة 1913 جازيت 3 ص 173 ص 190 ) .
( [868] ) فللقاضي إذن سلطة التقدير ، فله أن يفسخ العقد ، وله أن يعطي المدين مهلة لتنفيذ التزامه . وسلطته هذه مسألة موضوعية لا معقب عليها من محكمة النقض . وقد قضت محكمة النقض في هذا المعنى بأن فصل محكمة الموضوع في صدد كتابة الأسباب لفسخ التعاقد أمر موضوعي خارج عن رقابة محكمة النقض . فلا تثريب عليها إذا هي رأت أن عدم تنفيذ أحد الالتزامات لا يوجب فسخ التعاقد ، وبينت الأسباب التي استندت إليها في ذلك ( نقض مدني في 18 مايو سنة 1939 مجموعة عمر رقم 158 ص 566 ) . وقضت أيضاً بالا يكون الشرط الفاسخ مقتضيا الفسخ حتماً إلا إذا كانت صيغته صريحة دالة على وجوب الفسخ عند تحققه بغير حاجة إلى تنبيه أو انذار أما الشرط الضمني الفاسخ فلا يلزم القاضي به ، بل هو يخضع لتقديره . فللقاضي إلا يحكم بالفسخ ، وأن يمكن الملتزم من الوفاءي بما تعهد به حتى بعد رفع الدعوى عليه بطلب الفسخ ( نقض مدني في 2 ابريل سنة 1936 مجموعة عمر رقم 343 ص 1086 ) . وقضت أخيراً بأنه لما كان القانون لا يوجب على القاضي في خصوص الشرط الفاسخ الضمني أن يقضي به ، إنما خوله سلطة تقديرية ، فله أن يحكم به ، وله أن يعطي المدين مهلة للقيام بتنفيذ الالتزام في غضونها ، وإلا اعتبر العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه ( نقض مدين في 23 مارس سنة 1950 طعن رقم 155 سنة 18 قضائية لم ينشر – أنظر أيضاً نقض مدني في 8 يونية سنة 1944 مجموعة عمر 4 رقم 151 ص 419 – وفي 31 مايو سنة 1945 مجموعة عمر 4 رقم 262 ص 712 ) .
( [869] ) على أنه يجوز إعطاء مهلة ثانية إذا كانت المهلة الأولى أعطيت في دعوى بالتنفيذ لا في دعوى بالفسخ ( نقض فرنسي في 8 يناير سنة 1929 جازيت دي باليه 1929 – 1 – 497 ) .
( [870] ) نقض ندني في 23 مارس سنة 1950 طعن رقم 155 سنة 18 قضائية وقد سبقت الإشارة إليه – استئناف مختلط في 13 ابريل سنة 1922 م 34 ص 230 .
( [871] ) ونرى من ذلك أن القاضي يجوز له أن ينظر المدين إلى آجال ، أي إلى أجل بعد أجل ، إلى أجل واحد .
( [872] ) ويوجد بين الفسخ والإبطال ، إلى جانب هذا الفرق ، فرقان اخران : ( أ ) يرجع سبب الفسخ إلى عدم قيام أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه ، ويرجع سبب الإبطال بوجه عام إلى نقص في الأهلية أو عيب الإرادة ( ب ) فسخ العقد موكول إلى تقدير القاضي كما بينا ، أما إذا توافر سبب الإبطال فالقاضي ليست له سلطة تقديرية ولا يملك إلا الإبطال .
( [873] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 221 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 – إذا فسخ العقد أعيد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد ، فإذا كان ذلك مستحيلا استبدلا به تعويضا يعادله . 2 – على أن فسخ العقود الناقلة للملكية لا يضر بالغير حسن النية إذا ترتب له حق على عقار قبل تسجيل صحيفة دعوى الفسخ " . وفي لجنة المراجعة حذفت الفقرة الثانية من النص اكتفاء بورود حكمها في نص عام في التسجيل هو المادة 137 ، وأدخلت تعديلات لفظية على العبارة الأخيرة من الفقرة الأولى ، فصارت كالآتي : فإذا استحال ذلك جاز الحكم بتعويض معادل " ، وأصبح رقم المادة 164 في المشروع النهائي . ووافق عليها مجلس النواب ، ثم لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ بعد حذف كلمة " معادل " الواردة آخر النص نفيا لشبهة الاتجاه إلى تقرير حكم يخالف القواعد العامة في التعويض ، وأصبح رقم المادة 160 ، ثم جلس الشيوخ . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 326 – ص 330 ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ويترتب على الفسخ قضائياً كان أو اتفاقيا أو قانونينا ، انعدام العقد النعداما يستند أثره ، فيعتبر كأن لم يكن . وبهذا يعود المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد فيرد كل منهما ما تسلم بمقتضى هذا العقد ، بعد أن تم فسخه . وإذا أصبح الرد مستحيلا وجب التعويض على الملزم وفقاً للأحكام الخاصة بدفع غير المستحق . ومع ذلك فقد استثنى المشروع من حكم هذه القاعدة صورة خاصة تعرض في فسخ العقود الناقلة لملكية العقارات ، فنص على أن هذا الفسخ لا يضر بالغير حسن النية إذا كان قد تلقى من العاقد الذي آلت إليه ملكية العقار بمقتضى العقد المفسوخ حقا على هذا العقار قبل تسجيل صحيفة دعوى الفسخ ( أنظر المادة 375 من المشروع ) . ومؤدى هذا أن يظل حق الغير قائما ، ويرد العقار مثقلا به ، رغم فسخ العقد الناقل للملكية . وغنى عن البيان أن هذا لاستثناء يكفل قسطا معقولا من الحماية للغير حسن النية ، ويهيئ بذلك للتعامل ما يخلق به من سباب الاستقرار " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 329 ) .
( [874] ) هذا وقد تضمن المشروع التمهيدي نصا ، هو المادة 224 من هذا المشروع ، ويقضي إذا انحل العقد بسبب البطلان أو الفسخ أو بأي سبب آخر ، وتعين على كل من المتعاقدين أن يرد ما استولى عليه نجاز لكل منهما أن يحبس ما أخذه ما دام المتعاقد الآخر لم يرد إليه ما تسلمه منه ، أو يقدم ضماناً لهذا الرد وذلك طبقاً للقواعد المقررة في حق الحبس " . وقد حذفت لجنة المارجعة هذا النص لأنه تطبيق للقاعدة في حق الحبس . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 331 في الهامش ) – فإذا اعتبرنا أن التزام البائع برد الثمن قد ترتب في ذمته بسبب التزام المشتري برد المبيع وارتبط كل التزام بالآخر ( م 246 ) ، كان لكل من الطرفين أن يحبس ما بيده حتى يسترد ما بيد الآخر . ويكون هذا صحيحاً أيضاً في حالة البطلان .
( [875] ) استئناف مختلط في 17 ابريل سنة 1912 م 24 ص 284 .
( [876] ) استئناف مختلط في 5 ديسمبر سنة 1922 م 35 ص 70 – و 18 ديسمبر سنة 1923 جازيت 14 رقم 218 ص 138 – حلمي عيسى باشا في البيع فقرة 1648 – نجيب الهلالي باشا في البيع فقرة 700 ص 481 .
( [877] ) قارن نظرية العقد للمؤلف فقرة 656 – وإذا استبقى المشتري المبيع في ديه بعد فسخ البيع ولم يقبل رده فأصبح سيء النية ، ثم هلك المبيع بسبب أجنبي ، وجب على المشتري أن يرد للبائع قيمة المبيع وقت الهلاك ، إلا أن يثبت أن المبيع كان يهلك حتى لو كان قد رد إلى البائع وقت الفسخ ( م 984 ) . وهذا هو الحكم في استرداد ما دفع دون حق إذا هلك في يد من تسلمه وهو سيء النية .
( [878] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه " ينفسخ حتما عقد البيع باستحالة تنفيذه ، يستوي في ذلك أن تكون الاستحالة بتقصير المشتري أو بتقصير البائع . ولا يبقى بعد إلا الرجوع بالتضمينات من أحد العاقدين على الآخر . فإذا كان المشتري قد انذر البائع له وكلفه بالحضور أمام الموثق للتوقيع على عقد البيع فلم يحضر ، ثم رفع عليه دعوى لإثبات التعاقد بينهما ليقوم الحكم فيها مقام عقد رسمي قابل للتسجيل ، وبسبب مطل المدعى عليه وتسويفه لم يحكم نهائياً للمدعى إلا بعد نزع الملكية جبراً ورسو مزاده بالفعل على الدائن المرتهن ، فإن هذا يكفي لإثبات أن استحالة تنفيذ عقد البيع وعدم إمكان الوفاء جاء بعد تكليف المشتري للبائع رسمياً بالوفاء بالتزامه ، مما ينفسخ به البيع حتما من تاريخ نزع الملكية ، ويجعل البائع مسئول عن النتائج التي ترتبت على هذا الفسخ من رد الثمن مع التضمينات . فإذا حكمت المحكمة في هذه الحالة برفض طلب المدعى التضمينات ، واسترداد ثمن المبيع استنداً إلى قيام الحكم الصادر بصحة التعاقد مع سقوط هذا الحكم لخروج المبيع جبراً من ملك البائع ، كان حكمها خاطئاً متعيناً نقضه " ( نقض مدني في 15 ديسمبر سنة 1938 مجموعة عمر 2 رقم 148 ص 442 ) .
والحكم فيما قضى به صحيح ، لأن البائع في القضية هو المقصر بعد أن كلف بالوفاء رسمياً ، ولم تنزع الملكية جبراً عنه إلا بعد هذا التكليف . فالعقد يفسخ عليه ويلتزم بالتعويض . ولكن الذي يؤخذ على الحكم أنه قرر في قاعدة عامة أن العقد ينفسخ باستحالة التنفيذ ولو كانت الاستحالة راجعة إلى تقصير المشتري . وقد رأينا أن الاستحالة إذا رجعت إلى تقصير المشتري ، كان للبائع أن يطالبه بالتعويض إما على أساس المسئولية العقدية ، وفي هذه الحالة يبقى العقد قائماً ، وإما على أساس فسخ العقد مع التعويض .
( [879] ) وقد قضت محكمة النقض بأن فسخ العقد بسبب خطأ أحد العاقدين لا يجعل له الحق في المطالبة بتعويض ( نقض مدني في 27 ديسمبر سنة 1934 مجموعة عمر 1 رقم 215 ص 520 ) .
( [880] ) أنظر في هذا المعنى رسالة الدكتور عبد الحي حجازي في عقد المدة ص 189 – ص 100 ، وما أشار إليه من أحكام القضائين الفرنسي والمصري ومن أقوال الفقهاءز وقارن نظرية العقد للمؤلف فقرة 656 – وقارن أيضاً محكمة استئناف مصر الوطنية في 29 يونية سنة 1925 المحاماة 6 رقم 98 ص 131 .
( [881] ) أنظر في تقرير التعويض عن فسخ العقد الزمني رسالة الدكتور عبد الحي حجازي في عقد المدة ص 200 – ص 209 .
( [882] ) وهذا بخلال إبطال العقد الزمني ، فإن العقد يعتبر كأن لم يكن بالإبطال ، ويكون المستحق عن المدة السابقة على الحكم بالإبطال تعويضا لا أجرة ، فلا يكفله امتياز المؤجر ، وقد سبق بيان ذلك عند الكلام في البطلان .
( [883] ) ودعوى الفسخ كعدوى الإبطال دعوى شخصية ، لا يطالب فيها إلا الحكم يفسخ العقد . فإذا اقترنت بطلب رد الشيء كانت الدعوى شخصية أيضاً ، لأن الطلب يكون مبيناً على التزام شخصي هو رد ما تسلمه المدين دون حق كما قدمنا .
ويلاحظ أن دعوى الفسخ من شأنها أن تجعل الدائن في مقام الدائن الممتاز من الناحية العملية . ذلك لأنه يسترد ما أعطاه دون أن يشترك معه فيه بقية دائني المدين ، فهو ممتاز من هذه الناحية ، بعكس ما إذا اقتصر على طلب تنفيذ العقد ، فإنه يصبح في هذه الحالة كبقية الدائنين ، ويشترك هؤلاء معه شركة غرماء . فدعوى الفسخ والمقاصة والحق في الحبس وحق الامتياز ، كل هذه تخدم غرضاً عملياً واحداً .
( [884] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 219 من المشروع التمهيدي على وجه يكاد يكون مطابقاً لولا بعض خلاف لفظي . وأقرته لجنة المراجعة تحت رقم المادة 162 من المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب ، ثم لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ بتعديل لفظي جعله مطابقاً للنص الوارد في القانون الجديد ، تحت رقم المادة 158 ، ثم مجلس الشيوخ ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 322 – ص 323 ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " أما الفسخ الاتفاقي فيفترض اتفاق المتعاقدين على وقوع الفسخ بحكم القانون دون حاجة إلى حكم قضائي عند التخلف عن الوفاء . ويفضي مثل هذا الاتفاق إلى حرمان العاقد من ضمانتين : ( ا ) فالعقد يفسخ حتما دون أن يكون لهذا العاقد ، بل ولا للقاضي ، خيار بين الفسخ والتنفيذ . ( ب ) ويقع الفسخ بحكم الاتفاق دون حاجة للتقاضي . على أن ذلك لا يقيل المدين من ضرورة الترافع إلى القضاء عند منازعة المدين في واقعة تنفيذ العقد . بيد أن مهمة القاضي تقتصر ، في هذه الحالة ، على التثبت من هذه الواقعة ، فإذا تحققت لديه صحتها أبقى على العقد ، وإلا قضى بالفسخ . على أن حرمان المدين من هاتين الضمانتين لا يسقط عنه ضمانة أخرى ، تتمثل في ضرورة الإعذار ، ما لم يتفق المتعاقدان صراحة على عدم لزوم هذا الإجراء أيضاً " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 328 ) .
( [885] ) استئناف مختلط في 13 نوفمبر سنة 1913 م 26 ص 23 .
( [886] ) استئناف مختلط في 18 يناير سنة 1919 م 31 ص 126 – وهذه هي الدعوى البوليصية . أما إذا كسب الغير حقا عينيا قبل تسجيل دعوى الفسخ وكان حسن لانية ، فإن حقه يبقى نافذا قبل الدائن بالرغم من الفسخ حتى لو لم يكن هناك تواطؤ ، وقد تقدم بيان ذلك .
( [887] ) محكمة الإسكندرية الكلية الوطنية في 16 مايو سنة 1925 المجموعة الرسمية 27 رقم 29 – محكمة مصرالكلية الوطنية في 9 فبراير سنة 1929 المجموعة الرسمية 30 رقم 58 – استئناف مختلط في 23 ابريل سنة 1924 م 36 ص 333 – وفي 27 يناير سنة 1931 جازيت 22 رقم 265 ص 931 – وقارن استئناف مختلط في 5 يناير سنة 1926 م 38 ص 159 .
( [888] ) نقض مدني في 17 يناير سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 25 ص 58 – وقضت محكمة النقض أيضاً بان الشرط الفاسخ لا يقتضي الفسخ حتما بمجرد حصول الإخلال بالالتزام إلا إذا كانت صيغته صريحة دالة على وجوب الفسخ حتما عند تحققه . ولما كانت عبارة الشرط الواردة في نهاية عقد الصلح ، ونصها " إذا اخلت المشتريه بشروط هذه الصلح أو أحدها فيكون البيع لاغياً " لا تفيد المعنى الذي يضهب إليه الطاعنان ، بل ما هي إلا ترديد للشرط الفاسخ الضمني المقرر بحكم لاقانون في العقود الملزمةلجانبين ( نقض مدني في 12 يناير سنة 1950 طعن رقم 82 سنة 18 قضائية لم ينشر – أنظر أيضاً محكمة الاستئناف الوطنية في 23 يناير سنة 1900 المجموعة 1 ص 83 – وفي 12 فبراير سنة 1928 المجموعة الرسمية 29 رقم 126 / 1 – استئناف مختلط في 17 مايو سنة 1900 م 12 ص 262 ) .
( [889] ) نقض مدني في 23 ديسمبر سنة 1948 مجموعة عمر 5 رقم 356 ص 688 – أنظر أيضاً محكمة استئناف مصر الوطنية في 12 فبراير سنة 1928 المجموعة الرسمية 29 رقم 126 / 1 – وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم – و استئناف مختلط في 28 يناير سنة 1891 م 3 ص 165 – وفي 6 يونية سنة 1901 م 13 ص 362 – وفي 20 نوفمبر سنة 1902 م 15 ص 11 .
( [890] ) محكمة مصر الكلية الوطنية في 30 يولية سنة 1932 المحاماة 13 رقم 95 ص 216 – أنظر أيضاً محكمة أسيوط الكلية في 15 فبراير سنة 1928 المحاماة 9 رقم 420 ص 669 – استئناف مختلط في 12 ديسمبر سنة 1916 م 29 ص 100 – وفي 20 نوفمبر سنة 1930 جازيت 22 رقم 241 ص 209 – وفي 20 مارس سنة 1935 م 47 ص 211 – وفي 18 مايو سنة 1937 م 49 ص 226 .
وقضت محكمة مصر الكلية الوطنية أيضاً بأن " الحالة الوحيدة التي يجوز للطرفين فيها الاتفاق على اختصاص قاضي الأمور المستعجلة بإخلاء المستأجر عند تأخره في أداء الأجرة هي التي ينص فيها على أن هذا التأخر يفسخ العقد بغير حاجة لاستصدار حكم بذلك ، فبهذا النص يقع الفسخ بمجرد التأخر في سداد الأجرة " ( المحاماة 13 رقم 300 ص 587 ) .
( [891] ) ولكن للمحكمة الرقابة التامة للتحقق من انطباق شرط الفسخ ووجوب أعماله . وقد استعملت محكمة الاستئناف المختلطة حق الرقابة هذا في قضية اشترط فيها الدائن أنه إذا امتنع المصرف من صرف " الشيك " المحول إليه ، كان العقد مفسوخاً حتما من تلقاء نفسه دون إنذار ، فامتنع المصرف من صرف " الشيك " لبعض إجراءات شكلية ، وقد ثبت أن مقابل الوفاء موجود في المصرف وأن المدين عرض على الدائن أن يدفع له قيمة " الشيك " أو أن يعطيه " شيك آخر " ، فرفض الدائن وابى إلا اعتبار العقد مفسوخاً . وقد قضت المحكمة بأن الدائن متعنت في تقديره ، ,أن العقد لم يفسخ بل لا يزال قائماً ( 23 ديسمبر سنة 1920 م 33 ص 94 ) – وفي قضية أخرى اتفق الطرفان على مد الأجل بطريقة من شأنها أن تجعل الالتزام يتجدد ، فقضت المحكمة بأن هذا التجديد يبطل اثر شرط الفسخ الذي كان موجوداً في العقد الأول ، ولا يجوز لدائن التمسك به بعد أن تم التجديد ( استئناف مختلط في 20 نوفمبر سنة 1902 م 15 ص 11 ) – وفي قضية ثالثة قضت المحكمة بأنه إذا اشترط سقوط الأجل دون حاجة إلى حكم أو إنذار عند تأخر المدين في دفع قسط ، وقبل الدائن مع ذلك قبض أقساط تأخر فيها المدين عن الميعاد ، ثم تمسك فجأة بحقه في الفسخ عندما تأخر المدين عن ميعاد قسط ، فإن تساهله السابق يحمل على أنه غير متمسك بالشرط ، ولا يجوز له اعتبار العقد مفسوخاً ( استئناف مختلط في 28 مايو سنة 1942 م 54 ص 211 ) .
( [892] ) قارن في هذا الصدد ما قضت به محكمة استئناف مصر الوطنية من أنه " إذا نص في عقد بيع أنه إذا تأخر المشتري عن دفع مبلغ كذا يعتبرعقد البيع لاغياً بدون حاجة إلى إنذار أو حكم قضائي ويصبح المبلغ المدفوع حقاً مكتسباً للبائع لا يرد بحال من الأحوال ، كان للمشتري الاستفادة من هذا النص واعتبار البيع لاغيا مثل ما للبائع سواء بسواء ( 27 نوفمبر سنة 1927 المحاماة 4 رقم 270 ص 329 ) . ولكن يلاحظ في هذه القضية أن المشتري قد دفع عربوناً للبائع ، فيحق له الرجوع في البيع ويصبح العربون حقاً مكتسباً للبائع .
( [893] ) نقض مدني في 18 يناير سنة 1945 مجموعة عمر رقم 192 ص 540 – أنظر أيضاً استئناف مصر الوطنية في 12 يناير سنة 1946 المحاماة 30 رقم 156 ص 163 – استئناف مختلط في 12 ابريل سنة 1877 المجموعة الرسمية للقضاء المختلط 2 ص 260 – وفي 13 مايو سنة 1886 بوريللي م 177 – وفي 6 يونية سنة 1901 م 13 ص 362 – وفي 20 نوفمبر سنة 1902 م 15 ص 10 – وفي 25 فبراير سنة 1904 م 16 ص 146 – وفي 20 مارس سنة 1913 م 25 ص 250 – وفي 27 نوفمبر سنة 1919 جازيت 10 رقم 17 ص 20 – وفي 3 ديسمبر سنة 1925 م 38 ص 81 – وفي 20 مارس سنة 1935 م 47 ص 211 – وفي 29 يناير سنة 1936 م 48 ص 92 .
وقضت محكمة النقض أيضاً في هذا المعنى بأنه " متى كان الطرفان قد اتفقا في عقد البيع على أن يقع الفسخ في حالة تأخر المشتري عن دفع باقي الثمن في الميعاد المتفق عليه بدون حاجة إلى تنبيه رسمي أو غير رسمي ، فإن العقد ينفسخ بمجرد التأخير عملا بالمادة 334 مدني ( قديم ) . ولا يلزم إذن أن يصدر بالفسخ حكم مستقل بناء على دعوى من البائع ، بل يجوز لمحكمة أن تقرر أنه حصل بالفعل بناء على دفع البائع أثناء نظر الدعوى المرفوعة من المشتري . ومتى وقع الفسخ بمقتضى شرط العقد فإن إيداع الثمن ليس من شأنه أن يعيد العقد بعد انفساخه " ( نقض مدني في 13 مايو سنة 1934 مجموعة عمر 4 رقم 60 ص 157 ) .
هذا وليس من الضروري أن يوضع الشرط الذي نحن بصدده في الصيغة المتقدم ذكرها . بل إن أية صيغة تدل على هذا المعنى كافية ، ومن ذلك ما قضت به محكمة لانقض من أنه " إذا كان العقد المحرر بين مدين ودائنه ( بنك التسليف ) ينص على أن المدين تعهد بأن يسدد إلى البنك مطلوبه على أقساط وبأن يقدم له عقاراً بصفة رهن تأميناً للسداد ، وعلى أن البنك تعهد من جانبه برفع الحجزين السابق توقيعهما منه على منقولات المدين وعقاراته متى تبين بعد حصول الرهن وقيده واستخراج الشهادات العقارية عدم وجود أي حق عيني مقدم عليه ، ثم فسرت المحكمة ذلك بأن قبول البنك تقسيط الدين متوقف على قيام المدين بتقديم التأمين العقاري بحيث إذا لم يقدم هذا التأمين بشروطه المنصوص عليها في العقد كان لابنك في حل من قبول التقسيط ، وتعرفت نية المدين في عقد تقديمه التأمين من خطاب صادر منه ، وبناء على ذلك قضت بعدم ارتباط البنك بالتقسيط وبأحقيته في الاستمرار في التنفيذ بدينه على المنقولات والعقارات دون أن يكون ملزماً بتكليف المدين رسمياً بالوفاء ، فإن هذا الحكم لا يكون قد خالف القانون في شيء " ( نقض مدني في 21 ديسمبر سنة 1939 مجموعة عمر 3 رقم 17 ص 36 ) . وقضت أيضاً " بان القانون لم يشترط الفاظا معينة للشرط الفاسخ الصريح في معنى المادة 334 من القانون المدني ( القديم ) . وعلى ذلك فإذا ما اثبت الحكم أن طرفي عقد البيع قد اتفقا في العقد على أن يودع العقد لدى أمين حتى يوفى المشتري الثمن في الميعاد المتفق عليه . ونصا على أنه عند إخلال المشتري بشروط العقد يصرح الطرفان للمودع لديه باعدام هذا العقد ، ثم قرر الحكم أن المستفاد من ذلك أن نية المتعاقدين اتجهت عند تحرير هذا العقد إلى الشرط الفاسخ الصريح ، أي اعتبار العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه عند الإخلال بشروطه ، فإنه لا يكون قد مسخ مدلول نص العقد لأن عبارته تحتمل ما استخلصه الحكم منها " ( نقض مدني في 23 ديسمبر سنة 1948 مجموعة عمر 5 رقم 356 ص 688 ) .
( [894] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 220 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " في العقود الملزمة للجانبين إذا انقضى التزام بسبب استحالة تنفيذه انقضت معه الالتزامات المقابلة له ، وينفسخ العقد من تلقاء نفسه دون حاجة إلى حكم قضائي ، مع عدم الإخلال بالتعويضات إن كان لها مقتض " . وحذفت لجنة المراقبة عبارة " من عدم الإخلال بالتعويضات إن كان لها مقتض " ، وأصبح رقم المادة 163 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على النص . في لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ نوقشت عبارة " دون حاجة إلى حكم قضائي " فقيل في الدفاع عن بقائها إنها عبارة بيانية لأن الأصل في الفسخ أن يصدر به حكم من القضاء ، فإذا كان متفقاً عليه في العقد وقع من وقت تحقق سببه ، وإذا رفع الأمر إلى القضاء اقتصر على التحقق من قيام هذا السبب دون أن يملك حرية التقدير . ولكن اللجنة حذفت هذه العبارة " لأنها تريد قد يوحى بتقييد حق الترافع إلى القضاء وهذا حق لم يقصد النص إلى حرمان أحد العاقدين منه ، وكل ما قصد إليه أن الفسخ يعتبر واقعاً بمجرد انقضاء الالتزام المقابل بسبب استحالة التنفيذ " . وأصبح رقم المادة 159 . ووافق عليها مجلس الشيوخ كما عدلتها لجنته . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 324 – ص 326 ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " يبقى بعد ذلك أمر الفسخ القانوني وهو يقع عند انقضاء الالتزام على اثر استحالة تنفيذه . فانقضاء هذا الالتزام يستتبع انقضاء الالتزام المقابل له لتخلف سببه ، ولهذه العلة ينفسخ العقد من تلقاء نفسه أو بحكم القانون بغير حاجة إلى التقاضي بل وبغير إعذار ، متى وضحت استحالة التنفيذ وضوحاً كافياً . على أن الترافع إلى القضاء قد يكون ضرورياً عند منازعة الدائن أو المدين في وقوع الفسخ . بيد أن موقف القاضي في هذه الحالة يقتصر على الاستيثاق من أن التنفيذ قد أصبح مستحيلا ، فإذا تحقق من ذلك يثبت وقوع الفسخ بحكم القانون ، ثم يقضي بالتعويض أو يرفض القضاء به ، تبعاً لما إذا كانت هذه الاستحالة راجعة إلى خطأ المدين أو تقصيره أو إلى سبب أجنبي لا يد له فيه " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 328 ) – هذا ويلاحظ أن العبارة الأخيرة من المذكرة الإيضاحية التي وضعنا تحتها خطاً غير صحيحة ، لأنها تفترض أن الاستحالة التي ينفسخ بها العقد قد تكون راجعة إلى خطأ المدين ، والصحيح أن الاستحالة لا ينفسخ بها العقد من تلقاء نفسه إلا إذا كانت راجعة إلى سبب أجنبي .
( [895] ) قارن نظرية العقد للمؤلف فقرة 640 والهامش رقم 1 من ص 685 .
( [896] ) هذا وقد تكون استحالة تنفيذ الالتزام قائمة قبل نشوئه أو تكون قد جدت بعد ذلك ، فإن كانت قائمة قبل نشوئه وكانت استحالة مطلقة ، كان العقد باطلا لاستحالة المحل . أما إذا كانت الاستحالة نسبية ، سواء كانت قائمة قبل نشوء الالتزام أو جدت بعده ، وكذلك إذا كانت مطلقة ولكنها لم توجد إلا بعد نشوء الالتزام ، فإن العقد ينشأ صحيحاً ثم ينفسخ .
والمارد بالالتزام الذي استحال تنفيذه هو الالتزام الأساسي الناشيء من العقد ، دون الالتزام الثانوي أو التبعي . فالتزام البائع الأساسي هو نقل الملكية والتسليم ، والتزام المشتري الأساسي هو دفع الثمن . كذلك يعتبر التزاما أساسياً في عقد الإيجار التزام المؤجر بتسليم العين والتزامه بتمكين المستأجر من الانتفاع ، والتزام المستأجر بدفع الأجرة والتزامه بالمحافظة على العين .
( [897] ) أنظر في هذا المعنى رسالة الدكتور محمد زكي عبد البر في نظرية تحمل التبعة في الفقه الإسلامي القاهرة سنة 1950 فقرة 26 .
( [898] ) أنظر في الموضوع رسالة الدكتور محمد زكي عبد البر التي سبقت الإشارة إليها - والقانون الفرنسي يجعل التبعة في عقد البيع على الدائن لا على الدين ، فإذا هلك المبيع قبل تسليمه هلك على المشتري لا على البائع ، فالهلاك يكون إذن على المالك ( res perit domino ) أنظر م 1624 من القانون المدني الفرنسي ) . وكذلك فعل في عقد المقايضة ( م 1707 ) . ولكنه عدل عن هذا الحكم ، وجعل الهلاك على المدين ، إذا كان في العقد شرط واقف وهلك الشيء قبل تحقق الشرط . كذلك جعل تبعة الهلاك في عقد الشركة على المدين ( م 1867 فقرة أولى ) – والقانون المصري القديم كان في مثل هذا الاضطراب ، فهو في البيع يجعل تبعة الهلاك على المدين طبقاً للقاعدة العامة التي قدمناها في تحمل التبعة ( م 297 / 371 ) ، وكذلك يجعل التبعة على المدين في العقد المعلق على شرط واقف تمشياً مع هذه القاعدة العامة ( م 106 / 160 ) . ولكنه من جهة أخرى يجعل التبعة على الدائن في بيع المقدرات ( م 241 / 307 ) وفي عقد الشركة ( م 424 / 516 ) – أنظر في هذه المسألة نظرية العقد للمؤلف فقرة 660 .
وقد تجنب القانون المصري الجديد هذا الاضطراب ، وجعل القاعدة العامة التي تقضي بأن التبعة على المدين في العقد الملزم للجانبين قاعدة مضطردة . فطبقها في البيع ، سواء كان بيع عين معينة أو بيع مقدرات ( م 437 ) ، وطبقها في عقد الشركة ( م 511 ) ، وطبقها في العقد المعلق على شرط واقف ، بل إنه أنكر على الشرط أثره الرجعي إذا أصبح تنفيذ الالتزام قبل تحقق الشرط مستحيلا لسبب أجنبي ( م 270 فقرة 2 ) وطبقها في العقود غير المناقلة للملكية ، كالإيجار ( م 569 ) والمقاولة ( م 664 – 665 ) .
( [899] ) أنظر في الأثر الذي يترتب على إنفساخ العقد الزمني رسالة الدكتور عبد لاحي حجازي في عقد المدة ص 160 – ص 162 .
( [900] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 222 من المادة 222 من المشروع التمهيدي على النحو الآتي : " 1 - في العقود الملزمة للجانبين يجوز لكل من المتعاقدين أن يمتنع عن تنفيذ التزامه إذا يقم المتعاقد الآخر تنفيذ ما التزم به ، إلا إذا اختلف ميعاد الوفاء لكل من الالتزامين – 2 – على أنه لا يجوز للمتعاقد أن يمتنع عن تنفيذ التزامه إذا كان ما لم ينفذ من الالتزام المقابل ضئيلا بحيث يكون امتناعه عن التنفيذ غير متفق مع ما يجب توفره من حسن النية " وفي لجنة المراجعة حذف الفقرة الثانية لأنها تطبيق لنظرية التعسف في استعمال الحق ، وأدخلت تعديلات لفظية على الفقرة الأولى بحيث أصبحت مطابقة للنص الوارد في القانون الجديد ، وأصبح رقم المادة 165 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على النص ، كما وافقت عليه لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم المادة 161 ، ووافق عليه مجلس الشيوخ . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 330 – ص 335 ) .
( [901] ) ويقول الفرنسيون تعبيراً عن هذا المعنى : " التنفيذ مثلا بمثل " ( execution trait pour trait ) . ويترجمون بذلك عن تعبير ألماني مشهور ( Erfullun Zug um Zug ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " فمن الأصول التي يقوم عليها نظام العقود الملزمة للجانبين ارتباط تنفيذ الالتزامات المتقابلة فيها على وجه التبادل أو القصاص . فإذا استحق الوفاء بهذه الالتزامات فلا يجوز تفريعاً على ما تقدم أن يجبر أحد المتعاقدين على تنفيذ ما التزم به قبل قيام المتعاقد الآخر بتنفيذ الالتزام المقابل . وعلى هذا الأساس يتعين أن تنفيذ الالتزامات المتقابلة في وقت واحد . وتجوز الاستعانة بإجراءات العرض الحقيقي لمعرفة المتخلف عن الوفاء من المتعاقدين ، فلكل من المتعاقدين إزاء ذلك أن يحتبس ما يجب أن يوفي به حتى يؤدي إليه ما هو مستحق له ، وهو باعتصامه بهذا الحق أو الدفع إنما يوقف أحكام العقد لا أكثر . فالعقد لا يفسخ في هذه الصورة ، ولا تنقضي الالتزامات الناشئة عنه على وجه الإطلاق ، بل يقتصر الأمر على وقف تنفيذه . وهذا هو الفارق الجوهري بين الفسخ والدفع بعدم تنفيذ العقد " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 333 ) .
( [902] ) نظرية العقد للمؤلف فقرة 666 .
( [903] ) أنظر في الدفع بعدم تنفيذ العقد في الفقه الإسلامي رسالة الدكتور صلاح الدين الناهي في الامتناع المشروع عن الوفاء ص 306 وما بعدها .
( [904] ) أنظر في القانون المدني القديم في العلاقة ما بين الدفع بعدم التنفيذ باعتباره أصلاً والحق في الحبس باعتباره يتفرع عن هذا الأصل ، نظرية العقد للمؤلف فقرة 668 .
( [905] ) وإذا أغفلنا فكرة الارتباط ، واكتفينا بأن يكون هناك شخصان كل منهما مدين للأخر ، وأريد أن يكون لكل منهما الحق في أن يمتنع عن تنفيذ التزامه إلى أن يقوم الآخر بتنفيذ ما عليه من التزام ، أمكن أن يتحقق هذا عملا بأحد طريقين : الطلبات الفرعية وحجز الدائن تحت يد نفسه .
هذا ويمكن أن ندرك أيضاً ما يقوم من الارتباط الوثيق بين نظم قانونية أربعة : المقاصة والفسخ والدفع بعدم التنفيذ والحق في الحبس . وهي نظم ترجع كلها إلى فكرة واحدة هي تقابل الالتزامات . فحيث يوجد شخصان كل منهما مدين للأخر ، يكون من العدل أن يستوفى كل منهما ماله من حق مما عليه من دين – وهذه هي المقاصة والفسخ – أو في القليل يقف وفاء ما عليه من دين حتى يستوفى ما له ، حق – وهذا هو الدفع بعدم التنفيذ والحق في الحبس . ومما يثبت أن هذه النظم القانونية مبنية على أساس واحد أن الرومان كانوا يعالجونها علاجاً واحداً هو الدفع بالغش ، يستعملونه في المقاصة والدفع بعدم التنفيذ والحق في الحبس . والحق في الحبس ، كالدفع بعدم التنفيذ ليس إلا دفعاً ، وقد أعطاه القانون الجديد وصفه الحقيقي ، وخلع عنه لباس الحق العيني الذي كان يرتديه في عهد القانون القديم فيشوه طبيعته ( أنظر نظرية العقد للمؤلف ص 713 هامش رقم 1 ) .
( [906] ) وقد كان هذا الحكم منصوصاً عليه في المادة 224 من المشروع التمهيدي ، وقد حذفتها لجنة المراجعة لأنها مجرد تطبيق للقواعد العامة في الحق في الحبس ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 331 في الهامش ) . وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ( أنظر آنفاً فقرة 479 في الهامش ) .
( [907] ) قارن المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 332 فقرة 1 وص 334 فقرة 4 ) . وانظر في هذا المعنى الدكتور حلمي بهجت بدوي بك فقرة 359 – فقرة 360 – رسالة الدكتور صلاح الدين الناهي في الامتناع المشروع عن الوفاء فقرة 80 وفقرة 97 – وانظر أيضاً في هذا المعنى استئناف مختلط في 12 فبراير سنة 1936 م 48 ص 123 .
هذا وقد أورد القانون المدني الجديد تطبيقات جزئية متفرقة لمبدأ الدفع بعدم التنفيذ ، نذكر منها المواد 457 و 459 و 605 .
فالفقرتان الثانية والثالثة من المادة 457 تقضيان بأنه " 2 - فإذا تعرض أحد للمشتري مستندا إلى حق سابق على البيع أو آيل من البائع ، أو إذا خيف على المبيع أن ينزع من يد المشتري ، جاز له ما لم يمنعه شرط في العقد أن يحبس الثمن حتى ينقطع التعرض أو يزول الخطر . ومع ذلك يجوز للبائع في هذه الحالة أن يطالب باستيفاء الثمن على أن يقدم كفيلا . 3 - ويسري حكم الفقرة السابقة في حالة ما إذا كشف المشتري عيبا في المبيع " .
وتنص المادة 459 على أنه : " 1 - إذا كان الثمن كله أو بعضه مستحق الدفع في الحال فللبائع أن يحبس المبيع حتى يستوفي ما هو مستحق له ولو قدم المشتري رهنا أو كفالة . هذا ما لم يمنح البائع المشتري أجلا بعد البيع . 2 - وكذلك يجوز للبائع أن يحبس المبيع ولو لم يحل الأجل المشترط لدفع الثمن إذا سقط حق المشتري في الأجل طبقا لأحكام المادة 273 " .
وتنص المادة 605 على أنه : " 1 - لا يجوز لمن انتقلت إليه ملكية العين المؤجرة ولم كن الإيجار نافذاً فى حقه أن يجبر المستأجر على الإخلاء إلا بعد التنبيه عليه بذلك فى المواعيد المبينة فى المادة 563 . 2 - فإذا نبه على المستأجر بالإخلاء قبل انقضاء الإيجار فإن المؤجر يلتزم بأن يدفع للمستأجر تعويضاً ما لم يتفق على غير ذلك ، ولا يجبر المستأجر على الإخلاء إلا بعد أن يتقاضى التعويض من المؤجر أو ممن انتقلت إليه الملكية نيابة عن المؤجر أو بعد أن يحصل على تأمين كاف للوفاء بهذا التعويض " . والجديد في هذا النص الأخير أنه يجعل المستأجر وهو دائن بالتعويض للمؤجر يحسب العين على المالك ، أو قل إن حق الحبس قبل المؤجر ينفذ في حق المالك .
( [908] ) ولا يكفي أن يكون العقد ملزماً للجانبين وأن يكون الالتزام الذي يدفع بعدم تنفيذه التزاماً واجب التنفيذ حالا ، بل يجب إلى ذلك ألا يساء استعمال الدفع . فلا يجوز لمتعاقد أن يتمسك بالدفع إذا كان هو البادئ بعدم تنفيذه ، أو إذا تسبب في عدم تنفيذ الالتزام الآخر . كذلك لا يجوز التمسك بالدفع إذا كان المتعاقد الآخر قد قام بمعظم التزامه ولم يبق إلا جزء يسير لا يبرر امتناع المتعاقد الأول عن القيام بالتزامه . وكل ما يحق للمتعاقد الأول أن يفعله هو أن يبقى دون تنفيذ جزءاً من التزامه يقابل الجزء غير المنفذ من التزام المتعاقد الآخر بفرض أن الالتزام الأول قابل للتجزئة . كذلك لا يجوز أن يمتنع المشتري عن دفع الثمن بحجة أن هناك خطراً يتهدد العين إذا كان هذا الخطر ليس بجدي ، ولا أن يمتنع المستأجر عن دفع الأجرة بحجة أنه يطالب المؤجر بترميمات ينكرها عليه .
وقد كان المشروع التمهيدي يتضمن نصاً يجري على الوجه الآتي : " على أنه لا يجوز للمتعاقد أن يمتنع عن تنفيذ التزامه إذا كان ما لم ينفذ من الالتزام المقابل ضئيلاً بحيث يكون امتناعه عن التنفيذ غير متفق مع ما يجب توافره من حسن النية " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 331 ) . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ومهما يكن من شيء فليس يباح للعاقد أن سيء استعمال هذا الدفع . فلا يجوز له أن يتمسك به ليمتنع عن تنفيذ التزامه إذا كان الالتزام المقابل كاد أن يكمل نفاذه ، وأصبح ما لم ينفذ منه ضئيلاً لدرجة لا تبرر اتخاذ هذا الإجراء " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 333 ) . وقد حذف هذا النص في لجنة المراجعة لأنه مجرد تطبيق لنظرية التعسف في استعمال الحق ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 334 ) – أنظر في هذه المسألة رسالة الدكتور صلاح الدين الناهي في الامتناع المشروع عن الوفاء فقرة 174 – وانظر في أحوال يسقط فيها الدفع بعدم التنفيذ نظرية العقد للمؤلف فقرة 670 .
( [909] ) وقد كان هناك نص في المشروع التمهيدي يجزي حتى في هذه الحالة أن يمتنع المتعاقد المكلف بالتنفيذ أولاً عن التنفيذ إذا أصاب المتعاقد الآخر نقص في ماله بعد إبرام العقد ، فكانت المادة 223 من هذا المشروع تجري على النحو الآتي : " في العقود الملزمة للجانبين ، إذا أصاب أحد المتعاقدين نقص في ماله بعد إبرام العقد ، أو إذا طرأ على مركزه المالي ما يخشى معه أن يكون عاجزاً عن تنفيذ التزامه ، جاز للمتعاقد الآخر إذا كان هو المكل بتنفيذ العقد أولاً ، أن يمتنع عن تنفيذ التزامه حتى يقوم المتعاقد الأول بتنفيذ ما تعهد به أو يعطي ضماناً كافياُ لهذا التنفيذ . فإذا لم يتم التنفيذ أو يعط الضمان في وقت مناسب جازت المطالبة بفسخ العقد " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 331 في الهامش ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ومع ذلك فقد أجيز له ( أي المتعاقد المكلف بالتنفيذ أولاً ) استثناء أن يمتنع عن تنفيذ التزامه حتى يقوم العاقد الآخر بوفاء ما تعهد به أو يقدم ضماناً كافياً لهذا الوفاء ، إذا أصاب هذا العاقد بعد إبرام العقد نقص في ماله من شأنه أن يؤثر في يساره أو طرأ عليه من الضيق ما قد يقعد به عن تنفيذ ما التزم به . وينبغي التحرز من اعتبار هذا الاستثناء مجرد تطبيق للمادة 396 من المشروع ، وهي التي تناولت سرد مسقطات الأجل وحصرتها في الإعسار أو الإفلاس وضعف التأمينات الخاصة والامتناع عن تقديم ما وعد بتقديمه منها . فالحالة التي يسري عليها حكم الاستثناء أقل جسامة من ذلك ، فهي تفترض نقصاً بليغاً في مال العاقد ، ولكنه نقص لا يستتبع الإفلاس أو الإعسار ، ومن ثم انزلت هذه الحالة منزلة الاستثناء ، فلو لم تكن لها هذه الخصوصيات لانتهى أمرها إلى إسقاط الأجل ، وبذلك يحل الوفاء بالالتزامات المتقابلة جميعاً وينبغي تنفيذها في أن واحد نزولا على أحكام القواعد العامة . فإذا لم يقم المتعاقد الذي استهدف مركزه للخطر بالوفاء بما التزم به أو بتقديم ضمان كاف في مدة معقولة ، كان للمتعاقد معه إلا يقتصر على إيقاف العقد ، بل له أن يجاوز ذلك إلى طلب الفسخ . ويعتبر هذا الحكم استثناء من القواعد العامة في الفسخ أيضاً لأن الالتزام الذي تخلف العاقد عن الوفاء به لم يصبح مستحق الأداء " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 333 – ص 334 ) – ولكن هذا النص في المشروع التمهيدي حذفته لجنة المراجعة في المشروع النهائي ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 331 في الهامش ) . ولما كان نصاً استثنائياً فلا مجال لتطبيقه بعد حذفه ( أنظر في هذا الموضوع رسالة الدكتور صلاح الدين الناهي في الامتناع المشروع عن الوفاء فقرة 166 – فقرة 167 ) .
( [910] ) أنظر استئناف مختلط في 13 ابريل سنة 1922 م 34 ص 330 .
( [911] ) أنظر المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 333 فقرة 2 – وانظر آنفاً فقرة 495 في الهامش ) .
( [912] ) أنظر في هذا الموضوع رسالة الدكتور عبد الحي حجازي في عقد المدة ص 166 – ص 177 .
( [913] ) أنظر أيضاً المادة 605 فقرة 2 في تمسك المستأجر بحبس العين المؤجرة في مواجهة من انتقلت إليه ملكيتها . وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ( أنظر آنفاً فقرة 493 في الهامش ) .
( [914] ) أنظر في هذا الموضوع نظرية العقد للمؤلف فقرة 677 .
( [915] ) أنظر في قيام المسئولية المدنية دون المسئولية الجنائية : استئناف مختلط في 24 نوفمبر سنة 1927 م 40 ص 49 – وفي 2 مارس سنة 1948 م 61 ص 81 – وفي ترتب المسئولية المدنية دون المسئولية الجنائية في التزوير واستعمال الورقة المزورة : نقض جنائي في 30 مارس سنة 1942 المحاماة 23 رقم 32 ص 58 – وفي قيام المسئولية الجنائية على خطأ لمسئول مع قيام المسئولية المدنية على خطأ مشترك : استئناف مختلط في أول مايو سنة 1946 م 58 ص 81 .
وقضت محكمة النقض بأن قرار الحفظ الذي تصدره النيابة العامة أياً كان سببه ، سواء لأنها قدرت أن وقوع الحادث لا يرد إلى خطأ مهما كانت صوره ، أو لأن نسبة الخطأ إلى شخص بعينه غير صحيح أو لم يقم عليه دليل كاف – هذا القرار لا يجوز قوة الأمر المقضي قبل المضرور بالحادث ، فلا يحول بينه وبين الدعوى المدنية يقيم فيها الدليل على الخطأ ونسبته إلى المدعى عليه فيها ( نقض مدني في 27 أكتوبر سنة 1949 طعن رقم 34 سنة 18 قضائية لم ينشر ) .
( [916] ) قد يكون الإهمال الصادر من المتهم لا يكفي لمساءلته جنائياً ، ويكفي للمسئولية المدنية حيث تقوم هذه المسئولية على خطأ مفروض في بعض الأحوال . على أن محكمة النقض قد قضت بأن الإهمال في جريمة الجرح باهمال المنصوص عليها في المادة 244 من قانون العقوبات لا يختلف في أي عنصر ، عناصره عن الخطأ غير المفروض الذي يستوجب المساءلة المدنية ، فبراءة المتهم في الدعوى الجنائية لعدم ثبوت الخطأ المدعى به تستلزم حتما رفض الدعوى المدنية المؤسسة على هذا الخطأ ( نقض جنائي في 8 مارس سنة 1943 المحاماة 25 رقم 45 ص 132 ) .
( [917] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا كيف محكمة الموضوع ما ثبت لها من وقائع الدعوى تكييفاً خاطئاً نقلت به الدعوى عن حقيقتها ، وأعطتها حكماً قانونياً غير ما يجب اعطاؤه لمثلها ، كأن اعتبرت التقصير في تنفيذ عقد المقايضة بالتسليم خطأ فعلياً ( faute delictuelle ) كالاغتصاب يوجب التضمين على المقصر من يوم تقصيره لا من يوم التنبيه الرسمي ، فإن الحكم الذي تصدره بهذا يكون مخالفاً للقانون ويتعين نقضه ( نقض مدني في 11 ابريل سنة 1935 ( مجموعة عمر 1 رقم 243 ص 666 ) .
( [918] ) استئناف مختلط في 29 مارس سنة 1944 م 56 ص 98 .
( [919] ) هذا إلى أن عبء الإثبات – من الناحية العملية المحضة – يبدو فرقا جوهرياً ما بين المسئوليتين . وقد كان هو والإعفاء الاتفاقي من المسئولية سببين رئيسين لتلمس المسئولية العقدية في بعض القروض – كما في عقد نقل الأشخاص والتزام أمين النقل بسلامة الراكب التزاماً كيف بأنه التزام عقدي – أو للقول بالخيرة ما بين المسئوليتين – كما في عقد النقل إذا اقترن بشرط الإعفاء فإن القول بالخيرة يمكن من اختيار المسئولية التقصيرية وهذه لا يجوز الاتفاق على الإعفاء منها .
( [920] ) سيأتي تفصيل للأحكام التي تطبق في النقل المجاني فيما يلي ( أنظر فقرة 546 ) .
( [921] ) ويصعب هذا بنوع خاص في العقود التي تشتمل على التزام بكفالة السلامة ( obligation de securite ) . فعقد نقل الأشياء يتضمن دون شك هذا الالتزام ، ويعتبر أمين النقل مسئولا مسئولية عقدية إذا تلفت الأشياء التي تعيد ينقلها في أثناء النقل . أما عقد نقل الأشخاص ، فالأمر فيه ليس واضحاً وضوحه في عقد نقل الأشياء . ذلك أن الشيء إذا تسلمه أمين النقل لنقله يخضع خضوعاً تاماً لسيطرته ، إذ ليست له حركة ذاتية ، أو له هذه الحركة كالحيوان ولكن يمكن ضبطها . أما الشخص الذي يتعهد أمين النقل بنقله فله حركة ذاتية ، لا يخضع زمامها خضوعاً تاماً لسيطرة أمين النقل . على أن القضاء والفقه ، في مصر وفي فرنسا ، يرتبان التزاماً بكفالة السلامة في ذمة أمين النقل ، حتى بالنسبة إلى نقل الأشخاص .
والالتزام بالسلامة يختلف مداه في عقد عنه في عقد آخر ، ففي بعض العقود يكون التزاماً يبذل عناية ، كالتزام الطيب في علاج المريض ، يكفي فيه أن يثبت الطبيب أنه اصطنع الحيطة واليقظة بالقدر المطلوب في صناعة الطب حتى يكون قد وفى التزامه ولو لم يشف المريض فلا تتحقق مسئوليته العقدية . وفي عقود أخرى ، كعقد النقل المتقدم الذكر ، يكون التزاماً بتحقيق غاية ، فيكفل المدين سلامة الدائن ، ولا تنتفي مسئوليته العقدية إلا إذا أثبت السبب الأجنبي .
( أنظر في الالتزام بكفالة السلامة مازو 1 ص 165 – ص 189 ) .
( [922] ) ومن هذه الطرق الرجوع إلى النصوص التشريعية المفسرة لإرادة المتعاقدين أو المكملة لها . وهذه النصوص كثيرة في العقود المسماة .
( [923] ) وسنرى فيما بعد أن هذا هو أيضاً قضاء محكمة النقض في مصر في دائرتها المدنية ( نقض مدني في 5 يناير سنة 1939 مجموعة عمر 2 رقم 154 ص 452 ) . أما الدائرة الجنائية فتذب إلى عكس ذلك ( نقض جنائي في 8 مارس سنة 1943 المحاماة 25 رقم 45 ص 132 ) .
( [924] ) أنظر في انقسام القضاء والفقه في فرنسا مازو 1 فقرة 188 – فقرة 207 – بلانيول وريبير وبولانجيه فقرة 933 – فقرة 938 .
أما في مصر فيبدو أن الكثرة من أحكام القضاء الوطني والمختلط تنزع إلى جواز الخيرة ما بين المسئوليتين . ومن ذلك ما قضت به محكمة الاستئناف المختلطة من أنه إذا اشترط المؤجر عدم مسئوليته عما يصيب للمستأجر من الضرر من العين المؤجرة ، فإن هذا الشرط لا يخلى المؤجر من مسئوليته عما يصيب للمستأجر من الضرر من العين المؤجرة ، فإن هذا الشرط لا يخلى المؤجر من مسئوليته التقصيرية عن هذا الضرر ( استئناف مختلط في أول ابريل سنة 1891 م 3 ص 271 – وفي 10 يناير 1924 م 36 ص 140 – وفي 6 مايو سنة 1926 م 38 ص 396 ) . ومن ذلك أيضاً ما قضت به هذه المحكمة من أنه إذا كان القانون المدني ( القديم ) لا يلزم المؤجر بالقيام بأية مرمة ، فإن هذا لا يخليه من المسئولية التقصيرية عن الضرر الذي يصيب المستأجر بسبب تقصير المؤجر في ترميم ملكه ( استئناف مختلط في 20 فبراير سنة 1902 م 14 من 154 – و في 5 يونية سنة 1923 م 35 ص 485 ) . ومن ذلك ما قضت به كل من محكمة الاستئناف الوطنية ومحكمة الاستئناف المختلطة من أنه إذا اشترطت مصلحة السكك الحديدية تحديد مسئوليتها في مبلغ معين في حالة ضياع البضاعة المشحونة ، فإن هذا الشرط لا يسري في مسئولية هذه المصلحة مسئولية تقصيرية عن عمالها أو عن الغير ( استئناف وطني في 10 فبراير سنة 191 المجموعة الرسمية 11 ص 245 – وفي 25 يولية سنة 1922 المحاماة 2 ص 480 – استئناف مختلط في 15 مايو سنة 1920 م 32 ص 330 – وفي 29 ديسمبر سنة 1920 م 33 ص 98 – وفي 8 ديسمبر سنة 1921 م 34 ص 45 – وفي 8 يونية سنة 1922 م 34 ص 474 – وفي 8 ابريل سنة 1926 م 37 ص 434 – وأنظر عكس ذلك استئناف وطني في 2 مايو سنة 1922 المحاماة 3 ص 29 – استئناف مختلط في 23 ديسمبر 1943 م 56 ص 26 .
وقد قضت محكمة استئناف الاسكندرية الوطنية أخيراً بجواز الخيرة ما بين المسئوليتين ، إذ قررت أنه " لا شبهة . . في التزام الناقل ضمناً بسلامة الراكب إلى الجهة المتعاقد على المنقل إليها ، لأن هذا الالتزام هو أول مميزات هذا النوع من التعاقد . . وأن مؤدى الأخذ بهذا النظر الاستناد في طلب التعويض إلى أحد الاساسين ، المسئولية التقصيرية أو المسئولية التعاقدية ، حسبما يتسنى لطالب التعويض . فإذا قصرت وسائله عن إثبات عناصر الأولى أمكن الاستناد إلى الثانية عند توافر أركانها ( استئناف الإسكندرية في 5 فبراير سنة 1950 المحاماة 30 رقم 276 ص 501 ) – ويلاحظ أن المحكمة لم تكن في حاجة إلى القول في هذه القضية بجواز الخيرة بين المسئوليتين ، فإن الخيرة إنما تظهر قائدتها في الانتقال من المسئولية العقدية إلى المسئولية التقصيرية . أما هنا فقد انتقلت المحكمة من المسئولية التقصيرية إلى المسئولية العقدية ، وكان يكفيها أن تقرر أن عقد النقل ينشيء التزاماً عقدياً بضمان سلامة الراكب ، يستطيع أن يستند إليه الدائن في مطالبة المدين بإثبات أنه قد وفى بهذا الالتزام .
أما محكمة النقض فلم تبت حتى الآن في هذه المسألة بقضاء حاسم ، فقد أخذت في قضية بالمسئولية العقدية ؛ ولكنها لم تذكر أنها استبعدت المسئولية التقصيرية لقيام المسئولية العقدية ، وهذا هو ما قضت به : " ليس لرب العمل أن يستقل بما من شأنها أن يزيد في إخطار العمل الذي استخدم العامل لأدائه . فإن هو فعل صح اعتباره مخلا بعقد الاستخدام إخلال يصلح أساساً لمسئوليته . ولما كان الثابت في الحكم أن عقد استخدام ملاحي سفينة الطاعن لم يرد فيه ما يفيد أنه معت؟؟ تأجيرها لدولة محاربة ، وأن هؤلاء الملاحين لم يحاطوا علماً بهذا التأجير ، وكان هذا التأجير من شأنه طبيعة أن يزيد في إخطار عملهم ، فلا مخالفة للقانون إذا كان محكمة الموضوع قد رأت أن قيام الطاعن بهذا التأجير فيه خطا من جانبه في حق عماله . هذا وإذا كانت المحكمة المذكورة قد رتبت على هذا الخطأ مسئولية الطاعن عن فقد ملاحي السفينة على اعتبار أن هذا الفقد كان نتيجة لهذا الخطأ ، فإن رأيها في ذلك إنما هو رأي في مسألة واقعية فلا تملك محكمة النقض من تراقبه . ومتى استقام الحكم على أساس قواعد المسئولية العقدية ، كان ما ورد فيه خاصاً بتطبيق أحكام قانون التجارة البحري تزيداً ، وكان ما جاء في الطعن منصباً عليه غير منتج ( نقض مدني في 4 مارس سنة 1948 مجموعة عمر 5 رقم 280 ص 553 ) .
وفي قضية أخرى يبدو أن محكمة النقض لا تأبى ان يقوم التعويض على أساس كل من المسئوليتين ، فقد قضت بأنه " ما دام الحكم قد أقام مسئولية المحكوم عليه بالتعويض على كلا الاساسين : العقد والفعل الضار ، فإنه لا تكون به حاجة إلى تطبيق المادة 120 من القانون المدني ( القديم ) التي تنص على أن التضمينات لا تستحق إلا بعد تكليف المتعهد بالوفاء تكليفاً رسمياً ، إذ هذه المادة لا تنطبق على المسئولية عن الأفعال الضارة واذ أن الإعذار الي تنص عليه غير لازم في حالة المسئولية العقدية عند الإخلال بالتزام سلمى ( نقض ( مدني في أول يناير سنة 1948 مجموعة عمر 5 رقم 251 ص 513 ) .
وأما الفقه في مصر فمقسم . فمن الفقهاء من يقول بجواز الخيرة ( مصطفى مرعى بك في المسئولية المدنية فقرة 28 ) – وقد كنا نقول بها في الموجز ( فقرة 301 ) .ومنهم من يقول بقصر الدائن على المسئولية العقدية ( الدكتور سليمان مرقص في الفعل الضار ص 17 ) .
( [925] ) قارن الموجز للمؤلف فقرة 301 .
( [926] ) ' Toutes les petces et tous les dommages, qut peuvent ariver per le fait de quelques personnes sot imprudence , legerete , ignorance de ce qu'on joit savoir , ou autres fautes scmblables , si legere qu'elles puissant etre, doiyent etre repares par celui dout l'imrudence ou autre faute y a donne lieuy .
( [927] ) " On peut destinguer trios sortes de fautes don’t il peut arriver quelques dommages ; celles qui vont a un crime ou a un delit ; celles des personnes qui manquent aux engagements des conventions comme un verideur que ne deliver pas la chose vendue , un locataire qui ne fait pas les reparations don’t il est tenu , et celles qui n'ont pas de rapport aux conventions et qui ne vont pas a un crime ni a un delit, comme si par legerete on jefte quelque chose par une fenetre qui gate un habit ' si des animaux mal gardes font quelque . Dommage , si on cause un incendie par imprudence , si un bitiment qui menace ruine, netant pas repare , tombe sur un autre et y fait des dommagess .
( [928] ) من ذلك قانون 5 ابريل سنة 1937 ويتلعق بمسئولية المعلمين عن تلاميذهم ، وقد ألغى به قانون 20 يولية سنة 1899 . وقد استبقى هذا القانون مسئولية الدولة قائمة مكان مسئولية المعلمين ، ولكنه تطلب لتحقق هذه المسئولية إثبات خطا في جانب المعلم بعد أن كان هذا الخطأ مفروضاً .
ومن ذلك أيضاً قانون 7 نوفمبر سنة 1922 يستثنى فيه من المادة 1384 – بعد أن سلم أن هذه المادة تقيم المسئولية عن الأشياء على خطأ مفروض – حالة الحريق ، فجعل المسئولية فيها تقوم على خطأ واجب الإثبات .
( [929] ) الدكتور عبد السلام ذهني بك في الالتزامات فقرة 781 وما بعدها .
( [930] ) أنظر في هذه الأحكام الموجز في النظرية العامة للالتزامات للمؤلف ص 383 هامش رقم 2 . وانظر بنوع خاص : محكمة استئناف مصر الوطنية في 10 ابريل سنة 1927 المجموعة الرسمية 28 عدد 59 – محكمة الزقازيق الكلية في ) ابريل سنة 1929 المحاماة 10 رقم 88 ص 169 – محكمة مصر الكلية المختلطة في 17 يونية سنة 1929 20 رقم 188 ص 195 .
( [931] ) وهذا ما قضت به محكمة النقض : " إن القانون المصري لم يرد فيه ما يجعل الإنسان مسئولاً عن مخاطر ملكه التي لا يلابسها شيء من التقصير ، بل إن هذا النوع من المسئولية يرفضه الشارع المصري بتاتاً ، فلا يجوز للقاضي اعتماداً على المادة 29 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية أن يرتبه على اعتبار أن العدل يسيغه ، إذ أن هذه المادة لا يصح الرجوع إليها إلا عند عدم معالجة الشارع لموضوع ما وعدم وضعه لأحكام صريحة فيه جامعة مانعة واذن فالحكم الذي يرتب مسئولية الحكومة مدنياً عما يحدث لعامل على نظرية مسئولية مخاطر الملك التي لا تقصير فيها والمسئولية الشيئية يكون قد أنشأ نوعاً من المسئولية لم يقرره الشارع ولم يرده ، ويكون إذن قد خالف القانون ويتعين نقضه " ( نقض مدني في 15 نوفمبر سنة 1934 مجموعة عمر 1 ص 485 ) . وانظر أيضاً : استئناف مصر الوطنية في 26 نوفمبر سنة 1940 المحاماة 21 رقم 328 ص 745 – استئناف مختلط في 23 ابريل سنة 1941 م 53 ص 154 – وفي 22 ابريل سنة 1947 م 59 ص 181 – وفي 10 مارس سنة 1949 م 61 ص 109 ( تحمل التبعة الاجتماعية ) .
( [932] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " بالغ التقنين السابق في الالتزام الإيجاز بصدد الأحكام الخاصة بالعمل غير المشروع . وليس يخلو هذا الوضع من شيء من الغرابة . ولا سيما إذا روعى أن أحكام المسئولية التقصيرية قد أصابت ، منذ صدور التقنين المدني الفرنسي ، وبوجه خاص منذ صدور التقنينات المصرية ، من بسطة النطاق ما يؤهلها لأن تشغل في تقنين عصري مكاناً لا يدانيه في أهميته . ما أفرد لها حتى اليوم . وقد عرض المشروع لأحكام العمل غير المشروع في قسمين رئيسيين . أفرد أولهما للمسئولية عن الأعمال الشخصية ، وهي المسئولية العامة أصلاً ، وقوامها إثبات الخطأ ، أما القسم الثاني فقد جمعت فيه أحوال المسئولية عن عمل الغير والمسئولية الناشئة عن الأشياء ، وهي أحوال تقوم فيها المسئولية على افتراض الخطأ . وقد أسهل المشروع القسم الأول بالقاعدة الأساسية في المسئولية عن الخطأ الثابت ، فأفرغها في نص واضح موجز اقتبسه من المشروع الفرنسي الإيطالي . والواقع أن التقنينات اللاتينية ، في هذه الناحية ، أرقى في صياغتها التشريعية من التقنين الألماني ، فهذا التقنين ، بدلا من أن يضع مبدأ تنطوي في عمومه جميع التطبيقات التفصيلية للخطأ الشخصي ، يبدأ بطائفة من النصوص تعرض لحالات خاصة ، ومن هذه الحالات يستخلص المبدأ العام . وزمذهبه هذا يقرب من مذهب القانون الانجليزي ، ولكنه أخلق بنظام قانوني يقوم على أحكام القضاء ، وعلى التطبيق في المسائل التفريعية ، منه بتقنين يقصد به إلى تقرير مبادئ عامة . ولهذه العلة أعرضت عنه ذات التقنينات التي درجت على استلهاء التقنين الالمانين كتقنين الالتزامات السويسري والتقنين النمساوي المعدل والتقنين البولوبي " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 350 ) .
( [933] ) ومن أهم هذه التشريعات الخاصة التي أصدرها المشرع المصري ، وأخذ فيها بتحمل التبعية بالقدر المعقول ، نذكر ما يأتي :
1 - قانون رقم 89 لسنة 1950 بشأن إصابات العمل ( وقد حل محل القانون رقم 64 لسنة 1936 ) : ويقضي بأن لكل عامل أصيب بسبب العمل وفي أثناء تأديته ، الحق في الحصول من صاحب العمل على تعويض مقدر في القانون بحسب جسامة الاصابة ، ولا يعفى صاحب العمل من التعويض إلا إذا اثبت أن العامل قد تعمد اصابة نفسه أو أن الاصابة قد حدثت بسبب سوء سلوك فاحش ومقصود من جانب العامل . ولا يجوز للعامل فيما يتعلق بحوادث العمل أن يتمسك ضد رب العمل بأحكام أي قانون آخر ما لم يكن الحادث قد نشأ عن خطأ جسيم من جانب رب العمل وإذا كان صاحب العمل مؤمناً على حوادث العمل ، جاز للعامل أن يطالب بحقوقه رب العمل وشركة التامين معاً متضامنين . وإذا كانت الإصابة الوجبة للتعويض تقتضي قانوناً مسئولية شخص آخر خلاب رب العمل ، جاز للعامل أن يطالب بالتعويض رب العمل أو ذلك الشخص الآخر ، ويحل رب العمل الذي دفع التعويض محل العامل في حقوقه قبل الشخص المسئول ، كما يخصم التعويض الذي يقبضه العامل فعلا من الشخص المسئول من التعويض المستحق له قبل رب العمل ، وإذا دفعت شركة التامين قيمة التعويض فإنها تحل محل صاحب العمل في حقوقه . وقد فرض القانون رقم 86 لسنة 1942 التامين الإجباري على أصحاب الأعمال ، فقضى على كل صاحب عمل أن يؤمن على حوادث العمل التي يلزم بالتعويض عنها طبقا للقانون رقم 65 لسنة 1936 ( وقد حل محله القانون رقم 89 لسنة 1950 كما قدمنا ) بشأن إصابات العمل ، ولا يجوز تحيمل العمال أي نصيب في نفقات التامين بأية طريقة كانت .
2 – قانون رقم 117 لسنة 1950 بشأن التعويض عن أمراض المهنة : ويلحق أمراض المهنة باصابات العمل من حيث إلزام صاحب العمل بتعويض مقدر عن هذه الأمراض دون حاجة إلى إثبات خطئه ، ومن حيث فرض التامين الإجباري على أصحاب الأعمال .
3 - قانون رقم 88 لسنة 1942 بشأن التعويض على التلف الذي يصيب المباني والمصانع والمعامل والآلات الثابتة بسبب الحرب : وهو قانون مؤقت ، ويخصص للتعويض رأس مال يتكون من موارد متعددة ، أهمها ضريبة تجبى من المنتفعين بهذا القانون ( فهو بمثابة تأمين إجباري ) ومبلغ من الميزانية العامة معادل لما يجبى من هذه الضريبة .
4 - قانون رقم 29 لسنة 1944 بشأن تعويض أفراد طاقم السفن التجارية ضد إخطار الحرب : ويقضي على مالك السفينة ومجهزها ومستأجرها متضامنين بتعويض مقدر لمن يصاب بسبب أخطار الحرب من أفراد طاقم السفينة ( الربان وضباط الملاحة والمهندسين البحريين والبحارة وغيرهم ممن يقوم بأي عمل في السفينة ) .
5 - قانون رقم 130 لسنة 1948 بشأن تنظيم الإرشاد بميناء الإسكندرية : ويقضي بمسئولية السفينة – فيما عدا حالة الخطأ الجسيم من المرشد – عن كل هلاك أو ضرر يصيب سفينة الإرشاد أثناء عمليات الإرشاد ، ويقضي كذلك بتعويض للمرشد عند اضطراره للسفر مع السفينة بسبب سوء الأحوال الجوية أو بناء على طلب ربان السفينة .
( [934] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 230 من المشروع التهيدي على الوجه الآتي : " كل خطأ سبب ضرراً للغير يلزم من ارتكب الخطأ بتعويض الضرر " . وفي لجنة المراجعة عدلت المادة تعديلا لفظياً فصارت مطابقة للنص الوارد في القانون الجديد ، وأصبحت المادة 167 ف يالمشروع النهئاي . وقد وافق عليها مجلس النواب ، ثم لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم 163 ، ثم مجلس الشيوخ . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 353 – ص 356 ) .
وقد ورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " تنص المادة 230 من المشروع ( م 163 من القانون الجديد ) في عبارة أكثر ما تكون ايجازا ووضوحاً حكم المسئولية التقصيرية في عناصرها الثلاثة . فترتب الإلزام بالتعويض على ( كل خطأ سبب ضرراً للغي ر 9 . فلا بد أن من توافر خطأ وضرر ثم علاقة سببية تقوم بينهما . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 354 ) .
وتقابل المادة 163 من القانون الجديد المادة 151 من القانون الوطني القديم والمادة 212 من القانون المختلط القديم . وهذا نص كل منهما :
م 151 من القانون الوطني القديم : " كل فعل نشأ عن ضرر للغير يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر . . . . " .
م 212 من القانون المختلط القديم : " كل فعل مخالف للقانون يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر الناشيء عنه ما لم يكن الفاعل غير مدرك لأفعاله ، سواء لعدم تمييزه بالنسبة لسنه أو لأي سبب آخر " .
( [935] ) أنظر المادة 321 من القانون المختلط القديم ، وتقول : " كل فعل مخالف للقانون . . " . وقد سبق ذكرها .
( [936] ) وهذه هي عبارة بلانيول ذاتها : La fauto est un manquement a une obligation preexistante ( بلانيول 2 فقرة 863 ) .
( [937] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ويعني لفظ ( الخطأ ) في هذا المقام عن سائر النعوت والكنى التي تخطر للبعض في معرض التعبير كاصطلاح ( العمل غير المشروع ) ، أو ( العلم المخالف للقانون ) أو ( الفعل الذي يحرمه القانون ) الخ . . فهو يتناول الفعل السلبي ( الامتناع ) والفعل الايجابي ، وتنصرف دلالته إلى مجرد الإهمال والفعل العمد على حد سواء . وغنى عن البيان أن سرد الأعمال التي يتحقق فهيا معنى خطا في نصوص التشريع لا يكون من ورائه إلا إشكال وجه الحكم ، ولا يؤدي قط إلى وضع بيان جامع مانع . فيجب أن يترك تحديد الخطأ لتقدير القاضي . وهو يسترشد في ذلك بما يستخلص من طبيعة نهي القانون عن الإضرار من عناصر التوجيه ، فثمة التزام يفرض على الكافة عدم الإضرار بالغير ، ومخالفة هذا النهي هي التي ينطوي فيها الخطأ . ويقضي هذا الالتزام تبصراً في التصرف ، يوجب أعماله بذل عناية الرجل الحريص ( إقرأ الرجل العادي ) .
وقد أقر التقنين النمساوي هذا الضابط التوجيهي إقراراً تشريعياً ، فنص في المادة 1297 على أنه ( يفترض فيمن يتمتع بقواه العاقلة أن تتوافر لديه درجة الانتباه والعناية التي تتوقع في سواد الناس . ويتحقق معنى الخطأ في كل عمل ينشأ عنه ضرر بحقوق الغير إذا لم يلتزم من وقع منه هذا العمل تلك الدرجة ) . وقد عرض التقنين البولوني ، بعد أن وضع المبدأ العام في المسئولية التقصيرية ، لصورة التحريض والإعانة على الإضرار وصورة الافادة من الضرر . فقرر في المادة 136 مسئولية من يحرض شخصاً آخر على لااضرار بالغير أو يعينه على ذلك ، كما قرر مسئولية من يفيد عن بينة من ضرر يصيب الغير ، أما حكم الصورة الأولى ، وهي الخاصة بمسئولية الشريك ، فلا وجه للشك فيه ، لأن الاشتراك في ذاته يعتبر خطأ مستقلا ، ولكن حكم الصورة الثانية لا يزال محلا للنظر من وجوه ، فإذا لم يكن قد وقع ممن أثرى على هذا النحو خطأ معين ، ولم يجاوز أمره حدود الانتفاع عن بينة من ضرر أصاب الغير ، فلا تجوز مساءلته إلا بمقتضى قواعد الاثراء بلا سبب ( أنظر المادة 50 من تقنين الالتزامات السويسري ) " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 354 – ص 355 ) .
( [938] ) بحيث لا يصل ضعف الإدراك إلى حد انعدام التمييز ، وإلا انعدم الركن المعنوي للخطأ . وسنرى ذلك فيما يلي :
( [939] ) ولا يقتصر تطبيق المقياس المجرد على الخطأ غير العمدي ( الإهمال أو التقصير ) نفى الخطأ العمدي أيضاً يطبق المقياس المجرد . ولا يكفى لتطبيقه أن يقال إن الشخص العادي في سلوكه مألوف لا يقصد الإضرار بالغير ، فيكون الخطأ العمد انحرافاً عن هذا السلوك المألوف ( أنظر مازو 1 فقرة 439 ) . ذلك أن من يتعمد الإضرار بالغير لا يكون مخطئاً في جميع الأحوال . فالتاجر الذي ينافس تاجراً آخر منافسة شريفة لا يكون مسئولا حتى لو تعمد الإضرار بمنافسة . وإنما يكون من يتعمد الإضرار بالغير متعديا إذا هو انحرف في سلوكه عن السلوك المألوف للشخص العادي . فها نحن هنا نطبق المقياس المجرد ، ولا يعنينا عنه قصد الإضرار بالغير . ( قارن الدكتور سليمان مرقص في الفعل الضار فقرة 30 ) .
( [940] ) أنظر آنفاً فقرة 429 .
( [941] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ولما كان الأصل في المسئولية التقصيرية بوجه عام أن تناط بخطأ يقام الدليل عليه ، لذلك ألقى عبء الإثبات فيها على عاتق المضرور ، وهو الدائن ، ويراعى أن المشروع لم يبلغ في هذه الناحية شأو التقنين السوفيتي في ابتناء تلك المسئولية على أساس الخطأ المفروض . فقد انتهى هذا التقنين ، تفريعا على ذلك ، إلى تقرير قاعدة أخرى بشان الإثبات فقضى في المادة 403 بان ( من اضر بالغير في شخصه أو ماله يلزم بتعويض الضرر ، ويبرأ من التزامه هذا إذا أقام الدليل على أنه لم يكن في مقدوره أن يتقى هذا الضرر ، أو أنه كانت له سلطة إحداثه قانونا ، أو أنه حدث من جراء سبق إصرار المضرور أو إهماله الفاضح ) . ويراعى من ناحية أخرى أن الشقة بين أحكام المشروع وبين المسئولية على ساسا تبعة المخاطر المستحدثة لا تزال أبعد مدى ، مما يفرق تلك الأحكام عن المسئولية على أساس الخطأ المفروض . ذلك أن الأوضاع الاقتصادية في البلاد لا تقتضي تطوراً يبلغ في عمقه مثل هذا المدى . وقصارى ما هناك أن المشروع قنع بتطبيق المسئولية على أساس الخطأ المفروض في نطاق الأحكام الخاصة بالمسئولية عن عمل الغير والمسئولية الناشئة عن الأشياء . أما المسئولية على أساس تبعة المخاطر المستحدثة فلا يوجد في شأنها سوى تشريعات خاصة تناولت تنظيم مسائل بلغت من النضوج ما يؤهلها لهذا الضرب من التنظيم " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 395 ) .
( [942] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 233 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " من أحدث ضرراً وهو في حالة دفاع شرعي ، سواء تعلق هذا الدفاع به أو بغيره ، كان غير مسئول ، عن ألا يجاوز في ذلك القدر الضروري ، وإلا أصبح ملزماً بتعويض تراعى فيه مقتضيات العدالة " . وفي لجنة المراجعة تناقش الأعضاء فيما هو الدفاع الشرعي ، واستقر الرأي على أن الدفاع الشرعي هو المحدد بشروطه في القانون الجنائي ، وقد أصبح نص المادة النهائي كما يأتي : " من أحدث ضررا وهو في حالة دفاع شرعي عن نفسه أو عن غيره كان غير مسئول ، على ألا يجاوز في دفاعه القدر الضروري ، وإلا أصبح ملزماً بتعويض تراعى فيه مقتضيات العدالة " . وأصبح رقمها 170 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ اقترح النص ، في حالة مجاوزة حدود الدفاع الشرعي ، على أن يكون التعويض بقدر المجاوزة ، فأجيب بأن نص المشروع يفيد هذا المعنى ومن المتفق عليه أن التعويض يقتصر على مقدار المجاوزة في الدفاع ، وقد وافقت اللجنة على هذا التفسير ، ثم استعيضت عبارة " في حالة دفاع شرعي عن نفسه أو عن غيره " بعبارة " في حالة دفاع شرعي عن نفسه أو ماله أو عن نفس الغير أو ماله " لإظهار أن الدفاع يشمل المال أيضاً وتمشياً مع الأحكام المقررة في هذا الشأن في قانون العقوبات . وأصبح رقم المادة 166 . ووافق عليها مجلس الشيوخ كما عدلتها لجنته . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 369 – ص 372 ) . أنظر أيضاً الفقرة الأولى من المادة 72 من المشروع الفرنسي الإيطالي .
ولا يوجد مقابل لهذا النص في القانون القديم ، ولكن القاعدة كمان معمولاً بها ، والقانون الجديد لم يفعل غير أن قنن أحكام القضاء في ذلك . وورد نصوص في قانون العقوبات عن الدفاع الشرعي نذكر منها ما يأتي :
م 245 عقوبات : " لا عقوبة مطلقاً على من قتل غيره أو اصابة بجراح أو ضربه أثناء استعماله حق الدفاع الشرعي عن نفسه أو ماله أو عن نفس غيره أو ماله " . ( وتراجع المواد من 246 إلى 250 وقد بينت الظروف التي ينشأ عنها هذا الحق والقيود التي يرتبط بها ) .
م 251 – عقوبات : " لا يعفى من العقاب بالكلية من تعدى بنية سليمة حدود حق الدفاع الشرعي أثناء استعماله إياه دون أن يكون قاصداً إحداث ضرر اشد مما يستلزمه هذا الدفاع . ومع ذلك يجوز للقاضي إذا كان الفعل جناية أن يعده معذوراً إذا رأى لذلك محلا وأن يحكم عليه بالحبس بدلا من العقوبة المقررة في القانون " .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ولمن أحدث الضرر كذلك أن يتنصل من تبعة عمله ويدفع المسئولية عن نفسه . . . إذا اثبت توافر سبب من أسباب الإباحة وهي ثلاثة : الدفاع الشرعي ، وصدور أمر من رئيس ، والضرورة : أما حالة الدفاع الشرعي فقد عرفها التقنينان التونسي والمراكشى في المادتين 104 – 95 بأنها ( حالة يجبر فيها الشخص على العمل لدرء اعتداء حال غير مشروع موجه إلى شخصه أو ماله ، أو موجه إلى شخص الغير أو ماله ) . فمن يقوم بالدفاع الشرعي في مثل هذه الحالة ، فيحدث ضرراً للمعتدى ، لا يكون مسئولا ، ولا يعتبر ما وقع منه خطا يوجب المسألة . وقد نص التقنين الألماني صراحة على ذلك ، فقضى في المادة 227 بأن " كل عمل يفرض على الشخص جبراً في سبيل الدفاع عن النفس لا يعتبر مخالفاً للقانون " . ولم يقتصر القانون البرتغالي على تخويل الشخص حق الدفاع عن نفسه فحسب ، بل جاوز هذه الحدود ، وجعل من ذاك الدفاع واجباً يقع على عاتق من يشهد الاعتداء . وليس هذا الواجب مجرد واجب أدبي ، وإنما هو واجب قانوني تترتب عليه تبعات قانونية . وقد نصت المادة 2368 من هذا التقنين على أن " كل من يمتنع عن مقاومة عمل غير مشروع ، وكان لا يعرض نفسه لخطر لو أنه قاومه ، يسأل عن التعويض مسئولية احتياطية " . وبديهي أن المسئولية لا ترتفع في حالة الدفاع الشرعي إلا إذا كان من ألجئ إليه قد اقتر على القدر اللازم لدفع الخطر في غير إفراط . فإذا جاوز هذا القدر اعتبر ما وقع منه من قبيل الخطأ ، وقاسم المعتدى بذلك تبعة خطأ مشترك يتردد بينهما . وفي هذه الصورة يقضي للمضرور بتعويض عادل ولكنه تعويض مخفف يقدره الثاني وفقاً لقواعد الخطأ المشترك " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 378 – ص 379 ) .
( [943] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه لا يشترط في القانون لقيام حالة الدفاع الشرعي أن يكون قد وقع اعتداء على النفس أو المال بالفعل ، بل يكفي أن يكون قد وقع فعل يخشى منه وقوع هذا الاعتداء . وتقدير الدفاع أن الفعل يستوجب الدفاع يكفي فيه أن يكون مبنياً على أسباب معقولة من شأنها أن تبرر ذلك . وما دامت العبرة في التقدير بما يراه الدافع في ظروفه التي يكون فيها ، فإن رأى المحكمة وهي تصدر الحكم في الدعوى يجب إلا يحسب له حساب في ذلك . وإذن فقول الحكم بأن المتهم لم يصب لا هو ولا أ؛د من الأهالي بأية إصابة ، وأن قصد العساكر المجني عليهم من إطلاق النار وتصويب البندقية إليه كان مجرد التهديد – هذا القول على اطلاقه لا يصلح سبباً لنفي ما تمسك به المتهم من أنه كان في حالة دفاع شرعي ، إذ هو لو كان اعتقد في الظروف التي كان فيها أن العيار الذي أطلق كان مقصوداً به أصابته أو إصابة أحد ممن كانوا معه بمحل الواقعة لكان اعتقاده له ما يبرره ولكن كافياً في تبرير فعل القتل الذي وقع منه ( نقض جنائي في 28 ديمسبر سنة 1942 المحاماة 24 رقم 98 ص 321 – أنظر أيضاً نقض جنائي في 5 ابريل سنة 1943 المحاماة 25 رقم 83 ص 493 ) . وقضت كذلك بأنه إذا كانت الواقعة الثابتة بالحكم هي أن المتهم لم يطلق المقذوف الناري الذي أصاب المجنى عليه إلا حين رآه عند الفجر في زراعته يسرق منها فهذا ، متى كانت الاصابة غير مميتة ، مما يسوغ القول بأن المتهم كان في حالة دفاع شرعي عن ماله ( نقض جنائي في 18 يناير سنة 1943 المحاماة 24 رقم 149 ص 460 ) .
( [944] ) أنظر جازو 1 فقرة 489 – هذا ولو أخذنا بالتخريج الأول ، واعتبرنا دفع الاعتداء خطأ استغرقه خطأ أكبر ، فتعذر تبرير الإعفاء من المسئولية التقصيرية في حالة الضرورة ، ولكان العمل الضار الذي يقع في هذه الحالة خطا قائماً لم يقابله خطا يستغرقه من جانب المضرور ( أنظر فقرة 534 فيما يلي ) .
( [945] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 234 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 – لا يكون الموظف العام مسئولا عن عمله الذي اضر بالغير ، إذا قام به تنفيذاً لأمر صدر إليه من رئيس تجب عليه طاعته أو من رئيس يعتقد أن الطاعة واجبة له . 2 – على من أحدث الضرر أن يثبت أنه كان يعتقد مشروعية العمل الذي قام به ، بأن يقيم الدليل على أنه راعى في ذلك جانب الحيطة وأن اعتقاده كان مبنياً على أسباب معقولة " . وفي لجنة المراجعة أبدلت عبارة " من رئيس تجب طاعته أو من رئيس يعتقد أن الطاعة واجبة له " بعبارة " من رئيس نظامي متى كانت اطاعة هذا الأمر واجبة عليه أو متى كان يعتقد إنها واجبة " ، وذلك لأن الرئيس ليس هو الذ يتجب طاعته ، بل الأمر الذي صدر من هذا الرئيس هو الذي تجب له الطاعة . وأصبح رقم المادة 172 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ حذفت كلمة " نظامي " لأنها تزيد ، وادمجت الفقرة الثانية في الفقرة الأولى بعد أن عدلت على الوجه الآتي : " وأثبت أنه كان يعتقد مشروعية العمل الذي وقع منه وكان اعتقاده مبنياً على أسباب معقولة ، وأنه راعى في عمله جانب الحيطة " وقد توخت اللجنة في التعديل إلا تفصل بين شقي الحكم فضلا يثير في لاذهن أن الأمر لا يعدو مجرد الإثبات كما كان يفهم ذلك من النص قبل التعديل ، فالواقع أن المسئولية لا ترتفع إلا إذا توافرت جميع العناصر التي يتضمنها النص " . وأصبح رقم المادة 167 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها لجنته . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 373 – ص 376 ) .
ولم يشتمل القانون المدني القديم على نص في هذه المسألة ، ولكن القضاء كان يسير على مقتضى هذا الحكم لانطباقه على القواعد العامة ( أنظر استئناف مختلط في 3 مارس سنة 1898 م 10 ص 174 – وفي 21 يونية سنة 1923 م 35 ص 521 ) .
ويشتمل قانون العقوبات على نص يقابل نص القانون المدني الجديد ، هو المادة 63 ، وتجري على الوجه الآتي :
" لا جريمة إذا وقع الفعل من موظف أميرى في الأحوال الآتية : ( أولاً ) إذا ارتكب الفعل تنفيذاً لأمر صادر إليه من رئيس وجبت عليه اطاعته أو اعتقد إنها واجبة . ( ثانياً ) إذا حسنت نيته وارتكب فعلا تنفيذاً لما أمرت به القوانين أو ما اعتقد أن اجراءه من اختصاصه . وعلى كل حال يجب على الموظف أن يثبت أنه لم يرتكب الفعل إلا بعد التثبت والتحري وأنه كان يعتقد مشروعيته وأن اعتقاده كان مبنياً على أسباب معقولة " .
وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وترتفع المسئولية كذلك إذا كان العمل الضار قد وقع تنفيذاً لأمر صادر من رئيس إداري لانتفاء الخطأ في هذه الصورة . ويشترط لاعمال هذا الحكم شرطان . فيجب أولاً أن يكون محدث الضرر موظفاً عاما . ويجب ثانياً أن يكون العمل الضار قد وقع تنفيذاً لأمر صادر من رئيس إداري ولو لم يكن الرئيس المباشر . وعلى من أحدث الضرر أن يقيم الدليل ، لا على اعتقاده وجوب طاعة هذا الرئيس فحسب ( وقد رأينا أن المشروع النهائي جعل الطاعة واجبة أيضاً للآمر الصادر من الرئيس ) ، بل وكذلك على اعتقاده وجوب تنفيذ الأمر الصادر منه . وعليه كذلك أن يقم الدليل على أن اعتقاده هذا كان مبنياً على أسباب معقولة وانه راعى جانب الحيطة فيما وقع منه " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 379 ) .
( [946] ) ولما كان القانون المدني القديم لم يشتمل على نص في هذه المسألة كما قدمنا ، فقد كان الفضاء لا يجعل صفة الموظف العام أمراً ضرورياً ( استئناف مختلط في 3 مارس سنة 1898 م 10 ص 174 – محكمة مصر المختلطة في 9 مارس سنة 1925 جازيت 17 رقم 18 من 24 ) . وكان يبحث هل الوكيل يكون مسئولا شخصياً وهو ينفذ تعليمات موكله ( استئناف مختلط في 17 مارس سنة 1920 م 32 ص 302 – وف ي 10 مايو سنة 1922 م 34 ص 389 ) ، وهل مدير الشركة يكون مسئولا شخصياً وهو ينفذ قرارات مجلس الإدارة ( استئناف مختلط في 28 مايو سنة 1900 م 12 ص 279 ) ، فكان يقضي بأن هؤلاء يكونون مسئولين متى كانوا يعلمون أن العمل الذي ينفذونه هو عمل غير مشروع .
( [947] ) وظاهر أنه لو اتضح أن الموظف العام كان يعلم عدم مشروعية العمل الذي ارتكبه ، فإنه يكون مسئولا ( استئناف مختلط في 21 يونية سنة 1923 م 35 ص 521 وقد سبقت الإشارة إلى هنا الحكم ) .
( [948] ) أنظر مازو 1 فقرة 497 .
( [949] ) أنظر المادة 63 من قانون العقوبات الفقرة ( ثانياً ) – وانظر في الموضوع : استئناف مختلط في 27 ديسمبر سنة 1923 م 36 ص 106 .
هذا وإذا كان الأمر الصادر من رئيس إداري يجعل العمل مشروعاً ، فإن الترخيص الإداري لا يعفى من المسئولية المدنية . فإذا حصل صاحب المصنع على رخصة بإدارة مصنعه بعد استيفائه الشروط المقررة ، فإنه يبقى مسئولا إذا اضر الغير بخطئه ، ولا يستطيع أن يدفع مسئوليته بأنه حصل على ترخيص بإدارة المصنع واستوفى الشروط التي تطلبتها الإدارة ( مازو 1 فقرة 498 ) .
( [950] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 235 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " من سبب ضرراً للغير ، وقاية لنفسه أو لغيره من ضرر محدق يزيد كثيراً على الضرر الذي سببه ، لا يكون ملزماً إلا بالتعويض الذي يراه القاضي مناسب " . واقرت لجنة المراجعة هذا النص ، وأصبح رقم المادة 172 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب عليه . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ عدل النص حتى أصبح مطابقاً للنص الوارد في القانون الجديد ، وأصبح رقم المادة 168 . ووافق عليه مجلس الشيوخ كما عدلته لجنته . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 377 – ص 381 ) . وانظر أيضاً في هذه المسألة المادة 77 فقرة 2 من المشروع الفرنسي الإيطالي ، والمادة 228 من القانون الألماني ، والمادة 52 فقرة 2 من قانون الالتزامات السويسري والمادة 130 من القانون البولوني .
ولم يشتمل القانون المدني القديم على نص يقابل هذا النص في القانون المدني الجديد . ولكن قانون العقوبات تضمن النص الآتي :
م 61 عقوبات : " لا عقاب على من ارتكب جريمة ألجأته إلى ارتكابها ضرورة وقاية نفسه أو غيره من خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به أو بغيره ، ولم يكن لإرادته دخل في حلوله ولا في قدرته منعه بطريقة أخرى " .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ويراعى اخيراً أن حالة الضرورة قد تستتبع التخفيف من المسئولية أو نفيها . فهي تؤدي إلى التخفيف إذا لم يكون للمضرور نصيب في قيامها . ويظل محدث الضرر مسئولا في هذه الحالة ، ولكنه لا يكون ملزماً إلا بالتعويض الذي يراه القاضي مناسباً ، باعتبار أنه أجلئ إلى ارتكاب العمل الضار وقاية لنفسه أو لغيره من ضرر محدق اشد خطراً . فهو من هذه الناحية أيسر تبعة وأخف وزراً . أما الغير الذي وقع الضرر وقاية له فيكون مسئولا قبل محدث الضرر أي قبل المضرور وفقاً لقواعد الإثراء بلا سبب ، وينبغي التحرز ، في هذا المقام ، في التفريق بين حالة الضرورة وبين القوة القاهرة من ناحية ، وبين هذه الحالة وحالة الدفاع الشرعي من ناحية أخرى . ففي حالة الضرورة يكون لمحدث الضرر مندوحة عن إحداثه لو أنه وطن نفسه على تحمل الضرر الذي كان يتهدده . أما القوة القاهرة فهي على النقيض من ذلك تلجئ إلى الإضرار الجاء لا قبل للفاعل بدفعه . ثم أن الخطر الداهم الذي يقصد إلى توقيه في حالة الضرورة لا يكون للمضرور يد في إحداثه . ويختلف عن ذلك وضع المضرور في حالة الدفاع الشرعي ، فهو بذاته محدث ذلك الخطر . ويتفرع على ما تقدم أن حالة الضرورة قد تختلط بحالة الدفاع الشرعي إذا كان العمل الضار لم يدفع إليه خطر خارجي ، وإنما استلزمه خطر صادر من المضرور نفسه . ففي مثل هذه الحالة تنتفي المسئولية بتاتاً ، ويكون للضرورة حكم الدفاع الشرعي من هذا الوجه . وقد لمح التقنين الألماني هذه التفرقة ، فنص في المادة 228 على ا ، ( كل من اتلف أو خرب شيئاً مملوكاً للغير لدرء خطر يتهدده أو يتهدد غيره من جراء هذا الشيء لا يعد بذلك مخالفاً للقانون ، متى كان الإتلاف أو التخريب قد استلزمه دفع الخطر وكان الضرر متناسباً مع هذا الخطر . فإذا كان الفاعل قد أحدث الخطر بفعله سئل عن تعويض الضرر ) . وقد اتبع التفنين البولوني هذه التفرقة نفسها مع اختلاف في التعبير ، فنص في المادة 140 على أن ( كل من خرب أو اتلف شيئاً مملوكا للغير ، أو قتل أو جرح حيواناً مملوكا للغير ، وقاية لنفسه أو لغيره من خطر يتهدده أو يتهدد هذا الغير مباشرة من جراء هذا الشيء أو ذاك الحيوان لا يسأل عما يحدث من ضرر ، إذا كان لم يستجلب هذا الخطر ، وكان الفعل الذي ترتب عليه الضر لازماً ) . ويلاحظ أن التقنينين المتقدم ذكرهما يفرقان بين حالة إحداث الخطر من جراء شيء يملكه المضرور وبين حالة إحداث الخطر بخطأ من وقع الضرر منه . ففي الحالة الأولى تنتفي المسئولية بتاتاً ، في حين أنها تظل في الحالة الثانية كاملة غير منقوصة . على أن المشروع قد عرض لحالة أدق من الحالتين السابقتين ، فواجه صورة من صور الخطر تنجم عن ظروف خارجية لا يكون لمحدث الضرر أو المضرور يد فيها ، وقضى بتخفيف المسئولية في هذه الصورة عوضاً عن الإبقاء عليها أو نفيها في جملتها . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 379 – ص 380 ) .
أنظر في حالة الضرورة : مازو 1 فقرة 492 – فقرة 495 – ديموج 3 فقرة 240 و 6 فقرة 628 وما بعدها – سافاتييه 1 فقرة 98 وما بعدها ، وكذلك مقالا له نشر في مجموعة من الدراسات في القانون المدني لذكرى كابيتان ص 729 – وما بعدها – ريبير في القاعدة الأدبية في الالتزامات المدنية فقرة 46 – بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 567 – لالو فقرة 302 وما بعدها – لالمان ( Lallement ) رسالة من باريس سنة 1922 – ابوف ( Aboaf ) رسالة من باريس سنة 1941 – ستارك ( Starck ) رسالة من باريس سنة 1947 .
( [951] ) نقض أول فبراير سنة 1937 المحاماة 17 رقم 488 ص 963 – وفي 17 نوفمبر سنة 1941 المحاماة 22 رقم 158 ص 468 .
( [952] ) بقيت مسألة أخيرة في ركن التعدى ، هي المقارنة ما بين وضعين لا تتحقق المسئولية في أي منهما مع إنهما وضعان مختلفان . فهناك وضع لم يقم فيه ركن التعدي فانتفى الخطأ ، ووضع انتفت فيه علاقة السببية لقيام السبب الأجنبي . ويخطئ من يظن أن هذين الوضعين متماثلان ، لا شك في أن قيام السبب الأجنبي تنتفي به المسئولية ، فلا محل عندئذ للبحث عما إذا كان هناك خطأ ، فهو حتى إذا كان موجوداً لا تتحقق به المسئولية . ولكن العسك غير صحيح . فإن السبب الأجنبي إذا لم يقم ، بقى محل للبحث هل الخطأ منتف أو موجود .
وتظهر الأهمية العملية لما تقرره في حالة ما إذا كان الخطأ مفروضاً فرضاً قابلا لإثبات العكس ، كما في مسئولية من تولى الرقابة على الغير . فإن المسئولية في هذه الحالة لا يطلب منه إثبات السبب الأجنبي ( cause etrangece ) ، بل يكفي أن يثبت انتفاء الخطأ ( absence de faute ) . وهذه مرحلة أيسر في الإثبات إذ يستطيع من فرض في جانبه الخطأ أن يثبت أن الطريق الذي سلكه لم ينحرف فيه عن الطريق المألوف الذي يسلكه الشخص العادي ، وبذلك ينتفي الخطأ . أما من يثبت السبب الأجنبي فإنه يثبت أن الطريق الذي سلكه هو الطريق الوحيد الذي كان يتحتم عليه أن يسلكه . والفرق ظاهر بين الوضعين .
فانتفاء الخطأ هو إذن مرحلة وسطى بين مرحلتين : وقوع الخطأ وقيام السبب الأجنبي ( أنظر مازو 1 فقرة 624 – فقرة 633 ) .
( [953] ) فالمجانين مقياسهم المجرد ، فيما هو من أعمال المجانين ، مجنون منهم تقاس تصرفاتهم إلى تصرفاته . ويلاحظ أن كل عمل يصدر من المجنون يعتبر من أعمال المجانين ، وأن المجانين سواسية في انعدام التمييز ، فأي مجنون يصلح أن يكون هو المقياس المجرد .
( [954] ) أنظر بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 968 – كولان وكابيتان ص 222 – ص 224 – بلانيول وريبير وغسمان 1 فقرة 498 – الموجز للمؤلف ص 325 – ص 327 – مصطفى مرعى بك ص 49 – ص 52 – الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت بك ص 311 – ص 313 – أنظر عكس ذلك مازو 1 فقرة 456 وما بعدها – الدكتور سليمان مرقص في الفعل الضار ص 35 – ص 37 – ومع ذلك أنظر ص 64 الدكتور عبد المعطي خيال بك مذكرات غير مطبوعة مشار إليها في مؤلف حشمت بك ص 312 .
هذا وقد بينا ما ينطوي عليه مقياس الشخص المجرد من تسليم جزئي يتحمل التبعة ، فلو قلنا بمساءلة عديم التمييز ، لسلمنا بالنسبة إليه بنظرية تحمل التبعة تسليماً كاملاً .
( [955] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 231 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 - يكون الشخص مسئولا عن أعماله غير المشروعة متى صدرت منه وهو مميز ، حتى لو لم يكن أهلاً للتعاقد . 2 – إذا وقع الضرر من شخص غير مميز ، وتعذر رجوع المصاب بالتعويض على من نيضت به الرقابة على هذا الشخص ، جاز للقاضي انيلزم من وقع منه الضرر بتعويض عادل ، مراعياً في ذلك مركز الخصوم . 3 – إذا أحدث شخص ضرراً في وقت فقد فيه التمييز التزم بتعويض الضرر ، ما لم يثبت أنه كان قد فقد التمييز بغير خطأ منه " . وفي لجنة المراجعة اقترحت تعديلات اللفظية ، واقترح أيضاً تعديل عبارة " تعذر الرجوع على المسئول " بعبارة " تعذر الحصول على تعويض من المسئول " حتى يتبين بوضوح أن التعذر ينصب على جواز الرجوع قانوناً وعلى إمكان الحصول على التعويض فعلا . ونوقشت الفقرة الأخيرة من المادة ، ورؤى بعد المناقشة أن تحذف هذه الفقرة لعدم الحاجة إليها ، ولأنها لو أقرت لوجب البحث في الحالة التي يفقد الشخص التمييز فيها بغير خطأ منه فيما إذا كان هذا الشخص يبقى مسئولا بمقتضى الفقرة الثانية ، وقد رأت اللجنة أن المسئولية تبقى في هذه الحالة ولكن كل ذلك يستفاد من تطبيق القواعد العامة فلا حاجة إلى هذه الفقرة الأخيرة . وقد أصبح نص المادة بعد هذه التعديلات كالآتي : " 1 – يكون الشخص مسئولا عن أعماله غير المشروعة متى صدرت منه وهو مميز ولو لم يكن هناك أهلاً للالتزام بالعد . 2 – ومع ذلك إذا وقع الضرر من شخص غير مميز ، ولو لم يكن هناك هو مسئول عنه أو تعذر الحصول على تعوض من المسئول ، جاز للقاضي أن يلزم من وقع منه الضرر بتعويض عادل ، مراعياً في ذلك مركز الخصوم " . وأصبح رقم المادة 168 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ حذف من الفقرة الأولى عبارة " ولو لم يكن أهلاً للالتزام بالعقد " لأنها تزيد لا تقتضيه ضرورة ( المؤلف : ويمكن القول بأن في هذا الحذف تجنباً للخلط بين الأهلية وركن الإدراك في الضرر ) . ووافقت اللجنة على الفقرة الثانية ولو أن حكمها مخالف للقواعد المعمول بها ، وإنما تقضي به العدالة ، وله سند من الشريعة الإسلامية . إذ جاء في المادة 916 من المجلة ما يأتي : " وإذا أتلف صبي مال غيره فيلزم الضمان من ماله ، فإن لم يكن له مال ينتظر إلى حال يساره ، ولا يضمن وليه " . ولما اعترض في اللجنة على التعبير " بتعويض عادل " أجيب على هذا الاعتراض بأن مبدأ مسئولية الصبي غير المميز مأخوذ من الشريعة الإسلامية ، وهو في الواقع مبدأ جديد على القانون المدني ، والتعويض العادل أريد به أن يكون أقل من التعويض العادي وأن تراعى فيه اعتبارات قد لا تراعى في التعويض العادي . فوافقت اللجنة على إبقاء التعبير كما هو . وأصبح رقم المادة 164 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 356 – ص 361 ) .
وفي القانون المدني القديم نصت المادة 212 من القانون المختلط على ما يأتي : " كل فعل مخالف للقانون يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر الناشئ عنه ، ما لم يكن الفاعل غير مدرك لأفعاله ، سواء لعدم تمييزه بالنسبة لسنه أو لا يسبب آخر " .
أنظر أيضاً المادتين 75 و 76 من المشروع الفرنسي الإيطالي والمادة 54 من قانون الالتزامات السويسري والمادتين 138 و 143 من قانون الالتزامات البولوني والمادة 122 الفقرتين الثانية والثالثة من القانون اللبنانين .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " جعل التمييز مناطاً للأهلية ( المؤلف : وقد بينا عدم الدقة في هذا القول ) في المسئولية التقصيرية . فمتى كان الشخص قادراً على تمييز الخير من الشر وجبت مساءلته عن خطئه ، فمرجع الأمر في هذا الشأن فكرة ذاتية أو شخصية يناط بها الحكم ولو وقع العمل الضار بعد فقد التمييز بصورة موقوتة متى كان هذا الفقد راجعاً إلى خطا الفاعل ، ويتعين على محدث الضرر ، إزاء ذلك ، أن يقيم الدليل على أن زوال التمييز طرأ عليه بغير خطأ منه إذا أراد أن يدفع المسئولية عن نفسه . فالخطأ يفترض في هذه الحالة ، والضرر لا يأتي إلا في المرتبة الثانية من حيث تسلسل النتائج ووصل رباط السببية بها ، إذ هو ينجم عن فقد التمييز وهذا بدوره يترتب على الخطأ . وقد أورد التقنينان التونسي والمراكشي تطبيقاً لهذا الحكم فنصا في المادتين 102 / 93 على أن ( حالة السكر لا ترفع المسئولية المدنية في الالتزامات الناشئة عن الجنح وأشباهها ، متى كانت هذه الحالة اختيارية . وترتفع المسئولية إطلاقاً إذا كان السكر غير اختياري ، ويقع عبء الإثبات على عاتق المدعى عليه ) . ويختلف عن ذلك حكم زوال التمييز بغير خطأ ممن أحدث الضرر ، إذ تستبدل بتلك الفكرة الذاتية فكرة موضوعية أو مادية . وإذا كانت المسئولية تظل قائمة في هذا القرض فهي مسئولية مخففة . وعلى هذا النحو تستأثر المسئولية الموضوعية أو المادية بالصدارة على المسئولية الشخصية أو الذاتية دون أن تحل محلها على وجه كامل وفلا تترتب مسئولية من زال عنه التمييز إلا بتوافر شرطين : أولهما أن يتعذر على المصاب الرجوع بالتعويض على من نيطت به الرقابة على من أحدث الضرر ، إما لعدم إقامة الدليل على مسئوليته وإما لإعساره . والثاني أن يسمح مركز الخصوم للقاضي بأن يقرر للمضرور تعويضاً عادلا . فيجوز رفض الحكم بالتعويض إذن ، إذا لم يكن غير المميز قادراً على ادائه ، بل ويجوز عند الاقتدار انقاص التعويض عدالة حتى يكون في حدود سعته . ويراعى في ذلك كله مركز المضرور نفسه من الناحية المادية وجسامة الخطأ ( ؟ ) ومدى الضرر " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 357 – ص 358 ) .
( [956] ) نصت الفقرة الثانية من المادة 45 من القانون المدني الجديد على أن " كل من لم يبلغ السابعة يعتبر فاقداً للتمييز " .
( [957] ) أنظر في مسئولية المجنون : وينز ( Weenz ) مقال له في المجلة الانتقادية سنة 1935 ص 87 – نيجي ( Neagu ) رسالة من باريس سنة 1929 – ليموزوني ( Limouzoanu ) رسالة من ديون سنة 1932 .
( [958] ) استئناف مختلط في 17 مارس سنة 1897 م ) ص 241 .
( [959] ) استئناف مختلط في 6 ابريل سنة 1882 بوريللي م 213 رقم 11 .
( [960] ) رأينا أن المشروع التمهيدي تضمن نصاً يقضي بأن فاقد التمييز لسبب عارض هو الذي يثبت أنه كان قد فقد التمييز بغير خطأ منه . وقد حذف هذا النص في المشروع النهائي اكتفاء بتطبيق القواعد العامة . ونرى أن الأصل في المميز أنه إذا فقد التمييز لسكر أو لمخدر يكون قد عرف ذلك في نفسه من قبل ، فأقدامه على السكر والمخدرات يعد خطأ منه ، إلا إذا اثبت أنه كان مضطراً أو أنه لم يعهد في نفسه من قبل أن يفقد الوعي . ويترتب على ذلك أن المصاب بمرض النوم أو الصرع لا حاجة به أن يثبت أن فقد التمييز لم يكن بخطأ منه ، فإن أمره واضح . وكثير من التقنينات الحديثة تقرر الحكم الذي تضمنه النص المحذوف من المشروع التمهيدي : أنظر م 102 / 93 من القانونين التونسي والمراكشي والمادة 54 من قانون الالتزامات السويسري والمادة 138 من قانون الالتزامات البولوني .
( [961] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه إذا كان هناك خطا مشترك من سائق السيارة وهو يسير بسرعة ومن جهة الشمال ومن المضرور وهو طفل صغير سنه ست سنوات وقد تركه أبوه في الشارع فدهسته السيارة ، فإن مسئولية السائق ( ومخدومته ) تنزل إلى النصف باعتبار أن هناك خطا مشتركا من السائق ومن والد الطفل الذي ترك طفله في الشارع ( استئناف مختلط في 15 ديسمبر سنة 1948 م 61 ص 28 – وانظر أيضاً استئناف مختلط في 15 ديسمبر سنة 1920 م 33 ص 74 – وفي 5 مارس سنة 1931 م 43 ص 266 ) . ومع ذلك فقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه إذا تبين أن حادثة ما ترجع إلى خطأ مشترك بين سائق الترام والمصاب ، وكان المصاب المنسوب إليه الخطأ صبياً غير مميز ، فإن شركة الترام وسائقها يسألان متضامنين قبل المصاب ( الطفل ) عن التعويض كاملا ، ولا يخفف من مسئوليتهما ما هو منسوب للصغير من الخطأ ، لأن الخطأ لا تصح نسبته له . وللشركة إذا شاءت أن ترجع على والد الصغير بمقتضى قواعد التضامن ( استئناف مختلط في 24 مايو سنة 1922 م 34 ص 426 ) . أنظر في نقد هذا الحكم الأخير مصطفى مرعي بك في المسئولية المدنية فقرة 61 . ونرى أن عمل الطفل إذا لم يعتبر خطا فهو على كل حال عمل مادي تجب مراعاته عند تقدير خطا المسئول .
( [962] ) وهذا هو الغالب ، لأن عديم التمييز يكون عادة في كفالة شخص يراقبه ويكون مسئولا عنه . ومن ثم تخف في العمل حدة انتفاء المسئولية عند انعدام التمييز .
( [963] ) وقد قضت محكمة النقض بما يأتي : " حيث إن المادة 152 من القانون المدني ( القديم ) ، إذ نصت بصفة مطلقة على أنه يلزم السيد بتعويض الضرر الناشئ للغير عن أفعال خدمته متى كان واقعاً منهم في حال تأدية وظائفهم ، قد أفادت أنه لا يجب ثبوت أي تقصير أو إهمال من جانب المتبوع الذي يلزم بالتعويض ، بل يكفي لتطبيقها أن يقع الخطأ المنتج للضرر من التابع أثناء تأدية وظيفته ، فتصح إذن مساءلة القاصر بناء عليها عن تعويض الضرر الذي ينشأ من أعمال خدمة الذين عينهم له وليه أو وصيه أثناء تأدية أعمالهم لديه . ولا يحق للمساءل فى هذه الحالة أن يرد على ذلك بأنه هو بسبب عدم تمييزه لصغر سنه لا يمكن أن يتصور أي خطأ في حقه ، إذ المسئولية هنا ليست عن فعل وقع من القاصر فيكون للإدراك والتمييز حساب ، وإنما هي عن فعل وقع من خادمه أثناء تأدية أعماله في خدمته " . ( نقض جنائى في 25 مايو سنة 1942 مجموعة عمر للأحكام الجنائية 5 رقم 411 ص 665 - مصطفى مرعى بك فى المسئولية المدنية فقرة 61 مكررة ) .
( [964] ) قارن ما ذكر خطأ فى المذكرة الإيضاحية من مراعاة جسامة الخطأ ( أنظر آنفاً فقرة 537 في الهامش ) . وأنظر في الاعتبارات التي يراعيها القاضى في تقدير التعويض المادة 1310 من القانون النمساوى ، وهي تذكر خطأ المسئول وإهمال المضرور في درء الخطر عنه وخطأ .
( [965] ) ولما كان النص الذي يقرر هذه المسئولية قد استحدثه القانون المدنى الجديد ، فليس له أثر رجعى . والعبرة باليوم الذي وقع فيه العمل الضار ، فإن كان قبل يوم نفاذ القانون الجديد ( 15 أكتوبر سنة 1949 ) فالقانون القديم هو الذي يسرى ولا مسئولية على عديم التمييز ، وإلا فإن القانون الجديد هو الذي يسرى وتتحقق مسئولية عديم التمييز المخففة .
( [966] ) أنظر المادتين 75 و 76 من المشروع الفرنسى الإيطالى والمادة 829 من القانون الألمانى والمادة 1310 من القانون النمساوى والمادة 54 من قانون الالتزامات السويسرى والمادة 122 من القانون اللبناني والمادة 406 من القانون السوفييتى والمادة 187 من القانون الصيني والمادة 2377 من القانون البرتغالى والمادة 2047 من القانون الإيطالي الجديد وقانون 16 أبريل سنة 1935 في بلجيكا .
وفي الفقه الإسلامي إذا كان الإتلاف مباشراً لا يشترط فيه التعمد أو التعدى " حتى أن طفلاً يوم ولد لو انقلب على مال إنسان فأتلفه يلزم الضمان ، وكذا المجنون الذي لا يفيق إذا مزق ثوب إنسان يلزمه الضمان : الهندية " ( الموجز في النظرية العامة للالتزامات للمؤلف ص 327 هامش رقم 1 ) .
( [967] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة في أحكام كثيرة بمسئولية الشركات عن أعمال ممثليها ، وذلك كشركات السكك الحديدية ( استئناف مختلط في 28 أبريل سنة 1896 م 8 ص 255 - وفي مارس سنة 1906 م 18 ص 137 ) ، وشركات التزام ( استئناف مختلط في 19 مايو سنة 1928 م 40 ص 3709 ، وشركات الملاحة ( استئناف مختلط في أول أبريل سنة 1903 م 15 ص 221 ) ، وشركات المياه والنور والغاز ( استئناف مختلط في 14 يونية سنة 1913 م 25 ص 447 ) .
والوقف يعتبر شخصاً معنوياً وناظر الوقف هو الممثل له ، فيكون الوقف مسئولاً عن اخطاء ناظر . وقد قضت محكمة النقض بأن الوقف بأحكامه المقررة في الفقه الإسلامي هو في فقه القانون المدنى شخص اعتبارى تكاملت فيه مقومات الشخصية القانونية . والشخص الاعتبارى كما أن له وجوداً افترضه القانون له إرادة مفترضة هي إرادة الشخص الطبيعي الذي يمثله . فالخطأ اذي يقع من ممثله بصفته هذه يعتبر بالنسبة إلى الغير الذي أصابه الضرر خطأ من الشخص الاعتبارى . فالحكم الذي يرتب المسئولية على جهة الوقف عن خطأ وقع من الناظر عملاً بالمادة 151 من القانون المدنى ( القديم ) لايكون مخطئاً ( نقض مدنى في 11 مارس سنة 1948 مجموعة عمر 5 رقم 287 ص 565 ) . على أن محكمة الاستئناف المختلطة قد قضت بأنه لا يكون الوقف مسئولاً عن خطأ الناظر إذا لم يكن معيناً من قبل المستحقين لأن الناظر في هذه الحالة لا يكون تابعاً للوقف ( استئناف مختلط في 19 يونية سنة 1930 م 42 ص 576 - وانظر أيضاً استئناف مختلط في 19 يونية سنة 1930 م 42 ص 576 – وانظر أيضاً استئناف مختلط في 24 ديسمبر سنة 1879 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلطة 5 ص 83 ) . وسنرى أنه يمكن مساءلة الشخص المعنوى مباشرة لا باعتباره متبوعاً ، وعلى هذا الوجه تسقط الحجة التي وردت في الحكم من أن ناظر الوقف إذا لم يعينه المستحقون لا يكون تابعاً للوقف .
( [968] ) بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 973 .
( [969] ) بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 972 – فقرة 973 - كولان وكابيتان 2 فقرة 374 .
( [970] ) أنظر في مسئولية السلطات العامة : دويز ( duez ) في مسئولية السلطة العامة – تيرار ( Tirard ) رسالة من باريس 1906 – ديبير ( Debeyre ) رسالة من ليل سنة 1936 – كليار ( colliard ) رسالة من إكس سنة 1938 .
( [971] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بمسئولية الدولة عن الخطأ الذي ترتكبه في أعمال الري ( استئناف مختلط في 24 ديسمبر سنة 1896 م 9 ص 74 - وفي 21 مايو سنة 1901 م 13 ص 315 - وفي 17 أبريل سنة 1930 م 42 ص 428 ) ، وفي أعمال الطرق والتنظيم ( استئناف مختلط في 10 يونية سنة 1896 م 8 ص 327 – وفي 22 مارس سنة 1900 م 12 ص 177 - وفي 18 فبراير سنة 1906 م 28 ص 127 ) ، وفي أعمال البوليس والأمن ( استئناف مختلط في 25 أبريل سنة 1901 م 13 ص 263 – وفي 4 نوفمبر سنة 1914 م 27 ص 7 - وفي 11 مايو سنة 1918 م 30 ص 420 ) ، وفي أعمال الجمرك ( استئناف مختلط في 18 أبريل سنة 1900 م 12 ص 192 - وفي 21 يونية سنة 1911 م 23 ص 379 – وفي 4 يناير سنة 1923 م 35 ص 130 م 35 ص 130 ) . وقضت كذلك بمسئولية المجالس البلدية ( استئناف مختلط في 4 مايو سنة 1892 م 4 ص 294 ) .
( [972] ) وقد قضت محكمة النقض بأن تحقيق حصول الفعل أو الترك أو عدم حصوله هو من الأمور الواقعية اتلي تدخل في سلطة قاضى الموضوع ، ولا معقب على تقديره ، أما ارتباط الفعل أو الترك بالضرر الناشئ ارتباط المسبب بالسبب والمعلول بالعلة ، وكذلك وصف ذلك الفعل أو الترك بأنه خطأ أو غير خطأ ، فهما كالهما من المسائل القانونية التي يخضع في محلها قاضى الموضوع لرقابة محكمة النقض ( نقض مدنى في 11 يناير سنة 1934 المحاماة 14 ص 219 ) أنظر أيضاً الدكتور سليمان مرقص في الفعل الضار ص 54 – ص 55 - بلانيول وريبير وبولانجيه فقرة 956 وفقرة 967 .
( [973] ) وكان المشروع التمهيدي للقانون المدني الجديد يشتمل على نص ، هو المادة 5 من هذا المشروع ، يقضي بما يأتي : " الحقوق المدنية نوعان : حقوق محددة يكسبها الشخص ويختص بها دون غيره ، ورخص قانونية أو حقوق عامة يعترف بها القانون للناس كافة " . وورد بالمذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : " تفرق المادة 5 من المشروع بين الحق والرخصة . وهي بذلك تمهد للأحكام المتعلقة بالتعسف في استعمال الحق . فالتعسف يرد على استعمال الحقوق وحدها . أما الرخص فلا حاجة إلى فكرة التعسف في ترتيب مسئولية من يباشرها عن الضرر الذي يلحق الغير من جراء ذلك . ويقصد بالحق في هذا الصدد كل مكنة تثبت لشخص من الأشخاص على سبيل التخصيص والإفراد كحق الشخص في ملكية عين من الأعيان أو حقه في اقتضاء دين من الديون . . . أما ما عدا ذلك من المكنات التي يعترف بها القانون للناس كافة دون أن نكون محلاً للاختصاص الحاجز فرخص أو إباحات كالحريات العامة وما إليها . وهذه الرخص أو الإباحات لا حاجة إلى فكرة التعسف فيها لتأمين الغير ما ينجم من ضرر عن استعمال النا؟ لها لأن الأحكام المسئولية المدنية تتكفل بذلك على خير وجه " . وقد حذفت لجنة المراجعة – هذا النص في المشروع النهائى لعدم الحاجة إليه ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 201 في الهامش ) .
( [974] ) وكذلك الفقه الإسلامي لا يضع قاعدة عامة ، وإنما يورد حالات تفصيلية . وهناك حالتان رئيسيتان يوجب فيهما الضمان فيعالج بهما الضرر الذي يقع على المال ، وهما الغصب والإتلاف . فالغصب هو أخذ مال متقوم محترم ، بلا إذن من له الإذن ، على وجه يزيل يده ، بفعل في العين – ويجب على الغاصب رد المغصوب لو كان قائماً في مكان غصبه ، أو رد قيمته لو هلك حتى لو كان الهلاك بقوة قاهرة . والإتلاف قد يكون مباشرة أو تسبباً . فالإتلاف مباشرة هو إتلاف الشيء بالذات ، من غير أن يتخلل بين فعل المباشر والتلف فعل آخر ، والإتلاف تسبباً يكون بعمل يقع على شيء فيفضى إلى تلف شيء آخر . فمن قطع جبل قنديل معلق يكون سبباً مفضياً لسقوطه على الأرض وانكساره ، ويكون حينئذ قد أتلف الحبل مباشرة ، وكسر القنديل تسبباً والقاعدة أن المباشرة ضامن وإن لم يتعد ، والمتسبب غير ضمان لا إذا كان معتمداً أو متعدياً ( مجمع الضمانات ص 146 ) – أما الضرر الذي يقع على الجسم فتتدخل فيه فكرة العقوبة الجنائية مع التعويض المدني . وجزاؤه الدية والأرش وحكومة العدل . أما الدية فتجب في القتل غير العمد ( أما القتل العمد فيجب فيه القصاص وهو عقوبة خاصة لا تعويض مدني ) وفي الجناية على ما دون النفس عن غير عمد على عضو تمكن فيه المماثلة . والأرش جزء من الدية ، فإذا تعدد العضو الذي تمكن فيه المماثلة ، وأصيب بعض منه ، فالدية تجب بنسبة ما أصيب ، وتسمى في هذه الحالة أرشاً ، فيجب نصف الدية في العين الواحدة وربعها في أحد أشغار العين الأربعة وهكذا وحكمة العدل تكون فيما لا يجب فيه قصاص أو دية أو أرش ، أي في الجناية على ما لا تمكن فيه المماثلة ، عمداً كان ذلك أو غير عمد . ويترك تقديراً الجزاء للقاضى ، وهذا معنى حكومة العدل ( البدائع 7 ص 233 وما بعدها ) . ويستخلص من ذلك أن حكومة العدل ، وهي أكثر مرونة من القاص والدية والأرش ، تكاد تضع مبدأ عاماً في الشريعة الإسلامية يقضى بأن العمل الضار الذي يصيب النفس فيما لا تمكن فيه المماثلة ( ويدخل في هذا أكثر الجراح والشجاج ) عمداً كان أو غير عمد ، يوجب التعويض حسب تقدير القاضى . وهذا المبدأ يكمل المبدأ الآخر الذي يستخلص من قواعد الغصب والإتلاف وهو متعلق بالعمل الضار الذي يصيب المال . ( أنظر في كل ذلك نظرية العقد للمؤلف فقرة 66 ) .
( [975] ) أنظر في هذا الموضوع مازو 1 فقرة 152 – فقرة 153 – بلانيول وريبير وبولانجيه ، فقرة 960 .
( [976] ) أنظر عكس ذلك لالو فقرة 187 ص 122 . وهو يقول بالمسئولية العقدية في النقل المجاني .
( [977] ) أنظر من هذا الرأي جوسران في تعليقه في دالوز 1927 – 1 – 137 - بيسون ص 160 .
( [978] ) أنظر من هذا الرأي ريكول ( Ricol ) في تعليقه في داللوز 1926 – 2 – 121 – وروجيه ( Roger ) في تعليقه في داللوز 1935 – 1 – 38 . وينزع القضاء المصرى إلى هذا الرأي فقد قضت محكمة مصر الكلية الوطنية بأن الصديق الذي يتسلم لقيادة صديقه المتبرع بها على طول مسافة الطريق يعتبر أنه على اتفاق معه فيما ينتهجه من أساليب القيادة وأنه موقن من حذقه ومهارته ، وكلاهما يكون مستهدفاً للخطر بدرجة واحدة . ومن غير المعقول أن يتطلب من أي شخص أن يوجه عنايته للغير أكثر مما يوجهها لنفسه ( 11 مايو سنة 1931 المحاماة 12 رقم 178 / 2 ص 338 ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة في أحكام كثيرة بأن من يقبل النقل مجاناً يعتبر أنه قد أعفى صاحب السيارة من مسئوليته ، فلا يستطيع الرجوع إلا إذا أثبت في جانب صاحب السيارة خطأ جسيماً ، بأن أثبت أنه كان يسير بسرعة جنونية لا تجعله يوقد مصابيح سيارته ( استئناف مختلط في 13 نوفمبر سنة 1930 م 43 ص 22 – وفي 2 أبريل سنة 1931 م 43 ص 327 – وفي 30 مارس سنة 1933 م 45 ص 225 – وفي 4 مايو سنة 1933 م 45 ص 265 – وفي 19 مايو سنة 1943 م 55 ص 163 – محكمة مصر المختلطة في 23 مايو سنة 1929 جازيت 20 رقم 190 ص 176 ) .
( [979] ) أنظر من هذا الرأي بلانيول وربير وإسمان 1 فقرة 622 – جاردينا وريتشي فقرة 104 ص 661 – جنى فيت عليقه في سيريه 1928 – 1 – 353 – ريبير في تعليقه في داللوز 1928 – 1 – 146 – إسمان فيت عليقه في سيريه 1929 – 1 – 249 . وبهذا الرأي أخذت محكمة النقض الفرنسية : 27 مارس سنة 1928 – داللوز 1928 – 1 – 146 مع تعليق ريبير وسيريه 1928 – 1 353 مع تعليق جنى – وفي 9 يونية سنة 1928 داللوز 1928 - 1 – 153 – وفي 11 يونية سنة 1928 داللوز الأسبوعي 1928 ص 414 – وفي 7 يناير سنة 1929 سيريه 1929 – 1 – 249 مع تعليق إسمان – وفي 22 يولية سنة 1929 جازيت دي باليه 1929 – 1 – 588 – وفي 18 يولية سنة 1934 داللوز 1935 – 1 - 38 – وفي 5 مايو سنة 1942 سيريه 1942 – 1 – 125 مع تعليق هنرى مازو . ( أنظر في أحكام أخرى بهذا المعنى لمحكمة النقض الفرنسية مازو 1 فقرة 1278 ) .
( [980] ) أنظر مازو 1 فقرة 1274 – فقرة 1275 وفقرة 1281 – فقرة 1287 .
( [981] ) أنظر في هذا الموضوع مازو 1 فقرة 1273 – فقرة 1289 والمراجع المشار إليها فيه ( فقرة 1274 هامش رقم 1 مكرر ) . وانظر في الفقه المصري مقالاً للدكتور حلمي بهجت بدوي بك في مجلة القانون والاقتصاد السنة الثانية ص 137 - ومصطفى مرعى بك في المسئولية المدنية فقرة 66 – فقرة 69 .
( [982] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن سائق السيارة ، حتى لو سار في طريق ذي اتجاه واحد ، يجب عليه مع ذلك أن يلزم الجانب الأيمن من الطريق ( استئناف مختلط في ) فبراير سنة 1944 م 56 ص 56 ) .
( [983] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن السائق الذي يأتي من شارع جانبي يجب عليه أن ينتظر حتى يمر السائق الذي يسير في الشارع الرئيسي ، فإذا كان هذا الأخير يسير أيضاً بسرعة زائدة كان هناك خطأ مشترك ( استئناف مختلط في 28 يونية سنة 1944 م 56 ص 210 - وأنظر أيضاً في هذا المعنى استئناف مختلط في 23 يونية سنة 1943 م 45 ص 194 ) . وقضت محكمة الاسكندرية الكلية المختلطة بأن السائق الذي يأتي من الشارع الأصغر يجب عليه أن ينتظر حتى يمر السائق الذي يسير في الشارع الأكبر ، فإن كان التنازعان متساويين في الأهمية ، فالسائق الذي يأتي من جهة اليمين هو الذي يسبق ( محكمة الاسكندرية الكلية المختلطة في 2 ديسمبر سنة 1944 م 57 ص 16 ) .
( [984] ) استئناف مختلط في 14 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 36 - وفي 20 فبراير سنة 1930 م 42 ص 306 – وفي 13 نوفمبر سنة 1930 م 43 ص 22 – وفي 3 مارس سنة 1932 م 44 ص 214 – وفي 17 نوفمبر سنة 1932 م 45 ص 29 - وفي 9 مارس سنة 1933 م 45 ص 197 – وفي 24 يناير سنة 1935 م 47 ص 132 – وفي 28 فبراير سنة 1935 م 47 ص 176 – وفي 8 يونية سنة 1935 م 47 ص 362 – وفي 9 يناير سنة 1936 م 48 ص 73 – وفي أبريل سنة 1936 م 48 ص 211 .
وأنظر في حوادث السيارات : 30 نوفمبر سنة 1938 م 51 ص 32 – وفي 19 أبريل سنة 1939 م 51 ص 263 – وفي 31 مايو سنة 1939 م 51 ص 367 – وفي 14 يونية سنة 1939 م 51 ص 381 – وفي 29 مايو سنة 1940 م 52 ص 288 – وفي 26 يونية سنة 1940 م 52 ص 328 – وفي 9 فبراير سنة 1944 م 56 ص 56 - وفي 21 فبراير سنة 1945 م 57 ص 104 – وفي 23 مايو سنة 1945 م 57 ص 156 - وفي 7 مايو سنة 1947 م 59 ص 193 . وكان القضاء المختلط يقضي بأن المسئولية في حوادث السيارات لا تبنى على مجرد أن المسئول هو مالك السيارة ( استئناف مختلط في 19 مارس سنة 1931 م 43 ص 302 – وفي 9 فبراير سنة 1933 م 45 ص 167 – وفي 29 مارس سنة 1933 م 45 ص 223 ) ، ولكن بعد نفاذ القانون المدنى الجديد تبني المسئولية في حوادث السيارات على أساس الحراسة ، فحارس السيارة هو المسئول ولا يتخلص من المسئولية إلا إذا أثبت السبب الأجنبي ( م 178 من القانون المدني الجديد ) .
( [985] ) أنظر في مسئولية مصلحة السكك الحديدية بسبب مصباح زيت معيب أحرق مركبة ( استئناف مختلط في 4 يناير سنة 1911 م 23 ص 99 ) – وبسبب إعطاء إشارات فجائية ( استئناف مختلط في 25 مارس سنة 1891 م 3 ص 266 ) – وبسبب وقوف القطار بعيداً عن المحطة ( استئناف مختلط في 16 يونية سنة 1897 م 9 ص 388 ) – وفي مسئوليتها عن الأضرار التي تصيب الموظفين ( استئناف مختلط في 9 مايو سنة 1899 م 11 ص 220 – وفي 2 أبريل سنة 1902 م 14 ص 207 – وفي 31 مايو سنة 1905 م 17 ص 302 – وفي 3 يناير سنة 1906 م 18 ص 82 – وفي 2 مايو سنة 1917 م 29 ص 398 ) – وفي مسئوليتها عن خروج القطار عن الشريط ( استئناف مختلط في 28 أبريل سنة 1897 م 9 ص 296 – وفي 14 يونية سنة 1899 م 11 ص 280 – وفي 20 ديسمبر سنة 1899 م 12 ص 51 – وفي 3 يونية سنة 1903 م 15 ص 335 - وفي 15 يونية سنة 1904 م 16 ص 327 - وفي 8 مارس سنة 1905 م 17 ص 152 ) – وفي المسئولية عن الشرار الذي يتطاير ( استئناف مختلط في 17 ديسمبر سنة 1902 م 15 ص 59 – وفي 27 مايو سنة 1903 م 15 ص 318 ) – وفي تصادم القطارات ( استئناف مختلط في 25 مارس سنة 1897 م 9 ص 238 – وفي نوفمبر سنة 1898 م 11 ص 2 ) وبسبب إحدى الحوادث ( استئناف مختلط في 24 فبراير سنة 1943 م 55 ص 63 ) . وأنظر أيضاً نقض مدنى في 15 نوفمبر سنة 1934 – المحاماة 15 رقم 78 / 1 ص 155 - استئناف مصر في 24 ديسمبر سنة 1932 المحاماة 13 رقم 548 ص 1104 – وفي 3 ديسمبر سنة 1933 المحاماة 14 رقم 258 / 2 ص 495 .
وأما عن حوادث مجازات ( مزلقانات ) السكة الحديد فقد قضت محكمة النقض في دائرتها الجنائية بأنه إذا صح أن مصلحة السكة الحديد في الأصل غير مكلفة بأن تقيم حراساً على المجازات لدفع الخطر عن المارة من قطاراتها ، إلا أنها إذا أقامت حراساً بالفعل عهدت إليهم إقفالها كلما كان هناك خطر عليهم من اجتيازها وفتحها حيث لا خطر ، وأصبح ذلك معهوداً للناس ، فقد حق لهم أن يعولوا على ما أوجبته على نفسها من ذلك وأن يعتبروا ترك المجاز مفتوحاً إيذاناً بالمرور بعدم وجود الخطر . فإذا ترك الحارس عمله وأبقى المجاز مفتوحاً حيث كان ينبغي أن يقفله وجب اعتباره متخلياً عن واجب فرضه على نفسه ، ومن ثم فعمله هذا إهمال بالمعنى الوارد بالمادتين 238 و 244 عقوبات ، وتكون مصلحة السكة الحديد مسئولة عما ينشأ من الضرر للغير من فعل تابعها على ما قضت به المادة 152 من القانون المدنى ( القديم ) . ولا محل للتحدى هنا بأنه على الجمهور أن يحتاط لنفسه ، كما أنه لا محل للتحدى بنص لائحة السكة الحديد التي حظرت على الجمهور المرور بالمجازات عند اقتراب مرور القطارات ورتبت على مخالفة هذا الحظر جزاء متى كانت الواقعة الثابتة بالحكم لا تفيد أن سائق السيارة حاول المرور من المجاز مع علمه بالخطر ( نقض جنائى في 10 نوفمبر سنة 1947 المحاماة 28 رقم 319 ص 905 ) .
وقضت محكمة المنصورة الكلية الوطنية بأنه وإن كانت مصلحة السكة الحديد غير ملزمة ؟ المزلقانات ، إلا أنها ملزمة باتخاذ الاحتياطات اللازمة لتنبيه المارة بوجود المزلقانات ، وخاصة إن كانت تقع على طريق مطروق كثيراً بوضع فانوس للتحذير ليلاً . وإذا وضعت مصلحة السكة الحديد فانوسين بنور أحمر على جانبي المزلقان لتحذير المارة ليلاً ، ووضعت لوحة للاحتراس من القطارات فلا مسئولية عليها عند وقوع حادث ( المنصورة الكلية الوطنية في 15 يناير سنة 1944 المحاماة 24 رقم 33 ص 70 ) .
وأنظر من القضاء المختلط في حوادث المزلقانات : استئناف مختلط في 5 فبراير سنة 1931 م 43 ص 205 – وفي 3 ديسمبر سنة 1931 م 44 ص 45 – وفي 10 ديسمبر سنة 1931 م 44 ص 59 – وفي 8 يونية سنة 1933 م 45 ص 321 – وفي 19 أبريل سنة 1934 م 46 ص 264 – وفي 2 أبريل سنة 1936 م 48 ص 211 .
( [986] ) أنظر في مسئولية شركة الترام عن سير القطار قبل أن ينزل الراكب ( استئناف مختلط في 6 ديسمبر سنة 1899 م 12 ص 34 – وفي 12 ديسمبر سنة 1900 م 13 ص 38 – وفي أول يونية سنة 1904 م 16 ص 291 – وفي 2 مايو سنة 1917 م 29 ص 397 – وفي 19 يناير سنة 1928 م 40 ص 148 - وفي 14 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 38 ) – وعن نزول الركاب مسرعين في ذعر بسبب حادث وإصابتهم من جراء ذلك ( استئناف مختلط في 30 مارس سنة 1905 م 17 ص 193 – وفي 10 يونية سنة 1914 م 26 ص 414 – وفي 23 فبراير سنة 1928 م 40 ص 211 ) – وعن إصابة المارة في الطريق ( استئناف مختلط في 10 مارس سنة 1900 م 12 ص 149 – وفي 12 فبراير سنة 1902 م 14 ص 121 – وفي 30 أبريل سنة 1902 م 14 ص 268 - وفي 13 أبريل سنة 1904 م 16 ص 189 – وفي 21 مارس سنة 1906 م 18 ص 160 - وفي 16 ديسمبر سنة 1908 م 21 ص 68 – وفي 2 أبريل سنة 1913 م 25 ص 279 – وفي 20 يونية سنة 1917 م 29 ص 511 – وفي 12 يونية سنة 1918 م 30 ص 469 – وفي 15 ديسمبر سنة 1920 م 33 ص 74 – وفي 15 نوفمبر سنة 1922 م 35 ص 25 – وفي 14 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 36 – وفي 30 ديسمبر سنة 1929 م 42 ص 134 – وفي 9 مارس سنة 1933 م 45 ص 196 – وفي 31 مارس سنة 1937 م 49 ص 174 – وفي 12 مايو سنة 1937 م 49 ص 317 – وفي ) فبراير سنة 1938 م 50 ص 126 – وفي 6 ديسمبر سنة 1939 م 52 ص 41 – وفي 27 يناير سنة 1943 م 55 ص 49 ) .
( [987] ) أنظر في حوادث الطيارات : استئناف مختلط في 23 يونية سنة 1943 م 55 ص 196 .
( [988] ) استئناف مختلط في 2 ديسمبر سنة 1903 م 16 ص 19 – وفي 28 ديسمبر سنة 1904 م 17 ص 51 – وفي 8 مارس سنة 1906 م 17 ص 155 – وفي 24 مايو سنة 1906 م 17 ص 295 – وفي 14 يونية سنة 1906 م 17 ص 335 - وفي 28 مارس سنة 1906 م 18 ص 172 – وفي 18 أبريل سنة 1906 م 18 ص 203 – وفي 13 مارس سنة 1907 م 19 ص 151 – وفي 17 يونية سنة 1908 م 20 ص 276 – وفي 17 فبراير سنة 1909 م 21 ص 196 – وفي 7 يونية سنة 1911 م 23 ص 359 – وفي 26 ديسمبر سنة 1912 م 25 ص 91 – وفي 5 مارس سنة 1913 م 25 ص 211 – وفي 17 مايو سنة 1916 م 28 ص 334 – وفي 11 أبريل سنة 1917 م 29 ص 361 – وفي 24 أكتوبر سنة 1917 م 30 ص 8 - وفي 24 مارس سنة 1920 م 32 ص 229 – وفي 24 يناير سنة 1923 م 35 ص 181 – وفي 28 يونية سنة 1923 م 35 ص 542 – وفي 25 نوفمبر سنة 1926 م 39 ص 41 – وفي 28 أبريل سنة 1927 م 39 ص 415 – وفي 19 مايو سنة 1928 م 40 ص 371 .
( [989] ) استئناف مختلط في 24 نوفمبر سنة 1887 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلطة 13 ص 19 – وفي 28 أبريل سنة 1927 م 39 ص 415 .
( [990] ) استئناف مختلط في 3 يونية سنة 1896 م 8 ص 303 – وفي أول مايو سنة 1902 م 14 ص 278 – وفي 18 يناير سنة 1906 م 17 ص 62 – وفي 18 أبريل سنة 1906 م 18 ص 204 – وفي 11 نوفمبر سنة 1907 م 20 ص 28 – وفي 28 أبريل سنة 1909 م 21 ص 337 – وفي أول ديسمبر سنة 1909 م 22 ص 36 – وفي 27 مايو سنة 1914 م 26 ص 399 – وفي 3 يونية سنة 1926 م 38 ص 461 – وفي 25 نوفمبر سنة 1926 م 39 ص 41 – وفي 13 يناير سنة 1927 م 39 ص 170 – وفي 28 أبريل سنة 1927 م 39 ص 415 - وفي 19 مايو سنة 1927 م 39 ص 491 .
( [991] ) استئناف مختلط في 24 يناير سنة 1900 م 12 ص 94 – وفي 27 مايو سنة 1914 جازيت 4 رقم 419 ص 170 – وفي 21 أبريل سنة 1915 م 27 ص 284 – وفي 29 نوفمبر سنة 1923 م 36 ص 59 .
( [992] ) استئناف مختلط في 30 ديسمبر سنة 1908 م 21 ص 93 – وفي 15 ديسمبر سنة 1927 م 40 ص 81 .
( [993] ) استئناف مختلط في 24 ديسمبر سنة 1896 م ) ص 78 – وفي 11 نوفمبر سنة 1907 م 20 ص 28 – وفي 17 فبراير سنة 1927 م 39 ص 250 .
( [994] ) استئناف مختلط في 13 نوفمبر سنة 1912 م 25 ص 16 – وفي أول أبريل سنة 1914 م 26 ص 304 – وفي 15 ديسمبر سنة 1927 م 40 ص 81 .
( [995] ) استئناف مختلط في 13 مارس سنة 1907 م 19 ص 151 – وفي 13 يناير سنة 1927 م 39 ص 170 – وفي 19 مايو سنة 1927 م 39 ص 491 – وفي 15 ديسمبر سنة 1927 م 40 ص 82 .
( [996] ) أنظر آنفاً فقرة 522 في الهامش . وأنظر استئناف مختلط في 8 ديسمبر سنة 1948 م 61 ص 25 .
( [997] ) الدكتور وديع فرج بك في مسئولية الأطباء الجراحين المدنية مقال في مجلة القانون والاقتصاد 12 ص 381 وما بعدها – كولان وكابيتان 2 فقرة 928 – بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 524 – جوسران 2 فقرة 1287 – مازو 1 فقرة 148 وفقرة 508 – لالو فقرة 422 – سافاتييه فقرة 775 – نقض فرنسي في 18 يناير سنة 1938 جازيت دي باليه 1938 – 1 – 314 – وفي 27 يونية سنة 1939 سيريه 1940 – 1 – 73 – وفي 27 مايو سنة 1940 سيريه 1940 – 1 – 84 .
أما القضاء في مصر فيقضى بأن مسئولية الطبيب مسئولية تقصيرية بعيدة عن المسئولية العقدية ( نقض مدنى في 22 يونية سنة 1936 مجموعة عمر 1 رقم 376 ص 1156 – استئناف مصر 23 يناير سنة 1941 المحاماة 22 رقم 85 ص 258 – اسكندرية ومصر الوطنية في 30 ديسمبر سنة 1943 المحاماة 24 رقم 35 ص 78 .
( [998] ) لوران 4 فقرة 1187 – ديموج 3 فقرة 264 – سافاتييه في تعليقه في داللوز 1939 – 1 – 49 .
( [999] ) قضت محكمة الاستئناف المختلطة في بعض أحكامها بأن مسئولية الأطباء لا تتحقق إلا في خطأ جسيم : 29 فبراير سنة 1912 م 24 ص 166 – 2 نوفمبر سنة 1933 م 46 ص ) – 2 نوفمبر سنة 1933 م 46 ص 10 – 14 فبراير سنة 1935 م 47 ص 154 – 19 نوفمبر سنة 1936 م 49 ص 19 – 21 أبريل سنة 1938 م 50 ص 250 .
( [1000] ) سوردا فقرة 677 مكررة – بلانيول وربير وإسمان 1 فقرة 524 – لالو فقرة 426 – مازو 1 فقرة 511 . محكمة النقض الفرنسية في 21 يولية 1919 داللوز 1920 – 1 – 30 – وفي 29 نوفمبر سنة 1920 سيريه 1921 – 1 – 119 – وفي 20 مايو سنة 1936 داللوز 1936 – 1 – 88 – وفي 24 يونية سنة 1938 جازبت دي باليه 1938 – 2 – 721 – جرينويل في 4 نوفمبر سنة 1946 سيريه 1947 – 2 – 38 .
وقضت محكمة استئناف مصر بأن مسئولية الطبيب تخضع للقواعد العامة متى تحقق وجود خطأ مهما كان نوعه ، سواء كان خطأ فنياً أو غير فني ، جسيماً أو يسيراً . لهذا فإنه يصح الحكم على الطبيب الذي يرتكب خطأ يسيراً ، ولو أن هذا الخطأ له مسحة طبية ظاهرة ( 2 يناير سنة 1936 المحاماة 16 رقم 334 ص 713 ) . وقضت محكمة الإسكندرية الكلية الوطنية بأن الطبيب الذي يخطئ مسئول عن نتيجة خطئه ، بدون تفريق بين الخطأ الهين والجسيم؛ ولا بين الفنيين وغيرهم . . . والقول بعدم مساءلة الطبيب في حالة خطأ المهنة إلا عن خطئه الجسيم دون اليسير ، هاذ القول كان مثار اعتراضات لوجود صعوبات في التمييز بين نوعي الخطأ ، ولأن نص القانون الذي يترتب مسئولية المخطئ عن خطئه جاء عاماً غير مقيد ، فلم يفرق بين الخطأ الهين والجسيم ولا بين الفنيين وغيرهم . ويسأل الطبيب عن إهماله سواء كان خطأ جسيماً أو يسيراً ، فلا يتمتع الأطباء باستثناء خاص ( 30 ديسمبر سنة 1943 المحاماة 24 رقم 35 ص 78 ) – أنظر أيضاً استئناف مصر في 16 أبريل سنة 1921 المجموعة الرسمية 23 رقم 53 ص 84 – محكمة مصر الكلية الوطنية في 3 أكتوبر سنة 1944 المحاماة 26 رقم 55 ص 132 . وقضت محكمة النقض بأن الطبيب مسئول عن تعويض الضرر المترتب على خطئه في المعالجة ، ومسئوليته هذه مسئولية تفسيرية ( كذا ) بعيدة عن المسئولية التعاقدية ، فقاضى الموضوع يستخلص ثبوتها من جميع عناصر الدعوى من غير مراقبة عليه ( نقض مدنى في 22 يونية سنة 1936 مجموعة عمر 1 رقم 376 ص 1156 ) . وكانت محكمة الاستئناف المختلطة تقضى في الماضي بمسئولية الطبيب ولو عن خطأ يسير ما دام محققاً متميزاً ( CERTAINE ET CARACTERISER ) : استئناف مختلط في 3 فبراير سنة 1910 م 22 ص 120 – وفي 15 فبراير سنة 1911 م 23 ص 183 .
وانظر في الفقه المصري : الدكتور سليمان مرقص في بحثه في مسئولية الطبيب ومسئولية إدارة المستشفى ( مجلة القانون والاقتصاد 7 ص 155 وما بعدها ) وفي مؤلفه الفعل الضار فقرة 42 – فقرة 44 – الدكتور وديع فرج في مسئولية الأطباء والجراحين المدنية ( مجلة القانون والاقتصاد 12 ص 381 وما بعدها ) – مصطفى مرعى بك في المسئولية المدنية فقرة 70 – فقرة 73 – الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت بك فقرة 449 .
( [1001] ) أما المسائل الفنية التي تقبل المناقشة والتي لم يستقر عليها إجماع من أهل الفن ، فهذه لا شأن للقاضى بها ، وليس له أن يتدخل فيها برأي شخصي يرجع مذهباً على مذهب . وفي هذا المعنى تقول محكمة الاسكندرية الوطنية الكلية : " يسأل الطبيب عن خطئه في العلاج إن كان الخطأ ظاهراً لا يحتمل نقاشاً فنياً تختلف فيه الآراء . فإن وجدت مسائل علمية يتجادل فيها الأطباء ويختلفون عليها ، ورأى الطبيب إتباع نظرية قال بها العلماء ولو لم يستقر الرأي عليها فاتبعها فلا لوم عليه . ولعى القضاء أن يتفادى النظر في المناقشات الفنية عند تقدير مسئولية الأطباء ، إذ مهمته ليست المفاضلة بين طرق العلاج المختلف عليها ، بل قاصرة على التثبت من خطأ الطبيب المعالج " ( 30 ديسمبر سنة 1943 المحاماة 24 رقم 35 ص 78 وقد سبقت الإشارة إليه ) – ومن ثم فالخطأ المهني ، ولو كان يسيراً ، يجب أن يكون ثابتاً ثبوتاً ظاهراً بصفة قاطعة لا احتمالية . وفي هذا المعنى تقول محكمة استئناف القاهرة : " مسئولية الطبيب عن خطئه مسئولية تقصيرية ( كذا ) بعيدة عن المسئولية التعاقدية . ومن مصلحة الإنسان أن يترك باب الاجتهاد مفتوحاً أمام الطبيب حتى يتمكن من القيام بمهمته العالية من حيث خدمة المريض وتخفيف آلامه وهو آمن مطمئن لا يسأل إلا إذا ثبت ثبوتاً ظاهراً بصفة قاطعة لا احتمالية أنه ارتكب عيباً لا يأتيه من له إلمام بالفن الطبي إلا عن رعونة وعدم تبصر " ( 23 يناير سنة 1941 المحاماة 22 رقم 85 ص 258 ) .
( [1002] ) وتقول محكمة استئناف مصر في هذا المعنى : " وبالنسبة للأطباء الأخصائيين يجب استعمال منتهى الشدة معهم ، وجعلهم مسئولين عن أي خطأ ولو كان يسيراً ، خصوصاً إذا ساءت حالة المريض بسبب معالجتهم ، لأن واجبهم الدقة في التشخيص والاعتناء وعدم الإهمال في المعالجة " ( 2 يناير سنة 1936 المحاماة 16 رقم 334 ص 713 وقد سبقت الإشارة إليه ) . أنظر أيضاً في هذا المعنى الدكتور وديع فرج في مسئولية الأطباء والجراحين المدنية ( مجلة القانون والاقتصاد 12 ص 399 – س 400 – الدكتور سليمان مرقص في الفعل الضار فقرة 44 ) .
( [1003] ) استئناف مختلط في 2 يونية سنة 1898 م 10 ص 298 – وفي 21 فبراير سنة 1900 م 12 ص 134 – وفي 24 يونية سنة 1908 م 20 ص 298 - وفي 19 مايو سنة 1927 م 39 ص 488 .
( [1004] ) استئناف مختلط في 3 يونية سنة 1902 م 14 ص 335 – وفي 6 مايو سنة 1903 م 15 ص 291 – وفي 27 نوفمبر سنة 1913 م 26 ص 52 – وفي 3 يناير سنة 1920 م 32 ص 94 – وفي أول مارس سنة 1927 م 39 ص 288 - وفي 2 مارس سنة 1927 م 39 ص 286 .
( [1005] ) استئناف مختلط في 21 يونية سنة 1917 م 29 ص 512 .
( [1006] ) استئناف مختلط في 17 أبريل سنة 1919 م 31 ص 254 .
( [1007] ) استئناف مختلط في 16 مايو سنة 1894 م 6 ص 337 .
( [1008] ) استئناف مختلط في 28 ديسمبر سنة 1892 م 5 ص 90 وفي 12 يونية سنة 1902 م 14 ص 351 . وانظر في حدود النقد المباح من النواحي العلمية والأدبية والتاريخية مازو 1 فقرة 515 - 5 .
( [1009] ) دائرة النقض بمحكمة الاستئناف في 24 يونية سنة 1908 المجموعة الرسمية 10 رقم 34 ص 81 – استئناف وطني في 19 يناير سنة 1914 الشرائع 1 رقم 441 ص 282 استئناف مختلط في 24 مارس سنة 1910 م 22 ص 232 – وفي 10 فبراير سنة 1927 م 39 ص 235 .
( [1010] ) استئناف مختلط في 4 فبراير سنة 1909 م 21 ص 161 – وفي 16 يناير سنة 1918 م 30 ص 156 .
( [1011] ) أما إذا كان المبلغ موظفاً بين موظفي الأمن العام فلا مسئولية عليه إذا هو بلغ قبل أن يتثبت من صحة الخبر إذا قامت عنده شبهات جدية كافية ، لأن التبليغ عن الجرائم واجب عليه بمقتضى القانون ( محكمة مصر الشكلية الوطنية في 6 ديسمبر سنة 1927 المحاماة 10 رقم 169 ص 337 ) . كذلك يكفي لعدم مسئولية المبلغ أن يكون هو المجني عليه متى قامت لديه شبهات جدية تبرر الاتهام ( أنظر في الموضوع مصطفى مرعى بك في المسئولية المدنية فقرة 85 – مازو 1 فقرة 500 ) .
( [1012] ) استئناف مختلط في 10 يونية سنة 1896 م 8 ص 330 - وفي 29 أبريل سنة 1926 م 38 ص 380 - وفي 22 يناير سنة 1930 م 42 ص 221 – وفي 16 أبريل سنة 1930 م 42 ص 427 .
( [1013] ) استئناف مختلط في 19 مايو سنة 1926 م 38 ص 419 .
( [1014] ) استئناف مختلط في 19 مايو سنة 1926 م 38 ص 419 ( وقد سبقت الإشارة إليه ) . أنظر أيضاً مازو 1 فقرة 501 .
( [1015] ) محكمة الاستئناف الوطنية في 26 ديسمبر سنة 1923 المحاماة 4 رقم 412 ص 538 – محكمة الاستئناف المختلطة في 16 مايو سنة 1895 م 7 ص 286 .
( [1016] ) استئناف مختلط في 4 فبراير سنة 1909 م 21 ص 164 .
( [1017] ) استئناف مختلط في 7 مايو سنة 1908 م 20 ص 211 - وفي 24 أبريل سنة 1947 م 59 ص 189 – وكفسخ الخطبة الطلاق ، كلاهما رخصة لا يجوز الانحراف في استعمالها عن السلوك المألوف للشخص العادى . فإذا غير زوج مسيحي دينه ليطلق امرأته كان مسئولاص عن التعويض ( استئناف مختلط في 5 يونية سنة 1907 م 19 ص 287 ) . أما الزوج المسلم إذا طلق امرأته فلا يكون في الأصل مسئولاً أيضاً عن التعويض إذا كان استعماله لرخصة الطلاق خطأ يوجب مسئوليته التقصيرية ( محكمة مصر الكلية الوطنية في 20 يونية سنة 1922 م 34 ص 486 ) . ولكنه قد يكون مسئولاً أيضاً عن التعويض إذا كان استعماله لرخصة الطلاق خطأ يوجب مسئوليته التقصيرية ( محكمة مصر الكلية الوطنية في 20 يناير سنة 1926 المجموعة الرسمية 28 رقم 65 ص 107 – محكمة شبين الكوم في 10 ديسمبر سنة 1930 المحاماة 11 رقم 277 / 2 ص 540 - محكمة مصر الكلية الوطنية في 10 ديسمبر سنة 1932 المحاماة 13 رقم 564 ص 1133 – قارن محكمة الاستئناف الوطنية في 18 ديسمبر 1927 المجموعة الرسمية 29 رقم 38 ص 82 – وانظر في هذا الموضوع رسالة الدكتور السعيد مصطفى السعيد ) .
( [1018] ) استئناف مختلط في 2 مارس سنة 1922 م 34 ص 214 – وفي 12 يناير سنة 1928 م 40 ص 134 .
( [1019] ) استئناف مختلط في 19 أبريل سنة 1928 جازيت 18 رقم 323 ص 252 – وفي 20 فبراير سنة 1930 م 42 ص 307 .
( [1020] ) استنئاف مختلط في 18 ديسمبر سنة 1924 م 37 ص 84 .
( [1021] ) استئناف مختلط في 7 مايو سنة 1908 م 20 ص 211 .
( [1022] ) أنظر في هذا المعنى استئناف مصر الوطنية في 15 يناير سنة 1924 المحاماة 5 ص 324 – وفي 23 مايو سنة 1926 المجموعة الرسمية 27 رقم 45 ص 68 - وفي 30 يونية سنة 1930 المحاماة 11 رقم 313 / 3 ص 626 - وفي 17 ديسمبر سنة 1931 المحاماة 12 رقم 422 / 2 ص 855 - محكمة الزقازيق الاستئنافية في 3 نوفمبر سنة 1924 المجموعة الرسمية 26 رقم 75 ص 132 .
( [1023] ) أنظر في هذا المعنى استئناف مصر الوطنية في 29 نوفمبر سنة 1925 المجموعة الرسمية 27 رقم 103 ص 161 – وفي 30 يونية سنة 1931 المحاماة 12 رقم 267 ص 539 – محكمة الإسكندرية الكلية الوطنية في 10 ديسمبر سنة 1929 المجموعة الرسمية 31 رقم 27 ص 53 – وفي 14 نوفمبر سنة 1930 المجموعة الرسمية 31 رقم 30 ص 73 – محكمة سوهاج الكلية في 30 مايو سنة 1948 المحاماة 28 رقم 434 ص 1056 – استئناف مختلط في 20 فبراير سنة 1930 م 20 ص 307 – وفي 11 ديسمبر سنة 1930 م 43 ص 79 - وفي 23 فبراير سنة 1932 م 44 ص 196 – وفي 21 نوفمبر سنة 1935 م 48 ص 32 – وفي 6 فبراير سنة 1936 م 48 ص 112 . ويؤيد الأستاذ مصطفى مرعى بك هذا الرأي في كتابه المسئولية المدنية ( فقرة 117 – فقرة 121 ) ويورد طائفة من أحكام القضاء التي أخذت به والتي أخذت بعكسه .
( [1024] ) وأظهر حكم في هذا المعنى ما قضت به محكمة سوهاج الكلية ، وقد جاء في حكمها ما يأتي : " الخطبة تنشئ علاقات بين الطرفين لا يجوز تجاهلها ، كما لا يمكن إغفال اعتبارها ولا تجريدها من أي تقدير قانوني . ففيها يصدر إيجاب يقترن بقبول على الوعد بالزواج ، فهو ارتباط قانوني وعقد قائم . وفي هذا العقد يلتزم كل من الطرفين بإجراء التعاقد النهائي في الوقت الملائم . وإنه وإن كان ليس ثمة ما يوجب وفاء الالتزام عيناً أي إجراء هذا التعاقد النهائي لأن الوعد بالتعاقد لا ينشئ إلا حقاً شخصياً ، إلا أن العدول عن الوفاء بهذا الالتزام يوجب التعويض . وليس في هذا ما يمس حرية الزواج إ " لاقاً ، إذ لكل من الطرفين أصلاً أن يعدل عن وعده . ولكن إذا أجرى ذلك في تهور أو عنف أو خالياً مما يبرره أو بغير مسوغ مشروع أو لمجرد الهوى ، فإن ذلك يوجب التعويض . والتعويض الأدبي لا يقصد به الإثراء ولكن لرد الكرامة ومحو الأثر السيء الذي تخلف عن فعل المخطئ . وتستحق الخطيبة تعويضاً مادياً عما لحقها من ضرر فيما تكلفته من معدات الزواج في مجموعها ما دامت لا تضمن الانتفاع بها على الوجه الصحيح " ( سوهاج الكلية في 30 مايو سنة 1948 المحاماة 28 رقم 434 ص 1056 . وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم ) .
( [1025] ) وتقول محكمة الإسكندرية الكلية الوطنية في هذا المعنى ما يأتي : " ومنشأ المسئولية في هذه الحالة هو الإساءة وهل فعل ضار ، فهي مسئولية عن شبه جنحة ، وليست مسئولية تعاقدية منشؤها الإخلال بعقد " . ( الإسكندرية الكلية الوطنية في 10 ديسمبر سنة 1929 المجموعة الرسمية 31 رقم 27 ص 53 . وقد سبقت الإشارة هذا الحكم ) .
( [1026] ) نقض مدنى في 14 ديسمبر سنة 1939 مجموعة عمر 3 رقم 14 ص 30 – أنظر أيضاً في هذا المعنى نظرية العقد للمؤلف فقرة 480 .
( [1027] ) استئناف مختلط في 29 يناير سنة 1916 جازيت 6 رقم 239 ص 76 .
( [1028] ) استئناف مختلط في 12 ديسمبر سنة 1894 م 7 ص 38 .
( [1029] ) استئناف مختلط في 2 يونية سنة 1921 م 33 ص 368 – وفي 25 يونية سنة 1925 م 37 ص 498 - وفي 12 يناير سنة 1928 م 40 ص 134 .
( [1030] ) محكمة الإسكندرية الكلية المختلطة في 6 أبريل سنة 1911 جازيت 2 ص 126 – محكمة القاهرة الكلية المختلطة في 29 ديسمبر سنة 1913 جازيت 4 رقم 173 ص 67 .
( [1031] ) أنظر في هذه المسألة : استئناف مختلط في 6 يونية سنة 1894 م 6 ص 316 – وفي 7 فبراير سنة 1895 م 7 ص 118 - وفي 6 أبريل سنة 1898 م 10 ص 232 - وفي 2 أبريل سنة 1903 م 15 ص 226 – وفي 5 يونية سنة 1907 م 19 ص 294 وفي 21 مايو سنة 1908 م 20 ص 241 – وفي 14 يونية سنة 1913 م 25 ص 447 – وفي أول ديسمبر سنة 1915 م 28 ص 40 - وفي 27 ديسمبر سنة 1917 م 30 ص 109 – وفي 11 أبريل سنة 1918 م 30 ص 354 – وفي 10 يناير سنة 1924 م 36 ص 140 – وفي 25 أكتوبر سنة 1928 م 41 ص 15 .
( [1032] ) أنظر الموجز في النظرية العامة للالتزامات للمؤلف فقرة 320 .
( [1033] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن الالتجاء إلى القضاء رخصة لا ترتب تعويضاً ( استئناف مختلط في 8 ديسمبر سنة 1917 م 30 ص 72 ) ، إلا إذا كان مصحوباً بسوء نية أو بخطأ جسيم ( استئناف مختلط في 13 ديسمبر سنة 1923 م 36 ص 84 – وفي 20 نوفمبر سنة 1924 م 37 ص 31 ) – ومن الأمثلة على الإجراءات الكيدية الاستئناف الكيدي ( استئناف مختلط في 10 يونية سنة 1914 م 26 ص 415 ) ، والتماس إعادة النظر الكيدي ( استئناف مختلط في 15 أبريل سنة 1924 م 36 ص 313 ) ، ومعارضة الشخص الثالث الكيدية ( استئناف مختلط في 16 مارس سنة 1904 م 16 ص 162 ) . وقضت محكمة النقض بأن إنكار الدعوى إن كان في الأصل حقاً لكل مدعى عليه ، إلا أن هذا الحق ينقلب مخبثة إذا ابتغى المدعى عليه مضارة خصمه وتمادى في الإنكار أو غلا فيه أو تحيل به ( نقض مدني في ) نوفمبر سنة 1933 المحاماة 14 ص 93 ) – وقضت محكمة الاستئناف الوطنية بأن إنكار الأخت لأخيها يعد دفاعاً كيدياً ، فيحكم على الأخت بتعويض الضرر المادي الذي أصاب أخاها من جراء هذا الإنكار وهي المصاريف التي صرفت منه في سبيل إثبات وراثته ، وتلزم أيضاً بتعويض الضرر الأدبي الذي أصاب أخاها بسبب إنكارها ( 12 أبريل سنة 1916 الشرائع 3 رقم 192 ) – وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن الوارث الذي يخسر دعوى الاستحقاق في صورة دفع في معارضة ضد تنبيه بنزع الملكية وبدلاً من أن يستأنف يرفع دعوى استحقاق مستقلة يكون مسئولاً ( 11 ديسمبر سنة 1930 م 43 ص 78 ) .
( [1034] ) أنظر : استئناف مختلط في 7 نوفمبر سنة 1889 م 1 ص 366 – وفي 30 أبريل سنة 1896 م 8 ص 265 – وفي 13 يناير سنة 1904 م 16 ص 101 – وفي 21 مارس سنة 1912 م 24 ص 220 - وفي 12 ديسمبر سنة 1912 م 25 ص 60 - وفي 6 مايو سنة 1926 م 38 ص 393 – وفي 11 مايو سنة 1927 م 39 ص 465 - وفي 18 فبراير سنة 1930 م 42 ص 292 – وفي 26 فبراير سنة 1930 م 42 ص 325 .
( [1035] ) استئناف مختلط في 4 ديسمبر سنة 1889 م 2 ص 41 – وفي 3 ديسمبر سنة 1919 م 32 ص 42 .
( [1036] ) ويعد تنفيذاً كيدياً أن ينفذ الدائن على أموال مدينه بما يزيد كثيراً على الدين ، إذا كانت هذه الأموال تقبل التجزئة بحيث كان يكفي التنفيذ على بعضها ( استئناف مختلط في 29 ديسمبر سنة 1938 م 51 ص 89 ) - ويعد ذلك تنفيذاً كيدياً لتنفيذ بمبالغ أكثر من المبالغ المستحقة ( استئناف مختلط في 22 مايو سنة 1907 م 19 ص 267 ) . ويعتبر بالدائن الذي ينفذ بحقه مسئولاً عن صحة إجراءات التنفيذ ، فإذا اخطأ فيها بما يجعل المزاد باطلاً ، كان مسئولاً عن تعويض الراسي عليه المزاد بمقتضى هذا الخطأ التقصيري ( استئناف مختلط في 11 ديسمبر سنة 1902 م 15 ص 45 – وفي 31 يناير سنة 1918 م 30 ص 187 – وفي 6 يناير سنة 1930 م 42 ص 160 – وفي 4 فبراير سنة 1930 م 42 ص 249 ) . كذلك المدين إذا علم أن الشيء المحجوز عليه ليس ملكه ومع ذلك يترك التنفيذ يتم ويخصم الثمن الذي رسا به المزاد من دينه ، فإنه يكون مسئولاً ( استئناف مختلط في ) يناير سنة 1902 م 14 ص 82 ) . ومن الأمثلة على التنفيذ الكيدي الحجز القضائي الكيدي ( استئناف مختلط في 7 فبراير سنة 1907 م 19 ص 134 – وفي 20 نوفمبر سنة 1924 م 37 ص 31 – وفي 11 فبراير سنة 1925 م 37 ص 223 ) ، والحجز الإداري الكيدي ( استئناف مختلط في 28 فبراير سنة 1929 م 41 ص 281 – وفي 6 مارس سنة 1930 م 42 ص 346 ) . والحراسة الكيدية ( استئناف مختلط في أول مايو سنة 1924 م 36 ص 347 ) . ولا يعتبر تنفيذاً كيدياً أن يوقع الدائن الحجز على محصولات المستأجر من المدين بحسن نية ولا يقدم المستأجر ما يدل على أن المحصولات له ( استئناف مختلط في 30 نوفمبر سنة 1893 م 6 ص 55 ) .
أنظر في حق الإدعاء وحق دفع الدعوى وحق الاستعانة بوسائل التنفيذ والتحفظ إذا كان استعمال هذه الرخص كيدياً إلى مصطفى مرعى بك في المسئولية المدنية فقرة 86 – فقرة 102 .
( [1037] ) ويلاحظ أن المادة 807 من القانون المدنى الجديد رسمت حداُ لحق الملكية ، فقضت ألا يغلو المالك في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار ، وأن للجار أن يطلب إزالة مضار الجوار إذا تجاوزت الحد المألوف . فالخروج على هذا الحد رسمه القانون لحق الملكية يعد خروجاً على حدود الحق لا تعسفاً في استعماله ( قارن مصطفى مرعى بك في المسئولية المدنية فقرة 111 - فقرة 116 ) . وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة في هذا الصدد بأن الشركة التي تقيم مصانع وآلات في أحياء للسكن تكون مسئولة عما يقع من أضرار غير مألوفة ( استئناف مختلط في 2 مايو سنة 1940 م 52 ص 246 ) . وقضت أيضاً بأنه إذا نجم عن تشييد بناء ضرر للعقار المجاور ، فإن صاحب البناء والمقاول والمهندس مسئولون بالتضامن عن الضرر ( استئناف مختلط في 23 يناير سنة 1941 م 53 ص 72 ) . وقضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأنه إذا أنشأت الحكومة محطة من محطات المجارى على قطعة من أملاكها أقلقت إدارتها راحة السكان في حي مخصص للسكنى ، كان لهؤلاء السكان الحق في الرجوع على الحكومة بالتعويض عما أصابهم وأصاب أملاكهم من أضرار ( استئناف مصر الوطنية في 17 أكتوبر سنة 1940 المحاماة 21 رقم 376 ص 891 ) . وقضت بألا مسئولية إذا بنيت منازل بجانب مصانع كانت موجودة قبل بناء المنازل ( استئناف مصر الوطنية في 31 ديسمبر سنة 1927 المجموعة الرسمية 29 رقم 41 ص 89 ) .
( [1038] ) ومسئولية الحكومة مسئولية تقصيرية لا تخضع للقضاء الإداري كما قدمنا . ومن ثم لم تتقرر مبادئ خاصة بهذه المسئولية الإدارية على غرار المبادئ التي قررها مجلس الدولة في فرنسا وهو مختص بنظر هذا النوع من الأقضية . والقضاء العادي في مصر يطبق في شأن مسئولية الحكومة مسئولية تقصيرية قواعد المسئولية التي يطبقها على الأفراد والهيئات الخاصة . ويبدو ذلك بنوع خاص في رفض هذا القضاء تحميل الحكومة تبعة الأشغال العامة التي تقوم بها لمصلحة المجموع . وقد وصل مجلس الدولة في فرنسا إلى تحميل الحكومة هذه التبعة ، فلا يشترط خطأ لجعل الحكومة مسئولة عن الأضرار التي تقع بسبب ما تقوم به من الأشغال العامة ، وهذا ضرب من التضامن الاجتماعي إذ يعوض المجموع الفرد ما يلحقه من الضرر عن عمل تم لمصلحة المجموع .
ونذكر بعضاً من الأحكام التي صدرت من المحاكم الوطنية في مصر في شأن مسئولية الحكومة مسئولية تقصيرية : نقض جنائي في 27 مايو سنة 1931 المحاماة 12 رقم 148 ص 269 ( مسئولية الحكومة عن أعمال موظفيها في أثناء تأدية الوظيفة أو بسببها أو بمناسبتها ) – نقض مدني في 21 يونية سنة 1934 المحاماة 15 رقم 42 / 1 ص 83 ( مسئولية الحكومة عن إبقاء أجنبي محبوساً مدة طويلة بغرض إبعاده ) – نقض مدني في 3 يونية سنة 1937 مجموعة عمر 2 رقم 61 ص 170 ( عدم مسئولية الحكومة عن ضرر تحقق حصوله من مشروع عام ما دام المشروع قد نفذ بطريقة فنية : ولم ترض المحكمة العليا أن تحمل الحكوتمة تبعة الأشغال العامة ) – نقض مدني في 16 فبراير سنة 1939 مجموعة عمر 2 رقم 165 ص 505 ( مسئولية الحكومة عن استيلائها على أرض وسواق قبل نزع ملكيتها ) – نقض مدني في 4 ديسمبر سنة 1941 مجموعة عمر 3 رقم 127 من 387 ( مسئولية الحكومة عن مرض وبائي في الأشجار المغروسة في جوانب الطرق العامة ) – نقض مدني في 4 مارس سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 33 ص 62 ( مسئولية الحكومة عن تشتيت المظاهرات وقتل شخص غير متظاهر ) – نقض مدني في 4 نوفمبر سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 74 ص 206 ( مسئولية الحكومة عن ترعة سببت نشعاً ) – بل وقد تسأل الحكومة عن بطئها غير العادي في نقل التكليف ( استئناف مختلط في 5 أبريل سنة 1936 المحاماة 17 رقم 480 ص 939 ) – استئناف مصر الوطنية في 26 مايو سنة 1930 المحاماة 7 رقم 33 ص 59 ( مسئولية الحكومة عن الحوادث التي تقع بسبب مزلقانات السكك الحديدية : أنظر أيضاً في هذه المسألة : استئناف مصر الوطنية في 24 يونية سنة 1933 المحاماة 14 رقم 90 / 2 ص 175 – وفي 18 فبراير سنة 1937 المحاماة 17 رقم 590 ص 1180 – استئناف مختلط في 3 ديسمبر سنة 1931 المحاماة 13 رقم 315 ص 610 ) – استئناف مصر الوطنية في 11 مايو سنة 931 المحاماة 12 رقم 127 ص 238 ، ( تبخير وزارة الزراعة الأشجار بطريقة فنية لا يوجب مسئوليتها – استئناف مصر الوطنية في ي 20 نوفمقر سنة 1932 المحاماة 13 رقم 356 ص 720 ( مسئولية الحكومة عن إهمال قلم المحضرين ) - استئناف مصر الوطنية في 22 أبريل سنة 1934 المحاماة 15 رقم 264 / 2 ص 558 ( ضرورة عدم مجاوزة المدة اللازمة لإطلاق النار على المتظاهرين ) – استئناف مصر الوطنية في 4 نوفمبر سنة 1934 المحاماة 15 رقم 194 / 2 ص 194 ( إصابة خفير شخصاً خطأ بعيار ناري – أنظر أيضاً استئناف مختلط في 19 فبراير سنة 1947 م 59 ص 201 : عسكري يطلق البندقية قبل الإنذار ) – استسناف مصر الوطنية في 12 مايو سنة 1935 المحاماة 16 رقم 123 ص 293 ( سحب رخصة آثار مخالف للقانون ) – استئناف مصر الوطنية في 7 مارس سنة 1937 المحاماة 17 رقم 593 س 1185 ( تعويض الأهالي عن أعمال الوقاية من الفيضان كقطع جسر النيل وتصريف المياه في أرض الغير ) .
( [1039] ) بعض المراجع : سالى ( في مجلة الدراسات التشريعية Bull . Soe .et . legislatives سنة 1905 ص 325 ) – جوسران في التعسف في استعمال الحقوق سنة 1905 – بلانيول ( المجلة الانتقادية سنة 1905 ص 157 وسنة 1906 ص 80 ) – كامبيون ( Campion ) في نظرية التعسف في استعمال الحقوق بروكسل سنة 1925 . جوسران في روح الحقوق وفي نسبتها سنة 1927 – بنكاز ( Bonneease ) ملحق بودري 3 فقرة 187 وما بعدها – ريبير في القاعدة الأدبية في الالتزامات فقرة 89 وما بعدها ، والنظام الديمقراطي فقرة 117 وما بعدها – ديموج في الالتزامات 6 فقرة 634 وما بعدها – بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 573 وما بعدها – الرسائل : بوسك ( Bosc ) مونبيلييه سنة 1901 – كوربسكو ( Corbesco ) باريس سنة 1903 – سافتييه ( Savatier ) بواتييه سنة 1916 – في القانون المقارن : أحمد فتحي في نظرية التعسف في استعمال الحقوق في الفقه الإسلامي ليون سنة 1913 ماركوفتش ( Markovitch ) ليون سنة 1936 – الدكتور السعيد مصطفى السعيد بك في مدى استعمال حقوق الزوجية القاهرة سنة 1936 – الفقه المصري : الموجز في النظرية العامة في الالتزامات للمؤلف فقرة 322 وما بعدها - مصطفى مرعى بك في المسئولية المدنية فقرة 74 وما بعدها – الدكتو أحمد حشمت أبو ستيت بك فقرة 453 وما بعدها – الدكتور سليمان مرقص في الفعل الضار فقرة 37 وما بعدها .
( [1040] ) أبلتون في المجلة الدولية للتعليم سنة 1924 ص 151 ب .
( [1041] ) منقول عن مازو 1 فقرة 556 .
( [1042] ) أنظر في هذا الموضوع رسالة المرحوم الأستاذ أحمد فتحي في نظرية التعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي – الدكتور السعيد مصطفى السعيد بك في مدى استعمال حقوق الزوجية .
( [1043] ) أنظر المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي للقانون المدني الجديد 1 الباب التمهيدي ص 31 – ص 35 .
( [1044] ) دبللوز 185 – 2 – 9 .
( [1045] ) أنظر مازو 1 فقرة 577 – تعليق فرون ( ferron ) فى سيريه 1905 – 2 – 19 .
( [1046] ) سنكتلت ( sainetelette ) في كتابه المسئولية والضمان ( Responsabilite et garantie ) – سوزيه ( Sauzet ) في المجلة الانتقادية للتشريع والقضاء سنة 1883 ص 616 وما بعدها .
( [1047] ) وقد كان القانون الإداري طليعة للقانون المدني في نظريات ثلاث من النظريات الرئيسية : نظرية التعسف في استعمال الحق ونظرية الحوادث الطارئة ونظرية تحمل التبعة .
( [1048] ) وهذا أصل ما كتبه بلانيول : Le droite cesse ou l'abus commence, e il ne peut y avoir usage abusive d'un droite quelconque, pour la raison irrefatable qu'un scul et meme acte ne peut pas etre tout a la conforme au droite et contraire au droit, ( planiol II no . 841 )
( [1049] ) الموجز في النظرية العامة للالتزامات للمؤلف فقرة 324 – وجاء في هذه الفقرة أيضاً ما يأتي : " أما الذين ينكرون على النظرية أن من معاييرها تلمس الدافع الذي حدا بالشخص على استعمال حقه على النحو الذي اختاره ، وأن الدافع شيء نفسي يتعذر الغوص عليه في أعماق الضمير ، فينبغي أن يتنبهوا إلى أن هذا النقد لا ينصب على هذه النظرية وحدها ، بل هو يتناول كل معيار شخصي في القانون . والمعايير الشخصية كثيرة . وفي كل وقت يطلب من القاضي أن يطبقها على الأقضية التي تعرض له ، فيبحث عن حسن النية وسوء النية ، وعن الغلط الدافع للتعاقد ، وعن السبب الدافع كركن من أركان الالتزام ، وعن الغش والتواطؤ في الدعوى البوليصية ، وما إلى ذلك " .
( [1050] ) أنظر في هذه التشريعات المختلفة مازو 1 فقرة 558 .
( [1051] ) وهذا ما جاء في المادة الثانية من القانون المدني السويسري : " يجب على كل شخص أن يستعمل حقوقه وأن يقوم بتنفيذ التزاماته طبقاً للقواعد التي يرسمها حسن النية . أما التعسف الظاهر ( abus manifeste ) في استعمال الحق فلا يقره القانون " . ونصت المادة 226 من القانون الألماني على أنه " لا يجوز استعمال حق لمجرد الإضرار بالغير " ونصت الفقرة الثانية من المشروع الفرنسي الإيطالي ما يأتي : " يلتزم أيضاً بالتعويض كل من أوقع ضرراً بالغير ، بأن جاوز في استعماله لحقه الحدود التي يقيمها حسن النية أو الغرض الذي من أجله أعطى هذا الحق " .
أنظر أيضاً المادة 135 من قانون الالتزامات البولوني والفقرة الثانية من المادة 1295 من القانون النمساوي والمادة الأولى من القانون السوفييتي .
( [1052] ) مثل ذلك : م 38 / 59 – 60 مدني قد : " ليس للجار أن يجبر جاره على إقامة حائط أو نحوه على حدود ملكه ولا على أن يعطيه جزءاً من حائطه أو من الأرض التي عليها الحائط المذكور ، ومع ذلك ليس لمالك الحائط أن يهدمه لمجرد إرادته إن كان ذلكيترتب عليه حصول ضرر للجار المستتر ملكه بحائطه ما لم يكن هدمه بناء على باعث قوي " . – م 115 / 120 من قانون المرافعات القديم : " يجوز للمحكمة في جميع الدعاوى أن تحكم بتعويضات في مقابلة المصاريف الناشئة عن دعوى أو مرافعة كان القصد منها مكيدة الخصم " .
( [1053] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في يهذا الصدد ما يأتي : " بيد أن المشروع أحل النص الخاص بتقرير نظرية التعسف في استعمال الحق مكاناً بارزاً بين النصوص التمهيدية لأن لهذه النظرية من معنى العموم ما يجعلها تنبسط على جميع نواحي القانون دون أن تكون مجرد تطبيق لفكرة العمل غير المشروع . وإذا كان القضاء قد رأى أن يستند في تطبيقها إلى قواعد المسئولية التقصيرية بسبب قصور النصوص ، فهو لم يقصر هذا التطبيق على ناحية معينة من نواحي القانون المدني ، وإنما بسطه على هذه النواحي جميعاً ، بل وعلى نواحي القانون قاطبة ، فهو يجزم بأن النظرية تنطبق على روابط الأحوال الشخصية كما تنطبق على الروابط المالية ، وأنها ستري في شأن الحقوق العينية سريانها في شأن الحقوق الشخصية ، وأنها لا تقف عند حدود القانون الخاص بل تجاوزه إلى القانون العام . ولذلك آثر المشروع أن يضع هذه النظرية وضعاً عاماً ، محتذياً مثال أحدث التقنينات وأرقاها ( أنظر المادة 2 من التقنين المدني السويسري والمادة الأولى من التقنين المدني السوفييتي ) . وقد ساعد على اختيار هذا المسلك إقرار الشريعة الإسلامية لنظرية التعسف في استعمال الحق بوصفها نظرية عامة وعناية الفقه الإسلامي بصياغتها صياغة تضارع إن لم تقف في دقتها وإحكامها أحدث ما أسفرت عنه مذاهب المحدثين من فقهاء الغرب . وإزاء ذلك حرص المشروع على أن ينتفع في صياغة النص بالقواعد التي استقرت في الفقه الإسلامي ، وهي قواعد صدر عنها التشريع المصري في التطبيقين اللذين تقدمت الإشارة إليهما ( المواد 38 / 59 – 60 مدني و 115 / 120 مرافعات ) واستلهمها القضاء في كثير من أحكامه ( استئناف مختلط في 6 أبريل سنة 1906 م 18 ص 189 – وفي 3 مايو سنة 1906 م 18 ص 235 ) . ولهذا لم ير المشروع أن ينسج على منوال التقنين السويسري في النص على أن كل شخص يجب عليه أن يباشر حقوقه ويبقى التزاماته وفقاً لما يقتضي حسن النية أن يختار الصيغة التي آثرها المشرع السوفييتي إذ قضى في المادة الأولى من التقنين المدني بأن القانون يتكفل بحماية الحقوق المدنية إلا أن تستعمل على وجه يخالف الغرض الاقتصادي أو الاجتماعي من وجودها . وأعرض أيضاً عن الصيغة التي اختارها التقنين اللبناني ( م 124 ) وهي لا تعدو أن تكون مزاجاً من نصوص التقنين السويسري والتقنين السوفييتي . والواقع أن المشرع تحامى اصطلاح " التعسف " لسعته وإبهامه وجانب أيضاً كل تلك الصيغ العامة بسبب غموضها وخلوها من الدقة ، واستمد من الفقه الإسلامي بوجه خاص الضوابط الثلاثة التي اشتمل عليها النص . ومن المحقق أن تفصيل الضوابط على هذا النحو يهيئ للقاضى عناصر نافعة للاسترشاد ، ولا سيما أنها جميعاً وليدة تطبيقات عملية انتهى إليها القضاء المصري عن طريق الاجتهاد . . . . وعلى هذا النحو وضع المشروع دستوراً لمباشرة الحقوق ألف فيه بين ما استقر من المبادئ في الشريعة الإسلامية وبين ما انتهى إليه الفقه الحديث في نظرية التعسف في استعمال الحق ولكن دون أن يتقيد كل التقيد بمذاهب هذا الفقه . وبذلك أتيح له أن يمكن للنزعة الأخلاقية والنزعات الاجتماعية الحديثة وأن يصل بين نصوصه وبين الفقه الإسلامي في أرقى نواحيه وأحفلها بعناصر المرونة والحياة " . ( المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي 1 الباب التمهيدي ص 31 – ص 32 و ص 35 ) .
( [1054] ) تاريخ النص : لم يكن للمادة 4 مقابل في المشروع التمهيدي . وقد اقترح في لجنة المراجعة وضع النص الآتي : " من استعمل حقه استعمالاً جائزاً لا يكون مسئولاً عما ينشأ عن ذلك من ضرر " ، ليقرر المبدأ العام الذي يمهد للنص التالي الخاص بالتعسف في استعمال الحق ، فأقرت اللجنة النص وأصبح رقمه المادة 4 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب عليه ، ثم لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ بعد استبدال كلمة " مشروعاً " بكلمة " جائزاً " وبقى رقم النص المادة 4 . ووافق عليه مجلس الشيوخ كما أقرته لجنته . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 199 – ص 200 ) .
( [1055] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 6 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " يصبح استعمال الحق غير جائز في الأحوال الآتية : ( 1 ) إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير ( ب ) إذا كان متعارضاَ مع مصلحة عامة جوهرية ( ج ) إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها غير مشروعة ، أو كانت هذه المصالح قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها ، أو كان استعمال الحق من شأنه أن يعطل استعمال حقوق تتعارض معه تعطيلاً يحول دون استعمالها على الوجه المألوف " . وفي لجنة المراجعة عدلت المادة على الوجه الآتي : " يكون استعمال الحق غير جائز في الأحوال الآتية : ( 1 ) إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير ( ب ) إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها ( ج ) إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها غير مشروعة " . ووافق مجلس النواب على المادة تحت رقم 5 . ووافقت عليها لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ بعد استبدال كلمة " مشروع " بكلمة " جائز " ، وبقى رقمها 5 . ووافق عليها مجلس الشيوخ كما أقرتها لجنته . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 200 – ص 211 ) .
( [1056] ) وقد ناقشت لجنة مراد سيد أحمد باشا طويلاً المكان الذي يوضع فيه النص الخاص بالتعسف في استعمال الحق . فقال أحد الأعضاء إن نظرية إساءة استعمال الحق إن هي إلا توسع في فكرة العمل غير المشروع ، ولهذا السبب يكون مكانها المنطقي في باب الالتزامات بين تلك التي تنشأ عن العمل غير المشروع ، وهذا هو ما أخذت به أحدث التشريعات كالمشروع الفرنسي الإيطالي والقانون البولوني والقانون اللبناني . فقيل رداً على ذلك إن نطاق تطبيق مبدأ استعمال الحق ليس مقصوراً عن الحقوق الناشئة عن التزامات ، بل يمتد إلى كل قانون سواء في ذلك القانون المدني أو القانون التجاري أو قانون المرافعات أو القانون العام . فإذا كان هناك نص ينبغي بطبيعته أن يدرج بين النصوص التمهيدية فهو ذلك الخاص بإساءة استعمال الحق وقد أورد التقنين السويسري نصاً بهذا المعنى في الباب التمهيدي ( م 2 ) . أما التقنين الألماني فقد أفرد لهذا الموضوع نصاً تحت عنوان " في استعمال الحقوق " ( م 266 ) . وإذا كانت بعض التقنينات الحديثة قد أوردت هذا النص في باب الالتزامات فما ذلك إلا اضطراراً ، حيث إن هذه التقنينات إنما جاءت خاصة بالالتزامات . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 202 – 204 في الهامش ) .
( [1057] ) أنظر بنكلز ملحق بودري 3 فقرة 236 - سافاتييه في تعليق له في داللوز 1938 – 1 – 73 .
( [1058] ) وذلك كالحكم على من أقام حائطاً في ملكه ليحجب النور عن جاره بمبلغ من المال يدفعه عن كل يوم يتأخر فيه عن إزالة هذا الحائط .
( [1059] ) ماز 1 فقرة 564 هامش رقم 2 .
( [1060] ) وقد قضت محكمة النقض بأن نظرية إساءة استعمال الحق مردها إلى قواعد المسئولية في القانون المدني ، لا إلى قواعد العدل والإنصاف المشار إليهما في المادة 29 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية ( القديمة ) . فإذا كان الحكم قد أسس قضاءه على تلك النظرية ، فإنه يكون قد أعمل القانون المدني في الدعوى لا قواعد العدل والإنصاف ( وكان وجه الطعن هو أن الحكم خالف المادة 29 من اللائحة إذ أخذ بنظرية إساءة استعمال الحق على الرغم من صراحة نص العقد في حين أنه لا مجال للاجتهاد والاستناد إلى قواعد العدل متى كان النص صريحاً ) نقض مدني في 28 نوفمبر سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 144 ص 259 ) .
( [1061] ) فلو أن شخصاً يملك أرضاً للصيد ، وصاد فيها ، فأصاب شخصاً آخر دون أن يتعمد ذلك ، فإنه لا يكون لديه قصد الإضرار بالغير حتى لو ثبت أنه تصور احتمال وقوع هذه الإصابة ، ولا يعد هذا التصرف تعسفاً ، لا باعتبار أنه ينطوي على قصد الإضرار بالغير ، ولا بأي اعتبار آخر ، إذ هو لا يدخل تحت حالة من الحالات الثلاث التي يتحقق فيها التعسف في استعمال الحق .
( [1062] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وأول هذه المعايير هو معيار استعمال الحق دون أن يقصد من ذلك سوى الإضرار بالغير . وهذا معيار ذاتي استقر الفقه الإسلامي والفقه الغربي والقضاء على الأخذ به . وقد أفرد له التقنين الألماني المادة 226 وهي في طليعة النصوص التشريعية التي دعمت أسس نظرية التعسف في استعمال الحق . والجوهري في هذا الشأن هو توافر نية الإضرار ، ولو أفضى استعمال الحق إلى تحصيل منفعة لصاحبه . ويراعى أن القضاء جرى على استخلاص هذه النية من انتفاء كل مصلحة من استعمال الحق استعمالاً يلحق الضرر بالغير متى كان صاحب الحق على بينة من ذلك . وقد جرى القضاء أيضاً على تطبيق الحكم نفسه في حالة تفاهة المصلحة التي تعود على صاحب الحق في هذه الحالة " ( المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي 1 الباب التمهيدي ص 32 – ص 33 ) .
( [1063] ) أنظر أيضاً المادتين 826 و 1029 من القانون المدني الجديد . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " والثانية حالة استعمال الحق ابتغاء تحقيق مصلحة قليلة الأهمية لا تتناسب مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها . والمعيار في هذه الحالة مادي . ولكنه كثيراً ما يتخذ قرينة على توافر نية الإضرار بالغير . ويساير الفقه الإسلامي في أخذه بهذا المعيار اتجاه الفقه والقضاء في مصر وفي الدول الغربية على حد سواء " . ( المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي 1 الباب التمهيدي ص 34 ) .
( [1064] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " الأولى حالة استعمال الحق استعمالاً يرمي إلى تحقيق مصلحة غير مشروعة . وتعبير المشروع في هذا المقام خير من نص بعض التقنينات على صرف الحق عن الوجهة التي شرع من أجلها . ولا تكون المصلحة غير مشروعة إذا كان تحقيقها يخالف حكماً من أحكام القانون فحسب ، وغنما يتصل بها هذا الوصف أيضاً إذا كان تحقيقها يتعارض مع النظام العام أو الآداب . وغذا كان المعيار في هذه الحالة مادياً في ظاهره ، إلا أن النية كثيراً ما تكون الغلة الأساسية لنفي صفة المشروعية عن المصلحة . وأبرز تطبيقات هذا المعيار يعرض بمناسبة إساءة الحكومة لسلطاتها كفصل الموظفين إرضاء لغرض شخصي أو شهوة حزبية ( استئناف مصر الدوائر المجتمعة في أول مارس سنة 1928 المحاماة 8 ص 750 ) . وأحكام الشريعة الإسلامية في هذا الصدد تتفق مع ما استقر عليه الرأي في التقنينات الحديثة والفقه والقضاء . ( المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي 1 الباب التمهيدي ص 33 ) .
( [1065] ) أنظر جوسران 2 فقرة 296 .
( [1066] ) أنظر فى نقد معيار الغرض غير المشروع مازو 1 فقرة 575 .
( [1067] ) أنظر في نقد معيار الهدف الاجتماعي مازو 1 فقرة 572 .
( [1068] ) المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي 1 الباب التمهيدي ص 33 – مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 209 .
( [1069] ) المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي 1 الباب التمهيدي ص 34 – مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 210 .
( [1070] ) أنظر آنفاً فقرة 551 - هذا وقد كان النص الخاص بالتعسف في استعمال الحق محل مناقشات مشبهة في لجنتي مراد سيد أحمد باشا وكامل مصدقي باشا . وقد أقرت لجنة مراد سيد أحمد باشا النص الآتي : " لا يسمح باستعمال الحق إذا تجاوز الحدود التي يمليها حسن النية أو يقررها الغرض الذي من أجره وجد هذا الحق " . وفي لجنة كامل صدق باشا اقترح النص الآتي : " لا يكون استعمال الحق مشروعاً إذا جاوز الحدود التي يقتضيها حسن النية أو الغرض الذي من أجله تقرر هذا الحق " . وذكر أن هذا النص يكاد يردد حرفياً ما جاء بالمادة 74 فقرة 2 من المشروع الفرنسي الإيطالي والمادة 35 من القانون البولوني والمادة 124 من القانون اللبناني . وقال أحد أعضاء اللجنة إنه يبدو من مقارنة وجهات النظر جميعاً أن نظرية إساءة استعمال الحق تخضع لاعتبارين أساسيين : أحدهما نفسي محض وهو نية التدليس التي تصرف العمل المشروع إلى قصد واحد هو الإضرار بالغير ، والثاني مادي يواجه الضرر المتسبب عن مباشرة هذا العمل في نطاق يجاوز الحدود المادية المرسومة له ، وقد اقترح بناء على ذلك النص التالي : " لا يجوز لأحد أن يستعمل حقه دون مصلحة تعود عليه ولمرد قصد الإضرار بالغير " ، فهذا النص يوفق بين الاعتبارين السابق ذكرهما ، ويتضمن الشروط الأربعة المطلوبة وهي : ( 1 ) استعمال الحق . ( 2 ) انعدام المصلحة من هذه الاستعمال . ( 3 ) قصد الإضرار ( ويستوي معه الخطأ الجسيم ) . ( 4 ) الضرر الفعلي . ورأى أحد الأعضاء أن من الخير عدم استحداث جديد في هذه النظرية وذلك باقتباس نص قائم في أي من التشريعات الحديثة لتجنيب المحاكم الوقوع في العثرات التي يهيئها تطبيق نص جديد في مثل هذا الموضوع ، واقترح اقتباس نص المشروع الفرنسي الإيطالي . واقترح أحد الأعضاء النص التالي : " يعد مسئولاً كل من تجاوز حدود الغرض الاجتماعي الذي من أجله تقرر الحق " .
وتقدم أحد الأعضاء بنص آخر يجمع بين الفكرة التي عبر عنها القانون المدني الألماني وفكرة استعمال الحق بطريقة منافية للغرض الاجتماعي الذي من أجله تقرر إلحاق ، على النحو الآتي : " تنتهي مشروعية استعمال الحق إذا كان من شأنه الإضرار بالغير دون فائدة تعود على من يستعمله ، أو إذا كان مخالفاً صراحة للغرض الاجتماعي الذي تقرر من أجله " . ثم اقترح أخيراً الأخذ بالنص الوارد في المشروع النهائي للقانون المدني الإيطالي وهو : " لا يسوغ لأحد أن يستعمل حقه بطريقة تتعارض والغرض الذي من أجله تقرر له هذا الحق " . فوافقت اللجنة على الأخذ بهذا النص وجعله المادة 7 من الباب التمهيدي . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 204 – ص 208 في الهامش ) .
( [1071] ) وكان القضاء المصري في عهد القانون القديم يطبق هذه المبادئ قبل أن ترد في نصوص القانون الجديد . من ذلك ما قضت به محكمة استئناف مصر الوطنية من أن نظرية الاعتساف في استعمال الحق تسمح بأن يكون لصاحب الحق جواز إنكاره بما يرجع لتقديره هو لظروفه الخاصة به ، إلا إذا استخدم بقصد التنكيل بالغير ولغير غرض جدى شريف يرجوه لنفسه من وراء الإنكار ( استئناف مصر في 22 يونية سنة 1931 المحاماة 12 رقم 222 ص 443 ) . وما قضت به محكمة مصر الكلية الوطنية من أنه لا يجوز استعمال الحق إذا كان الغرض الأساسي منه هو الإضرار بالغير ( محكمة مصر الكلية الوطنية في 31 مايو سنة 1937 المحاماة 18 رقم 31 ص 74 ) . وما قضت به محكمة الاستئناف المختلطة فيمن اختار عمداً من بين الطرف القانونية المواتية له ما يضر منها بالغير من غير أية فائدة يجنيها ، فإنه يسيء استعمال حقه ويلزم بالتعويض ( استئناف مختلط في 12 فبراير سنة 1 936 المحاماة 17 رقم 333 ص 698 ) . وما قضت به هذه المحكمة أيضاً من أن التعسف في استعمال الحق عمل غير مشروع ، إما لأنه قد تم بقصد الإضرار بالغير ، وغما لأنه انحرف عن العرض الذي أعطى الحق من أجله ، وإما لأنه ألحق بالغير ضرراً جسيماً ( استئناف مختلط في 7 أبريل سنة 1945 م 57 ص 125 ) .
هذا وجزاء التعسف في استعمال الحق يغلب أن يكون تعويضاً نقدياً . وقد يكون تعويضاً عينياً ، إما بإزالة الضرر بعد أن وقع ( هدم الحائط الذي يحجب النور مثلاً ) ، وإما يمنع الضرر أن يقع ( كما إذاك أن في التنفيذ العيني إرهاق للمدين ، وتعسف الدائن في المطالبة بهذا التنفيذ في غير مصلحة جدية ، فإنه يمنع من ذلك ويفرض عليه أن يقتصر على تعويض نقدي : م 203 فقرة 2 ) . وسنرى أمثلة أخرى في التطبيقات التشريعية للتعسف .
( [1072] ) هذا وكثيراً ما تختلط تطبيقات التعسف في استعمال الحق بتطبيقات الخروج عن حدود الحق أو الرخصة . وقد سبق أن بينا الفرق ما بين الوضعين .
( [1073] ) أنظر في تطبيقات تشريعية أخرى يتنوع فيها الجزاء : م 124 ( التمسك بالغلط على وجه يتعارض مع ما يقضي به حسن النية ) – م 516 فقرة 10 ( عزل الشريك من الإدارة دون مسوغ ) – م 594 فقرة 2 ( إيجار من الباطن للعقار الذي أنشئ به مصنع أو متجر ) – م 815 ( تعلية الحائط المشترك ) – م 1023 ( زيادة عبء حق الارتفاق ) – م 10224 - 1025 ( تجزئة العقار المرتفق والعقار المرتفق به ) م 1094 ( إنقاص حق الاختصاص إلى الحد المناسب ) – م 1106 ( إدارة المرهون رهن حيازة إدارة سيئة ) .
( [1074] ) استئناف مختلط في 17 أبريل سنة 1919 م 31 ص 252 – وفي 12 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 27 .
( [1075] ) استئناف مختلط في 14 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 34 – وفي 9 ديسمبر سنة 1937 م 50 ص 42 .
( [1076] ) استئناف مختلط في 10 يونية سنة 1915 م 27 ص 403 .
( [1077] ) استئناف مختلط في 25 نوفمبر سنة 1880 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلطة 6 ص 8 .
( [1078] ) استئناف مختلط في 19 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 41 – وأنظر أيضاً : استئناف مختلط في 9 ديسمبر سنة 1903 م 16 ص 45 – وفي 10 أبريل سنة 1913 م 25 ص 308 – وفي 30 ديسمبر سنة 1914 م 27 ص 93 – وفي 25 يونية سنة 1918 م 30 ص 491 – وفي 21 فبراير سنة 1924 م 36 ص 242 – وفي 12 مايو سنة 1925 م 37 ص 417 .
( [1079] ) نقض مدني في 19 نوفمبر سنة 1942 مجموعة عمر 4 رقم 3 ص 3 – وقد يقع التعسف في استعمال السلطة عن طريق قرار إداري يصدر من الموظف ، فيكون باطلاً ويوجب التعويض . وكل من دعوى الإلغاء ودعوى التعويض في هذه الحالة يكون من اختصاص محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة ، ويشترك القضاء العادي مع القضاء الإداري في الاختصاص بنظر دعوى التعويض دون دعوى الإلغاء . وقد يقع التعسف في استعمال السلطة عن طريق عمل مادي ، فيوجب مسئولية كل من الموظف والحكومة مسئولية تقصيرية ، ودعوى المسئولية هنا من اختصاص القضاء العادي وحده .
( [1080] ) استئناف مختلط في 28 يناير سنة 1885 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلطة 10 ص 43 – وفي 22 يناير سنة 1891 م 3 ص 164 – وفي 20 مايو سنة 1897 م 9 ص 349 – وفي 2 يناير سنة 1901 م 13 ص 93 – وفي 25 نوفمبر سنة 1909 م 22 ص 24 – وفي 18 أبريل سنة 1912 م 24 ص 292 – وفي 11 ديسمبر سنة 1912 م 25 ص 58 – وفي 3 أبريل سنة 1913 م 25 ص 297 – وفي 4 مارس سنة 1915 م 27 ص 199 – وفي 26 مايو سنة 1926 م 38 ص 443 – وفي 2 فبراير سنة 1928 م 40 ص 176 – أنظر أيضاً : استئناف وطني في 10 يونية سنة 1896 القضاء 3 ص 406 .
( [1081] ) ووقوع الضرر مسألة موضوعية لا رقابة فيها لمحكمة النقض . ولكن الشروط الواجب توافرها في الضرر ، وجواز التعويض عن الضرر الأدبي ، وانتقال هذا التعويض إلى الورثة كل هذه مسائل قانونية تخضع لرقابة محكمة النقض ( الدكتور سليمان مرقص في الفعل الضار ص 30 ) .
( [1082] ) محكمة الاستئناف الوطنية في 15 يونية سنة 1914 الشرائع 1 رقم 412 ص 251 .
( [1083] ) استئناف مختلط في 29 مارس سنة 1944 م 56 ص 97 – وفي 28 يونية سنة 1944 م 56 ص 210 .
( [1084] ) ويكفي أن يكون من فقد العائل له حق في النفقة ولو لم يكن يعال بالفعل ، ذلك أن فقد العائل قد أضاع عليه حقاً ثابتاً هو حقه في النفقة . أما إذا كان ليس له حق في النفقة ولكن كان يعال فعلاً ، فسنرى أن الضرر الذي ينزل به في هذه الحالة يكون إخلالاً بمصلحة مالية لا إخلالاً بحق ثابت – أما الزوج فلا يطالب بتعويض عن ضرر مادي بسبب موت زوجته لأن الزوج لا تجب له النفقة على زوجته ( استئناف مختلط في 19 أبريل سنة 1944 م 56 ص 106 ) . ولكن الزوجة تطالب بتعويض عن الضرر المادي لأن لها النفقة على زوجها ، فإذا ما تزوجت ثانية بعد موت زوجها الأول كان هذا محل اعتبار في تقدير التعويض ( استئناف مختلط في 7 أبريل سنة 1942 م 54 ص 161 ) . ولا يتقاضى الوالد تعويضاً عن ضرر مادي أصابه من موت ولده الصغير إلا إذا كان الوالد يستفيد من عمل ولده ( استئناف مختلط في 30 نوفمبر سنة 1938 م 5 ص 32 – وفي 23 يونية سنة 1943 م 55 ص 195 ) – ولا يدخل في تقدير التعويض ما أنفقه الوالد في تعليم ابنه المصاب فإن التعليم واجب عليه ( استئناف مختلط في أول مايو سنة 1930 م 42 ص 473 ) – وانظر عكس ذلك استئناف مختلط في 5 يونية سنة 1946 م 58 ص 224 ) .
والقضاء مضطرد في جواز الحكم بتعيوض عن الضرر المادي الذي يصيب من فقد العائل ( استئناف مختلط في 28 أبريل سنة 1897 م ) ص 296 – وفي أول يونية سنة 1898 م 10 ص 292 – وفي 19 مارس سنة 1902 م 14 ص 192 – وفي 31 مايو سنة 1905 م 17 ص 302 – وفي 11 فبراير سنة 1914 م 26 ص 218 – وفي 7 مايو سنة 1925 م 37 ص 415 وفي 17 فبراير سنة 1927 جازيت 18 رقم 232 ص 293 ) . وهذا الحق ليس ميراثاً يتلقاه بل هو حق شخصي له ، فلا يعطى بنسبة النصيب في الإرث بل بمقدار الضرر الذي وقع ( استئناف مختلط في 24 مايو سنة 1906 م 17 ص 296 – وفي 29 نوفمبر سنة 1923 م 36 ص 58 ) . ولا ينتقل حق التعويض إلى ورثة من فقد العائل حتى لو مات هذا بعد رفع الدعوى ( استئناف مختلط في 24 مايو سنة 1906 م 17 ص 295 ) . أما إذا ثبت أن أقارب المصاب مستقلون عنه وأنه ليس يعولهم فلا حق لهم في التعويض : استئناف مختلط في 11 أبريل سنة 1895 م 7 ص 222 ( بنت متزوجة ) – وفي 28 أبريل سنة 1897 م ) ص 296 ( شقيقة تزاول مهنة تستطيع أن تتعيش منها ) – وفي 11 فبراير سنة 1914 م 26 ص 218 ( بنت متزوجة وتعيش مستقلة مع زوجها وأولاد بلغوا سن الرشد موظفون في الحكومة ويعيشون مع والدهم ولكنه لا تتفق عليهم بل هم الذين يساعدونه ) .
( [1085] ) أما المتعاملون مع المصاب ، كالحائك والقصاب والحجام ، فإن مجرد تعاملهم معه لا يكفي لتوليد مصلحة محققة يكون الإخلال بها ضرراً ، بل يجب أن يكون هناك عقد بينهم وبين المصاب ، فيكون الضرر هو الإخلال بحق نشأ من هذا العقد لا بمصلحة مالية فحسب ( مازو 1 فقرة 277 – 6 ) .
( [1086] ) أنظر مازو 1 فقرة 277 – 7 إلى فقرة 291 .
( [1087] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه يجب بمقتضى القانون لصحة طلب المدعى المدني الحكم له من المحكمة الجنائية بتعويضات مدنية أن يكون الضرر المدعى ثابتاً على وجه اليقين والتأكيد ، واقعاً ولو في المستقبل . ومجرد الإدعاء باحتمال وقوع الضرر لا يكفي بالبداهة ( نقض جنائي في 16 يونية سنة 1947 المحاماة 28 رقم 241 ص 746 ) . وأنظر أيضاً طنطا الاستئنافية في 4 مايو سنة 1913 الشرائع 1 رقم 76 ص 50 – وأنظر في القضاء المختلط : استئناف مختلط في 12 مايو سنة 1887 بوريللي م 179 رقم ) – وفي 10 يناير سنة 1895 م 7 ص 78 – وفي 22 نوفمبر سنة 1900 م 13 ص 20 – وفي 13 يناير سنة 1909 م 21 ص 110 – وفي 28 أبريل سنة 1909 م 21 ص 353 – وفي 11 فبراير سنة 1915 جازيت 5 رقم 68 ص 155 – وفي 4 مارس سنة 1915 م 27 ص 199 – وفي 29 نوفمبر سنة 1923 م 36 ص 58 – وفي 28 يناير سنة 1926 م 38 ص 207 .
( [1088] ) وقد جرى القضاء في عهد القانون القديم على هذا المبدأ ، فكان يسمح للمضرور أن يطلب تعويضاً مؤقتاً ثم يستكمله بعد ذلك في دعوى تالية . وقضت محكمة النقض في هذا المعنى بما يأتي : إذا دخل شخص مدعياً بحق مدني أمام محكمة الجنح طالباً أن يقضي له بمبلغ بصفة تعويض مؤقت عن الضرر الذي أصابه بفعل شخص آخر ، مع حفظ له في المطالبة بالتعويض الكامل من المسئول عنه بقضية على حدة ، وقضى له بالتعويض الموقت ، فذلك لا يمنعه من المطالبة بتكملة التعويض بعد أن يتبين له مدى الأضرار التي لحقته من الفعل الذي يطلب التعويض بسببه . وقالت المحكمة في أسباب الحكم ما يأتي : " . . . .أن المطعون ضده إذا كان قد تدخل في دعوى الجنحة وطلب فيها خمسة جنيهات تعويضاً عن الحادثة التي يطلب التعويض بسببها الآن ، فلقد حدد قدر التعويض وصفته وأثبتت محكمة الجنح له أنه إنما يطلب تعويضاً مؤقتاً ( أي شيئاً بسيطاً مما يستحق له من التعويض ) محتفظاً بحقه في طلب التعويض الكامل من المسئولين عنه بعد أن يبين الزمن مدى الأضرار التي نشأت له من الحادثة . . . كل هذا قد بينه الحكم المطعون فيه بصدوره على هذا الوضع ، وأكد أن المطعون ضده لم يستنفد في دعوى الجنحة ما كان له من حق فموضوع هذه الدعوى هو إذن غير موضوع الدعوى الولى ، بل هو تكملة له كما قال الحكم المطعون فيه ( نقض مدني في 7 يونية سنة 1934 مجموعة عمر 1 رقم 190 ص 475 ) . أنظر أيضاً في هذا المعنى : نقض مدني في 2 أبريل سنة 1942 مجموعة عمر 3 رقم 150 ص 422 – نقض جنائي في 4 ديسمبر سنة 1944 المحاماة 27 رقم 49 ص 98 – المنصورة الكلية الوطنية في 12 سبتمبر سنة 1943 المحاماة 24 رقم 130 ص 395 – استئناف مختلط في 19 أبريل سنة 1899 م 11 ص 188 – وفي 29 نوفمبر 1932 م 45 ص 40 .
وقد جرت العادة عندما كان القضاء المختلط قائماً ، إذا كانت دعوى المسئولية من اختصاصه والدعوى الجنائية من اختصاص المحاكم الوطنية ، أن يدخل المضرور مدعياً مدنياً في الدعوى الجنائية بمبلغ ضئيل على سبيل التعويض الموقت ، ثم يرفع دعوى المسئولية أمام المحاكم المختلطة مطالباً بتعويض كامل ( استئناف مختلط في 17 ديسمبر سنة 1947 م 60 ص 33 ) .
( [1089] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : " وقد لا يتيسر للقاضي أحياناً أن يحدد وقت الحكم مدى التعويض تحديداً كافياً كما هو الشأن مثلاً في جرح لا تستبين عقباه إلا بعد انقضاء فترة من الزمن . فللقاضي في هذه الحالة أن يقدر تعويضاً موقوتاً بالتثبت من قدر الضرر المعلوم وقت الحكم على أن يعيد النظر في قضائه بعد فترة معقولة يتولى تحديدها . فإذا انقضى الأجل المحدد أعاد النظر فيما حكم به ، وقضى للمضرور بتعويض إضافي إذا اقتضى الحال ذلك ، وعلى هذا سار القضاء المصري " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 393 ) . وقيل في لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ في صدد الاعتراض على النص بمبدأ قوة الشيء المقضي ما يأتي : " إذا رأى القاضي أن الموقف غير جلي ، واحتفظ في حكمه للمضرور بالرجوع بتعويض تكميلي خلال مدة بعينها ، فلا يتنافى ذلك مع قاعدة حجية الأحكام " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 394 ) .
( [1090] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية في صدد هذا النص ما يأتي : " والأصل في التعويض أن يكون مبلغاً من المال ، ومع ذلك يجوز أن تختلف صوره ، فيكون مثلاً إيراداً مرتباً يمنح لعامل تقعده حادثة من حوادث العمل عن القيام بأوده . ويجوز للقاضي في هذه الحالة أن يلزم المدين بأن يقدم تأميناً ، أو أن يودع مبلغاً كافياً لضمان الوفاء بالإيراد المحكوم به . وينبغي التمييز بين التعويض من طريق ترتيب الإيراد وبين تقدير تعويض موقوت مع احتمال زيادته فيما يعد بتقدير تعويض إضافي " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 397 ) .
( [1091] ) مازو 1 فقرة 221 .
( [1092] ) مازو 1 فقرة 230 .
( [1093] ) أنظر عدم جواز التعويض عن ضرر محتمل إلا إذا وقع فعلاً : استئناف مختلط في 2 نوفمبر سنة 1933 م 46 ص 12 –و في 25 أبريل سنة 1935 م 47 ص 276 .
( [1094] ) مازو 1 فقرة 219 .
( [1095] ) وقد قضت محكمة مصر الكلية الوطنية بأن يحكم للطالب الذي يحرم دون حق من الامتحان ، بعدم إعطائه الفرص التي أباحها القانون ، بتعويض مناسب ( مصر الكلية الوطنية في 23 نوفمبر سنة 1930 الجريدة القضائية 53 ص 49 ) .
( [1096] ) ففي قضية ترتب على إهمال محضر في إعلان عريضة دعوى الشفعة أن سقط الحق فيها ، وقد قضت محكمة الاستئناف الوطنية أن ليس لها إلا أن تتحقق من الوقائع التي تثبت تولد الشفعة ، فلا يجوز لها أن تفصل بنفسها في حقوق الأخصام في دعوى الشفعة كما كان يفصل فيها لو قدم موضوع الدعوى إلى المحكمة ، وإنما عليها أن تحكم بتعويض إذا ترجح لديها احتمال نجاح الشفيعة في دعواها ( استئناف وطني في 7 أبريل سنة 1910 المجموعة الرسمية 11 رقم 134 ص 366 ) .
( [1097] ) وقد أصدرت محكمة النقض في هذه المسألة أحكاماً متعاقبة صريحة في هذا المعنى . فقضت بأنه إذا أدخل الحكم ضمن التعويض المحكوم به ما فات على الموظف من فرصة الترقي بسبب إحالته إلى المعاش قبل الأوان فلا خطأ في ذلك ، فإن القول بأن الترقى من الإطلاقات التي تملكها الجهات الرئيسية للموظف وليس حقاً مكتسباً محله بالبداهة أن يكون الموظف باقياً يعمل في الخدمة . أما إذا كانت الوزارة هي التي أحالت الموظف إلى المعاش بدعوى بلوغه السن بناء على قرار باطل ، فلا مناص من إدخال تفويت الترقية على الموظف ضمن عناصر الضرر التي نشأت عن الإخلال بحقه في البقاء في الخدمة . ذلك أن القانون لا يمنع من أن يحسب في الكسب الفائت الذي هو عنصر من عناصر التعويض ما كان المضرور يأمل الحصول عليه ما دام هذا الأمل له أسباب معقولة ( نقض مدني في أول أبريل سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 44 ص 107 ) . وقضت في حكم ثان بأنه إذا كان الحكم قد وقف في جبر الضرر الناشئ عن خطأ عند حد القضاء للموظف على الحكومة بالفرق بين معاشه وصافي راتبه ، ولم يعوضه عما فاته من فرصة الترقي إلى رتبة اللواء التي خلت ، مستنداً في ذلك إلى أن الترقية ليست حقاً للموظف ولو تحققت فيه شرائط الأقدمية والجدارة ، بل هي حق للحكومة تتصرف فيه كما تشاء بلا رقيب ولا حسيب ، فإنه يكون قد أخطأ ، إذ أن حرمانه من الفرصة التي سنحت له للحصول على الترقية هي عنصر من عناصر الضرر يتعين النظر فيه . ولقد كان يصح ما قاله الحكم لو أن ذلك الضابط كان قد بقى في الخدمة ولم ترقه الوزارة فعلاً ، حيث يصح القول بأن الترقى هو من الإطلاقات التي تملكها الوزارة وتستقل بها بلا معقب . أما والوزارة قد أحالته على المعاش قبل بلوغه السن بناء على قرار باطل اتخذته في تقدير سنه ، مخالفة في ذلك قراراً آخر صحيحاً ملزماً لا تملك نقضه ، فإن هذا القول لا يسوغ جعل تصرفها الخاطئ فوق رقابة قضاء التضمين ( نقض مدني في 12 ديسمبر سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 120 ص 275 ) . وقضت في حكم ثالث بأن القانون لا يمنع من أن يدخل في عناصر التعويض ما كان لطالبه من رجحان كسب فوته عليه العمل الضار غير المشروع . فإذا كان الحكم لم يعتد بهذا العنصر فيما قضى به من تعويض لموظف أحيل إلى المعاش دون مسوغ ، ولم يورد لذلك أسباباً من شأنها أن تفيد أن ترقية طالب التعويض كانت غير محتملة لو أنه استمر في الخدمة حتى بلوغه سن التقاعد ، فإنه يكون متعيناً نقضه في هذا الخصوص ونقض مدني في 3 فبراير سنة 1949 مجموعة عمر 5 رقم 378 ص 709 ) .
أنظر أيضاً في هذه المسألة : نقض مدني في 3 فبراير سنة 1938 مجموعة عمر 2 رقم 90 ص 262 - وفي 2 يونية سنة 1938 مجموعة عمر 2 رقم 126 ص 390 .
( [1098] ) بعض المراجع : ريبير في القاعدة الأدبية فقرة 181 – دورفيل ( Dorville ) رسالة من باريس سنة 1901 – أشار ( شؤاشقي ) رسالة من جنيف سنة 1908 – جاند ( Gand ) رسالة من باريس سنة 1924 – ديوا ( Dubois ) رسالة من ليون سنة 1935 – جيفور ( Givord ) رسالة من جرينوبل سنة 1938 – دلماس ( Delmas ) رسالة من تولوز سنة 1939 . لالو فقرة 149 وما بعدها – سافاتييه 2 فقرة 525 وما بعدها – ديموج 4 فقرة 402 وما بعدها - مازو 1 فقرة 292 وما بعدها – الموجز للمؤلف فقرة 330 – مصطفى مرعى بك فقرة 124 – الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت بك فقرة 467 – فقرة 468 – الدكتور سليمان مرقص في الفعل الصلح فقرة 25 .
( [1099] ) ومما يؤذي السمعة أن يذاع عن شخص أنه مصاب بمرض خطير ، وقد قضت محكمة مصر الكلية الوطنية بأن الأمراض في ذاتها من العورات التي يجب سترها حتى لو كانت صحيحة ، فإذاعاتها فيم حافل عامة وعلى جمهرة المستمعين يسيء إلى المرضى إذا ذكرت أسماؤهم ، وبالأخص بالنسبة للفتيات لأنه يضع العراقيل في طريق خيانتهن ويعكر صفو آمالهن ، وهذا خطأ يستوجب التعويض ( 14 مارس سنة 1949 المحاماة 29 رقم 117 ص 202 ) .
( [1100] ) والإخلال بإقامة الشعائر الدينية يعتبر ضرراً أدبياً . وقد قضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأنه إذا تعهد مقاول لوزارة الأوقاف بإصلاح دورة مياه مسجد تابع لها وتأخر في ذلك ، ثم لم يقم إلا ببعضه ، يعتبر الضرر متوفراً لأن الوزارة مسئولة عن إقامة الشعائر ، والتأمين الذين أخذته من المتعهد يصبح حقاً مكتسباً لها كما شرط في التعهد ( 30 نوفمبر سنة 1940 المحاماة 21 رقم 258 ص 575 ) .
( [1101] ) وقد استقر القضاء الفرنسي على هذا المبدأ منذ حكم قديم أصدرته محكمة النقض الفرنسية في 15 يونية سنة 1833 ( سيريه 1833 – 1 – 458 ) . وأنظر أيضاً : نقض فرنسي في 25 أكتوبر سنة 1921 دالوز 1922 – 1 – 163 – وفي 29 ديسمبر سنة 1936 جازيت دي باليه 1937 - 1 – 399 – وفي 23 يونية سنة 1938 جازيت دي باليه 1938 – 2 – 586 - محكمة ديجون الاستئنافية في 25 يولية سنة 1946 جازيت دي باليه 1946 – 2 – 206 .
( [1102] ) بودرى وبارد 4 فقرة 2871 – ماسان ( massin ) رسالة من باريس سنة 1893 – تورنييه ( Tournier ) رسالة من مونبلييه سنة 1896 – سافيني في القانون الروماني 1 ص 330 وما بعدها .
( [1103] ) مينيال ( Meynial ) في المجلة الانتقادية سنة 1884 – إسمان في المجلة الفصلية للقانون المدني سنة 1903 .
( [1104] ) أوبرى ورو الطبعة الخامسة جزء 6 فقرة 445 ص 345 – ص 348 .
( [1105] ) مانجان ( mangin ) 1 فقرة 123 – لا بورد ( Laborde ) في المجلة الانقتادية سنة 1894 ص 26 .
( [1106] ) كولان وكابيتان 2 فقرة 1298 – بلانيول وربير 2 فقرة 1012 وما بعدها – بالنيول وريبير وإسمان 1 فقرة 546 – جوسران 2 فقرة 441 وما بعدها – سوردا 1 فقرة 33 – ديموج 4 فقرة 402 – لالو فقرة 149 وما بعدها – جاردينا وريتشي فقرة 95 وما بعدها – مازو 1 فقرة 304 وما بعدها .
( [1107] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن نشر منطوق الحكم في الصحف يكون تعويضاً كافياً عن الضرر الأدبي الناجم عن " بروتستو " كيدي ( 23 ديسمبر سنة 1931 م 44 ص 82 ) . وكذلك الحكم بالمصروفات ( استئناف مختلط في 12 يونية سنة 1902 م 14 ص 351 ) – أو تصحيح الواقعة المكذوبة ( استئناف مختلط في أول مارس سنة 1906 م 17 ص 144 ) . ويخفف التعويض إهمال المضرور في نشر تكذيب للخبر المنسوب إليه وكان هذا من حقه ( استئناف مختلط في 20 مارس سنة 1913 م 25 ص 253 ) .
( [1108] ) الموجز للمؤلف فقرة 330 - مصطفى مرعي بك فقرة 124 – الدكتور أحمد حشمت أبو سنيت بك فقرة 467 – الدكتور سليمان مرقص في الفعل الضار فقرة 25 .
( [1109] ) كان القضاء الوطني بادئ الأمر متردداً في تعويض الضرر الأدبي ، فقضت محكمة قنا الاستئنافية بأن الشرف لا يقوم بمال ( 11 ديسمبر سنة 1900 الحقوق 16 ص 11 ) ، وقضت محكمة الاستئناف الوطنية بأنه لا يستحق تعويضاً أدبياً إلا من اختل نظام معيشته بسبب موت المضرور ( 4 يناير سنة 1896 الحقوق 11 ص 247 ) ، ولكنه ما لبث أن استقر على جواز التعويض عن الضرر الأدبي : نقض جنائي في 7 يناير سنة 1905 الاستقلال 4 ص 165 – وفي 25 مارس سنة 1905 المجموعة الرسمية 6 رقم 75 ص 156 – وفي 4 مايو سنة 1913 المجموعة الرسمية 14 رقم 130 ص 256 – وفي 7 نوفمبر سنة 1932 الجريدة القضائية عدد 151 ص 6 – استئناف وني في 4 يولية سنة 1893 الحقوق 8 ص 171 ( مبلغ زهيد كتعويض رمزي : أنظر في هذا المعنى أيضاً مصر الكلية الوطنية في 14 مارس سنة 1949 المحاماة 29 رقم 117 ص 202 ) – وفي 8 ديسمبر سنة 1908 المجموعة الرسمية 10 ص 89 ( تستحق الزوجة تعويضاً عن الضرر الأدبي ل هجر زوجها لها وهذا غير النفقة ) . وفي 17 مارس سنة 1910 المجموعة الرسمية 11 رقم 111 ص 303 – وفي 13 يناير سنة 1914 المجموعة الرسمية 15 رقم 35 ص 73 – وفي 22 ديسمبر سنة 1914 الشرائع 2 رقم 132 ص 122 – وفي 31 مايو سنة 1915 المجموعة الرسمية 17 رقم 17 نوفمبر سنة 1931 المحاماة 12 رقم 310 ص 615 – وفي 26 نوفمبر سنة 1931 المحاماة 12 رقم 315 ص 621 مجلس حسبي عال في 2 نوفمبر سنة 1924 المجموعة الرسمية 25 رقم 100 ص 187 .و ميل القضاء الوطني ألا يجعل التعويض الأدبي سبيلاً للإثراء أو للاستغلال .
وكذلك استقر القضاء المختلط على جواز التعويض عن الضرر الأدبي ، على ألا يكون هناك مغالاة في تقدير التعويض وألا يكون التعويض وسيلة للاستغلال : استئناف مختلط في 20 أبريل سنة 1892 م 4 ص 225 – وفي ) أبريل سنة 1903 م 15 ص 238 – وفي 20 فبراير سنة 1908 م 20 ص 99 – وفي 28 نوفمبر سنة 1917 م 30 ص 66 – وفي 12 يونية سنة 1918 م 30 ص 469 – وفي 16 مارس سنة 1922 م 34 ص 248 – وفي 23 ديسمبر سنة 1926 جازيت 18 رقم 249 ص 318 – وفي 23 يناير سنة 1936 م 48 ص 89 – وفي 5 مايو سنة 1937 م 49 ص 212 – وفي 17 نوفمبر سنة 1937 م 50 ص 21 – وفي 15 مايو سنة 1940 م 52 ص 281 . ولا يجوز أن يكون التعويض عن الضرر الأدبي بمثابة عقوبة ( استئناف مختلط في 30 نوفمبر سنة 1938 م 51 ص 32 ) .
( [1110] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 300 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " يشمل التعويض الضرر الأدبي أيضاً إذا توافرت الشروط المنصوص عليها في المادة 238 " . وفي لجنة المراجعة نقل حكم المادة 238 إلى هذا المكان وأصبح النص في المشروع النهائي على الوجه الآتي : " 1 - يشمل التعويض الضرر الأدبي أيضاً ، ولكن لا يجوز في هذه الحالة أن ينتقل إلى الغير إلا إذا تحدد بمقتضى اتفاق أو طولب به أمام القضاء . 2 - ويجوز بوجه خاص أن يحكم القاضي للأقارب والأزواج والأصهار بالتعويض عما يصيبهم من ألم من جراء موت المصاب " وأصبح رقم المادة 229 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على النص – وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ استبدلت اللجنة عبارة " أو طالب الدائن به أمام القضاء " بعبارة " أو طولب به " الواردة في الفقرة الأولى . ورؤى تقييد الأقارب اللذين يحكم لهم بالتعويض عن الضرر الأدبي وقصره على الأزواج والأقارب إلى الدرجة الثانية ، وكان النص المعروض لا يمنع القاضي من أن يحكم بالتعويض لغير الأقارب والأصهار والأزواج وفي هذا توسع لا تحمد عقابه ، فضلاً عن مخالفته الكبيرة لما استقرت عليه الأحكام وأصبح رقم المادة 222 . ووافق مجلس الشيوخ على النص كما عدلته لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 566 – ص 568 ) .
( [1111] ) أنظر المادة 47 من قانون الالتزامات السويسري والمادة 1327 من القانون النمساوي والمادة 85 من المشروع الفرنسي الإيطالي والمادة 134 من القانون اللبناني والمادة 166 من القانون البولوني .
( [1112] ) أنظر في هذا التمييز : استئناف مختلط في 31 ديسمبر سنة 1941 م 60 ص 34 .
( [1113] ) وكان القضاء المصري في عهد القانون المدني القديم يجعل حلقة الأقارب أضيق . وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن من عدا الأب والأم ، كالأخوة والأخوات ، لا يجوز أن يحكم لهم بتعويض عن الضرر الأدبي ( 25 فبراير سنة 1942 م 54 ص 117 ) ، وحتى الأب الذي يهجر ابنه ولا يفكر فيه إلا عند موته للمطالبة بتعويض عن الضرر الأدبي ، لا يحق له هذا الطلب ( استئناف مختلط في أول يونية سنة 1935 م 47 ص 349 ) . أنظر أيضاً في هذه المسألة : استئناف مختلط في 20 أبريل سنة 1892 م 4 ص 225 – وفي 28 فبراير سنة 1900 م 12 ص 141 – وفي 21 يناير سنة 1903 م 15 ص 95 – وفي 17 مايو سنة 1905 م 17 ص 280 – وفي 31 مايو سنة 1905 م 17 ص 302 – وفي 21 مارس سنة 1906 م 18 ص 160 ( الابن الصغير دون الزوج أو الأب ) – وفي 20 فبراير سنة 1908 م 20 ص 99 – وفي 5 فبراير سنة 1914 م 26 ص 209 ( لا تعويض للاخوة لأم ) – وفي 29 نوفمبر سنة 1923 م 36 ص 58 – محكمة مصر الكلية المختلطة في 27 يناير سنة 1919 جازيت 9 رقم 74 ص 111 ( الأصول والفروع دون الحواشي ) .
وكان المشروع النهائي تتسع فيه حلقة الأقارب والأصهار ، فضيقت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ الحلقة على النحو الذي رأيناه ، واستندت في ذلك إلى ما استقر عليه القضاء المصري في عهد القانون المدني القديم ( أنظر آنفاً فقرة 578 ومجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 568 ) .
( [1114] ) وقد تشدد القانون المدني الجديد في التعويض عن الضرر الأدبي من ناحيتين : ناحية من له الحق في المطالبة به وناحية تقييد انتقاله إلى الغير .
( [1115] ) كان القضاء المصري يشترط لانتقال حق التعويض عن الضرر الأدبي إلى الورثة أن يكون المورث قد رفع الدعوى ( استئناف مختلط في 17 يونية سنة 1914 جازيت 4 رقم 204 ص 486 - وفي أول ديسمبر سنة 1915 م 28 ص 37 – وفي 13 مارس سنة 1918 م 30 ص 279 ) . واكتفى حكم في انتقال التعويض إلى الورثة بأن يكون المجني عليه قدم شكواه بأن ألقى أقواله أمام المحقق ( بني سويف في 2 مارس سنة 1922 المحاماة 2 رقم 115 / 1 ص 362 ) .
( [1116] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن الورثة لا ينتقل إليهم حق مورثهم في التعويض عن الضرر الأدبي إلا إذا تحدد هذا التعويض قبل موت المورث إما باتفاق مقدم أو بحكم نهائي ، فإذا مات المورث في أثناء نظر القضية أمام محكمة الاستئناف لم ينتقل حق التعويض إلى الورثة ( استئناف مختلط في 27 نوفمبر سنة 1940 م 53 ص 20 – وأنظر أيضاً استئناف مختلط في 15 يونية سنة 1938 م 50 ص 367 ) .
وإذا اعتبرنا أن القضاء المصري قد استقر في عهده الأخير على النحو الذي قدمناه ، فإن القانون الجديد يكون قد استحدث حكماً يقضي بجواز انتقال الحق في التعويض إلى الورثة بمجرد رفع الدعوى في حياة المورث دون حاجة إلى صدور حكم نهائي . فإذا وقع الضرر الأدبي قبل نفاذ القانون الجديد ( 15 أكتوبر سنة 1949 ) ، ورفعت الدعوى بعد نفاذه ، ثم مات المورث قبل صدور حكم نهائي ، فإن حق التعويض ينتقل إلى الورثة بفضل الأثر الفوري للقانون ( effet immediat ) . وكذلك الحكم إذا رفعت الدعوى قبل نفاذ القانون الجديد ومات المورث بعد نفاذه وقبل صدور حكم نهائي . أما إذا رفعت الدعوى قبل نفاذ القانون الجديد ومات المورث قبل نفاذ هذا القانون أيضاً وقبل صدور حكم نهائي ، فإن حق التعويض لا ينتقل إلى الورثة ، لأن القانون القديم وفقاً لما فسره به القضاء ، هو الذي يسري في هذه الحالة .
( [1117] ) بعض المراجع : مارتو ( Marteau ) رسالة من إكس سنة 1914 – ديموج 4 فقرة 365 وما بعدها – لالو فقرة 246 وما بعدها – سافاتييه 2 فقرة 456 وما بعدها – بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 380 وفقرة 538 وما بعدها – وديشيرو ( Deschizeaux ) رسالة من جرينوبل سنة 193 – الدكتور سليمان مرقص رسالة من القاهرة سنة 1936 والفعل الضار فقرة 46 وما بعدها – هنري وليون مازو 2 فقرة 1417 وما بعدها – إسمان : مقال في المجلة الفصلية للقانون المدني سنة 1934 ص 316 وما بعدها – مارتي ( Marty ) مقال في المجلة الفصلية للقانون المدني سنة 1939 ص 685 وما بعدها – الموجز للمؤلف فقرة 233 وما بعدها – مصطفى مرعى بك فقرة 132 وما بعدها – الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت بك فقرة 475 وما بعدها .
( [1118] ) مارتو ( Marteau ) في رسالته " السببية في المسئولية المدنية " إكس سنة 1914 .
( [1119] ) ومن هنا يصح التساؤل عن الفائدة العملية لقيام السببية ركناً مستقلاً عن الضرر وعن الخطأ . وقد رأينا في مثل أنها حيث تنعدم ينعدم معها الضرر وفي مثل آخر أنها حيث تنعدم ينعدم معها الخطأ . فلا تنتفي المسئولية إذن لانعدام السببية وحدها ، بل تارة لانعدامها مع الضرر ، وطوراً لانعدامها مع الخطأ . وكان يكفي أن يقال إن الضرر أو الخطأ قد انعدم ، ومن ثم انتفت المسئولية . ولا تبدو السببية ركناً متميزاً إلا حين الكلام في السبب المنتج والسبب المباشر .
( [1120] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 332 من المشروع التمهيدي مع بعض خلاف في اللفظ . وأقرته لجنة المراجعة بعد تغيير كلمة " المصاب " بكلمة " المضرور " ، وأصبح رقمه المادة 169 في المشروع النهائي . وأقره مجلس النواب . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ جرت مناقشات طويلة حول النص . وكان من رأي أحد الأعضاء أن يكون المبدأ في المسئولية التقصيرية هو افتراض الخطأ ، وتحمل التبعة ، فلا يستطيع المسئول أن يتخلص من المسئولية إلا إذا نفى علاقة السببية بإثبات السبب الأجنبي . فرد عليه بأنه لا توجد شريعة اتخذت كأساس للمسئولية مبدأ تحمل تبعة الخطأ والخطأ المفروض فقط ، وغنما يجب إثبات الخطأ لقيام المسئولية كمبدأ عام ، ثم ترد استثناءات على هذا المبدأ يؤخذ فيها بالخطأ المفروض . وانتهت اللجنة إلى إقرار النص تحت رقم المادة 165 . ووافق عليه مجلس الشيوخ ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 361 – ص 369 ) .
وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص والنصوص التالية ما يأتي : " تستظهر المواد من 232 إلى 235 سلسلة متصلة الحلقات من الأحكام ، تتناول تعيين أحوال ارتفاع المسئولية والتخفيف منها . وقد درج الفقه على التفريق بين أحوال ارتفاع المسئولية لانعدام رابطة السببية كما هو الشأن في السبب الأجنبي ، وأحوال ارتفاعها بسبب انتفاء الخطأ كما يقع ذلك في حالة الدفاع الشرعي وحالة صدور أمر من رئيس وحالة الضرورة . ومهما يكن من شأن هذه التفرقة فمن الأنسب من الناحية العملية أن تحشد هذه الأحوال المختلفة في صعيد واحد باعتبار أن فكرة انتفاء المسئولية تنتظمها جميعاً . ويقع عبء إثبات الخطأ على المضرور وتكون القرائن القضائية عادة سبيله إلى التماس الدليل . بل إنه يسوغ لمن أحدث الضرر أن يثبت وجود السبب الأجنبي وينفي بذلك مسئوليته باستبعاد كل قرينة عليها . وللمحدثين من الفقهاء تحليل أدق في هذا الشأن . فمن رأيهم أن المضرور إذا أقام الدليل على المسئولية بإثبات الخطأ والضرر وعلاقة السببية بينهما ، فلمن أحدث الضرر عندئذ أن يسقط الدليل على علاقة السببية هذه بإثبات السبب الأجنبي " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 377 – ص 378 ) .
( [1121] ) يكون السبب الأجنبي عادة أحد هذه الأسباب الثلاثة . ولكن هذا البيان لم يرد على سبيل الحصر كما هو واضح من النص . وقد جاء في المذكرة الإ]ضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ويكون هذا السبب ( الأجنبي ) بوجه عام حادثاً فجائياً أو قوة قاهرة – وليس ثمة محل للتفريق بينهما – أو خطأ وقع من المضرور أو من الغير . على أن هذا البيان غير وارد على سبيل الحصر . فقد يكون السبب الأجنبي عيباً لاصقاً بالشيء المختلف أو مرضاً خاص المضرور " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 378 ) .
( [1122] ) وقد رأينا في المسئولية العقدية أن علاقة السببية تلتقى أيضاً بإثبات السبب الأجنبي ، وكل ما سنذكره في شأن السبب الأجنبي ، من حادث فجائي أو قوة قاهرة أو خطأ من المضرور أو خطأ من الغير ، ينطبق في كلتا المسئوليتين : المسئولية التقصيرية والمسئولية العقدية .
( [1123] ) رادوان ( Radouant ) ( في الحادث الفجائي والقوة القاهرة باريس سنة 1920 ص 173 وما بعدها ) ولأبيه ( المجلة الانتقادية سنة 1870 ص 115 ) يقولان إن القوة القاهرة والحادث الفجائي تعبير أن يكمل أحدهما الآخر ، فالتعبير الأول يبرز خصيصة استحالة الدفع ، والتعبير الثاني يبرز خصيصة عدم إمكان التوقع ، ولكن لا بد من اجتماع الخصيصتين معاً في الحادث حتى تنعدم السببية . ولكن هذا الرأي يجعل التمييز ما بين القوة القاهرة والحادث الفجائي معدوم الفائدة من الناحية العملية .
( [1124] ) كولان وكابيتان الطبعة العاشرة جزء 2 فقرة 126 .
( [1125] ) جوسران الطبعة الثالثة جزء 2 فقرة 451 وما بعدها .
( [1126] ) أنظر في هذا المعنى مازو 2 فقرة 1559 – فقرة 1561 ومراجع الفقه والقضاء التي يشير إليها .
( [1127] ) ويندرج في شرط استحالة الدفع أن يصبح تنفيذ الالتزام مستحيلاً كما سنرى .
( [1128] ) استئناف مختلط في 20 يناير سنة 1902 م 15 ص 92 – وفي 8 فبراير سنة 1911 م 23 ص 159 – وفي 15 ديسمبر سنة 1927 – م 40 ص 81 .
( [1129] ) استئناف مختلط في 8 فبراير سنة 1911 م 23 ص 159 .
( [1130] ) مازو 2 فقرة 1570 .
( [1131] ) مازو 2 فقرة 1578 – فقرة 1589 .
( [1132] ) مازو 2 فقرة 1599 – فقرة 1605 .
( [1133] ) مازو 2 فقرة 1606 . وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن مسئولية الحكومة المصرية عن عدم إمداد أحد المحضرين بالحماية الكافية في أثناء قيامه بمأمورية خطرة تخضع للقواعد العامة ، ومن ثم يجب إثبات خطأ في جانب الحكومة وقيام سببية مباشرة ما بين هذا الخطأ والضرر الذي أصاب المحضر . ولا يجوز أن يكون الخطأ الذي سبب الضرر مباشرة في هذه الحالة هو ما قيل من رفض رئيس البوليس المحلي إعطاء المحضر قوة كافية لحمايته عندما طلب ذلك ، ما دام لم يثبت أن الاعتداء على المحضر ، الذي كان مفاجئاً بقدر ما هو عنيف ، لم يكن في هذه الظروف من المستطاع تفاديه ( استئناف مختلط في 29 مايو سنة 1941 م 53 ص 208 ) .
( [1134] ) مازو 2 فقرة 1615 – فقرة 1621 . وانظر فقرة 654 فيما يلي .
( [1135] ) وإذا كان للمدعى عليه أن يحتج بخطأ المضرور على النحو الذي سنبينه كان له أيضاً أن يحتج بهذا الخطأ على ورثة المضرور . فإذا كان المضرور قد أخطأ ، وكان خطؤه سبباً في وقوع الحادث الذي انتهى بموته ، كان للمدعى عليه أن يحتج بخطأ المضرور على ورثته كما كان يستطيع أن يحتج بهذا الخطأ على المضرور نفسه لو بقى حياً . هذا إذا كان الوارث يرفع دعوى المضرور باعتباره وارثاً . أما إذا تقدم أصيلاً في دعوى المسئولية باعتبار أنه قد أصابه ضرر مباشرة من موت المصاب ، فلا يجوز للمدعى عليه في هذه الحالة أن يحتج عليه بخطأ المصاب إلا بالقدر الذي يستطيع به الاحتجاج بخطأ الغير ، إذ أن المضرور الأصلي في الغرض الذي نحن بصدده هو الوارث ، والمصاب يعتبر من الغير بالنسبة إليه . ولكن يلاحظ أن الوارث إذا طالب بالتعويض كاملاً ، فإن المدعى عليه من حقه أن يرجع على المصاب في تركته بقدر مسئوليته . ويكون الوارث مسئولاً عن ذلك في حدود نصيبه في التركة . ويلاحظ كذلك أنه يجوز الاحتجاج على الوارث بخطئه هو ، كما لو كان المصاب طفلاً دهسته سيارة والوارث أبوه وقد أخطأ في القيام بواجبه من الرعاية لطفله بتركه إياه دون رقيب .
( [1136] ) ولا نعرض هنا لما إذا كان المضرور قد استطاع إثبات أن الضرر ليس له إلا سبب واحد هو خطأ المدعى عليه أو استطاع المدعى عليه إثبات أن فعل المضرور هو وحده سبب الضرر . ففي الحالة الأولى يكون المدعى عليه مسئولاً عن تعويض الضرر تعويضاً كاملاً ، ولا دخل لفعل المضرور أو لخطئه في الضرر الذي حدث . وفي الحالة الثانية يكون فعل المضرور وحده هو السبب فيما أصابه من ضرر ، ولا دخل لخطأ المدعى عليه في هذا الضرر فلا تتحقق مسئوليته أصلاً .
( [1137] ) ومن التطبيقات القضائية لهذا الوضع ما قضت به محكمة الاستئناف المختلطة من أنه إذا لم يقف سائق التزام في المحطة ومع ذلك تسلق أحد الركاب على نحو غير مسموح به دون أن يلتفت إليه السائق وعلى غير انتظار ، فأصيب من جراء ذلك ، فإن السائق لا يكون مسئولاً ( استئناف مختلط في 23 يونية سنة 1948 م 61 ص 13 ) . أما إذا نزل الراكب عند تهدئة السائق للسير وهو يقترب من محطة إجبارية فإنه لا يرتكب إلا خطأ يسيراً جداً يجبه خطأ السائق إذا كان هذا بعد التهدئة لم يقف ، بل عاود السير بعد أن ترك الركاب يظنون أن هذه التهدئة أمام المحطة الإجبارية سيعقبها الوقوف ( استئناف مختلط في أول ديسمبر سنة 1948 م 61 ص 22 ) . وفي قضية أخرى هدأ السائق من سيره أمام محطة إجبارية ولكنه لم يقف ، وكان أحد الطلبة قد تعلق بمركبة ، وأسرع السائق في السير ، فسقط الطالب بين عجلات الترام ومات في المستشفى ، فاعتبرت المحكمة أن هناك خطأ مشتركاً بين السائق الذي أسرع بعد أن أوهم الناس أنه سيقف في المحطة الإجبارية وبين الطالب الذي تعلق بالمركبة والتزام يسير ولو بعد تهدئة السير ( استئناف مختلط في 16 فبراير سنة 1949 م 61 ص 57 ) . وإذا قامت الإدارة بأعمال حفر في الطريق العام ، فحفرت خندقاً في عرض شارع رئيسي ، وأتى راكب الموتوسيكل وهو يعلم بوجود الخندق ولم يقلل السرعة ، كان خطأ مشترك ( استئناف مختلط في 25 مارس سنة 1942 م 54 ص 149 ) .
أنظر أيضاً : استئناف مختلط في 15 مارس سنة 1900 م 12 ص 157 ( صاحب ماكينة طحين كان من واجبه أن يحتاط فيقيم إفريزاً يفصل ما بينه وبين الطريق العام ) – وفي 28 يناير سنة 1926 م 38 ص 207 ( شخص حكم عليه من محكمة غير مختصة فلم يستأنف الحكم ورجع على الضامن ، فتمسك الضامن بخطأ المدعى في عدم استئناف الحكم ) – وفي 27 نوفمبر سنة 1940 م 53 ص 21 ( أعطى الكمارى إشارة المسير قبل الأوان ، والطفل لم تحافظ عليه مرافقته ، فالخطأ مشترك ) – وفي 26 يونية سنة 1941 م 53 ص 238 ( خطأ مشترك بين سائق السيارة وأحد المارة ) .
أنظر أيضاً في تطبيقات قضائية في فرنسا مازو 2 فقرة 1471 – فقرة 1474 - 4
( [1138] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا كان المجني عليه تعمد الإضرار بنفسه ، فانتهز فرصة خطأ الجاني واتخذه وسيلة لتنفيذ ما تعمده من إيقاع الضرر بنفسه ، فلا يقضي له بتعويض ( نقض جنائي في 28 نوفمبر سنة 1932 المحاماة 13 رقم 401 ص 815 ) . وتدق الحالة لو أن كلاً من المدعى عليه والمضرور قد أراد إحداث الضرر ، كما إذا دفع مصاب بمرض مستعص طبيباً في أن يخلصه من حياته . وعندنا أنه إذا لم يستغرق خطأ المريض خطأ الطبيب في هذه الحالة ، وبقى خطأ الطبيب قائماً ، ولم تنتف المسئولية عن طريق انتفاء الخطأ ، فإنها تنتفي عن طريق انتفاء الضرر ، فإن الطبيب لم يحدث ضرراً بمريض خلصه من حياة شقية .
( [1139] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي أنه " لا ينبغي أن يعتد بذلك الرضاء إلا حيث يجوز الاتفاق على الإعفاء من المسئولية . وفي حدود هذا الجواز فحسب " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 550 ) . ولكن يجب أن يضاف إلى ذلك حالة ما إذا كان رضاه المضرور بالضرر يعتبر خطأ منه ، فتتبع في هذه الحالة قواعد الخطأ المشترك .
( [1140] ) استئناف مختلط في 22 يونية سنة 1898 م 10 ص 328 .
( [1141] ) استئناف مختلط في 12 يناير سنة 1928 م 40 ص 134 .
( [1142] ) محكمة الاستئناف الوطنية في 24 يناير سنة 1910 المجموعة الرسمية 11 رقم 6 ص 183 – وأنظر أيضاً محكمة الاستئناف الوطنية في 20 مايو سنة 1906 الحقوق 21 ص 215 ( لا تعويض لأحد في حالة تقاذف طرفي الخصوم ) – وبني سويف في 19 يونية سنة 1922 المحاماة 3 رقم 16 ص 38 ( لا تعويض في حالة تضارب فريقين وإصابة أحدهم بضربة أفضت إلى موته ) .
ومع ذلك فقد قضت محكمة النقض بأن كل مضاربة تتضمن بطبيعتها واقعتين بالنسبة إلى كل متضارب ، واقعة يكون هو فيها جانباً على غيره والأخرى يكون مجنياً عليه من هذا الغير . فمن يطلب التعويض منهما تطبق على طلبه قواعد المسئولية المدنية . ويقدر التعويض بحسب جسامة خطأ غريمه الناشئ عنه الضرر مع مراعاة مبلغ اشتراكه هو في إحداث الضرر لنفسه أو تسببه فيه . ثم يقضي له بالتعويض الذي يستحقه أو يرفض طلبه متى كان خصمه أيضاً قد طلب تعويضاً فوجدت المحكمة بعد البحث على الطريقة المتقدمة أن تعويض خصمه يعادل تعويضه أو وجدت أنه يربو على تعويضه فأوقعت المقاصة بين التعويض ، وقضت لخصمه بالزائد . وكل ما تجريه المحكمة من ذلك يجب بيانه في الحكم ، ولا يكفي في ذلك قول المحكمة من بادئ الأمر إنه ما دام كل فريق قد اعتدى على الآخر فقد سقط حقه في طلب التعويض على كل حال لأن هذا مخالف لقواعد المسئولية ( نقض جنائي في 28 نوفمبر سنة 1933 المحاماة 13 رقم 401 ص 815 ) : ونرى من ذلك أن محكمة النقض لم تذهب إلى أن المضاربة تنطوي على عنصر رضاء المضرور بالضرر ، بل تعتبر كل متضارب معتدياً ومجنياً عليه . فتأخذ منه بقدر ما اعتدى وتعطى له بقدر ما اعتدى عليه . وإذا كان هذا صحيحاً في المضاربة بوجه عام ، إلا أن الاتفاق على المضاربة - وهو أقرب ما يكون إلى المبارزة - ينطوي كما هو ظاهر على معنى رضاء المضرور بالضرر الذي قد يقع عليه .
( [1143] ) أنظر في هذا المعنى نقض مدني في 26 يناير سنة 1939 مجموعة عمر 2 رقم 162 ص 489 .
( [1144] ) وقد جرى القضاء في فرنسا ، لتيسير عبء الإثبات على السائق ، على أن يسمح للسائق بإثبات أن خطأ المضرور كان لا يمكن توقعه ولا يستطاع دفعه ، فيكون هذا الخطأ بمثابة القوة القاهرة ( أنظر في هذا القضاء مازو 2 فقرة 1527 – 2 ) .
( [1145] ) التعبير غير دقيق ، فالخطأ ليس مشتركاً ارتكبه الاثنان معاً ، بل هما خطآن مستقلان أحدهما ارتكبه شخص والثاني ارتكبه الآخر ( لالو فقرة 348 – مازو 2 فقرة 1507 ) .
( [1146] ) أنظر تحليلاً آخر يقرب مما قدمناه في مازو 2 فقرة 1511 . وسنرى أن القضاء يميل إلى توزيع المسئولية بحسب جسامة الخطأ .
( [1147] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 294 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " على أنه يجوز للقاضي أن ينقص مقدار التعويض ، أو ألا يحكم بتعويض ما ، إذا كان الدائن بخطئه قد اشترك في إحداث الضرر ، أو زاد فيه ، أو كان قد سوأ مركز المدين " . وقد أقرته لجنة المراجعة ، وأصبح رقم المادة 223 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب .
وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ حذفت عبارة " أو سوأ مركز المدين " ، لأنه يحسب إعمال القواعد العامة في هذه الحالة ولا سيما أن الحالة التي أغفلت تدخل ضمن إحداث الضرر أو الزيادة فيه . وأصبح رقم المادة 216 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها لجنته . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 548 – ص 551 ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : " تعرض هذه المادة لحكم الخطأ المشترك ، وهو يسري على المسئولية التعاقدية والمسئولية التقصيرية على حد سواء . وقد تقدمت الإشارة إلى أن القاضي لا يحكم بالتعويض متى أقام المدين الدليل على أن الضرر نشأ عن خطأ الدائن وحده ، وأثبت بذلك وجود السبب الأجنبي . وكما أن حق الدائن في التعويض يسقط عند إنفراده بإحداث الضرر بخطئه ، كذلك لا يكون من حقه أن يقتضى تعويضاً كاملاً إذا اشترك بخطئه في إحداث هذا الضرر أو زاد فيه أو سوأ مركز المدين . ويتوقف مقدار ما ينقص من التعويض بوجه خاص على مبلغ رجحان نصيب الدائن أو المدين في إحداث الضرر . وقد جعلت المادة 354 من التقنين الألماني من هذا الترجيح عنصراً من عناصر التوجيه ، فنصت على أنه " إذا كان الخطأ المضرور نصيب في إحداث الضرر عند وقوعه توقف قيام الالتزام بالتعويض ومدى التعويض الواجب أداؤه على الظروف ، وبوجه خاص على مبلغ رجحان نصيب أي من الطرفين في إحداث الضرر " . وليس بمتنع إزاء ذلك أن يرجح نصيب الدائن في إحداث الضرر رجاناً يثير أمره البحث في قيام الالتزام بالتعويض بأسره . وهذا هو المعنى الذي قصدت المادة 294 إلى استظهاره بنصها على أن للقاضي " ألا يحكم بتعويض ما " . ويراعى أن رضاء المضرور بالضرر الحادث لا يؤخذ لزاماً عليه بوصفه خطأ يبرر انتقاص التعويض فالتقنين الألماني لا يجعل من هذا الرضاء سبباً للانتقاص ( م 254 ) على نقيض ما يقضي به التقنين السويسري ( م 44 فقرة 1 ) في هذا الشأن . فلا ينبغي أن يعتد بذاك الرضاء إلا حيث يجوز الاتفاق على الإعفاء من المسئولية ، وفي حدود هذا الجواز فحسب . وتعين فكرة الخطأ المشترك على ضبط حدود فكرة تقاربها ، هي فكرة " النتيجة الطبيعية " أو " المألوفة " لتخلف المدين . فقد تترتب على هذا التخلف نتائج يتفاوت مدى بعدها عنه ، وبذلك يسفر الموقف عن حلقات متسلسلة من الضرر لا يدري لدى أيها ينبغي الوقوف . ومناط الحكم في هذه الحالة هو فكرة النتيجة الطبيعية أو المألوفة . فيعتبر من قبيل النتائج الطبيعية أو المألوفة التي يجب التعويض عنها كل ضرر لم يكن في وسع الدائن عقلاً أن يحول دون وقوعه . ذلك أن امتناعه عن اتخاذ الحيطة المعقولة لحصر هذا الضرر في أضيق حدوده يكون بمنزلة الخطأ ، وبعبارة أخرى يترتب على هذا الامتناع قيام خطأ مشترك يستتبع الانتقاص من التعويض ، بل وسقوط الحق فيه أحياناً . وقد طبق القانون الألماني تلك الفكرة فنص في المادة 254 على وجوب إنقاص التعويض بل وسقوط الحق فيه " إذا انحصر خطأ المضرور في عدم تنبيه المدين إلى خطر ضرر بالغ الجسامة لم يكن يعلم به ولم يكن يتحتم عليه العلم به أو في عدم دفع هذا الخطر أو الحد منه " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 549 – 550 ) .
هذا وقد ورد في المادة 216 أن القاضي ينقص مقدار التعويض إذا كان الدائن بخطئه قد زاد في إحداث الضرر . ومثل ذلك شخص يجرح في حادث ، فيهمل في علاج نفسه ، فيزيد في الضرر ( استئناف مختلط في 10 يونية سنة 1897 م ) ص 387 – وفي 24 يونية سنة 1903 م 15 ص 359 ) . ومثل ذلك أيضاً حادث يصيب منزلاً فيجعله غير قابل للسكنى مدة معينة ، فيهمل صاحب المنزل في إصلاحه ، وتطور من جراء ذلك المدة التي يبقى فيها المنزل غير صالح للسكنى ، فلا يتحمل المسئول ضرر ما طال من هذه المدة ( أنظر في هذا المعنى استئناف مختلط في 24 مايو سنة 1945 م 57 ص 158 ) . أنظر أيضاً : استئناف مختلط في 2 أبريل سنة 1903 م 15 ص 226 - وفي 27 ديسمبر سنة 1905 م 18 ص 52 – وفي 23 نوفمبر سنة 1910 م 23 ص 30 – وفي 4 مارس سنة 1914 م 26 ص 259 – وفي 14 يونية سنة 1916 م 28 ص 429 – وفي 30 يونية سنة 1917 – حاريت 7 رقم 166 ص 470 – وفي 11 مايو سنة 1921 جازيت 12 رقم 28 ص 48 – وفي أول يونية سنة 1921 م 33 ص 361 – وفي 18 مايو سنة 1922 م 34 ص 413 – وفي 24 يناير سنة 1923 م 35 ص 185 – وفي 29 نوفمبر سنة 1923 م 36 ص 58 – وفي 10 يناير سنة 1924 م 36 ص 140 – وفي أول مارس سنة 1928 جازيت 18 رقم 239 ص 303 – وفي 6 فبراير سنة 1930 م 42 ص 258 .
ولكن المضرور لا يتحمل خطأ الغير في زيادة الضرر وعلى المسئول أن يرجع على هذا الغير . فإذا أحدث شخص كسراً في أحد أعضاء جسم المضرور ، ووقع خطأ في جبر الكسر تسبب عنه زيادة الضرر ، فالمضرور لا يكون مسئولاً عن هذا الخطأ وله أن يتقاضى من المسئول تعويضاً عن زيادة الضرر ، وللمسئول أن يرجع على من وقع منه الخطأ في جبر الكسر ( استئناف مختلط في 24 مايو سنة 1934 م 46 ص 296 ) .
( [1148] ) ونحن نفرض في غالب ما قدمناه أن كلاً من الخطأ الذي وقع من المسئول والخطأ الذي وقع من المضرور هو خطأ واجب الإثبات وقد ثبت في جانب كل منهما . وقد يكون الخطأ مفترضاً في جانب أي منهما أو في جانب كليهما .
مثل الخطأ المفترض في جانب المسئول أن يرتكب صبي في رعاية أبيه خطأ يلحق ضرراً بشخص آخر . فيرجع المضرور على الأب يطالبه بتعويض الضرر على أساس خطأ مفترض في جانب الأب . فيثبت الأب خطأ في جانب المضرور ، فهل له أن يحتج بهذا الخطأ ليخلص من المسئولية كلها أو بعضها؟ يستطيع الأب بادئ الأمر أن يثبت أنه لم يخطئ في رعاية ولده ، فينفي بذلك الخطأ المفترض في جانبه ، ويخلص من المسئولية بتاتاً . ولكن إذا عجز الأب عن نفي الخطأ في جانبه ، فهل له أن يحتج بما أثبته من خطأ المضرور؟ ما دام قد ثبت خطأ في جانب المضرور فالضرر على أقل تقدير له سببان لا سبب واحد : خطأ المضرور الثابت وخطأ الأب المفترض . فتطبق قواعد الخطأ المشترك ، وتقسم المسئولية بين المضرور والأب . وستطيع الأب أن يخلص من المسئولية كلها إذا هو أثبت أن الضرر كان لابد واقعاً ولو قام بواجب الرعاية بما ينبغي من العناية ( أنظر المادة 173 فقرة 3 من القانون المدني الجديد ) . وقد يكون الخطأ المفترض في جانب المسئول لا يقبل إثبات العكس . مثل ذلك سائق السيارة يدهس عابراً في الطريق ويثبت خطأ في جانب المضرور – هنا أيضاً خطأ مشترك ، خطأ العابر الثابت وخطأ السائق المفترض ، فتقسم المسئولية بين السائق والعابر . ويستطيع السائق أن يخلص من المسئولية كلها إذا هو أثبت أن الخطأ في الحراسة ، وهو الخطأ المفترض في جانبه ، لا دخل له في إحداث الضرر ، وأن الضرر كان لابد واقعاً ولو قام بواجبه في الحراسة كما ينبغي . ومن ذلك أن يثبت أن خطأ المضرور كان لا يمكن توقعه ولا يستطاع دفعه فيكون بمثابة القوة القاهرة ، وقد مر بيان ذلك . والمهم في الصورة التي نحن بصددها أن السائق لا يستطيع الخلاص من المسئولية الخطأ المفترض في جانبه ، لأن الخطأ هنا لا يقبل إثبات العكس ، وهذا بخلاف الصورة الأولى حيث ستطيع الأب أن ينفي الخطأ المفترض في جانبه كما قدمنا .
ومثل الخطأ المفترض في جانب المضرور أن سائق السيارة ، وهو يريد أن يتفادى دهس عابر كان يسير في الطريق دون احتياط ، ينحرف عن الجادة ويصطدم بحائط فيصاب بضرر . فالسائق في هذا المثل هو المضرور . فهل يستطيع العابر الذي كان يسير في الطريق دون احتياط فثبت الخطأ في جانبه أن يحتج بخطأ مفترض في جانب السائق؟ لا يجوز ذلك إطلاقاً ، لأن الخطأ المفترض في جانب السائق إنما فرض لمصلحة من يصيبه السائق بالضرر ، فهو خطأ مفترض في مصلحة المضرور . والمضرور هنا هو السائق كما قدمنا ، فلا يقوم الخطأ المفترض ضد مصلحته . ويتبنى على ذلك أن المسئول ، وهو عابر الطريق ، لا يستطيع أن يحتج على السائق بخطأ مفترض ، ويبقى خطأه هو – وهو السير في الطريق دون احتياط - السبب الوحيد في إحداث الضرر ، وتكون مسئوليته عن هذا الضرر كاملة .
ومثل الخطأ المفترض في جانب كل من المسئول والمضرور أن تصطدم سيارتان ولا يستطيع أحد من السائقين أن يثبت خطأ في جانب السائق الآخر . فإذا أصيبت إحدى السيارتين دون الأخرى بالضرر ، فإن سائق السيارة غير المصابة يكون مسئولاً عن هذا الضرر كاملاً ، ولا يستطيع أن يحتج بخطأ مفترض في جانب سائق السيارة المصابة كما رأينا فيما تقدم . أما إذا أصيبت السيارتان معاً بالضرر ، فإن كلاًم ، السائقين يعوض السائق الآخر تعويضاً كاملاً ما أصاب سيارته من الضرر ، ولا يستطيع أن يحتج عليه بخطأ مفترض في جانبه . ولا يجوز القول إن الخطأ المفترض في جانب سائق يتهاتر مع الخطأ المفترض في جانب السائق الآخر ، فيتخلص كل منهما من المسئولية بتاتاً ، فإن هذا معناه أن الخطأ يفترض ضد مصلحة المضرور ، وهذا غير مستساغ كما بينا .
( أنظر في هذا الموضوع مازو 2 فقرة 1515 – فقرة 1537 ) .
( [1149] ) وقد وضعت محكمة النقض المبدأ الذي يسير عليه القضاء المصري في هذا الصدد فيما قضت به من أنه إذا كان المضرور قد أخطأ أيضاً ، وساهم هو الآخر بخطئه في الضرر الذي أصابه ، فإن ذلك يجب أن يراعى في تقدير مبلغ التعويض المستحق له ، فلا يحكم له على الغير إلا بالقدر المناسب لخطأ هذا الغير ، لأن كون الضرر الذي لحق المضرور ناشئاً عن خطأين ، خطئه هو وخطأ غيره ، ذلك يقتضي توزيع مبلغ التعويض بينهما بنسبة خطأ كل منهما ، وبناء على عملية تشبه المقاصة لا يكون الغير ملزماً إلا بمقدار التعويض المستحق عن كل ضرر منقوصاً منه ما يجب أن يتحمله المضرور بسبب الخطأ الذي وقع منه ( نقض جنائي في 2 أبريل سنة 1945 المحاماة 27 رقم 200 ص 486 ) .
وقضت هذه المحكمة أيضاً قبل ذلك بأن المادة 151 من القانون المدني ( القديم ) قد نصت على إلزام : من يقع منه فعل ضار بالغير بتعويض الضرر الذي ترتب على فعله ، فإذا كان المضرور قد أخطأ هو الآخر وساهم في الضرر الذي أصابه ، فإن ذلك ، وإن كان يجب أن يراعى عند تقدير التعويض الذي يطالب به المضرور ، لا يصح أن يكون سبباً لرفع المسئولية المدنية عمن اشترك معه في حصول الضرر . وإذن فإذا كان الحكم قد قضى برفض الدعوى المدنية بناء على ما قاله من " تكافؤ السيئات " ، وكان المستفاد من البيانات التي أوردها أنه إنما قصد أن المحبي عليهم وقع من جانبهم هم أيضاً خطأ في حق أنفسهم ، ولم يقصد أن الخطأ تسبب عنه أي ضرر بالمدعى عليه ، فإن هذا يكون مقتضاه أن يحكم للمجنى عليهم بالتعويض مع مراعاة درجة خطئهم من الجسامة ( نقض جنائي في 2 نوفمبر سنة 1942 المحاماة 23 رقم 208 ص 517 ) . وقضت الدائرة المدنية من محكمة النقض بمثل ذلك فقالت إنه وإن كان ما يراه قاضي الموضوع من إثبات مساهمة المضرور في الفعل الضار لتوزيع المسئولية بينه هو ومن اشترك معه في إحداث الضرر متعلقاً بفهم الواقع في الدعوى ولا رقابة عليه لمحكمة النقض ، فإن وصف الأفعال التي وقعت من المضرور في الحادث الضار وأسس عليها اشتراكه فيه هو من التكييف الذي تراقبه هذه المحكمة ،و إذا كان مجرد ركوب شخص مع صديق له في سيارة يقودها هذا الصديق مسرعاً في سيره بها هو مما لا يعتبر في بعض الصور اشتراكاً في الخطأ الذي وقع فيه قائد السيارة ، وإذا كان مجرد قيام هذا الراكب تحت تأثير الفزع بحركة ما التماساً للنجاة فأضر بنفسه لا يعتبر كذلك اشتراكاً في خطأ القائد ، فإنه لا شك في أن مساهمة هذا الراكب في الاتفاق مع قائدة السيارة على إجراء مسابقة بها هي مما يجعله مخطئاً كالمتسابقين ومشتركاً معهم في خطئهم ومسئولاً عما يحدث من جراء ذلك . والأصل أن الضرر المترتب على فعل مضمون ومهدر يسقط فيه ما يقابل المهدر ويعتبر ما يقابل المضمون ، فينبغي إذن أن يستنزل من التعويض ما يقابل الفعل الذي ساهم به المضرور في الضرر ، ويعتبر الفعل الذي وقع من الغير ( نقض مدني في 26 يناير سنة 1939 مجموعة عمر 2 رقم 162 ص 489 ) .
وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة كذلك أن توزيع المسئولية فيما بين المدينين المتضامنين يكون بحسب جسامة الخطأ الذي صدر من كل منهم ( استئناف مختلط في 22 أبريل سنة 1942 م 54 ص 172 – وأنظر أيضاً : استئناف مختلط في 18 مايو سنة 1922 م 34 ص 413 ) .
وأحكام القضاء المصري من وطني ومختلط كثيرة في هذا الموضوع . أنظر : استئناف وطني في 31 ديسمبر سنة 1912 المجموعة الرسمية 14 رقم 35 ص 65 ( صدمة تسببت من إهمال في قيادة عربة وثبت أنه كان في إمكان المجني عليه منع الحادثة لو لم يكن تحت تأثير الحشيش ) – استئناف وطني في 7 يناير سنة 1914 الشرائع 1 رقم 334 ص 186 ( طفلة عمرها ثلاث سنوات دهسها القطار بسبب ترك السور الذي يحول بين منزل والدها وقضبان السكك الحديدية بدون ملاحظة فأزال العمال من الأعمدة لتقصير الطريق إلى منازلهم : خطأ مشترك من مصلحة السكك الحديدية ؟؟ وحدها خارج المنزل ) – استئناف مصر الوطنية في 21 نوفمبر سنة 1927 المحامة 8 رقم 235 ص 315 – وفي 31 يناير سنة 1928 المحاماة 8 رقم 492 ص 806 ( إهمال السائق والمجني عليه ) . وقد يذهب القضاء إذا كان خطأ المضرور فاحشاً إلى حد أن يجعل هذا الخطأ يستغرق خطأ المسئول : استئناف وطني في 3 ديسمبر سنة 1907 المجموعة الرسمية ) رقم 48 ص 107 . شخص أصابه ضرر من مصادمة وقعت بإهمال مصلحة السكك الحديدية ، فرفض طلب التعويض لأنه كان موجوداً خارج باب العربة في أثناء سير القطار – استئناف وطني في أول ديسمبر سنة 1915 الشرائع 3 رقم 52 ص 233 ( يمر الأهالي من غير المزلقان الذي أعدته المصلحة للجمهور فدهم أحدهم القطار فقتله ، فاستغرق خطأ المضرور خطأ المسئول ورفض طلب التعويض – استئناف مختلط في 13 مارس سنة 1930 م 42 ص 358 ) تلميذ صغير عمره ) سنوات : لا خطأ على والده أن يتركه يذهب إلى المدرسة بمفرده ) – استئناف مختلط في 5 مارس سنة 1931 م 43 ص 266 ( مثل القضية السابقة ) – استئناف مختلط في ) مارس سنة 1938 م 50 ص 162 ( خطأ مشترك لأن والد بنت صغيرة تركها في الشارع المزدحم بالحركة دون رقيب ) . استئناف مختلط في 21 فبراير سنة 1945 م 57 ص 104 ( التعويض الذي يعطي لقريب الميت في حالة الخطأ المشترك يكون هو أيضاً مخففاً كما لو كان الميت هو الذي يطالب شخصاً بالتعويض ) . أمثلة أخرى من قضاء محكمة الاستئناف المختلطة : استئناف مختلط في 2 فبراير سنة 1887 بوريللي م 213 رقم 15 – وفي 13 يونية سنة 1888 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلطة 13 ص 255 – وفي 12 يونية سنة 1890 م 2 ص 421 – وفي 4 نوفمبر سنة 1896 م ) ص 5 – وفي أول يونية سنة 1898 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلطة 23 ص 306 – وفي 17 يونية سنة 1908 م 20 ص 276 – وفي 2 أبريل سنة 1931 م 43 ص 331 – وفي 20 يناير سنة 1932 م 44 ص 130 – وفي 15 يونية سنة 1932 م 44 ص 376 – وفي 16 يونية سنة 1932 م 44 ص 383 – وفي 4 مايو سنة 1933 م 45 ص 265 – وفي 18 فبراير سنة 1937 م 49 ص 115 – وفي 25 مايو سنة 1938 م 50 ص 322 .
وهناك أحكام قليلة لمحكمة الاستئناف المختلطة توزع التعويض بعدد الرؤوس لا بحسب جسامة الخطأ : استئناف مختلط في 14 نوفمبر سنة 1917 م 30 ص 31 – وفي 15 ديسمبر سنة 1921 م 34 ص 57 .
هذا ولا يكون هناك خطأ مشترك إذا كان ثمة خطآن متميزان كل منهما أحدث أثراً مستقلاً عن الآخر . فإذا سلم قلم الكتاب شهادة خاطئة ترتب عليها إدراج دائن في المرتبة الأولى خطأ ، فلا يجوز لقلم الكتاب أن يحتج على هذا الدائن بأنه هو أيضاً أخطأ في أنه جعل قيده يمتد إلى أموال غير مملوكة لمدينه ما دام مال المدين المأخوذ عليه القيد يكفي لوفاء الدين في المرتبة التي أدرج فيها الدائن خطأ ( استئناف مختلط في 13 ديسمبر سنة 1923 م 36 ص 83 ) . وكذلك إذا كان خطأ المضرور ليس سبباً مباشراً في إحداث الضرر ، كما إذا علقت عجلات عربة بشريط الترام عن خطأ من السائق ، وبينما هو يعالج تخليص العربة مدة ربع ساعة إذا بترام أتى مسرعاً سرعة غير عادية فقتل السائق ، فإن سائق الترام وحده هو المسئول لا سائق العربة ( استئناف مختلط في 15 نوفمبر سنة 1922 م 35 ص 25 ) .
( [1150] ) أنظر في تحليل القضاء الفرنسي مازو 2 فقرة 1512 .
( [1151] ) التقنين الألماني م 254 – التقنين البولوني م 158 فقرة 2 – المشروع الفرنسي الإيطالي م 78 .
( [1152] ) وفي هذا ، كما جاء في مازو 2 بقية ظاهرة من ميل القضاء إلى قياس التعويض على أساس جسامة الخطأ ، مما يلبس الخطأ المدني لباساً ذاتياً يقر به من الخطأ الجنائي ( أنظر في نقد هذا مازو 2 فقرة 1512 ) . على أن هذ هو الحل العملي العادل ، وهو إذا تعارض مع المنطق المحض ، فإنه يبقى مع ذلك حلاً إنسانياً يصعب الانحراف عنه . وهذا ما يقوله حتى نفس الأستاذين مازو ( أنظر مازو 2 فقرة 1973 ص 821 ) . ومع ذلك فإن المادة 169 من القانون المدني الجديد تجعل الأصل أن تكون القسمة فيما بين المسئولين بالتساوي على عدد الرؤوس ، وسيأتي بيان ذلك ( أنظر فقرة 599 في الهامش ) .
( [1153] ) ويتبين من ذلك أن كلاً من السائقين يتحمل في النهاية نصف مجموع الضررين ( 50 + 20 ÷2 = 35 ) . فالسائق الأول أصيب بضرر ق دره خمسون جنيهاً ، تقاضى منه خمسة عشر جنيهاً ، فيتحمل في النهاية ضرراً قدره خمسة وثلاثون جنيهاً . والسائق الثاني أصيب بضرر قدره عشرون جنيهاً ، ثم دفع للسائق الأول خمسة عشر جنيهاً ، فيكون قد تحمل في النهاية ضرراً قدره خمسة وثلاثون جنيهاً هو أيضاً .
هذا ويختلف حل المسألة ذاتها لو أن الخطأ كان مفترضاً في جانب كل من السائقين . فقد قدمنا أن كلاً من السائقين في هذه الحالة يعوض السائق الآخر عن الضرر الذي أصابه تعويضاً كاملاً . فيكون السائق الأول مسئولاً إزاء السائق الثاني بمبلغ عشرين جنيهاً ، ويكون السائق الثاني مسئولاً إزاء السائق الأول بمبلغ خمسين جنيهاً ، فتقع المقاصة . ويبقى السائق الثاني مسئولاً إزاء السائق الأول بمبلغ ثلاثين جنيهاً . وكان في الصورة الأخرى مسئولاً بمبلغ خمسة عشر جنيها فقط .
( [1154] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه إذا انتزع المالك منقولات المستأجر وبضائعه بعد أن أخذ مشورة أحد المحامين وطبقاً لهذه المشورة ، فانتفت نية الغش وهي ضرورية لوجود الجريمة ، فمن ناحية المسئولية المدنية ، حيث لا يجوز الجهل بالقانون بتاتاً ، وحيث تقوم المسئولية على مجرد الخطأ ، لا يكون لمشورة المحامي أي أثر ( استئناف مختلط في 26 ديسمبر سنة 1929 م 42 ص 127 ) . فيلاحظ أن المحكمة في هذه القضية لم تجعل لخطأ الغير ( وهو هنا المحامي ) أثراً في مسئولية المالك . وهذا بخلاف ما إذا كان الضرر من خطأ المحامي قد وقع على المالك مباشرة ، فقد رأينا أن الخطأ يكون مشتركاً في هذه الحالة . ولعل المحكمة اعتبرت في القضية التي نحن بصددها أن خطأ المالك ، وهو يعمل تحت مسئوليته في تصرفه نحو الغير ، قد استغرق خطأ المحامي .
( [1155] ) وينبني على ذلك أن خطأ الولد أو التلميذ أو التابع لا يجوز أن يستغرق خطأ المدعى عليه ، بل يبقى هذا دائماً هو المسئول نحو المضرور ، ويدفع له التعويض كاملاً ، ولكن هذا لا يمنع من رجوع المدعى عليه ببعض هذا التعويض أو كله على الغير الذي ارتكب الخطأ ولو كان هو مسئولاً عن هذا الغير نحو المضرور .
أما إذا لم يكن المدعى عليه مسئولاً عن الغير ، فالخطأ الذي يصدر من هذا الأخير يكون من شأنه أن يؤثر في مسئوليته ، بل يجوز أن يستغرق خطأه ، حتى لو قامت علاقة بين المدعى عليه والغير ، فإذا ترك صاحب السيارة سيارته لأحد من أهله أو من أصدقائه ، وهو ليس مسئولاً عنه ، وارتكب القريب أو الصديق خطأ ، عد خطأ صادراً من الغير ، وجاز أن يستغرق خطأ المدعى عليه .
( [1156] ) يحوز أن يستغرق خطأ هذا الغير المجهول خطأ المدعى عليه .
( [1157] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 236 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 - إذا تعدد المسئولون عن عمل ضار ، كانوا متضامنين في التزامهم بتعويض الضرر . 2 - ويرجع من دفع التعويض بأكمله على كل من الباقين بنصيب يحدده القاضي حسب الأحوال وعلى قدر جسامة الخطأ الذي وقع من كل منهم ، فإن استحال تحديد قسط كل منهم في المسئولية تكون القسمة سوية بينهم " . وفي لجنة المراجعة أقر النص بعد إدخال تعديلات لفظية ، وأصبح رقم المادة 173 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ جرت مناقشات طويلة حول جعل التضامن فيما بين المسئولين إجبارياً بحكم القانون أو اختيارياً بحكم القاضي ، وحول الأساس الذي تقوم عليه قسمة التعويض فيما بين المسئولين . وانتهى رأي اللجنة إلى أنها حذفت الفقرة الثانية من النص ، وأضافت إلى الفقرة الأولى عبارة " وتكون المسئولية فيما بينهم بالتساوي إلا إذا عين القاضي نصيب كل منهم في التعويض " . وقد روعى في هذه الإضافة أن يكون الأصل هو المساواة في المسئولية بين من وقع منهم الفعل الضار ، إلا أن للقاضي أن يعدل في نصيب كل منهم في التعويض حسب تقديره للظروف . وأصبح رقم المادة 169 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 382 – ص 389 ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : " لا يقتصر هذا النص على تقرير التضامن بين من يشتركون في إحداث ضرر معين عند رجوع المضرور عليهم ، وهو ما يقضي به التقنين المصري الحالي في المادة 150 / 211 ، بل يتناول فوق ذلك تعيين كيفية رجوع المسئولين فيما بينهم إذا قام أحدهم بأداء التعويض بأكمله . ففيما يتعلق برجوع المضرور على المسئولين عن العمل الضار يكون هؤلاء متضامنين دون حاجة للتفريق بين المحرض والفاعل الأصلي والشريك ، على نحو ما فعل تقنين الالتزامات السويسري في المادة 50 ( أنظر أيضاً المادتين 108 / 99 من التقنين التونسي والمراكشي والمادة 1301 من التقنين النمساوي ) . ويلاحظ أن هذه المادة نفسها تنص أيضاً على مخفى الشيء المسروق لا يلتزم بالتعويض إلا إذا أصاب نصيباً من الربح أو أحدث ضرراً بمعاونته . ويؤدي هذا إلى التفريق بين حالتين : ( الأولى ) حالة وقوع الفعل الضار من أشخاص متعددين دون أن يكون في الوسع تعيين من أحدث الضرر حقيقة من بينهم ، أو تحديد نسبة مساهمة كل منهم في إحداثه ، وفي هذه الحالة لا يكون ثمة معدى عن تقرير التضامن بينهم جميعاً ( أنظر المادتين 109 / 100 من التقنين التونسي والمراكشي والمادة 830 من التقنين الألماني ) . ( والثانية ) حالة إمكان تعيين محدثي الضرر من بين من وقع منهم الفعل الضار رغم تعددهم وإمكان تحديد نصيب كل منهم في إحداثه ، وفي هذه الحالة لا يسأل كل منهم إلا عن الضرر الحادث بخطئه ، ولا يسألون البتة على وه التضامن ( أنظر المادة 136 من التقنين البولوني والمادة 1302 من التقنين النمساوي ) وهذا هو حكم حالة الإخفاء التي تقدمت الإشارة إليها في التقنين السويسري . أما فيما يتعلق برجوع المسئولين فيما بينهم عند التضامن ، فيحدد القاضي ما يؤديه كل منهم معتداً في ذلك بجسامة الخطأ الذي وقع منه ونصيب هذا الخطأ في إحداث الضرر وكل ظرف آخر من شأنه أن يكشف عن مدى مساهمة المسئول في الضرر الحادث من هؤلاء المسئولين جميعاً . فإذا استحال تحديد قسط كل منهم في المسئولية ، فتكون القسمة سوية بينهم ، إذ المفروض أن الدليل لم يقم على تفاوت تبعاتهم . وقد واجه تقنين الالتزامات السويسري حالة تعدد المسئولين عن ذات الضرر مع اختلاف أسباب المسئولية ، كأن يسأل البعض على أساس العمل غير المشروع ، والبعض على أساس التعاقد ، والبعض بمقتضى نص في القانون . وقد قضى هذا التقنين بإلزام كل منهم في هذه الصورة بأداء عين الدين إلزاماً مبتدأ ، وقرر في المادة 51 فيما يتعلق بعلاقة بعضهم بالبعض الآخر أن تبعة الضرر تقع أولاً على عاتق من أحدثه من بين المسئولين بعمل غير مشروع ، وتقع أخيراً على عاتق من يسأل عنه بمقتضى نص في القانون دون أن يكوى مسئولاً بناء على خطأ وقع منه أو بناء على التزام تعاقدي ، وغني عن البيان أن هذا الحكم لا يتيسر الأخذ به إلا بمقتضى نص خاص " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 383 – ص 384 ) .
( [1158] ) ونحن نفرض هنا ، كما فرضنا عند بحث خطأ المضرور ، أن كلاً من الخطأ الذي وقع من المسئول والخطأ الذي وقع من الغير هو خطأ واجب الإثبات وقد ثبت في جانب كل منهما . وقد يكون الخطأ مفترضاً في جانب أي منهما أو في جانب كليهما . مثل الخطأ المفترض في جانب المسئول أب مسئول عن خطأ صدر من ابنه ، وثبت في الوقت ذاته خطأ في جانب الغير كان هو أيضاً السبب في إحداث الضرر الذي جعل الأب مسئولاً عنه ، فيجز للأب – كما قدمنا في صدد خطأ المضرور – أن يثبت أنه لم يخطئ في رعاية ولده ، فينفي الخطأ المفترض في جانبه ، ويخلص من المسئولية بتاتاً . فإذا عجز عن ذلك بقى الخطأ مفترضاً في جانبه ، وهناك خطأ آخر ثابت في جانب الغير ، فيكون الأب والغير مسئولين بالتضامن نحو المضرور تطبيقاً للمادة 169 المتقدمة الذكر . وإذا دفع الأب التعويض كاملاً للمضرور ، رجع به كله على الغير الذي ثبت الخطأ في جانبه ، ولا يستطيع الغير أن يحتج بالخطأ المفترض في جانب الأب ، لأن هذا الافتراض لم يقمه القانون إلا لصالح المضرور وحده . وإذا استطاع الأب أن يثبت أن خطأ الغير كان هو السبب الوحيد في إحداث الضرر – بأن يثبت أن الضرر كان لا بد واقعاً ولو قام بواجب الرعاية كما ينبغي – تخلص من المسئولية بتاتاً حتى نحو المضرور ، ولا يستطيع هذا أن يرجع آل على الغير الذي ثبت خطأ ه ، ويرجع عليه بالتعويض كاملا ولا يرجع الغير بشيء على الأب . وقد يكون الخطأ المفترض في جانب المسئول لا يقبل إثبات العكس . مثل ذلك سائق السيارة دهس أحد العابرة ، واثبت خطأ شخص اعترض طريقه فجأة فاضطره إلى الانحراف عن الطريق فدهس العابر . هنا لا يستطيع السائق ، كما استطاع الأب في المثل السابق ، أن ينفي الخطأ عن جانبه لأنه مفترض افتراضاً لا يقبل إثبات العكس . بقي أنه اثبت خطأ الغير . فبالنسبة إلى المضرور يكون كل من السائق والغير مسئولا بالتضامن ، ويستطيع للمضرور أن يرجع على أي منهما بالتعويض كاملا . فإذا رجع على السائق رجع هذا على الغير الذي ثبت خطأه بكل ما دفعه ، ولا يستطيع الغير أن يحتج بالخطأ المفترض في جانب السائق لأن هذا الافتراض لم يقمه القانون إلا لصالح المضرور وحده . أما إذا رجع المضرور على الغير ، فلا يرجع هذا على السائق بشيء لأنه لم يثبت في جانبه خطأ ولا يجدى الخطأ المفترض في جانبه كما قدمنا . ويستطيع السائق أن يتخلص من المسئولية بتاتاً نحو المضرور إذا هو اثبت أن الضرر كان لا بد واقعاً حتى لو قام بواجبه في الحراسة كما ينبغي ، لأنه يثبت بذلك أن خطأ الغير كان هو السبب الوحيد في إحداث الضرر ، وفي هذه الحالة لا يرجع المضرور إلا على الغير ، ويرجع عليه بالتعويض كاملا ، ولا يرجع الغير بشيء على السائق . ويستطيع السائق ، الإثبات أن الضرر كان لا بد واقعاً حتى لو قام بواجبه في الحراسة ، أن يثبت أن خطأ الغير كان لا يمكن توقعه ولا يستطاع دفعه ، فيكون بمثابة القوة القاهرة ، فيخلص السائق من المسئولية على النحو الذي قدمناه ( أنظر في هذا المعنى استئناف مختلط في 31 أكتوبر سنة 1935 م 48 ص 10 – وفي 2 ابريل سنة 1941 م 53 ص 144 – وفي 25 مارس سنة 1942 م 54 ص 150 ) – وقد يزيد الضرر الذي أحدثه السائق عن الضرر الذي قصد تفاديه فلا تكون ثمة قوة قاهرة ، وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا كان المتهم إنما ارتكب ما ارتكبه مريداً مختاراً بعد أن وازن بين أمرين ، القضاء على حياة الغلام الذي اعترض سيارته عند مفترق الطرق أو الصعود بالسيارة على إفريز الشارع حيث وقعت الواقعة ، وكان الفعل المرتكب في حالة الضرورة لا يتناسب بحال مع ما قصد تفاديه ، بل كان بالبداهة أهم منه شأناً وأجل خطراً وأكبر قيمة ، فإن التعويض يكون واجباً إذا ما لحق الغير ضرر ( نقض جنائي في 17 نوفمبر سنة 1941 المحاماة 22 رقم 158 ص 468 - وانظر في الفقه والقضاء الفرنسيين في هذه المسألة مازو 2 فقرة 1652 – فقرة 1653 – 2 ) .
ومثل الخطأ المفترض في جانب الغير هو عين المثل المتقدم إذا اعتبر المضرور الغير الذي كان سبباً في دهس السيارة إياه هو الفاعل الأصلي فرجع عليه بالتعويض كاملا . ولا يستطيع الفاعل الأصلي أن يرجع على السائق – وقد أصبح السائق هنا هو الغير – لأنه لا يستطيع الاحتجاج بالخطأ المفترض في جانب السائق إذ أن هذا الخطأ لم يفترض إلا لمصلحة المضرور كما قدمنا . ومثل ذلك أيضاً سيارتان اصطدمتا ، فأصيب من جراء هذا الاصطدام عابر في الطريق ، واستطاع المضرور أن يثبت خطأ في جانب أحد السائقين دون الآخر ، فإن السائق الذي ثبت في جانبه الخطأ ودفع التعويض كاملا لا يستطيع الرجوع بشيء على السائق الآخر – وهو هنا الغير – إذ لا يوجد فيجانب هذا الأخير إلا خطأ مفترض .
ومثل الخطأ المفترض في جانب كل من المسئول والغير سيارتان اصطدمتا ، فأصيب عابر من جراء هذا الاصطدام ، ولم يستطيع المضرور إثبات خطأ في جانب أي من السائقين . فللمضرور الرجوع على أي منهما بالتعويض كاملا بمقتضى الخطأ المفترض . ويبقى أن نرى هل يستطيع من دفع التعويض أن يرجع على المسئول الآخر بنصيبه فيه ؟ كان القياس ألا يرجع لأنه لا يستطيع الاحتجاج بالخطأ المفترض في جانب السائق الآخر ، ولكن القول بذلك يفتح الطريق أمام المضرور للتحكم ما بين السائقين ، فأيهما يختار يضطره إلى دفع التعويض كاملا دون رجوع على المسئول الآخر . ومن أجل ذلك جرى الفقه والقضاء في فرنسا على أن يرجع السائق الذي دفع التعويض كاملا على السائق الآخر بنصيبه في هذا التعويض ( مازو 2 فقرة 1661 ) .
( [1159] ) ولا بد أن نلاحظ هنا أن النص جعل الأصل أن تكون القسمة فيما بين المسئولين بالتساوي على عدد الرؤوس . وهذا ظاهر أيضاً من الرجوع إلى الأعمال التحضيرية للمادة 169 وقد نقلناها فيما تقدم . فقد كان المشروع النهائي ينص على القسمة تبعاً لجسامة الخطأ ثم عدل فجعل الأصل أن تكون القسمة بالتساوي . أما القضاء المصري فكان يجري على أن الأصل هو أن تكون القسمة بحسب جسامة الخطأ . فقد قضت محكمة النقض بأنه إذا تبين أن حادثة الإصابة الخطأ وقعت باشتراك شخصين في الخطا ، وجب توزيع المسئولية عليهما كل بمقدار خطئه ( نقض جنائي في 5 مارس سنة 1931 المجموعة الرسمية 32 رقم 159 / 2 ص 325 ) . وانظر أيضاً في هذا المعنى : استئناف مختلط في 3 ديسمبر سنة 1931 م 4 ص 84 – وفي 3 مايو سنة 1934 م 46 ص 275 – وفي 14 ابريل سنة 1938 م 50 ص 236 – وفي 16 يناير سنة 1946 م 58 ص 22 .
( [1160] ) أما إذا كان هناك خطأ مفترض : فإن كان مفترضاً في جانب المضرور وحده وخطا كل من المدعى عليه والغير ثابت ، لم يحتج بهذا الخطأ المفترض على المضرور لأنه أقيم لصالحه كما قدمنا ، ورجع المضرور على أن من المسئولين بالتعويض كاملا ، ويرجع هذا بنصف التعويض على المسئول الآخر .
وإذا كان الخطأ مفترضاً في جانب المدعى عليه وحده وخطأ كل من المضرور والغير ثابت ، فالقياس أن يرجع المضرور بثلثي التعويض على أن من المدعى عليه أو الغير ، ولكن هذا الحل يجعل الغير يضار بالخطأ المفترض في جانب المدعى عليه ، إذ لو انتفى هذا الخطأ ، وبقى الخطأ الثابت في جانب كل من المضرور والغير ، لتحمل الغير نصف التعويض لا الثلثين ، لذلك يرجع المضرور في الحالة التي نحن بصددها على الغير بالنصف ولا يرجع الغير بشيء على المدعى عليه ، وإذا رجع المضرور على المدعى عليه بالنصف ، رجع المدعى عليه بما دفع كاملا على الغير ( أنظر في هذا المعنى مازو 2 فقرة 1664 ص 548 – ص 549 ) .
وإذا كان الخطأ مفترضا في جانب الغير وحده وخطا كل من المدعى عليه والمضرور ثابت ، رجع المضرور ، للأسباب التي قدمناها في الصورة السابقة ، على المدعى عليه بنصف التعويض ، ولا يرجع هذا على الغير بشيء ، ويجوز أيضاً للمضرور أن يرجع على الغير بالنصف ، ويرجع الغير بما دفعه كله على المدعى عليه .
وإذا كان الخطأ مفترضا في جانب كل من المضرو والممدعى عليه وخطا الغير ثابت ، رجع المضرور بالتعويض كاملا على الغير ولا يرجع هذا ابشيء على المدعى عليه . ويستطيع المضرور كذلك أن يرجع بالتعويض كاملا على المدعى عليه ، ويرجع هذا على الغير بكل ما دفعه .
وإذا كان الخطأ مفترضا في جانب كل من المضرور والغير وخطا المدعى عليه ثابت ، رجع المضرور بالتعويض كاملا على المدعى عليه ولا يرجع هذا بشيء على الغير . كما يجوز للمضرور أن يرجع بكل التعويض على الغير ، ويرجع هذا بكل ما دفعه على المدعى عليه .
وإذا كان الخطأ مفترضا في جانب كل من المدعى عليه والغير وخطا المضرور ثابت ، فليس للمضرور أن يرجع إلا بنصف التعويض على أي من المسئولين ، لأن خطأ ثبت في جانبه ، ومن دفع نصف التعويض يرجع على المسئول الآخر بنصف ما دفع أي بنصف النصف . وإذا كان الخطأ مفترضا في جانب الثلاثة جميعاً ، كما إذا اصطدمت سيارات ثلاث وأصيبت إحداها ولم يستطع السائق المضرور أن يثبت خطأ أي من السائقين الآخرين جاز للسائق المضرور أن يرجع بالتعويض كاملا على أي من السائقين الآخرين ، والسائق الذي يدفع التعويض كاملا يرجع بنصفه على السائق الآخر ( أنظر في هذا الموضوع مازو 2 فقرة 1664 ) .
( [1161] ) مازو 2 فقرة 1440 والمراجع المشار إليها .
( [1162] ) مازو 2 فقرة 1441 والمراجع المشار إليها .
( [1163] ) مارتي ( Marty ) في المجلة الفصلية للقانون المدني سنة 1939 ص 685 وما بعدها .
( [1164] ) أنظر في تحول القضاء الفرنسي عن نظرية تكافؤ الأسباب إلى نظرية السبب المنتج مازو 2 فقرة 144 2 – 2 .
( [1165] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه إذا فرض أن المضرور في حادث كان لديه استعداد من قبل ( predispose ) للمرض الذي أصابه بسبب هذا الحادث ، فيكفي أن يكون الحادث هو السبب الذي حرك هذا الاستعداد ( predisposition ) حتى تقوم علاقة السببية بين الحادث والمرض ، فيلزم المتسبب في الحادث بتعويض الضرر ( استئناف مختلط في أول ديسمبر سنة 1927 م 40 ص 55 ) .
( [1166] ) أو يخلطها بمواشي الغير ، وهو عالم إنها موبوءة ، عن اهمال – وذلك حتى ينطبق المثل على المسئولية التقصيرية .
( [1167] ) في 22 أكتوبر سنة 1914 الشرائع 2 رقم 51 / 2 ص 247 – أنظر أيضاً استئناف مختلط في 20 ديسمبر سنة 1883 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلفطة ) ص 29 – وفي 28 يناير سنة 1885 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلطة 10 ص 43 – وفي 10 يونية سنة 1897 م ) ص 387 – وفي 6 يونية سنة 1899 م 11 ص 267 .
( [1168] ) في 9 ابريل سنة 1936 المحاماة 17 رقم 40 ص 74 – ملحق مجلة القانون والاقتصاد 6 ص 176 مع تعليق الدكتور سليمان مرقص – أنظر كذلك محكمة طنطا في 14 ديسمبر سنة 1908 المجموعة الرسمية 10 رقم 100 ص 235 – استئناف مختلط في 27 نوفمبر سنة 1913 م 26 ص 52 – وفي 4 مايو سنة 1916 م 28 ص 297 – وفي 14 نوفمبر سنة 1922 م 35 ص 23 .
( [1169] ) وقضى أيضاً بأنه إذا أرسلت شركة آلات زراعية إحدى آلاتها حديثة الاختراع إلى وكيل لها في الريف ، فأصاب هذه الآلة تلف بفعل أمين النقل ، ترتب عليه فشل التجربة التي أجارها الوكيل على مشهد من كبار المزارعين في بلده ، ورفض المشتري قبول هذه الآلة ، وعدول المزارعين عن شراء مثلها ، فإن أمين النقل لا يسأل إلا عن تلف الآلة باعتباره ضرراً مباشرا ، أما ما تلى ذلك من أضرار فيعتبر نتيجة غير مباشرة لخطأ أمين النقل ( الدكتور سليمان مرقص في الفعل الضار ص 59 ) .
( [1170] ) تاريخ النص ( الفقرة الأولى من المادة 221 فقط – أما الفقرة الثانية من هذه المادة فقد سبق إيراد تاريخها عند الكلام في المسئولية العقدية : أنظر آنفا فقرة 451 ) : ورد هذا النص في الفقرة الأولى من المادة 299 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي :
" إذا لم يكن التعويض مقدراً في العقد أو بنص القانون فالقاضي هو الذي يقدره . ويشمل التعويض ما لحق الدائن من خسارة وما فاته من كسب ، بشرط أن يكون هذا نتيجة طبيعية لعدم الوفاء بالالتزام أو للتأخر في الوفاء به . ويدخل في ذلك الضرر الذي لم يكن في استطاعة الدائن أن يتوقاه ببذل جهد معقول " . وقد أقرت لجنة المراجعة النص كما هو وأصبح رقمه الفقرة الأولى من المادة 228 من المشروع النهائي . وفي اللجنة التشريعية لمجلس النواب استبدلت بعبارة " ويدخل في ذلك الضرر الذي لم يكن في استطاعة الدائن . . " عبارة " ويعتبر الضرر نتيجة طبيعية إذا لم يكن في استطاعة الدائن . . " وأرادت اللجنة بهذا التعديل أن تضع للقاضي معيارا يسترشد به في تقدير ما يعتبر نتيجة طبيعية لعدم الوفاء ، وهي في الوقت ذاته لا تقيده بهذا المعيار الذي نصت عليه المادة فلا مانع من أن يتخذ معياراً آخر إذا رأى ذلك . ووافق مجلس النواب على النص كما عدلته لجنته . وكذلك وافقت لجنة القانون المدني المجلس الشيوخ على النص كما أقره مجلس النواب وأصبح رقمه الفقرة الأولى من المادة 221 . ووافق مجلس الشيوخ عليه . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 563 – ص 566 ) .
ويقابل هذا النص في القانون المدني القديم المادتان 121 / 179 من هذا القانون ، وكانا ينصان على ما يأتي : " التضمينات عبارة عن مقدار ما أصاب الدائن من الخسارة وما ضاع عليه من الكسب بشرط أن يكون ذلك ناشئاً مباشرة عن عدم الوفاء " .
( [1171] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : " إذا لم يكن التعويض مقدراً في العقد ( الشرط الجزائي ) أو مقدراً بنص القانون ( الفوائد ) تولى القاضي تقديره . ويناط هذا التقدير ، كما هو الشأن في المسئولية التقصيرية ، بعنصرين قوامهما ما لحق الدائن من خسارة وما فاته من كسب . ويشترط لاستحقاق التعويض أن يكون الضرر نتيجة طبيعية لعدم الوفاء بالالتزام أو للتأخر فيه ، سواء أكان أساسه فوات هذا الكسب أم تحقق تلك الخسارة . ويراعى أن عبارة " النتيجة الطبيعية " أمعن في الدلالة على المقصود من عبارة " النتيجة المباشرة " التي استعملها التقنين المصري ( القديم ) مقتدياً في ذلك بكثير من التقنينات الأخرى . وقد بلغ من أمر إعراض التقنين اللبناني عن اصطلاح ( النتيجة المباشرة ) أن نص في المادة 261 على وجوب الاعتداد بالضرر غير المباشر كما يعتد " بالضرر المباشر على سبيل التخصيص والإفراد متى كانت له صلة محققة بالتخلف عن الوفاء بالالتزام " . وقد عنى المشروع بتحديد دلالة عبارة ( النتيجة الطبيعية ) ، تحديدا وافيا ، فنص في المادة 299 على إنها تنصرف إلى الضرر الذي لم يكن في استطاعة الدائن أن يتوقاه . وقد تقدم عند تفصيل أحكام الخطأ المشترك أن الدائن يقاسم مدينه تبعة الخطأ ، ويحتمل المسئولية عن شق من الضرر إذا امتنع عن دفع هذا الشق متى كان في استطاعته أن يفعل ذلك ببذل قسط معقول من الحيطة ومؤدى هذا أن نصيب المدين من تبعة الضرر ينحصر فيما لا يكون للدائن قبل بتوقيه على الوجه الذي تقدمت الإشارة إليه . وهذا هو المقصود بالنتيجة الطبيعية لتخلف المدين عن الوفاء بالالتزام " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 564 – ص 565 ) .
( [1172] ) فقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه من المبادئ المقررة أن من صدر منه خطأ لا يجب عليه التعويض إلا في حدود الأضرار التي كان لا يمكن لمن ارتكب ضده الخطأ أن يتواقها بجهده . وعدم بذل هذا الجهد هو في ذاته خطأ يوجب المسئولية . فإذا ابطلت إجراءات نزع الملكية على أساس إنها اتخذت على وجه غير قانوني ضد محجور عليه ، لم يجز لورثة المحجور عليه مطالبة الدائن الذي اتخذ هذه الإجراءات بقيمة الثمرات التي انتزعت من مورثهم عن طريق الإجراءات الباطلة ، إذا كان من الثابت أن قيم المحجور عليه ومن بعده الورثة ، وكانوا على علم بهذه الإجراءات ، أبطأوا في رفع دعوى البطلان ، فمكنوا بخطئهم هذا للضرر من أن يقع ( استئناف مختلط في 7 يونية سنة 1928 م 40 ص 413 ) – كذلك إذا ابطلت إجراءات نزع الملكية وحكم مرسي المزاد لعدم انذار الحائز للعقار من جراء إغفال ذكر اسمه في الشهادة العقارية التي أعطيت للدائن الحاجز ، فلقلم الكتاب ، في الدفاع عن نفسه في دعوى تعويض ترفع عليه من الحائز عن المدة التي نزع منه فيها العقار ، أن يتمسك بأن الحائز كان على علم بالاجراءات التي اتخذت ، وبأنه إذا لم يكن ملزماً بتصحيح الإجراءات بأن يتصرف كما لو كان قد أندر ، إلا أنه كان من الواجب عليه أن يتوقى الضرر الذي كان لا بد أن ينجم من جراء نزع العقار من يده ( استئناف مختلط في 22 ابريل سنة 1926 م 38 ص 357 ) . وقضت هذه المحكمة أيضاً بان الطرف الذي يطالب بتعويض الضرر يجب أن يكون قد قام من جهته بكل ما هو ضروري لتوقى هذا الضرر ( استئناف مختلط في 30 مايو سنة 1934 م 46 ص 304 ) . أنظر أيضاً : استئناف مختلط في 15 يناير سنة 1924 م 36 ص 153 – وفي 3 فبراير سنة 1925 م 37 ص 204 – محكمة مصر المختلطة التجارية في 28 مارس سنة 1930 مجازيت 20 رقم 203 ص 192 – محكمة المنصورة المختلطة الجزئية في 22 مايو سنة 1920 جازيت 11 رقم 8 ص 11 .
ولكن لا يلام المضرور إذا هو لم يقبل إجراء عملية خطيرة مؤلمة ، ولا يحتج عليه بهذا الرفض للقول بأنه أخطأ في عدم تلاقي الضرر الذي أصابه ( استئناف مختلط في 3 مايو سنة 1923 جازيت 14 رقم 6 ص 2 ) .
( [1173] ) ويلاحظ أن العجز عن ري الأطيان المجاورة قد لا يكون ضرراً إذا اعتبر تلف آلات الوابور قوة قاهرة تعفى صاحب الأرض من التزامه برى هذه الأطيان . أما عدم الانتفاع بالأرض التي حفر فيها البئر فقد يكون ضرراً مباشراً يعوض عنه ، إذا عدم صاحب الأرض الوسيلة للانتفاع بهذه الأرض عن طريق آخر . هذا ويعتبر ضرراً مباشراً يعوض عنه الفرق في تكاليف الري إذا كانت الطريقة التي لجأ إليها صاحب الأرض لري أرضه اشد مؤونة ولم يكن في وسعه الالتجاء إلى طريقة أقل كلفة .
( [1174] ) والآلة الزراعية حديثة الاختراع التي تلفت بفعل أمين النقل ، لم تكن الشركة تستطيع أن تتوقى تلفها ، فيعتبر هذا التلف ضرراً مباشراً . أما فشل التجرة ، وما ترتب على هذا الفشل من انصراف المشتى وكبار المزارعين عن شراء الآلة وأمثالها ، فإن هذا كله كانت الشركة تستطيع توقيه ببذل جهد معقول لو أنها لم تعرض للتجربة هذه الآلة التالفة ، واستعاضت عنها بآلة صالحة ، فهذه إذن أضرار غير مباشرة .
( [1175] ) وهو ، بعد ، ليس بالميعار الوحيد ، فقد رأينا أن لجنة الشؤون التشريعية بمجلس النواب تقول في تقريرها : " وأرادت اللجنة بهذا التعديل أن تضع للقاضي معياراً يسترشد به في تقدير ما يعتبر نتيجة طبيعية لعدم الوفاء ، وهي في الوقت ذاته لا تقيده بهذا المعيار الذي نصت عليه المادة ، فلا مانع من أن يتخذ معياراً آخر إذا رأى ذلك " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 566 ) . وهناك أحوال لا ينطبق فيها هذا المعيار ، ومع هذا لا يوجد شك أن الضرر غير مباشر . من ذلك ما قضت به محكمة الاستئناف المختلطة من أنه إذا رفضت الإدارة تجديد رخصة لاحدى شركات النقل وكانت مخطئة في عدم تجديد الرخصة ، كانت مسئولية عن تعويض هذه الشركة عما اصابها من ضرر ، ولكنها لا تكون مسئولة عن تعويض بائع عربات النقل إذا أصابه ضرر من جراء عدم تجديد الرخصة بفوات صفقات كان من المنتظر أن يعقدها مع الشركة التي لم تجدد رخصتها ( استئناف مختلط في 7 نوفمبر سنة 1940 م 53 ص 8 ) . ويلاحظ هنا أن الضرر المشكو منه قد أصاب شخصين لا شخصاً واحداً : الشركة والضرر الذي أصابها ضرر مباشر ، وبائع عربات النقل والضرر الذي أصابه ضرر غير مباشر .
ويقع في أحوال أخرى أن يصيب الخطأ الواحد شخصين بالضرر . مثل ذلك أن يتسبب شخص في غرق شخص آخر ، فيتقدم شخص ثالث لانقاذ الغريق فيغرق معه . فهل مرتكب الخطأ يكون مسئولا أيضاً عن غرق المنقذ على أساس أن هذا الضرر إنما هو نتيجة مباشرة لخطئه ؟ قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه يكون مسئولا عن غرق المنقذ ، ولكن إذا تبين أن هذا قد خاطر مخاطرة غير مألوفة ( لارتفاع النيل ) لانقاذ الغريق الأول ، كان هناك خطأ مشترك يترتب عليه تخفيض التعويض ( استئناف مختلط في 8 ابريل سنة 1942 م 54 ص 161 – وقد وضعت المحكمة معياراً لمعرفة ما إذا كان الضرر مباشرا في مثل هذه الأحوال . فإذا كان تدخل الغير لانقاذ شخص من خطر وضع فيه بخطأ المدعى عليه إنما هو اندفاع طبيعي من الغير املاه قيام هذا الخطر ، كان الضرر الذي يصيب الغير من جراء تدخله ضرراً مباشراً يجب التعويض عنه ، وتنتقل المحكمة في هذا الحكم عن قضية إنجليزية معروفة . ( Wagner contre Int . R . Co . Corpus Juris . C . 45 p . 481 ) العبارات الآتية : " الخطر يستدعى الإنقاذ . وصرخة الاستغاثة هي دعوى إلى النجدة . وليس القانون بالذي يتجاهل انفعالات العقل هذه عند ما يربط التصرف بنتائجه ، بل هو يعترف بها نتائج مألوفة ، ويضع ما يترتب عليها من اثر في حدود الأمور الطبيعية التي يغلب وقوعها . والخطأ الذي يتهدد حياة بالخطر هو خطأ يرتكب ذد المصاب المهدد ، وهو في الوقت ذاته خطأ يرتكب ضد من يتقدم لإنقاذه " Danger invites rescue . The ory of distress is the summons to relief . The law does not igonore these reactions of the mind in tracing conduct to its consequences . It recognizes them as normal . It piaces their effects withing the range of the natural and probale . The wornd that imperils life is a wrong the imperiled vietim , it is wiong ase his .
وقد قضت محكمة الاستئناف الوطنية بأنه إذا تدخل شخص من تلقاء نفسه في عمل بقصد منع الضرر عن الغير ، كما إذا تدخل لوقف جواد جمح من سائقه ، فنتج عن تدخله ضرر لشخصه ، فإن من يكون مسئولا عن الحادثة فيما لو وقع الضرر للغير ، يكون مسئولاً أيضاً عن الضرر الذي أصاب ذلك الشخص ، وليس له أن يدفع عن نفسه هذه المسئولية بدعوى أن ذلك الشخص أخطأ في تدخله في الحادثة إذا كن هذا التدخل حصل بقصد القيام بعمل إنساني ( استئناف وطني في 30 أكتوبر سنة 1923 المجموعة الرسمية 25 رقم 95 ص 175 ) .
ويلاحظ أننا نبحث هنا في علاقة المسئول عن الخطأ بالغير الذي يتقدم لإنقاذ المضرور . أما في علاقة هذا الغير بالمضرور نفسه ، فالغير فضولي بالنسبة إليه ، وله طبقاً لقواعد الفضالة أن يرجع عليه بما يصيبه من ضرر ( أنظر في موضوع من يتقدم للإنقاذ sauvetuer مازو 2 فقرة 1098 وهو يوجه النظر إلى أن المنقذ قد يتقدم للإنقاذ عن رعونة ، فيكون هذا الحل مميتاً ) .
( [1176] ) وقد قضت محكمة استئناف أسيوط بأنه إذا خالف أحد المزارعين القانون رقم 1 لسنة 1927 الذي حرم زراعة أكثر من الثلث قطناً ، وجنى محصول القطن المنزرع فيما زاد على الثلث وباعه ، فليس لوزارة الزراعة أن تطلباه بدفع ثمن هذا القطن إليها ، لأنها لم يصبها ضرر معين ، والضرر الذي أصاب المصلحة العامة يكفي فيه العقاب الجنائي وتقليع الزائد من القطن ( استئناف أسيوط في 12 ديسمبر سنة 1931 المحاماة 12 رقم 382 / 2 / ص 774 ) .
( [1177] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا قضت المحكمة للمجنى عليه بالتعويض على أساس أنه طلبه لنفسه مقابل الضرر الذي لحقه من الجريمة ، قائلة " إنه وإن كان قد ذكر أنه مستعد بعد الحكم للتبرع بالمبلغ الذي يحكم له به لجهات الخير ، فإنها مع ذلك تقضي له به ، وهو وشأنه فيه بعد الحكم " ، فهذا منها لا شائبة فيه ( نقض جنائي في 16 ابريل سنة 1945 المحاماة 27 رقم 216 ص 520 ) . أنظر أيضاً في هذا المعنى : استئناف مختلط في 21 فبراير سنة 1900 م 12 ص 134 – وفي ) مايو سنة 1935 م 47 ص 305 .
( [1178] ) أنظر عكس ذلك مازو 2 فقرة 1868 ص 696 .
( [1179] ) وينتقل حق التعويض إلى الورثة ، كل بقدر نصيبه في الميراث ( محكمة الاستئناف الوطنية في 19 نوفمبر سنة سنة 1903 المحاكم 15 ص 3193 – وفي 13 يناير سنة 1914 المجموعة الرسمية 15 رقم 35 ص 73 – وفي 19 مارس سنة 1928 المحاماة ) رقم 30 ص 51 – محكمة الإسكندرية الكلية الوطنية في 16 سبتمبر سنة 1898 القضاء 6 ص 7 ) .
وغنى عن البيان أن الوارث له دعويان : الدعوى التي يرثها عن المضرور فيرفعها بوصفه خلقا ، ودعواه الشخصية عن الضرر الذي أصابه مباشرة ويرفعها بوصفه أصيلا .
( [1180] ) ودائن المضرور عندما يرفع الدعوى غير المباشرة إنما يكون نائباً عن مدينه ( م 236 من القانون المدني الجديد ) . فالأولى أن يقال أن دائن المضرور نائب لا خلاف ، ولكن الدائن يوضع عادة مع الخلف .
( [1181] ) وقبل أن تترك التعويض عن الضرر المادي نعرض لحالة خاصة : إذا كان الضرر المادي الذي أصاب المضرور هو الموت بان اعتدى شخص على حياته فمات في الحال ، فهل يجوز للوارث أن يطالب بالتعويض بوصفه خلفاً للمضرور ؟ وهل يجوز القول إن الموت ضرر مادي يصيب الميت ؟ لا شك في ذلك ، فقد فقد الميت أثمن شيء مادي يملكه وهي الحيازة . ولا يقال إن كل نفس ذائقة الموت وإن الموت ضرر لا مفر منه وهو قدر محتوم ، ذلك أن المضرور لا يشكو من الموت في ذاته ، بل يشكو من أنه مات موتا غير طبيعي ، وهذا ضرر لا شك فيه . ولا يقال كيف يضار الميت بالموت ، اقبل الموت وهو لما يمت ، أم بعد الموت والميت لا يجوز عليه الضرر ! ذلك أن الميت قد أحاق به الضرر ، لا قبل الموت ، ولا بعد الموت ، ولكن عند الموت . ويتبين من ذلك أن هناك ضرراً مادياً أصاب الميت ، فللوارث أن يطالب مكنه بتعويض هذا الضرر ، وكذلك للدائن أن يطلب تعويضاً باسم مدينه الميت ( أنظر في هذه المسألة مازو 2 فقرة 1912 – وانظر : نقض جنائي في 14 مارس سنة 1944 – المحاماة 26 رقم 212 ص 565 وتعليق الدكتور سليمان مرقص في مجلة القانون والاقتصاد 18 العدد الأول ) .
( [1182] ) ولا يقال أن حق التعويض عن الضرر الأدبي حق متصل بشخص المدين ، فلا يجوز للدائن أن يطالب به باسم مدينه . فإن هذا يصح قبل أن تظهر إرادة المدين قاطعة في المطالبة بالتعويض عن الضرر الأدبي . أما وقد ظهرت في صورة اتفاق مع المسئول أو بالمطالبة القضائية ، فقد أصبح حق التعويض حقاً مالياً كسائر الحقوق المالية ، ينتقل إلى الوارث ، ويجوز للدائن استعماله .
( [1183] ) ولكن لا يجوز للمضرور ، قبل الاتفاق أو المطالبة القضائية ، أن يحول حقه إلى الغير ، لأن الحق لا يكون عندئذ قابلا للانتقال . على أنه إذا فعل المضرور ذلك بعد أن قدر مبلغ التعويض ، وقبل المسئول هذه الحوالة ، فإن هذا القبول يعتبر اتفاقا بين المسئول والمضرور على مبدأ المسئولية ومبلغ التعويض ، فيصبح الحق في التعويض قابلا للتحويل ، واتصح الحوالة في هذه الحالة .
أما التعويض عن الضرر الأدبي الناشيء عن موت المورث فوراً عند الاعتداء على حياته ، فلا يتصور انتقاله إلى الورثة ، لأن المورث مات في الحال ، فلم تتح له فرصة الاتفاق مع المسئولن ولم يتصع الوقت للمطالبة القضائية . وقد يصيب الضرر الأدبي الميت بعد موته في ذكراه ، فيعمد شخص إلى النيل من سمعته ، فلا يمكن أن يقال في هذه الحالة أن الميت قد أصابه ضرر من جراء ذلك ، لأن الأموات لا يتضررون . ويترتب على ذلك أنه لا يتصور في هذه الحالة انتقال حق في التعويض من الميت إلى ورثته ، لا لأن التعويض عن الضرر الأدبي لا ينتقل إلى الوارث فحسب بل أيضاً لأن الضرر منتف عن الميت بعد موته . ولكن قد يتأذى الوارث شخصياً من جراء النيل من سمعة مورثة ، فيجوز له عندئذ أن يطالب بوصفه أصيلاً بتعويض عن الضرر الأدبي الذي أصابه . ويجب في اعتبار هذا الضرر الأدبي التوفيق بين واجبين يلزمان من نال من سمعة الميت : واجبة كمؤرخ يسرد الحقائق على وجهها الصحيح خدمة للعلم والتاريخ ، وواجبه في ألا ينال من سمعة الأحياء من جراء قدحه في سيرة الأموات دون مبرر ( أنظر في هذه المسألة مازو 2 فقرة 1922 – فقرة 1929 ) .
( [1184] ) ويقول الفرنسيون إن الضرر الثاني هو ارتداد الضرر الأول ، فهو ضرر مرتد ( par ricochet ) . أنظر في التعويض عن الضرر المرتد تعليق الدكتور سليمان مرقص المشار إليه في مجلة القانون والاقتصاد 18 العدد الأول .
( [1185] ) أنظر في القضاء الفرنسي وتضارب أحكامه مازو 2 فقرة 1878 – 7 إلى فقرة 1878 – 14 – وانظر في تدخل النقابات أمام القضاء الإداري فالين في الرقابة القضائية على الإدارة – القاهرة سنة 1949 – ص 114 – ص 115 .
( [1186] ) وكذلك الحال في النقابات الاجبارية ، كنقابة المحامين ونقابة الأطباء ونقابة المهن الهندسية ، ففي هذه النقابات التي تجمع اجباريا جميع رجال المهنة تختلط المصالح الشخصية للنقابة بالمصالح العامة للمهنة .
( [1187] ) أنظر في موضوع الضرر الذي يصيب الجماعة مازو 2 فقرة 1878 – فقرة 1899 .
( [1188] ) ويلاحظ أن المشتري في هذا المثل هو خلف خاص للبائع بالنسبة إلى المتجر ، وخلف خاص للمدين ( وهو البائع ) بالنسبة إلى الدين المحال به . وترفع عليه دعوى المسئولية باعتباره خلفاً خاصاً للمدين . أما إذا لم تكن هناك حوالة للدين ، فلا يكون مشتري المتجر ملزما به ولو أنه خلف خاص بالنسبة إلى المتجر ( أنظر في هذا المعنى : استئناف مختلط في 10 ابريل سنة 1901 م 13 ص 223 – وفي 10 ابريل سنة 1929 م 41 ص 350 – بلانيول وريبير وغسمان 1 فقرة 660 ) .
( [1189] ) ويجوز للدائن في دعوى المسئولية أن يرجع على مدين المسئولية بالدعوى غير المباشرة ، ولكن الرجوع في هذه الحالة لأي كون بدعوى المسئولية ذاتها ، كما يجوز للدائن أن يحجز تحت يد مدين المسئول حجز ما للمدين لدى الغير .
( [1190] ) مازو 2 فقرة 1999 .
( [1191] ) ومبدأ المسئولية بالتضامن إذا تعدد المسئولون عن عمل غير مشروع قرره القانون القديم في المادتين 150 / 211 كما قدمنا : نقض جنائي في 28 ديسمبر سنة 1907 المجموعة الرسمية 9 رقم 27 ص 65 – وفي 17 فبراير سنة 1912 المجموعة الرسمية 13 رقم 54 ص 111 – وفي 16 فبراير سنة 1918 المجموعة الرسمية 19 رقم 49 ص 70 – استئناف وطني في 8 يونية سنة 1905 الاستقلال 4 ص 466 ( يضح عدم إدخال التابع ف يالدعوى مع المتبوع إذ هما مسئولان بالتضامن ) - استئناف مختلط في 14 مايو سنة 1890 م 2 ص 296 – وفي 29 نوفمبر سنة 1893 م 6 ص 41 – وفي 28 يناير سنة 1903 م 15 ص 111 – وفي 3 فبراير 1903 م 15 ص 127 – وفي 13 ابريل سنة 1904 م 16 ص 189 – وفي 10 مارس سنة 1927 م 39 ص 328 .
ويقول دي هلتس ( Respons . No . 55 ) إن التضامن قائم حتى لو لم يذكر في الحكم لأن مصدره القانون ، ولكن محكمة مصر الكلية الوطنية قضت بأنه إذا حكم بالتعويض وأغفلت المحكمة ذكر التضامن ، فلطالب التعويض أن يطلب منها تفسير الحكم والنص على التضامن لمنع الاشكال في التنفيذ ( 21 نوفمبر سنة 1927 المحاماة 8 رقم 251 ص 344 ) .
( [1192] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا كان المدعى المدني رفع دعواه المدنية أمام محكمة أول درجة على المتهم هو وآخر ، فقضت المحكمة بالحكم على الطاعن بالعقوبة وبالتعويض المدني ، وبرأت المتهم الآخر ورفضت الدعوى المدنية قبله ، فلم يستأنف المدعى المدني واستأنفت النيابة ، فقضت المحكمة الإستئنافية بإدانة المتهم الآخر المحكوم ببراءته ابتدائياً وأيدت الحكم الابتدائي على الطاعن ، ولما لم تكن الدعوى المدنية قد استؤنفت أمامها بالنسبة إلى هذا الآخر فلم يكن هناك سبيل للحكم عليه بشيء من هذا التعويض ، وليس هناك ما يمنع قانوناً من إلزام الطاعن وحده بتعويض كل الضرر الناشيء عن ارتكابه الجريمة ولو ارتكبها مع غيره ( نقض جنائي في 16 فبراير سنة 1948 المحاماة 29 رقم 70 ص 84 ) .
( [1193] ) وقد يكون أحد المسئولين أحدث الضرر كله والآخر لم يحدث إلا بعضه ، فيكونان مسئولين بالتضامن في البعض الذي اشتركا فيه ، وينفرد الأول بالمسئولية عما استقل بإحداثه . مثل ذلك مخفى بعض الأشياء المسروقة ، تقصتر مسئوليته بالتضامن مع السارق على مقدار ما أخفى ( نقض جنائي في 16 فبراير سنة 1918 المجموعة الرسمية 19 رقم 49 ص 70 – وانظر أيضاً محكمة مصر الابتدائية المختلفطة في 17 ديسمبر سنة 1928 جازيت 20 رقم 188 ص 174 ) .
أما إذا لم يثبت أن الضرر واحد ، كله أو بعضه ، فلا تضامن . وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا كان الواقعة الثابتة هي أن أحد المتهمين ضرب المجني عليه فأصاب موضعاً من جسمه ، والآخر ضربه فأصاب موضعاً آخر منه ، وكانت الدعوى لم ترفع على أساس اتفاق أو إصرار سابق من المتهمين على الاعتداء ، فإنه يجب إذا كانت المحكمة ترى الحكم عليهما بالتضامن في التعويض أن تبين في حكمها الأساس الذي تقيمه عليه بما يتفق والأصول المرسومة له في القانون ، فتذكر وجه مسائلة كل من المحكوم عليهما عن الضرر الناشيء من الضربتين مجتمعتين لا عن الضربة الواحدة التي أحدثها هو . فإذا هي لم تفعل ولم تتعرض للتضامن ، فإن المسئولية لا تكون تضامنية لولا تصح مطالبة كل منهم إلا بنصف المبلغ المحكوم به عليهما فقط ( نقض جنائي في 15 يناير سنة 1945 المحاماة 17 رقم 103 ص 254 ) .
( [1194] ) فتجب إذن وحدة الضرر واشتراك كل المسئولين في احداثه : استئناف مختلط في 9 مايو سنة 1911 م 24 ص 324 – وفي 10 فبراير سنة 1915 م 27 ص 155 – وفي 19 مايو سنة 1925 م 37 ص 435 – محكمة الإسكندرية الكلية المختلطة في 4 فبراير سنة 1930 جازيت 20 رقم 210 ص 203 .
( [1195] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه يكفي لترتيب التضامن أن تتحد إرادة الفاعلين مجرد اتحاد وقتي غير مسبوق باتفاق على الاعتداء على المجني عليه ، وأن يقترف كل منهم هذا الاعتداء أو يشترك فيه ( نقض جنائي في 25 ديسمبر سنة 1930 المحاماة 11 رقم 422 ص 819 – وفي 29 مارس سنة 1931 المحاماة 12 رقم 63 ص 109 – وفي 11 يونية سنة 1931 المحاماة 12 رقم 204 / 4 ص 400 ) .
( [1196] ) فقد يكون أحد الخطأين سرقة والخطأ الآخر إخفاء الأشياء مسروقة ، وقد قضت محكمة النقض بأن من يشتري المسروق مع علمه بحقيقة الأمر فيه يكون مسئولا مع السارق بطريق التضامن عن تعويض الضرر الذي أصاب المجني عليه ، ولو أنه يعد في القانون مخفياً لا سارقاً ، وذلك على أساس أن كلا منهما قد عمل على احتجاز المال المسروق عن صاحبه ( نقض جنائي في 16 نوفمبر سنة 1942 المحاماة 23 رقم 224 ص 543 . وانظر أيضاً نقض جنائي في 24 مايو سنة 1943 المحاماة 26 رقم 22 ص 49 ) . وقد يكون أحد الخطأين جناية قتل والخطأ الآخر جنحة ضرب ، وقد قضت محكمة النقض بان المسئولين متضامنون سواء فيهم من حكم عليه بجناية القتل أو من حكم عليه بجنحة الضرب ( نقض جنائي في 15 فبراير سنة 1931 المحاماة 12 رقم 7 ص 9 – استئناف مصر الوطنية في 8 ديسمبر سنة 1927 المحاماة 8 رقم 319 / 2 ص 490 ) . وقضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأنه إذا تطابقت إرادة اثنين فأكثر على إيذاء إنسان والتعدي عليه ، فضربه بعض وقتله بعض ، كانوا مسئولين بالتضامن لورثته عن التعويض ، ومساوين في المسئولية المدنية ولو لم يتعادلوا في المسئولية الجنائية ، وكان فعل أحدهم جناية وفعل الباقين جنحة ( 14 مارس سنة 1939 المحاماة 19 رقم 460 ص 1146 ) . وقد لا يعرف من من المسئولين هو الذي قتل ومن منهما اقتصر على الضرب ، فيكونان بالأولى متضامنين ، وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا كان الثابت بالحكم أن المتهمين وفريقهما حضروا معاً لمحل الحادثة ، وكان كل منهم عاقداً النية على الاعتداء على فريق المجنى عليه بسبب مضاربة سابقة وقعت بين بعض أفراد الفريقين ، وتنفيذاً لهذا الغرض ضرب كل من المتهمين بحضور الآخر وعلى مرأى منه المجني عليه المذكور فأحدثا به الإصابات التي أدى بعضها إلى وفاته ، فالقضاء عليهما متضامنين بالتعويض للمدعى بالحق المدني عن وفاة المجني عليه لا مخالفة فيه للقانون ، لأن كلا منهما يعتبر مسئولا من الوجهة المدنية عن الوفاة ، ولو أن المحكمة لم تستطيع تعيين من منهما أحدث الإصابة التي نشأ الموت عنها ( نقض جنائي في 2 مارس سنة 1942 المحاماة 23 رقم 20 ص 33 – أنظر أيضاً نقض جنائي في 17 مايو سنة 1943 المحاماة 26 رقم 18 ص 41 ) . وقد يبرأ أحد المتهمين من التهمة الجنائية ومع ذلك يبقى متضامناً مدنياً مع المتهم الذي أدين جنائياً ، وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا كانت المحكمة برأت المتهم من تهمة الشروع في القتل إلا إنها أقامت قضاءها بإلزامه بالتعويض مع المتهم الآخر الذي أدين بهذه الجريمة على ما قالته من أنه كان معه وقد سلمه السلاح الذي استعمل في الجريمة ، ثم اتحد الاثنان في فكرة الإستيلاء على السيارة من طريق التحرش بالمدعى المدني ومعاكسته ، وتطور الموقف إلى صدور أفعال منهما استفزت المدعى وكان لها بعض الأثر في وقوع الجريمة التي ارتكبها زميل الطاعن ، وأن كل هذه الأفعال وإن كانت لا ترقى بالنسبة إليه إلى مرتبة الاتفاق الذي وقعت جريمة الشروع في القتل بناء عليه ، إلا أن توافق الاثنين على التحرش رغبة في الحصول على السيارة لتنفيذ حلقة من حلقات الاتفاق الجنائي العام القائم بينهما وآخرين ، والأفعال التي صدرت عنهما وكان من نتيجتها استفزاز المدعى كان لها أثرها بالنسبة إلى الطاعن وبالتالي في الضرر الذي حاق بالمدعى – وهذه الظروف مجتمعة تجعل الاثنين مسئولين مدنياً بالتضامن عن تعويض ذلك الضرر ( نقض جنائي في 24 مايو سنة 1949 المحاماة 30 رقم 127 ص 13 ) .
( [1197] ) ومع ذلك فقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه إذا نسبب الوكيل في عقد بخطئه في إخلال الموكل بتعهده كان مسئولا مع بالتضامن ( استئناف مختلط في 23 ديسمبر سنة 1931 م 44 ص 82 ) . والصحيح أن المسئولية هنا مسئولية مجتمعة لا مسئولية بالتضامن ، لاجتماع خطأ عقدي مع خطأ تقصيري . وسنرى أن محكمة الاستئناف المختلطة قد قضت من جهة أخرى في بعض أحكامها بان المسئولية عند تعدد المسئولين عن أخطاء تقصيرية تكون مسئولية مجتمعة لا مسئولية بالتضامن ، وهذا أيضاً غير صحيح .
( [1198] ) وفي القانون المدني الفرنسي لا يوجد نص على التضامن عند تعدد المسئولين ، ومن ثم لجأ الفقه والقضاء في فرنسا إلى فكرة المسئولية المجتمعة ( in solidum ) فأقاموها بين المسئولين المتعددين ( أنظر مازو 2 فقرة 1961 – 1969 ) . أما في القانون المدني المصري ، القديم والجديد ، فإن النص على التضامن موجود كما قدمنا . لذلك تكون المسئولية بين المسئولين المتعددين في مصر مسئولية بالتضامن لا مسئولية مجتمعة ، ومع ذلك فقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة في بعض أحكامها بأنه إذا تعدد المسئولون فالمسئولية بينهم لا تكون مسئولية تضامنية ( solidarite ) بل مسئولية مجتمعة ( in solidum ) استئناف مختلط في 5 مايو سنة 1937 م 49 ص 213 – وفي 23 يونية سنة 1937 م 49 ص 276 – وجعلت المحكمة هنا القسمة فيما بين المسئولين بالتساوي لا بحسب جسامة الخطأ ) – وفي 23 فبراير سنة 1 938 م 50 ص 143 . وقد أغفلت هذه الأحكام النص الصريح على التضامن الذي ورد في القانون المدني المصري . ومهما يكن من أمر ، فإنه إذا رفع المضرور الدعوى على أحد من المسئولين ، جاز له أن يطالبه بالتعويض كاملا ، ولهذا أن يرجع على سائر المسئولين كل بقدر نصيبه : استئناف مختلط في 10 ابريل سنة 1929 م 41 ص 353 – وفي 3 ابريل سنة 1930 جازيت 20 رقم 210 ص 202 – وفي 31 مارس سنة 1937 م 49 ص 174 – وفي 8 يونية سنة 1938 م 50 ص 356 .
والصحيح أن المسئولية في مصر ، في حالة تعدد المسئولين ، تكون مسئولية تضامنية بجميع خصائصثها المتقدمة الذكر ، لا مجرد مسئولية مجتمعة . وهذا ما ذهب إليه الفقه والكثرة الغالبة من أحكام القضاء . ومن الأمثلة على تضامن المسئولين عند تعددهم انهيار بناء مملوك في الشيوع ، فيكون الملاك في الشيوع مسئولين بالتضامن عن الضرر الذي أحدثه انهيار البناء ( استئناف مختلط في 28 يناير سنة 1903 م 15 ص 111 – وفي 8 يناير سنة 1913 م 25 ص 114 – وفي 28 يناير سنة 1926 م 38 ص 208 ) ، وبائعوا العقار يعلنون غشاً أن العقار خال من الرهون ، فيكونون مسئولين بالتضامن ( استئناف مختلط في 17 مايو سنة 1905 م 17 ص 277 ) ، والمشتركون في اغتصاب شيء واحد يكونون مسوئلين بالتضامن ( استئناف مختلط في 19 مارس سنة 1903 م 15 ص 207 ) ، وكذلك المتواطئون على الغش ( استئناف مختلط في 11 ابريل سنة 1906 م 18 ص 189 – وفي 4 فبراير سنة 19230 م 42 ص 249 ) ، وكذلك المشتركون في منافسة غير مشروعة ( استئناف مختلط في 6 ديسمبر سنة 1900 م 13 ص 35 ) .
( [1199] ) فإذا كان الخطأ مشتركاً ، بأن كان المضرور قد ارتكب خطأ ساعد على إحداث الضرر ، وكان المسئول شخصين متضامنين ، فقد قدمنا أن المضرور يرجع شتى التعويض على المسئولين بالتضامن ، ولا يجوز لهذين أن يدفعا هذا التضامن بأن المضرور مسئول هو أيضاً عن الضرر ، فيكون متضامناً معهما ، ويكون رجوعه عليهما هو رجوع المسئول المتضامن على سائر المسئولين المتضامنين ، فلا يرجع على كل مسئول إلا بقدر نصيبه . ذلك أنه يرجع عليها كمضرور لا كمسئول متضامن .
( [1200] ) استئناف مختلط في 13 ابريل سنة 1904 م 16 ص 189 – وفي 28 يناير سنة 1926 م 38 ص 208 ( شريكان في مبنى على الشيوع ، فانهار المبنى وأصاب الغير بالضرر ، واعتبر الشريكان مسئولين بالتضامن قبل المضرور ، أما فيما بينهما فقد قسم التعويض بنسبة نصيب كل منهما في المبنى ( . وتقضي بعض الأحكام ، دون مبرر ، بعدم رجوع المسئول الذي دفع التعويض كلام على المسئول معه ، إذا كان الخطأ الذي ارتكباه معاً يعتبر غشاً ، كما إذا اشتركا في النصب ( استئناف مختلط في 24 نوفمبر سنة 1927 م 40 ص 50 ) ، أو في السرقة ( استئناف مختلط في 8 ديسمبر سنة 1920 م 33 ص 59 ) ، أو في التقليد المزور ( استئناف مختلط في 9 مارس سنة 1927 م 39 ص 322 ) .
( [1201] ) محكمة الإسكندرية الكلية المختلفطة في 8 نوفمبر سنة 1943 م 56 ص 10 – وقد تتحقق المسئولية الجناية في أحوال قليلة ، فتوقع على الشخص المعنوي عقوية جنائية ، كالحل والإغلاق والمصادرة والغرامة .
( [1202] ) وكما أن الدعوى لا تقام على الذراع أو على الرأس في حالة الشخص الطبيعي ، فهي كذلك لا تقام على الممثلين في حالة الشخص المعنوي ( مازو 2 فقرة 1988 ) .
( [1203] ) فالفقهاء ورجال العمل في فرنسا ينصحون المدعى أن يستند في دعواه إلى جميع النصوص الخاصة بالمسئولية – عقدية كانت أو تقصيرية – حتى لا تفلت منه فرصة في كسب دعواه مهما كان رأي القاضي في الوسيلة التي يجب أن تستند إليها الدعوى ( أنظر في القضاء الفرنسي وفي نقده مازو 3 فقرة 2097 – فقرة 2101 ) .
( [1204] ) أنظر في الموضوع مازو 3 فقرة 2102 .
( [1205] ) وقد أصدرت الدائرة الجنائية لمحكمة النقض أحكاماً عدة في هذا المعنى . فقضت بأنه إذا كانت الدعويان العمومية والمدنية قد رفعنا على المتهم على أساس أنه قارف بنفسه فعل الضرب الذي وقع على عين المدعى عليه وسبب له الضرر المطلوب من اجله التعويض ، واستمر النظر فيهما على هذا الأساس طوال المحاكمة ، فإن المحكمة إذا داخلها الشك في أن المتهم ضرب المجني عليه ، ولم تر أنه قارف أية جريمة أخرى يكون من سلطتها أن تحاكمه عليها ، فبرأته لعدم ثبوت التهمة عليه ، وتبعاً لذلك رفضت الدعوى المدنية المقامة على أنه ارتكب بنفسه الفعل الضار ، تكون قد أصابت إذا لم يكن في وسعها أن تحكم بغير ما حكم به . ذلك لأن المطالبة بالتعويض على أساس المادة 151 من القانون المدني باعتبار المدعى عليه مسئولا عن فعل نفسه تختلف من حيث السبب عن المطالبة بالتعويض على أساس المادة 152 من القانون المذكور باعتبار المدعى عليه مسئولا عن فعل غيره ، وليس للمحكمة من تلقاء نفسها أن تغير السبب الذي تقام عليه الدعوى أمامها وإلا تكون قد تجاوزت سلطتها ، وحكمت بما لم يطلب منها الحكم به ( نقض جنائي في أول فبراير سنة 1943 المحماة 24 رقم 162 ص 480 ) .
وقضت أيضاً بأنه ما دامت الدعوى قد رفعت على أساس المسئولية التقصيرية ، والمدعى لم يطلب أن يقضي له فيها بالتعويض على أساس المسئولية التعاقدية – إن صح أن يطلب ذلك أمام المحكمة الجنائية – فليس للمحكمة أن تتبرع من عندها فتبني الدعوى على سبب غير الذي رفعها صاحبها به ، فإنها إذ تفعل تكون قد حكمت بما لم يطلبه منها الخصوم ، وهذا غير جائز في القانون ( نقض جنائي في 8 مارس سنة 1943 المحماة 20 رقم 45 ص 132 ) .
وقضت كذلك بأنه ما دامت الدعوى المدنية قد رفعت أمام المحكمة الجنائية ، فإن هذه المحكمة إذا انتهت إلى أن أحد المتهمين هو وحده الذي قارف الجريمة المطلوب التعويض عنها ، وأن المتهمين الآخرين أحدهما لم يقع منه سوى تقصير في الواجبات التي يفرضها عليه العقد المبرم بينه ( وهو مستخدم بينك التسليف ) وبين المدعى بالحقوق المدنية ( وهو بنك التسليف ) والآخر لم يثبت وقوع أي تقصير منه – إذا انتهت المحكمة إلى ذلك يكون متعيناً عليها إلا تقضي بالتعويض إلا على من ثبتت عليه الجريمة ، وأن تقضي برفض الدعوى بالنسبة للمتهمين الآخرين ، لأن حكمها على المتهم الذي خالف شروط العقد لا يكون إلا على أساس المسئولية التعقدية وهو غير السبب المرفوعة به الدعوى أمامها ، وهذا لا يجوز في القانون ، ولان حكمها بالتعويض على المتهم الآخر ليس له ما يبرره ما دام لم يثبت وقوع أي خطأ منه . أما القول بأن المحكمة كان عليها في هذه الحالة أن تحكم بعدم الاختصاص في الدعوى المدنية بالنسبة لهذين المتهمين أحدهما أو كليهما لا برفضها فمردود بأنه ما دامت الدعوى قد رفضت على أساس انعدام المسئولية التقصيرية ، فإن ذلك لا يمنع المدعى بالحقوق المدنية وليس من شأنه أن يمنعه من رفعها أمام المحاكم المدنية بناء على سبب آخر هو المسئولية التعاقدية ( نقض جنائي في 31 مايو سنة 1943 المحاماة 26 رقم 37 ص 81 ) .
وانظر تعليقاً على هذا الحكم للدكتور سليمان مرقص في مجلة القانون والاقتصاد 17 العدد الثاني ، وهو يعارض المبدأ الذي اخذ به الحكم ، ويؤيد الرأي الصحيح الذي أخذنا به – وانظر تعليقاً آخر له في هذا المعنى في مجلة القانون والاقتصاد 15 ص 219 – ص 238 ) .
( [1206] ) نقض مدني في 5 يناير سنة 1939 مجموعة عمر 2 رقم 154 – ص 452 .
( [1207] ) وقد قمنا أن هناك دفعاً خاصا بدعوى المسئولية المدنية ، إذا رفعت أمام المحكمة المدنية ، عن جريمة رفعت الدعوى الجنائية في شأنها أمام المحكمة الجنائية . فإن الدعوى الجنائية تق من سير الدعوى المدنية حتى يفصل نهائياً في الدعوى الجنائية . وهذا ما يعبر عنه الفرنسيون بقولهم : La criminal tient le civil en etat وقد وردت هذه القاعدة في القانون الإجراءات الجنائية الجديد في المادة 265 على الوجه الآتي : " إذا رفعت الدعوى المدنية أمام المحاكم المدنية ، يجب وقف الفصل فيها حتى يحكم نهائياً بالدعوى الجنائية المقامة قبل رفعها أو في أثناء السير فيها . على أنه إذا أوقف الفصل في الدعوى الجنائية لجنون المتهم يفصل في الدعوى المدنية " .
( [1208] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 240 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 - تسقط بالتقادم دعوى التعويض الناشئة عن العمل غير المشروع بانقضاء ثلاث سنوات من اليوم الذي علم فيه المصاب بحدوث الضرر وبالشخص الذي أحدثه . وتسقط الدعوى كذلك في جميع الأحوال بانقضاء خمس عشرة سنة من يوم وقوع العمل غير المشروع . 2 – على أنه إذا كانت دعوى التعويض ناشئة عن جريمة تقرر لسقوط الدعوى الجنائية فيها مدة أطول ، فإن هذه المدة هي التي تسقط بها الدعوى المدنية " . وفي لجنة المراجعة نوقشت المادة مناقشة طويلة ، ورأى بعض الأعضاء أنه لا توجد علاقة ما بين سقوط دعوى التعويض المدنية وسقوط الدعوى الجنائية ، ولكن الأغلبية رأت إبقاء الحكم على أصله مع تقديم الفقرة الثانية بحيث تكون استثناء لمدة الثلاث السنوات لا من مدية الخمس عشرة سنة ، وأصبح النص النهائي الذي أقرته اللجنة هو : " 1 - تسقط بالتقادم دعوى التعويض الناشئة عن العمل غير المشروع بانقضاء ثلاث سنوات من اليوم الذي علم فيه المضرور بحدوث الضرر وبالشخص الذي أحدثه إلا إذا كانت هذه الدعوى ناشئة عن جريمة تسقط الدعوى الجنائية فيها بمدة أطول ، فإن هذه المدة هي التي تسقط بها دعوى التعويض . 2 – وتسقط دعوى التعويض في جميع الأحوال بانقضاء خمس عشرة سنة من يوم وقوع العمل غير المشروع " . وأصبح رقم المادة 176 في المشروع النهائي . ووافق عليها مجلس النواب . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ اعترض على جعل يوم علم المضرور بحدوث الضرر وبالشخص الذي أحدثه بمبدأ لسريان التقادم القصير وهو ثلاث سنوات لأنه لا بد من تعيين معيار مادي ثابت لمبدأ السقوط فالمسائل القضائية يجب تحديدها بواقعة مادية ، أما العلم فقد يثير إشكالات لا تنتهي ، ولكن اللجنة تبينت أن كل التشريعات الحديثة أخذت بمبدأ المدة القصيرة للتقادم على أن يبدأ سريانها من يوم العلم بالضرر وبالشخص الذي أحدثه وبمبدأ المدة الطويلة في حالة عدم العلم . واستبدلت اللجنة عبارة " الشخص المسئول عنه " بعبارة " الشخص الذي أحدثه " ، والاستعاضة عن الشق الأخير من الفقرة الأولى بعبارة " فإن دعوى التعويض لا تسقط إلا بسقوط الدعوى العمومية " ، وقصد من هذا الاقتراح إلى الإبقاء على الدعوى المدنية طوال المدة التي يوقف فيها سريان تقادم الدعوى العمومية بالتحقيقي أو بالمحاكمة لأن إطلاق النص الوارد في المشروع يجعل تقادم الدعوى المدنية يتم بانقضاء المدة التي تسقط بها الدعوى العمومية دون نظر إلى وقف سريان تقادمها ، والانسب أن تبقى الدعوى المدنية ما بقى الحق في رفع الدعوى العمومية أو تحريكها أو السير فيها قائما ، والأصح كذلك أن يرد الاستثناء الخاص ببقاء الدعويين في الفقرة الثانية لأن الدعوى العمومية قد تظل باقية أحياناً مدة تجاوز الخمس عشرة سنة . وعلى ذلك عدلت المادة على الوجه الوارد في القانون الجديد وأصبح رقمها 172 . ووافق مجلس الشيوخ عليها كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 399 – 404 ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " استحدث المشروع في نطاق المسئولية التقصيرية تقادماً قصيراً . فقضى بسقوط دعوى التعويض الناسئة عن عمل غير مشروع بانقضاء ثلاث سنوات على غرار ما فعل فيما يتعلق بدعاوى البطلان . ويبدأ سريان هذه المدة من اليوم الذي يعلم فيه المضرور بالضرر الحادث ، ويقف على شخص من احدثه . فإذا لم يعلم بالضرر الحادث ، أو لم يقف على شخص من احدثه ، فلا يبدأ سريان هذا التقادم القصير ، ولكن دعوى المضرور تسقط على أي الفروض بانقضاء خمس عشرة سنة على وقع العمل غير المشروع . وإذا كان العمل الضار يستتبع قيام دعوى جنائية إلى جانب الدعوى المدنية ، وكانت الدعوى الجنائية تتقادم بانقضاء مدة أطول ، سرت هذه المدة في شأن تقادم الدعوى المدنية . فلو حدث الضرر مثلا من جراء جناية ، كانت مدة سقوط الدعوى المدنية عشر سنوات عوضاً عن ثلاث لأن الدعوى الجنائية لا تتقادم إلا بانقضاء تلك المدة وهي أطول . وقد فرض في هذا كله أن مبدأ سريان المدة لا يختلف في الحالتين ، بيد أن الدعوى المدنية لا تسقط إلا بانقضاء خمس عشرة سنة عند جهل المضرور بالضرر الحادث أو بشخص محدثه ، وهي مدة أطول من مدة سقوط الدعوى الجنائية . وصفوة القول أن الدعوى المدنية قد تبقى قائمة بعد انقضاء الدعوى الجنائية ، ولكن ليس يقبل انقضاء الدعوى المدنية قبل انقضاء الدعوى الجنائية ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 400 ) .
( [1209] ) نقض مدني في أول مايو سنة 1947 مجموعة عمر 5 رقم 198 ص 433 .
( [1210] ) وسقوط الدعوى المدنية قبيل سقوط الدعوى الجنائية أكثر احتمالا في القانون المدني الجديد ( حيث قصرت مدة التقادم ) منه في القانون المدني القديم . وهذا هو الذي جعل المشرع في القانون المدني الجديد ينص صراحة على الاحتياط الذي نحن بصدده ، حتى لا تسقط الدعوى المدنية قبل سقوط الدعوى الجنائية على النحو الذي قدمناه . أما القانون المدني القديم فلم يتضمن نصاً في هذه المسألة ، ولم يكن في حاجة كبيرة إليه ، لأن دعوى المسئولية فيه كانت لا تسقط إلا بخمس عشرة سنة ، فكان من النادر أن تسقط الدعوى المدنية قبل سقوط الدعوى الجنائية .
( [1211] ) استئناف مختلط في 12 مايو سنة 1887 بوريللي م 179 رقم 9 – وفي 2 يناير سنة 1901 م 13 ص 93 – وفي 4 مارس سنة 1945 م 27 ص 199 – قارن محكمة استئناف مصر الوطنية في 22 ديسمبر سنة 1938 المحاماة 20 رقم 119 ص 455 وتعليق الدكتور سليمان مرقص في مجلة القانون والاقتصاد 13 ص 348 – ص 349 .
( [1212] ) استئناف مختلط في 19 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 41 – محكمة الإسكندرية المختلطة في 10 يونية سنة 1922 جازيت 13 رقم 86 ص 160 .
( [1213] ) أنظر في أن الخطأ المفروض فرضاً غير قابل لإثبات العكس هو في الواقع من الأمر خطأ ثابت ( faute prouvee ) مازو 2 فقرة 1690 – فقرة 1692 .
( [1214] ) والقرائن القانونية على الخطأ إنما أقامها القانون لمصلحة المدعى دون غيره . وقد رأينا أن غير المدعى لا يجوز له أن ينتفع بهذه القرائن ، فلا يصح أن يتمسك بها لا المدعى عليه ولا الغير .
( [1215] ) أنظر المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد المادة 215 ، حيث ورد أن إسقاط قرينة الخطأ يكون بإثبات السبب الأجنبي . وفي هذا خلط بين الخطأ وعلاقة السببية ، فإن الذي ينتفى بإثبات السبب الأجنبي هو علاقة السببية لا الخطأ ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 547 ) .
( [1216] ) وقد قضت محكمة النقض بأن الدعوى المرفوعة على سيد وخادمه بطلب الحكم عليهما متضامنين بأن يدفعا إلى المدعية مبلغا تعويضا لها عن عبث الخادم بحلى كانت في علبة استودعتها السيد هي دعوى متضمنة في الواقع دعويين : الأولى أساسها الجريمة المنسوبة إلى الخادم ، وفيها يدور الإثبات بينه وبين المدعية على وقوع الجريمة ، واثبات الجريمة جائز قانوناً بأي طريق من طرق الإثبات ، فهي دعوى غير متوقفة على عقد الوديعة ولا لها بالوديعة إلا صلة عرضية من ناحية أن الجواهر التي وقعت عليها الجريمة كانت وديعة ، وهذا ليس من شأنه أن يغير من حقيقة الدعوى ولا من طريق الإثبات فيها . والثانية موجهة إلى السيد ، وأساسها أن الخادم الموجهة إليه الدعوى الأولى قد ارتكب الجريمة في حال تأدية وظيفته عنده ، وهذه ليس مطلوبا فيها إثبات عقد الوديعة على السيد . ومن ثم يجوز إثبات محتويات العلبة بالبينة والقرائن ( نقض مدني أول مايو سنة 1947 مجموعة عمر 5 رقم 198 ص 432 ) . وقضت أيضاً بأن الدليل لا ارتباط له بالمسئولية في حد ذاتها ، وإنما يتعلق بذات الأمر المطلوب إثباته . فقد تكون المسئولية تعاقدية ومع ذلك يكون الإثبات فيها بالبينة والقرائن كما في حالة التعهد بعدم فعل شيء عندما يرغب المتعهد له إثبات مخالفة المتعهد له إثبات مخالفة المتعهد لتعهده . وقد تكون المسئولية جنائية أو تقصيرية ومع ذلك يكون الإثبات فيها بالكتابة حتما بالنسبة للعقد المرتبط بها إذا كانت قيمته تزيد على ألف قرش في غير المواد التجارية والأحوال الأخرى المستثناة كما هي الحال في جريمة خيانة الأمانة ( نقض مدني في 29 فبراير سنة 1940 مجموعة عمر 3 رقم 34 ص 75 ) .
( [1217] ) استئناف مختلط في 4 فبراير سنة 1892 م 4 ص 105 – وفي 5 يناير سنة 1893 م 5 ص 161 – وفي 11 مارس سنة 1897 م ) ص 196 – وفي 24 يونية سنة 1908 م 20 ص 295 – وفي 18 ديسمبر سنة 1912 م 25 ص 72 – وفي 25 أكتوبر سنة 1928 م 41 ص 15 – وفي 28 يناير سنة 1930 م 42 ص 234 .
( [1218] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 544 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " لا يرتبط القاضي المدني بالحكم الجنائي في الواقع التي لم يفصل فيها هذا الحكم أو الوقائع التي فصل فيها دون ضرورة " . وفي لجنة المراجعة رؤى أن المعنى يكون أوضح لو ذكر الحكم العكسي ، فوافقت اللجنة على أن يكون نص المادة كما يأتي : " لايرتبط القاضي المدني بالحكم الجنائي إلا في الوقائع التي فصل فهيا هذا الحكم وكان فصله فيها ضرورياً " . وأصبح رقم المادة 419 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وكذلك وافقت عليه لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم المادة 406 . ثم وافق عليها مجلس الشيوخ دون تعديل ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 3 ص 424 – ص 428 ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : " 1 - استلهم المشروع في صياغة هذه المادة أحكام المادة 303 من المشروع الفرنسي الإيطالي والمادة 1956 من التقنين الهولندي والمادة 2502 من التقنين البرتغالي . ويراعى أن حجية الأحكام الجنائية تنطوي على معنى الإطلاق من ناحية ومعنى الاقتصار من ناحية أخرى . ( ا ) فهي مطلقة بمعنى أن ما قتضي به المحاكم الجنائية يكون ملزما للكافة ، ولذلك نصت المادة 19 فقرة أولى من تقنين تحقيق الجنايات المختلط على إلزام المحكمة المدنية بالفصل طبقاً لما قضى به نهائياً من المحكمة الجنائية إذا استلزم الفصل في الدعوى المرفوعة أمامها معرفة ما إذا كانت هناك جريمة قد ارتكبت ومن ينسب إليه ارتكابها ، ونصت المادة نفسها في فقرتها الثانية على إلزام المحكمة المدنية بوقف الفصل في الدعوى المدنية المترتبة على وقوع الجريمة إذا رفعت الدعوى الجنائية قبل الفصل فيها نهائياً ، وذلك اتقاء لتعارض الأحكام . ( ب ) وهي قاصرة بمعنى أن نطاق إلزامها لا يجاوز ما قضى به فعلا ، أي ما فصل فيه الحكم . ففي حالة عدم الحكم بعقوبة – وهي الحالة التي تواجهها المادة 303 من المشروع الفرنسي الإيطالي – يجوز للقاضي المدني أن يحكم على المتهم بالتعويض دون أن ينطوي حكمه هذا على تعارض مع الحكم الجنائي . فالواقع أن عدم القضاء بالعقوبة قد يرجع إلى انقضاء الدعوى العمومية بموت المتهم أو بالتقادم أو بالعفو الشامل ، وإزاء ذلك لا يحكم القاضي بالعقوبة لتوافر هذا السبب أو ذاك ، دون إن يفصل في الواقعة التي أسست عليها الدعوى الجنائية . وما دام القاضي الجنائي قد اقتصر على الفصل في أن الواقعة المنسوبة إلى المتهم يمتنع توقيع عقوبة بشأنها ، فللقاضي المدني والحال هذه أن يقضي بالتعويض دون أن يعارض بذلك ما قضى به جنائياً ، وأن يؤسس قضاءه على الواقعة نفسها بوصفها تقصيراً مدنياً وقع من المتهم . ثم أن الحكم بالبراءة قد لا ينفى قيام التقصير المدني أيضاً ، إذ لس ثمة تلازم بين المسئولية الجنائية والمسئولية المدنية ، فيجوز أن يقتصر نطاق الدعوى العمومية على فعل معين لا يستتبع مسئولية جنائية ولكنه يستتبع مسئولية مدنية ، وفي هذه الحالة تفصل المحكمة الجنائية في المسئولية الجنائية وحدها وتقضي بالبراءة ولو أن الواقعة التي فصلت فيها أو وقائع أخرى لم تنظر فيها قد تكون أساساً لدعوى مدنية . فيجوز مثلا أن يبرا المتهم من جريمة مخالفة قواعد المرور مع الحكم عليه بالتعويض عن تقصير مدني لا يصدق عليه وصف الجريمة . فإذا اقتصر القاضي الجنائي على الفصل في أن الواقعة المنسوبة إلى المتهم لا تعتبر جريمة ، جاز للقاضي المدني أن يقضي بالتعويض دون أن ينقاض بذلك ما قضى به جنائياً . 2 – فالشرط الجوهري في انتفاء حجية الأحكام الجنائية الصادرة بالبراءة أو بانتفاء وجه استيفاء العقوبة أمام المحاكم المدنية هو اقتصار القاضي الجنائي على الفصل في الواقعة الجنائية دون الفصل في نسبتها . ويتحقق هذا الشرط متى قضى الحكم بان الواقعة لم يعد وجه لاستيفاء العقوبة بشأنها أو إنها ليست مما يقع تحت طائلة العقاب ( البراءة ) ، ولكن لو فرض أن القاضي أسس البراءة على نفي نسبة الواقعة إلى المتهم ، كان لحكمه قوة الشريء المقضي به بشأن هذه النسبة ، وتعين على القاضي المدني أن يفصل طبقاً لهذا القضاء ، وفقاً لما تقضي به المادة 19 من تقنين تحقيق الجنايات المختلط . ويستفاد هذا الحكم ضمناً من المادة 306 من هذا التقنين إذ تنص على أنه " إذا برئ المتهم وألزم بتعويضات للمدعى المدني بالحق المدني يكون تقدير المصاريف الواجب الحكم بها عليه للمدعى بالحق المدني المذكور حسب القواعد المقررة في المواد المدنية والتجارية " . وقد استند القضاء بوجه خاص إلى هذه المادة وقضى بإلزام المتهم بالتعويضات رغم الحكم ببراءته ( جنح المنصورة في 5 مايو سنة 1938 جريدة المحاكم المختلطة 4 يونية سنة 1938 واستئناف مختلط في 27 مارس سنة 1907 م 19 ص 187 ) ورغم تقادم الدعوى العمومية ( استئناف مختلط في 19 مايو سنة 1927 م 39 ص 488 ) " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 3 ص 425 – ص 427 ) .
( [1219] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه يجب أن يكون للحكم الجنائي الصادر بالإدانة حجيته أمام المحاكم المدنية في الدعوى التي يكون أساسها ذات الفعل موضوع الدعوى التي صدر فيها ، وذلك منعاً من أن ييجئ الحكم المدني على خلاف الحكم الجنائي . فإنه ليس من المقبول في النظام الاجتماعي أن توقع المحكمة الجنائية العقاب على شخص من أجل جريمة وقعت منه ، ثم تأتي المحكمة المدنية فتقضى بأن الفعل المكون للجريمة لم يقع منه ، في حين أن الشارع قد أحاط الإجراءات أمام المحاكم الجنائية – لتعلقها بأرواح الناس وحرياتهم وأعراضهم – بضمانات اكفل بإظهار الحقيقة ، مما مقتضاه أن يكون الحكم متى صدر بالإدانة محل ثقة الناس كافة بصورة مطلقة لا يصح معها بأي حال إعادة النظر في موضوعه . واذن فإذا قضت المحكمة المدنية للمدعى بتثبيت ملكيته للأطيان المتنازع عليها ، وبنت قضاءها على رفض ما دفع به المدعى عليه الدعوى متمسكا بملكيته اياها استناداً على عقد بيع سبق الحكم جنائياً بإدانته في تهمة تزويره ، فإنها لا تكون قد خالفت القانون ( نقض مدني في 13 يناير سنة 1944 مجموعة عمر 4 رقم 90 ص 245 ) .
وقضت محكمة النقض أيضاً بان الحكم الصادر في الدعوى الجنائية يجب أن تكون له حجية المحكوم فيه أمام المحكمة المدنية بالنسبة لما يقتضي الفصل في تلك الدعوى بيانه فيه حسب القانون متى كان مناط الدعوى المدنية ذات الفعل الذي تناوله هذا الحكم . وليست العلة في ذلك اتحاد الخصوصم والموضوع والسبب في الدعويين وأما هي في الواقع توافر الضمانات المختلفة التي قررها الشارع في الدعاوى الجنائية ابتغاء الوصول إلى الحقيقة لارتباطها بالأرواح والحريات – الأمر الذي تتأثر به مصلحة الجماعة لا مصلحة الأفراد ، مما يقتضي أن تكون الأحكام الجنائية محل ثقة على الإطلاق ، وأن تبقى آثارها نافذة على الدوام . وهذا يستلزم حتماً إلا تكون هذه الأحكام معرضة في أي وقت لإعادة النظر في الموضوع الذي صدرته فيه ، حتى لا يجبر ذلك إلى تخطئها من جانب أية جهة من جهات القضاء . وإذا كان تفادي التعارض على الوجه المتقدم هو العلة في تقرير حجية الحكم الجنائي في الدعوى المدنية المتعلق موضوعها به ، فإن جريمة الأقراض بالربا لا تختلف في هذا الصدد عن غيرها من الجرائم لتوافر هذه العلة فيها هي أيضاً – فالحكم الجنائي الصادر على المتهم في جريمة الاعتياد على الأقراض بفوائد ربوية يكون ملزما للقاضي المدني فيما أثبته خاصاً بسعر الفائدة التي حصل الأقراض بها ، لأن مقدار الفائدة عنصر أساسي في هذه الجريمة ، وإذا ابيح للقاضي المدني إعادة النظر فيه لجاز أن يؤدي ذلك إلى وجود التناقض فين الحكمين المدني والجنائي في أمر هو من مستلزمات الادانة . وكذلك يكون ملزماً له فيما أثبته عن وقائع الأقراض لتعلق هذه الوقائع أيضاً – مهما كان عددها – بالادانة ، إذ القانون لم ينص على عدد المرات التي تكون الاعتياد ، الأمر الذي يستوجب أن تكون التهمة التي حصل العقاب عليها متضمنة جميع الأفعال الداخله في الجريمة حتى وقت المحاكمة ( نقض مدني في 9 مايو سنة 1940 مجموعة عمر 3 رقم 58 ص 192 – وتعليق الدكتور سليمان مرقص في مجلة القانون والاقتصاد 15 ص 196 – ص 198 ) .
وقضت كذلك بأنه إذا قضت المحكمة الجنائية ببراءة متهم بتزوير عقد ، نافية وقوع التزوير ، فهذا الحكم يحول بتاتا دون نظر دعوى تزوير هذا العقد التي يرفعها بصفة فرعية من كان مدعياً بالحق المدني في وجه المتمسك بالعقد الذي كان متهماً في الدعوى الجنائية ( نقض مدني في 12 يناير سنة 1939 مجموعة عمر 2 رقم 156 ص 466 ) .
( [1220] ) وقد قضت محكمة النقض بان قرار الحفظ الذي تصدره النيابة العامة أياً كان سببه ، سواء لأنها قدرت أن وقوع الحادث لا يرد إلى خطأ مهما كانت صوره أو لأن نسبة الخطأ إلى شخص بعينه غير صحيح أو لم يقم عليه دليل كاف – هذا القرار لا يجوز قوة الأمر المقضي قبل المضرور بالحادث ، فلا يحول بينه وبين الدعوى المدنية يقيم فيها الدليل على الخطأ ونسبته إلى المدعى عليه فيها ( نقض مدني في 27 أكتوبر سنة 1949 الطعن رقم 34 سنة 18 قضائية ) .
( [1221] ) وقد قضت محكمة النقض بأن الاحتجاج بالحكم الجنائي أمام القضاء المدني محله أن يكون الحكم الجنائي سابقاً على الحكم المدني لا لاحقاً له ، إذ بعد استقرار الحقوق بين الطرفين بحكم نهائي مدني لا يصح المساس بها بسبب حكم جنائي يصدر بعده . وعلى ذلك إذا فصل في نزاع من محكمة مدنية ، ثم أثير هذا النزاع أمام محكمة مدنية أخرى وأخذت هذه المحكمة بحكم المحكمة المدنية الأولى في حق من صدر بينهم الحكم ، فإنها لا تكون اخطأت في تطبيق القانون ، ولو كان قد صدر بين الحكمين حكم جنائي مخالف للحكم الأول ( نقض مدني في 6 مارس سنة 1947 مجموعة عمر 5 رقم 166 ص 376 : كان الحكم الأول قد صدر نهائياً بين المشتري والبائع بصورية البيع بناء على ورقة ضد ادعى البائع صدورها من المشتري ، فادعى هذا تزويرها وقضى برفض دعواه . ثم لما قضت المحكمة الجنائية بإدانة المتهم بتزوير ورقة الضد ، طعن المشتري في حكم المحكمة المدنية بالتماس إعادة النظر بناء على صدور الحكم الجنائي ، ولكن المحكمة المدنية قضت برفض الالتماس . وبعد الحكم الجنائي – ولكن قبل الحكم في الالتماس – باع المشتري العقار إلى آخر ، ورفع المشتري الثاني بعد الحكم في الالتماس دعواه على البائع بملكية المبيع ، فقضى في هذه الدعوى المدنية الثانية برفضها بناء على الحكم الأول الصادر بصحة ورقة الضد ) .
وقضت محكمة النقض أيضاً بان محل التمسك بان المحكمة المدنية تكون مقيدة بما قضى به الحكم الجنائي هو أن يكون هذا الحكم صادراً قبل الفصل في الدعوى المدنية لا يعد ذلك . فإذا كان الحكم في الدعوى المدنية قد صدر قبل الحكم الجنائي فلا محل لذلك ، إذ لا يعقل أن ينعى حكم مخالفته حكما لم يكن قائماً وقت صدوره ( نقض مدني في 11 يناير سنة 1945 مجموعة عمر 4 رقم 183 ص 525 ) .
( [1222] ) ويجوز للخصم الذي يتمسك بالحكم الجنائي ليقيد به القاضي المدني أن يقدم صورة منه ، بل يجوز للقاضي المدني من تلقاء نفسه أن يأمر بضم هذه الصورة حتى يعرف مدى الحكم الذي يجب عليه أن يتقيد به ، لأن هذا يعتبر من النظام العام ، للقاضي أن يراعيه ولو لم تصليه الخصوم .
( [1223] ) فإذا صدر حكم واحد في الدعويين الجنائية والمدنية ، واستؤنف الحكم في شقه المدني دون الجنائي ، لم يجز أن يقال إن الحكم الجنائي قد أصبح نهائياً وقد سبق الحكم المدني ، فيجب أن يتقيد هذا بذاك . ذلك أن الاستئناف يعيد القضية في جميع نواحيها إلى ما كانت عليه في الحدود التي استؤنف فيها الحكم ، ويمنع الاستئناف من أن يصبح الحكم نهائياً ، حتى في الشق الذي لم يستأنف ، من حيث المصالح التي ظلت عن طريق الاستئناف باقية في الخصومة ( مازو 2 فقرة 1759 ) . فلمحكمة الاستئناف إذن أن تلغى الحكم بالتعويض لمصلحة المتهم الذي حكم القاضي الابتدائي بإدانته وأصبحت الإدانة نهائية بعدم استئنافها ، كما لها أن تحكم بالتعويض على المدعى عليه الذي حكم القاضي الابتدائي ببراءته وأصبحت البراءة نهائية بعدم استئنافها .
( [1224] ) أنظر في أن الحكم الجنائي بالبراءة لا يمنع من المسئولية المدنية : نقض جنائي في 24 يونيه سنة 1908 المجموعة الرسمية 10 رقم 34 ص 81 – وفي 5 ديسمبر سنة 1914 الشرائع 2 رقم 109 ص 111 – وفي 25 ديسمبر سنة 1930 المحاماة 11 رقم 422 ص 819 – وفي 29 مارس سنة 1931 المحاماة 12 رقم 63 ص 109 – وفي 7 مايو سنة 1931 المحاماة 12 رقم 153 ص 285 .
( [1225] ) حتى لو صدر عفو عن الجريمة أو عن العقوبة ، فإن العفو إنما يزيل الأثر الجنائي دون الأثر المدني .
( [1226] ) لذلك لا يتقيد القاضي المدني بالحكم الجنائي الذي نفي الخطأ الجنائي وقضي بالبراءة ، إذ يجوز أن يكون هناك خطأ مدني دون أن يوجد خطأ جنائي ، وسيأتي ذكر ذلك .
( [1227] ) وكذلك إذا قضى الحكم الجنائي بالإدانة وقال إن المتهم ارتكب الخطأ المنسوب إليه وإنه مسئول ، فلا يستطيع القاضي المدني أن يقول إنه لم يرتكب الخطأ أو إنه ارتكبه ولكنه غير مسئول عنه .
هذا وتختلف الحالة التي نحن يصددها عن حالة ما إذا رفعت الدعويان الجنائية والمدنية معاً أمام المحكمة الجنائية ، وقضى بالبراءة في الدعوى الجنائية ويرفض طلب التعويض في الدعوى المدنية ، واستؤنف الحكم المدني دون الحكم الجنائي . فقد قدمنا ( أنظر آنفاً فقرة 633 في الهامش ) أنه لا يجوز أن يقال إن الحكم الجنائي قد أصبح نهائياً وقد سبق الحكم المدني فيجب أن يتقيد هذا بذاك . فالحكم المدني في هذه الحالة قد يقضي بالتعويض مع قيام حكم البراءة . وقد قضت محكمة النقض في هذا المعنى بأنه إذا رفع المدعى المدني دعواه مباشرة ضد المتهم لقذفه إياه علنا ، طالباً عقابه والحكم عليه بتعويض ، ثم قضت المحكمة ببراءة المتهم ورفض دعوى التعويض ، فاستأنف المدعى ولم تستأنف النيابة ، فأيد الحكم استئنافياً ، فطعن بطريق النقض ، فنقض الحكم ، ثم أعيدت المحاكمة ، فقضى على المتهم بالتعويض عملا بالمادتين 150 و 151 من القانون المدني ( القديم ) ، فلا يصح على المتهم أن ينعي على المحكمة أنها في حكمها قد تعرضت لإثبات واقعة القذف ولا أنها أقامت التعويض على تينك المادتين المذكورتين ، وذلك ( أولاً ) لأن المحكمة لها بل عليها أن تتعرض لإثبات تلك الواقعة ما دامت تفصل في طلب التعويض عن الضرر المدعى حصوله منها ، ولا يمكن أن يحول دون ذلك عدم إمكان الحكم لأي سبب من الأسباب بالعقوبة على المتهم ما دامت الدعويان لمدنية والجنائية كانتا مرفوعتين معاً أمام المحكمة الجنائية ، وما دام المدعى بالحق المدني قد استمر في السير في دعواه المدنية ، مما لا يصح معه القول بأن الحكم في الدعوى الجنائية بسبب عدم الطعن فيه من النيابة العمومية قد حاز قوة الشيء المحكوم فيه بالنسبة إليه ، ( وثانيا ) لأن أساس التعويض عن كل فعل ضار هو المادتان 150 و 151 مدني ( قديم ) ولو كان الفعل الضار يكون جريمة بمقتضى قانون العقوبات ( نقض جنائي في 16 ابريل سنة 1945 المحاماة 27 رقم 213 ص 516 ) .
( [1228] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا اتهم شخص بأنه أجرى إنشاء سور خشبي خارج عن خط التنظيم وداخل في الملك العام ، وقضت المحكمة ببراءتها قائلة إنه لم يثبت لها من محضر المخالفة ولا من جواب البلدية أن الأرض موضوع المخالفة قد صار نزع ملكيتها فعلا حتى يمكن أن تعتبر من المنافع العامة وأن المتهم قدم صورة عقد ملكية مسجل الخ ، وأنه إذا كان الركن الأساسي للجريمة في تلك المخالفة هو كون السور خارجاً عن خط التنظيم وداخلا في الملك العام ، ولم يثبت للمحكمة أن الأرض التي أقيم فيها السور من المنافع العامة فيكون ركن الجريمة هذا غير متحقق ويتعين إذن تبرئة المتهم من المخالفة دون حاجة إلى الفصل في مسألة ملكية شخص معين بالذات لتلك الأرض – إذا كان ذلك كذلك فإن كل ما يفيده حكم البراءة هذا ويصح الاحتجاج به في صدده إنما هو أن الأرض موضوع النزاع لم تكن في يوم المخالفة من المنافع العامة . وإذن فإذا ما طرح النزاع في شأن ملكية هذه الأرض بعد ذلك على المحكمة المدنية ، وحكمت بالملكية لغير المخالف المحكوم ببراءته ، فإنه لا يمكن القول بأن حكمها هذا يكون مناقضاً لحكم البراءة في المخالفة ( نقض مدني في 28 ديسمبر سنة 1944 مجموعة عمر 4 رقم 18 ص 513 ) .
( [1229] ) أنظر آنفاً فقرة 622 .
( [1230] ) وقد قضت محكمة النقض بأن تكييف وقائع التقصير الثابتة بأنها خطأ يخضع لرقابة محكمة النقض ( نقض مدني في 16 ديسمبر سنة 1937 مجموعة عمر 2 رقم 77 ص 214 ) . وقضت أيضاً ابأن تحقيق حصول الفعل أو الترك أو عدم حصوله هو من الأمور الواقعية التي تدخل في سلطة قاضي الموضوع ولا معقب لتقديره . أما ارتباط الفعل أو الترك بالضرر الناشيء ارتباط المسبب بالسبب والمعلول بالعلة ، وكذلك وصف ذلك الفعل أو الترك بأنه خطأ أو غير خطأ ، فهما كلاهما من المسائل القانونية التي يخضع في حلها قاضي الموضوع لرقابة محكمة النقض . فإذا قضى حكم على وزارة الداخلية بالتعويض لورثة شخص سقطت عليه مئذنة جامع فقتله ، مستندا إلى وقوع خطأ من جانب أحد الأقسام في تنفيذ إشارة مهندس التنظيم المبلغة لهذا القسم لمنع المرور أمام ذلك الجامع خشية من سقوط مئنذنته لوجود خلل بها ، إذ القسم لم يغلق الحوانيت المقابلة للمسجد ولم يمنع المرور من الشارع منعاً كلياً ، وكانت إشارة المهندس غير مطلوب فهيا إغلاق الحوانيت ولا منصوص فيها على منع المرور من الشارع منعاً كلياً ، وثبت أن البوليس قام بتنفيذ ما طلب منه في حدود نص الإشارة وفي حدود المعقول ، فالقضاء بالتعويض استناداً إلى وقوع خطأ من البوليس مخالف للقانون ( نقض مدني في 11 يناير سنة 1934 مجموعة عمر 1 رقم 158 ص 300 – ونلاحظ أن إذا كان لمحكمة النقض أن تراقب محكمة الموضوع في تكييفها الأعمال الصادرة من المدعى عليه بأنها خطأ ، فهي في ذلك تلتزم تطبيق معيار الخطأ . وإذا صح أن البوليس لم يخطئ إذ قام بتنفيذ ما طلب منه من حدود نص الإشارة وفي حدود المعقول ، أي أنه لم ينحرف عن السلوك المألوف للشخص العادي في الظروف الخرجية التي وجد فيها ، فمهندس التنظيم قد أخطأ بعدم النص في الإشارة على اتخاذ جميع التدابير اللازمة للوقاية من خطر سقوط المئذنة ، فانحرف بذلك عن السلوك المألوف للشخص العادي ، وتكون الحكومة على كل حال مسئولة عن خطأ مهندس التنظيم ) .
( [1231] ) ويجب أن تستخلص المحكمة الخطأ من وقائع ثابتة منتجة تذكرها في الحكم ، وإلا كان حكمها باطلا لقصور أسبابه . وقد قضت محكمة النقض بأنه يجب على المحكمة عند القضاء بتعويض يدعى ترتبه على إجراءات كيدية ضارة أن تثبت في حكمها أركان الخطأ المستوجب للتعويض تطبيقاً للمادة 151 من القانون المدني ( القديم ) ، وإلا كان حكمها باطلا لقصور أسبابه ( نقض مدني في 21 مايو سنة 1936 مجموعة عمر 1 رقم 366 ص 11119 ) . وقضت أيضاً بأنه متى اثبت الحكم الأفعال التي صدرت من شخص ما ( فرداً كان أو شخصاً معنوياً ) واعتبرها متصلة بعضها ببعض اتصال الأسباب بالنتائج ، ثم وصف هذه الأفعال بأنها أفعال خاطئة قد ألحقت ضرراً بشخص ما ، واعتبر من صدرت منه تلك الأفعال مسئولا عن الضرر الذي نشأ عنها ، فلا مخالفة في ذلك للقانون . وإذن فإذا حمل الحكم مصلحة الآثار مسئولية خطأها في سحبها من متجر بالآثار رخصته ، وما ترتب على هذا الشخص من اعتباره متجراً بغير رخصة ، وتحرير محضر مخالفة له ، ومهاجمة منزله ، وإزالة اللوحة المعلقة على محل تجارته الخ . وقضى له بناء على ذلك بتعويض عما لحقه من الأضرار ، فقضاؤه بذلك صحيح قانوناً ( نقض مدني في 9 ابريل سنة 1936 مجموعة عمر 1 رقم 345 ص 1091 وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم ) و وقضت كذلك بأنه إذا انتحل الحكم للحادث الضار سبباً تقصيرياً لا يمكن استخلاصه عقلا من عناصر التحقيق التي كانت أمام المحكمة ، فيتعين نقضه ( نقض مدني في 7 مارس سنة 1935 مجموعة عمر 1 رقم 235 ص 630 : وقد جاء في أسباب الحكم ما يأتي : وحيث إن قول الحكم المطعون فيه إن الفعل الضار في هذه الدعوى هو انفلات سير البريمة في الة بخارية عن موضعه بحركة عنيفة فجائية ، وأن هذا الانفلات العنيف الفجائي لا يكون إلا إذا كانت الآلة مختلفة وكان السبب في اختلالها تقصير صاحبها في صيانتها هو قول لا مصدر له في محضر ضبط الواقعة ، إذ لم يرد به في أي موضع منه أن السير انفلت أصلاً بعنف أو بغير عنف ، وأن علة انفلاته هي الخلل ، بل الذي جاء به لا يمكن أن يستخلص العقل منه ما استخلصه الحكم المطعون فيه . . . وأقصى ما يصح استنتاجه عقلا . . . أن سير الغربال لم يكن في موضعه الطبيعي ، وأن المتوفى حاول رده إلى موضعه ، فصعد السلم بغير أن يوقف الآلات ، فأصيب . . . كل ذلك جاء دالا على إلا انفلات لسير البريمة ولا محل للظن بأن هناك انفلاتاً ، ولا أن علة هذا الانفلات هي الخلل في الآلات – ونرى محكمة النقض في هذا الحكم تتشدد كثيراً في استخلاص الخطأ من الوقائع الثابتة ) .
( [1232] ) ولكن يجب أن يذكر الحكم ما هو الضرر الذي أصاب المدعى ، وإلا اعتبر النسيب قاصراً . وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا قضى الحكم بتعويض على شخص لعدم تقديمه عقد إجازة مودعا لديه إلى شريكه في الاجازة ، دون أن يبين وجه الضرر الذي لحق بالمحكوم له بالتعويض ، مع نفي المحكوم عليه لحوق أي ضرر به ، اعتبر هذا الحكم غير مسبب فيما أوجبه من التعويض وتعين نقضه ( نقض مدني في 22 ديسمبر سنة 1932 مجموعة عمر 1 رقم 85 ص 158 ) .
( [1233] ) وقد قضت محكمة النقض بأن تقدير التعويض عن الضرر أمر متروك لرأي محكمة الموضوع ، فهي إذ تقدر تعويض الضرر المترتب على دفاع كيدي ، وتبين كيفية تقديرها له ، لا تخضع لرقابة محكمة النقض ، ما دامت قد اعتمدت في ذلك على أساس معقول ( نقض مدني في 26 نوفمبر سنة 1936 مجموعة عمر 2 رقم 12 ص 28 ) . وقضت بأن إثبات حصول الضرر أو نفيه من الأمور الواقعية التي تقدرها محكمة الموضوع ، فإذا رأت محكمة الاستئناف أن ما وقع من المتعهد بتوريد الأغذية لأحد الملاجئ هو " أمر خطير فيه تعريض لصحة اللاجئات فضلا عما فيه من إفساد للمستخدمين الموكول إليهم حمايتهن والمحافظة على سلامتهن " ، ثم رأت أن التعويض المشروط في عقد التوريد عن هذا الفعل متناسب وغير جائر ، فحكمت بإلزام المتعهد به ، فلا معقب على حكمها لمحكمة النقض ( نقض مدني في 7 مارس سنة 1940 مجموعة عمر 3 رقم 41 ص 123 ) . وقضت أيضاً بأنه متى كانت المحكمة قد قدرت التعويض على أساس ما أثبتته على المحكوم عليه من الخطأ في عدوله عن الصفقة التي كان المزاد فيها قد رسا عليه ، وما أثبتته على المحكوم له ذاته من تباطؤ وتراخ في إبلاغ رسو المزاد في الوقت المناسب إلى الراسي عليه ، وما كانت عليه الأسعار من تقلبات في الفترة ما بين المزاد الأول والمزاد الثاني الذي كان طلب التعويض على أساس نقص الثمن فيه ، فإنها تكون قد بينت أساس التعويض المقضي به ، وهذا يكفي لسلامة الحكم . أما قيمة التعويض فمتروكة لسلطة المحكمة تقدرها على وفق ما تراه ( نقض مدني في 4 يونية سنة 1942 مجموعة عمر 3 رقم 170 ص 473 ) . وقضت كذلك بأن التعويض يقدر بقدر الضرر ، ولئن كان هذا التقدير من المسائل الواقعية التي يستغل بها قاضي الموضوع ، فإن تعيين العناصر المكونة قانوناً للضرر والتي يجب أن تدخل في حساب التعويض من المسائل القانونية التي تهيمن عليها محكمة النقض ، لأن هذا التعيين من قبيل التكييف القانوني للواقع ( نقض مدني في 17 ابريل سنة 1947 مجموعة عمر 5 رقم 185 ص 398 ) .
( [1234] ) وقد قضت محكمة النقض بأن القول بقيام رابطة السببية بين الخطأ والضرر هو من المسائل المتعلقة بالواقع . فلا يخضع قاضي الموضوع في فهمه له لرقابة محكمة النقض ، إلا أن يشوب تسبيبه عيب ( نقض مدني في 11 مارس سنة 1948 مجموعة عمر 5 رقم 287 ص 565 ) .
( [1235] ) أنظر في هذا المعنى . استئناف مختلط في 10 مارس سنة 1909 م 21 ص 246 – وفي 24 مايو سنة 1945 م 57 ص 158 . وتقضي محكمة النقض الفرنسية بترتيب الحق في التعويض من وقت الحكم ( أنظر في هذا القضاء وفي نقده مازو 3 فقرة 2253 – فقرة 2260 – وانظر في هذا المعنى أيضاً من أن الحق في التعويض لا ينشأ إلا من وقت الحكم النهائي محكمة الاستئناف الوطنية في 17 ابريل سنة 1913 المجموعة الرسمية 14 رقم 107 ص 206 ) .
هذا وقد ينشأ الحق في التعويض قبل وقوع الضرر ، وذلك حالة ما إذا كان هذا الضرر مستقبلا ولكنه محقق . فقد رأينا فيما قدمناه أن الحق في التعويض ينشأ منذ وقوع الخطأ عن ضرر مستقبل محقق الوقوع .
( [1236] ) استئناف مختلط في 24 يونية سنة 1930 م 42 ص 584 – وفي 7 مارس سنة 1935 م 47 ص 191 – وفي 23 ديسمبر سنة 1936 م 49 ص 42 – قارن استئناف مختلط في 25 ابريل سنة 1935 م 47 ص 273 .
هذا ويبقى بعد ذلك التعويض عن التأخير منذ صدور الحكم ، ويحق للمضرور أن يطالب بدعوى جديدة ، فيقضي له بالسعر القانوني للفوائد من وقت رفع الدعوى الجديدة وفقاً للقواعد العامة . وقد يطلب المضرور في الدعوى الأصلية الحكم بفوائد مع مبلغ التعويض الأصلي ، فيقضي له بالسعر القانوني للفوائد من وقت صدور الحكيم في الدعوى الأصلية ، ومن ثم لا يحتاج إلى رفع دعوى جديدة بفوائد التأخير .
( [1237] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 239 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 – يعين القاضي طريقة التعويض تبعاً للظروف ، ويصح أن يكون التعويض ايراداً مرتباً ، ويجوز في هذه الحالة إلزام المدين بأن يقدم تأميناً . 2 – ويقدر التعويض بالنقد ، على أنه يجوز للقاضي ، تبعاً للظروف ، وبناء على طلب المصاب ، أن يأمر بإعادة الحالة إلى ما كانت عليه ، أو أن يحكم بأداء أمر معين وذلك على سبيل التعويض " . وفي لجنة المراجعة عدلت الفقرة الأولى في الجزء الأخير منها على الوجه الآتي : " ويصح أن يكون التعويض مقسطاً كما يصح أن يكون ايراداً مرتباً . ويجوز في هاتين الحالتين إلزام المدين بأن يقدم تأميناً " ، واستبدلت كلمة " المضرور " بكلمة " المصاب " في الفقرة الثانية . وأصبح رقم المادة 175 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ أضيفت إلى الفقرة الثانية عبارة " متصل بالعمل غير المشروع " للحد من إطلاق العبارة الأخيرة ما دام التطبيق العملي لهذا النص هو نشر الحكم أو الاعتذار من وقاعة سب مثلا ، فيكون نطاق الحكم واضحاً غير مجهل . وأصبح رقم المادة 171 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 395 – ص 398 ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : " 1 - ليست المسئولية التقصيرية بوجه عام سوى جزاء للخروج على التزام يفرضه القانون : هو التزام عدم الأضرار بالغير دون سبب مشروع . وإذا كان التنفيذ العيني هو الأصل في المسئولية التعاقدية ، فعلى النقيض من ذلك لا يكون لهذا الضرب من التنفيذ – وهو يقتضي إعادة الحال إلى ما كانت عليه كهدم حائط بني بغير حق أو بالتعسف في استعمال حق – إلا منزلة الاستثناء في نطاق المسئولية التقصيرية . 2 – فالتنفيذ بمقابل أي من طريق التعويض المالي هو القاعدة العامة في المسئولية التقصيرية . والأصل في التعويض أن يكون مبلغاً من المال . ومع ذلك يجوز أن تختلف صوره ، فيكون مثلا إيراداً مرتباً يمنح لعامل تقعده حادثة من حوادث العمل عن القيام بأوده ، ويجوز للقاضي في هذه الحالة أن يلزم المدين بأن يقدم تأميناً أو أن يودع مبلغاً كافياً لضمان الوفاء بالايراد المحكوم به ، وينبغي التمييز بين التعويض من طريق ترتيب الايراد وبين تقدير تعويض موقوت مع احتمال زيادته فيما بعد بتقدير تعويض إضافي ( أنظر المادة 237 من المشروع ) . هذا ويسوغ للقاضي فضلا عما تقدم أن يحكم في أحوال استثنائية بأداء أمر معين على سبيل التعويض ، فيأمر مثلا بنشر الحكم بطريق اللصق على نفقة المحكوم عليه ( أو يكتفي بأن ينوء في الحكم بأن ما وقع من المحكوم عليه يعتبر افتراء أو سبا : المادة 1409 من التقنين الهولندي ) لتعويض المقذوف في حقه عن الضرر الأدبي الذي أصابه ، وغنى عن البيان أن مثل هذا التعويض لا هو بالعيني ولا هو بالمالي ، ولكنه قد يكون انسب ما تقتضيه الظروف في بعض الصور " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 396 – ص 397 ) .
( [1238] ) فمن التزم بعقد أن ينقل حقاً عينياً أو أن يقوم بعمل أو أن يمتنع عن عمل يتيسر في كثير من الأحوال إجباره على تنفيذ التزامه . فالبائع ، وقد التزم بنقل ملكية المبيع ، يجبر على تنفيذ التزامه ، وتنتقل الملكية إلى المشتري بتسجيل عقد البيع ، فإن امتنع البائع عن التصديق على إمضائه أمكن اصدار حكم ضده بإثبات البيع ، وبتسجيل هذا الحكم تنتقل الملكية إلى المشتري . والمقاول الذي التزم ببناء منزل ، إذا امتنع عن تنفيذ التزامه ، أمكن أن يجبر على ذلك بان يبني الدائن المنزل على حسابه . ومن التزم بعقد إلا يفتح نافذة على جاره ، ففتحها ، أمكن إجباره على سدها ولو بمصروفات على حسابه . أما إذا كان العمل الذي التزم به المدين يقتضي تدخله الشخصي ، فيمكن الوصول إلى التنفيذ العين عن طريق التهديد المالي المنصوص عليه في المادتين 213 و 214 من القانون المدني الجديد .
( [1239] ) استئناف مختلط في 14 يونية سنة 1905 م 17 ص 334 – وفي 30 ديمسبر سنة 1908 م 21 ص 93 . وفي 5 يونية سنة 1912 م 24 ص 388 . وقد يعتبر التعويض المقسط إلى أن يبرأ المضرور من إصابته إيراداً مرضاً ، ولكن لا إلى مدى الحياة ، بل إلى حين البرء من الإصابة .
( [1240] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 237 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " يقرر القاضي مدى التعويض عن الضرر الذي لحق المصاب طبقاً لأحكام المادتين 299 و 300 ، مراعياً في ذلك الظروف وجسامة الخطأ . فإن لم يتيسر له وقت الحكم أن يحدد مدى التعويض تحديداً كافياً ، فله أن يحتفظ للمصاب بالحق في أن يطالب خلال مدة معقولة بإعادة النظر في الحكم " . وفي لجنة المراجعة أدخلت تعديلات على النص تجعله أكثر تحقيقياً للمعنى المقصود ، فأصبح النص في المشروع النهائي ( المادة 174 ) على الوجه الآتي : " يقدر القاضي مدى التعويض عن الضرر الذي لحق المضرور طبقاً لأحكام المادتين 299 و 300 ، مراعياً في ذلك الظروف وجسامة الخطأ . فإن لم يتيسر له وقت الحكم أن يعين مدى التعويض تعييناً نهائياً ، فله أن يحتفظ للمضرور بالحق في أن يطالب خلال مدة معينة بإعادة النظر في التقدير " . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ استبدلت عبارة " مراعياً في ذلك الظروف الملابسة " بعبارة " مراعياً في ذلك الظروف وجسامة الخطأ " لأن جسامة الخطأ تدخل في عموم لفظ الظروف . ولما اعترض على النص بأن في تطبيقه خروجاً على قاعدة حجية الأحكام إذ أنه يحتفظ للمضرور بالحق في أن يطلب خلال مدة معينة إعادة النظر في التقدير ، أجيب على هذا الاعتراض بأنه إذا كان الحكم نهائياً انتهى الأمر ، وإنما إذا رأى القاضي أن الموقف غير جلي ، واحتفظ في حكمه للمضرور بالرجوع بتعويض تكميلي خلال مدة يعينها ، فلا يتنافى ذلك مع قاعدة حجية الأحكام . وأصبح رقم المادة 170 ، ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 390 – ص 395 ) .
ويقابل هذا النص في القانون الجديد نص المادتين 121 / 179 على الوجه الآتي : " التضمينات عبارة عن مقدار ما أصاب الدائن من الخسارة وما ضاع عليه من الكسب ، بشرط أن يكون ذلك ناشئاً مباشرة عن عدم الوفاء " .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد نص القانون الجديد ما يأتي : " يحجد النص مدى الضرر الذي ينجم عن الفعل الضار . ويقدر التعويض ، وفقاص للقاعدة العامة في المادة 299 من المشروع ( لا تقرأ المادة 300 ) . ويكفي أن يشار في هذا المقام إلى أن التعويض يتناول ما أصاب الدائن من خسارة وما فاته من كسب ، متى كان ذلك نتيجة مألوفة للفعل الضار . وينبغي أن يعتد في هذا الشأن بجسامة الخطأ وكل ظرف آخر من ظروف التشديد أو التخفيف . والواقع أن جسامة الخطأ لا يمكن الاغضاء عنها في منطق المذهب الشخصي أو الذاتي . ولذلك تجري التقنينات الحديثة على إقرار هذا المبدأ وتطبقه في أحوال شتى . فمن ذلك مثلا تفريق التقنين التونسي والمراكشي بين خطأ المدين وتدليسه فيما يتعلق بتقدير التعويض . وقد استظهرت المادتان 107 / 98 من هذين التقنين حكم هذه التفرقة ، فنصتا على أنه يتعين على المحكمة أن تغاير في تقدير التعويض تبعاً لما إذا كان أساس المسئولية خطأ المدين أو تدليسه . ويفرق التقنين البولوني كذلك بين التدليس والخطأ الجسيم من ناحية وبين الخطأ اليسير من ناحية أخرى ، فيقرر في المادة 160 أنه " يعتد في تقدير الضرر المادي بقيمة الشيء وفقاً للسعر الجاري " فضلا عما له من قيمة خاصة لدى المضرور عند توافر سوء النية أو الإهمال الفاحش " . ويقضي تقنين الالتزامات السويسري بانقاص التعويض عدالة إذا كان الخطأ يسيراً وكانت موارد المدين محدودة ، فينص في الفقرة الثانية من المادة 44 على أنه ( إذا لم يكن الضرر ناشئاً من جراء فعل عمد أو إهمال جسيم أو رعونة بالغة ، فللقاضي أن ينقص التعويض عدالة متى كان استيفاؤها يعرض المدين لضيق الحال ) . وقد لا يتيسر للقاضي أحياناً أن يحدد وقت الحكم مدى التعويض تحديداً كافياً ، كما هو الشأن مثلا في جرح لا تستبين عقباه إلا بعد انقضاء فترة من الزمن ، فللقاضي في هذه الحالة أن يقدر تعويضاً موقوتاً بالتثبيت من قدر الضرر المعلوم وقت الحكم ، على أن يعيد النظر في قضائه خلال فترة معقولة يتولى تحديدها . إذا انقضى الأجل المحدد ، أعاد النظر فيما حكم به ، وقضى للمضرور بتعويض إضافي إذا اقتضى الحال ذلك . وعلى هذا سار القضاء المصري " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 392 – ص 393 ) .
( [1241] ) والشخص الذي فقد إحدى عينيه ، ثم فقد العين الأخرى في حادث ، يكون الضرر الذي يصيبه بفقد العين الأخرى وصيرورته مكفوف البصر أشد بكثير من الضرر الذي يصيب من كان سليم العيني فيفقد عنيا واحدة . ومن كان عنده استعداد لمرض السل أو لغيره من الأمراض ، وأصيب في حادث ، قد تكون هذه الإصابة سبباً لأصابته بالمرض الذي هو مستعد له ، فلا يقال إن هذا الضرر لا يسال عنه المدعى عليه لأن شخصاً سليماً في مكان المضرور كان لا يصاب بهذا المرض ، إذ العبرة بشخص المضرور لا بشخص مجرد ( أنظر في هذا المعنى استئناف مختلط في 29 مارس سنة 1944 م 56 ص 97 ) .
ويقرب من ذلك أن يكون الضرر أصاب الشيء لا الشخص ، فتكون البلدية مسئولة عما أحدثته أعمال الحفر في مبنى قائم حتى لو كان هذا المبنى قديما وغير متين ، ولو كان جديداً أو متيناً لما تصدع ( استئناف مختلط في 17 يونية سنة 1948 م 60 ص 149 ) .
( [1242] ) ويدخل في الاعتبار حالة المضرور المهنية . فالحريق الذي يصيب بناء اتخذه تاجر يمارس مهنته فيه يحدث ضرراً أشد مما يصيب شخصاً اتخذ هذا البناء مسكناً له . ويختلف الضرر باختلاف المهنة ، فمرسم المهندس غير عيادة الطبيب وغير مكتب المحامي .
( [1243] ) استئناف مختلط في 30 مارس سنة 1904 م 16 ص 180 .
( [1244] ) قارن : استئناف مختلط في 23 يونية سنة 1927 م 39 ص 566 – مازو 3 فقرة 2403 – فقرة 2404 .
( [1245] ) ويستثنى من ذلك الضرر إذا وقع من شخص غير مميز ، ولم يكن هناك من هو مسئول عنه أو تعذر الحصول على تعويض من المسئول ، فيجوز إلزام غير المميز بتعويض عادل ( م 164 فقرة 2 ) ، وقد رأينا أن الحالة المالية لكل من المسئول والمضرور ومقدار يسار كل منهما يكون محل اعتبار في تقدير التعويض .
( [1246] ) ومع ذلك أنظر : استئناف مختلط في 24 مايو سنة 1905 م 17 ص 297 – وفي 16 ديسمبر 1908 م 21 ص 68 .
( [1247] ) ولا يقال إنه يكون مسئولا عما أفاد بدعو الإثراء بلا سبب ، فحكم هذه الدعوى أن يدفع المدين أقل القيمتين ، وقد دفع اللص أقل القيمتين بدفعه قيمة المسروق .
وعلى العكس من ذلك يدخل في الحساب ما أفاد به المضرور من جراء الضرر الذي وقع عليه . وقد قضت محكمة النقض بأنه لا خطأ في أن تراعى المحكمة في تقدير التعويض المستحق للموظف المفصول بغير حق ما قد يفيده من التحرر من أعباء الوظيفة ( نقض مدني في 3 فبراير سنة 1949 مجموعة عمر 5 رقم 378 ص 709 ) . وقضت أيضاً بأنه إذا كان الثابت في الحكم المطعون فيه أن الضرر الذي يشكو منه طالب التعويض ويدعى لحوقه به من جراء تنفيذ مشروع للري كان موقتا ثم زال سببه ، وأن المدعى سيفيد من المشروع المذكور في المستقبل فائدة عظمى تعوض عليه الضرر حتما في زمن وجيز ، ثم تبقى له على ممر الزمن ، وبناء على ما استخلصته المحكمة من ذلك قضت بأنه ليس هناك محل للتعويض ، فإنها لا تكون قد أخطأت ( نقض مدني في 4 مايو سنة 1944 مجموعة عمر 4 رقم 130 ص 356 ) .
( [1248] ) وقد كان القضاء يصرح بذلك في أول الأمر ( استئناف مختلط في أول مايو سنة 1902 م 14 ص 278 – وفي 9 ابريل سنة 1903 م 15 ص 238 ) ، ثم سكت عن التصريح . بل هو الآن يصرح في بعض الأحيان بان جسامة الخطأ لا دخل لها في تقدير التعويض . ولكن الواقع غير ذلك ، فالقاضي لا يستطيع أن يتحامى إدخال جسامة الخطأ عاملا في تقدير التعويض ، ويظهر ذلك بنوع خاص في تقدير التعويض عن الضرر الأدبي حيث ينفسح مجال التقدير . ويظهر ذلك أيضاً عند تقسيم التعويض على مسئولين متعددين كما لو اشترك عدة أشخاص في ارتكاب الخطأ ، وكما لو كان المضرور أو الغير قد ارتكب خطأ يخفف من مسئولية المدعى عليه ، ففي هذه الأحوال يقسم القضاء التعويض عليهم جميعاً ويراعى في التقسيم جسامة الخطأ الذي صدر من كل منهم ، وقد تقدم بيان ذلك .
وقد يقال إن القانون المدني الجديد لمي جعل جسامة الخطأ عاملا في تقدير التعويض ، فقد كان المشروع التمهيدي ( م 237 ) ينص صراحة على تقدير التعويض بحسب جسامة الخطأ ، ولكن هذا النص قد حذف في جلنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، مما يخرج جسامة الخطأ على أن تكون عاملا في تقدير التعويض . على أن ما نقلناه من مناقشات لجنة القانون المدني بشان المادة 170 ( أنظر آنفاً فقرة 646 في هالهامش ) صريح في أن اللجنة عندما حذفت عبارة " جسامة الخطأ " واستبدلت بها عبارة " الظروف الملابسة " إنما راعت أن جسامة الخطأ تدخل في عموم هذه الظروف ، فلم ترد أن تستبعد جسامة الخطأ من أن تكون عاملا في تقدير التعويض ( أنظر مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 393 – ص 394 ) .
( [1249] ) يجب التمييز بين الضرر المتغير والضرر الذي لا يتيسر تعيين مداه تعييناً نهائياً وقت النطق بالحكم . ففي الحالة الثانية يجوز للقاضي أن يحتفظ للمضرور بالحق في أن يطالب في خلال مدة معينة بإعادة النظر في التقدير ، وفقاً لنص المادة 170 ، وقد سبق بيان ذلك عند الكلام في ركن الضرر . أما في الحالة الأولى فإن الضرر يكون متغيراً منذ أن وقع إلى يوم النطق بالحكم . ولا شيء يمنع من أن تجتمع الحالتان : يكون الضرر متغيراً منذ وقوعه ، وبقى يوم النطق بالحكم لا يتيسر تعيين مداه تعييناً نهائياً . وعندئذ نطبق أحكام كل من الحالتين ، ويختار القاضي الوقت الذي يقدر فيه الضرر وفقاً لما سنبينه ، ثم يحتفظ في حكمه بحق المضرور في أن يطالب في خلال مدة معينة بإعادة النظر في التقدير وفقاً لما سبق أن بيناه .
( [1250] ) وقد يشتد الضرر لسبب لا يرجع إلى خطأ المسئول ، كما إذا فقد المضرور إحدى عينيه في حادث ، ثم فقد الأخرى في حادث آخر . فالمسئول عن الحادث الأول يرى الضرر الذي أحدثه قد اشتد بوقوع الحادث الثاني ، فقد كان هذا الضرر في أول أمره هو فقد المضرور عينا واحدة مع بقاء الأخرى سليمة ، ثم تطور الضرر في الشدة فأصبح هو فقد هذه العين ذاتها مع زوال الأخرى . فهل يكون في هذه الحالة مسئولا عن اشتداد الضرر ؟ الظاهر أنه غير مسئول ، لأن اشتداد الضرر لا يرجع إلى خطئه هو ، بل يرجع إلى خطأ المسئول عن الحادث الثاني . وهذا المسئول هو الذي عوض عن زيادة الضرر الناشئ عن فقد المضرور لعينه الثانية بعد أن فقد العين الأولى . وقد سبق بيان ذلك .
( [1251] ) وإذا خف الضرر قبل صدور الحكم فإن المسئول يستفيد من ذلك ، حتى لو كان التحسن لا يرجع إلى تطور الإصابة في ذاته بل إلى سبب أجنبي ، كما إذا كان المضرور في حادث أصيب في حادث آخر فمات ، فإن المسئول عن الحادث الأول يستفيد من موت المضرور إذ هو غير مسئول عنه ، وقد وضع الموت حداً للضرر الذي ترتب على الحادث الأول ، فاستفاد هو من ذلك .
( [1252] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه كلما كان الضرر متغيراً تعين على القاضي النظر فيه لا كما كان عندما وقع ، بل كما صار إليه عند الحكم ، مراعياً التغير في الضرر ذاته من زيادة راجع أصلها إلى خطأ المسئول أو نقص كائناً ما كان سببه ، ومراعياً كذلك التغير في قيمة الضرر بارتفاع ثمن النقد أو انخفاضه وبزيادة أسعار المواد اللازمة لإصلاح الضرر أو نقصها . ذلك أن الزيادة في ذات الضرر التي يرجع أصلها إلى الخطأ والنقص فيه أياً كان سببه غير منقطعي الصلة به . أما التغير في قيمة الضرر فليس تغيراً في الضرر ذاته . وإذا كان المسئول ملزماً يجبر الضرر كاملا ، فإن التعويض لا يكون كافياً لجبره إذا لم يراع في تقيدره قيمة الضرر عند الحكم . ومن ثم كان لا وجه للقول بأن تغير القيمة لا يمت إلى الخطأ بصلة ، كما لا وجه للقول بان المضرور ملزم بالعمل على إصلاح الضرر فإذا هو تهاون فعليه تبعة تهاونه ، فإن التزام جبر الضرر واقع على المسئول وحده ، ولا على المضرور أن ينتظر حتى يوفى المسئول التزامه ( نقض مدني في 17 ابريل سنة 1947 مجموعة عمر 5 رقم 185 ص 398 : منزل ظهر بمبانيه خلل راجع إلى تسرب المياه من أنابيب تالفة لمصلحة التنظيم ، وتقاضى صاحب المنزل تعويضاً كاملا عن إصلاح الخلل بحسب تكاليفه وقت الحكم ، وكانت قد ارتفعت ، وتعويضاً كاملا عن خلو بالمنزل ، ولم ينظر إلى أن المالك كان عليه أن يبادر إلى إصلاح الخلل بنفسه دون أن ينتظر ) – ويؤخذ على الحكم أنه لم يدخل في الحساب تهاون المضرور في إصلاح الخلل ، وهذا ضرر غير مباشر ( أنظر تعليق الدكتور سليمان مرقص في مجلة القانون والاقتصاد سنة 19 ) .
( [1253] ) أنظر في الموضوع مازو 3 فقرة 2426 – فقرة 2428 .
( [1254] ) أنظر تاريخ هذا النص آنفاً فقرة 437 في الهامش .
( [1255] ) وقد قضت محكمة استئناف مصر الوطنية بما يأتي : " اجمع الفقهاء على انش رط الإعفاء من المسئولية عن الخطأ التعاقدي باطل إذا كان الخطأ بالغاً جسامة الغش أو الخطأ الفاحش ، أما إذا كان الخطأ يسيراً فبين الفقهاء خلاف ، فمنهم من يقول بصحة الشرط ، ومنهم من يقول ببطلانه . أما شرط الإعفاء عن الخطأ اللاتعاقدي فهو باطل إجماعاً وفي كل الأحوال " ( استئناف مصر الوطنية في 12 فبراير سنة 1928 المحاماة 9 رقم 25 / 2 ص 44 ) . أنظر أيضاً : استئناف وطني في 10 فبراير سنة 1910 المجموعة لارسمية 11 رقم 92 ص 245 – وفي 25 يولية سنة 1922 المحاماة 2 رقم 161 / 1 ص 480 – استئناف مختلط في 16 وفي 20 فبراير سنة 1902 م 14 ص 154 – وفي 17 يونية سنة 1 914 م 26 ص 428 – وفي 10 فبراير سنة 1915 م 27 ص 155 – وفي 29 ديسمبر سنة 1920 م 33 ص 97 – وفي 11 مايو سنة 1922 م 33 ص 322 – وفي 10 يناير سنة 1924 م 36 ص 140 – وفي 6 مايو سنة 1926 م 38 ص 396 – وفي 6 فبراير سنة 1930 م 42 ص 259 .
وانظر في القضاء الفرنسي مازو 3 فقرة 2570 .
( [1256] ) أنظر في الفقه الفرنسي وفي نقد القضاء الفرنسي مازو 3 فقرة 2571 – فقرة 2576 .
( [1257] ) تاريخ النص : ورد هذا النص كما هو في الفقرة الأولى من المادة 295 من المشروع التمهيدي . ولم يحدث فيه تعديل لا أمام لجنة المراجعة ( م 224 من المشروع النهائي ) ، ولا أمام مجلس النواب ، ولا أمام لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ( م 217 ) ، ولا أمام مجلس الشيوخ ( الأعمال التحضيرية 2 ص 552 – ص 554 ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : " ليست أحكام المادة 295 إلا تقنيناً للقواعد التي جرى القضاء المصري على اتباعها في هذا الشأن ، فقد يجعل عبء المسئولية أشد وقراً بالاتفاق على تحمل تبعة الحادث الفجائي ، وبهذا يكون المدين مؤمناً للدائن من وجه . وقد تخفف المسئولية على نقيض ذلك باشتراط الإعفاء من تبعة الخطأ التعاقدي إلا أن تكون قائمة على غش أو خطأ جسيم . فليس للأفراد حرية مطلقة في الاتفاق على تعديل أحكام المسئولية ، فكما أن الاتفاق على الإعفاء من الخطأ الجسيم والغش لا يجوز المسئولية التعاقدية ، كذلك يمتنع اشتراط الإعفاء من المسئولية التقصيرية أياً كانت درجة ويعتبر مثل هذا الاشتراط باطلا لمخالفته للنظام العام " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 553 ) .
( [1258] ) ويقرب ذلك من الاتفاق على الإعفاء من المسئولية العقدية ، إذ تنص الفقرة الثانية من المادة 217 على ما يأتي : " وكذلك يجوز الاتفاق على إعفاء المدين من أية مسئولية تترتب على عدم تنفيذ التزامه التعاقدي إلا ما ينشأ عن غشه أو عن خطأه الجسيم . ومع ذلك يجوز للمدين أن يشترط عدم مسئوليته عن الغش أو الخطأ الجسيم الذي يقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه " .
وكذلك في التأمين من الحريق نصت المادة 768 على أنه " 1 - يكو المؤمن مسئولا عن الأضرار الناشئة عن خطأ المؤمن له غير المتعمد . وكذلك يكون مسئولا عن الأضرار الناجمة من حادث مفاجئ أو قوة قاهرة . 2 - أما الخسائر والأضرار التى يحدثها المؤمن له عمدا أو غشا ، فلا يكون المؤمن مسئولا عنها ولو أتفق على غير ذلك " . ونرى من المقابلة بين هذا النص والنص المتقدم أن المسئولية عن الخطأ الجسيم لا يجوز الإعفاء منها ، ولكن يجوز التأمين عليها .
( [1259] ) أو كما يقول هيمار ( Hemard ) إن الحادث المؤمن ضده ( sinister ) هو المطالبة ذاتها ، قضائية كانت أو غير قضائية ( Le sinister est l'attaque meme, judiciare ou extrajudiciairo ; Hemard t .2 no . 556 ) .
وكان المشروع التمهيدي للقانون المدني الجديد يتضمن نصوصاً في التأمين من المسئولية ، حذفت في لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ اكتفاء بالقواعد العامة إلى أن يصدر تشريع خاص يعالج مسائل التأمين في مختلف صوره ، وقد جاء في الفقرة الأولى من المادة 830 من هذا المشروع ما يأتي : " لا ينتج التزام المؤمن أثره إلا إذا قام المصاب بمطالبة المؤمن له وديا أو قضائياً بعد الحادث المبين في العقد " .
( [1260] ) ويجوز للمؤمن ، قبل ثبوت المسئولية ، أن يتدخل في الدعوى ، كما يجوز إدخاله إلا إذا اشترط عدم جواز ذلك ( مازو 3 فقرة 2671 ) . بل يجوز للمؤمن أن ينص في وثيقة التأمين على احتفاظه وحده بالحق في مباشرة الدعوى ( أنظر م 830 فقرة 3 من المشروع التمهيدي للقانون المدني الجديد ) .
( [1261] ) وقد يتفق المؤمن والمؤمن له على التخفيف من هذه المسئولية ، فلا يدفع المؤمن إلا نسبة معينة من التعويض الذي يلزم به المؤمن له عندما تتحقق مسئوليته ( 80 % مثلا ) ، وهذا ما يسمى بشرط الخسارة المكشوفة ( clause de decouvert obligatoire ) . أو يتفقان على إلا يدفع المؤمن من التعويض إلا ما زاد على مبلغ معين ( خمسين جنيها مثلا ) ، فإذا كان التعويض خمسين جنيهاً أو أقل التزم به المؤمن له دون رجوع على المؤمن ، أما إذا زاد التعويض على خمسين جنيها فإن المؤمن يدفع مقدار الزيادة ، وهذا ما يسمى بشرط الخسارة المهدرة ( clause do franchise d'avarie ) . أو على العكس من ذلك يتفقان على إلا يدفع المؤمن ما زاد من التعويض على مبلغ معين ( خمسمائة جنيه مثلا ) ، فإذا كان التعويض خمسمائة أو أقل دفعه المؤمن كله ، أما إذا زاد على الخمسمائة فإن المؤمن لا يدفع إلا خمسمائة ويتحمل المؤمن له مقدار الزيادة . ( أنظر في وجوه التخفيف المختلفة مازو 3 فقرة 2661 - 2 إلى فقرة 2670 ) .
( [1262] ) أنظر في هذا المعنى المادة 831 من المشروع التمهيدي للقانون المدني الجديد ، وقد حذفت في لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ كما قدمان .
( [1263] ) ومع ذلك فقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بان المضرور في حادث أو خلفاءه يستطيعون الرجوع مباشرة على المؤمن للشخص المسئول عن هذا الحادث ، ويترتب على ذلك أنه عندما يثبت خطأ المسئول عن الحادث ثبوتاً صحيحاً ، فلا تستطيع شركة التأمين أن تدفع دعوى المضرور إلا في حدود مبلغ التعويض المتفق عليه في عقد التأمين وهي الحدود المرسومة لمسئوليتها ( استئناف مختلط في 8 مارس سنة 1939 م 51 ص 187 ) . وانظر في هذا المعنى أيضاً : استئناف مختلط في 18 ابريل سنة 1935 م 47 ص 257 – وفي 19 يناير سنة 1938 م 50 ص 105 .
والقول بان للمضرور دعوى مباشرة قبل شركة التأمين دون نص لا يمكن تخريجه وفقاً للقواعد العامة إلا عن طريق الاشتراط لمصلحة الغير ، فيقال إن المؤمن له عندما تعاقد مع شركة التأمين اشترط لمصلحة المضرور ، فصار لهذا حق مباشر قبل شركة التأمين . ويرجع في ذلك لوثيقة التأمين لينظر هل يمكن أن يستخلص من نصوصها هذا الاشتراط .
( [1264] ) وقد نص القانون المدني الجديد على حلول قانون فيما يتعلق بالتامين من الحريق ، فقضت المادة 771 بما يأتي : " يحل المؤمن قانوناً بما دفعه من تعويض عن الحريق في الدعاوى التي تكون للمؤن له قبل من تسبب بفعله في الضرر الذي نجمت عنه مسئولية المؤمن ، ما لم يكن من أحدث الضرر قريباً أو صهراً للمؤمن له ممن يكنون معه في معيشة واحدة أو شخصاً يكون المؤمن له مسئولا عن أفعاله " . ولكن هذا النص خاص بالتأمين من الحريق ، وهو كما نرى يمنع صراحة من الحلول إذا كان من أحدث الضرر شخصاً يعتبر المؤمن له مسئولا عن أفعاله .
( [1265] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه لا يجوز للمؤمن أن يرجع باسمه عن طريق الدعوى المباشرة على المسئول عن الضرر ، لا تمسكا بالقواعد العامة في المسئولية المدنية ، ولا احتجاجا بالحلو القانونين ( استئناف مختلط في 15 ديسمبر سنة 1938 م 45 ص 74 – وانظر أيضاً : استئناف مختلط في 21 فبراير سنة 1934 م 46 ص 178 ) . ولكن يجوز أن يكون للمؤمن دعوى مباشرة إذا كان المؤمن له قد نزل للمؤمن عن دعواه ( استئناف مختلط في 15 ديسمبر سنة 1932 م 45 ص 74 – وفي 21 فبراير سنة 1934 م 46 ص 178 – وفي 8 ديسمبر سنة 1935 م 48 ص 272 – وفي 20 مايو سنة 1936 م 48 ص 278 ) .
ومع ذلك قارن استئناف مختلط في 15 فبراير سنة 1923 جازيت 14 رقم 10 ص 12 وسنعود إلى ذلك فيما يلي .
( [1266] ) وقد يجتمع التعويض مع الدية في قانون تحقيق الجنايات الوطني القديم ( أنظر م 56 من هذا القانون ) ، إذ التعويض غير الدية ( محكمة الاستئناف الوطنية في 11 مارس سنة 1897 الحقوق 12 ص 239 – محكمة أسيوط في 7 أكتوبر سنة 1901 المجموعة الرسمية 4 رقم 21 ص 51 ) .
( [1267] ) وإذا كان عقد التأمين عقداً احتمالياً بالنسبة إلى المؤمن له – فهو قد يتقاضى مبلغاً اكبر من مجموع الأقساط التي دفعها إذا وقع الحادث المؤمن منه وقد لا يتقاضى شيئاً أصلاً إذا لم يقع – فإن العقد بالنسبة إلى الشركة ليس بالعقد الاحتمالي لأن الشركة تعوض خسارتها عند بعض المؤمن لهم بمكسبها عند بعض آخر ، وهي في مجموع صفقاتها غير خاسرة ، وقد أقامت عملها على هذا الأساس . أما الحادث المؤمن منه فليس حادثاً تعوض عنه شركة التأمين ، بل هو شرط يجب على الشركة عند تحققه أن تدفع للمؤمن له مبلغ التأمين .
إذن يجب التسليم بان المضرور يستطيع أن يجمع بين الحقين ، حقه في التعويض ضد المسئول ، وحقه في مبلغ التأمين ضد الشركة . وكل من الحقين له مصدر مستقبل عن مصدر الحق الآخر ، فاحدهما مصدره العمل غير المشروع والآخر مصدره العقد .
وإذا كان التشريع الفرنسي الصادر في 13 يولية سنة 1930 قد نص في المادة 36 منه ، في التأمين على الأشياء ، على حلول شركة التأمين محل المضرور في الرجوع على المسئول بمقدار مبلغ التأمين الذي دفعته الشركة ، فليس ذلك إلا مراعاة لاعتبار عملي هو إلا يكون التأمين على الأشياء مصدر ربح للمؤمن له ، فيتقاضى التعويض ومبلغ التأمين معاً ، لئلا يغريه ذلك على إتلاف الشيء الذي امن عليه . وإذا كان هذا التشريع في المادة 55 منه ، في التأمين على الأشخاص قد نص على عدم حلول شركة التأمين محل المضرور في الرجوع على المسئول ، فذلك إنما هو رجوع إلى تطبيق القواعد العامة من جواز الجمع بين الحقين كما قدمنا ، بعد أن انتفى الاعتبار العملي الذي كان يمنع من الجمع بينهما ، إذ قل أن يصيب الشخص نفسه طمعاً في مبلغ التأمين ، وإذا هو فعل فمن السهل افتضاح أمره .
وقد طبق القانون المدني الجديد مبدأ عدم حلول الشركة محل المؤمن له في التأمين على الحياة ، فنص في المادة 765 على أنه " في التأمين على الحياة لا يكون للمؤمن الذي دفع مبلغ التايمن حق في الحلو محل المؤمن له أو المستفيد في حقوقه قبل من تسبب في الحادث المؤمن منه أو قبل المسئول عن هذا الحادث " ، ويتبين من هذا النص أن المؤمن له ، في التأمين على الأشخاص ، يجمع بين مبلغ التعويض ومبلغ التأمين . كذلك قرر القانون الجديد مبدأ حلول الشركة محل المؤمن في التأمين من الحريق ، فقد رأينا أن المادة 771 تنص على أنه " يحل المؤمن قانوناً بما دفعه من تعويض عن الحريق في الدعاوى التي تكون للمؤمن له قبل من تسبب بفعله في الضرر الذي نجمت عنه مسئولية المؤمن ، ما لم يكن من أحدث الضرر قريباً أو صهراً للمؤمن له ممن يكونون معه في معيشة واحدة أو شخصا يكون المؤمن له مسئولا عن أفعاله " . ويتبين من هذا النص أن المؤمن له ، في التأمين على الأشياء ، لا يجمع في الأصل بين الحقين ، وأن الشركة تحل محله في الرجوع على المسئول إلا إذا كان التأمين يشمله ضمناً .
( [1268] ) وقد رأينا محكمة الاستئناف المختلطة تقضي بأنه لا يجوز للمؤمن إن يرجع باسمه عن طريق الدعوى المباشرة على المسئول عن الضرر ، إلا إذا كان المؤمن له قد نزل له عن دعواه ( أنظر آنفاً فقرة 658 في الهامش ) . وقد قضت أيضاً ، في ظل القانون القديم حيث لا يوجد نص على حلول المؤمن محل المؤمن له في التأمين على الأشخاص ( استئناف مختلط في 21 مايو سنة 1939 م 51 ص 356 ) . وقضت كذلك بان المسئول عن الحريق لا يستطيع أن يتخلص من نتائج هذه المسئولية قبل المضرور بدعوى أن المضرور قد امن على نفسه من حريق ، بل ولا بحجة أنه قد استولى على مبلغ التأمين من المؤمن ( استئناف مختلط في أول مارس سنة 1916 م 28 ص 180 ) . ومع ذلك فقد قضت هذه المحكمة بأنه لا يصح ، كمبدأ عام ، المنازعة ف يحق المؤمن في الرجوع ، باسمه أو باسم المؤمن له ، بدعوى المسئولية على المسئولين عن وقوع الحادث المؤمن منه ( استئناف مختلط في 15 فبراير سنة 1923 جازيت 14 رقم 10 ص 12 وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم ) .
( [1269] ) محكمة مصر الجزئية المختلطة في 28 مارس سنة 1929 جازيت 20 رقم 209 ص 200 – قارن استئناف مختلط في 15 يناير سنة 1925 م 37 ص 165 .
( [1270] ) كذلك لا يجوز الجمع بين مطالبة رب المصنع بالتعويض بمقتضى قانون أصابات العمل والتعويض طبقاً للقواعد العامة في المسئولية . وقد قضت محكمة النقض بأنه لا يجوز الجمع بين أحكام قانون أصابات العمل باعتباره من القوانين الخاصة وأحكام القانون العام في المطالبة بتعويض الضرر المدعى به ، لأن القانون الأول مجال تطبيقه الأحوال التي أراد فيها المشرع أن يرعى جانب العمل نظراً لمخاطر العمل بعدم تحميله عبء إثبات خطأ صاحب العمل أو تقصيره عند المطالبة بالتعويض . فإذا ما لجأ العامل إلى أحكام هذا القانون واتخذها سنداً له في طلب التعويض ، فإنه لا يصح له بمقتضى المادة الرابعة أن يتمسك بأي قانون آخر ضد صاحب العمل ما لم يكن الحادث المطلوب عنه التعويض قد نشأ عن خطأ فاحش . ولكن إذا كان المدعى بنى طلب التعويض على قانون أصابات العمل ، ثم طالب بتعويض بناء على قواعد المسئولية العامة ، وطلب الحكم له بالتعويضين على اعتبار انهما طلبان أصليان ، فاستبعدت المحكمة تطبيق قانون أصابات العمل ، فإنه يكون من المتعين عليها أن تنظر في الطلب المؤسس على القانون العام ( نقض مدني في 14 مايو سنة 1942 مجموعة عمر 3 رقم 156 ص 436 ) .
( [1271] ) وقد قضت محكمة النقض بأن حادث وفاة المستخدم التي يترتب عليها التزام الحكومة بالمكافأة الاستثنائية لأرملته وأولاده بموجبة قانون المعاشات قد يترتب عليها أيضاً التزام من يكون مسئولا عن الحادث بالتعويض الذي يستحق بموجب القانون المدني . ولما كان قانون المعاشات قد رتب استحقاق المكافأة الاستثنائية على وقوع الحادثة ، واجاز زيادتها تبعاً لظروف الحال ، فإنه يكون قد بين أن غرضه هو أن يجبر بقدر معلوم الضرر الواقع لأرملة المستخدم وأولاده . فهذان الالتزامان ، وإن كانا مختلفين في الأساس القانونين ، هما متحدان في الغاية ، وهي جبر الضرر الواقع للمضرور . وهذا الجبر ، وإن وجب أن يكون كاملا مكافئاً لمقدار الضرر ، فإنه لا يجوز أن يكون زائداً عليه ، إذ أن كل زيادة تكون إثراء لا سبب له . ومن ثم فإنه عند ما تكون الحكومة مسئولة أيضاً عن التعويض الذي أساسه القانون المدني يكون من المتعين خصم مبلغ المكافة الاستثنائية من كامل مبلغ التعويض المدني المستحق . وهذا النظر يتفق وما قرره الشارع في حالة مماثلة ، فإن قانون أصابات العمل رقم 65 سنة 1936 الذي قرر التزام صاحب العمل – على غرار التزام الحكومة بقانون المعاشات – بان يدفع بقدر معلوم كذلك تعويضاً للعامل المصاب ، نص على عدم الجمع بين هذا التعويض والتعويض المستحق بموجب القانون المدني ( نقض مدني في 3 فبراير سنة 1944 مجموعة عمر 4 رقم 95 ص 251 ) . وقضت أيضاً بان استناد الحكم المطعون فيه إلى المادة 33 من قانون المعاشات ( رقم 5 لسنة 1909 ) دون المادة 39 منه لا يؤثر على سلامة النظر الذي ذهب إليه باعتبار أن المكافأة التي منحتها الطاعنة المطعون عليه هي مكافأة استثنائية بقدر معلوم استحقها وفقاً لهذا القانون كتعويض على مجرد الإصابة التي لحقته وأقعدته عن مواصلة العمل في خدمة الحكومة ، وأن حقه في التعويض الكامل الجابر للضرر الذي لحقه يظل مع ذلك قائماً وفقاً لأحكام القانون المدني إذا كانت هذه الإصابة قد نشأت من خطأ تسأل عنه الطاعنة ( نقض مدني في 27 أكتوبر سنة 1949 طعن رقم 34 سنة 18 قضائية ) .
ومع ذلك فقد قضت محكمة النقض بان المعاش الخاص المقرر لرجال الجيش بقانون المعاشات العسكرية رقم 59 لسنة 1930 عن اصابتهم بعمل العدو أو بسبب حوادث في وقائع حربية أو في مأموريات امروا بها لا علاقة لها بالتعويض الذي يستحقه صاحب المعاش قبل من سبب له الإصابة عن عمد أو تقصير منه ، وذلك لاختلاف الأساس القانونين للاستحقاق في المعاش عنه في التعويض ( نقض جنائي في 8 ديسمبر سنة 1941 مجموعة عمر الجنائية 5 رقم 317 ) . وهذا الحكم قد حاد عن المبدأ الصحيح الذي قررناه ، وقد انتقده بحق الدكتور سليمان مرقص في تعليقه المنشور بمجلة القانون والاقتصاد 17 العدد الثاني .
( [1272] ) نقض مدني في 3 فبراير سنة 1944 مجموعة عمر 4 رقم 95 ص 251 وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم في الحاشية السابقة . ويقرر الحكم ، في المسألة التي نحن بصددها ، ما يأتي : " ولكن المكافأة العادية التي تستحقها ورثة المستخدم عند وفاته وفاة طبيعية والتي لا علاقة لها بالحادثة ولا بالتعويض المستحق عنها ، فهذه تبقى مستحقة للورثة بالإضافة إلى التعويض " .
( [1273] ) الموجز للمؤلف فقرة 345 .
( [1274] ) ومع ذلك فإن هذه النصوص ، على ما فيها من عيوب ، كانت خيراً من مثيلتها في القانون المدني الفرنسي ( م 1384 ) التي لم تضع قاعدة عامة ، بل اقتصرت على ما ذكر طوائف من المسئولين على سبيل الحصر ( أنظر مازو 1 فقرة 712 – فقرة 719 ) .
( [1275] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 241 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : 1 - كل من يجب عليه قانوناً أو اتفاقا رقابة شخص في حاجة إلى الرقابة ، بسبب صره أو بسبب حالته العقلية أو الجسمية ، يكون ملزماً بتعويض الضرر الذي يحدثه ذلك الشخص للغير بعمله غير المشروع . ويبقى هذا الالتزام قائماً حتى لو كان من وقع منه العمل الضار غير مميز . 2 - ويستطيع المكلف بالرقابة أن يخلص من المسئولية استئناف إذا اثبت أنه قام بواجب الرقابة ، أو اثبت أن الضرر كان لا بد واقعاً حتى لو قام بهذا الواجب بما ينبغي من العناية " . وفي لجنة المارجعة عدلت المادة ، بعد أن أصبح رقمها 177 في المشروع النهائي ، على الوجه الآتي : " 1 – كل من تولى رقابة شخص في حاجة إلى الرقابة ، بسبب قصره أو بسبب حالته العقلية أو الجسمية ، يكون ملزماً بتعويض الضرر الذي يحدثه ذلك الشخص للغير بعمله غير المشروع . ويترتب هذا الالتزام ولو كان من وقع منه العمل الضار غير مميز . 2 – ويعتبر القاصر في حاجة إلى الرقابة إذا لم يبلغ خمس عشرة سنة أو بلغها وكان في كنف القائم على تربيته . وتنتقل الرقابة على القاصر إلى معلمه في المدرسة أو في الحرفة ما دام القصار تحت اشراف المعلم ، وتنتقل الرقابة على الزوجة القصارة إلى زوجها أو إلى من يتولى الرقابة على الزوج . 3 – ويستطيع المكلف بالرقابة أن يخلص من المسئولية إذا اثبت أنه قام بواجب الرقابة ، أو اثبت أن الضرر كان لا بد واقعاً ولو قام بهذا الواجب بما ينبغي من العناية " . وقد قام هذا التعديل على الاعتبارين الايتين : ( أولاً ) تجنب جعل المسئولية على من يجب عليه قانوناً رقابة شخص ، فإن هذا من شأنه أن يثير فكرة الولاية على النفس وأحكامها في الشريعة الإسلامية مما قد لا يتفق تماما مع فكرة الرقابة في القانون الحديث . ( ثانياً ) حدد في التعديل إلى أي سن يكون الصبي في حاجة إلى الرقابة ومتى تنتقل الرقابة الىالمعلم في المدرسة أو في الحرفة وإلى من تنتقل الرقابة على الزوجة القاصر . وقد اشير في لجنة المراجعة إلى تدرج في التشدد في افتراض الخطأ ، فتارة ينتفي الافتراض بإثبات عدم الخطأ ، وطوراً بإثبات عدم القدرة على منع العمل غير المشروع ، وثالثة بإثبات السبب الأجنبي وهذا ينفي علاقة السببية لا ينفي افتراض الخطأ . ويبدو عند التامل أن دفع المسئولية إنما يكون باحد أمرين : إما بنفي الخطأ وإما بنفي علاقة السببية . ففي الحالة الأولى من هذه الحالات الثلاثة المتدرجة قد انتفى الخطأ ، وفي الحالتين الثانية والثالثة قد انتفت علاقة السببية ( أنظر : نقض مدني في 19 نوفمبر سنة 1934 المحاماة 15 رقم 94 / 1 ص 198 وسنعود إلى هذا الحكم فيما يلي ) . وقد وافق مجلس النواب على النص كما ورد في الشمروع النهائي . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ جرت مناقشات طويلة انتهت إلى إضافة كلمة " المشرف " في الفقرة الثانية وإلى استبدال عبارة " كل من يجب عليه قانوناً أو اتفاقاً رقابة شخص " بعبارة " كل من تولى رقابة شخص " لأن مناط المسئولية هو وجود التزام بالرقابة والالتزام في هذه الحالة إما أن يكون مصدره الاتفاق أو نص القانون . وأصبح رقم المادة 173 . ووافق عليها مجلس الشيوخ كما عدلتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 405 – ص 412 ) .
( [1276] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " يفصل نص المشروع ما ورد من النصوص في التقنين المصري الحالي من وجوه ثلاثة . فهو يحدد أولاً فكرة الرقابة تحديداً بيناً . ويراعى أن نصوص التقنين الحالي ، وإن كانت تفضل من هذه الناحية نصوص التقنين الفرنسي ، من حيث تدارك ما اعتور أحكام هذا التقنين من نقص في بيان من لهم حق الرقابة ، إلا إنها في صياغة هذه الفكرة قد بالغت في الإيجاز والاقتضاب . وقد عمد المشروع إلى تحليل الالتزام بالرقابة ، فبين علته ومصدره . فقد يحتاج الإنسان إلى الرقابة إما بسبب قصره ، وإما بسبب حالته العقلية أو الجسمية . ولهذا يشرف الأب أو من يقوم مقامه على ابنه القاصر ما بقى الابن محتاجاً إلى الرقابة . ويقدر القاضي تبعاً للظروف ما إذا كانت حياة القاصر إلى هذه الرقابة لا تزال قائمة . وكذلك يقوم مباشر العمل على رقابة صبيانه ، والمعلم على رقابة تلاميذه ، والرقيب أو الممرض على رقابة من نيطت به رقابتهم من المجانين أو الزمنى ، ما بقى هؤلاء الأشخاص جميعاً في حاجة إلى تلك الرقابة بسبب حالتهم العقلية أو الجسمانية . أما فيما يتعلق بمصدر الالتزام بالرقابة فهو في الأصل نص القانون ، فأحكام قانون الأحوال الشخصية هي التي تلقى عبء الرقابة على الأب أو الأم أو الوصى على حسب الأحوال . وقد يفرض الالتزام بالرقابة بمقتضى اتفاق خاص ، كما هو الشأن في الحارس " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 406 – ص 407 ) .
( [1277] ) وقد قضت محكمة القاهرة الجزئية المختلطة بأن رئيس الحزب السياسي لا يعتبر مسئولا لا عن الأعمال الجماعية لحزبه ولا عن الأعمال الفردية لأعضاء الحزب ( 15 يونية سنة 1910 جازيت 1 ص 159 ) .
( [1278] ) وكان القانون المدني القديم : كما رأينا ، غير صريح في بيان الأحوال والشروط التي يعتبر فهيا الأب متولياً الرقابة على ابنه . ومن ثم اضطربت أحكام القضاء في ذلك .
فهناك من الأحكام ما ساير القانون المدني الفرنسي ( م 1384 ) ، فجعل الأب متولياً الرقابة على ابنه ما دام الابن قاصراً لم يبلغ سن الرشد وكان مقيماً مع أبيه . من ذلك ما قضت به محكمة استئناف مصر الوطنية من أن الأب يبقى مسئولا مدنياً عن الأضرار التي تحصل من ابنه إلى حين بلوغه سن الرشد ، ولا يشترط لتحقيق هذه المسئولية إلا إقامة القاصر مع أبيه ( 31 ديسمبر سنة 1931 المحاماة 12 رقم 494 ص 990 – أنظر أيضاً : استئناف مصر الوطنية في 7 مارس سنة 1933 المحاماة 14 رقم 178 / 2 ص 351 ) – وقضت كذلك بان رعاية الأب تقوم على ابنه لتحقيق أمرين اساسيين : أولهما إذا كان الابن منصبا مع والده ، والثاني إذا كان قاصراً عن درجة البلوغ ( استنئاف مصر الوطنية في 2 مايو سنة 1940 المحاماة 20 رقم 610 ص 1358 ) . وقضت محكمة أسيوط الكلية بأنه لما كان منشأ مسئولية الآباء عن أعمال ابنائهم سلطة الآباء سالفة الذكر ، فتكون هذه المسئولية ملازمة لهذه السلطة ، فتزول بزوالها ، وتقوم بوجودها . ولهذا قيد الشارع الفرنسي هذه المسئولية في المادة 1384 بقيدين ، الأول إقامة الوالد مع ابنه ، وثانيهما كون الابن قاصراً . فإذا كان الولد رشيداً يدير أمور نفسه ، أو كان الولد غير مقيم مع والده كأن ألحق بالجيش قبل بلوغه سن الرشد ، أو كان والده غائباً عنه غيبة منقطعة ، فلا سلطة للأب في هذه الأحوال ، وبالتالي فلا مسئولية ( 8 نوفمبر سنة 1933 المحاماة 14 رقم 222 / 2 ص 425 ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بألا مسئولية على الأب عن أعمال ابنه الذي بلغ سن الرشد ( استئناف مختلط في 3 يناير سنة 1906 م 18 ص 83 ) .
وهناك أحكام ربطت تولى الأب الرقابة على ابنه بسن الولاية على النفس وهي خمس عشرة سنة . من ذلك ما قضت به محكمة النقض من أن المادة 151 من القانون المدني ( القديم ) إذ نصت في الفقرة الثانية علىمساءلة الإنسان عن تعويض الضرر الناشئ للغير " عن إهمال من هم تحت رعايته " . . . قد دلت بوضوح على أن هذه المسئولية التي قررتها استثناء وخروجاً على الأصل إنما تقوم على ما للمسئول من سلطة على من باشر ارتكاب الفعل الضار وما تقتضيه هذه السلطة من وجوب تعهده بالحفظ والمراقبة لمنع الضرر عنه ومنعه من الأضرار بالغير . وإذا كانت السن إحدى موجبات الحفظ ، فتأتي المسئولية من ناحيتها هو كون سن من باشر ارتكاب الفعل الضار يقتضي وضعه تحت حفظ غيره ، ولا اعتبار هنا للسن المحددة في القانون للولاية على المال ، فإن الحفظ ( garde ) الذي هو أساس المسئولية بمعناها لغة وقانوناً متعلق مباشرة بشخص الموضوع تحت الحفظ ، إذ قد يكون الإنسان قاصراً فيما يختص بماله ، ومع ذلك لا ولاية لأحد على نفسه ، ولا سلطة فيما يختص بشخص . وإذن ففي دعوى التعويض المرفوعة على مقتضى المادة المذكورة لا يكون تعرف من وقع منه الضرر إلا لمعرفة هل هذه السن توجب وضعه تحت حفظ من رفعت عليه الدعوى أم لا فالحكم إذا أسس قضاءه برفض دعوى التعويض المرفوعة على والد المتهم على ما تبينته المحكمة ، أن المتهم قد تجاوزت سنه الحد الذي تنتهي به ولاية أبيه على نفسه ، يكون قد أصاب ولم يخطئ ( نقض جنائي في 4 يناير سنة 1943 المحاماة 24 رقم 100 ص 326 ) . وقضت في حكم آخر بان الحكم المطعون فيه إذ اعتبر الوالد مسئولا عن عمل ابنه بعد أن كان قد تجاوز الخامسة عشرة من عمره ، وكانت سنه وقت الحادثة أكثر من تسع عشرة سنة ، واذ قال إن الابن يبقى في حفظ أبيه حتى يبلغ إحدى وعشرين سنة ، يكون قد أخطأ ، لأن حق الحفظ بالنسبة للصغير مرتبط بالولاية على النفس ، وينتهي بانتهائها ، ولا شأن له بالمال ولا بنفس الولاية على المال ( نقض جنائي في 3 مايو سنة 1943 المحاماة 24 ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وانظر تعليق الدكتور سليمان مرقص في مجلة القانون والاقتصاد 16 ص 145 – ص 161 . وتعليقاً له آخر في مجلة القانون والاقتصاد 19 العددين الأول والثاني ) . وقضت محكمة الإسكندرية الكلية الوطنية بأن الولد لا يكون تحت رعاية الأب متى تجاوز الخامسة عشرة من عمره اخذاً برأي الصاحبين في الولاية على النفس ، ويكون مسئولا وحده عن كل أعماله المتعلقة بنفسه والتي لا علاقة لها بأمواله ، فيسأل عن عدم احتياطه وإهماله ، كما أنه ابتداء من هذه السن أيضاً مسئول عن جرائمه كما تقضي بذلك المادة 66 عقوبات . وعلى ذلك كان من الخطأ القول بمسئولية الأب حتى بلوغ الابن سن الرشد القانونين ، أي سن الحادية والعشرين ( 11 يولية سنة 1933 المحاماة 14 رقم 219 / 2 ص 420 – أنظر أيضاً : محكمة السيدة زينب في 14 يناير سنة 1934 المحاماة 15 رقم 26 / 2 ص 59 – محكمة دكرنس في 26 يونية سنة 1935 المحاماة 16 رقم 44 ص 108 ) .
وهناك حكم أخذ بما استقر عليه القانون المدني الجديد ، إذ قضت محكمة العطارين بأن مسئولية الأب عن ابنه لا تفترض بعد بلوغ الابن سن الواحدة والعشرين ، وإنما يحتفظ القاضي بحرية التقدير فيما بين الخامسة عشرة والواحدة والعشرين ( 25 يولية سنة 1933 المحاماة 15 رقم 137 / 2 ص 299 ) . ويقرب من هذا حكم محكمة الاستئناف الوطنية المنشور في صلب حكم محكمة النقض الجنائية في 17 فبراير سنة 1947 مجموعة عاصم للنقض الجنائي 2 – 27 – 21 .
ويرى الدكتو سليمان مرقص أن القانون المدني القديم لم يكن يحدد سناً معينة تقف عندها مسئولية الأب المفترضة عن ابنه ، وقد تقوم هذه المسئولية حتى بعد بلوغ الابن سن الرشد متى كان باقياً تحت رعاية أبيه وفي كنفه ( أنظر تعليقه المشار إليه في مجلة القانون والاقتصاد 16 ص 148 – ص 149 . وانظر تعليقاً آخر له في مجلة القانون والاقتصاد 13 ص 338 – ص 344 ) .
( [1279] ) وقد يكون للأم الرقابة على ولدها إذا كان لا يزال في سن الحضانة ، فمتى انتهت هذه السن بقيت الرقابة للأب وحده . وقد قضت محكمة بورسعيد الجزئية المختلطة بأن الأب دون الأم هو المسئول عن أفعال ولده عندما يبلغ سن التمييز ( سبع سنوات ) ، لأن الأب هو وحده الذي يتولى الرقابة على ولده منذ أن يبلغ هذه السن ( 15 يونية سنة 1929 جازيت 20 رقم 191 ص 177 ) .
وقد قضت محكمة مصر الوطنية بأن أم القاصر مسئولة عنه ولو لم تكن هي الوصية عليه ( 7 فبراير سنة 1910 المجموعة الرسمية 11 رقم 119 / 2 ص 332 ) .
( [1280] ) وقد قضت محكمة النقض بألا خطأ إذا نفي الحكم تقصير الوالد في ملاحظة ابنه بناء على أن الحادثة التي وقعت من هذا الابن قد حصلت أثناء وجوده في المدرسة بمنأى عن والده الذي يقيم في بلد آخر وفي رعاية غيره من القائمين بشؤون المدرسة ( نقض مدني في 19 نوفمبر سنة 1934 المحاماة 15 رقم 94 / ص 198 ) . وقضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأن مسئولية الوالد عن أفعال ابنه المضرة بالغير ترتفع عنه متى كان ابنه بعيداً عن رقابته . مسئولاً برعاية المدرسة التي تتولى أمر تعليمه ، فالاعتداء الذي يقع من ابنه أثناء وجوده بالمدرسة بسبب عدم المراقبة والملاحظة لا يجعل الوالد مسئولاً بطريق التضامن مع إدارة المدرسة لأنها هي المسئولة عن تلاميذها من وقت دخولهم المدرسة إلى وقت انصرافهم ( 13 مايو سنة 1931 المحاماة 12 رقم 128 ص 239 ) . ولا يكون الأب مسئولاً ما دام ابنه بعيداً عن رقابته ، مشمولاً برعاية المدرسة ، حتى لو كان الاعتداء الصادر من الابن قد وقع على المعلم نفسه الذي انتقلت إليه الرقابة .
ومع ذلك قد تتحقق مسئولية الأب عن خطـأ يرتكبه الابن وهو في المدرسة ، إذا كان خطأ الابن مسبوقاً بخطأ ثابت في جانب الأب . وقد قضت محكمة السين الفرنسية بأنه ولو أن الابن القاصر يقيم بعيداً عن والده بمدرسة بقسمها الداخلي ، إلا أن مسئولية الأب تتحقق إذا ثبت أن العمل الذي ارتكبه الابن كان مسبوقاً بخطأ ارتكبه الأب نتيجة سوء تربيته ، كما لو عود ابنه على استعمال الأسلحة النارية ، واشتري له مسدساً ، وسمح له بحمله داخل المدرسة . وتقوم مسئولية الأب بجانب مسئولية مدير المدرسة التي ترتبت على عدم رقابة حمل هذا السلاح واستعماله ( 15 مارس سنة 1930 المحاماة 11 رقم 67 ص 109 ) .
( [1281] ) انظر في مسئولية المدرسين المفترضة ومسئولية الدولة التي تحل محلها في القانون الفرنسي ، ثم في القانون 5 أبريل سنة 1937 الذي جعل مسئولية المدرس في فرنسا تقوم على خطأ واجب الإثبات لا على خطأ مفترض ، مع حلول الدولة محل مدرسيها في بعض الحالات ، إلى مازو 1 فقرة 784 - فقرة 851 - 51 .
( [1282] ) وقد قضت محكمة الاستئناف الوطنية بأن الوالد مسئول عن ولده القاصر ، ولو كان هذا الولد تلميذاً ، ما دام قد ارتكب العمل خارج المدرسة وفي وقت لم يكن فيه تحت ملاحظة معلمية 291 مايو سنة 1916 الشرائع 3 رقم 221 ص 611 - حقوق 32 ص 2 ) .
( [1283] ) وقد قضت محكمة الإسكندرية الكلية الوطنية بأنه إذا ارتكب المجنون جرماً كان والده مؤاخذاً مدنياً عن عمله ( 19 مايو سنة 1930 المحاماة 11 رقم 41 ص 75 ) - وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن الزوج يسأل عن زوجته وهي تسوق السيارة وهو إلى جانبها ، وكان يستطيع أن يحد من سرعتها ( 24 ديسمبر سنة 1925 م 38 ص 137 - وهذا يجوز أن تكون مسئولية الزوج هي مسئولية المتبوع عن تابعه ، وبخاصة إذا لم تكن الزوجة قاصراً ) .
( [1284] ) هذا ما لم يعتبر رئيس المدرسة مسئولاً عن سلامة التلاميذ مسئولية عقدية ، فيكون مسئولاً عما يلحقه التلميذ من الأذى بنفسه إلا إذا أثبت السبب الأجنبي . ويعتبر رئيس المدرسة مسئولاً عن سلامة التلاميذ بوجه خاص في أثناء الرحلات المدرسية .
وقد قضت محكمة استئناف مصر الوطنية ( 24 ديسمبر سنة 1939 المحاماة 20 رقم 493 ص 1166 ) بأن إدارة المدرسة التي ترتب أمر رحلة التلاميذ مدرستها الابتدائية تلتزم قبل أهليهم برعايتهم ، وعلى ذلك فهي ضامنة سلامتهم وردهم إليهم ، وتكون مسئولية عن كل ما يصيبهم في هذه الرحلة مسئولية عقدية تترتب عليها بمجرد إصابتهم ، وعليها هي يقع عبء إثبات عذرها ، بأن تثبت أن مندوبيها في الرحلة قاموا بواجب الملاحظة المفروضة عليهم على وجه مرضى ، وأن تقصيراً لم يقع منهم ، وان أية مراقبة مهما بلغت درجتها من الشدة ما كانت لتحول دون وقوع الحادث للتلميذ . ويلاحظ في شأن هذا الحكم أن المحكمة عندما طالبت إدارة المدرسة بنفي المسئولية لم تكن واضحة في تعيين الأمر الذي يطلب من الإدارة إثباته . فقد ذكرت أن الإدارة تثبت أن مندوبيها في الرحلة قاموا بواجب الملاحظة المفروض عليهم على وجه مرضى وان تقصيراً لم يقع منهم . وهذا لا يكفي ، فالمسئولية عقدية ولا تنتفي إلا بإثبات السبب الأجنبي ، لا بمجرد نفي الخطأ ، والذي ينتفي بمجرد نفي الخطأ هو المسئولية عن الضرر الذي وقع من التلميذ لا الضرر الذي يقع عليه . ولكن المحكمة ذكرت بعد ذلك أن إدارة المدرسة يجب عليها أن تثبت أن أية مراقبة مهما بلغت درجتها من الشدة ما كانت لتحول دون وقوع الحادث للتلميذ . ومعنى ذلك أن إدارة المدرسة يجب عليها أن تثبت القوة القاهرة ، والقوة القاهرة بسبب أجنبي تنتفي به المسئولية العقدية . ويمكن تخريج حكم المحكمة على هذا الوجه ، لولا التضارب الذي ورد في عباراتها ( أنظر تعليقاً على هذا الحكم للدكتور سليمان مرقص في محله القانون والاقتصاد 13 ص 344 – ص 346 ) .
( [1285] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " وينص المشروع على أن مسئولية الشخص عما يقع ممن نيطت به رقابتهم تظل قائمة ، ولو كان محدث الضرر غير مميز . وهو بذلك يقرر الحكم المتبع في ظل التقنين الحالي . يبد أنه رؤى من الأنسب أن ينص صراحة على هذا الحكم ، إذ قد يكون في عدم تمييز الفاعل الأصلي ، وارتفاع مسئولية تفريعاً على ذلك ، مدخل للشك عند التطبيق ، باعتبار أن المسئولية التبعية لا تقوم إلا مستندة إلى مسئولية أصلية . ولكن الواقع أن مسئولية المكلف بالرقابة في هذه الحالة ليست من قبيل المسئوليات التبعية ، بل هي مسئولية أصلية أساسها خطأ مفترض ، وهي بهذه المثابة مسئولية شخصية أو ذاتية . أما غير المميز فهو الذي تقع على عاتقه مسئولية مادية أو موضوعية يتحقق فيها معنى التبعية عند تعذر رجوع المصاب بالتعويض على المكلف بالرقابة ، وهو المسئول بطريق الإصالة مسئولية ذاتية أو شخصية " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 407 ) .
وقد رأينا فيما قدمناه أن متولي الرقابة لا يكون مسئولاً عن عمل غير المميز إلا إذا كان هذا العمل قد استوفي الركن المادي للخطأ وهو التعدي ، دون الركن المعنوي وهو التمييز فالعمل المشروع الذي يصدر من عديم التمييز لا يوجب مساءلة متولي الرقابة ، لأن هذا العمل ليس بتعد . وإنما تقوم مسئولية متولي الرقابة إذا كان العمل الصادر من عديم التمييز الركن المادي للخطأ دون الركن المعنوي ( أنظر في هذا المعني تعليقاً للدكتور سليمان مرقص في مجلة القانون والاقتصاد 13 ص 337 – ص 338 ) .
( [1286] ) ومع ذلك فقد كان القانون المدني القديم اقل وضوحاً في إقامة المسئولية على الخطأ مفترض . ومن ثم قضت بعض الأحكام في عهد هذا القانون بأن مسئولية متولي الرقابة تقوم على خطأ ثابت لا على خطأ مفترض . من ذلك ما قضت به محكمة الاستئناف المختلطة من أنه لا يوجد خطأ مفترض في جانب متولي الرقابة ، بل يجب إثبات خطأ الأب إذا كان ابنه قاصر قد اختلس رخصة قيادته ( 22 مايو سنة 1940 م 52 ص 281 - وانظر أيضاً :استئناف مختلط في 8 مايو سنة 1930 م 42 ص 486 - وفي 8 فبراير سنة 1939 م 51 ص 148 ) . فإذا ترك الأب السيارة لابنه الصغير بالرغم من أن هذا لايتقن فن قيادة السيارات ، ارتكب الأب خطأ ثابتاً لا خطأ مفترضاً ( استئناف مختلط في 19 أبريل سنة 1939 م 51 ص 263 ) .
أما القانون المدني الجديد فهو قاطع في التصريح بأن مسئولية متولي الرقابة تقوم على خطأ مفترض .
( [1287] ) أنظر في هذا المعني مازو 1 فقرة 767 ويتبين من ذلك أن مسئولية متولي الرقابة تقوم على خطأ شخصي في جانبه ، فهو ليست مسئولية عن الغير كمسئولية المتبوع عن التابع ، بل هي مسئولية ذاتية قامت على خطأ شخصي افتراضنا أن متولي الرقابة قد ارتكبه فعلاً .
( [1288] ) وهذا ما لم يقم في جانب الشخص الخاضع للرقابة خطأ مفترض من نوع آخر ، كما لو كان يسوق السيارة فدهس أحد العابرة وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك .
( [1289] ) ومما يتنافى مع اتخاذ الاحتياطات المعقولة أو يغيب الأبواب ويتركا ولدهما وحيداً ، أو أن يمارس ألعاباً خطرة ، أو يتركاه يقود دراجة أو سيارة من قبل أن يتقن القيادة ( انظر مازو فقرة 774 - فقرة 777 ) .
( [1290] ) وقد قضت محكمة أسيوط الكلية في هذا المعنى بأن المادة 1384 من القانون المدني الفرنسي أباحت للآباء درء المسئولية عن أعمال أبنائهم إذا أقاموا الدليل على أنه ما كان في استطاعتهم منع الحادث الذي سبب الضرر . من المتفق عليه أنه مع هذه الإباحة فإن مسئولية الآباء تظل قائمة إذا حصل منهم خطأ سابق للحادثة ولولاه لما وقعت ، كسوء التربية والتغاضي عن هفوات وإظهار جانب اللين لهم . وان نص المادة 151 من القانون المدني المصري ( القديم ) لم تذكر شيئاً عن هذه الإباحاة ، ولهذا يجب الرجوع لنص المادة 1384 من القانون المدني الفرنسي التي ذكرت تفصيلاً شروط مسئولية الآباء عن أفعال أبنائهم على أنه ما دام أن مبنى المسئولية هو واجب التربية والمراقبة ، فلا محل لمسئوليتهم متى تبين أنهم قاموا بأداء هذين الواجبين على الوجه الأكمل ( 8 نوفمبر سنة 1933 المحاماة 14 رقم 222 / 2 ص 425 ) .
( [1291] ) انظر في هذا المعنى مازو 1 فقرة 769 .
( [1292] ) أما إذا كان الضرر قد وقع بسبب أجنبي بالنسبة إلى من هو تحت الرقابة ، فإن مسئولية هذا لا تتحقق ، ولا تقوم تبعاً لذلك مسئولية متولي الرقابة .
( [1293] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا قدرت محكمة الموضوع ظروف الحادث الذي وقع من تلميذ داخل المدرسة ، وقررت ألا مسئولية على ناظر المدرسة فيه لأنه وقع مفاجأة ، فإنها بذلك تكون قد فصلت في نقطة موضوعية لا رقابة لمحكمة النقض عليها… أما الزعم بأن المفاجأة لا يمكن اعتبارها في القانون المصري ( القديم ) سبباً معفياً من المسئولية المدنية ما دام لم ينص عليها فيه ، فذلك لا يعبأ به ، إذ الأمر ليس بحاجة إلى نص خاص ، بل يكفي فيه تطبيق مبادئ القانون العامة التي منها وجوب قيام علاقة السببية بين الخطأ والحادث الذي انتج الضرر . وبغير ذلك لا يمكن الحكم بالتعويض على مرتكب الخطأ . القول بحصول الحادث مفاجأة معناه أن الفعل كان يقع ولو كانت الرقابة شديدة إذ ما كان يمكن تلافيه يحال . ومفهوم ذلك بداهة أن نقص الرقابة لم يكن هو السبب الذي انتج الحادث ، بل كان وقوعه محتملاً ولو مع الرقابة الشديدة ( نقص في 19 نوفمبر سنة 1934 المحاماة 15 رقم 94 / ص 198 ) . وقضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأن مسئولية المربي ترتفع إذا حصل الحادث فجأة ، وإنما بشرط في ذلك أن يكون عدم استطاعة تلافيه غير ناتجة عن إهمال ( 13 مايو سنة 1931 المحاماة 12 رقم 128 ص 239 ) . وقضت المحكمة أيضاً بأنه يجب لاعتبار مسئولية الأب عن فعل ابنه الذي هو تحت رعايته قائمة أن يثبت مبدئياً حصول الخطأ من هذا الابن وان يكون هذا الخطأ نتيجة لعدم ملاحظته ، أو بعبارة أخرى يشترط قيام الارتباط بين الخطأ الأب في ملاحظة ابنه والحادث الذي وقع منه . ويقع عبء إثبات انعدام رابطة السببية بين الخطأ والحادث على عاتق الأب ( استئناف مصر الوطنية في 2 مايو سنة 1940 المحاماة 20 رقم 610 ص 1385 ) . وقضت محكمة الزقازيق الكلية بألا مسئولية إلا إذا كان هناك إهمال أو تقصير في الرقابة وكانت هناك علاقة ارتباط مباشر بين الخطأ والحادث الذي يطلب عنه التعويض . فإذا كان الحادث ليس متوقعاً ولا ممكناً تلافيه ولا التكهن بوقوعه لسرعة حصوله وعدم وجود مقدمات له ، أو كان مباغته والمراقبة ما كانت لتحول دون وقوع الحادث ، فلا تكون هناك مسئولية ( 25 فبراير سنة 1935 المحاماة 16 رقم 342 ص 740 ) .
هذا ويلاحظ أنه إذا أثبت المضرور خطأ في جانب متولي الرقابة ، استغني بذلك عن المسئولية القائمة على خطأ مفترض ، وعاد إلى القواعد العامة في المسئولية ، ولا يجدي متولي الرقابة في هذه الحالة أن يتمسك بأن الحادث الذي هو محل المساءلة كان نتيجة ظرف فجائي . قد قصدت محكمة النقض إلى تقرير هذا المبدأ عند ما قضت بأنه ليس للمعلم أن يتمسك بأن الحادث التي هي محل المساءلة كانت نتيجة ظرف فجائي ليتخلص من المسئولية إلا إذا أثبت أنه قام بواجب المراقبة المفروضة عليه . ومن الخطأ تخلي المعلم عن هذه المراقبة وعهده بها إلى تلميذ عمره سبع سنوات ( نقض مدني في 31 أكتوبر سنة 1946 مجموعة عمره رقم 105 ص 234 ) . وعبارة الحكم غير دقيقة ، والمقصود أنه لا يجوز التمسك بأن الحادث كان نتيجة ظرف مفاجئ إذا أثبت المضرور تقصيراً في جانب متولي الرقابة . وعلى هذا الأساس تقوم وقائع القضية ، فقد كلف المعلم تلميذاً عمره سبع سنوات بمراقبة التلاميذ وكتابة اسم من يحدث ضجة منهم ، فلما كتب اسم أحد التلاميذ تغيظ هذا منه ، وقذفه بسن ريشة أفقدت عينه اليمنى الإبصار ، فاعتبرت المحكمة أن هناك خطأ ثابتاً في جانب المعلم ، إذ عهد لتلميذ في هذه السن بالمراقبة ، فلا يجدي المعلم أن يتمسك بأن الحادث مفاجئ ما دام قد ثبت خطأ في جانبه ( أنظر تعليقاً على هذا الحكم للدكتور سليمان مرقص في مجلة القانون والاقتصاد 19 العددين الأول والثاني ) .
( [1294] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " فإذا أقيم الدليل على خطأ من وقع منه الفعل الضار ترتبت مسئوليته وفقاً لأحكام القواعد العامة . أما من نيطت به الرقابة عليه فيفترض خطؤه باعتبار أنه قصر في أداء واجب الرقابة . ولكن يجوز له ، رغم ذلك ، أن ينقض هذه القرينة بإحدى وسيلتين :فإما أن يقيم الدليل على انتفاء الخطأ من ناحيته ، بأن يثبت أنه قام بقضاء ما يوجبه عليه التزام الرقابة وان خطأ من أحدث الضرر يرجع إلى سبب غير معلوم لا ينبغي أن يتحمل تبعه ، وفي هذا الوضع تكون قرينة افتراض الخطأ قرينة غير قاطعة تنقض بإثبات العكس . وإما أن يترك قرينة الخطأ قائمة ، ونفي علاقة السببية ، بأن يقيم الدليل على أن الضرر كان لا بد واقعاً حتى لو قام بواجب الرقابة بما ينبغي له من حرس وعناية . وفي كلتا الحالتين ترتفع عنه المسئولية ، إما بسبب انتفاء الخطأ ، وإما بسبب انتفاء علاقة السببية ، وبديهي أن الفاعل الأصلي وهو من وقع منه الفعل الضار ، تظل مسئولية قائمة وفقاً لأحكام القواعد العامة " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 408 ) .
( [1295] ) ويجوز أن يرجع على الاثنين معاً . بل يجوز أن يفعل ذلك في محكمة أول درجة ، ثم يقتصر في الاستئناف على أحدهما فلا يختصم إلا متولي الرقابة مثلاً ( استئناف مختلط في 25 يناير سنة 1883 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلطة 8 ص 55 ) .
( [1296] ) تاريخ النص :ورد هذا النص في المادة 343 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " للمسئول عن عمل الغير حق الرجوع عليه بالقدر الذي يكون فيه هذا الغير مسئولاً عن تعويض الضرر " وقد أقرت لجنة المراجعة النص على أصله ، وأصبح رقمه المادة 179 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ استبدلت عبارة " في الحدود " بكلمة " بالقدر " وأصبح رقم المادة 175 . ووافق عليها مجلس الشيوخ كما عدلتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 421 - ص 422 ) .
- - وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : " إذا ترتبت مسئولية الشخص عن عمل غيره ، انطوى هذا الوضع على وجود شخصين يسألان عن ذات الدين مع اختلاف الخطأ المنسوب إلى كل منهما ، أولهما محدث الضرر ويسأل بناء على خطأ ثابت يقام الدليل عليه ، والثاني هوالمسئول عنه ( وهو المكلف بالرقابة أو المتبوع ) ويسأل على أساس الخطأ المفروض . ومؤدي ذلك أن كليهما يلزم بالدين ذاته إلزاماً مبتدأ دون أن يكونا متضامنين في أدائه ( المؤلف :الصحيح أنهما متضامنان ) ، باعتبار أن أحدهما مدين أصلي والآخر مدين تبعي أو احتياطي . فإذا رجع المضرور على محدث الضرر واستوفي منه التعويض الواجب ، وفقت المسألة عند هذا الحد ، لأن وفاء المدين الأصلي بالدين يدرأ مسئولية المدين التبعي أو الاحتياطي عنه . بيد أن المضرور غالباً ما يؤثر الرجوع على المدين الاحتياطي ، إذ يكون أكثر اقتداراً أو يساراً . ومتى قام هذا المدين بأداء التعويض ، كان له أن يقتضيه ممن أحدث الضرر . ذلك أن هذا الأخير هو الذي وقع منه الفعل الضار ، فهو قبل المسئول عنه بأن يؤدي إليه ما أحتمل من التعويض من جزاء هذا الفعل ، ويماثل هذا الوضع مركز المدين الأصلي من الكفيل . على أن هذه الأحكام لا تطبق إلا حيث يتوافر التمييز في محدث الضرر ، كما فرض هذا في الصورة المتقدمة . فإذا فرض على النقيض من ذلك أن محدث الضرر غير أهل للمساءلة عن عمله غير المشروع ، فليس للمسئول عنه أن يرجع عليه بوجه من الوجوه ، لأنه يكون في هذه الحالة مديناً أصدأ ، وينعكس الوضع فلا يلزم من وقع منه الفعل الضار إلا بصفة تبعية أو احتياطية ، كما تقدم بيان ذلك ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 421 - 422 ) .
( [1297] ) بعض المراجع :زنجير ( Zingher ) رسالة سنة 1923 - فان دان درايشة ( Van den Dreisahe ) رسالة من ليل سنة 1924 - دالان ( Dallant ) رسالة من باريس سنة 1927 - الدكتور حلمي بهجت بدوي رسالة من باريس سنة 1929 - راديفرنسكو ( Raduvernesco ) رسالة من باريس سنة 1933 - فلور ( Flour ) رسالة من كان 1933 - براتران ( Bertrand ) رسالة من إكس سنة 1935 - الموجز للمؤلف فقرة 350 - فقرة 353 - مصطفي مرعي بك فقرة 193 - فقرة 234 - الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت بك فقرة 504 - فقرة 905 - الدكتور سليمان مرقص فقرة 88 - فقرة 100 .
( [1298] ) تاريخ النص :ورد هذا النص في المادة 242 من المشروع التمهيدي على الوجه الأتي : " 1 - يكون المتبرع مسئولاً عن الضرر الذي يحدثه تابعه بعمله غير المشروع أثناء تأدية الوظيفة التي عهد بها إليه ، ويكون مسئولاً كذلك إذا كانت الوظيفة هيأت الفرصة للتابع في ارتكاب العمل غير المشروع حتى لو لم يكن هذا العمل من بين أعمال تلك الوظيفة 2 - تقوم علاقة التبعية حتى لو لم يكن المتبوع حراً في اختيار تابعه ، ما دامت له سلطة فعلية في الرقابة عليه وفي توجيهه ، وما دام يملك أمر فصله . 3 - ولا يستطيع المتبوع أن يخلص من هذه المسئولية إلا إذا أثبت أنه كان يستحيل عليه أن يمنع العمل غير المشروع الذي سبب الضرر " . وفي لجنة المراجعة عدل النص على الوجه الآتي : " 1 - يكون المتوع مسئولاً عن الضرر الذي يحدثه تابعه بعمله غير المشروع إذا كانت الوظيفة هي التي هيأت للتابع الفرصة لارتكاب العمل غير المشروع ولو لم يكن هذا العمل من بين أعمال تلك الوظيفة . 2 - وتقوم رابطة التبعية ولو لم يكن المتبوع حراً في اختياره تابعه متى كانت له عليه سلطة فعلية في رقابته وفي توجيهه وكان يملك أمر فصله . 3 - ويستطيع المتبوع أن يخلص من هذه المسئولية إذا أثبت أنه لم يكن في مقدوره أن يمنع العمل غير المشروع الذي سبب الضرر " وقد أثار أحد أعضاء اللجنة مسألة مسئولية المتبوع إذا إذا كان غير مميز ، فأجيب بأنه ما دامت المسئولية هنا مبينة على خطأ مفترض فلا يتصور افتراض الخطأ في جانب غير المميز . ( المؤلف :سنرى أن المتبوع يكون مسئولاً حتى لو كان غير مميز ) . وأصبح رقم المادة 178 في المشروع النهائي ووافق عليها مجلس النواب دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ عدلت الفقرة الأولي على الوجه الآتي : " يكون المتبوع مسئولاًِ عن الضرر الذي يحدثه تابعه بعمله غير المشروع متى كان واقعاً منه في حال تأدية وظيفته أو بسببها " ، وقد آثرت اللجنة أن تنسج على منوال القانون القديم في التعبير إبقاء على ما انتهي إليه القضاء من نتائج في تفسير نص المادة 152 من القانون القديم . وحذفت من الفقرة الثانية عبارة " وكان يملك أمر فصله " لأن مسألة الفصل لا تعتبر عنصراً لازماً من عناصر رابطة التبعية ، فأحياناً لا يكون أمر الفصل راجعاً إلى المتبوع ومع ذلك تثبت المسئولية ، كما هو الشأن في المجدين تجنيداً إجبارياً أو فيمن يخصص لخدمة شخص معين من قبل هيئة من الهيئات . وحذفت اللجنة الفقرة الثالثة من هذه المادة لأن حكمها يفضي إلى جعل قرينة المسئولية من قبيل القرائن البسيطة في هذه الحالة ، ولا محل للعدول عما قرره القانون الحالي من جعل هذه القرينة قاطعة لا تسقط بإثبات العكس . وأصبح رقم المادة 174 . ووافق عليها مجلس الشيوخ كما أقرتها لجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 412 - ص 420 ) .
( [1299] ) وقد كان المشروع التمهيدي يضيف حق الفصل . والى هذا تشير المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي حيث تقول :فيراعى أن المشروع حدد علاقة التبعية تحديداً بيناً . فليس من طبيعة الأشياء ما يحتم قيام هذه العلاقة على حرية المتبوع في اختيار تابعه ، فقوامها ولاية الرقابة والتوجيه وما نستتبع عند الاقتضاء من إعمال حق الفصل " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 414 ) . وقد رأينا فيما تقدم أن لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ حذفت حق الفصل من معيار علاقة التبعية لأنه ليس عنصراً ضرورياً من عناصرها فقد لا يكون أمر الفصل راجعاً إلى المتبوع ومع ذلك تثبت المسئولية ، كما هو الشأن في المجندين تجنيداً إجبارياً أو فيمن يخصص لخدمة شخص معين عن كل هيئة من الهيئات .
وقد ذهبت محكمة النقض في عهد القانون القديم ، في بعض أحكامها ، إلى الأخذ بحق الاختيار وحق التأديب والفصل من الخدمة لتحديد العلاقة التبعية ، فقضت بأن ضمان السيد قانوناً يقوم على مظنة خطئه في اختيار خادمه وفي مراقبته إياه بما له عليه من حق التأديب والفصل من الخدمة ، فتبعية الخفراء لوزارة الداخلية ترجع إلى أنها مرجع تعيينهم ، وهي التي تتولى تعليمهم وتراقبهم ، كما أن لها عليهم حق التأديب والفصل من الخدمة ( نقض في 27 مارس سنة 1930 المجلة القضائية 19 ص 19 ) .
ثم تركت محكمة النقض معيار الاختيار والفصل إلى معيار السلطة الفعلية في الرقابة والتوجيه ، وهو المعيار الذي أخذ به القانون الجديد ، فقضت بأن مسئولية السيد عن أعمال خادمه لا تقوم على مجرد اختياره تابعه ، بل هي في الواقع تقوم على علاقة التبعية التي تجعل السيد يسيطر على أعمال التابع فيسيره كيف شاء بما يصدره إليه من الأوامر والتعليمات ( نقض مدني في 14 ديسمبر سنة 1939 المحاماة 20 رقم 294 ص 761 ) .
( [1300] ) وقد يكون الولد تابعاً لأبيه ويكون الأب تابعاً لابنه ، وتكون الزوجة تابعة لزوجها ويكون الزوج تابعاً لزوجته ، ويكون الصديق تابعاً لصديقه ، كل هذا فيما يكل المتبوع منهم لتابعه من أعمال إذا كان للمتبوع السلطة الفعلية على تابعه .
( [1301] ) استئناف مختلط في 3 مايو سنة 1917 م 29 ص 404 - وفي 8 مايو سنة 1930 م 42 ص 486 .
( [1302] ) ومن ثم يكون الجندي في الجيش تابعاً لوزارة الدفاع ، إذ يتلقى منها التوجيه العام ( محكمة استئناف مصر الوطنية في 29 أكتوبر سنة 1945 المحاماة 26 رقم 245 ص 652 ) .
( [1303] ) ومن ثم لا يكون البواب تابعاً للسكان ولو كان يتقاضى منهم أجراً تلقاء خدمات صغيرة ، ولكنه تابع لصاحب العمارة ويكون هذا مسئولاً عنه إذا احدث ضرراً بالسكان أو بالغير أو إذا سرق أحد السكان بإعمال من البواب ( استئناف مختلط في 4 فبراير سنة 1897 م 9 ص 149 - وفي 27 ديسمبر 1928 م 41 ص 140 - وفي 21 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 49 - وفي 14 مارس سنة 1935 م 47 ص 197 - وفي 26 أكتوبر سنة 1944 م 57 ص 1 ) ولا ترتفع مسئولية صاحب العمارة حتى لو اشترط في عقد الإيجار إعفاءه من المسئولية عن أعمال البواب ، فالمسئولية التقصيرية لا يجوز اشتراط الإعفاء منها ( استئناف مختلط في 24 فبراير سنة 1927 م 39 ص 268 - وفي 6 يناير سنة 1938 م 50 ص 85 ) .
والحمال يكون تابعاً لصاحب الأمتعة التي يحملها فيكون هذا مسئولاً عنه ( استئناف مختلط في 12 يونية سنة 1940 م 52 ص 304 ) . ومصلحة السكك الحديدية تكون مسئولة عن الحمال باعتباره تابعاً إذا كان هذا الحمال يعمل في شركة تخضع لرقابة المصلحة وتوجيهها ( استئناف مختلط في 17 يونية سنة 1942 م 54 ص 242 ) . فإذا لم يكن الحمال تابعاً للمصلحة وتسبب في الإضرار براكب ، فإن المصلحة تكون مسئولة عن خطئها الشخصي في أنها لم تتخذ التدابير الكافية لوقاية الركاب ، وتكون متضامنة مع الحمال في المسئولية ( استئناف مختلط في 17 يونية سنة 1942 م 54 ص 242 ) .
( [1304] ) ولا يشترط أن يكون للمتبوع علاقة مباشرة بالتابع ، مادام هذا يعمل لحسابه وقد قضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأن المتبوع يكون مسئولاً عن عماله الأصغرين الثانويين ولو كان تعيينهم بمعرفة الموظفين الرئيسيين ما دام أن التعيين بمعرفتهم داخل فيما رسم لهم صاحب العمل من الاختصاصات . فإذا حوكم ممرض لتسببه بإهماله في وفاة مريض وحكم عليه نهائياً بالعقوبة ، فالمتبوع يسأل عن هذا الإهمال سواء أكان هو الذي أقام الطبيب في المستشفي وفي وظيفته وهذا الأخير هو الذي عين الجميع مباشرة ( 15 نوفمبر سنة 1936 المحاماة 17 رقم 203 ص 433 ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن التابع إذا أحل ابنه محله ، كان المتبوع مسئولاً عن ابن تابعه إذا كان إحلال الابن تعتبر خطأ من التابع ( 12 يونية سنة 1946 م 59 ص 18 ) . بل ويكون التابع غير معين ، ويبقي المتبوع مسئولاً عنه وإن كان لا يستطيع الرجوع عليه فيما بعد ، ويكون شأن المتبوع معه في ذلك شأنه مع التابع المعسر . وقد قضت محكمة النقض في هذا المعنى بأنه يكفي في مساءلة المخدوم مدنياً أن يثبت أن الحادث قد تسبب عن خطأ خادم له ولو تعذر تعيينه من بين خدمه . فما دام الحكم قد أثبت أن وفاة المجني عليه لا بد أن تكون قد نشأت عن خطأ أحد المتهمين ( الكمساري أو السائق ) اللذين هما تابعات لإدارة النقل المشترك ، فإن مساءلة هذه الإدارة مدنيا تكون متعينة لأنها مسئولة عما يقع من مستخدميها في أثناء تأدية خدمتهم ، لا يمنع من ذلك أن المحكمة لم تستطيع تعيين المخطئ منهما . وليس في الالتزام الإدارة بالتعويض مع تبرئة الكمساري خروج من القواعد الخاصة بالمسئولية ، لأن هذه التبرئة قائمة على عدم ثبوت ارتكابه الخطأ الذي أدى إلى وقوع الحادث ، أما مسئوليتها فمؤسسة على ما ثبت قطعاً من أن هذا الخطأ إنما وقع من أحد خادميها اللذين يعملان معاً في السيارة ولا يشترط لمساءلة المخدوم عن خطأ خادمه أن يكون الخادم حاضراً وممثلاً في الدعوى التي تقام على المخدوم ، فالتنازل عن مخاصمة ورثة الخادم لا يحول دون مطالبة المخدوم ، إذ هذا التنازل ليس فيه ما يفيد عدم مسئولية الخادم حتى كان يمكن أن يقال بعدم مسئولية المخدوم ( نقض جنائي في 22 نوفمبر سنة 1943 المحاماة 26 رقم 137 ص 372 . وانظر تعليقاَ على هذا الحكم للدكتور سليمان مرقص في مجلة القانون والاقتصاد 17 العدد الثاني - وقد أشار المعلق في تعليقه إلى حكم آخر صادر في هذا المعني من محكمة الاستئناف في 4 ديسمبر سنة 1929 المحاماة 10 ص 594 ، وفيه اعتبرت الحكومة مسئولة عن استبدال قطن من رتبة أدني قطن من رتبة أعلى من المقطوع به فيه أن هذا الاستبدال قد حدث إما في المركز أو لدى نائب العمدة أو لدى شيخ الخفراء ، فكل هؤلاء تابعون للحكومة ) .
( [1305] ) ولهذا التمييز أهمية كبيرة ، إذ أن مسئولية الأب عن ولده باعتباره تابعاً تختلف عن مسئوليته عن ولده باعتباره تحت رقابته ، فالمسئولية الأولي لا تندفع المسئولية الأخرى تنفيه على النحو الذي قدمناه .
( [1306] ) ولكن مدير الشركة يعتبر تابعاً للشركة ( استئناف مختلط في 11 يونية سنة 1913 م 25 ص 435 - وفي 30 يناير سنة 1923 م 35 ص 189 ) . والملتزم يبيع منتجات شركة في جهة معينة تعتبر سائقه تابعاً لهذه الشركة إذا كان الملتزم ممثلاً للشركة ( استئناف مختلط في 12 مارس سنة 1913 م 25 ص 230 ) .
وتعتبر الممرضة تابعة للطبيب الذي تعمل في خدمته ( استئناف مختلط في 2 نوفمبر سنة 1933 م 46 ص 10 ) . ولا يعتبر المؤجر متبوعاً لمستأجره ( محكمة المنصورة الجزئية المختلطة في 12 فبراير سنة 1919 جازيت 10 رقم 84 ص 80 ) - ولا يعتبر الوصي تابعاً للقاصر ( استئناف مختلط في 6 فبراير سنة 1930 م 42 ص 258 ) .
ولا يعتبر ناظر الوقف تابعاً والوقوف متبوعاً إلا إذا كان الناظر معيناً من قبل المستحقين ، أما إذا عينته وزارة الأوقاف أو القاضي فر ( استئناف مختلط في 24 ديسمبر سنة 1879 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلطة 5 ص 83 - وفي 19 يونية سنة 1930 م 42 ص 576 ) . وهناك أحكام مختلطة قضت بأن الوقف لا يكون متبوعاً لأنه ليس بشخص اعتباري ( استئناف مختلط في 7 مايو سنة 1925 م 37 ص 410 ) ، ولأن الوقف لا يلتزم في غير الحالة المرضي إلا بدين أجازه القاضي ولأن تصرف الناظر لا يلزم الوقف إلا فيما فيه صالح الوقف ( استئناف مختلط في 16 مايوسنة 1894 م 6 ص 282 - وفي 31 مارس سنة 1927 م 29 ص 357 ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن ناظر الوقف الذي لا يعطي المستحقين استحقاقهم في الوقف لا يجعل الوقف مسئولاً عنه ( 19 يونية سنة 1930 م 42 ص 576 وفي 29 ديسمبر سنة 1931 م 44 ص 166 . ويري الأستاذ مصطفي مرعي بك أن الوقف يسأل عن الخطأ الذي يقع من الناظر في أثناء عمله المنوط به بحكم وظيفته ، فإذا أتي الناظر في أثناء هذا العمل خطأ ضاراً بالغير كان للمضرور أن يرجع على الوقف متضامناً مع الناظر وللوقف أن يرجع على الناظر بما يدفعه عنه ( المسئولية المدنية فقرة 209 - 211 . ونحن إذا كنا نرى أن الوقف شخص معنوي إلا أننا نؤثر ألا يلتزم بتصرفات الناظر ، قولية كانت أو فعلية ، إلا في الحدود التي رسمها الفقه الإسلامي ، فإن الوقف نظام من خلق هذا الفقه ، فيؤخذ منه كما هو في غير ما تدعو له الضرورة .
والحارس على الأشياء المحجوزة يعتبر تابعاً للحاجز إذا كان هو الذي أختاره ( محكمة استئناف مصر الوطنية في 18 ديسمبر سنة 1930 المحاماة 11 رقم 368 ص 724 ) ، ولا يعتبر تابعاً له إذا عينه المحضر ( محكمة مصر الوطنية في 27 يناير سنة 1931 المحاماة 12 رقم 134 ص 351 - استئناف مختلط في 30 نوفمبر سنة 1893 م 6 ص 55 - وفي 3 مايو سنة 1917 م 29 ص 403 ) .
( [1307] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن المقاول إذا كان يعمل مستقلا لا تحت رقابة صاحب العمل ، فإن المقاول لا يعتبر تابعاً لصاحب العمل ( استئناف مختلط في 27 أبريل سنة 1899 م 11 ص 196 - وفي 24 يونية 1903 م 15 ص 359 - وفي 22 نوفمبر سنة 1916 م 29 ص 64 - وفي 7 مايو سنة 1925 م 37 ص 415 - وفي 3 يونية سنة 1926 م 38 ص 460 - وفي 3 يناير سنة 1929 م 41 ص 152 - وفي 17 يناير سنة 1929 م 41 ص 182 ) .
وهناك أحكام قضت بأن المقاول يعتبر تابعاً لصاحب العمل متى كان يتبعه اقتصادياً ولو كان مستقلاً عنه في العمل ، كمعلم أنفار يعتبر تابعاً لصاحب العمل أو للمقاول الأصلي ( استئناف مختلط في 7 مايو سنة 1925 م 37 ص 415 - وفي 13 يناير سنة 1927 م 39 ص 170 ) . ولا تعتبر الحكومة متبوعة للمقاول ولا تكون مسئولة عن خطئه إذا تحتفظ إلا بحق الإشراف العام عليه دون أن يكون لها حق التوجيه والإدارة ( استئناف مختلط في 24 فبراير سنة 1949 م 61 من 60 ) ، وكانت الأحكام القديمة تقضى بقيام علاقة التبعية في هذه الحالة ( محكمة استئناف مصر الوطنية في 31 يناير سنة 1937 المحاماة 17 رقم 541 ص 1061 - استئناف مختلط في 24 يونية سنة 1902 م 15 ص 362 - وفي 4 نوفمبر سنة 1914 م 27 ص 8 ) ثم تطورت الأحكام إلى التمييز بين مجرد الإشراف العام فلا تقوم علاقة التبعية والإشراف المصحوبة بالتوجيه والإدارة فتقوم هذه العلاقة ( استئناف مختلط في 3 يناير سنة 1229 م 41 ص 152 - وفي 17 يناير سنة 1929 م 41 ص 182 - وفي 7 يونية سنة 1934 م 46 ص 322 - وفي فبراير سنة 1937 م 49 ص 95 - وفي 17 يونية سنة 1948 م 60 ص 149 - وفي 24 فبراير سنة 1949 م 61 ص 60 وهو الحكم الذي سبقت الإشارة إليه ) ، وقد قضت محكمة النقض في هذا المعنى بأنه إذا أسس الحكم مسئولية الحكومة عن المقاول على مجرد قوله إنها كانت تشرف على عمل المقاول دون أن يبين مدى هذا الإشراف حتى يعرف ما يكون قد وقع من موظفيها من خطأ في عملية المقاولة ، وما أثر هذا الخطأ في سير الأعمال ، وما علاقته بالضرر الذي وقع ، أو هل الإشراف قد تجاوز التنفيذ في حد ذاته واحترام شروط المقاولة مما يؤخذ منه أن الحكومة تدخلت تدخلاً فعلياً في تنفيذ عملية المقاولة بتسييرها المقاول كما شاءت ، فهذا الحكم يكون قاصراً عن إيرادات البيانات الكافية القيام المسئولية ( نقص مدني في 17 أبريل سنة 1941 مجموعة عمر 3 رقم 112 ص 340 ) . وقضت محكمة النقض أيضاً بأن مالك المنزل لا يسأل عن خطأ المانع الذي استأجره لعمل معين إذا كان لم يتدخل معه في إجراء هذا العمل ( نقص مدني في 14 ديسمبر سنة 1939 مجموعة عمر 3 رقم 13 ص 25 ) .
ومتى ثبت أن المقاول ليس تابعاً لرب العمل ، فلا يكون هذا مسئولاً عنه إلا إذا ارتكب خطأ شخصياً بأن عهد بالعمل إلى مقاول لا تتوافر فيه الشروط اللازمة للعمل الفني الذي عهد به إليه فيكون صاحب العمل مسئولاً عن خطئه الشخصي لا عن خطأ المقاول ( استئناف مختلط في 24 يونية سنة 1903 م 15 ص 359 - وفي 10 مايو سنة 1911 م 23 ص 306 - وفي 4 نوفمبر سنة 1914 م 27 ص 7 - وفي 3 يناير سنة 1929 م 41 ص 152 - وفي 17 يناير سنة 1929 م 41 ص 182 ) . ولا يكون المقاول الأصلي مسئولاً عن تابع المقاول من الباطن ( استئناف مختلط في 14 يناير سنة 1897 م 9 ص 118 :ولكن إذا ارتكب المقاول الأصلي خطأ شخصياً كان مسئولاً عنه )
( [1308] ) استئناف مختلط في 9 أبريل سنة 1947 م 59 ص 175 - وإذا كلف الأب ولده تأدية مهمة ، فساق الوالد سيارة لتأدية هذه المهمة ، اعتبر تابعاً لأبيه ( استئناف مختلط في 22 مايوسنة 1940 م 52 ص 281 ) . وإذا أعار الأب ابنه أو ابنته سيارة وكان الابن أو البنت تملك رخصة شخصية للقيادة ، فلا يعتبر أي منهما تابعاً لأبيه ( استئناف مختلط في 29 مارس سنة 1933 م 45 ص 223 - وفي 19 مارس سنة 1931 م 43 ص 302 ) . وكذلك لا يكون الابن تابعاً إذا أعاره أبوه سيارته ولم يكن الابن يقضي مصلحة للأب بل يقضي مصلحة شخصية لنفسه ( استئناف مختلط في 15 يونية سنة 1932 م 44 ص 376 ) ويعتبر الأب مسئولاً عن حادث سيارة ، ولو اشتريت باسم ابنته ، إذا كان سائق السيارة الذي وقع بخطئه الحادث اقر انه مستخدم عند الأب وتبين أن الابنة تقيم ع والديها وليس لها مال ظاهر يسمح بشرائها السيارة ( استئناف مختلط في 22 مايو سنة 1930 م 42 ص 514 ) .
( [1309] ) استئناف مختلط في 8 يونية سنة 1910 م 22 ص 360 - وفي 12 ابريل سنة 1939 م 51 ص 249 - وصاحب " الجراج " مسئول عن أخطاء السائق الذي يستخدمه ( استئناف مختلط في 11 ديسمبر سنة 1946 م 59 ص 73 ) ، حتى لو ذهب هذا وساق السيارة لعميل ليحضرها إلى الجراج ( استئناف مختلط في 8 فبراير سنة 1939 م 51 ص 149 ) .
( [1310] ) ولا تعتبر الشركة مسئولة عن أعمال صاحب عربة تستخدمه للنقل إذا كان مستقلاً في عمله ( استئناف مختلط في 12 يونية سنة 1946 م 59 ص 18 ) . ولكن مالك سيارة الأجرة ( التاكسي ) يكون مسئولاً عن السائق ( استئناف مختلط في 13 نوفمبر سنة 1930 م 43 ص 21 ) .
( [1311] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن الموكل يسأل بالتضامن مع وكليه عن الإجراءات الكيدية التي يباشرها الوكيل ولو بغير إجازة موكله ( 6 مايو سنة 1926 م 38 ص 393 ) . وقضت أيضاً بان الموكل يسأل عن الغش الذي وقع من وكيله ( 4 فبراير سنة 1930 م 42 ص 249 ) . وقضت كذلك بأن الموكل يسأل عن الغش الذي وقع من وكيله ( فبراير سنة 1930 م 42 ص 249 ) . وقضت كذلك بأن المالك مسئول عن الخطأ الذي يرتكبه من يدير ملكه ( 28 يناير سنة 1926 م 38 ص 340 ) . وانظر في المسئولية الموكل عن وكيله الأستاذ مصطفي مرعي بك في المسئولية المدنية فقرة 204 فقرة 208 .
( [1312] ) استئناف مختلط في 28 فبراير سنة 1935 م 47 ص 175 .
( [1313] ) ويكون الصديق في هذه الحالة متبوعاً عرضياً ( commettant occasionnel ) :انظر في مسئولية المتبوع العرضي تعليقاً للدكتور مرقص على الحكم الصادر من محكمة النقض في 15 فبراير سنة 1943 ( القضية رقم 513 قضائية ) في مجلة القانون والاقتصاد 15 ص 545 - ص 558 .
وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا ثبت أن الطاعن قد اختار السائق وكانت له عليه وقت حصول الحادث سلط الأمر والنهي ، ولو لم يكن هو المالك للسيارة ، فإن الحكم بإلزام الطاعن بالتعويض عن خطأ السائق في هذه الحالة يكون صحيحاً ( نقض جنائي في 18 أكتوبر سنة 1949 المحاماة 30 رقم 227 ص 432 ) . ويعتبر صاحب السيارة المعطلة متبوعاً عرضياً لسائق يربط السيارة المعطلة في سيارته ( استئناف مختلط في 28 ديسمبر سنة 1933 م 46 ص 109 ) .
( [1314] ) وقد قضت محكمة النقض بأن وجود علاقة تبعية بين الطبيب وإدارة المستشفي الذي عالج فيه المريض ، ولو كانت علاقة تبعية أدبية ، كاف لتحمل المستشفي خطأ الطبيب ( نقض مدني في 22 يونية سنة 1936 مجموعة عمر 1 رقم 379 ص 1156 ) .
وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن الصيدلي يعتبر تابعاً لصاحب الصيدلية ولو لم يكن هذا فنياً ، لأنه هو الذي أختاره وعليه رقابته ( 16 مارس سنة 1922 م 34 ص 240 ) . ولكن لا يعتبر المقاول متبوعاً لطبيب إذا نظم المقاول عيادة لعماله بالمجان واستخدم فيها الطبيب وكان هذا حائزاً على المؤهلات اللازمة ( استئناف مختلط في 15 فبراير سنة 1911 م 23 ص 183 ) .
( [1315] ) وسنرى فيما يلي ، عند الكلام في أساس مسئولية المتبوع ، أن المتبوع قد يكون غير مميز .
( [1316] ) محكمة استئناف أسيوط في 2 يونية سنة 1927 المحاماة 8 رقم 27 / 3 ص 50 وقد قضت محكمة النقض بأن انتفاء المسئولية المدنية عن التابع ينفيها أيضاً عن المتبوع بطريق التبعية ( نقض مدني في 19 نوفمبر سنة 1934 المحاماة 15 رقم 94 / 1 ص 198 ) وقضت كذلك بأن الحكم ببراءة التابع لجنونه لا يجيز الحكم بالتعويض على متبوعه ( نقض جنائي في 18 مارس سنة 1946 المحاماة 27 رقم 57 ص 99 ) .
( [1317] ) وإذا كانت السيارة في المثل الذي نحن بصدده في حراسة شخص غير التابع والمتبوع كما لو أعار صديق سيارته للمتبوع مع الاحتفاظ بالحراسة ( garde ) ، فدفعها هذا إلى تابعه ودهس بها التابع أحد العابرة ، فِإن المضرور يكون له الرجوع على التابع بمقتضى خطأ يجب إثباته ، ومن ثم يكون له الرجوع على المتبوع . كذلك يكون له الرجوع على صاحب السيارة الذي احتفظ بالحراسة بمقتضى خطأ مفترض ، فإذا رجع عليه دون أن يثبت خطأ في جانب التابع ، فإنه لا يستطيع الرجوع على التابع ما دام لم يثبت في جانبه خطأ ، كما لا يستطيع الرجوع على المتبوع لأن مسئولية التابع لم تتحقق .
( [1318] ) وقد ذهب الأستاذ مصطفي مرعي بك في كتابه " المسئولية المدنية في القانون المصري فقرة 220 - فقرة 229 ) إلى أنه يكفي أن نكون الوظيفة قد سهلت ارتكاب الخطأ أو ساعدت عليه أو هيأت الفرصة لارتكابه ، حتى تتحقق مسئولية المتبوع عن تابعه –واستشهد بأحكام صدرت من محكمة النقض وردت فيها هذه العبارات . ونحن نرى أن هذا توسع لا مبرر له في مسئولية المتبوع . وان محكمة النقض في الأقضية التي فصلت فيها كانت في غنى عن تقرير المبدأ على هذا النحو من السعة ، وسنعود إلى تفصيل ذلك ( أنظر في هذا المعنى الدكتور سليمان مرقص في تعليقه المنشور في مجلة القانون والاقتصاد 13 ص 169 - ص 176 ) .
( [1319] ) ويفصل بعض الفقهاء ما بين هذه الفروض الثلاثة – مجاورة حدود الوظيفة والإساءة في استعمالها واستغلالها - حتى إذا أورد الأمثلة على كل فرض منها ، دق التمييز بينها حتى ينبهم ، وحتى تتدخل الفروض بعضها في بعض ، ويصعب التفريق بين فرض وفرض ( أنظر المسئولية المدنية للأستاذ مصطفي مرعي بك فقرة 220 وما بعدها حيث يستعرض هذه الفروض ، ويأتي بأمثلة لكل فرض يصعب في بعضها تخصيصه لفرض دون آخر )
( [1320] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه لا يشترط أن تكون الجريمة التي تقع من الخادم قد وقعت بتحريض من السيد ، وبأن أساس مسئولية السيد عن أخطاء خادمه قائمة قانوناً على ما يفترض في جانب المتبوع من الخطأ والتقصير في اختيار التابع أو في رقابته ، وهذا النوع من المسئولية لا يشترط فيه تحريض من السيد ولا صدور أي عمل إيجابي منه ( نقض جنائي في 6 نوفمبر سنة 1939 المحاماة 20 رقم 201 ص 583 ) .
( [1321] ) وقد قضت محكمة النقض بأن مسئولية المتبوع تتحقق حتى لو كان غائباً وغير عالم بجريمة التابع ( نقص جنائي في 6 نوفمبر سنة 1939 المحاماة 20 رقم 201 ص 583 وهو الحكم الذي سبقت الإشارة إليه –قارن نقض جنائي في 29 مارس سنة 1931 المحاماة 12 رقم 59 ص 105 ) .
( [1322] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه يكفي لتطبيق المادة 152 من القانون المدني ( القديم ) أن يقع الخطأ المنتج للضرر من خادم وان يكون الخطأ قد وقع أثناء تأدية لخادم عمله ، فمتى توافرت هذه الشروط ثبتت مسئولية السيد بحكم القانون ، وبغير حاجة إلى البحث فيما إذا كان السيد قد احسن أو أساء اختيار خادمه ومراقبته ، أو أن الخادم خالف أمر سيده ، لان هذه المسئولية إنما هي مسئولية مفترضة افتراضاً قانونياً ( نقض مدني في 12 نوفمبر سنة 1936 مجموعة عمر 2 رقم ص 81 ) . وقضت محكمة الاستئناف الوطنية بان السيد متولي ولو كان الخادم ارتكب العمل رغماً من أوامر سيده ( استئناف في 2 فبراير سنة 1925 المحاماة 5 رقم 609 / 3 ص 737 ) ، وقضت أيضاً بأن مسئولية المتبوع تتحقق طالما كان العمل متصلاً بعمل التابع ، ولو كان ناشئاً عن سوء استعماله لمهام وظيفته أو عن إغفاله أوامر سيده ( استئناف في 7 فبراير سنة 1928 المحاماة رقم 521 / 2 ص 866 ) .
( [1323] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه متى ارتكب الخادم الخطأ أثناء تأدية عمله ، وسواء كان هذا الخطأ ناشئاً عن باعت شخصي له أو عن الرغبة في خدمة السيد ، فقد ترتبت مسئولية السيد ، فقد ترتبت مسئولية السيد مدنياً عن هذا الخطأ ( نقص جنائي في 8 نوفمبر سنة 1937 المحاماة 18 رقم 219 ص 420 - وفي 22 أبريل سنة 1940 المحاماة 21 رقم 18 ص 19 - وفي 27 يناير سنة 1941 المحاماة 21 رقم 359 ص 852 - قارن نقض جنائي في 10 أبريل سنة 1933 المحاماة 14 رقم 3 / 1 ص 4 - محكمة مصر الوطنية في 12 مايو سنة 1927 المحاماة 7 رقم 481 ص 829 - استئناف مختلط في 20 ديسمبر سنة 1923 م 36 ص 104 - وفي 14 ديسمبر سنة 1933 م 46 ص 85 ) .
( [1324] ) وضمنا الشرط الذي يجب توافره لتحقق مسئولية المتبوع في هذه الصيغة عمداً ، إذ لا يكفي أن يقال –كما يقال عادة –أنه لولا الوظيفة لما وقع الخطأ ، بل يجب أن يثبت أيضاً أنه لولا الوظيفة لما استطاع التابع أن يرتكب الخطأ أو لما فكر في ارتكابه .
( [1325] ) وقد قضت محكمة النقض أن الخفير الذي يطلق في رعونة عياراً نارياً في أثناء حراسته ليلاً فيصيب شخصاً يكون قد ارتكب خطأ يجعل الحكومة مسئولة عنه ( نقض جنائي في 2 فبراير سنة 1925 المحاماة 5 رقم 609 ص 737 ) . وقضت أيضاً بأن سائق السيارة إذا تركها وبها مفتاح الحركة في عهدة تابع أخر لمخدومه ( خفير زراعة ) فعبث هذا التابع الذي يجهل القيادة بالمفتاح ، فانطلقت السيارة على غير هدى وأصابت المجني عليهما ، يكون قد ارتكب خطأ وهو يقوم بعمل من أعمال وظيفته ، وهو حفظ السيارة من أن يبعث بها ، ويكون المخدوم مسئولاً عن ذلك ( نقض جنائي في 23 ديسمبر سنة 1940 المحاماة 21 رقم 307 ص 702 ) وقضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأن الممرض الذي يعمل في خدمة مستشفي ، إذا أخطأ فأعطى المريض سماً بدلا من الدواء ، وترتب على هذا الخطأ موت المريض ، يكون قد ارتكب الخطأ في عمل من أعمال وظيفته ، وتكون إدراة المستشفي مسئولة عنه 0 استئناف مصر في 29 فبراير سنة 1919 المجموعة الرسمية 22 رقم 36 ص 67 ) وقضت أيضاً بان المحضر الذي يبطئ في إعلان صحيفة الاستئناف ، ويترتب على ذلك عدم قبول الاستئناف يكون قد أخطأ في عمل من أعمال وظيفته ، وتكون الحكومة مسئولة عنه ( استئناف مصرفي 20 نوفمبر سنة 1932 المحاماة 13 رقم 356 ص 720 ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن البواب ، إذا تهاون فمكن لصاً من سرقة مال أحد المستأجرين ، يكون قد ارتكب خطأ في عمل من أعمال وظيفته ، ويكون المالك مخدومه مسئولاً عنه ( استئناف مختلط في 27 ديسمبر سنة 1928 م 41 ص 140 ) .
( [1326] ) نقض جنائي في 27 يناير سنة 1941 مجموعة عمر لأحكام النقض الجنائية 5 رقم 196 ص 369 .
ومع ذلك فقد قضت محكمة النقض في حكم آخر بأنه إذا ارتكب الموظف حال قيامه بوظيفته خطأ بدفع شخصي من انتقام أو حقد أو نحوها ، فالموظف وحده هو الذي يجب أن يسأل عما جر إليه من الضرر بالغير ، فإذا ذهب الخفير مع العمدة لإبطال السواقي التي كانت تدار لري الشراقي ، وأبطلا الساقية التي كان يديرها المجني عليه وولده ، غير أنه بعد انصراف العمدة والخفراء عاد الخفير الأول وأصر على أن يعطل ساقية المجني عليه ، فخلع الجازية وخلع الطين المثبت بها بواسطة فأس صغيرة ، ولما اعترضه المجني عليه ضربه عمداً بيد الفأس ، فكان ذلك سبباً في وفاته ، كان في كل هذا ما يشعر بجواز أن يكون الخفير إنما اعتدى على المجني عليه بدافع الانتقام إرضاء لضغينة سابقة ( نقض جنائي في 10 يناير سنة 1933 المحاماة 14 رقم 4 ص 5 - وأنظر نقداً لهذا الحكم في كتاب المسئولية المدنية للأستاذ مصطفي مرعي بك ص 201 - ص 203 )
( [1327] ) محكمة الاستئناف الوطنية في 18 نوفمبر سنة 1914 الشرائع 2 رقم 116 ص 115 .
( [1328] ) نقض مدني في 28 نوفمبر سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 115 ص 260 . ومع ذلك فقد قضت محكمة جنايات أسيوط في 11 أغسطس سنة 1923 ( المحاماة 5 رقم 32 ص 31 ) بأنه إذا انطلق عيار ناري من بندقية الخفير وهو بعيد عن دركه الرسمي ، لغير عمل رسمي ، وكان الخفير محمل البندقية معبأة في غير الأحوال التي نصت عليها التعليمات ، فلا مسئولية على الحكومة .
( [1329] ) نقض جنائي في 22 مارس سنة 1937 مجموعة عمر لأحكام النقض الجنائي 4 رقم 62 ص 56 .
( [1330] ) نقض جنائي في 22 أبريل سنة 1940 المحاماة 21 رقم 18 ص 19 .
( [1331] ) محكمة الاستئناف الوطنية في 18 يولية سنة 1907 المجموعة الرسمية 9 رقم 17 ص 42 . ويقرب من هذا ، ما قضت به محكمة النقض الفرنسية أن إدارة السكك الحديدية مسئولة عن خطأ الكمساري الذي يستغل وظيفته في تهريب مسروقات من بلد إلى آخر ( نقض فرنسي في 22 مارس سنة 1907 - 1 - 473 )
( [1332] ) نقض جنائي في 23 ديسمبر سنة 1940 المحاماة 21 رقم 307 ص 702 . وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم وذكرت محكمة النقض في أسباب حكمها ما يأتي : " إن إصابة المجني عليهما قد سببت عن خطأ السائق أثناء قيامه بعمله عند مخدومه وخطأ الخفير وهو يؤدي عملاً لسيده ما كان يؤديه لو لم يكن خفيراً عنده "
ومع ذلك فقد قضت محكمة النقض بأنه إذا كان الخادم ، وهو السائس لا السائق ، غير مكلف من قبل مخدومه بقيادة السيارة وكان أجنبياً عن هذه الخدمة ، فاستعمل السيارة في غفلة من المخدوم ، وصدم بها شخصاً فقتله ، فإن المخدوم لا يكون مسئولاً عن فعله ( نقض جنائي في 29 مارس سنة 1931 المحاماة 12 رقم 59 ص 105 - وانظر نقداً لهذا الحكم للأستاذ مصطفي مرعي بك في المسئولية ص 195 س 196 )
( [1333] ) ؟؟؟ أن الفراش لم يكن يفكر في ارتكاب الخطأ ؟؟؟ ؟؟ .
( [1334] ) وقد دافع الأستاذ مصطفي مرعي بك عن هذا المعيار دفاعاً شديداً ( أنظر كتابه في المسئولية المدنية فقرة 229 بوجه خاص ) .
( [1335] ) أنظر في هذا المعنى تعليق الدكتور سليمان مرقص في مجلة القانون والاقتصاد 13 ص 169 – ص 178 .
( [1336] ) أنظر تعليق الدكتور سليمان مرقص في مجلة القانون والاقتصاد 13 ص 155 وما بعدها ، وهو التعليق الذي سبقت الإشارة إليه . وأنظر تعليقاً آخر له في مجلة القانون والاقتصاد . 17 العدد الثاني .
( [1337] ) وقد رأينا فيما تقدم ( فقرة 682 في الهامش ) أنه لا يكفي القول بأنه لولا الوظيفة لما وقع الخطأ . فهذه العبارة لا تفيد أكثر من قيام علاقة السببية المباشرة ما بين الوظيفة والخطأ ، ولا تفهم منها حتماً أن الوظيفة كانت ضرورية لإمكان وقوع الخطأ .
( [1338] ) جنايات المنصورة في 15 يناير سنة 1930 المحاماة 11 رقم 214 ص 378 .
( [1339] ) نقض جنائي في 7 مايوسنة 1931 المحاماة 12 رقم 148 ص 267 .
( [1340] ) نقض جنائي في 5 يناير سنة 1925 المحاماة رقم 503 ص 606 وقضت محكمة بني سويف في هذا المعنى بأنه إذا تضارب عمدة مع شخص آخر ، فاعتدي خادم العمدة على هذا الشخص الآخر ، كان العمدة مسئولاً عن فعل خادمه ( بني سويف في 31 يناير سنة 1921 المحاماة 2 رقم 94 ص 292 ) .
( [1341] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 23 مايو سنة 1900 م 12 ص 274 . أنظر أيضاً استئناف مختلط في 20 مايو سنة 1903 م 15 ص 307 .
( [1342] ) نقض جنائي في 8 نوفمبر سنة 1937 مجموعة عمر لأحكام النقض الجنائية 4 رقم 109 ص 90 .
( [1343] ) استئناف مختلط في 19 أبريل سنة 1934 م 46 ص 264 . كذلك يكون عامل النقل مسئولاً عن عمل سائق عنده هتك عرض طفله كان مكلفاً بنقلها ( محكمة السين الفرنسية في 28 مايوسنة 1873 داللوز 1873 - 3 - 7 ) ، وعن سرقة عامل عنده لمتاع أحد الركاب ( محكمة السين الفرنسية في 24 فبراير سنة 1909 داللوز 1909 - 5 - 75 ) .
( [1344] ) وقد رأينا أن التابع يعتبر قد ارتكب خطأ بسبب وظيفته ، سواء حرضه المتبوع على هذا الخطأ أو لم يحرضه ، وسواء علم المتبوع بالخطأ أو لم يعلم ، وسواء عارض فيه أو لم يعارض . ورأينا كذلك أن الخطأ يكون بسبب الوظيفة حتى لو دفع التابع إلى ارتكابه حافز شخصي .
وبقي أن تقرر أن مسئولية المتبوع تنتفي ، ولو كان الخطأ بسبب الوظيفة ، إذا تبين أن المضرور قد عامل التابع وهو عالم بمجاوزته حدود وظيفته ، فإن المضرور في هذه الحالة يكون قد عامل التابع بصفته الشخصية لا باعتباره تابعاً . وقد قضت محكمة النقض بأن معاملة التابع مع العلم بأنه لا يعمل لحساب متبوعه لا يجعل المتبوع مسئولاً ، كمستخدم في مصرف عومل على اعتبار أنه يعمل لحساب نفسه ، فلا يكون المصرف مسئولاً عنه ( نقض جنائي في 11 نوفمبر سنة 1946 المحاماة 27 رقم 114 ص 296 ) . فلو أن سائق السيارة انفق مع صديق له على أن يختلس السيارة من سيده للتنزه بها معا ، وارتكب السائق خطأ كان سبباً في إصابة صديقه ، لم يكن صاحب السيارة مسئولاً عن هذا الخطأ ( الدكتور سليمان مرقص في الفعل الضار فقرة 96 ص 111 - أنظر تعليقاً له في مجلة القانون والاقتصاد 13 ص 180 - وانظر استئناف مختلط في 5 يناير سنة 1916 م 28 ص 91 - وفي 16 مارس سنة 1932 م 44 ص 228 )
( [1345] ) وقد رأينا أن المشروع التمهيدي للقانون المدني الجديد قد جاري محكمة النقض فيما درجت عليه من توسع يجاوز الحاجة ، فنصت الفقرة الأولي من المادة 242 من هذا المشروع على أن يكون المتبوع مسئولاً عن الضرر الذي يحدثه تابعه بعمله غير المشروع أثناء تأدية الوظيفة التي عهد بها إليه ، ويكون مسئولاً كذلك إذا كانت الوظيفة قد هيأت الفرصة للتابع في ارتكاب العمل غير المشروع حتى لو لم يكن هذا العمل من بين أعمال تلك الوظيفة " . وكذلك فعل المشروع النهائي والمشروع الذي اقره مجلس النواب ولجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ هي التي أدخلت هذا التعديل الموفق على النص ، فجعلت " المتبوع مسئولاً عن الضرر الذي يحدثه تابعه بعمله غير المشروع متى كان واقعاً منه في حال تأدية وظيفته أو بسببها " ، وان كانت قد ذكرت في تقريرها أنها آثرت " أن تنسج على منوال التقنين الحالي ( القديم ) في التعبير إبقاء على ما أنتهي إليه القضاء من نتائج في تفسير نص المادة 152 من القانون الحالي ( القديم ) " . فلم تكن تحس وقت أن أدخلت هذا التعديل مقدار ما أصابت من التوفيق ( أنظر مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 413 - ص 420 ) .
( [1346] ) نقض مدني في 14 مايو سنة 1942 مجموعة عمر 3 رقم 156 ص 436 . وقد قرر هذا الحكم أن أحكام مسئولية المتبوع عن التابع واحدة في القانونين المصري والفرنسي ، ثم بحث عن الأساس الذي تقوم عليه هذه المسئولية . فقال في هذا المعنى إن المادة 152 من القانون المدني ( القديم ) تقتضي لمساءلة المخدوم أن يكون الضرر الذي أصاب الغير ناشئاً عن فعل الخادم في حال تأدية وظيفته ( en exerqant ses fonetions ) تلك العبارة التي يقابلها في المادة 1384 من القانون الفرنسي ( dans les fonctions auxquelles ils ont employes ) والعبارتان مؤداهما وأحد ، ولا فرق بينهما إلا من حيث أن النص في القانون المصري قد لوحظ فيه دقة التعبير عن المعني المقصود . والمادة المذكورة إذ جعلت المسئولية تتعدى إلى غير من أحدث الضرر قد جاءت استثناء من القاعدة العامة التي مقتضاها ، بناء على المادة 151 من القانون المدني ( القديم ) أن الذي يلزم بالتعويض هو محدث الضرر . وهذا الاستئناف –على كثرة ما قيل في صدد تسوقه - أساسه أن شخصية المتبوع تتناول بحيث يعتبران شخصاً واحداً لذلك يكون من المتعين عدم الأخذ بهذا الاعتبار إلا في الحدود المرسومة في القانون ، وهي أن يكون واقعاً أثناء قيامه بوظيفته وبما أن مسئولية المخدوم عن خطأ خادمه ، وإن كان محل خلاف من حيث وجوب اتصال الفعل الضار بالوظيفة إذا كان قد وقع أثناء القيام بها او عدم وجوب اتصاله بها ، إلا أنه لا جدال في أن الحادث الموجب للمسئولية يجب أن يكون قد افترضه التابع في وقت لم يكن قد تخلي فيه عن عمله عند المتبوع وانقطعت الصلة بينهما لو موقتاً وأصبح التابع بذلك حراً يفعل ما يريد ويتصرف كما يشاء تحت مسئوليته وحده . ذلك لأن مسئولية المتبوع إنما تقوم على ما للسيد من حق إصدار أوامره وتعليماته إلى تابعه والتمكن من ملاحظته في تنفيذ ما عهد به إليه . فإذا انفلت هذا الزمام من يد المتبوع كان التابع غير قائم بوظيفته ، وكان المتبوع من ثم غير مسئول عن تصرفاته بحال ما .
ومهما يكن من وجاهة هذه الأسباب ، فإن هناك محلاً للتحفظ في هذه القضية . ذلك أن القتيل كان رئيسياً لعمال المصنع ، وقد قتلوه انتقاماً منه ، لضربه واحداً منهم لاحظ عليه مخالفته للتعليمات . فيمكن القول أن العمال ما كانوا ليفكروا في ارتكاب جريمتهم لولا الوظيفة ، ويكون الخطأ الذي صدر منهم قد وقع بسبب الوظيفة ، فتقوم مسئولية صاحب المصنع باعتباره مخدوماً للعمال .
( [1347] ) جنايات طنطا في 5 فبراير سنة 1924 المحاماة 5 رقم 33 ص 34 . كذلك لا يكون المخدوم مسئولاً إذا سرق خادمه متاعاً من المنزل الذي يقيم فيه بعيداً عن سيده ، أو سرق شيئاً من مطعم يتردد عليه ، أو بدد وديعة أو ثمن عليها بصفته الشخصية ( الأستاذ مصطفي مرعي بك في المسئولية المدنية فقرة 230 ص 207 )
( [1348] ) استئناف مختلط في 3 مايوسنة 1905 م 17 ص 257 . وقد تكون " البندقية " التي كان الحارس يصطاد بها سلمت له بحكم عمله ، فتكون الوظيفة قد ساعدت على ارتكاب الخطأ ، وتنتقل بذلك من خطأ أجنبي عن الوظيفة إلى خطأ بمناسبة الوظيفة ، ولكن في الحالتين لا مسئولية على المتبوع .
( [1349] ) استئناف مختلط في 2 مايوسنة 1906 م 18 ص 231 - وانظر أيضاً محكمة مصر التجارية المختلطة في 28 مارس سنة 1930 جازيت 20 رقم 200 ص 192 .
( [1350] ) أنظر في هذا المعني الأستاذ مصطفي مرعي بك في المسئولية المدنية فقرة 230 - وقد أورد مثل من يرسل خادمه ليشتري له شيئاً من السوق ، فيتشاجر الخادم في الطريق مع آخر ويعتدي عليه ، فلا يكون المخدوم مسئولاً . وأورد أيضاً مثل الموظف يستقبل في مكتبه وفي وقت عمله دائناً له ، وتقوم مشادة بين الاثنين بسبب الدين ، فيعتدي الموظف على الدائن بالضرب ، فلا يكون المخدوم مسئولاً .
( [1351] ) وقد كنا نأخذ برأي آخر في الموجز ( فقرة 353 ) ، فكنا نقول بأن مسئولية المتبوع عن تابعه مبينة على خطأ مفترض افتراضاً لا يقبل إثبات العكس .
( [1352] ) أنظر آنفاً فقرة 671 في الهامش .
( [1353] ) وقد كنا ، كما سبق القول ، ممن يقول بهذا الرأي ، وقد جاء في الموجز ( فقرة 353 ) في هذا الصدد ما يأتي : " مسئولية المتبوع عن تابعه ، في الحدود التي بيناها ، مبينة على خطأ في " التوجيه والرقابة " ، وهو خطأ مفروض في جانب المتبوع لا يكلف المدعي بإثباته . وليس على هذا إلا أن يثبت خطأ التابع ، فيفرض أن المتبوع قد قصر في توجيه تابعه أو في رقابته حتى وقع منه هذا الخطأ والخطأ المفروض في جانب المتبوع لا بقبل إثبات العكس ، فلا يجوز للمتبوع أن يتخلص من المسئولية بإثبات أنه اتخذ جميع الاحتياطات المعقولة لتوجيه تابعه والرقابة على أعماله كما يستطيع ذلك من يتولى رعاية شخص آخر فيما قدمناه " أنظر أيضاً الدكتور حشمت أبو ستيت بك في نظرية الالتزام فقرة 509 ( وهو ينتهي بأن هذه المسئولية لا يمكن ردها إلى أساس من المنطلق مستقيم ، ولا مناص من التسليم بها كما أرادها القانون والقضاء ) . وانظر كذلك الأستاذ مصطفي مرعي بك في المسئولية المدنية فقرة 232 . وقد صدرت من حكمة النقض أحكام كثيرة في معنى الخطأ المفترض . من ذلك ما قضت به هذه المحكمة من أن " ضمان السيد يقوم قانوناً على مظنة خطئه في اختياره خادمه وفي مراقبته إياه خطأ من المخدوم في اختيار الخادم أو في مراقبته ولا يعفى السيد من الضمان إلا إذا أثبت أن الحادث الضار قد نشأ عن قوة قاهرة لا شأن فيها لخادمه أو عن خطأ المجني عليه نفسه " ( نقض جنائي في 27 مارس سنة 1930 المجموعة الرسمية 31 ص 67 - ويلاحظ ان المحكمة هنا قد أعفت المتبوع من المسئولية عند ما ينفي هذه المسئولية لا عن نفسه هو بل عن تابعه ، فتنفي المسئولية عن المتبوع لا اعتداء بل معاً لا نتفائها عن التابع - انظر نقض جنائي في 7 نوفمبر سنة 1932 مجموعة عمر لأحكام النقض الجنائية 3 رقم 1 ص 1 ) ومن ذلك أيضاً ما قضت به من أن " هذه المسئولية ( مسئولية المتبوع ) مفترضة افتراضاً قانونياً " ( نقض مدني في 12 نوفمبر سنة 1936 مجموعة عمر 2 رقم 5 ص 8 ) ، وما قضت به من " أن أساس مسئولية السيد عن أخطأ خادمه قائمة قانوناً على ما يفترض في جانب المتبوع من الخطأ والتقصير في اختيار التابع أو في رقابته " ( نقض جنائي في 6 نوفمبر سنة 1939 المحاماة 2 رقم 201 ص 583 ) ، وما به من أن المتبوع يجب أن يسأل على أساس إساءة الخدم استعمال شؤون الخدمة التي عهد هو بها إليهم ، متكفلاً بما افترضه القانون في حقه من وجوب مراقبتهم وملاحظتهم في كل ما تعلق به " ( نقص جنائي في 22 أبريل سنة 1940 المحاماة 21 رقم 18 ص 19 - وانظر أيضاً في هذا المعني :نقض جنائي في 27 يناير سنة 1941 المحاماة 21 برقم 359 ص 852 ) وما قضت به من أن مسئولية السيد أساسها خطأه بسوء اختيار من عهد إليهم بخدمته وبتقصيره في مراقبتهم ، وهذه ( المسئولية ) ليست إلا تطبيقاً خاصاً لقواعد المسئولية الشخصية ، إلا أن الشارع قد أراد أن يجعل من خطأ الخادم قرينة قاطعة على خطأ سيده ، فلم يغنه عموم نص المادة 151 ( القديمة ) ( نقض مدني في 28 نوفمبر سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 115 ص 260 ) .
وجاء في الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجديد ما يفيد أن مسئولية المتبوع مبينة على خطأ مفترض ، من ذلك ما ورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي من " أن المشروع جعل من الخطأ المفترض أساساً لهذه المسئولية . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 414 ) . ومن ذلك ما وقع في لجنة المراجعة من أن أحد أعضاء هذه اللجنة أثار مسئولية المتبوع إذا كان غير " فأحسب بأنه ما دامت المسئولية مبنية على خطأ مفترض فلا يتصور افتراض الخطأ في عمر مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 5 القانون المدني بمجلس الشيوخ أن " خطأ الخادم مفروض فيه انه يرجع لسوء اختياره من قبل السيد ، فالخطأ مفروض فرضاً غير قابل لإثبات العكس ، وهذا هو ما أجمع عليه القضاء " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 419 - أنظر أيضاً ص 418 ) . ولا نظن أن الأعمال التحضيرية ، على صراحتها في أن مسئولية المتبوع تقوم على خطأ مفترض ، تقيد الفقه في اجتهاده ، إذا هو ذهب إلى أساس آخر لهذه المسئولية في ظل القانون الجديد .
ومن الفقهاء الفرنسيين الذين يقولون بالخطأ المفترض بودرى وبارد 4 فقرة 2911 - ديمولومب 8 فقرة 610 - لوران 20 فقرة 570 وما بعدها –بيدان فقرة 1211 ومن ذلك نرى أن الخطأ المفترض هو الرأي التقليدي في فرنسا في هذه المسألة . وانظر في الأحكام الفرنسية التي أخذت بهذا الرأي مازو 1 فقرة 931 في الهامش .
( [1354] ) وقد رأينا أن متولي الرقابة يستطيع التخلص من المسئولية على هذا الوجه ، كما يستطيع التخلص بإثبات أنه قام بواجب الرقابة ( أنظر أنفاً فقرة 673 ) ، لأن افتراض الخطأ في جانبه قابل لإثبات العكس ، فيستطيع نفي المسئولية بإثبات العكس كما يستطيع نفيها بنفي علاقة السببية .
( [1355] ) أنظر في هذا المعني :نقض جنائي في 27 مارس سنة 1930 المجموعة الرسمية 31 ص 67 . وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم والى هذه الملاحظة .
( [1356] ) وقد كان المشروع التمهيدي للقانون الجديد يتضمن نصاً بهذا المعني ( الفقرة الثالثة من المادة 242 من هذا المشروع ) ، وقد حذفته لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، وان كانت قد ذكرت في تقريرها سبباً لهذا لحذف أن حم الفقرة المحذوفة " يقضي إلى جعل قرينة المسئولية من قبيل القرائن البسيطة في هذه الحالة ، ولا محل للعدول عما قرره القانون الحالي ( القديم ) من جعل هذه القرينة قاطعة لا تسقط بإثبات العكس " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 420 ) وقفي هذه الخطأ واضح بين نفي الخطأ ونفي علاقة السببية .
( [1357] ) على أن هناك من التقنيات الحديثة ما يقيم مسئولية المتبوع على خطا مفترض ، بلا لا يتشدد في هذا الافتراض إلى حد أن يجعله غير قابل لإثبات العكس ، فيجيز للمتبوع نفي الخطأ ( أنظر في هذا المعني التقنين الألماني م 831 وتقنين الالتزامات السويسري م 55 والتقنين الصيني م 188 . ويصل التقنين النمساوي م 1385 إلى حد انه يجعل المضرور مطالباً بإثبات الخطأ في جانب المتبوع ) . ويمكن القول أن التقنيات الجرمانية أكثر تساهلاً في مسئولية المتبوع من التقنيات اللاتينية ، فهذه لا تجيز للمتبوع حتى أن ينفي علاقة السببية ( أنظر التقنين الفرنسيم 1384 فقرة ثالثة – المشروع الفرنسي الإيطالي م 79 - التقنين المصري القديم م 152 / 214 - التقنين المصري الجديد م 174 - تقنين كويبك م 1054 فقرة 7 - وعلى هذا النهج سار التقنين البولوني م 144 ) .
( [1358] ) أنظر آنفاً فقرة 679 في آخرها .
( [1359] ) قضت محكمة النقض بأن القاصر يسأل في ماله عن خطأ خادمه عملاً بالمادة 152 مدني ( قديم ) ، ولا يحمل عنه وصية هذه المسئولية ( نقض مدني 12 نوفمبر سنة 1936 مجموعة عمر 5 ص 8 ) . وقضت أيضاً بأن المادة 152 ص القانون المدني ( القديم ) ، إذ نصت بصيغة مطلقة على أنه " يلزم السيد بتعويض الضرر الناشئ للغير عن أفعال خدمه متى كان واقعاً منه في حال تأدية وظائفهم ، فقد أفادت أنه لا يقتضي ثبوت أي تقصير أو إهمال من جانب المتبوع الذي يلزم بالتعويض ، بل يكفي لتطبيقها أن يكون الخطأ المنتج للضرر قد وقع من التابع أثناء تأدية وظيفته لدى المتبوع . وإذن فيصح بناء على هذه المادة مساءلة القاصر عن تعويض الضرر الذي ينشأ عن أفعال خدمه الذين عينهم له وليه أو وصيه أثناء تأدية أعمالهم لديه . ولا يرد على ذلك بأن القاصر بسبب عدم تمييزه لصغر سنه لا يتصور أي خطأ في حقه ، إذ المسئولية هنا ليست عن فعل وقع من القاصر فيكون للادراك والتمييز حساب ، وإنما هي عن فعل رقع من خادمه أثناء تأدية أعماله في خدمته ( نقض جنائي في 25 مايو سنة 1942 المحاماة 23 رقم 95 ص 212 ) .
أما ورد في الأعمال التحضيرية ، وسبقت الإشارة إليه ، من أنه عندما أنيرت مسألة المتبوع إذا كان غير مميز في لجنة المراجعة ، " فأجيب بأنه ما دامت المسئولية مبنية على خطأ مفترض فلا يتصور افتراض الخطأ في جانب غير المميز ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 415 ) ، فلا يعتبر تفسيراً لأحكام القانون المدني الجديد في هذه المسألة .
( [1360] ) جوسران 2 فقرة 513 - ديموج 5 فقرة 882 - سافاتييه 1 فقرة 284 وما بعدها –دالانDallant ) في تعليقه في داللوز 1931 - 1 - 171 - بلانيول في المجلة لانتقادية سنة 1909 .
وانظر أيضاً محكمة الاستئناف المختلطة في 7 مايو سنة 1925 م 27 ص 415 .
( [1361] ) أنظر في هذا المعني ريبير في القاعدة الأدبية في الالتزامات المدنية فقرة 126 - بيسون في تعليقه في داللوز 1928 - 2 - 13 - شوفو فقرة 23 - الدكتور حلمي بهجت بدوي بك في مسئولية المتبوع عن فعل تابعه ، رسالة باللغة الفرنسية سنة 1929 ص 48 وما بعدها .
( [1362] ) انظر في هذا المعني محكمة الاستئناف المختلطة في 14 ديسمبر سنة 1933 م 46 ص 85 - محكمة النقض الفرنسية في 11 مايو سنة 1846 داللوز 1846 - 1 - 192 .
( [1363] ) انظر في هذا المعني مازو 1 فقرة 93 - تيسير ( Teisseire ) رسالة من أكس سنة 1901 ص 256 - كولان وكابيتان ودي لامورانديير 2 فقرة 350 - بلانيول وربير 2 فقرة 112 - الدكتور سليمان مرقص في الفعل الضار ص 115 ( ويرى أن أساس مسئولية المتبوع إذا كان خطأ التابع قد وقع في تأدية الوظيفة هو الخطأ المفترض ، وإذا كان الخطأ قد وقع مجاوزا لحدود الوظيفة كان الأساس إما فكرة الحلول أو فكرة الضمان أو فكرة التبعة ) .
( [1364] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة في هذا المعني بأن المتبوع يكون مسئولاً قانوناً عن خطأ تابعه ولو لم يرتكب هو أي خطأ شخصي ، فإن خطأ التابع يعتبر كأنه خطأ المتبوع ( استئناف مختلط في 4 فبراير سنة 1937 م 49 ص 95 ) .
وقضت النقض في حكم لها بأن أساس مسئولية المتبوع هو فكرة الحلول ، فقالت أن المادة المذكورة ( م 152 مدني قديم ) إذ جعلت المسئولية تتعدى إلى غير من احدث الضرر قد جاءت استئناف من القاعدة العامة التي مقتضاها ، بناء على المادة 151 من القانون المدني القديم أن الذي يلزم التعويض هو محدث الضرر . وهذا الاستثناء – على كثرة ما قيل في صدد تسويغه - أساسه أن شخصية المتبوع تتناول التابع بحيث يعتبران شخصاً واحداً " ( نقض مدني تسويغه - أساسه أن شخصية المتبوع تتناول التابع بحيث يعتبران شخصاً واحداً " . ( نقض مدني في 14 مايو سنة 1942 مجموعة عمر 3 رقم 156 ص 436 ) .
( [1365] ) وقد قضت محكمة إسكندرية الكلية الوطنية بأنه إذا وقعت جريمة من خادم باشتراكه مع آخر كان المخدوم مسئولاً أمام المجني عليه من كامل التعويض المستحق عن الجريمة " سواء رفعت الدعوى عليه بمفرده أو رفعت عليه مع خادمه أو عليه مع شريك خادمه أو عليهم جميعاً بالتضامن ( إسكندرية الكلية الوطنية في 29 أكتوبر سنة 1932 المحاماة 13 رقم 443 ص 903 ) .
( [1366] ) أنظر تاريخ النص آنفاً ( فقرة 674 في الهامش ) .
( [1367] ) وقد سبق أن أشرنا إلى أن مسئولية المتبوع هي وحدها التي تتمحض مسئولية عن الغير " أما مسئولية متولي الرقابة فهي مسئولية ذاتية تنتهي إلى أن تكون مسئولية عن الغير . فهي إذن ابتداء مسئولية ذاتية ، وانتهاء عن الغير . أما مسئولية المتبوع فمسئولية عن الغير ابتداء وانتهاء .
( [1368] ) وقد قضت محكمة النقض في هذا المعنى بأن القانون يعتبر المخدوم مسئولاً عن الفعل الضار الذي يقع من خادمه أثناء خدمته ، وهذا الاعتبار ميناه مجرد افتراض قانوني في حق المخدوم لا يتحقق إلا بالنسبة لمن وقع عليه الضرر ، ولا يمكن أن يستفيد منه الخادم إلا إذا أقام الدليل على وقوع خطأ من جانب مخدومه أيضاً . فإذا كان المخدوم لم يقع منه أي خطأ ، فإنه يحق له أن يطلب تحميل خادمه هو والمتهمين معه ما ألزم بدفعه للمدعي بالحقوق المدنية تنفيذاَ للحكم الصادر بالتضامن معهم لأن هذا التضامن لم يقرره القانون إلا لمصلحة من وقع عليه الضرر وان تقدير حصة كل ممن اشتركوا في إحداث الضرر يجب بحسب الأصل أن يكون المناط فيه مبلغ جسامة الخطأ الذي ساهم به فيما أصاب المضرور إذا كانت وقائع الدعوى تساعد على تقدير الأخطاء على هذا الأساس . أما إذا كان ذلك ممتعاً ، فإنه لا يكون ثمة من سبيل إلا اعتبار المخطئين مسئولين بالتساوي عن الضرر الذي تسببوا فيه ( نقض جنائي في 19 مايو سنة 1941 المحاماة 22 رقم 79 ص 237 ) .
( [1369] ) أنظر الأستاذ مصطفي مرعي بك في المسئولية المدنية فقرة 234 ص 214 - وقد أشار إلى حكم في هذه المعنى لمحكمة النقض قضت فيه " بأنه إذا رفعت دعوى تعويض على متهم عما أحدثه من أضرار المدعى بالحق المدني وعلى وزارة الداخلية بالتضامن مع المتهم لأنه من رجالها وهي مسئولية عن أفعال رجالها ومتضامنة معهم في تعويض كل ضرر يحدث منهم أثناء تأدية وظائفهم ، فللحكومة أن توجه دعوى الضمان الفرعية إلى المتهم في حالة الحكم للمدعين بالتعويض فإذا قضت المحكمة بعدم قبول دعوى الضمان الفرعية بحجة أنها سابقة لأوانها ، كان قضاؤها بذلك خاطئاً في تطبيق القانون ، ويتعين نقصه " . ( نقص جنائي في 25 مايو سنة 1936 مجموعة عمر لأحكام النقض الجنائي 3 رقم 475 ص 604 ) .
( [1370] ) بعض المراجع :مازو 2 فقرة 1071 - فقرة 1137 - بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 592 - فقرة 606 - بلانيول وريبير وبولانجييه 2 فقرة 1058 وفقرة 1063 - فقرة 1083 - كولان وكابيتان ولامورانديير 2 فقرة 357 - فقرة 361 - جوسران 2 فقرة 515 - فقرة 523 - الموجز للمؤلف فقرة 355 - فقرة 358 - الأستاذ مصطفي مرعي بك في المسئولية المدنية فقرة 235 - فقرة 254 - الدكتور حشمت أبو ستيت بك فقرة 511 - الدكتور مرقص في الفعل الضار فقرة 102 - فقرة 106
( [1371] ) تاريخ النص :ورد هذا النص في المادة 244 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " حارس الحيوان مسئول عما يحدثه الحيوان من ضرر ، حتى لو ضل الحيوان أو تسرب ، ما لم يثبت الحارس أن وقوع الحادث كان سبباً أجنبي لا يد له فيه " . وأقرت لجنة المراجعة هذا النص تحت رقم المادة 180 من المشروع النهائي وأقره مجلس النواب ورأت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ أن عبارة " حارس الحيوان " قد تشتبه بالحراسة بالمعنى المفهوم ، وقد يخرج عنها المالك ، فقررت أن تكون صيغة المادة كما يأتي " حارس الحيوان ولو لم يكن مالكاً له " فأضافت عبارة " ولو لم يكن له " بعد عبارة " حارس الحيوان " لتبرر أن اصطلاح حارس الحيوان لا يفي اعتبار المالك حارساً أن توافرت الشروط المقررة في هذا الشأن . وقد اقترح على اللجنة الاستعاضة عن اصطلاح " الحارس " باصطلاح " المنتفع " فلم تر الأخذ بهذا الاقتراح لأن تعبير " حارس الحيوان " قد يتسع نطاقه لصور أخرى لا تتدرج تحت الصور المقترحة ، وقد استعمل الفقه في مصر اصطلاح الحراسة في هذا الشأن بوصفه مرادفاً لتعبير ( garde ) في اللغة الفرنسية ودلالة هذا التعبير معروفة وهي مرنة ، ومن غير المرغوب فيه حصرها في حدود الصور بخصوصها ، وتعبير المشروع مع هذا الإيضاح لا يدعو إلى ليس ولا يقيد الاجتهاد . ووافق مجلس الشيوخ على النص كما عدلته لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 423 - ص 428 ) .
( [1372] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في تفضيل نص القانون الجديد ما يأتي : " يعتبر هذا النص متقدماً على نظيره في نصوص التقنين المصري الحالي ( القديم ) من ناحيتين ( 1 ) فيلاحظ من ناحية أنه نوه صراحة بفكرة الحراسة ، وجعل حارس الحيوان مسئولاً عما يحدثه الحيوان من ضرر . هذه الفكرة لا تستخلص إلا اقتضاء من دلالة عبارة المادة 153 / 215 إذ تنص على إلزام " مالك الحيوان أو مستخدمه بالضرر الناشئ عن الحيوان المذكورة " وقد جهد الفقه الحديث في تحليل فكرة الحراسة تحليلاً دقيقاً بلغ به أحياناً حد الإرهاف أو التهافت . فهو يفرق على الأخص بين الحراسة المادية والحراسة القانونية والثانية دون الأولى هي التي تبني عليها المسئولية ، وعلى هذا النحو يسأل مالك الحيوان متى كانت له الحراسة القانونية عما يحدثه هذا الحيوان من ضرر للرائض الذي استخدمه للعناية به وقد عى التقنين اللبناني بالنص على هذا الحكم في عبارة صريحة ، فقضى في الفقرة الثانية من المادة 129 بأن تلك المسئولية تترتب ولو كان الحارس المضرور قد ارتبط من قبل بعقد من عقود كالإجازة الأشخاص مثلاً ، ما لم ينص على خلاف ذلك " ويراعي أن الحراسة القانونية تظل قائمة ولو ضل الحيوان أو تسرب . ( ب ) ويلاحظ من ناحية أخرى أن المشروع اختار صراحة فكرة الخطأ المفترض ، وجعل منها أساساً لمسئولية حارس الحيوان . وقد جرى القضاء المصري على اتباع هذا الرأي ، رغم أن المادة 153 / 215 من التقنين المصري لم تذكر شيئاً في هذا الشأن وقد وقعت التقنينات الأجنبية من فكرة افتراض الخطأ هذه مواقف مختلفة فيما يتعلق بقوة القرينة التي تقوم عليها من حيث جواز سقوطها أو عدم سقوطها بإثبات العكس فبعض هذه التقنينات يبيح لحارس الحيوان الاكتفاء بإقامة الدليل على أنه التزام الحيطة الواجبة لمنعه من الإضرار أو لرقابته ( المادتان 94 / 86 من التقنين التونسي والمراكشي ، والمادة 2394 من التقنين البرتغالي والمادة 56 من تقنين الالتزامات السويسري والمادة 1527 من التقنين البرازيلي ، والمادة 190 من التقنين الصيني ) ,بعضها لا يبيح إثبات السبب الأجنبي ( المادة 81 من المشروع الفرنسي الإيطالي ، والمادة 129 من التقنين اللبناني ، والمادة 1905 من التقنين الأسباني ) ، وهذه هو ما اختاره القضاء المصري والقضاء الفرنسي ويتوسط التقنين الولوني هذين الرأيين ، فيكتفي من حارس الحيوان بإقامة الدليل على أن خطأ ما لم يقع منه أو من أحد ممن يسأل عنهم ( م 1489 ) ومع ذلك فهو يجيز للمحكمة رغم قيامه هذا الدليل أن تلزم مالك الحيوان أو مستخدمه بتعويض كل الضرر أو بعضه إذا اقتضت العدالة ذلك مع مراعاة الظروف ويسار المضرور ومالك الحيوان أو مستخدمه بوجه خاص ( المادة 149 في فقرتها الأخيرة ) ولم يبيح المشروع إلا إثبات السبب الأجنبي افتداء بما جرى عليه القضاء المصري في هذا الشأن " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 424 - ص 425 ) .
( [1373] ) ويجب أيضاً أن نستبعد معيارين ، أحدهما قال به الأستاذان مازو ثم عدلا عن قولهما والآخر قالت به محكمة النقض الفرنسية .
فقد كان الأستاذان مازو يميزان بين الحراسة المادية 9 garde materielle ) والحراسة القانونية ( garde juridique ) فيجعلان الحراسة القانونية وهي حق يعطيه القانون للشخص في السيطرة على الشيء ، هي التي تترتب عليها المسئولية . وقد عدلا عن هذا الرأي على أثر حكم محكمة النقض الفرنسية في دوائرها المجتمعة في 2 ديسمبر سنة 1941 - 1 - 217 - وأنظر مازو 2 فقرة 1087 وفقرة 1159 ) ، وأخذ الأستاذان بمعيار السيطرة الفعلية في التوجيه والرقابة .
أما محكمة النقض الفرنسية في دوائرها المجتمعة فقد قضت في الحكم الذي أشرنا إليه بأن حارس الشيء هو من يستعمل الشيء بنفسه أو بواسطة تابع له الاستعمال الذي يلائم ممارسة مهنته ( ceiui qui par lui - meme ou par ses peposes,en fait lusage que - comporte lexercice de sa profession ) وهذا هو المعيار أرادت محكمة النقض أن تنزل فيه عند التعبير الذي استعمله القانون المدني الفرنسي في المادة 1358 ، إذ أن هذا النص يجعل المسئولي هو مالك الحيوان أو من يستعمله ( le proprietaire ou celui qui sen sert ) وقصدت به أن توفق بين عبارة القانون الفرنسي والتحليل الصحيح لمعنى الحراسة ولكن يؤخذ عليه أنه كان من يستعمل الحيوان الاستعمال الذي يلائم ممارسة مهنته تكون له في الغالب السيطرة الفعلية على الحيوان في يد غير اليد التي تستعمله الاستعمال الملائم للمهنة .
( [1374] ) وقد جاء في مناقشات لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ما يؤيد هذا التفسير ، فقيل : " إن التشريعات الحديثة تستعمل هذا الاصطلاح ( الحراسة ) في هذا المقام وقد استقر في لغة الفقة القانوني الحديث الذي جهد في تحليل فكرة الحراسة تحليلاً دقيقاً بلغ به أحياناً حد الإرهاف أو التهافت ، فقد كان يفرق على الأخص بين الحراسة المادية والحراسة القانونية ، والثانية دون الأولي هي التي تبني عليها المسئولية ، ولكن التطور اتجه إلى الاعتداء بالسيطرة الفعلية ، وعلى هذا النحو يسأل مالك الحيوان متى كانت له الحراسة الفعلية عما يحدثه هذا الحيوان من ضرر للرائض الذي استخدمه للعناية به " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 426 ) .
( [1375] ) أنظر في هذا المعني مازو 2 فقرة 1104 - فقرة 1108 - ويرى الأستاذ مصطفي مرعي بك أن الذي تنتقل إليه الحراسة هو الذي يتسلم الحيوان بقصد الانتفاع به ، لأنه وهو ينتفع به يحيط بخصاله وطبائعه ، أما من يحوز الحيوان يحم صناعته التي تجيزه على تلقي كل حيوان يرد إليه ، كالراعي والبيطار والطبيب البيطري وشركات النقل ، فلا تنتقل إليه الحراسة ( المسئولية المدنية فقرة 245 ) .
وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بان المسئول عن الحيوان هو حارسه لا مالكه ( استئناف مختلط في 19 مارس سنة 1913 م 25 ص 239 ) . فلا يصح المالك متى سلم الحيوان إلى شخص آخر ينتفع به ويستخدمه لمصلحته فانتقلت إليه الحراسة ، والمالك هو الذثي يكون مسئولاً ( استئناف مختلط في 27 مارس سنة 1907 م 19 ص 187 ) . ولا يكون المالك مسئولاً إلا إذا ارتكب خطأ بان سلم الحيوان إلى شخص غير قادر على حراسته ( الحكم السابق ) ولكن مالك الحيوان يكون مسئولاً عن خطأ تابعه كالسائق ( استئناف مختلط في أول يونية سنة 1897 م 9 ص 364 ) .
وقضت محكمة الإسكندرية الكلية المختلطة بأنه إذا وقع الضرر من وأحد بين حيوانات متعددة ، ولم يعرف على وجه اليقين أيها هو الذي أحدث الضرر ، كان جميع الأشخاص الذين وجدت الحيوانات في حراستهم متضامنين في المسئولية . فإذا ترك صاحب الكلب كلبه طليقاً في الطريق العام ، فاختلط بكلاب أخرى ، وأصيب مار من هذه الكلاب ، ولم يعرف أي كلب عضه ، فأصحاب الكلاب جميعاً مسئولون بالتضامن ( محكمة الإسكندرية الكلية المختلطة في 19 ديسمبر سنة 1913 جازيت 5 رقم 30 ص 66 ) .
( [1376] ) نقض فرنسي في 6 مايو سنة 1901 سيريه 1902 - 1 - 268 - وحكم آخر في 11 مايو سنة 1908 داللوز 1911 - 1 - 399 .
( [1377] ) استئناف مختلط في 3 يناير سنة 1906 م 18 ص 83 .
( [1378] ) نقض فرنسي في 30 يناير سنة 1928 سيريه 1928 - 1 - 177 - وحكم آخر في 24 يونية سنة 1930 سيريه 1931 - 1 - 121 .
( [1379] ) مازو 2 فقرة 1122 .
( [1380] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه إذا عض كلب إنساناً ولم يكن الكلب موضوعاً في قيد بل ترك طليقاً في الحديقة مع أنه كلب ، خطر ، فإن صاحب الكلب مسئول حتى لو كان المضرور يعلم أن الكلب خطر ( استئناف مختلط في 3 أبريل سنة 1930 م 42 ص 402 ) .
( [1381] ) وقد قضت في هذا المعني محكمة الاستئناف الوطنية بأنه إذا أصيب " عربجي " في أثناء خدمته بجرح بليغ من حصان مخدومه ، وكان عالماً بعيب الحصان ولكنه كان يحتاط لنفسه منه ، فإن السيد ملزم بالتعويض ارتكاناً على المادة 153 مدني ( قديم ) ، لأنه لم يثبت أن الضرر الحاصل نشأ عن خطأ الخادم أو بالقضاء والقدر ( استئناف وطني في 3 ديسمبر سنة 1912 المجموعة الرسمية 14 رقم 20 ص 37 ) . وقضت محكمة استئناف مصر الوطنية في مسئولية صاحب جمل عض جمله الجمال عندما كان يقدم له الطعام ، بأن القانون يفترض حصول الخطأ أو الإهمال من صاحب الحيوان ويعفي المجني عليه من عبء الإثبات ، سوء كان المجني عليه هو العامل الذي يقود الحيوان وعفي المجني من عبء الإثبات سواء كان المجني عليه هو العامل الذي يقود الحيوان أو أجنبياً عنه ، ولا يسقط هذا الافتراض القانوني قبل مالك الحيوان بإثبات عدم حصول خطأ أو إهمال منه ، بل يجب لذلك أن يثبت أن الإصابة حصلت بسبب قهري أو بخطأ المجني عليه ولما كان مالك الحيوان لم يثبت أن الإصابة حصلت بسبب قهري أو بخطأ المجني عليه . ولما كان مالك الحيوان لم يثبت أن الإصابة حصلت بسبب قهري أو بخطأ المجني عليه ، إذا لا يكفي أن يستنتج خطأ المجني عليه من هدوء طبيعة الجمل وعدم اعتياده على العض وأنه لا بد لذلك أن يكون قد أسئ إليه ، بل يجب أن يقوم الدليل على هذه الإساءة فإن افتراض الخطأ يبقى قائماً في جانب المالك ( استئناف مصر الوطنية في 15 مايو سنة 1929 المحاماة 9 ص 1080 ) وقضت أيضاً في قضية مماثلة ، سلم فيها الجمل جمله إلى أجير عنده لقيادته فعقر الجمل الأجير بأنه يؤخذ من نص المادة 153 مدنين أهلي ( قديم ) أن الشارع جعل مسئولية مالك الحيوان أو مستخدمه هي الأصل ، إلا إذا قام دليل قاطع على أن الضرر الذي أصاب الغير إنما أصابه بحادثة قهرية أو بإهماله هو ، والذي يستفيد من هذه المسئولية المفترضة ليس فقط الشخص الأجنبي عن المالك / ، بل يستفيد منها أيضاً الأشخاص الذين يعملون في خدمة المالك إذا كلفهم المالك المذكور بأن يسرقوا الحيوان أو يعتنوا به أو يقوموا بخدمة ( استئناف مصر الوطنية 17 يونية سنة 1931 المحاماة 12 رقم 261 ص 529 - انظر أيضاً محكمة مصر الكلية الوطنية في 2 نوفمبر سنة 1921 المجموعة الرسمية 24 رقم 48 ص 79 ) . وقضت استئناف أسيوط في هذا المعنى أيضاً بأن القانون في المادة 153 مدني ( قديم ) يفترض وقوع خطأ أو إهمال من مالك الحيوان الذي أحدث ضرراً بالغير ، ولذا جعله مسئولاً عن كل ضرر ينشأ عن الحيوان بلا أدني قيد ، والمصاب في غير حاجة إلى إقامة الدليل على خطأ أو إهمال من المالك لأن القانون افترض خطأه . ولما كان تدخل المصاب من تلقاء نفسه وهو عامل عند صاحب الحمير لمنع الحمير من التشاجر فيما بينهما دون الاستعانة بعصاً لا يعد خطأ أو إهمال منه ، لذلك تكون المسئولية واقعة على المالك لأن خطأه المفترض قانوناً لم يرفع بخطأ المصاب ( استئناف أسيوط في 15 أبريل سنة 1931 المجموعة الرسمية 33 رقم 44 ص 80 ) .
أما إذا ثبت خطأ في جانب المصاب ، فإن الخطأ قد ينفي علاقة السببية ما بين الضر والخطأ المفترض في جانب المسئول وقد قضت محكمة طنطا الاستئنافية بأنه إذا ثبت أن الجمل انتزع رباطه من الوتد وعض الخادم المكلف بخدمة المواشي ، وثبت أن الخادم لم يتخذ الاحتياطات الضرورية في ذلك الفصل من السنة لأنه لم يكمم الجمل ، وأن الجمل لم يكن حيواناً خطراً معتاداً على العض ، كان الضرر ليس إلا نتيجة إهمال المصاب وتعين دعواه ( طنطا استئنافي في 10 فبراير سنة 1910 المجموعة الرسمية 11 رقم 120 ص 337 ) .
وإذا سلم صاحب الحيوان حيوانه إلى المستخدم لينتفع به انتفاعاً شخصياً انتقلت الحراسة إلى المستخدم ، ولا يكون صاحب الحيوان مسئولاً عن الضرر الذي يحدثه الحيوان للمستخدم ( استئناف مختلط في 27 مارس سنة 1907 م 19 ص 187 ) .
ويذهب الأستاذ مصطفي مرعي بك إلى أن مالك الحيوان لا يكون مسئولاً تجاه خادمهم المكلف بمراقبة الحيوان ، بمقتضى خطأ مفترض ، بل يجب على الخادم أن يثبت خطأ في جانب المالك ، كأن يكون المالك قد أخفي عن خادمه عيباً يعلمه في الحيوان أو يكون المالك قد سلم الحيوان لخادم صغير لا تسمح له سنة بملاحظة الحيوان ، أو يكون المالك قد قصر في تجهيز الحيوان بالأدوات اللازمة لصدة وكبح جماحه ( المسئولية المدنية فقرة 241 ) .
( [1382] ) وإذا اتفق شخصان على أن يتركا مواشيهما في مكان واحد ، وان يعفي كل منهما من مسئوليته عن مواشيه ، فإن شرط الإعفاء من المسئولية التقصيرية ، فيكون باطلاً ويعتبر كل منهما مسئولاً عن مواشيه قبل الآخر بمقتضى خطأ مفترض .
( [1383] ) وتختلف مسئولية صاحب الحيوان الجنائية عن المسئولية المدنية ، في الأول لا يفترض الخطأ بل يجب إثباته . وقد قضت محكمة النقض في هذا المعنى بأنه لا يكفي لمحاكمة شخص جنائياً عما يصيب الغير من الأذى بفعل الحيوان أن يثبت أن ذلك الحيوان مملوك له ، لأن ذلك إذا صح مبدئياً أن يكون له سبباً للمسئولية المدنية ، فإنه لا يكفي لتقرير المسئولية الجنائية التي لا يصح أن يكون لها محل إلا إذا ثبت على المالك نوع من أنواع الخطأ في المحافظة على حيوانه ومنع أذاه عن الغير ، وفي هذه الحالة يجب بيان نوع هذا الخطأ في الحكم ووجه نسبته إلى مالك الحيوان بالذات ( نقض جنائي في 23 أبريل سنة 1931 المحاماة 12 رقم 143 ص 262 ) . أنظر في هذه المسألة الأستاذ مصطفي مرعي بك في المسئولية المدنية فقرة 236 .
( [1384] ) الدكتور سليمان مرقص في الفعل الضار فقرة 106 - وقد كان الفقه في فرنسا يجعل افتراض الخطأ قابلاً لإثبات العكسِ ، وتابعه القضاء الفرنسي في ذلك . ثم تحول القضاء فجعل اقتراض الخطأ غير قابل لإثبات العكس ، وتحول الفقه إلى هذا النظر أيضاً ، وتبعهما في ذلك القانون المصري القديم ثم القانون المصري الجديد .
( [1385] ) ولا يقوم افتراض الخطأ أيضاً في العلاقة ما بين حارس الحيوان وشخص غير المضرور ، فلو ثبت أن فعل الحيوان الذي أحدث الضرر كان سببه استفزاز أجنبي للحيوان ، وأراد حارس الحيوان أن يرجع بما دفع من تعويض للمضرور على هذا الأجنبي ، فلا يجوز للأجنبي في هذه الحالة أن يحتج بالخطأ المفترض في جانب الحارس لتقسيم التعويض فيما بينهما ( الدكتور سليمان مرقص في الفعل الضار فقرة 105 ص 123 ) .
( [1386] ) انظر آنفاً فقرة 693 .
( [1387] ) الموجز للمؤلف فقرة 358 - الأستاذ مصطفي مرعي بك في المسئولية المدنية فقرة 248 - الدكتور حشمت أبو ستيت بك فقرة 515 - الدكتور سليمان مرقص في الفعل الضار فقرة 106 .
( [1388] ) وقد قضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأن المادة 153 مدني أهلي ( قديم ) نفترض حصول خطأ أو إهمال من صاحب الحيوان ، وهذا الفرض القانوني لا يسقطه إثبات عدم الحصول خطأ أو إهمال بل يجب لإسقاط المسئولية أن يثبت المسئول أن الإصابة حصلت بسبب قهري أو بخطأ المجني عليه ( استئناف مصر الوطنية في 15 مايو سنة 1929 المحاماة 9 رقم 585 ص 1080 ) . وقضت أيضاً بأن الذي يؤخذ من نص المادة 153 مدني أهلي ( قديم ) أن الشارع جعل مسئولية مالك الحيوان أو مستخدمه هي الأصل ، إلا إذا قام دليل قاطع على أن الضرر الذي أصاب الغير إنما بحادثة قهرية أو بإهمال هو ( استئناف مصر الوطنية في 17 يونية سنة 1931 المحاماة 12 رقم 261 ص 529 ) . وانظر أيضاً في هذا المعني استئناف أسيوط في 15 أبريل سنة 1931 المجموعة الرسمية 33 رقم 44 ص 80 - محكمة بني سويف في 11 فبراير سنة 1910 المجموعة الرسمية 11 رقم 124 ص 346 . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن المسئولية عن الحيوان لا ترتفع إلا بإثبات السبب الأجنبي ( استئناف مختلط في 27 نوفمبر سنة 1902 م 15 ص 18 :ولا يكفي أن يقال أن الحصان جفل من قدوم راكب آخر أو أن المصاب كان يسير وسط الطريق " . انظر أيضاً :استئناف مختلط في 9 ديسمبر سنة 1902 م 21 ص 58 ( ترك الحمال على الرصيف دون قيد ، ولكن المار تعرض له ليمر فأصيب : خطأ مشترك ) - وفي 26 يناير سنة 1921 م 33 ص 154 ( من يقود حيواناً في طريق عام يجب عليه أن يحكم وثاقه حتى لا يفلت منه ) - وفي 3 أبريل سنة 1930 م 42 ص 402 ( وقد سبقت الإشارة إلى هذه الحكم :لا يعفي حارس الحيوان من المسئولية أن يكون المصاب عالماً أن الكلب مطلق سراحه في الحديقة وهو كلب خطر ، فقد كان الواجب على الحارس إلا يدع الكلب وهو خطر مطلق السراح ) - وفي 11 أبريل سنة 1935 م 47 ص 238 - وقضت محكمة الإسكندرية الجزئية المختلطة في 8 ديسمبر سنة 1928 ( جازيت 20 رقم 187 ص 172 ) أنه تعتبر قوة قاهرة أن ينتزع حصان من أجراس مركبة الحريق فيجفل فيصيب ماراً .
( [1389] ) بعض المراجع :مازو 2 فقرة 1019 - فقرة 1070 - بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 607 - فقرة 611 - بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 1085 - فقرة 1093 - كولان وكابيتان ولامورانديير 2 فقرة 362 - فقرة 365 - جوسران 2 فقرة 524 - فقرة 528 - الموجز للمؤلف فقرة 359 - فقرة 362 - الأستاذ مصطفي مرعي بك في المسئولية المدينة فقرة 266 - فقرة 292 - الدكتور حشمت أبو ستيت بك فقرة 516 - فقرة 519 - الدكتور سليمان مرقص في الفعل الضار فقرة 107 - فقرة 112 .
( [1390] ) انظر نقض مدني في 17 يونية سنة 1937 مجموعة عمر 2 رقم 64 ص 175 ( وقارن نقض مدني في 3 نوفمبر سنة 1938 مجموعة عمر 2 رقم 140 ص 421 ) - استئناف مصر وطني في 16 ديسمبر سنة 1934 المحاماة 15 رقم 279 / 2 ص 586 - وفي 28 نوفمبر سنة 1937 المحاماة 18 رقم 403 ص 871 - وفي 16 نوفمبر سنة 1938 المحاماة 19 رقم 345 ص 841 - استئناف مختلط في 2 مايو سنة 1894 م 6 ص 270 - وفي 28 يونية سنة 1903 م 15 ص 111 - وفي 8 فبراير سنة 1911 م 23 ص 160 - وفي 5 يناير سنة 1928 م 40 ص 122 - وفي 6 فبراير سنة 1930 م 42 ص 258 - وفي 8 مايو سنة 1930 م 42 ص 485 . وانظر الموجز للمؤلف فقرة 363 .
( [1391] ) تاريخ النص :ورد في هذا النص في المادة 245 من المشروع التمهيدي على وجه يقارب نص القانون الجديد . وأقرته لجنة المراجعة بعد التعديلات لفظية تحت رقم المادة 181 من المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب . وأضافت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ عبارة " ولم يكن مالكاً " بعد عبارة " حارس البناء " وأصبح رقم المادة 177 . وقالت اللجنة في تقريرها " اقترح الاستعاضة عن اصطلاح الحارس في المادة 177 باصطلاح مالك البناء أو حائزه بنية التملك . ولم تر اللجنة الأخذ بهذا الاقتراح ، لأن تعبير " حارس البناء أو الشيء " قد يتسع نطاقه لصور أخرى لا تندرج تحت الصيغ المقترحة ، وقد استعمل الفقه في مصر اصطلاح الحراسة في هذا الشأن يوصفه مرادفاً لتعبير ( garde ) في اللغة الفرنسية ، ودلالة هذا التعبير معروفة ، وهي مرنة ، ومن غير المرغوب فيه حصرها في حدود صور بخصوصها . وتعبير المشروع مع هذا الإيضاح لا يدعو إلى لبس ولا يقيد الاجتهاد " ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها لجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 428 - ص 434 ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " لم يعرض التقنين المصري للمسئولية عن البناء ، ولذلك جرى القضاء المصري بشأنها على تطبيق القواعد العامة ، وجعل من الخطأ الثابت أساساً لها ، ولو أنه لا يتشدد كثيراً فيما يتعلق بجسامة هذا الخطأ الثابت أساساً لها ، ولو أنه لا يتشدد كثيراً فيما يتعلق بجسامة هذا الخطأ . أما المشروع فقد آثر تأسيس هذه المسئولية على الخطأ المفروض ، وألقى عبثها على عاتق حارس البناء دون مالكه على خلاف ما أختار التقنين الفرنسي . فتظل مسئولية الحارس قائمة ما لم يثبت أن تداعي البناء لا يرجع إلى إهمال في صيانته أو قدم أو عيب في إنشائه أما التقنين الفرنسي فيلزم المضرور على النقيض من ذلك بإقامة الدليل على إهمال الصيانة أو القدم أو العيب في إنشاء البناء فإذا تم له تحصيل هذا الدليل أصبح مفروضاً أن تداعي البناء يرجع إلى أحد هذه الأسباب ، ويكون إذن ناشئاً عن خطأ المالك " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 431 ) .
( [1392] ) وقد قضت محكمة الاستئناف الوطنية بأنه لا مسئولية على المالك لمنزل لو سقط بعض بنائه على إنسان فقتله إذا تبين أن المالك المذكور اشترى هذا المنزل ، ولكنه لم يكن قد وضع يده عليه بسبب النزاع وقع بينه وبين آخرين ( استئناف وطني في 17 فبراير سنة 1915 الشرائع 2 رقم 200 ص 184 ) - وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بمسئولية المشتري بعقد غير مسجل ما دام حائزاً ( استئناف مختلط في 17 ديسمبر سنة 1925 م 58 ص 112 ) .
( [1393] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه يجب على المقاول اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع الضرر عن الجيران ( استئناف مختلط في 14 فبراير سنة 1920 م 41 ص 222 - وفي 5 ديسمبر سنة 1920 م 42 ص 83 - وفي 7 يونية سنة 1928 م 40 ص 404 ) - على أن الجار الذي يكون منزله قديماً غير متين لا يجوز له أن يزيد في أعباء المالك أو المقاول ، وعليه أن يساهم في نفقات تقوية بنائه ( استئناف مختلط في 7 يونية سنة 1928 م 40 ص 402 - في 31 أكتوبر سنة 1929 م 42 ص 9 - وفي 14 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 36 - وفي 5 ديسمبر سنة 1929 م 42 ص 83 ) .
( [1394] ) وقد قضت محكمة النقض بأن تمسك مالك البناء بأن العين المملوكة له مؤجرة للغير وبذا انتقلت حيازتها القانونية لهذا الغير ، وبانه اشترط عليه أن يقوم هو بالتصليحات اللازمة أو إذن فغن المسئولية عن الضرر الذي وقع تنتقل إلى المستأجر ، فذلك لا يجديه في دفع المسئولية عنه ، ولكنه لا يمنعه من الرجوع على المستأجر منه إذا رأى أنه مسئول أمامه ( نقض مدني في 17 يونية سنة 1937 مجموعة عمر 2 رقم 64 ص 175 ) .
( [1395] ) ومن أحكام القضاء المصري فيمن هو المسئول عن تهدم البناء في ظل القانون القديم :إذا كان المالك قاصراً فلا تكون عنده الحراسة ، بل المسئول هو الوصي ( استئناف مختلط في 6 فبراير سنة 1930 م 42 ص 258 ) - والحائز سواء كان حسن النية أو سيئها يكون هو المسئول لا المالك ( استئناف مختلط في 17 ديسمبر سنة 1925 م 58 ص 1129 - والبناء في أثناء تشييده أو ترميمه تكون المسئولية فيه على المقاول دون المالك ( استئناف مختلط في 10 مايو سنة 1911 م 23 ص 306 - وفي 5 ينار سنة 1928 م 40 ص 122 ) . فإذا تمت الأعمال وسلم البناء للمالك ومضت مدة كافية على ذلك ، رجعت إليه المسئولية على أن يرجع على المقاول إذا كان هناك وجه لذلك ( استئناف مختلط في 27 أبريل سنة 1899 م 11 ص 196 - وفي 10 فبراير سنة 1904 م 16 ص 132 ) - مقاول أعمال البناء مسئول عن تسرب المياه تحت الأرض ( مختلط في 3 يناير سنة 1929 م 41 ص 152 ) - إذا كان أحد شركاء البناء هو المشرف على عملية البناء ، فهو وحده المسئول دون سائر شركائه ودون المقاول الذي كان مقتصراً على توريد الأنفار ( استئناف وطني في 3 يناير سنة 1928 المحاماة رقم 465 ص 764 ) - وفي المسئولية عن المصعد ( استئناف مختلط في 14 مارس سنة 1935 م 47 ص 197 - وفي 8 يونية سنة 1935 م 47 ص 363 - وفي 23 يونية سنة 1937 م 49 ص 276 ) .
( [1396] ) وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على نص ( م 246 من هذا المشروع ) يقضي بما يأتي : " كل من يقيم في مسكن يكون مسئولاً عما يحدث من ضرر بسبب ما يلقي أو يسقط من هذا المسكن ، ما لم يثبت أن وقوع الحادث كان بسبب أجنبي لا بد له فيه " وقد أقرت لجنة المراجعة هذا النص . ووافق عليه مجلس النواب ولم توافق عليه أغلبية لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، لأنها آثرت أن تظل في نطاق ما يقتضي به النص خاضعة للقواعد العامة . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : " عمد المشروع إلى تعزيز أحكام المسئولية عن البناء بإيراد قاعدة تتعلق بالمسئولية عما يلقي أو يسقط من المسكن ، ويراعي أن الضرر في هذه الحالة لا يحدث بسبب البناء نفسه أو بسبب جزء منه أو بسبب ما يتبعه من الملحقات ، بل بسبب ما يلقي أو يسقط منه متى كان مخصصاً للسكنى ، فيفترض خطأ ساكن البناء في هذه الصورة ، ويلزم بالتعويض ، إلا أن يقيم الدليل على أن الحادث وقع من جراء سبب أجنبي ,تختلف هذه المسئولية عن المسئولية العامة عن البناء من وجوه ثلاثة ( 1 ) فهي لا تترتب بناء على ضرر ينجم على البناء أو أجزائه أو ملحقاته ( ب ) وهي لا تقع على عاتق الساكن ( جـ ) وهي ترتفع إلا بإقامة الدليل على السبب الأجنبي ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 429 في الهامش ) .
( [1397] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 431 ( وأنظر في هذا المعنى المادتين 98 / 90 من التقنين التونسي والمراكشي ، والمادة 59 من تقنين الالتزامات السويسري ، والمادة 151 فقرة 2 من التقنين البولوني . وأنظر عكس ذلك المادة 1166 من التقنين الأرجنتيني ) .
( [1398] ) أما إذا أنهدم البناء بعد الحريق بمدة كافية ، ولو كان الانهدام نتيجة الحريق ، كان الضرر الذي يحدث ناجماً عن تهدم البناء . هذا وقد صدر قانون 7 نوفمبر سنة 1922 في فرنسا ، أضاف فقرة جديدة إلى المادة 1384 من القانون المدني الفرنسي ، وقضى بأن الحائز للعقار أو المنقول ، إذا شب فهي حريق ، لا يكون مسئولاً عن الضرر الذي يلحق الغير إلا إذا ثبت حصول الحريق بخطأ الحائز – أما في العلاقة فيما بين المؤجر والمستأجر ، إذا احترقت العين المؤجرة ، فقد نصت المادة 584 من القانون المدني الجديد على أن المستأجر مسئول عن حريق العين المؤجرة إلا إذا أثبت أن الحريق نشأ عن سبب لا يد له فيه ، فإذا تعدد المستأجرون لعقار واحد ، كان كل منهم مسئولاً الحريق بنسبة الجزء الذي يشغله ، ويتناول ذلك المؤجر إن كان مقيماً في العقار ، هذا ما لم يثبت أن النار ابتدأ شبوبها في الجزء الذي يشغله أحد المستأجرين فيكون وحده مسئولاً عن الحريق .
هذا والمسئولية عن تهدم البناء غير المسئولية عن الأشياء التي تتطلب حراستها عناية خاصة ، ولو كان هذا البناء تتطلب حراسته هذه العناية الخاصة ، كمصنع لعمل المفرقعات . فإذا تهدم هذا المصنع ، فأصاب الغير بضرر ، كان النص الواجب التطبيق هو المادة 177 لا المادة 178 ، فيجوز لحارس المصنع أن يخلص من المسئولية لا بإثبات السبب الأجنبي فحسب ، كما هو الأمر في المادة 178 ، بل أيضاً بإثبات أن الحادث لا يرجع سببه إلى إهمال الصيانة أو قدم في البناء أو عيب فيه . أما إذا وقع الضرر من المفرقعات ذاتها لا من تهدم المصنع ، وجب تطبيق المادة 178 ، ويكون حارس المفرقعات مسئولاً ولا يتخلص من المسئولية إلا بإثبات السبب الأجنبي .
( [1399] ) أما في القانون المدني الفرنسي ، فقد قدمنا أن المضرور هو الذي يجب عليه أن يثبت في جانب مالك البناء إهمالاً في الصيانة أو عيباً في البناء . فالإهمال في الصيانة أو العيب في البناء غير مفترض في القانون الفرنسي ، بل يجب على المضرور إثباته . وهو في القانون المصري الجديد مفترض إفتراضاً قابلاً لإثبات العكس ، وحارس البناء هو الذي يثبت أن تهدم البناء لا يرجع سببه إلى ذلك كما رأينا .
( [1400] ) لكن إذا ثبت أن التهدم وقع في أثناء القيام بهدم البناء أو بإصلاحه ، فإن كان التهدم راجعاً إلى إهمال في الصيانة أو إلى قدم في البناء أو إلى عيب فيه ، تحققت المسئولية بمقتضى الخطأ المفترض . أما إذا كان التهدم لم يقع إلا نتيجة للهدم أو للإصلاح ، وجب تطبيق القواعد العامة وإثبات الخطأ في جانب المسئول .
وقد قدمنا أن البناء إذا شبت حريق فيه أو خربته متفجرات أو قنابل ، وبقى مخرباً ، ثم تهدم بعد ذلك ، قامت المسئولية على الخطأ المفترض . أما إذا تهدم البناء فوراً بشبوب الحريق أو بفعل المتفجرات أو القنابل ، لم تقم المسئولية على خطأ مفترض ، بل طبقت القواعد العامة ، ووجب إثبات الخطأ في جانب المسئول .
( [1401] ) أنظر عكس ذلك الأستاذ مصطفى مرعي بك في المسئولية المدنية فقرة 278 – فقرة 282 – وما أورده من أحكام القضاء المصري . وأنظر عكس ذلك أيضاً : استئناف مختلط في 20 فبراير سنة 19؟؟ م 14 ص 154 – وفي 24 مارس سنة 1904 م 16 ص 172 – وفي 5 يونية سنة 1955 م 35 ص 485 – وفي 0 يناير سنة 1924 م 36 ص 140 .
( [1402] ) بعض المراجع : سالي في حوادث العمل والمسئولية المدنية ( سنة 1897 ) – جوسران في المسئولية عن فعل الشيء ( سنة 1897 ) والوجيز 3 فقرة 529 – فقرة 555 – بلانيول دراسات في المسئولية ( المجلة الانتقادية سنة 1906 ص 80 ) – مازو 2 فقرة 1138 – فقرة 1368 – جودميه في تطور جديد في نظرية المسئولية المدنية ( المجلة الفصلية 1927 من 893 ) – بالنيول وريبير وغسمان 1 فقرة 612 – فقرة 625 – كولان وكابيتان ولامورانديير 2 فقرة 366 – فقرة 379 – بالنيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 1042 – فقرة 1083 – الرسائل : بيزييه ( pisier ) باريس 1899 – بونيه ( Bonnet ) بواتييه 1908 – فيتري ( vitry ) ليل 1922 – توزان ( tauzin ) باريس 1925 – بيسون ( besson ) ديجون 1927 – ديلا كرواه ( Delacroix ) تولوز 1928 – ليسيو ( luceo ) رن 1928 – كورني ( Cornu ) مونبيليه 1929 – كاهيرن ( Caherne ) رن 1929 – لارتيج ( Lartige ) تولوز 1931 – الدكتور برسوم القاهرة 1931 – جربوي ( Gerbouille ) باريس 1932 – ليبمان ( Libmann ) استراسبورج 1933 – بيشيه ( Biechet ) ديجون 1933 – دافيد ( David ) ليل 1934 – فورز ( Forse ) مونبلييه 1936 – لاردنواه ( Lardonnois ) نانسي 1936 – بينيكس ( Beineix ) باريس 1937 – فيزيل ( Fiezel ) باريس 1937 – سن ( Sen ) باريس 1939 – لانديل ( Landelle ) رن 1940 – ليفبفر ( Lefebvre ) باريس 1941 – جولدمان ( Goldman ) ليون 1947 - الموجز للمؤلف فغقرة 363 – فقرة 372 – الأستاذ مصطفى مرعى بك في المسئولية المدينة فقرة 309 – فقرة 317 – الدكتور حشمت أبو ستيت بك فقرة 5620 – فقرة 526 – الدكتور سليمان مرقص في الفعل الضار فقرة 113 – فقرة 121 .
( [1403] ) قبل أن يتوسع الفقه والقضاء في فرنسا في تفسير الفقرة الأولى من المادة 1384 توسلاً بطريقين آخرين : ( 1 ) الطريق الأول هو تطبيق المسئولية العقدية على حوادث العمل وحوادث النقل ، وهذه هي أكثر الحوادث شيوعاً . أما عن حوادث العمل ، فقد كانت المحاكم الفرنسية تقضي ، قبل صدور تشريع سنة 1898 ، بأن العامل المصاب يجب أ ، يثبت خطأ في جانب رب العمل حتى ينال تعويضاً . ولما كان الإثبات في أكثر الأحوال متعذراً ، فقد كان العامل هو الذي يتحمل الخسارة وحده ، وقلما كان ينجح في دعوى التعويض التي يرفعها على صاحب المصنع . فقام فقيهان ، أحدهما في فرنسا ( Sauzet ) والآخر في بلجيكا ( Sainctelette ) ، يذهبان إلى أن مسئولية رب العمل نحو العامل مسئولية عقدية ، لأنه التزم بمقتضى عقد العمل أن يحافظ على سلامة العامل من مخاطر العمل ، فإذا أصيب العامل التزم رب العمل أن يعوضه عن الضرر الذي أصابه ، إلا إذا أثبت أن الإصابة لا ترجع إلى خطأ في جانبه ، وبذلك يتحمل رب العمل لا العامل عبء الإثبات . وقد صادفت هذه النظرية نجاحاً في الفقه ، فتبعها بعض الفقهاء ، إلا أن القضاء لم يأخذ بها . ثم صدر بعد ذلك تشريع سنة 1898 فعدمت المسألة أهميتها العملية . أما عن عقد النقل ، فقد ذهب كثير من الفقهاء إلى أن المادة 1784 من القانون المدني الفرنسي ، التي تجعل أمين النقل مسئولاً عن تلف البضائع ما لم يثبت أن تفها كان قضاء وقدراً أو بقوة قاهرة ، يمكن تطبيقها على نقل الأشخاص ، فإذا أصيب شخص بضرر في أثناء النقل كان أمين النقل مسئولاً ، ويقع عبء الإثبات عليه إذا أراد الخلاص من المسئولية ، ذلك أنه التزم بالعقد أن يحافظ على سلامة المتعاقد معه . ولكن القضاء الفرنسي لم يأخذ في أول الأمر بهذا المذهب وغن كان قد أصبح يميل إليه في أكثر أحكامه ( ب ) والطريق الثاني هو التوسع في تفسير المادة 1386 ، فقد أخذ القضاء الفرنسي في أواخر القرن التاسع عشر يتوسع في تفسير كلمة " البناء " ، فأدخل فيه الشجر والآلات بل والمنقولات الأخرى ، وأصبح صاحب الشيء – عقاراً كان أو منقولاً – بعد هذا التفسير مسئولاً عنه بمجرد أن يثبت المصاب عيباً في الشيء أو نقصاً في تعهده ، قياساً على البناء . ولا خلاص من المسئولية إلا إذا ثبت أن الحادث قد وقع قضاء وقدراً أو بقوة قاهرة أو بفعل الغير أو بخطأ المصاب ، فصار عبء الإثبات على صاحب الشيء . غير أن هذا التفسير يتناقض تناقضاً صريحاً مع نص المادة 1386 ، فهي تذكر " البناء " و " التهدم " ، والفرق كبير بين هذا وبين ما فسر به النص مما تقدم ذكره . لذلك لم يثبت القضاء الفرنسي طويلاً على هذا التفسير ، وعدل عنه إلى متابعة الفقهاء الذين وجدوا في الفقرة الأولى من المادة 1384 تكئة يستندون إليها في تقرير المسئولية عن الأشياء .
( [1404] ) وقد حاول بعض الفقهاء في فرنسا أن يصوغ من نص الفقرة الأولى من المادة 1384 نظرية عامة يحمل فيها صاحب الشيء تبعته ( theoriedes risques ) دون أن تستند المسئولية في ذلك إلى أي خطأ ، ولو كان هذا الخطأ مفتراَ . وفي مقدمة هؤلاء الفقهاء سالي ( Saleilles ) وجوسران ( josserand ) ، ولكن القضاء لم يتمش إلى هذا الحد ، بل استمر يرى أساس المسئولية عن الأشياء خطأ في جانب الحارس .
( [1405] ) محكمة استئناف مصر الوطنية في 10 أبريل سنة 1927 المجموعة الرسمية 28 رقم 59 – وفي 28 أكتوبر سنة 1929 المحاماة 10 ص 154 – وفي 22 أبريل سنة 1931 المحاماة 12 رقم 218 ص 435 – وفي 7 ديسمبر سنة 1931 المحاماة 12 رقم 374 ص 760 – محكمة الاستئناف المختلطة في 2 يناير سنة 1914 م 26 ص 160 – وفي 26 نوفمبر سنة 1923 م 36 ص 59 – وفي 12 ديسمبر سنة 1940 م 53 ص 37 – وفي 29 يناير سنة 1941 م 53 ص 75 .
( [1406] ) استئناف مختلط في 14 يونية سنة 1899 م 11 ص 280 – وفي 3 يونية سنة 1903 م 15 ص 335 – محكمة اللبنان الجزئية الوطنية في 21 فبراير سنة 1924 المجموعة الرسمية 26 رقم 93 / 1 .
( [1407] ) محكمة استئناف أسيوط في 11 ديسمبر سنة 1928 المحاماة 9 رقم 146 ص 244 .
( [1408] ) محكمة مصر الكلية الوطنية في 26 مايو سنة 1927 المحاماة 8 رقم 367 ص 560 محكمة الزقازيق الكلية في 9 أبريل سنة 1929 المحاماة 10 رقم 88 ص 169 ( وقد خلط هذا الحكم بين الخطأ المفترض ومذهب تحمل التبعة ) . وأنظر أيضاً محكمة مصر الكلية المختلطة في 14 يونية سنة 1927 جازيت 18 رقم 295 ص 233 – وفي 17 يونية سنة 1929 جازيت 20 رقم 188 ص 195 .
( [1409] ) استئناف وطني في 20 فبراير سنة 1894 الحقوق 9 ص 4 – وفي 19 يناير سنة 1908 المجموعة الرسمية 10 رقم 5 ص 10 – وفي 29 مارس سنة 1908 الحقوق 24 ص 50 – وفي 29 ديسمبر سنة 1926 المجموعة الرسمية 28 رقم 128 ص 247 – وفي 28 مايو سنة 1930 المحاماة 11 رقم 90 ص 149 - وفي 24 ديسمبر سنة 1932 المحاماة 13 رقم 548 ص 1104 .
ولكن القضاء المصري كان يتساهل كثيراً في استخلاص الخطأ من الوقائع . وقد جاء في الموجز للمؤلف ( فقرة 372 ص 378 ) في هذا المعنى ما يأتي : " فالقضاء المصري يتشدد في إلزام من يكون الشيء في حراسته باليقظة والانتباه ( استئناف وطني في 19 مايو سنة 1914 الشرائع 1 ص 246 – وفي 28 أبريل سنة 1915 الحقوق 32 ص 11 – استئناف مختلط في 15 فبراير سنة 1911 م 23 ص 180 – وفي 17 نوفمبر سنة 1920 م 33 ص 20 - وفي 25 نوفمبر سنة 1926 م 39 ص 41 – وفي 19 مايو سنة 1927 م 39 ص 491 – وفي 13 مارس سنة 1930 م 42 ص 358 ) – ثم هو يتساهل في تخفيف عبء الإثبات على المصاب ( استئناف مختلط في 28 أبريل سنة 1927 م 39 ص 415 – وفي 25 أكتوبر سنة 1928 م 41 ؟؟؟ القانونية التي يقيمها القضاء الفرنسي قرينة قضائية يستخلصها من وقائع الدعوى ( استئناف مختلط في 14 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 34 – وفي 8 مايو سنة 1930 جازيت 20 رقم 184 ص 169 ) " وأنظر أيضاً في هذا المعنى : استئناف مصر الوطنية في 29 مايو سنة 1934 المحاماة 15 رقم 156 / 2 ص 326 – وفي 10 فبراير سنة 1935 المحاماة 16 رقم 408 ص 892 – وفي 9 نوفمبر سنة 1938 المحاماة 19 رقم 335 ص 824 – وفي 16 نوفمبر سنة 1938 المحاماة 19 رقم 345 ص 841 – استئناف مختلط في 17 يونية سنة 1908 م 20 ص 276 – وفي 4 مايو سنة 1910 م 22 ص 288 – وفي 8 فبراير سنة 1911 م 23 ص 59 – وفي 15 فبراير سنة 1991 م 23 ص 180 – وفي 28 يناير سنة 1925 م 37 ص 188 – وفي 10 يناير سنة 1940 م 52 ص 93 – وفي 29 مايو سنة 1946 م 59 ص 5 – وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا قضت محكمة الموضوع بإلزام وزارة الأشغال العمومية بتعويض الضرر الناشئ عن الخلل الذي أحدثه في منزل المدعى تسرب المياه إلى نتيجة كسر أنبوبتها ، وأسست تقريرها خطأ الوزارة على تقصيرها في مراقبة الأنابيب وملاحظتها وتعهدها في باطن الأرض والكشف عليها من آن لآخر للتأكد من سلامتها ودوام صلاحيتها ، فهذا الحكم لا يكون قد أخطأ في تطبيق القانون ( نقض مدني في 17 أبريل سنة 1947 مجموعة عمر 5 رقم 185 ص 398 ) .
ومهما يكن من أمر ، فإن القضاء المصري كان يصرح بوجوب إثبات الخطأ . وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن القانون المدني المختلط لا يعرف لا المسئولية المادية ولا المسئولية القائمة على خطأ مفترض عن الأشياء غير الحية ( استئناف مختلط في 8 مايو سنة 1930 م 42 ص 486 ) ، وقضت أيضاً بأن المسئولية عن الأشياء غير الحية لا تقوم على خطأ مفترض ، بل يجب على المضرور إثبات الخطأ ، وتقوم القرائن القضائية مقام القرائن القانونية ( استئناف مختلط في أول مايو سنة 1901 م 13 ص 269 – وفي 14 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 34 ) . وكان لابد من إثبات خطأ في المسئولية عن الحريق ( استئناف مختلط في 5 يناير سنة 1893 م 5 ص 161 – وفي 20 مايو سنة 1914 م 26 ص 390 - وفي 11 أبريل سنة 1917 م 29 ص 362 – وفي 23 أكتوبر سنة 1918 م 31 ص 1 ) ، وهذا هو أيضاً ما نص عليه قانون 7 نوفمبر سنة 1922 في فرنسا ، أما في القانون المدني الجديد في مصر فالمسئولية عن الأشياء التي تحتاج حراستها إلى عناية تقوم على خطأ مفترض حتى لو كان الضرر قد نجم عن الحريق . وكان لابد من إثبات خطأ أيضاً في المسئولية عن السيارات ومركبات النقل ( استئناف مختلط في أول ديسمبر سنة 1927 م 40 ص 64 - وفي 20 يونية سنة 1929 جازيت 20 رقم 192 ص 181 – وفي 14 نوفمبر سنة 1929 جازيت 20 رقم 193 ص 182 – وفي 28 نوفمبر سنة 1929 جازيت 20 رقم 192 ص 180 – وفي 20 فبراير سنة 1930 م 42 ص 306 – وفي 13 مارس سنة 1930 م 42 ص 358 – وفي 27 مارس سنة 1930 جازيت 20 رقم 192 ص 181 ) .
( [1410] ) وقد جاء في هذا المعنى في الموجز للمؤلف ما يأتي : " ولكن القضاء المصري في مجموعه - أهلياً كان أو مختلطاً - لا يزال يرى أن المسئولية عن الشيء لا تتحقق إلا إذا ثبت خطأ في جانب الحارس . فهو لا يزال في الحالة التي كان عليها القضاء الفرنسي قبل تطوره الأخير في أواخر القرن التاسع عشر . وهو في الواقع من الأمر لا يستطيع - من حيث النصوص القانونية – أن يجد ما يساعده على تدعيم نظرية جديدة مثل النظرية التي أخذ بها القضاء الفرنسي . بل هو ليس في حاجة – في الوقت الحاضر – إلى هذه النظرية الجديدة . فالظروف الاقتصادية في مصر تختلف عنها في فرنسا : الصناعة لا تزال في عهد الطفولة ، والآلات الميكانيكية لم تبلغ من الكثرة ما يجعلها خطراً داهماً على الحياة الاجتماعية ، بل إن الصناعة الناشئة في مصر تتطلب في أول عهدها أن تشجع ، لا أن يثقل القضاء كاهلها بالتشدد في مسئولية أصحاب المصانع ، سيما أن تشديد المسئولية يقتضي تقدم نظام التأمين ، حتى تستطيع أصحاب المصانع أن تواجه ما تفاجأ به من خسارات فادحة تترتب على هذا التشديد . على أنه إذا وجد في حالة مصر الاقتصادية ما يستدعي التشديد في المسئولية عن الأشياء ، إما لحماية طائفة مستضعفة هي طائفة العمال ، أو لدرء الخطر من ازدياد وسائل النقل وتكاثر السيارات وغيرها ، فإن القضاء المصري قد عالج الأمر في جزم وحكمة ، فاستعاض عن القرينة القانونية التي قال بها القضاء الفرنسي بقرينة قضائية ، أسرع ما يكون إلى استخلاصها إذا كانت الظروف تستدعي ذلك " ( الموجز للمؤلف فقرة 366 ص 372 ) .
( [1411] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 247 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " كل من تولى حراسة آلات ميكانيكية أو أشياء أخرى تتطلب حراستها عناية خاصة يكون مسئولاً عما تحدثه هذه الأشياء من ضرر ، ما لم يثبت أن وقوع الضرر كان بسبب أجنبي لا يد له فيه . هذا مع عدم الإخلال بما يرد في ذلك من أحكام خاصة " . وقد أقرت لجنة المراجعة المادة على أصلها ، وأصبح رقمها 183 في المشروع النهائي . ووافق عليها مجلس النواب . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، قررت الأغلبية في أول الأمر حذف المادة اكتفاء بما تقرره القواعد العامة والأحكام الخاصة في قوانين العمل . ثم رأت اللجنة بعد ذلك أن تنتقل إلى النقيض من موقفها الأول ، فعدلت النص على الوجه الآتي : " يكون الشخص مسئولاً عن الأضرار الناشئة عن الأشياء الواقعة ف حراسته إلا إذا أثبت أن وقوع الضرر كان بخطأ المضرور أو بفعل الغير أو بقوة قاهرة أو حادث فجائي ، هذا مع عدم الإخلال بما ورد في ذلك من أحكام خاصة " . فجعلت النص عاماً ينصرف إلى الأشياء جميعاً ، سواء ما كان من قبيل الآلات الميكانيكية أم غيرها . ثم عادت اللجنة أخيراً إلى النص الأصلي فأقرته مع تعديله تعديلاً طفيفاً بأن قدمت عبارة " أو أشياء أخرى تتطلب حراستها عناية خاصة " على عبارة " آلات ميكانيكية " ليكون المعنى أكثر وضوحاً . وبذلك انتهت اللجنة إلى قصر نطاق النص على الآلات الميكانيكية وما يتطلب من الأشياء عناية خاصة في الحراسة ، كما كان الأمر في المشروع التمهيدي . وأصبح رقم المادة 178 . ووافق عليها مجلس الشيوخ كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 434 – ص 438 ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " لم يورد التقنين المصري ( القديم ) أي نص يتعلق بالمسئولية عن الجمادات . وإزاء ذلك عمد القضاء المصري إلى تطبيق القواعد العامة بشأنها ، كما فعل في المسئولية عن البناء ، فجعل ترتيبها معقوداً بإقامة الدليل على وقوع خطأ من حارس الشيء ولكنه جرى على التسامح كل التسامح في استخلاص هذا الخطأ . فهو يكتفي بأقل إهمال ، بل بمجرد العلم بما ينطوي في الشيء من أسباب الخطر ، للقول بتوافر الخطأ الذي تنبغي إقامة الدليل عليه . وهو بهذا يقيم قرينة قضائية على الخطأ ، يستعيض بها عما تقرر النصوص من قرائن قانونية في هذا الصدد . فليس من العدل في شيء مثلاً أ ، يلقى عبء الإثبات على المضرور في حادث من حوادث السيارات ، إذ يغلب أن يمتنع عليه عملاً أن يتبين كيفية وقوع الحادث ، وليس شك في أن سائق السيارة أقدر من غيره على تعليل ما وقع . ولهذه العلة اختار المشروع فكرة الخطأ المفروض ، مقتفياً في ذلك أثر التشريعات الأجنبية ، بل وأثر القضاء الفرنسي نفسه في مراحل تطوره الأخيرة . على أن المشروع لم يمض في هذا السبيل للقصى من غاياته . بل اجتزأ بما تقتضيه أحوال البلاد في المرحلة الراهنة من حياتها الاقتصادية . فهو لم يبلغ شأو القضاء الفرنسي في الحديث من أحكامه فيما يتعلق بإطلاق حكم هذه المسئولية على الجمادات بجميع أنواعها ، بل اقتصر على الآلات الميكانيكية وبوجه عام على الأشياء التي تتطلب حراستها عناية خاصة وبديهي أن هذا التخصيص قصد به إلى قصر الحكم على تلك الأشياء التي تحتاج لحراسة بسبب الخطر الملازم لها . وبهذا يكون من الميسور تصور إقامة قرينة على خطأ في الحراسة : أنظر في هذا المعنى المادتين 152 و 153 من التقنين اللبناني والمادة 131 من التقنين البولوني " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 435 – ص 436 ) .
( [1412] ) على أنه إذا أعيرت سيارة بسائقها ، فإن المعير في هذه الحالة يستبقى الحراسة عادة . وقد قضت محكمة النقض بأن المعير لسيارة بسائقها يكون مسئولاً عن إهمال السائق إذا نشأ من هذا الإهمال حادث في أثناء قيامه بمأموريته في مدة الاستعارة ( نقض في 8 يناير سنة 1931 المحاماة 11 رقم 464 ص 932 ) .
( [1413] ) وعمل المشرف هو أن يستبقى السيارة في مكان معين فتصبح له الحراسة من هذه الناحية . وأما أجزاء السيارة وآلاتها فتبقى في حراسة صاحبها . فإذا نقل شخص السيارة من مكان إلى آخر ، ولو من غير علم المشرف ، فأحدثت ضرراً ، كان المشرف هو المسئول وإذا كان بالسيارة خلل أحدث ضرراً ، فإن المسئول عن هذا الضرر هو صاحب السيارة .
( [1414] ) مازو 2 فقرة 1211 – 9 مكرر ص 180 .
( [1415] ) على أن هناك أشياء تحركها يد الإنسان ، ويبدو أن افتراض الخطأ فيها لا ينبغي أن يقوم ، لأنها إنما تتحرك طوعاً لإرادة رجال فنيين إذا أخطأوا وجب اعتبار الخطأ من فعلهم هم لا من فعل هذه الأشياء . مثل ذلك مصنع الجراح وآلات الأشعة .
( [1416] ) وواضح أن أهم الحوادث التي يطبق فيها الخطأ المفترض هي حوادث السيارات .
( [1417] ) داللوز 1927 – 1 – 97 مع تعليق ريبير – سيريه 1927 – 1 – 137 مع تعليق إسمان . وقد جاء في هذا الحكم ما يأتي : " ومن حيث إن القانون في تطبيق الافتراض الذي يقرره ، لا يميز بين ما إذا كان الشيء محركاً أو غير محرك بيد الإنسان ، وإنما يكفي أن يكون الشيء خاضعاً لحراسة واجبة ، وذلك بسبب ما يمكن أن يعرض له الناس من الأخطار " . ( … . mais attendu que la loi, pour l'application de la presumption qu'elle ediete, ne distingue pas suivant que la chose etait ou non actionnee par la main de l'homme, qu'il suffit qu'il s'agisse d'une chose soumise a la necessite d'une garde, en raison des danger qu'elle peut faire courir a autrui )
( [1418] ) ومعيار الشيء الخطر قال به الأستاذ ريبير ، ولا يزال يقول به – هذا وينكر الأستاذان مازو أن يكون المعنى الذي قصدت إليه محكمة النقض في حكمها هذا هو معيار الشيء الخطر . فالمحكمة إنما قالت إن المسئولية التي تقوم على خطأ مفترض تتأسس على حاجة الشيء للحراسة لما يعرض الناس له من الخطر . فهي لا تميز بين الشيء الخطر والشيء غير الخطر ، بل تفسر حاجة الشيء للحراسة ، فترجعها إلى ما يعرض الشيء له الناس من الخطر ( مازو 2 فقرة 1229 ) .
( [1419] ) داللوز 1930 – 1 – 57 مع مذكرة ماتير ( matter ) وتعليق ريبير - سيريه 1930 – 1 – 121 مع تعليق إسمان . وقد جاء في هذا الحكم ما يأتي : " ومن حيث إن الحكم المطعون فيه قد رفض تطبيق النص المشار إليه ( م 1384 فقرة 1 ) بدعوى أن الحادث الذي تسببه سيارة تتحرك بدفع وبتوجيه من يد الإنسان ، لا يكون من فعل الشيء تحت الحراسة وفقاً للمادة 1384 فقرة أولى ، ما دام لم يثبت مطلقاً أن الحادث يرجع إلى عيب ذاتي في السيارة ، ومن ثم يجب على المضرور للحصول على تعويض ما أصابه من الضرر أن يثبت خطأ في جانب السائق . ومن حيث إن القانون ، في تطبيق الافتراض الذي يقرره ، لا يميز بين ما إذا كان الشيء الذي أحدث الضرر محركاً أو غير محرك بيد الإنسان ، كما أنه ليس من الضروري أن يكون منطوياً على عيب في طبيعته يكون من شأنه أن يحدث الضرر ، فإن المادة 1384 تربط المسئولية بحراسة الشيء لا بالشيء ذاته " .
" Que l'arret attaque a refuse d'appliquer le texte susvise ( art . 1384 $ 1 ) par le motif que l'accident cause par une automobile eu movement, sous l'impulsion et la direction de l'homme, ne constituait pas, alors qu'aucune prevue n'existe qu'il soit du a un vice proper de la voiture, le fait de la chose que l'on a sous sa gard dans les termes de l'article 1384 $ i, et que , des lors, la victime etait tenue, pour obtenier reparation du prejudice, d'etablir a la charge du conducteur une faute que lui fut imputable; mais, attendu que la loi, pour l'application de la presumption qu'elle edicte, ne distingue pas suivant que la chose que a cause le dommage etait ou non actionnee par la main de l'hommer qu'il n'est pas necessaire qu'ell ait un vice inherent a sa nature et susceptible de causer la dommage' l'article 1384 rattachant la responsabilite a la garde de la chose, non a la chose olle - meme "
( [1420] ) داللوز 1942 – 1 – 25 مع تعليق ريبير – سيريه 1941 – 1 – 217 مع تعليق هنري مازو .
( [1421] ) مازو 2 فقرة 1249 .
( [1422] ) مازو 2 فقرة 1256 .
( [1423] ) مازو 2 فقرة 1256 ص 218 .
( [1424] ) وإذا انفجرت مواد ملتهبة فشبت حريق من جراء هذا الانفجار ، كان الحارس مسئولاً بمقتضى خطأ مفترض . وفي فرنسا لا يكون مسئولاً إلا إذا ثبت خطأه بمقتضى قانون 7 نوفمبر سنة 1922 .
( [1425] ) أنظر في تطبيقات أخرى متنوعة مازو 2 فقرة 1258 – فقرة 1270 .
( [1426] ) ويعترض الأستاذان مازو على مثل هذا الرأي ( انظر مازو 2 فقرة 1239 ) . وهما يقولان إن كل شيء قد يصبح خطراً في ظروف معينة . وهذا صحيح وهو منذ يصبح خطراً بقيام هذه الظروف تحتاج حراسته إلى عناية خاصة . فإذا أحدث ضرراً غير مقصود ، فرض أن زمامه قد ألفت من يد الحارس . فيرجع الأمر إذن إلى " الخطر النسبي للأشياء بالنسبة إلى الظروف الملابسة " ، وما إذا كان الشيء قد جعل في وضع أو في حالة تسمح عادة بأن يحدث ضرراً ، فعندئذ تحتاج حراسته إلى عناية خاصة . وهذا هو عين ما يقوله الأستاذان في شرح القضاء الفرنسي . فهما كما رأينا يرجعان بعد إسهاب طويل إلى فكرة التدخل الإيجابي . وليست هذه الفكرة إلا فكرة الشيء الخطر بالنسبة إلى وضعه وملابساته .
( [1427] ) أنظر في هذا المعنى ؟ 2 فقرة 553 .
( [1428] ) أنظر تفصيل ذلك في مازو 2 فقرة 1297 .
( [1429] ) أنظر مازو 2 فقرة 1315 وفقرة 1318 وفقرة 1320 وفقرة 1326 وفقرة 1327 – ويلاحظ أن القضاء الفرنسي عندما تكلم عن افتراض المسئولية ، جعل المفروض هو علاقة السببية لا الخطأ ، حتى لا يصطدم بالمادة 1352 من القانون المدني الفرنسي ، والسببية هنا مفترضة افتراضاً قابلاً لإثبات العكس ، وهي تنتفي بإثبات السبب الأجنبي .
( [1430] ) مازو 2 فقرة 1272 – 3 .
( [1431] ) جيرار ( Girard ) موجز القانون الروماني باريس سنة 1924 ص 642 وما بعدها .
( [1432] ) يشبهها الأستاذ ريبير ( Ripert ) في كتابه " القاعدة الأدبية فقرة 133 " بجدول من الماء يجري تحت الأرض ، فليست من القواعد القانونية المحددة ما يشهد بوجوده ، ولكن الجدول لا يظهر فوق الأرض أبداً .
( [1433] ) أنظر سافيني ( Savigny ) في القانون الروماني ( ترجمة جينو 1851 – 1855 ) . ص 513 – ص 617 – قارن جيرار موجز القانون الروماني باريس سنة 1924 ص 625 وما بعدها .
( [1434] ) أنظر دوما ( Domat ) ( القوانين المدنية 1 الكتاب الثاني الباب السابع الفصل الأول فقرة ؟؟ ) .
( [1435] ) أنظر بوتيه ( Pothie ) في باب الوكالة فقرة 182 وفقرة 189 .
( [1436] ) نظرية العقد ؟؟ فقرة 17 ص 69 – ص 71 .
( [1437] ) الأشباه والنظائر جزء أول ص 194 . وفي شرحه غمز عيون البصائر من دفع شيئاً ليس واجباً عليه فله استرداده إلا إذا دفعه على وجه الهبة . أنظر أيضاً في هذا المعنى م 202 وم 207 من كتاب مرشد الحيران .
( [1438] ) يؤيد هذا ما ورد في مجمع الضمانات من النصوص الآتية : عمر دار امرأته لها بلا إذنها قال النسفي العمارة كلها لها ولا شيء عليها من النفقة فإنه متبرع ، وعلى هذا التفصيل عمارة كرم امرأته وسائر أملاكها ( ص 453 ) – المديون إذا اتفق على ولد رب الدين أو امرأته بغيره أمره لا يبرأ من الدين ولا يرجع بما أنفق على من أنفق عليه ( ص 449 ) – لو قضى دين غيره بغير أمره جاز ، فلو انتقض ذلك بوجه من الوجوه يعوض إلى ملك القاضي لأنه تطوع بقضاء الدين ، ولو قضى بأمره يعود إلى ملك من عليه الدين ، وعليه للقاضي مثلها ( ص 448 – ص 449 ) .
( [1439] ) وفي جامع الفصولين زرع بينهما فغاب أحدهما وأنفق الآخر يكون متبرعاً بخلاف ذي العلو مع أن كلاً لا يصل إلى حقه إلا بالإنفاق . والفرق أن الأول مضطر لأن شريكه لو كان حاضراً يجبره القاضي على الإنفاق ولو غائباً يأمر القاضي الحاضر به ليرجع على الآخر ، فلما زال الاضطرار كان متبرعاً ، أما ذو العلو فمضطر في بناء السفل إذ القاضي لا يجبر صاحبه لو حاضراً فلا يأمر غيره لو غائباً ، والمضطر ليس بمتبرع ( شرح المجلة للأستاذ سليم باز ص 705 ) .
( [1440] ) نظرية العقد للمؤلف فقرة 61 ص 61 – ص 62 .
( [1441] ) أنظر كينر ( Kenner ) في شبه العقد ص 85 وما بعدها وص 139 وما بعدها .
( [1442] ) أنظر جنكس ( jenks ) م 720 .
( [1443] ) نذكر منها ما يأتي : 1 - إذا دفعت شركة التأمين مبلغ الخسارة المؤمن عليها فلها أن ترجع على المؤمن بالتعويض الذي أخذه من الغير عن هذه الخسارة 2 – إذا استولى أحد الشركاء في الشيوع على أكثر من نصيبه في غلة العين الشائعة التزم برد هذه الزيادة ؟ إذا لم يقم أحد المتعاقدين بما عليه من التزام فللآخر أن يفسخ العقد وأن يسترد النقود التي دفعها للطرف الأول أو أن يطلب تعويضاً عما قام به هو من الأعمال تنفيذاً للعقد . يراجع في ؟؟؟؟وما بعدها .
( [1444] ) محكمة النقض الفرنسية في 18 يونية سنة 1872 داللوز 72 72 – 1 – 471 . وقد تلى هذا الحكم حكمان آخران طبقاً هما أيضاً دعوى الفضالة في حالات الإثراء بلا سبب : محكمة النقض الفرنسية في 15 يولية سنة 1873 داللوز 73 – 1 – 457 ، وفي 19 ديسمبر سنة 1877 داللوز 78 – 1 – 204 . وآخر حكم طبقت فيه محكمة النقض الفرنسية نظرية الفضالة الناقصة صدر في 16 يولية سنة 1890 داللوز 91 – 1 – 49 مع تعليق للأول . وأنظر في الفقه الفرنسي ديمولومب 31 فقرة 49 – لوران 20 فقرة 337 – لارو 5 ص 601 .
( [1445] ) أنظر أوبري ورو ( Aubry et rau ) الطبعة الرابعة الجزء السادس ص 246 – ص 247 . وقد أحاط الفقيهان المبدأ ، بعد أن أكدا استقلاله ، بقيدين وردا فيما تنقله هنا من عبارات الفقيهين ذاتها :
" …… . il n'est permis de s'enrichir aux depens d'autrui dans tous les cas ou le patrimoine d'une personne se trouvant sans cause legitime enrichi au detriment de celui d'une autre personne, cello - ci ne jouirait, pour obtenir co qui lui apparient ou ce qui lui est du, d'aucune action naissant d'un contrat, d'un quasi - contrat, d'un delit, d'un quasi - delit,…… on doit … . s'attacher non au moment ou l'obligation de restitution a pris naissance, mais a celui de l'introduction de l'action de in rem verso………'
( [1446] ) محكمة النقض الفرنسية في 15 يونية سنة 1892 داللوز 92 – 1 – 596 وانتهت هذه المحكمة في حكيم مشهورين لها ( في 12 مايو سنة 1914 سيريه 1918 – 1 – 11 وفي 2 مارس سنة 1915 داللوز 1920 – 1 – 102 ) بأن استعارت بعض الألفاظ التي استعملها الفقيهان أو يرى ورو . فقالت في حكمها الصادر في 12 مايو سنة 1914 ( سيريه 1918 - 1 – 211 ما يأتي :
" Attendu que l'action de in rem verso, fondee sur le principe d'equite qui defend de s'enrichir au detriment d'autrui, doit etre admis dans tous les cas ou le patrimoine d'une personne, se trouvant, sans cause legitime enrichi aux depens de celui d'une autre personne, celle - ci ne jouirait, pour obtenir ce qui lui est du, d'aucune action naissant d'un contrat, d'un quasi - contrat, d'un delit, ou d'un quasi - delit . '
ثم تعاقبت بعد ذلك أحكام محكمة النقض الفرنسية في هذا المعنى .
( [1447] ) أنظر محكمة الاستئناف المختلطة في 4 ديسمبر سنة 1884 بوريللي م 205 رقم 1 – حكماً ثانياً في 17 مايو سنة 1888 المجموعة الرسمية المختلطة 13 ص 224 ( راجع ملاحظات على هذا الحكم في رسالة الدكتور ( Maravent ) المنشورة في مجلة مصر العصرية سنة 1949 عدد يناير – فبراير ص 30 ) – حكماً ثالثاً في 21 ديسمبر سنة 1892 م 5 ص 85 ( أنظر أيضاً في هذا الحكم رسالة الدكتور Maravent ص 31 – ص 32 ) - أنظر أيضاً محكمة الاستئناف الأهلية في 5 ديسمبر سنة 1901 الحقوق 18 ص 109 – وحكماً ثانياً في 20 مارس سنة 1919 المجموعة الرسمية 30 ص 281 .
( [1448] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 16 مارس 1899 م 11 ص 162 . وسبق هذا الحكم حكم آخر من المحكمة ذاتها في 13 فبراير سنة 1895 ( م 7 ص 122 ) رسم خصائص دعوى الإثراء بلا سبب في دقة وردها إلى سندها القانوني الصحيح ، أي إلى قواعد العدالة ، ولكن المحكمة سرعان ما عدلت عن هذا الموقف في حكمها الصادر في 16 مارس سنة 1899 وهو الحكم المشار إليه ، وسنرى بيان ذلك .
( [1449] ) وقد رأينا أن القانون الفرنسي دخل في مرحلته الثالثة منذ سنة 1892 .
( [1450] ) وقد صدر بعد هذا الحكم أحكام كثيرة من محكمة الاستئناف المختلطة تطبق صراحة مبدأ الإثراء بلا سبب : محكمة الاستئناف المختلطة في 17 مايو سنة 1900 م 12 ص 253 - حكماً ثانياً في 19 فبراير سنة 1903 م 15 ص 157 – حكماً ثالثاً في 4 أبريل سنة 1907 م 19 ص 201 – حكماً رابعاً في 23 أبريل سنة 1908 م 20 ص 192 – حكماً خامساً في 28 يناير سنة 1909 م 21 ص 139 - حكماً سادساً في 21 يناير سنة 1915 م 27 ص 133 – حكماً سابعاً في 22 يونية سنة 1916 م 28 ص 441 - حكماً ثامناً في 15 ديسمبر سنة 1926 جازيت 17 ص 53 – حكماً تاسعاً في 24 أبريل سنة 1928 م 40 ص 315 .
( [1451] ) أنظر محكمة الإسكندرية الكلية المختلطة في 6 يناير سنة 1917 جازيت 7 ص 90 . وقد اضطرت هذه المحكمة بعد أن ردت الفضالة إلى المادة 205 من القانون المدني المختلط أن تعدل من أحكام هذا النص في تحديد آثار الفضالة ، حتى تجعل الفضولي يسترد المصروفات الضرورية والنافعة دون أن يقتصر على أدنى القيمتين كما ورد في النص .
( [1452] ) محكمة الاستئناف الأهلية في 30 أبريل سنة 1929 المجموعة الرسمية 30 رقم 140 – محكمة الاستئناف المختلطة في 13 يناير سنة 1931 م 43 ص 148 - حكم ثان في 28 مايو سنة 1931 م 43 ص 417 - حكم ثالث في أول ديسمبر سنة 1931 م 44 ص 37 – حكم رابع في 14 يونية سنة 1933 جازيت 24 ص 393 . وأنظر في الفقه : والتون ص 190 - ص 191 – ذهني فقرة 705 وما بعدها - الموجز للمؤلف فقرة 394 ومع ذلك أنظر فقرة 391 – حشمت أبو ستيت فقرة 533 ( ويقرر في شيء من التردد أن الإثراء يجب أن يكون موجوداً وقت رفع الدعوى : فقرة 541 ) .
( [1453] ) من ذلك التقنين الألماني ( م 812 ) والتقنين السويسري ( م 62 من قانون الالتزامات ) والتقنين البولوني ( م 123 ) والتقنين اللبناني ( م 140 ) والمشروع الفرنسي الإيطالي ( م 73 ) .
( [1454] ) يوجد عدا ذلك في التقنين الجديد نصوص تشريعية وردت في حالات خاصة ، ويجب في هذه الحالات تطبيق النصوص كما وردت دون تطبيق القواعد العامة لدعوى الإثراء ، فإن هذه النصوص إنما هي دعوى الإثراء ذاتها محورة تحويراً يناسب كل حالة . من ذلك البناء والغراس في أرض الغير ( م 924 – 925 ) ، والبناء والغراس من الشفيع في العقار المشفوع ( م 946 ) والمصروفات الضرورية والنافعة ( م 980 ) . كما توجد نصوص هي تطبيقات محضة لمبدأ الإثراء بلا سبب فيطبق هذه المبدأ كما هو في الحالات اليت وردت فيها هذه النصوص ( من ذلك م 142 وم 160 وم 186 وم 196 وم 333 وم 688 فقرة 3 وم 897 ) .
( [1455] ) المراجع : دي هانس الجزء الثاني - هالتون الجزء الأول – والتون الجزء الثاني – الدكتور عبد السلام ذهني بك في الالتزامات – الدكتور محمد وهيبة في الالتزامات – الدكتور محمد صالح في أصول – الموجز في الالتزامات للمؤلف – الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت في نظرية الالتزام – بلانيول وإسمان الجزء السابع - ديموج الجزء الثالث - أوبري ورو الجزء التاسع . الرسائل : الدكتور محمود أبو عافية في التصرف القانوني المجرد – ستويسكو ( stolcesco ) باريس سنو 1904 - بوشيه ليكلير ( Bouhe - leclerc ) باريس سنة 1912 - سافاتبيه ( savatier ) بوانييه سنة 1916 - لويس لوكاس ( Louis Lucas ) ديجون سنة 1918 - موري ( Maury ) تولوز سنة 1920 - جيرونا ( Gerons ) باريس سنة 1925 ( في القانون الألماني ) - الموزتيتو ( Almosnino ) باريس سنة 1931 - موزوبي ( Mosoiu ) بارييس سنة 1932 - يبحثه ( Beguet ) الجزائر سنة 1945 - مارافان ( Maravent ) الرسالة المنشورة في مجلة مصر المصرية سنة 1949 عدد يناير وفبراير – فرانسوا جوريه ( Fr . Gore ) باريس سنة 1949 . المقالات : لوبير ( Loubers ) المجلة الانتقادية سنة 1912 - ريبير وتيسير ( Ripert et Tesseire ) المجلة الفصلية للقانون المدني سنة 1904 - رينار ( Rensrd ) المجلة الفصلية للقانون المدني سنة 1920 - رواست ( Rouast ) المجلة الفصلية للقانون المدني سنة 1922 - بيكار ( picard ) المجلة الفصلية للقانون المدني سنة 1922 . التعلقات :لآبيه ( Labbe ) سيريه 1890 - 1 - 1893 . 97 - 1 - 281 - بلانيول ( planiol ) داللوز 1891 - 1 - 49 - و 1892 - 1 - 161 - ساري ( sarrut ) داللوز 18921892 - 1 - 161 - فال ( wahl ) سيرية 1907 - 1 - 465 - ناكيه ( Naquet ) سيريه 1910 - 1 - 1918 . 425 - 1 - 313 - بوركار ( Bourcart ) سيريه 1911 - 1 - 313 - رواست ( Rouast ) داللوز 1923 - 2 - 17 .
( [1456] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " أوجز التقنين الحالي ( القديم ) إيجازاً مخلاً في إيراد الأحكام الخاصة بنظرية الإثراء بلا سبب ، مع مالها من أهمية بالغة . فلم يورد بشأن القاعدة العامة في الفضالة إلا نصاً واحداً تعوزه الدقة ويسوده الغموض . وإذا كان رد غير المستحق قد شغل من نصوصه حيزاً أرحب ، فمن الملحوظ أن القاعدة العامة في الإثراء بلا سبب لم تجد لها ، على النقيض من ذلك ، مكاناً في هذه النصوص ، اللهم إلا إشارات متناثرة في مختلف أجزاء التقنين " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 439 ) .
( [1457] ) جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد أيضاً ما يأتي : " وقد بدأ المشروع ( القانون الجديد ) بتقرير القاعدة العامة في الإثراء بلا سبب ، ثم تناول بعد ذلك صورتيه الغالبتين ، وهما رد غير المستحق والفضالة . وقد عزل المشروع أحكام الالتزام الطبيعي عن القواعد الخاصة برد غير المستحق رغم ما بينهما من تقارب ، وجعل الأولى مكانها بين النصوص المتعلقة بآثار الالتزام نزولا على ما يقتضيه المنطق " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 439 ) .
( [1458] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 284 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 - كل شخص ، لو كان غير مميز ، يثري دون سبب على حساب شخص آخر ، يلتزم بتعويض هذا الشخص عما لحقه من خسارة ، على ألا يجاوز في ذلك القدر الذي أثري به . ويبق هذا الالتزام حتى لو زال الإثراء فيما بعد .
2 - فإذا تبرع المثري بما أثري به كان من صدر له التبرع مسئولا أيضاً عن التعويض ، ولكن بقدر ما أثري " .
لجنة المراجعة : تليت المادة 248 من المشروع ، واقترح إدخال تعديلات لفظية وحذف الفقرة الثانية لعدم ضرورتها ، فأصبح النص النهائي ما يأتي : " كل شخص ولو غير مميز يثري دون سبب على حساب آخر يلتزم في حدود ما أثري به بتعويض هذا الشخص عما لحقه من خسارة . ويبقى هذا الالتزام قائماً حتى لو زال الإثراء فيما بعد " . وأصبح رقم المادة 184 في المشروع النهائي . مجلس النواب : وافق المجلس على المادة دون تعديل تحت رقم 184 .
لجنة مجلس الشيوخ : تليت المادة 184 ، فاقترحت إضافة كلمة " مشروع " إلى عبارة " بدون سبب " فوافقت اللجنة على ذلك . وأصبح رقم المادة 179 . مجلس الشيوخ :وافق المجلس على المادة كما أقرتها اللجنة . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 440 - ص 443 ) .
( [1459] ) أنظر المجلة الفصلية للقانون المدني سنة 1904 ص 727 .
( [1460] ) وقد رجع الأستاذ ريبير ( Ripert ) عن هذا الرأي في كتابة " القاعدة الأدبية " ، وأسند مبدأ الإثراء بلا سبب رأساً إلى قواعد الأخلاق .
( [1461] ) أنظر في هذا المعني محكمة الاستئناف المختلطة في 26 مايو سنة 1910 م 22 ص 338 - وحكماً ثانياً في 22 يونية سنة 1916 م 28 ص 441 - وحكماً ثالثاً في 15 ديسمبر سنة 1926 جازيت 17 رقم 42 ص 53 - وحكماً رابعاً في 24 أبريل سنة 1928 م 40 ص 315 .
( [1462] ) يقرب من هذا الدكتور أبو عافية في رسالته " التصرف القانون المجرد " القاهرة سنة 1947 ص 190 - ص 192 .
( [1463] ) أنظر محكمة الاستئناف المختلطة في 7 يونية المختلطة في 7 يونيه سنة 1928 م 40 ص 407 .
( [1464] ) أنظر محكمة الاستئناف المختلطة في 21 ديسمبر سنة 1892 م 5 ص 85 .
( [1465] ) أنظر محكمة الاستئناف المختلطة في 21 مارس سنة 1900 م 12 ص 170 .
( [1466] ) ولم تخط قاعدة الإثراء بلا سبب هذه الخطوة إلا بعد تطور . فقد كان الفقه في فرنسا يشترط أن يتحقق الإثراء عن طريق إضافة حق إلى مال المدين ( أوبري ورو 9 فقرة 578 - ديموج 3 فقرة 150 - رينار ص 248 ) ) . ثم تطور فأجاز أن يكون الإثراء ناتجاً عن منفعة أو عمل ( بلانيول وريبير وإسمان 7 ص 48 ) .
( [1467] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه " إذا كانت المطالبة بأجر الأرض مؤسسة على أن المدعى عليه شغلها بغير حق وبذلك حرم مالكها المدعى من الانتفاع بها ، وكان واقع الحال أن المدعى عليه قد أدعى أن للمباني المشغولة بها الأرض حق البقاء والقرر عليها ورفض إزالتها ، ثم حكم بعدم حقه في ذلك وبوجوب الإزالة ، فإن المدعى يكون بهذا الحكم مستحقاً للتعويض عن فعل المدعى عليه بلا نظر إلى ادعائه عدم انتفاعه بالمباني بعض الزمن ، لأن المالك لم يتعهد له بهذا الانتفاع ، والأجر الذي يطلبه إنما هو في مقابل شغل أرضه بلا مسوغ قانوني لا في مقابل الانتفاع بالمباني . ولذلك يكون المدعي عليه مسئولاً عن أجر الأرض من يوم استحقاقه عليه إلى يوم إزالة المباني " ( محكمة النقض في 2 مايو سنة 1946 مجموعة عمر 5 ص رقم 70 ص 157 ) . وأنظر أيضاً في الإثراء عن طريق الانتفاع بالعين انتفاعاً مؤقتاً محكمة النقض الفرنسية في 11 ديسمبر سنة 1928 داللوز الأسبوعي 1929 - 18 .
( [1468] ) أنظر محكمة الاستئناف المختلطة في 26 مايو سنة 1910 م 22 338 .
( [1469] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن المتجر الذي ينتفع بجهود شخص وبصلاته التجارية في الخارج يكون قد أثري على حسابه ( محكمة الاستئناف المختلطة في 4 مارس سنة 1925 م 37 ص 265 ) .
( [1470] ) وقد قضت محكمة استئناف مصر بأنه " إذا اشترى أشخاص أرضاً ودفعوا ثمنها كاملاً للبائع ، ولم يلتزموا في عقدهم بدفع أي دين على الأرض . ثم اشترى شخص آخر باقي الأرض المملوكة للبائع ، ووجد أنها مرهونة هي والأرض المبيعة لسواه من قبل ، فسدد ما على الأرض كلها من ديون ، كان الذين اشتروا قبله ملزمين بأن يسددوا للمشتري المذكور ما دفعه عن أرضهم ، لأنه مع التسليم بعد الالتزام هؤلاء المشترين شخصياً بالدفع ، إلا إنهم قد استفادوا فعلاً من دفع صاحب الأرض المشتركة مع أرضهم في ضمان الدين . ولا يجوز أن يستفيدوا هذه الفائدة على حساب غيرهم بدون مقابل ، خصوصاً وان المشتري لم يكن متطوعاً في سداد ذلك الدين ، بل كان مجبراً على سداده ليدفع عن أرضه خطر نزع الملكية ، ولم يكن لديه وسيلة أخرى لدفع هذا الخطر ما دام أن الدين مضمون برهن غيره قابل للتجزئة على أرضه وأرض الباقين والقول بغير ذلك وبعدم التزام من اشتروا قبلا بدفع ما سدده عنهم المشتري الأخير من الدين المطلوب على أرضهم فيه كل معنى الإثراء على حساب الغير ، لأن الإثراء كما يكون بأخذ مبلغ بلا مقابل يكون أيضاً بتوفير مبلغ واجب الدفع ، لأن هذا التوفير يزيد من طريق غير مباشر في ثروة الملتزم بالدفع ، فبدلاً من أن تنقص تبقى كما هي " ( محكمة الاستئناف مصر في 21 أبريل سنة 1935 المحاماة 16 رقم 75 ص 161 ) .
وقضت محكمة النقض بأن " الكفيل الذي يضمن أحد المدينين المتضامنين يملك قبل من كفله منهم الحق في المطالبة بجميع ما دفعه عنه عملاً بالمادة 505 من القانون المدني ( م 800 جديد ) ، وليس له قبل المدينين الآخرين إلا أحد سبيلين ( الأول ) أن يستعمل باسم مكفولة حقه قبلهم في المطالبة بما يجوز له أن يرجع به عليهم وذلك عملاً بالمادة 141 من القانون المدني ( م 235 جديد ) . ( والثاني ) أن يرجع عليهم بدعوى الإثراء على حساب الغير عملاً بالمادة 144 ( م 179 جديد ) ( محكمة النقض في 7 يناير سنة 1937 مجموعة عمر 2 رقم 24 ص 61 ) .
أنظر أيضاً في الإثراء عن طريق سداد دين المثري محكمة النقض الفرنسية في 12 فبراير سنة 1929 جازيت دي باليه 1929 –1 - 615 - وحكماً آخر في 4 يونية سنة 1924 داللوز 1926 - 1 - 102 .
( [1471] ) ومثل ذلك أيضاً –من قضاء محكمة النقض –أن يتقدم ناظر وقف يطلب شراء أطيان بمال البدل المتجمد ، فيتقدم شخص محتسباً يعارض في إتمام الصفقة ، ويثبت أن الأطيان المراد شراؤها ليست ملكاً للبائع بل هي موقوفة ولا يصح التصرف فيها . فيثمر جهده فائدة كبرى لجهة الوقف إذ يقيه ضياع آلاف من الجنيهات كانت على وشك الضياع لو تم الاستبدال الذي عمل على منعه . فالشخص المحتسب هنا قد افتقر بقدر ما تكفله من مصروفات وأتعاب محاماة للوصول إلى النتيجة التي وصل إليها ، وجهة الوقف قد أثرت على حسابه بقدر ما جنيها من خسارة كانت على وشك تحملها . وتكون مطالبة هذا الشخص المحتسب لجهة الوقف بما تجشمه من مصروفات وأتعاب محاماة هي مطالبة ممن أفاد لمنتفع بما استفاد ، وتكون دعواه هي دعوى الإثراء بغير سبب ( محكمة النقض في 4 يونية سنة 1936 مجموعة 1 عمرا رقم 373 ص 1145 ) . أنظر أيضاً في الإثراء عن طريق تجنيب المثري خسارة أو التوفير عليه في مصروف محكمة النقض الفرنسية في 15 يناير سنة 1866 سيريه 1912 - 1 - 513 . وانظر في هذا المعني بودري وبارد 4 فقرة 2849 ( 18 ) - ديموج 3 فقرة 149 .
( [1472] ) انظر في أمثلة أخرى من القضاء المصري محكمة استئناف مصر في 14 ديسمبر سنة 1922 المجموعة الرسمية 25 رقم 43 ( الراسي عليه المزاد أحدث إصلاحات في العين التي رسا مزادها عليه ) - محكمة الاستئناف المختلطة في 4 أبريل سنة 1907 م 19 ص 201 وفي 31 ديسمبر سنة 1929 م 42 ص 135 ( المستأجر الذي أبطل إيجاره أو فسخ أحدث إصلاحات في العين المؤجرة ) - محكمة الاستئناف المختلطة في 28 يناير سنة 1909 م 21 ص 139 وفي 26 مايو سنة 1910 م 22 ص 338 ( المهندس الذي قام بعمل مشروعات أو تصميمات ) - محكمة الاستئناف المختلطة في 4 مارس سنة 1925 م 37 ص 265 وفي 15 ديسمبر سنة 1926 جازيت 17 ص 42 وفي 10 يونية سنة 1942 م 54 ص 237 وفي أول مارس سنة 1944 م 56 ص 68 ( التاجر والمحامي والسمسار يؤدون خدمات دون سابق انفاق ) .
( [1473] ) استئناف مختلط في 21 مارس سنة 1900 م 12 ص 170 ( وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم ) . أنظر أيضاً استئناف مختلط في 19 نوفمبر سنة 1896 م 9 ص 18 ( شخص ينتفع بنقود مملوكة لغيره دون عقد قر ) - استئناف مختلط في 9 مايو سنة 1912 م 24 ص 338 ( شخص يسكن عقاراً مملوكاً لغيره دون عقد إيجار ) .
( [1474] ) وقد يكون الأجنبي المتدخل بعمل مادي هو ناظر الوقف يقترض مالاً دون إذن القاضي يدخل به تحسينات على العين الموقوفة فبطل القرض ويرجع المقرض على الوقف بدعوى الإثراء ( محكمة الاستئناف المختلطة في أول مارس سنة 1923 م 35 ص 259 ) وأنظر أيضاً استئناف مختلط في 12 يناير سنة 1905 م 17 ص 76 وفي 21 يناير سنة 1915 م 27 ص 133 وفي 9 أبريل سنة 1929 م 41 ص 345 . وانظر أيضاً استئناف مختلط في 2 يناير سنة 1896 م 8 ص 61 .
( [1475] ) وللميكانيكي بداهة أن يرجع على المشتري الذي تعاقد معه على إصلاح السيارة بدعوى العقد .
( [1476] ) أنظر مارافان ( Maravent ) في رسالته المنشورة في مجلة مصر المصرية سنة 1949 عدد يناير وفبراير ص 72 - هذا وقد قضت محكمة استئناف أسيوط بأنه " إذا عرض المالك أرضه للتأجير بالمزاد ورسا مزادها على شخص دفع التأمين ، وبعد فوات المدة المسموح فيها بتقديم عطاءات جديدة زرع الأرض ثم آجرها المالك بناء على شرط في قائمة المزاد يسمح له بذلك ، كان المالك ملزماً بأن يرد إلى من رسا عليه المزاد قيمة ما صرفه في الزراعة لأنه زرع في أرضه بحسن نية ولأنه لا يجوز قانوناً الإثراء بلا مقابل . وإذا كان المالك سلم الأرض بما عليها من الزراعة إلى مستأجرة حق له أن يطالبه بما انتفع به من زرع غيره . أما الراسي عليه المزاد فلا علاقة له بالمستأجر حتى يطالبه بشيء ما " ( استئناف أسيوط 21 ينايرسنة 1931 المجموعة الرسمية 33 رقم 39 ص 72 ) . وهذا يلاحظ هنا أن الإثراء في حالة رجوع الراسي عليه المزاد على المالك هو إثراء مباشر ، وفي حالة رجوع المالك على المستأجر هو إثراء غير مباشر بتدخل الراسي عليه المزاد عن طريق أعمال مادية أو أعمال قانونية وفقاً لطبيعة العمل الذي قام به الراسي عليه المزاد لزراعة الأرض .
وكالمستأجر للأرض الزراعية بغرس فيها زرعاً المقاول يقيم بناء على أرض مؤجرة تنفيذاً لعقد يتم بينه وبين المستأجر ، فيحق للمقاول الرجوع على المالك بدعوى الإثراء ، والإثراء هنا غير مباشر بتدخل من المستأجر عن طريق عمل قانوني هو العقد الذي تم بينه وبين المقاول ( أنظر محكمة مصر الابتدائية الوطنية في 21 نوفمبر سنة 1939 المحاماه 20 رقم 180 ص 470 ) . ودعوى الإثراء التي تعطي للمقاول في هذا القرض هي غير حق الامتياز الذي قرره القانون المدني الجديد للمقاولين ( قارن حكم محكمة الاستئناف المختلطة في 26 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 53 ) - ويلاحظ في هذه الأمثلة أن المؤجر لم يشترط في عقد الإيجار أن يكون البناء أو الغراس له عند نهاية الإيجار وإلا لكان لإثرائه سبب هو عقد الإيجار كما سيأتي .
( [1477] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 22 مايو سنة 1901 م 13 ص 327 . أما الفقه في مصر فكالقضاء يجير الإثراء غير المباشر ( والتون 2 ص 174 - ص 177 - الموجز للمؤلف فقرة 368 - حشمت أبو ستيت فقرة 537 ) . - ولا يجيز القانونان الألماني والسويسري الإثراء غير مباشر ( أنظر رسالة وسيوMosiou ص 121 - ص 123 وص 160 - ص 165 ) . والقانون المصري الجديد لم ينحرف عن تقاليد الماضية فهو ، كالقانون القديم ، يجير الإثراء غير المباشر ( أنظر في هذا الموضوع رسالة مارافان ص 71 - ص 74 وبخاصة آخر ص 74 ) .
( [1478] ) رينار ( المجلة الفصلية للقانون المدني سنة 1920 ) ص 248 - بنكاز ( Bonnecase ) ملحق مبسوط بودري 3 ص 343 . ويلاحظ أن هذا الجانب من الفقه في فرنسا الذي يتول بهذا الرأي هو الجانب الذي ينظر إلى قاعدة الإثراء بلا سبب نظرة مادية على اعتبار أنه تنظم علاقة ذمة مالية أخرى ، لا نظرة ذاتية على اعتبار أنها تنظم واجبات الأفراد الأدبية بعضهم ببعض . ومن هذا الرأي الأخير الأستاذ ريبير في كتابه المعروف " القاعدة الأدبية في الالتزامات " وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
وتجدر الإشارة إلى أن بعض ضروب الإثراء المعنوي يمكن اعتباره ذا قيمة مادية ، كما في براءة المتهم وفي شفاء المريض .
( [1479] ) والتون 2 ص 186 - الموجز للمؤلف فقرة 379 ص 387 - الدكتور حشمت في نظرية الالتزام فقرة 35 ص 390 - مارافان ( Maravent ) مجلة مصر المصرية سنة 1949 ص 59 - ص 61 .
( [1480] ) بلانيول وريبير وإسمان 7 فقرة 753 ص 49 - رواست ( المجلة الفصلية للقانون المدني سنة 1922 ) ص 54 - ( Mosiou ) ص 197 وما بعدها – بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 1267 - جوسران 2 فقرة 569 - ديموج 3 فقرة 150 ص 241 .
ويلاحظ أن الإثراء المعنوي في قاعدة الإثراء بلا سبب عاني من الصعوبات في الاعتراف به ما عاناه الضرر الأدبي ( prejudice moral ) في نظرية المسئول التقصيرية . على أن الضرر الأدبي قد أصبح الآن معترفاً به إلى حد أبعد من الحد الذي اعترف فيه بالإثراء المعنوي ( أنظر في هذا المعني ديموج 3 فقرة 150 ومارافان مجلة مصر المصرية سنة 1949 ص 60 ) . ويقول الأستاذ فرانسوا جوريه في كتابه في الإثراء على حساب الغير ( باريس ص 62 - ص 63 ) إن التعويض عن الضرر الأدبي في المسئولية التقصيرية أوسع مدى من التعويض عن الإثراء المعنوي في قاعدة الإثراء بلا سبب . ويعلل ذلك بأن التعويض في المسئولية التقصيرية ليس عديلاً ( equivalent ) عن الخسارة التي لحقت بالضرر ، بل عوض ( conipensation ) عن هذه الخسارة ؛أما في الإثراء بلا سبب فالتعويض هو عديل الإثراء لا عوض عنه . والعديل غير العوض ، إذا الخسارة الأدبية التي لا يمكن تقديرها بمال قد يكون لها عوض ول يكون لها عديل . فإذا لم يكن الإثراء المعنوي مما يمكن تقديره بمال تعذر أن يكون له عديل وإن جاز أن يكون له عوض ، فلا يصح أن يقوم ركناً في القاعدة الإثراء بلا سبب . ونحن نرى أن التمييز ما بين العديل والعوض في نظرية الإثراء بلا سبب دون نظرية المسئولية التقصيرية إنما يرجع إلى متخلف من نزعة الاستعصاء المألوفة التي تزال نظرية الإثراء بلا سبب تواجهها حتى اليوم .
( [1481] ) أنظر بلانيول وريبير وإسمان 7 فقرة 753 ص 49 - مارافان مجلة مصر العصرية ص 61 .
( [1482] ) محكمة النقض الفرنسية في 15 يولية سنة 1873 دالللوز 73 - 1 - 457 - وفي 13 يونية سنة 1892 داللوز 92 - 1 - 596 - وفي 30 نوفمبر سنة 1908 داللوز 1912 - 1 - 217 - وفي ديسمبر سنة 1910 داللوز 1911 - 1 - 177 - وفي 11 ديسمبر سنة 1928 ص 181 - محكمة مونبلييه في 3 فبراير سنة 1869 داللوز 69 - 2 - 213 ( الأجر عن التدريس ف حالة إعسار والد التلميذ وسنرى في موضوع آخر أن إثراء التلميذ هنا له سبب قانوني ) - محكمة إكس في 20 ديسمبر سنة 1888 سيريه 90 - 2 - 25 ( تحسين حالة مريض في مستشفي الأمراض العقلية وكانت قواعد الفضالة هي المنطقية في هذه القضية ) .
( [1483] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 4 مارس سنة 1925 م 37 ص 265 ( الانتفاع بالصلات التجارية وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم ) - ومع ذلك أنظر حكماً لمحكمة طنطا الوطنية في 26 يونية سنة 1935 ( المحاماة 15 رقم 332 ص 407 ) تقول فيه : " أما الإثراء الأدبي الذي يستتبع تحسين حالة فرد أو جماعة من ناحية أدبية احتمالية محضة فلا يعطي حقاً في دعوى الإثراء بلا سبب وإن كان القضاء الفرنسي قد أجاز أخيراً هذه الدعوى للدائن الذي زاد في ثروةالمدين العقلية والخلقية كالمربي " .
ونحن لا نتردد في القبول بجواز أن يكون الإثراء معنوياً - وقد استعملنا لفظ المعنوي " هنا بمعني فشمل الإثراء الصحي والجسمي ويعتبر هذا النوع من الإثراء عادة إثراء ذا قيمة مادية ، سواء في ظل القانون المدني القديم أو في ظل القانون المدني الجديد ( أنظر مارافان مجلة مصر العصرية من 61 حاشية رقم 6 ) . فلو أن بعثة للآثار وفقت إلى كشوف أثرية تزيح الغموض عن حقائق علمية وتاريخية ، وكان الاتفاق بينهما وبين مصلحة الآثار أن يكون لهذه المصلحة ملكية هذه الكشوف ، لجاز في رأينا أن يكون لدائني هذه البعثة الرجوع على مصلحة الآثار بما أثرت به من قيم معنوية –وهنا يمكن تقديرها بالمال - في حدود ما لهم من ديون في ذمة البعثة صرفت في القيام بهذه الكشوف الأثرية .
( [1484] ) وقد رأينا أن بعض الفقهاء يذهب إلى أنه يكفي إثراء المدين دون أن يقابل ذلك افتقار في جانب الدائن ، ويقيمون قاعدة الإثراء بلا سبب على المنفعة المستحدثة ( profit cree ) مقابلين بينهما وبين الضرر المستحدث ( risque cree ) . ولكن هذه النظرية ، كنظرية الضرر المستحدث أو تحمل التبعة ، لم يقيض لها النجاح ولا في القضاء ولا في النفقة ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
( [1485] ) ويقاس على هذا المثل كل حالة ينفق فيها الشخص لجلب منفعة يستوفيها – يقوى جسراً أو يشق ترعة أو يجمل مبنى أو يصقع حياً – فهو قد انتفع بقدر ما انفق ، وإذا كان غيره قد أفاد من عمله فهو لم تلحقه أية خسارة . ويمكن القول هنا إن الافتقار له سبب هو المنفعة التي حصل عليها . ولكن " سبب " الافتقار غير " سبب " الإثراء ، و سنرى ذلك عن بحث ركن انعدام السبب ( أنظر بلانيول وريبير وإسمان 7 فقرة 761 ) .
ويلاحظ أن بعض المحاكم تعبر خطأ عن المعنى نحن بصدده بانعدام السببية المباشرة بين الإثراء والافتقار ، فتقول في شخص يقيم بناء لمصلحته فيستفيد جاره عرضاً من هذا البناء ألا محل هنا للمطالبة بدعوى الإثراء " لأن المنفعة جاءت من طريق غير مباشر " … … " والواجب أن يكون بين الاستفادة والضرر رابطة السببية " . ( الواسطي في 17 يناير سنة 1938 المجموعة الرسمية 18 رقم 475 ص 1095 ) .
( [1486] ) وسنرى عند الكلام في الفضالة أن المستأجر إذا أجرى إصلاحيات في العين المؤجرة لمنفعته الشخصية لا يكون فضولياً ولا يستطيع أن يرجع بدعوى الفضالة على المالك ، لأنه لم يقصد بعمله إلا تدبير شؤونه الشخصية لا تدبير شؤون المالك فالمستأجر في هذه الحالة لا يرجع على المالك لا بدعوى الفضالة ولا بدعوى الإثراء بلا سبب . وقد قضت محكمة استئناف مصر في هذا المعنى بما يأتي : " أن محل تطبيق نظرية الإثراء بغير سبب على حساب الغير ودعوى الفضولي هو أن يكون الإثراء بغير سبب من الأسباب القانونية ولن يكون عمل الفضولي لحساب المالك لا لحسابه الخاص لغرض الوصول إلى الانتفاع بالعين شخصياً . فمستأجر الأرض الذي يجري تحسينات فيها ويقيم مباني ويغرس أشجاراً بقصد تسهيل وسائل الاستغلال والاستعمال الشخصي رغم الخطر الصريح عليه في عقد الإيجار بعدم إجراء شيء من ذلك إلا بأمر المالك ، يكون ملزماً بإزالة أحدثه بدون أن يكون له حق الرجوع على المالك بما أوجده من التحسينات في العين المؤجرة " . ( استئناف مصر في 27 أبريل سنة 1937 المجموعة الرسمية 38 رقم 8 ص 175 - المحاماة 18 رقم 72 ص 150 ) . ويبدو أن المحكمة أست رفض دعوى الإثراء على انعدام السبب القانوني ، وكان الأولي أن تؤسسه على انعدام الافتقار .
( [1487] ) محكمة الإسكندرية الابتدائية المختلطة في 23 ديسمبر سنة 1911 جازيت 2 ص 63 - أنظر محكمة الاستئناف المختلطة في 5 يونية سنة 1929 م 41 ص 438 - وقارن محكمة الاستئناف المختلطة في 25 أبريل سنة 1928 م 40 ص 321 .
( [1488] ) أنظر في هذا المعنى محكمة الاستئناف المختلطة في 15 ديسمبر سنة 1926 جازيت 17 رقم 42 ص 53 .
( [1489] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 4 مارس سنة 1925 م 37 ص 265 ( وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم )
( [1490] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 26 مايو سنة 1910 م 22 ص 338 .
( [1491] ) مارافان مجلة مصر العصرية ص 91 - ص 93 - ديموج 3 فقرة 156 - أوبرى ورو وبارتان 9 ص 358 - بلانيول وريبير وإسمان 7 فقرة 755 .
( [1492] ) أنظر في هذا المعنى ديموج 3 فقرة 156 ص 251 .
( [1493] ) ويؤيد ذلك القوانين الخاصة التي تجعل للحكومة الحق في تقاضي تعويض من ملاك الأراضي على جانبي الشارع الجديد في مقابل ما ظفروا به من علو قيمة أراضيهم بسبب هذا الشارع الجديد .
هذا وهناك رأي يقضي بأنه إذا كان افتقار الدائن مقترناً بخطأ منه ، فلا يستطيع الرجوع بدعوى الإثراء ( كولان وكابيتان وجوليودي لامورانديير 2 باريس سنة 1948 فقرة 411 ص 299 - بلانيول وريبير وبولانجيه 2 باريس سنة 1949 فقرة 1269 - ذهني بك في نظرية الالتزام فقرة 706 ) . ويستند هذا الرأي إلى حكم صدر من محكمة النقض الفرنسية ( 11 يولية سنة 1889 داللوز 1889 - 1 - 393 ) في قضية ثبت فيها أن مصروفاً أعطى مديناً قرضاً ليفي بدين عليه مضمون برهن في الدرجة الأولي ، وأهمل المصروف في أن يقوم بإجراءات الحلول محل الدائن المرتهن الأول ، وترتب على هذا الإهمال المصرف في أن يقوم بإجراءات الحلول محل الدائن المرتهن الأول ، وترتب على هذا الإهمال أن الدائن المرتهن في المرتبة الثانية ارتفع إلى المرتبة الأولي . فرجع المصروف على هذا الدائن بدعوى الإثراء إذ قد استفاد من افتقار المصرف فأصبح في المرتبة الأولي وجاء المصرف بعده ، فرفضت المحكمة دعوى المصرف ، وبنت حكمها على أن المصرف قد أهمل في عدم اتخاذ إجراءات الحلول . والرأي الصحيح في نظرنا أن المصروف ترفض دعواه لا لأنه أهمل في عدم اتخاذ إجراءات الحلول كما ذهبت إليه محكمة النقض الفرنسية ، بل لأن الدائن الذي ارتفع إلى المرتبة الأولي قد أثرى بسبب مشروع إذا استفاد بمقتضى مركز قانوني وضعه فيه القانون ، وسنرى تفصيل ذلك في الكلام عن سبب الإثراء .
ولا يوجد في القواعد العامة التي يقوم عليها مبدأ الإثراء بلا سبب ما يؤيد الرأي الذي تنقذه . ذلك أنه متي ثبت أن شخصاً افتقر فاغتنى غيره على حسابه دون سبب مشروع ، فإن العدالة تقضى بتعويض المفتقر ، سواء اقترن بإهمال منه أو لم يقترن . وإنما وجب التعويض لأن أحد الشخصين اغتني على حساب الآخر دون سبب مشروع ، وهذا الأساس قائم سواء كان مفتقر مهملاً أو غير مهمل .
يؤيد ذلك أن التطبيقات التشريعية لبدأ الإثراء بلا سبب لم يخل بعضها من أن يكون المفتقر فيها مهملاً بل سئ النية فمن بنى فمن أو غرس في أرض غيره ولو بسوء نية لم يحرم من التعويض ( م 924 ) . كذلك لم يميز المشروع فيمن يتعامل مع ناقص الأهلية بين حسن النية وسيئها فكلاهما يستطيع الرجوع بدعوى الإثراء فيما إذا طلب ناقص الأهلية إبطال العقد ( م 142 ) . ( أنظر في هذا الموضوع الموجز للمؤلف فقرة 383 وقد نقلنا عنه ما قدمناه في هذا الصدد . وانظر الدكتور حشمت أبو ستيت في نظرية الالتزام فقرة 536 في آخرها . ) .
( [1494] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 24 أبريل سنة 1928 فقرة 40 ص 315 .
( [1495] ) فقرة 147 .
( [1496] ) ملحق مبسوط بودري 3 فقرة 180 وفقرة 181 .
( [1497] ) أنظر مؤلفه " بحث في معنى التعادل في القانون الفرنسي " ( Essai sur le role de la notion d quivalence en dr civ . fr . ) جزء 3 ص 352 .
( [1498] ) رواست المجلة الفصلية للقانون المدني سنة 1922 ص 60 وما بعدها - أنظر أيضاً بلانيول وريبير وإسمان 7 فقرة 758 .
( [1499] ) ديموج 3 فقرة 161 وما بعدها .
( [1500] ) أنظر بحثاً في هذه المعاني المتضاربة في رسالة الدكتور محمود أبو عافية " التصرف المجرد " القاهرة سنة 1947 ص 181 - ص 185 ( النسخة الفرنسية ) . ونجد في هذه الرسالة بحثاً في تحديد معنى السبب في الإثراء في القانون الألماني . ويستخلص من هذا البحث أن القانون الألماني لا يقف عند معنى وأحد للسبب . ففي الأعمال القانونية التي يترتب عليها نقل حق من ذمة إلى أخرى ( actes d attribntion patrimoniale ) يقوم التصرف إما على سبب الوفاء ( cause solvendi ) أو على سبب الدائنية ( couso credendi ) أو على سبب التبرع ( cause donandi ) والسبب هنا هو الغرض الشخصي المباشر الذي يقصده المتصرف وهو أقرب ما يكون إلى السبب في العقد في النظرية الفرنسية التقليدية . فإذا كان التصرف مجرداً ( acte abstrait ) ولم يكن له سبب من هذه الأسباب الثلاثة ، فإنه يبقى مع ذلك صحيحاً . لكن إذا نقذه الدائن جاز للمدين أن يسترد ما دفعه بدعوى الإثراء بلا سبب ، ونرى من ذلك أن معنى " السبب " في الإثراء هو نفس معنى " السبب " في العقد . هذا إذا كان الإثراء آتياً من تنفيذ تصرف مجرد . أما إذا أتي الإثراء من عمل إرادي صادر من المثري ( بنى في أرضه بأدوات غيره ) أو عمل إرادي صادر من أجنبي ( بنى في أرض غيره بأدوات شخص ثالث ) أو واقعة طبيعية ( طرح البحر ) ، فيعتبر أن الإثراء له سبب إذا كان هناك مصدر قانوني يكسبه للمثري ( تقادم أو حسن نية أو انقضاء ميعاد أو قوة الشيء المفضي ) . ( أنظر الرسالة في نسختها الفرنسية ص 147 - ص 179 ) .
وينعى الدكتور أبو عافية على القانون الألماني هذا الازدواج في معنى السبب وما يلقيه في نظرية الإثراء بلا سبب من اضطراب وتعقيد ، فيقول : " تلك هي النظرية الأساسية في الإثراء بلا سبب أوجزنا حدودها فيما تقدم . وهي كما نرى لها خاصية بارزة ، هي أنها تأخذ السبب القانوني للإثراء على معنيين . فإذا كان مصدر الإثراء تصرفاً قانونياً ( إضافة إلى الذمة ) أخذته على معنى الغرض الشخصي ( ziveck ) الذي يقصده المفتقر . أما إذا كان الإثراء واقعة قانونية أخذته على معنى السبب المنشئ ( Rechtsgrund ) ومرجعه إرادة القانون . ولا غرابة إذن في أن يسلم الفقه الألماني باستحالة وضع صيغة واحدة لفكرة السبب في الإثراء تغطي جميع الفروض . فكيف يمكن إعطاء صيغة واحدة لفكرة لها معنيان ، أحدهما يربطها بإرادة الأفراد والآخر يربطها بإرادة القانون ؟هذه الصيغة المزدوجة - رغم إجماع الفقه الألماني عليها - تبدو لنا مفككة متناثرة الأجزاء . فالغرض الشخصي ومرجعه الإرادة الخاصة والسبب المنشئ ومرجعه إرادة القانون هما فكرتان تناقض إحداهما الأخرى بحيث لا نستسيغ جمعهما تحت عنوان وأحد هو " السبب في الإثراء " …إن العيب في هذه النظرية يرجع –بصفة خاصة - إلى الطريقة الفنية التي اتبعها الفقه الألماني لحل مشكلة السبب في الإثراء . فقد رأينا هذا الفقه يبدأ بالسؤال الآتي :متى يكون الإثراء بلا سبب؟ وبعد أن يرفض الإجابة عليه بصيغة عامة يأخذ في معالجة مختلف فروض الإثراء بلا سبب كما هي معروفة في القانون الرماني . وكل ما يمكن أن يقال لصالح هذه الطريقة هو ما فيها من يسر جاء من كونها تقليدية موروثة وسائدة في ألمانيا منذ دخول القانوني الروماني فيها إلى يومنا هذا . ولكنها طريقة تنطوى على عيب خطير هو إغفال المسألة الأساسية في مادة الإثراء ، وهي إيجاد صيغة عامة لعنصر السبب تشمل جميع الأحوال دون أن تتغير طبيعة هذا العنصر بتغير الفروض . ونحن لا نصدر في ذلك عن مجرد التمسك بالاعتبارات المنطقية وغن كان فيها ما يبرر البحث عن صيغة واحدة لإيضاح العلاقات القانونية ، ولكننا فضلاً عن ذلك نرى أنا ما دمنا لم نصل إلى تلك الصيغة فإن مبدأ الإثراء نفسه بظل قاصراً مقاتلاً . فتحديد طبيعة السبب في الإثراء هو الأساس الذي تبني عليه نظرية الإثراء وترسم حدود تطبيقها " ( رسالة الدكتور أبو عافية في نسختها العربية ص 182 - ص 183 - أنظر أيضاً ص 192 - ص 196 ) .
( [1501] ) ورد في هذه المذكرة ما يأتي : " ( والشرط ) الثالث إلا يكون للإثراء الحادث أو الافتقار المترتب عليه سبب قانوني يبررهما ، فلا يجوز للواهب مثلاً أن يرجع على الموهوب له بدعوى الإثراء بلا سبب ، لأن بين العاقدين تصرفاً قانونياً هو عقد التبرع يبرز افتقار أحدهما وإثراء الآخر " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 441 ) .
( [1502] ) الموجز للمؤلف فقرة 387 - الدكتور حشمت أبو ستيت فقرة 538 - مارافان ( مجلة مصر المصرية سنة 1949 ) ص 102 - ص 104 - الدكتور شفيق شحاته ( جريدة المحاكم المختلطة عدد 3381 - 9 . 8 نوفمبر سنة 1944 ) . الدكتور محمود أبو عافية في رسالته " التصرف القانوني المجرد " ( نسخة فرنسية ص 185 - 189 ) - قارن والتون 2 ص 188 - ص 190 .
( [1503] ) مبسوط بودري 15 فقرة 2849 - بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 1270 - كولان وكابيتان 2 فقرة 413 - ( ويقتصران على العقد سبباً للإثراء ) - جوسران 2 فقرة 572 - فيرنيو ( Vergniaud ) رسالة من باريس 1916 ص 216 - بوديشنيانو ( Budisthteano ) رسالة من باريس 1920 ص 106 - موسيو ( Mosiou ) رسالة من باريس ص 236 .
( [1504] ) محكمة النقض الفرنسية في 9 مايو سنة 1853 دالللوز 53 - 1 - 251 - وفي 18 أكتوبر سنة 1898 داللوز 99 - 1 - 105 - وفي 12 فبراير سنة 1923 داللوز 23 - 1 - 64 - وفي 12 نوفمبر سنة 1924 داللوز 1924 - 1 - 129 - وفي 11 فبراير سنة 1931 داللوز 1931 - 1 - 129 - وفي 28 فبراير سنة 1939 داللوز . 1940 - 1 - 1 - وفي 21 فبراير سنة 1944 داللوز الأسبوعي 1944 ص 58 - وفي 17 مايو سنة 1944 جازيت دي باليه 1944 - 2 - 71 أما القضاء المصري فستعرض له تفصيلاً فيما يلي .
( [1505] ) محكمة الإسكندرية المختلطة في 6 مايو سنة 1926 جازيت 16 رقم 255 ص 256 .
( [1506] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 15 ديسمبر سنة 1926 جازيت 17 رقم 42 ص 53 - وفي 26 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 53 ( فان مارافان ص 105 وهو يجعل السبب هنا القانون لا العقد ) .
( [1507] ) وقد نصت الفقرة الثالثة من المادة 658 ذاتها على أنه " إذا كان الاختراع ذا أهمية اقتصادية جدية ، جاز للعامل في الحالات المنصوص عليها في الفقرة السابقة أن يطالب بمقابل خاص يقدر وفقاً لمقتضيات العدالة . ويراعي في تقدير هذا المقابل مقدرا المعونة التي قدمها رب العمل وما استخدم في هذا السبيل من منشآته " . ونرى في هذا الفرض الخاص أن عقد العمل لا يكفي سبباً لجميع ما عاد على رب العمل من الإثراء ، وأن بعضاً من هذا الإثراء يبقى دون سبب وهو الذي يرجع به العامل على رب العمل .
( [1508] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه إذا اشترط في عقد الإيجار أن جميع التحسينات والإنشاءات التي يجريها المستأجر في العين المؤجرة تكون للمؤجر عند نهاية الإيجار ، فلا يجوز للمستأجر أن يرجع بدعوى الإثراء على المؤجر من أجل بئر ارتوازي أحدثه ضمن المنشآت التي أقامها وركب عليه آلة رافعة فأصبح كل ذلك عقاراً بالتخصيص . ومع ذلك إذا كان من الثابت أن إحداث البئر الارتوازي لم يكن وارداً في عقد الإيجار ، وأن الماء الآتي من هذا البئر ساعد كثيراً على تحسين الأرض المؤجرة وما في ذمة المؤجر للمستأجر بسبب مبادأته الموفقة بإنشاء البئر الارتوازي ( استئناف مختلط في 25 مارس سنة 1922 م 34 ص 258 ) . وظاهر أن محكمة الاستئناف لم تجعل عقد الإيجار سبباً يشمل الإثراء الآتي من البئر الارتوازي لأنه لم يكن وارداً في العقد ، واعتبرت هذا الإثراء دون سبب ، وقاصته في دين على المستأجر نشأ من عدم تحسينه لجزء من الأرض المؤجرة
وسنرى عند الكلام في الفضالة أن المستأجر الذي يستحدث إصلاحات في العين لمنفعته الشخصية لا يعتبر فضولياً .
( [1509] ) الموجز للمؤلف فقرة 388 . انظر أيضاً في هذا المعنى محكمة النقض الفرنسية في 21 يولية سنة 1903 دللوز 1904 - 1 - 181 .
( [1510] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 7 يونية سنة 1928 م 40 ص 415 .
( [1511] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه " حيثما وجد بين المتخاصمين رابطة عقدية فلا قيام لدعوى الإثراء بلا سبب على حساب الغير ، بل تكون أحكام العقد هي مناط تحديد حقوق كل المتخاصمين وواجباته قبل الآخر . فإذا كان الثابت بالحكم أن البائع طالب المشتري منه بباقي الثمن المقسط على خمسة أقساط ، ثم عدل طلباته إلى طلب الحكم له بباقي القسطين الأولين ، موصوفاً هذا الباقي خطأ بأنه باقي الثمن ، وقضى له بذلك ، ثم أراد أن يطالب بالأقساط الثلاثة الباقية ، ولتصور أنه قد سد في وجه طلها باعتبارها باقية من ثمن المبيع ، أقام بدعواه بالمطالبة بها على نظرية الإثراء بغير سبب على حساب الغير ، ومحكمة الموضوع حكمت ، بعد استعراض وقائع الدعوى ، بأنه لا محل للاستناد إلى هذه النظرية ، وبأن حق البائع في المطالبة بالأقساط الباقية القائم على أساس الشراء لا يزال بابه مفتوحاً أمامه ، فإن قضاءها بذلك سليم لا مطعن عليه " ( نقض في 22 ديسمبر سنة 1932 مجموعة عمر 1 رقم 84 ص 157 ) .
هذا وقد قضت محكمة النقض أيضاً بأنه " متى كان هناك عقد يحكم علاقات الطرفين فلا محل لتطبيق قاعدة الإثراء على حساب الغير ، فإن هذه القاعدة هي مصدر لا تعاقدي للالتزام فلا يكون لها على حث يوجد التعاقد . فإذا كان المستأجر قد التزم في عقد الإيجار بأجرة ري الأرض ، وتعهد بأن يدفع الأموال الأميرية على أن تخصم له من أجرة الأطيان ، ثم دفع للصراف على ذمة الأموال مبالغ تزيد على قيمة المستحق منها على الأطيان المؤجرة ، لخصمت له الحكومة الزيادة من أجرة الري الملتزم هو بها ، خصمتها المحكمة من أجرة الأطيان على أساس أن دفعها إنما كان على ذمة الأموال ، وحفظت للمؤجر أن يرجع بها على المستأجر بدعوى الإثراء على حساب الغير ، فإنها تكن قد أخطأت " ( نقض في 16 نوفمبر سنة 1944 مجموعة عمر 4 رقم 157 ص 439 ) . وكان الواجب ألا تخصم محكمة الموضوع من أجرة الأطيان ما دفعه المستأجر من الزيادة على الأموال المستحقة ، لأن هذه الزيادة لم يثر بها المؤجر إذ أن الحكومة خصمتها من أجرة الري وهذه دين شخصي في ذمة المستأجر ، فلا يرجع المستأجر بهذه الزيادة على المؤجر . لا لأن هناك سبباً للإثراء يمنع من الرجوع ، بل لأن الإثراء ذاته غير موجود . ومتى امتنع رجوع المستأجر على المؤجر بالزيادة لم يصبح هناك محل لرجوع المؤجر على المستأجر بدعوى الإثراء أو بغيرها من الدعاوى –هذا هو في نظرنا الوضع القانوني الصحيح للقضية التي نحن بصددها
( [1512] ) وقد قدمنا عند الكلام في الإثراء غير المباشر أنه إذا لم يكن في عقد الإيجار شرط ما يجعل التحسينات من حق المؤجر عند نهاية الإيجار ، فلا يصلح عقد الإيجار لأن يكون سبباً لإثراء المؤجر ، ويجوز للدائن وللمقاول في هذه الحالة الرجوع على المؤجر بدعوى الإثراء ( قارن كولان وكابيتان 2 فقرة 413 ص 300 - ص 301 - الأستاذ حشمت بوسنيت فقرة 537 - وانظر بلانيول وريبير وإسمان 7 فقرة 759 ) .
( [1513] ) وهذه حالة تلف النظر ، فقد يكون الواهب مصراً فلا يستطيع المفتقر أن يحصل منه على حقه ، فإذا أراد الرجوع على الموهوب له يجز له ذلك لما قدمناه . والذي بلغت النظر هو أننا قدمنا هنا جلب المنفعة على درة الضرر ، إذا الموهوب له ، وهو يستبقي منفعة جلبها ، يفضل على المفتقر ، وهو يسعى لدرء الضرر عن نفسه . ومن أجل ذلك اشتمل المشروع التمهيدي على نص خاص في هذه المسألة ( هو الفقرة الثانية من المادة 248 من هذا المشروع ) وقد جرى على الوجه الآتي : " فإذا تبرع المثري بما أثرى به كان من صدر له التبرع مسئولاً أيضاً عن التعويض ولكن بقدر ما أثرى " . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية في صدد هذا النص ما يأتي : " فإذا تصرف المثري بعوض فيما أثرى به ، فليس لمن افتقر حق الرجوع على من صدر له التصرف ، لأن هذا الأخير قد أثرى بمقتضى سبب قانوني هو التصرف نفسه . أما إذا كان التصرف على النقيض من ذلك بغير مقابل ، لأصل أن ينحصر حق الرجوع في المثري ما دام من صدر له التبرع قد أثرى بسبب قانوني هو عقد التبرع . يبد أن المشروع قد أثبت حق الرجوع على من صدر له التبرع بمقدار ما أثرى ، مقدماً بذلك درء الصرر على جلب المنفعة ، ويكون للمفتقر في هذا الفرض أن يرجع على المثري أو على من صدر له التبرع ، وفقاً لمصلحته في ذلك . فإذا كان مبلغ ما أصابه من خسارة 1000 جنيه وبلغت قيمة الإثراء بالنسبة للمثري 800 جنيه ، وبالنسبة لمن صدر له التبرع 900 جنيه ، فمن مصلحة المفتقر أن يرجع على من صدر له التبرع " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 442 ) - ومما يؤسف له أن هذا الحل العادل خلا منه المشروع عند خروجه من لجنة المراجعة ، فقد حذفت هذه اللجنة النص المشار إليه بدعوى أنه غير ضروري . وهذا ما ورد في الأعمال التحضيرية في هذا الصدد : " المشروع في لجنة المراجعة : تليت المادة 248 من المشروع واقترح إدخال تعديلات لفظية وحذف الفقرة الثانية لعدم ضرورتها " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 443 وقد سبق ذكر ذلك ) . وأقر البرلمان المشروع خالياً من هذا النص .
أنظر في مثل آخر لعقد مبرم ما بين المثري والغير يكون سبباً للإثراء محكمة الاستئناف المختلطة في 22 مايو سنة 1901 م 13 ص 327 ( شخص سرقت منه سندات وتعاقد اللص مع شخص آخر للحصول على مبلغ من المال في نظير هذه السندات . فلا يجوز لصاحب السندات أن يرجع بدعوى الإثراء على هذا الشخص الآخر لأن العقد المبرم بين هذا الأخير –وهو المثري - وبين اللص - وهو غير المفتقر - يعتبر سبباً للإثراء . هذا ما لم يكن الشخص الآخر الذي تعاقد مع اللص سيء النية ) .
( [1514] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 19 ديسمبر سنة 1929 م 42 ص 122 .
( [1515] ) أنظر في هذا المعنى محكمة الاستئناف المختلطة في أول مايو سنة 1901 م 13 ص 268 . ومع ذلك أنظر حكماً منها بغير هذا المعنى في 19 فبراير سنة 1903 م 15 ص 157 .
( [1516] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 26 أبريل سنة 1917 جازيت 7 ص 142 .
( [1517] ) وكذلك إذا لم يتقدم دائن في الميعاد يعارض في قائمة التوزيع النهائية ( محكمة الاستئناف المختلطة في 13 يناير سنة 1931 م 43 ص 148 - وفي أول ديسمبر سنة 1931 م 44 ص 27 ) .
( [1518] ) محكمة النقض الفرنسية في 21 ديسمبر سنة 1923 داللوز 1924 - 1 - 48 - انظر أيضاً هنرى وليون مازو في المجلة الفصلية للقانون المدني سنة 1944 ص 181 .
( [1519] ) محكمة النقض الفرنسية في 12 فبراير سنة 1923 دالللوز 1924 - 1 - 129 - كذلك إذا سدد مصروف دائناً مرتهناً وأغفل أن يتخذ الإجراءات القانونية للحلول مجلة فسبقه رهن قانوني كان متأخراً عن الدائن المرتهن الذي استوفي حقه لم يجز للمصرف الرجوع على صاحب الرهن القانوني بدعوى الإثراء لأن تقدمه على المصرف له سبب هو حكم القانون ( محكمة النقض الفرنسية في 11 يولية سنة داللوز 1889 - 1 - 393 وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم وقررنا عند الإشارة إليه أن المانع من دعوى الإثراء ليس هو إهمال المفتقر بل هو وجود سبب قانوني للإثراء ) - كذلك إذا وضع شخص يده على أرض لا يملكها ورهنها في قرض أقام به بناء على هذه الأرض ، ثم استحقت الأرض وقد ملك المستحق البناء بالالتصاق فامتد الرهن القانوني إلى هذا البناء ، فإن الرهن الذي رتبه واضع اليد على الأرض يبطل لصدوره من غير مالك ، ولا يستطيع الدائن أن يرجع على الزوجة بدعوى الإثراء لأن لإثرائها سبباً قانونياً هو حكم من أحكام القانون ( محكمة باريس الاستئنافية في 5 يونية سنة 1905 داللوز 1908 - 2 - 129 ) - وتقضى المحاكم الفرنسية بأنه إذا قام مدرس بإعطاء تلميذ دروساً خاصة بمقتضى اتفاق مع والد التلميذ ، وأراد المدرس الرجوع على الوالد فوجده مصراً ، فإنه يستطيع الرجوع على التلميذ بدعوى الإثراء في ماله الخاص لأن التلميذ قد أثرى إثراء عقلياً بفضل هذه الدروس الخاصة ( محكمة مونبلييه الاستئنافية في 3 فبراير سنة 1869 داللوز 69 - 2 - 213 . وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم عند الكلام في الإثراء المعنوي - أنظر أيضاً محكمة إكس الاستئنافية في 11 أغسطس سنة 1812 جورنال دي باليه 1813 رقم 650 - ومحكمة بو الاستئنافية في 19 يناير سنة 1852 داللوز 53 - 2 - 198 ) . ويرى الأستاذ مارافان ( مجلة مصر العصرية سنة 1949 ص 109 ) . بحق أن المدرس لا يستطيع الرجوع بدعوى الإثراء على التلميذ لأن الإثراء هنا له سبب قانوني هو التزام والد التلميذ بتعليم ولده ، ولكن المدرس يستطيع أن يرجع على التلميذ بدعوى الفضالة لأنه كان يعمل لمصلحته ولمصلحة التلميذ معاً ، ودعوى الفضالة خير له من دعوى الإثراء . وإذا كان ناظر الوقف يعمل دون أجر بعد أن نزل عن أجره ، فإن مركزه القانوني من الوقف - وهو ناظره - يمنعه من المطالبة بأجر على أساس أن الوقف قد اثري على حساب جهوده . فجهوده هذه واجبة بحكم القانون على اعتبار أنه ناظر الوقف ، سواء عمل بأجر أو نزل عن أجره . ومن ثم لا يذهب إلى ما ذهبت إليه محكمة النقض في مثل هذه الصورة من أن الرابطة العقدية بين ناظر الوقف وجهة الوقف هي التي تمنع من المطالبة بدعوى الإثراء ، إذ الرابطة بين الناظر والوقف هي رابطة قانونية لا رابطة تعاقدية . وهذا هو ما قررته محكمة النقض في هذا الصدد : " الأصل في الوكالة أنها تكون بغير مقابل ما لم يوجد شرط صريح بخلاف ذلك أو شرط ضمني يتضح من حالة الوكيل . فإذا استندت المحكمة في أن ناظر الوقف كان يحمل بغير أجر مقابل ما لم يوجد شرط صريح بخلاف ذلك أو شرط ضمني يتضح من حالة الوكيل . فإذا استندت المحكمة في أن ناظر الوقف كان يحمل بغير أجر إقراراته المتكررة فإنها لا تكون قد خالفت القانون . ولا يقبل من هذا الناظر قوله إنه لا يصح أن يثري الوقف على حساب جهوده ، فإن دعوى الإثراء على حساب الغير لا يكون لها محل إلا إذا لم توجد رابطة عقدية بين المتخاصمين وهذه ليست حالته " ( نقض 14 يونية سنة 1945 مجوعة عمر 4 رقم 265 ص 722 ) .
وهذا مثل آخر لوجود سبب للإثراء هو حكم من أحكام القانون :دائن مرتهن تزل عن مرتبته إلى دائن مرتهن آخر متأخر عنه . وترتب على ذلك أنه تأخر في المرتبة فلم ينل في التوزيع إلا جزءاً من حقه . ولكن الدائن الذي حل محله لم يتمكن لسبب يرجع إلى إجراءات التوزيع من الحصول على كل حقه . فقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه لا يجوز للدائن الذي نزل عن مرتبته الرجوع بدعوى الإثراء على من أثرى من الدائنين بسبب عدم تمكن الدائن الذي حل محله من الحصول على كل حقه ( استئناف مختلط 31 يناير سنة 1931 م 43 ص 148 ) . ويمكن تعليل ذلك بأن الإثراء هنا له سبب قانوني هو الأحكام القانونية الواجبة الاتباع في التوزيع .
( [1520] ) وهذا ما جاء بالمذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد :وقد اكتفي المشروع بهذه الشروط الثلاثة دون أن يضيف إليها شرطين آخرين نصت عليهما بعض تقنينات تأثرت مما كان مأثوراً من الممانعة أو التحرز في قبول مبدأ الإثراء . فلا يشترط أن يظل الإثراء قائماً إلى وقت رفع الدعوى ( قارن المادة 142 من التقنين اللبناني وهي تنص على هذا الشرط في حالة الإثراء بحسن النية ) بل يكون الرد واجباً ولو زال الإثراء فيما بعد ، وهذا ما تقضى به صراحة المادة 248 من المشروع ( أنظر في هذا المعني المادة 2343 من التقنين الأرجنتيني ) . ولا يشترط كذلك ألا يكون للدائن دعوى سوى دعوى الإثراء يستطيع أن يلجأ إليها لاستيفاء حقه ، بل يجوز له أن يباشر هذه الدعوى ولو هيأ له القانون طريقاً آخر . ولا يزال التقنين اللبناني ( المادة 142 ) مبقياً على ما كان لدعوى " رد غير المستحق " من صفة احتياطية أو تبعية ، وقد قصد المشروع إلى إهمال هذا الشرط فتعمد إغفال النص عليه " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 442 ) .
( [1521] ) محكمة النقض الفرنسية في 15 يونية سنة 1892 داللوز 92 - 1 - 596 .
( [1522] ) أوبري ورو الطبعة الرابعة الجزء السادس ص 246 - ص 247 . وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
( [1523] ) محكمة النقض الفرنسية في 12 مايو سنة 1914 سيريه 1998 - 1 - 41 - وما لبثت المحكمة أن أصدرت حكماً آخر في هذا المعني في 2 مارس سنة 1915 داللوز 1920 - 1 - 102 ( أنظر تحليلاً لهذا الحكم وتعليقاً عليه للأستاذ كابيتان في كتابه الأحكام الكبرى للقضاء المدني طبعة ثالثة باريس سنة 1950 ص 335 - ص 336 ) .
( [1524] ) بودري وبارد 4 فقرة 2849 ( 16 ) - بلانيول وريبير وبرلانجية 2 فقرة 1276 - جوسران 2 فقرة 574 - ديموج 3 ص 287 - محكمة النقض في 12 فبراير سنة 1923 داللوز 1924 - 1 - 129 - وفي نوفمبر سنة 1934 داللوز الأسبوعي 1934 ص 587 - وفي 11 سبتمبر سنة 1940 جازيت دي باليه 1141 وسيريه 1941 - 1 - 121 .
( [1525] ) أوبري ورو مع تعليقات بارتان طبيعة خاصة جزء 9 ص 355 . وقد أول الأستاذ بارتان المعنى المراد بالصفة الاحتياطية تأويلات ثلاثة :1 ) فإما أن يراد بذلك أن دعوى الإثراء لا تجوز مباشرتها إلا حيث لا توجد أية دعوى أخرى يتمكن بها الدائن من الوصول إلى حقه . 2 ) وإما أن يراد أن دعوى الإثراء تجوز مباشرتها حتى لو وجدت هذه الدعوى الأخرى ما دامت هذه الدعوى قد فقدها الدائن بغير خطأ منه . 3 ) وإما أن يراد أن دعوى الإثراء تجوز مباشرتها حتى لو وجدت الدعوى الأخرى ولم يفتقدها الدائن ولكنها غير منتجة بسبب إجبار المدين في هذه الدعوى الأخرى .
( [1526] ) " الإثراء بلا سبب والقضاء المدني " ( المجلة الفصلية للقانون المدني 1922 ص 35 وما بعدها ) . وقد ميز الأستاذ رواست في هذا المجال بين فرضين ( الفرض الأول ) أن توجد دعوى قائمة لدى الدائن يستطيع الالتجاء إليها بجانب دعوى الإثراء ، فهو لا شك يؤثرها على دعوى الإثراء لأنها تسير له تعويضاً أوفي . وسواء كانت دعوى الإثراء في هذا الفرض دعوى احتياطية أو دعوى أصلية فالواقع من الأمر أن الدائن لا يلجأ إليها ما دام الباب أمامه مفتوحاً عن طريق دعوى أخرى . فدعوى الإثراء في الفرض الذي نحن بصدده دعوى احتياطية على كل حال ، إما من طريق الواقع . ( والفرض الثاني ) أن تكون هناك دعوى أخرى إلى جانب الإثراء ، ولكنها انسدت أمام الدائن فلم يبق لديه إلا دعوى انسد طريقها لمانع قانوني ، أواند طريقها بفعل الدائن نفسه ، أواند طريقها بغير فعله ويكون ذلك عادة بإعارة المدين في الدعوى الأخرى .
( [1527] ) الإثراء بلا سبب وصفته الاحتياطية باريس سنة 1931 " . وقد بحث ألموزنينو في هذه الرسالة جميع الفروض المتقدمة وأرجعها إلى خمس أحوال 1 ) ليس لدى الدائن إلا دعوى الإثراء وحدها . 2 ) المدى للدائن دعوى قائمة منتجة غير دعوى الإثراء . 3 ) كان لدى الدائن دعوى أخرى غير دعوى الإثراء ولكن طريقها أند لمانع قانوني . 4 ) كان لدى الدائن دعوى الإثراء ولكن طريقها أند بفعله هو . 5 ) كان لدى الدائن دعوى أخرى غير دعوى الإثراء ولكن طريقها أند بغير فعله ( بسبب إعسار المدين في الدعوى الأخرى ) .
ففي الحالة الأولي – حالة ما إذا لم يكن لدي الدائن إلا دعوى الإثراء –لا تثار الصفة الاحتياطية لهذه الدعوى ، إذ هي الدعوى الوحيدة المفتوحة أمام الدائن ، وليس لديه غيرها للمطالبة بحقه . وفي الحالة الثانية – حالة ما إذا كان لدى الدائن بجانب دعوى الإثراء دعوى أخرى قائمة منتجة – يقول أنصار الصفقة الاحتياطية إن الدائن لا يستطيع مباشرة دعوى الإثراء لأن لديه أخرى قائمة منتجة . ويخالف البعض ( ومنهم الموزينينو ) هذا الرأي ، ويذهبون إلى إعطاء الدائن الخيار بين الدعويين ولكن المزنينو يتثنى من ذلك ما إذا كانت الدعوى الأخرى دعوى العقد أو دعوى الاستحقاق فتجب دعوى الإثراء ، وتصبح هذه الدعوى احتياطية وفي هذه الحالة الثالثة - حالة ما إذا كان لدى الدائن دعوى أخرى غير دعوى الإثراء ولكن طريقها أند لمانع قانوني –لا يجوز الالتجاء إلى دعوى الإثراء حتى لا يداور المانع القانوني وتنجح الحيلة في مخالفته . ومثل المانع القانوني قواعد الإثبات ، فإذا أقرض شخص آخر مبلغاً يزيد على عشرة الجنيهات لم تستطع الرجوع عليه بدعوى الإثراء ليتمكن من إثبات القرض بالبينة ، إذ أن دعوى الإثراء تقوم على واقعة مادية فيجوز إثباتها بجميع الطرق . ولا يبقي أمام المقرض إلا دعوى القرض ، وفيها يجب الإثبات بالكتابة أو بما يقوم مقامها . ومثل المانع القانوني أيضاً التقادم ، فإذا قام تاجر بتوريد أشياء لشخص لا يتجر فيها وتقادم حقه بانقضاء سنة ( م 378 مدني جديد ) ، لم يستطيع الرجوع بدعوى الإثراء لأن دعوى عقد التوريد قد انسد طريقها لمانع قانوني هو التقادم . ومثل المانع القانوني أخيراً قوة الشيء المقضي ن فإذا باع قاصر عقاراً بغبن فاحش ورفع دعوى لتكملة الثمن ( م 425 مدني جديد ) فقضى له بالتكملة ، ثم نزلت قيمة العقار في يد المشتري إلى أقل من أربعة أخماسه ، لم يستطيع المشتري أن يرجع على القاصر بدعوى الإثراء ليسترد منه التكملة لأن الدعوى الأخرى وهي دعوى تكملة الثمن قد انسد طريقها لمانع قانوني هو قوة الشيء المقضي .
وفي الحالة الرابعة – ما إذا كان لدى لدائن دعوى أخرى غير دعوى الإثراء ولكن طريقها السد بفعله هو – لا يجوز للدائن في رأي رواست مباشرة دعوى الإثراء ولا الدعوى الأخرى التي انسد طريقها . وهذا معناه أن دعوى لإثراء دعوى احتياطية جبتها دعوى أصلية فقلا تجوز له مباشرتها ، ثم إن الدعوى الأصلية السد طريقها بفعله هو فلا يجوز له أيضاً أن يباشرها . فإذا أقرض مصرف مديناً النقود التي سدد بها دائناً مرتهناً ، وأهمل المصرف في أن يتخذ الإجراءات اللازمة لحلوله محل الدائن المرتهن ، وترتيب على ذلك أن رهناً قانونياً لقصر كان المدين وصياً عليهم سبق المصرف المرتبة ، فإن المصرف لا يستطيع الرجوع على القصر بدعوى الإثراء ( نقض فرنسي 12 يولية سنة 1889 داللوز 89 – 1 – 393 : قضية Arrazat ) ، لأن الدعوى الأخرى وهي دعوى الحلول محل الدائن المرتهن انسد طريقها بإهمال المصرف . وإذا كان شخص يملك كليا فضل في غاية للصيد وأفزع الطري في الغابة ، فأمسك به صاحب الغاية وأبقاه عنده أياما ، فإنه لا يستطيع الرجوع على صاحب الكلب بدعوى الإثراء لما أنفقه عليه في إطعامه ( نقض فرنسي 11 نوفمبر سنة 1902 سيريه 1903 – 1 – 453 : قضية Rolland ) ، لأن الدعوى الأخرى وهي دعوى الفضالة انسد طريقها بإغفال صاحب الغاية أن يسلم الكلب للبلدية وهي التي تتولى إطعامه تطبيقاً لأحكام قانون 21 يونية سنة 1898 في فرنسا . وإذا أهمل المقاول في اتخاذ الإجراءات اللازمة لقيد حق امتيازه على بناء أقامه لشخص أفلس ، فإنه لا يستطيع الرجوع بدعوى الإثراء على التفليسة ( نقض فرنسي 12 فبراير سنة 1923 داللوز 24 – 1 – 129 : قضية Marty ) ، لأن الدعوى الأخرى وهي دعوى حق الامتياز قد انسد طريقها إذ أضاعها المقاول بتقصيره .
أما الأستاذ ألمزينيو فيري أن دعوى الإثراء في هذه الحالة هي دعوى أصلية تجوز مباشرتها ولو انسد طريق الدعوى الأخرى بفعل الدائن .
وفي الحالة الخامسة – حالة ما إذا كان لدى الدائن دعوى أخرى غير دعوى الإثراء ولكنها أصبحت غير ذات فائدة بسبب إعسار المدين – فإذا كان المدين لا يستطيع الرجوع على المثري ، جاز للمفتقر أن يرجع عليه بدعوى الإثراء ، وتكون هذه الدعوى إذن دعوى أصلية . مثل ذلك أن يتعاقد معلم مع والد التلميذ على إعطاء التلميذ درساً خاصاً ، ويفلس الوالد ، فيستطيع المعلم في هذه الحالة أن يرجع بدعوى الإثراء على التلميذ ( انظر ألموزتينو ص 157 وفي فروض أخرى ص 158 – ص 173 ) .
( [1528] ) أنظر كابيتان في كتابه الأحكام الكبرى للقضاء المدني طبعة ثالثة باريس سنة 1950 ص 336 ( وقد سبقت الإشارة إلى هذا المرجع ) .
( [1529] ) وقد سبقت الإشارة إلى الفقه والقضاء الفرنسيين اللذين يؤيدان الصفة الاحتياطية للدعوى .
( [1530] ) مارفان مجلة مصر العصرية سنة 1949 ص 129 – ص 131 .
( [1531] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 9 ابريل 1929 م 41 ص 345 – وفي 13 يناير سنة 1931 م 43 ص 148 – وفي أول ديسمبر سنة 1931 م 44 ص 37 – إتياي البارود 6 أبريل سنة 1931 المحاماة 12 ص 1190 ( وقد سبقت الإشارة إلى بعض هذه الأحكام ) . وانظر والتون 2 ص 190 – ص 191 – ذهني فقرة 705 وما بعدها – حشمت أبو ستيت فقرة 523 ص 389 ( وقد سبت الإشارة إلى هذه المراجع ) – وينضم الدكتور وديع فرج في مذكراته إلى رأي من يقولون بالصفة الاحتياطية لدعوى الآثراء . ويأخذ على القانون الجديد أنه نفي هذه الصفة عن الدعوى . ثم يقول إن التعديل الذي أدخله القانون الجديد له أثر عميق ، إذ يصح تطبيقا لهذا التعديل – بحسب رأيه – أن يختار صاحب الأرض التي بنى فيها أجنبي بحسن نية ، في رجوعه على الباني ، بين المطالبة بما تقضي به المادة 925 وبين دعوى الإثراء بعد أن أصبحت دعوى أصلية . وواضح أن المادة 925 قد تكفلت ببيان حكم الباني بحسن نية في أرض الغير ، وهي تطبيق خاص لدعوى الإثراء ، كما أسلفنا القول فتطبيق هذه المادة إنما هو تطبيق الدعوى لإثراء ذاتها في حالة من حالاتها الخاصة . فلا يجوز القول بعد ذلك أن لصاحب الأرض أن يختار بينها وبين دعوى الإثراء . وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
( [1532] ) الموجز للمؤلف فقرة 390 – فقرة 391 .
( [1533] ) وهذا مع تحفظ واحد خاص بتحديد معنى " الافتقار " في الأمثلة التي وردت في النص و؟؟ إليه بالتفصيل فيما يلي
( [1534] ) الدكتور محمود أبو عافية : التصرف القانوني المجرد ( نسخة عربية 9 فقرة 52 ص 196 حاشية رقم 7 .
( [1535] ) الدكتور مارافان ( Maravent ) مجلة مصر العصرية سنة 1949 ص 124 – ص 145 .
( [1536] ) ينسب الدكتور حشمت أبو ستيت ( فقرة 533 ص 389 ) إلى محكمة النقض أن قضاءها استقر على أن لدعوى الإثراء صفة احتياطية . ويورد في سبيل الاستشهاد على ذلك حكماً صدر من هذه المحكمة في 22 ديسمبر سنة 1932 ( ملحق القانون والاقتصاد 3 ص 68 ) تقول فيه " حيثما وجد بين المتخاصمين رابطة عقدية فلا قيام لدعوى الإثراء بغير سبب على حساب الغير ، بل تكون أحكام العقد هي مناط تحديد حقوق كل من المتخاصمين وواجباته قبل الآخر " ( انظر أيضاً مارافان وهو يستشهد على هذا الرأي بنفس الحكم في ص 127 حاشية 2 ) . وغنى عن البيان أن الحكم غير صريح في المعنى المنسوب إلى محكمة النقض . وقد استشهدنا نحن بهذا الحكم ذاته في صدد أن الإثراء قد يكون سببه عقداً . ومن هنا نرى الارتباط القوي بين الصفة الاحتياطية والسبب في الإثراء ، فإن حكماً واحداً استشهد به على كل من الأمرين .
على أن هذين الأمرين جد مختلفين فالقول بأن دعوى الإثراء دعوى احتياطية لا تباشر إذا وجدت بجانبها دعوى أخرى غير القول بأنه إذا وجد للإثراء سبب فلا تقوم دعوى الإثراء . وفرق بين أن يقال إن دعوى الإثراء قائمة ولكنها لا تباشر ، وأن يقال إن دعوى الإثراء لا تباشر لأنها غير قائمة .
( [1537] ) وقد رأينا فيما نقلنه عن الموجز ( فقرة 390 – فقرة 391 ) مثلين آخرين : ( 1 ) يتفق طبيب مع مريض على معالجته ويكون المريض قد أمن على نفسه من المرض . ( 2 ) يوفي شخص ديناً على غيره معتقداً أن الدين في ذمته – وقلنا إننا لا نرى ما يمنع من أن يترك الطبيب دعوى العقد قبل المريض إلى دعوى الإثراء قبل شركة التأمين ، وأن يترك من وفى دين غيره دعوى دفع غير المستحق قبل الدائن إلى دعوى الإثراء قبل المدين .
وفي هذين المثلين اجتمعت دعوى الإثراء مع دعوى العقد ومع دعوى دفع غير المستحق . وقد تجتمع مع دعوى المسئولية التقصيرية كما رأينا في ثمل المغتصب لمال الغير الذي أوردناه في المتن ، وكما يقع في المنافسة غير المشروعة وفي التقليد ( Contrefacon ) فيجوز للمدعى أن يرجعى المنافس أن المقلد بدعوى المسئولية التقصيرية أو بدعوى الإثراء . وقد تجتمع دعوى الإثراء مع دعوى الفضالة كما إذا كشف نسابة ميراثاً لشخص يجهل أنه وارث ، وكما إذا تولى محام عملا لصالح شخص دون توكيل ، فيجوز أن يرجع النسابة أو المحامي على من أثرى إما بدعوى الفضالة أو بدعوى الإثراء .
ونستخلص من هذه الأمثلة أن دعوى الإثراء هى دعوى أصلية ، فإذا اجتمعت مع دعوى أخرى – كدعوى العقد أو دعوى المسئولية التقصيرية أو دعوى دفع غير المستحق أن دعوى الفضالة – كان للمدعى الخيار بينها وبين هذه الدعوى الأخرى . وفي هذه النطاق وحده يمكن أن نتصور أن تقوم دعوى الإثراء مع قيام دعوى أخرى إلى جانبها .
ويمكن القول – وهذا هو التحفظ الذي أشرنا إليه عندما كنا ننقل عن الموجز – إن دعوى الإثراء حتى في هذا النطاق لا تقوم . ولعلنا نستطيع الوصول إلى هذه النتيجة عن طريق تحليل معنى " الافتقار " تحليلاً أبعد مدى مما قدمناه . إذ يلاحظ أن الافتقار في كل هذه الأمثلة يقابله حق ترتب للمفتقر بسبب افتقاره . فالمغصوب ماله كسب بالغصب حقاً في التعويض قبل الغاصب . والطبيب كسب بالعقد حقاً قبل المريض . والموفى لدين غيره كسب بالوفاء حقاً قبل الدائن . ومن نوفس منافسة غير مشروعة أو قلدت بضاعته كسب بالمنافسة غير المشروعة أو بالتقليد حقاً قبل المنافس أو المقلد . والنسابة والمحامي دون توكيل كسبا بالفضالة حقاً قبل الوارث وقبل من ترافع عنه المحامي – فهل إذا كان المفتقر في الوقت الذي افتقر فيه كسب حقاً يعادل هذا الافتقار ودخل هذا الحق في ماله ، يمكن القول مع ذلك إن افتقاره موجود ؟ ألا يجوز أن يقال إن الافتقار هنا قابله حق يعادله فانعدم ، فلا تقوم دعوى الإثراء في جميع الحالات التي قدمناها ؟ إذا صح ذلك انمحى كل فرض تقوم فيه دعوى الإثراء مع قيام دعوى أخرى إلى جانبها ، فهذه الدعوى الأخرى إذا قامت تكون إما " سبباً " للإثراء أو " معادلا " للافتقار ، وفي الحالتين لا تقوم دعوى الإثراء .
وهذا الرأي له مزيتان : ( أولاً ) ببسط المسألة التي نحن بصددها إلى حد كبير ، وبدلا من أن تفرض إلى جانب دعوى الإثراء دعوى أخرى قائمة ، ثم نتساءل أيجوز مع قيام هذه الدعوى الأخرى مباشرة دعوى الإثراء ، تقرر في ؟؟؟ أن دعوى الإثراء إذا توافرت أركانها لا يمكن أن تقوم إلى جانبها دعوى أخرى . فتصبح مسألة الصفة الاحتياطية لدعوى الإثراء مسألة غير ذات موضوع . ( ثانياً ) أنه يجعل للافتقار " معادلا " له مزية التحديد الذي جعلناه " لسبب " الاثرا ءز فكما أن الإثراء قد يكون له " سبب " هو المصدر القانوني الذي اكسب المثري هذا الإثراء ، كذلك الافتقار قد يكون له " معادل " هو الحق القانوني الذي كسبه المفتقر بسبب هذا الافتقار . والافتقار " بمعادل " كالإثراء " بسبب " ، كلاهما يعدم في دعوى الإثراء ركنا ًمن أركانها فلا تقوم .
هذا وقد تجتمع دعوى الإثراء مع الدعوى غير المباشرة ، كصاحب أرض يؤرها ويشترط على المستأجر أن يكون ما يقيمه هذا من بناء ملكا له . ثم يتعاقد المستأجر مع مقاول لإقامة البناء ، ويعجز عن الوفاء بالتزامه نحو كل من المقاول وصاحب الأرض ، فيلتزم هذا نحو المستأجر أن يعوض المقاول ويستولى على البناء . فللمقاول في هذه الحالة أن يرجع على صاحب الأرض إما بدعوى الإثراء أو بالدعوى غير المباشرة نيابة عن المستأجر . ولكن دعوى الإثراء هنا لم يوجد إلى جانبها دعوى أخرى للمقاول ، فإن الدعوى غير المباشرة ليست إلا دعوى المستأجر يستعملها المقاول نيابة عنه ( انظر محكمة السين الفرنسية في 8 ديسمبر سنة 1899 جازيت دي باليه 1900 – 1 – 290 – محكمة الاستئناف المختلطة في 5 مارس سنة 1919 م 31 ص 186 يعارض حكماً آخر في أول مايو سنة 1901 م 13 ص 286 ) .
( [1538] ) ويرى الأستاذ تاكية ( Naquet ) جواز أن يباشر القرض دعوى الإثراء بشرط إثبات واقعة الإثراء بالكتابة قياساً على الوقائع القانونية التي تنطوي على عقود فإنه يجب إثباتها بالكتابة كما في جريمة خيانة الأمانة ( تعليق على حكم محكمة النقض الفرنسية الصادر في 12 مايو 1914 سيرية 1918 – 1 – 41 ) .
والصحيح أن دعوى الإثراء هنا لا تقوم لوجود سبب للإثراء هو عقد القرض كما قدمنا .
وهذا هو شأن عقد المقاولة إذا أبرم كتابة بأجر إجمالي على أساس تصميم اتفق عليه من رب العمل ( م 658 فقرة 1 وفقرة 2 مدني جديد ) ، فإذا حدث في هذا التصميم تعديل أو إضافة لم يأذن بهما رب العمل كتابة ، وأراد المقاول الرجوع على رب العمل بزيادة في الأجر ، فإنه لا يستطيع الرجوع بدعوى العقد إذ لا يجوز له إثبات الاتفاق على التعديل أو الإضافة إلا بورقة مكتوبة ، ولا يستطيع الرجوع بدعوى الإثراء لأن إثراء رب العمل له سبب هو عقد المقاولة الأصلي .
وهذا أيضاً هو شان كل الفروض التي يقوم فيها إلى جانب دعوى الإثراء دعوى أخرى ينسد طريقها لمانع قانوني ( انظر الحالة الثالثة من الحالات الخمس التي بحثها ألموزنينو في رسالته ) فإذا قام تاجر بتوريد أشياء لشخص لا يتجر فيها ، وتقادم حقه بانقضاء سنة ( م 378 مدني جديد ) ، وانسد طريق دعوى العقد بالتقادم ، فإن التاجر لا يستطيع الرجوع بدعوى الإثراء لأن المدعى عليه قد أثرى بسبب قانوني هو التقادم . وإذا باع قاصر عقاراً بغبن فاحش ورفع دعوى لتكملة الثمن فقضى له بالتكملة ، ثم نزلت قيمة العقار في يد المشتري إلى أقل من أربعة أخماسه ، وانسد طريق دعوى تكملة الثمن بصدور حكم نهائي ، فإن المشتري لا يستطيع الرجوع بدعوى الإثراء على القاصر لأن هذا قد أثرى بسبب قانوني هو قوة الشيء المقضى .
وقد رأينا فيما قدمناه من الأمثلة أن المانع القانوني الذي ينسد به طريق الدعوى الأخرى ينقلب فيكون سبباً للإثراء ، فيمنع بذلك قيام دعوى الإثراء . فإذا لم ينقلب هذا المانع القانوني سبباً للإثراء ، انسد الطريق دون الدعوى الأخرى من غير أن ينسد دون دعوى الإثراء . وهذا قاطع في أن دعوى الإثراء ليست بالدعوى الاحتياطية كما يقال . ونأتي بمثل لذلك : نصت المادة 184 من القانون المدني الجديد ( م 148 / 290 قديم ) على أنه " لا محل لاسترداد غير المستحق إذا حصل الوفاء من غير المدين وترتب عليه أن الدائن ، وهو حسن النية ، قد تجرد من سند الدين ، أو مما حصل عليه من التأمينات أو ترك دعواه قبل المدين الحقيقي تسقط بالتقادم . ويلتزم المدين الحقيقي في هذه الحالة بتعويض الغير الذي قام بالوفاء " . فهنا وجدت دعوى استرداد غير المستحق . وانسد طريقها لمانع قانوني وهو تجرد الدائن من سند الدين أو من التأمينات أو سقوط دعواه بالتقادم ، ولكن القانون اصطنع هذا المانع بقدر فلم يجعله سبباً للإثراء ، وأجاز للغير الذي قام بالوفاء أن يرجع بدعوى الإثراء على المدين الحقيقي . ولا يقال ، إذا ترك الدائن دعواه قبل المدين الحقيقي تسقط بالتقادم ، إن التقادم هو سبب للإثراء ، ذلك لأن دعوى الدائن وقت أن استوفى الدين ، أي وقت أن أثرى ، لم تكن قد سقطت بالتقادم ، والعبرة في الإثراء بوقت وقوعه لا بوقت الدعوى كما سنرى .
( [1539] ) وهذا أيضاً هو شأن كل الفروض التي يقوم فيها إلى جانب دعوى الإثراء دعوى أخرى يسند طريقها بفعل الدائن ( انظر الحالة الرابعة من الحالات الخمس التي بحثها ألموزنيوم في رسالته ) . فإذا كان شخص يملك كاباً ضل في غابه للصيد ، فأمسك به صاحب الغابة وأبقاه عنده أياماً متولياً نفقة إطعامه دون أن يسلمه للبلدية ، فسد امامه طريق دعوى الفضالة بفعله ، فإن صاحب الغابة لا يستطيع أن يرجع بدعوى الإثراء على صاحب الكلب ، لأن هذا إذا كان قد أثرى فلا ثرائه سبب هو قانون 21 يونية سنة 1898 الذي يوجب في فرنسا تسليم الكلاب الضالة للبلدية وهي التي تتولى إطعامها ( انظر رسالة ألموزنينو من 151 – ص 152 – مارافان مجلة مصر العصرية سنة 1949 ص 141 – ص 142 – انظر أيضاً محكمة إتياي البارود في 6 ابريل سنة 1931 المحاماة 12 ص 790 – محكمة الاستئناف المختلطة في 13 يناير سنة 1931 م 43 ص 148 – وفي أول ديسمبر سنة 1931 م 44 ص 37 وهي الأحكام التي أشار إليها مارافان في المرجع الشار إليه ) . وإذا اهمل المقاول في اتخاذ الإجراءات اللازمة لقيد حق امتيازه على بناء اقامه لشخص أفلس ، فسد أمامه طريق دعوى الامتياز بفعله ، فإنه لا يستطيع الرجوع بدعوى الإثراء بلا سبب على التفليسة ، لأن التفليسة إذا كانت قد أثرت من ضياع حق امتياز المقاول ، فلهذا الإثراء سبب قانوني هو أحكام القانون الخاصة بمراتب الدائنين ( أنظر ألموزنينو ص 152 – ص 154 – مارافان ص 140 ) .
يضاف إلى هذه الأمثلة مثل آخر قضية فرنسية هي قضية ( Deschalettes ) ( نقض فرنسي 13 نوفمبر سنة 1912 داللوز 13 – 1 – 433 ) : باع رجل أرضاً لخليلته بيعاً صورياً فرهنت الخليلة الأرض لمصرف في مقابل قرض اقامت به بناء على الأرض . فرفعت مطلقة البائع دعوى قضت فيها محكمة النقض الفرنسية ببطلان الرهن الصادر من الخليلة لأن ملكيتها للأرض ملكية صورية ، ورفضت أن يكون للمصرف دعوى إثراء قبل المطلقة التي أثرت من وراء بطلان الرهن إذا ارتفعت مرتبة رهنها القانوني على أموال مطلقها ومنها هذه الأرض . ويقول الأستاذ رواست في صدد هذه القضية إن دعوى الإثراء ترفض لأن المصرف أهمل . وهذا غير صحيح لأن المصرف لم يكن يعلم بصورية البيع ، وهبه اهمل فدعوى الإثراء لا تدفع بإهمال الدائن وقد رأينا أن الحائز سيء النية يرجع بدعوى الإثراء ، والصحيح أن محكمة النقض الفرنسية أخطأت في إبطال الرهن ، لأن الصورية لا يحتج بها على الغير حسن النية . أما إذا فرضنا جدلا أن الصورية يحتج بها هنا ، فإن محكمة النقض تكون قد أصابت في إنكار دعوى الإثراء على المصرف الذي سد طريق دعوى الرهن بفعله ، وإذا كانت المطلقة قد أثرت ، فإن لإثرائها سبباً قانونياً هو أحكام القانون الخاصة بحفظ مراتب الدائنين ( مارافان ص 138 – س 14 – ألموزنيفي ص 144 – ص 150 ) .
( [1540] ) وقد رأينا أن محكمة مونبيلييه الفرنسية ( 3 فبراير سنة 1869 دللوز 69 – 2 – 213 ) أجازت رجوع العلم على التلميذ بدعوى الإثراء بلا سبب . ( أنظر ألموزنينو ص 157 ) وأنظر عكس ذلك مارافان ص 109 .
كذلك إذا باع شخص سيارة لآخر ، فوهبها المشتري لثالث ، وفسخ البائع البيع وأراد الرجوع على المشتري فوجده معسراً ، فهو لا يستطيع الرجوع على الموهوب له بدعوى الإثراء ، لأن الموهوب له قد أثرى بسبب قانوني هو حيازة المنقول بحسن نية ( لاعقد الهبة لأن الواهب قد انفسخ سند ملكيته ) . وقد سبقت الإشارة إلى أن المشروع التمهيدي للقانون المدني الجديد أشتمل على نص يجيز في هذه الحالة رجوع البائع على الموهوب له بدعوى الإثراء ، ولكن النص حذف في لجنة المراجعة ، فخرج المشروع النهائي خالياً منه .
( [1541] ) وإذا أخذنا بفكرة " المعادل " في الافتقار على الوجه الذي قدمناه أمكن أن تقول إن دعوى الإثراء دعوى احتياطية بالمعنى الآتي : يجب على المدعى قبل أن يلجأ إلى دعوى الإثراء أن يستعرض كل الأسباب التي تصلح مصدراً قانونياً لقيام الإثراء أو لقيام معادل للافتقار ، فإذا استنفدها جميعاً ولم يجد أياً منها يصلح لذلك ، جاز له عندئذ أن يرجع بدعوى الإثراء .
( [1542] ) لوران 20 فقرة 340 – أوبرى ورو طبعة خامسة ص 362 – بودري وبارد 4 فقرة 2849 ( 26 ) – بلانبول وريبير وإسمان 7 ص 50 – جوسران 2 ص 280 ( 1 ) – محكمة ليون الاستئنافية 11 يناير سنة 1906 داللوز 1906 – 2 – 132 – محكمة باريس الاستئنافية 27 يولية سنة 1928 سيريه 1930 – 2 – 73 – محكمة فينا الابتدائية 4 يناير سنة 1923 داللوز 1923 – 2 – 153 – وقارن ديموج 3 فقرة ص 281 .
( [1543] ) دي هانس 2 ص 299 – والتون 2 ص 190 – الموجز للمؤلف ص 387 – ص 288 – مارافان ص 75 – ص 83 . ومع ذلك قارن حشمت أبو ستيت فقرة 535 وفقرة 541 وفقرة 549 .
وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن دعوى الإثراء تفترض أن مال المدعى عليه قد زاد وقت رفع الدعوى بسبب ما قدمه له المدعى . فلا تقوم هذه الدعوى في جميع الحالات آلت ييرى فيها المدعى عليه أن هذه الزيادة في مله قد زالت ، حتى لو كان زوالها قد وقع بسبب ما أنفقه منها ، إلا إذا كان الانفاق لضرورة من ضرورات المعاش بحيث يكون من المحقق أن مال المدعى عليه كان ينقص بالانفاق لهذا السبب لولا الزيادة التي أحدثها المدعى ( استئناف مختلط في 28 مايو سنة 1931 م 43 ص 417 – انظر أيضاً استئناف مختلط في 13 فبراير سنة 1895 م 7 ص 122 – محكمة المنصورة الجزئية المختلطة في 12 أغسطس سنة 1925 جازيت 15 رقم 199 ص 313 – محكمة أشمون الجزئية في 26 أكتوبر سنة 1935 المجموعة الرسمية 18 رقم 50 ص 195 ) .
( [1544] ) ص 387 – ص 388 .
( [1545] ) ننقل هذه الاسانيد عن مارافان بنوع خاص ، فهو من أنصار هذا الحكم ومن أكثرهم تحمساً له ( انظر مارافان مجلة مصر العصرية سنة 1949 ص 75 – ص 83 ) .
( [1546] ) هذه هي الأسانيد الرئيسية . ويضاف إليها عادة حجج أخرى ثانوية منها :
" 1 " أن الإثراء دخل في مال المثرى دون إدارته ، بل دون علمه في بعض الأحيان ، فكيف يجوز عدالة أن يرد المثري هذا الإثراء إذا لم يبق منه اثر وقت رفع الدعوى ؟
" 2 " يقع كثيرا أن يكون المفتقر هو السبب في إفقار نفسه ، فواجبه أن يعجل في رفع الدعوى قبل أن يزول الإثراء ( ألموزنينو ص 75 ) .
" 3 " اشتراط قيام الإثراء وقت رفع الدعوى يؤدى إلى نتائج عادلة في الفروض الآتية : 1 9 إذا أشتمل الإثراء على سندات استهلكت وقت رفع الدعوى فمن العدل أن نرد قيمتها الاسمية – وهي القيمة وقت رفع الدعوى – لا قيمتها الفعلية – وهي القيمة وقت الإثراء ، إذ قد تكون القيمة الأولى أقل بكثير من القيمة الثانية . ب ) إذا أشتمل الإثراء على عين باعها المثري أو وهبها ، فمن العدل أن يرد الثمن في حالة البيع أو لا يرد شيئاً في حالة الهبة – وهذه هي قيمة الإثراء وقت رفع الدعوى . أما إذا رد قيمة الإثراء وقت حصوله فيجب أن يرد قيمة العين في حالتي البيع والهبة . ج 9 إذا كان الإثراء لم يتحقق ، كما إذا أقام مستأجر بناء في العين المؤجرة ستؤول ملكيته إلى المؤجر عند نهاية الإيجار ، فمن العدل ألا يرجع المقاول بدعوى الإثراء على المؤجر قبل نهاية الإبحار لأن الإثراء غير موجود وقت رفع الدعوى . وسنتولى الرد على هذه الحجج عند الرد على الأسانيد الرئيسية .
( [1547] ) ديموج 3 فقرة 170 ص 281 .
( [1548] ) على أن بعض هذه التقنينات ينص صراحة على وجوب رد الإثراء مقدرا وقت تحققه ( لا وقت رفع الدعوى ) إذا كان المثري سيء النية ( م 127 من التقنين البولوني وم 142 من التقنين اللبناني وم 182 من التقنين الصيني وم 400 من التقنين السوفيتي ) . وغنى عن البيان أن المثري حسن النية لا يقل الترامه ، في منطق قاعدة الإثراء بلا سبب ، عن التزام المثري سيء النية ، إذ أن سوء النية أو حسنها لا دخل له لا في ترتيب الالتزام ولا في تحديد مداه .
( [1549] ) ينص التقنين النمساوي – وهو في صدد التمييز صراحة ما بين الفضالة والإثراء بلا سبب ، أي أنه لا يخلط بينهما كما ذهب إلى ذلك الأستاذ مارافان ( ص 82 ) – على أن تقدير الإثراء يكون وقت تحققه حتى لو زال بعد ذلك ، فيقول في المادة 1041 : " استئناف أهلي استعمل شيء لمنفعة الغير ، من غير أن تكون هناك فضالة ، فلصاحب الشيء أن يسترده عيناً ، فإذا أصبح ذلك غير ممكن استرد القيمة التي كانت له وقت الاستعمال حتى لو زال الإثراء بعد ذلك " .
( [1550] ) ينصر التقنين الأرجنتيني في المادة 2343 على ما يأتي : " النقود التي تكون أنفقت فزادت في قيمة شيء يملكه الغير ، أو ترتب على إنفاقها نفع للغير أو تحسين في ملكه ، يعتبر إنفاقها أمراً نافعاً ، حتى لو زال الإثراء فيما بعد " .
( [1551] ) أما الحجج الأخرى الثانوية فهي أيضاً غير مقنعة :
1 - فأما أن الإثراء قد دخل في ملك المثري دون إدارته ، بل ودون علمه في بعض الأحيان ، فلا يجوز أن يرد المثري هذا الإثراء إذا لم يبق له اثر وقت رفع الدعوى ، فهذه حجة مقدمتها لا صلة لها بنتيجتها . ذلك أن التزام المثري بالرد لا ينشأ من إدارته ، بل ينشا من واقعة مادية هي واقعة الإثراء ، فمتى تحققت هذه الواقعة قام الالتزام وتعين محله في الوقت الذي نشا فيه . والالتزام هنا كما نرى مستقل عن إرادة المثرى ولا صلة له بها حتى يصح أن يترتب على انتفاء إدارته أن اثر في مدى التزامه . ثم ما عسى أن يقول أصحاب هذه الحجة في الأحوال التي يتحقق فيها الإثراء فإرادة المثري وهي أحوال كثيرة ؟ أتراهم يفرقون بين حالة وحالة !
2 - وأما أن المفتقر هو السبب في إفقار نفسه فوجب عليه أن يعجل في رفع الدعوى قبل أن يزول الإثراء نف هذه حجة غريبة ، إذ هي لا تقوم على أساس قانوني ، ولا هي تشمل كل حالات الإثراء ، فكثيراً ما يقع أن يكون المثري هو السبب في إثراء نفسه على حساب المفتقر . والسبيل القانوني لدفع المفتقر إلى تعجيل دعواه هو تقصير مدة التقادم ، وهذا ما فعله القانون الجديد .
3 - وأما أن اشتراط قيام الإثراء وقت رفع الدعوى يؤدي إلى نتائج عادلة ، فهذه الحجة أيضاً لا تقوم على أساس . والفروض التي سبقت في هذا الصدد هي ذاتها التي تدل على ذلك : ( 1 ) فإن الإثراء إذا أشتمل على سندات استهلكت وقت رفع الدعوى يؤدي إلى نتائج عادلة ، فهذه الحجة أيضاً لا تقوم على أساس . والفروض التي سيقت في هذا الصدد هي ذاتها التي تدل على ذلك : ( ا ) فإن الإثراء إذا أشتمل على سندات استهلكت وقت رفع الدعوى فليس من المقطوع فيه أن العدل يقضي برد قيمتها الاسمية – وهي القيمة وقت رفع الدعوى – دون قيمتها الفعلية – وهي القيمة وقت الإثراء . فلو أن القيمة الأولى زادت على القيمة الثانية لبان للقائلين بهذه الحجة أن العدل على خلاف ما يقولون . على أن المنطق القانوني يقضي بأن السندات المستهلكة – وقد أصبحت ملكا للمثري من وقت تحقق الإثراء – تدخل في ذمة المثري ويلتزم برد قيمتها الفعلية ، ثم هو الذي يتحمل تبعتها بعد ذلك ، ارتفعت قيمتها الفعلية أو انخفضت . ( ب ) وإذا أشتمل الإثراء على عين باعها المثري أو وهبها فليس من العدل أن يرد قيمتها وقت رفع الدعوى فلا يرد شيئاً في حالة الهبة ( وقد قدمنا أن المفتقر في هذه الحالة لا يستطيع أيضاً الرجوع على الموهوب له ) ، بل العدل يقضي بأن يرد قيمتها وقت تحقق الإثراء فيرد هذه القيمة في حالة الهبة ، ويرد هذه القيمة أيضاً دون الثمن في حالة البيع ، وما دام قد أصبح مالكا للعين فهو الذي يتحمل تبعتها ، زادت القيمة أو انخفضت أو انعدمت . ( ج ) وإذا أقام المستأجر بناء في العين المؤجرة فإن المقاولا لا يرجع بدعوى الإثراء على المؤجر قبل نهاية الإيجار ، لا لأن قيمة الإثراء تقدر وقت رفع الدعوى كما يزعم انصار الرأي المعارض ، بل لأن الإثراء قبل نهاية لإيجار لم يتحقق ، إذ أن المؤجر لا يتملك البناء إلا عند نهاية الإيجار .
على أن الرأي المعارض هو ذاته الذي يؤدي إلى نتائج غير مستساغة . من ذلك : ( ا ) إذا كان الإثراء عملا قد تم أو منفعة قد استهلكت ، فمنطق الرأي المعارض يقضي بألا محل للرجوع بدعوى الإثراء ما دام الإثراء قد انعدم وقت رفع الدعوى . ولم يتشبث أصحاب الرأي للعارض برأيهم هنا ، ولم يسعهم إلا أن يرجعوا عنه إلى الرأي الآخر ( انظر مارافان ص 77 – بلانتول وريبير وإسمان 7 ص 50 – ديموج 3 فقرة 171 ) . ( ب ) إذا وفي شخص دين غيره ، فترك الدائن الذي استوفى حقه دعواه تسقط بالتقادم . فإذا أخذنا هنا بالرأي المعارض لم يجز لمن وفي بالدين أن يرجع على المدين الحقيقي بدعوى الإثراء لأن الإثراء قد زال وقت رفع الدعوى بتقادم الدين . ولما كان هذا الحل غير مستساغ فقد جرى النص على خلافه ( انظر المادة 184 من القانون المدني الجديد – وأنظر أيضاً المادة 148 / 209 من القانون المدني القديم والمادة 1377 من القانون الفرنسي ) . ( ج ) على أن الرأي المعارض ليس دائماً في صالح المثري ، بل قد ينقلب حربا عليه إذا كان الإثراء قد زاد وقت رفع الدعوى ، بدلا من أن يزول أو ينقص ، ولم يجاوز مع هذه الزيادة قيمة الافتقار .
انظر الدكتور حشمت أبو ستيت فقرة 540 ص 394 ، وهو اميل إلى الأخذ بالرأي الذي سار عليه القانون المدني الجديد .
( [1552] ) ولما كان القضاء والفقه في ظل القانون المدني القديم قد جربا على أن تقدير الإثراء يكون وقت رفع الدعوى لا وقت تحقق الإثراء ، فإن القانون المدني الجديد – وقد أتى بحكم مخالف – لا يكون له أثر رجعي في هذه الحالة . فلو أن الآثراؤ هو زيادة في منزل المثري بفعل المفتقر ، وتحقق هذا الإثراء قبل 15 أكتوبر سنة 1949 أي قبل نفاذ القانون الجديد ، واحترق المنزل بعد هذا التاريخ ، فإن المفتقر لا يرجع بشيء على المثري تطبيقاً للقانون القديم .
( [1553] ) انظر ريبير في القاعدة الحق؟؟؟ ص 90 – ص 91 .
( [1554] ) وقد ورد نص على التضامن في حالة تعدد الفضولي ( م 192 فقرة 3 ) ، وسيأتي بيان ذلك .
( [1555] ) ويكون الوقف مسئولا عن إثرائه بدون سبب قانوني ، وتتحدد مسئوليته عن التعويض بأقل قيمتي الإثراء والافتقار والظاهر أن التنفيذ بهذا التعويض على المال الموقوف يقع على قيمة الإثراء التي التحقت بالوقف . وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه إذا لم يقم الدليل القاطع على أن إنشاء الوقف هو السبب المباشر في ايقاع الضرر بدائني الواقف ، لم كن هناك محل لقبول الدعوى البوليصية من دائن سابق على إنشاء الوقف . ولكن إذا أثرى الوقف بسبب توريدات أو أعمال قام بها الدائن للعقار الموقوف ، ولم يستوف الدائن حقه ، ولم يتمكن من استيفائه بسبب إعسار الواقف ، جاز الرجوع على الوقف بدعوى الإثراء ( استئناف مختلط في ) ابريل سنة 1929 م 41 ص 345 ) .
( [1556] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 441 .
( [1557] ) استئناف مختلط في 10 يونية سنة 1919 م 31 ص 333 . وفي حكم آخر قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن القانون يقضي في الإثراء بلا سبب أن ناقص الأهلية إذا ابطل العقد يبقى ملتزما بمقتضى الإثراء ، على أن الرد لا يشمل كل ما تسلمه ، بل يقتصر على ما خلص له من نفع محقق دون زيادة وعلى الفائدة التي جناها فعلا من وراء التزاماته . وكل من النفع والفائدة لا وجود له في حالة ما إذا أعطى سفيه مالا حاجة له به إطلاقاً نظراً لما يملكه من الموارد الشخصية ( استئناف مختلط في ) مايو سنة 1935 م 47 ص 299 ) .
( [1558] ) وقد طبقت محكمة الاستئناف المختلطة هذا المبدأ في دفع غير المستحق ( استئناف مختلط 7 ديسمبر سنة 1882 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلطة 8 ص 24 ) – ومع ذلك فقد انحرفت عن المبدأ وقضت بالتضامن في حالة الإثراء بلا سبب ( 13 مارس سنة 1902 م 14 ص 185 ) . وقضت كذلك بالتضامن في الفضالة عند تعدد رب العمل ( 25 ابريل سنة 1900 م 12 ص 217 ) – وكان الواجب إلا يحكم بالتضامن في هاتين الحالتين ( انظر مارافان ص 157 – وقارن فرانسوا جوريه ص 328 ومحكمة النقض الفرنسية في 4 مايو سنة 1859 سيريه 59 – 1 – 377 ) .
وليس ثمة شك في القانون الجديد – كما لم يكن هناك شك في القانون القديم – أن التضامن لا يكون إلا بناء على اتفاق أو نص في القانون . وقد نصت المادة 279 ( جديد ) على أن " التضامن بين الدائنين أو بين المدينين لا يفترض ، وإنما يكون بناء على اتفاق أو نص في القان " . ولا يوجد اتفاق على التضامن بين المثرين أو المفتقرين إذا تعددوا ، ولم يرد نص على التضامن إلا في حالة واحدة هي حالة تعدد الفضولي ( م 192 فقرة 3 ) وقد سبقت الإشارة إليها . ويخلص من ذلك بوضوح أن القانون الجديد ، كالقانون القديم ، يقضي بعدم التضامن إذا تعدد المثري أو تعدد المفتقر ( راجع مارافان ص 158 ) .
( [1559] ) ويترتب على ذلك أيضاً أن المدعى إذا استند في دعواه إلى الفضالة ، فلا يجوز له لأول مرة أمام محكمة النقض أن يستند إلى دعوى الإثراء بلا سبب . وقد قضت محكمة النقض في هذا المعنى بما يأتي : " إذا كان موضوع الدعوى هو المطالبة بما أنفقه المدعى في تكملة بناء على أرض المدعى عليهم اعتماداً على تكليف شفوي من أحدهم ، وأسس المدعى دعواه أولاً على الوكالة ثم على الفضالة ، ورفضت المحكمة الدعوى بناء على أن الوكالة المدعاة لا يمكن إثباتها بالبينة وعلى أن المدعى لا يعتبر فضولياً لعدم توافر شرائط الفضالة بالنسبة له ، فلا يقبل من المدعى أن يطعن بطريق النقض في هذا الحكم على أساس مخالفته للمادة 65 من القانون المدني بمقولة إن مبنى طعنه هو من الأسباب القانونية الصرف التي يجوز إبداؤها لأول مرة أمام محكمة النقض ، ذلك لأن هذا الطعن فضلا عما فيه من تغيير للاساس المرفوعة به الدعوى فإن عناصره الواقعية لم تكن عرضت على محكمة الموضوع لبحثها حتى يتسنى لمحكمة النقض أن تنظر فيه ( نقض 24 فبراير سنة 1938 مجموعة عمر 2 رقم 100 ص 297 ) . كما قضت محكمة النقض بعدم جواز التمسك لأول مرة أمامها بالفضالة ، فقالت في ذلك : " لا يصح التمسك أمام محكمة النقض بأن المدعى إنما كان فضولياً في الدعوى المرفوعة منه إلا إذا كان ذلك قد عرض على محكمة الموضوع " ( نقض 26 ديسمبر سنة 1940 مجموعة عمر 3 رقم 86 ص 294 ) .
( [1560] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 249 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " تسقط بالتقادم دعوى التعويض عن الإثراء . . . " بإضافة لفظ " بالتقادم " . وقد أقرتها لجنة المراجعة على أصلها ، ووافق عليها مجلس النواب دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ وافقت اللجنة عليها مع حذف كلمة " بالتقادم " لأنها مفهومة من النص . ووافق مجلس الشيوخ على المادة بالصيغة التي قدمتها له الجنة القانون المدني ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 444 – ص 445 ) .
( [1561] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 444 . وانظر أيضاً المادة 67 من قانون الالتزامات السويسري .
( [1562] ) أما بالنسبة إلى الالتزامات التي نشأت في ظل القانون القديم ، وكان مصدرها الإثراء بلا سبب أو دفع غير المستحق أو الفضالة ، فيرجع فيما إذا كانت مدة التقادم القصيرة التي قررها القانون الجديد هي التي تسري إلى ما سبق أن قررناه في هذا الشأن في صدد التقادم في بطلان العقد وفي صدد التقادم في العمل غير المشروع ( انظر آنفاً فقرة 323 ) .
( [1563] ) استئناف مختلط في 7 يونية سنة 1928 م 40 ص 407 .
( [1564] ) انظر في هذه المسألة فرانسوا جوريه في الإثراء على حساب الغير باريس 1949 ص 316 – ص 317 . أما من الناحية العملية فإن وجود سبب للإثراء أو انعدام هذا السبب إنما يكون عن طريق قرائن قضائية متعاقبة تنقل عبء الإثبات من المفتقر إلى المثري ثم من المثري إلى المفتقر وهكذا .
( [1565] ) فرانسوا جوريه ص 316 .
( [1566] ) وهذا بخلاف الوكالة ( م 710 ) والفضالة ( م 195 ) ، فالوكيل والفضولي يتقاضيان الفوائد من وقت الإنفاق .
( [1567] ) ولست حالة الإثراء من الحالات التي لا ضرورة فيها للاعذار ( انظر م 220 ) . فيجب إذن أن يعذر المفتقر المثري وأن يطالبه في الإعذار بتعويض عن التأخري . ويجب عليه أن يثبت أنه قد أصابه ضرر من التايخر لأن الضرر شرط التعويض . ولا محل هنا لتطبيق النص الخاص بسعر الفائدة ( م 226 ) ولا لتطبيق النص الخاص بعدم اشتراط إثبات الضرر ( م 228 ) لأن مجال تطبيق هذين النصين مقصور على ما إذا كان محل الالتزام مبلغاً من النقود معلوم المقدار وقت الطلب ( م 226 ) . أنظر في هذا الموضوع فرانسوا جوريه ص 313 .
( [1568] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 442 .
( [1569] ) أما في استرداد ما دفع دون حق وفي الفضالة فإن التعويض لا يقتصر على أقل القيمتين لأن المفتقر في هاتين الحالتين أجدر بالرعاية من المفتقر في دعوى الإثراء بلا سبب .
ونلاحظ في هذه المناسبة أن الحالات آلت يطبقت فيها قاعدة الإثراء بلا سبب تطبيقاً تشريعياً - ونخص منها حالة البناء في أرض الغير ( م 924 – م 925 ) وحالة المصروفات النافعة ( م 980 فقرة ثانية ) ( التزم المشرع فيها أن يكون التعويض هو أقل القيمتين إذا كان المفتقر حسن النية . فالباني في أرض الغير بحسن نية إذا ترك البناء في الأرض فإن صاحب الأرض مخير بين أن يدفع قيمة المواد وأجرة العمل ( وهذه هي قيمة الافتقار ) أو أن يدفع مبلغاً يساوي ما زاد في ثمن الأرض بسبب البناء ( وهذه هي قيمة الإثراء ) . وكذلك الحال فيمن انفق مصروفات نافعة في ملك الغير بحسن نية . أما إذا بنى الشفيع في العقار المشفوع وهو حسن النية ( أي قبل إعلان الرغبة في الشفعة ) كان الشفيع ملزما تبعاً لما يختاره المشتري أن يدفع له إما المبلغ الذي أنفقه ( وهذه هي قيمة الافتقار ) أو مقدار ما زاد في قيمة العقار بسبب البناء أو الغراس ( وهذه هي قيمة الإثراء ) ، ولما كان المشتري هنا هو الذي يختار فهو سيختار طبعاً أعلى قيمتي الافتقار والإثراء . وفي هذا خروج على القاعدة . أضف إلى ذلك أن المفتقر إذا كان سيء النية في حالة البناء في أرض الغير وفي حالة المصروفات النافعة فوي حالة الشفيع إذا بنى بعد إعلان الرغبة في الشفعة ، فإنه لا توجد قاعدة واحدة تسري على التزام المثري بالتعويض ، فإنه يدفع في الحالتين الأوليين قيمة المنشآت مستحقة الإزالة أو قيمة ما زاد في ثمن الأرض ، وفي الحالة الثالثة قيمة أدوات البناء وأجرة العمل . ومن ثم نرى أن هذه التطبيقات التشريعية لقاعدة الإثراء على حساب الغير لم تلتزم حدود القاعدة . وقد قدمنا أن النصوص التشريعية التي وردت في هذه الحالات هي التي يجب تطبيقها ولو خالفت القاعدة العامة . وفي هذا نرى قصور قاعدة الإثراء عن أن تشمل تطبيقاتها المتنوعة ، فهي لا تزال سائرة في طريق التطور .
( [1570] ) أنظر فرانسوا جوريه ص 314 ومارافان ص 150 .
( [1571] ) ونحن نؤثر هذا التكييف على القول بأن هناك إثراء وافتقاراً ولكن دعوى الإثراء تجبها دعوى الاستحقاق ، فنحن لا تقول بالصفة الاحتياطية لدعوى الإثراء ( أنظر من انصار الرأي الذي تنفذه فرانسوا جوريه ص 315 – ص 316 ) .
( [1572] ) أنظر في هذا المعنى محكمة الاستئناف المختلفطة في 9 ابريل سنة 1929 م 41 ص 345 – محكمة الإسكندرية الابتدائية المختلطة في 6 يناير سنة 1917 جازيت 7 ص 90 .
( [1573] ) استئناف مختلط 24 ابريل سنة 1928 م 40 ص 315 .
( [1574] ) استئناف مختلط 9 ابريل سنة 1929 م 41 ص 345 .
( [1575] ) استئناف مختلط 19 مايو سنة 1915 جازيت 5 ص 156 – ويشترط أن تكون التحسينات ضرورية أو نافعة ولا يكفي أن تكون كمالية ( استئناف مختلط 13 فبراير سنة 1895 م 7 ص 122 ) ، وأن تكون المصروفات أنفقت على العين مباشرة ( محكمة الإسكندرية الابتدائية المختلفطة 6 يناير سنة 1917 جازيت 7 رقم 90 ص 265 ) .
( [1576] ) استئناف مختلط 9 مايو سنة 1912 م 24 ص 338 .
( [1577] ) استئناف مختلط 21 مارس سنة 1900 م 12 ص 170 – هذا وقد يعتبر النور والماء منفعة تستخلص من الأسلاك والمواسيل ، والأولى أن يعتبرا مالا قائماً بذاته استهلكه المثرى فدخل في ذمته ، فيكون مثل النور والماء مثل الإثراء لا عن طريق منفعة استهلكت بل عن طريق ملكية انتقلت إلى ذمة المثرى .
( [1578] ) وفي هذه الأمثلة التي قدمناها على الإثراء عن طريق المنفعة نرى أن الإثراء لا يكون بالضرورة قائماً وقت رفع الدعوى لأن المنفعة قد استهلكت قبل ذلك .
( [1579] ) وقد وقضت محكمة المنصورة الجزئية المختلطة في هذا المعنى بأن الدائن الذي حجز على مال مدينه يجوز له أن يطالب بدعوى الإثراء أجنبياً انتفع من بيع هذه الأموال المحجوزة بيعاً ادارياً للوفاء بضريبة كانت في ذمته . ثم أضافت المحكمة أن دعوى الإثراء لا يبقى لها محل إذا كان هذا الأجنبي قد خصم مبلغاً يساوي المبلغ الذي انتفع به في سداد الضريبة من دين له في ذمة شخص كان يعتقد أن الأموال المحجوزة مملوكة له ( محكمة المنصورة الجزئية المختلطة في 12 أغسطس سنة 1925 جازيت 15 رقم 199 ص 317 ) .
( [1580] ) أنظر محكمة استئناف مصر في 30 ابريل سنة 1929 المجموعة الرسمية 30 رقم 140 / 1 ص 340 – المحاماة ) رقم 535 ص 989 . وقارن محكمة الاستئناف المختلفطة في 12 ابريل سنة 1938 م 50 ص 233 .
( [1581] ) تاريخ النصوص – م 181 : ورد هذا النص في المادة 250 من المشروع التمهيدي – وأقرته لجنة المراجعة على أصله تحت رقم 186 في المشروع النهائي – ووافق عليه مجلس النواب ، بعد استبدال لكمة " التسليم " بكلمة " الدفع " في آخر الفقرة الثانية ، تحت رقم 186 . ووافقت عليه لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، بعد الاستعاضة عن كلمة " التسليم " بكلمة " الوفاء " في آخر الفقرة الثانية في هذه المادة وفي المواد التالية ، وأصبح رقم المادة 181 . ووافق مجل الشيوخ على النص كما أقرته اللجنة . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 446 – ص 447 ) .
م 182 : ورد هذا النص في المادة 251 من المشروع التمهيدي – وأقرته لجنة المراجعة على أصله تحت رقم 187 في المشروع النهائي – ووافق عليه مجلس النواب ، بعد استبدال كلمة طالستليم " بكلمة " الدفع " ، تحت رقم 187 – ووافقت عليه لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ على أن تستبدل عبارة طاذا كان الوفاء قد تم تنفيذاً لالتزام " بعبارة طاذا كان التسليم قد تم وفاء لالتزام " ، وأصبح رقم المادة 182 – ووافق مجلس الشيوخ على النص كما اقرته اللجنة . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 44 8 – ص 450 ) .
م 183 ( أنظر تاريخ النص فيما يلي ) .
وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في النظرة العامة لهذه النصوص ما يأتي : " وقد فصل المشروع الأحكام المتعلقة برد غير المستحق تفصيلا كافياً – فعين نطاق تطبيق القاعدة العامة ، وأفرد نصوصاً خاصة يرد غير المستحق في أحوال الوفاء ممن لا تتوافر له الأهلية ، أو ممن يقع تحت سلطان إكراء ، وكذلك في أحوال الوفاء بالتزام لم يتحقق سببه ، أو زال سببه بعد تحققه . وواحه من ناحية أخرى حالة الرد عند الوفاء قبل حلول أجل الدين . . " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 439 ) .
( [1582] ) هذا ما لم يكن المسئول قد صالح المضرور على مبلغ معين ، فلا يجوز له في هذه الحالة أن يسترده ، حتى لو ظهر أن أركان المسئولية لم تتوافر . ويعتبر الدين لا وجود له أصلاً إذا دفع المدين أكثر مما هو واجب عليه . فما زاد على الدين يكون غير مستحق ( استئناف مختلط في 7 ديسمبر سنة 1882 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلفطة 8 ص 24 – وفي 17 ابريل سنة 1924 م 36 ص 319 ) . ويعتبر الدين كذلك لا وجود له أصلاً إذا تقاضى شريك أرباحاً لا يستحقها من الشركة ( استئناف مختلط في 7 فبراير سنة 1917 م 26 ص 330 ) ، أو انقاضت مصلحة الضرائب من أحد الممولين ضريبة لا تستحقها أو أكثر مما تستحق ( محكمة استئناف مصر الوطنية في 11 نوفمبر سنة 1943 المحاماة 24 رقم 81 ص 208 ) .
( [1583] ) أما إذا دفع دين غيره وهو عالم بذلك فلا يجوز له أن يسترد ما دفع ، ويكون دفعه للدين مبرئاً لذمة المدين ، وله أن يرجع عليه لا على الدائن بدعوى الإثراء بلا سبب ( استئناف مختلط في 7 فبراير سنة 1945 م 57 ص 75 ) .
( [1584] ) جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " . . . إذا اثبت عدم تحقق سبب الدين الذي أداه إطلاقاً : كما إذا كان الوارث قد وفى بدين لم يكن مورثه ملتزما به ، أو كان إذا قام أحد المتعاقدين في عقد مطلق البطلان بالوفاء بالتزامه ، أو كان إذا قام شخص بالوفاء بتعويض عن حادث اعتقد خطأ أنه يسأل عنه " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 449 ) .
أما إذا كان العقد قابلا للإبطال ، فإن دفع المدين الدين عن غلط ثم أبطل العقد استرد ما دفع ، وهذه هي إحدى صور الحالة الثانية من دفع غير المستحق وهي حالة الوفاء بدين كان مستحقا وقت الوفاء ثم أصبح غير مستحق . وإذا دفع المدين الدين وهو على بينة من قابلية العقد للإبطال اعتبر الدفع اجازة للعقد ، فلا يجوز للمدين أن يسترد ما دفع .
( [1585] ) جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " . . . . أو إذا اثبت ( الدافع ) أن سبب الدين لم يتحقق ، كما إذا أدى مدين ديناً معلقاً على شرط واقف مع أنه لم يتحقق ( انرظ التقنين اللبناني م 145 فقرة 1 ) . وتجوز المطالبة بالرد كذلك إذا حصل الوفاء في خلال فترة التعليق قل أن يعلم مصير الشرط ( أنظر المادة 1434 من التقنين النمساوي والمادة 694 فقرة 2 من التقنين البرازيلي والمادة 389 من المشروع ) ، ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 2 ص 449 ) .
( [1586] ) يقارب هذا المعنى حكم محكمة النقض في 11 ابريل سنة 1935 مجموعة عمر 1 رقم 246 ص 674 .
( [1587] ) ومن أعمال الوفاء أن يحرر المدين لدائنه سنداً بدين ، ولا يدخل هذا السند في المحاسبة النهائية ما بين الدائن والمدين ، وهي المحاسبة التي يستوفى فيها الدائن حقه ، فبقاء السند معه بالرغم من استيفائه حقه هو بمنزلة استيفاء الدين مرتين . وقد قضت محكمة النقض في هذا المعنى بأن السمسار الذي يحصل على سند من عميله بمبلغ يذكر له سبب صوري ( اشغال معمارية ) ، ويثبت أن السند قد حرر عن دين سمسرة سبق أن استوفاه في المحاسبة النهائية ، يكون قد استوفى الدين مرتين ، وقالت في هذا الصدد : " ولما كان المحقق أن هذا المبلغ ( الذي حرر به السند ) لم يدخل في المحاسبة النهائية بين الطرفين بخصوص أعمال السمسرة فيكون من حق المطعون عليهما الرجوع عليه بهذا المبلغ حتى لا يتكرر الوفاء مرتين . ومن حيث أنه يتضح من ذلك أن ما أسس عليه الحكم قضاءه لم يكن واقعة لا أصل لها في الأوراق ، بل هي الوقائع التي بسطها المطعون عليهما في مذكرتهما شرحا لحقيقة الحال ، وثبت للمحكمة صحتها فأقرتها ، وإن كانت قد خالفت المطعون عليهما ف يالتكييف القانوني لدعواهما ، إذ هما بعد أن سردنا الوقائع السابقة توهمتا أن هذه الوقائع تجعل السند سند مجاملة أو هكذا أرادتا أن تصفاه ، ولكن المحكمة خلفعت على هذه الوقائع التي أقتنعت بصحتها الوصف القانوني الصحيح وهو رد ما قبض بغير حق ، وأقامت قضاءها على هذا الأساس ، وهو أمر لا سبيل للنعي عليه " . ( نقض في 16 فبراير سنة 1950 في الطعن رقم 91 السنة القضائية الثامنة عشرة وهو لم ينشر بعد ) .
( [1588] ) جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ويقتضي العمل أن يكون من واجب من يدعي أداء ما لم يكن مستحقاً أن يقيم الدليل على أمرين : أولهما قيامه بوفاء الحق به صفة التصرف القانوني ويخضع بذلك للقواعد العامة في إثبات التصرفات القانونية ، وعلى وجه الخصوص ما تعلق منها بنصاب الإثبات بالكتابة أو بالبينة . وقد نصت المادتان 79 / 74 من التقنينين التونسي والمراكشي على أن الوفاء بمقابل وترتيب تأمين خاص لضمان الوفاء وأعطاء اعتراف بالدين أو سند آخر يقصد به إثبات وجود التزام أو براءة الذمة منه تنزل جميعاً منزلة الوفاء . وقد قصد المشروع من عموم العبارات التي استعملت في صياغة القاعدة الخاصة بدفع غير المستحق إلى مواجهة هذه الحالات واشباهها ، فاستهل المادة 250 ( م 181 جديد ) بالنص على أن كل من تسلم على سبيل الوفاء ما ليس مستحقاً له وجب عليه رده ، دون أن يخص صورة من صور الوفاء أو ضرباً من ضروب ما يحصل الوفاء به . أما الأمر الثاني فقيامه بالوفاء بما لم يكن مستحقاً في ذمته . . . " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 449 ) .
( [1589] ) الغلط هنا هو الغلط الذي يعيب الإرادة بشروطه المعروفة . ويستوي أن يكون غلطاً ف يالواقع أو غلطاً في القانون . ولا يعتبر الغلط في تشريع مبهم ، ترددت المحاكم في تفسيره واختلفت ، سبباً لاسترداد ما دفع إذا كان الطرفان وقت الاتفاق قد اتبعا التفسير الأكثر شيوعاً لدى القضاء ( استئناف مختلط في 23 يناير سنة 1930 م 42 ص 226 ) . وكذلك الغلط في تفسير نظام شركة لا يكون سبباً للاسترداد إذا كان هذا التفسير مسلماً به من الطرفين وقت الدفع ( استئناف مختلط في 11 يونية سنة 1930 م 42 ص 557 ) .
وكالغلط التدليس ، فإذا توطأ الدائن مع المدين ، وتقدم في التوزيع بمبلغ اكبر من حقه ، وتنازل المدين عن المعارضة ، فقبض الدائن المبلغ الأكبر وشاطر المدين الزيادة ، فإن الدائنين المتأخرين في المرتبة يجوز لهم أن يرجعوا على هذا الدائن ليستردوا منه ما أخذ دون حق ( استئناف مختلط في 12 مايو سنة 1949 م 61 ص 122 ) .
( [1590] ) كان القضاء المصري ، في ظل القانون القديم ، يقضي بأن الدافع هو الذي يكلف إثبات أنه كان في غلط عندما دفع ( استئناف مختلط في 13 فبراير سنة 1902 م 14 ص 132 – وفي 17 ابريل سنة 1924 م 36 ص 319 ) . ولكنه كان يتساهل في استخلاص قرائن قضائية – تقبل بداهة إثبات العكس – على أن الدافع كان في غلط . فالوفاء الحاصل من أحد أقارب المدين وهو يجهل مضمون الحكم الذي قضى بالدين وليست لديه وسيلة للتثبت من أن المبلغ الذي يطالب به الدائن هو يقدر الدين ، يفرض فهي أنه وقع عن غلط إذا كان القدر المدفوع يزيد على الدين ( استئناف مختلط في 17 ابريل سنة 1924 م 36 ص 319 ) . والوفاء الحاصل من المدين على طريقة لم يرض بها إلا بعد أن أكد له الدائن تأكيداً قاطعاً أن هذه الطريقة هي وحدا الصحيحة قانوناً لا يعتبر تفسيراً للعقد متفقا ًعليه ، بل يعتبر أنه قد وقع عن غلط ( محكمة مصر الكلية المختلطة في 22 مارس سنة 1921 جازيت 11 رقم 196 ص 273 ) . كما كان القضاء يتساهل في استخلاص قرائن قضائية على أن الدافع قد دفع عن بينة . فقيام أحد الشركاء بدفع مبلغ معين على اعتبار أن هذا المبلغ هو نصيبه في الخسارة يتضمن إقرار هذا الشريك بوقوع هذه الخسارة ، فعليه هو ، إذا أراد استرداد ما دفع ، أن يثبت أنه دفع عن غلط ما ليس مستحقاً عليه ( استئناف مختلط في 31 ديسمبر سنة 1896 م ) ص 79 ) – وقد وصل القضاء المصري في النهاية إلى حد أن جعل عبء الإثبات على المدفوع له ، فقضى بأنه إذا دفع المدين الدين مرتين أصبح إثبات الغلط لا فائدة منه ، لأنه إذا كانت إحدى هاتين المرتين يقوم الدفع فيها على سبب صحيح ، فالاخرى لا يقوم الدفع فيها على سبب ، ومن ثم لا يكون إثبات الغلط ضرورياً إلا إذا نسب إلى المدين نية القيام بتبرع أو أي تصرف قانوني آخر ، وهذا ما يجب على المدفوع له أن يثبته ( استئناف مختلط في 12 ابريل سنة 1938 م 50 ص 233 – أنظر أيضاً استئناف مختلط في ) مارس سنة 1937 م 49 ص 139 ) . وقد حسم القانون الجديد الأمر بأن أقام قرينة قانونية على أن دفع غير المستحق وقع عن غلط ، وجعل هذه القرينة قابلة لإثبات العكس كما سنرى .
ولكن المحاكم المصرية كانت تقضي على كل حال ، في ظل القانون القديم ، بأن دفع غير المستحق لا يجوز فيه الاسترداد إلا إذا وقع عن غلط ( استئناف مختلط في 9 مايو سنة 1895 م 7 ص 266 – وفي 20 يونية سنة 1895 م 7 ص 351 – وفي 31 ديسمبر سنة 1896 م ) ص 79 – وفي 26 نوفمبر سنة 1913 م 26 ص 50 – وفي 28 فبراير سنة 1918 م 30 ص 253 – وفي 17 ابريل سنة 1924 م 36 ص 319 ) .
هذا ويلاحظ أنه إذا اشترط في الدافع أن يكون قد دفع عن غلط حتى يجوز له أن يسترد ما دفع ، فليس من الضروري أن يكون المدفوع له قد قبض غير المستحق عن غلط ، فقد يكون سيء النية كما يكون حسن النية ، وفي الحالتين يرد ما أخذ دون حق على تفصيل سنعرض له فيما يلي .
( [1591] ) أما إذا كان قد دفع ديناً غير موجود أصلاً وهو على بينة من الأمر – كما إذا دفع صوية عدل عنها للموصى أو ديناً معلقاً على شرط واقف بعد تخلف الشرط أو هبة باطلة لأنها لم تفرغ في ورقة رسمية – فقد يريد بذلك أن يتبرع للمدفوع له بما دفع معتقداً أن هذا واجب أدبى قد ترتب في ذمته ، بل قد يكون هذا الواجب قد ارتقى إلى منزلة الالتزام الطبيعي فلا يسترد ما أداه من ذلك باختياره .
وقد يكون الدين الذي أداء مصدره عقد باطل لسبب يرجع إلى النظام العام أو الآداب وهو عالم بالبطلان ، كما إذا دفع دين قمار أو فوائد ربوية ، فيستطيع في هذه الحالة أن يسترد ما دفع بالرغم من علمه بالبطلان ، لأن هذا الحل هو الذي قتضيه النظام العام والآداب ( أنظر م 227 فقرة 1 وهي تجيز استرداد الفوائد الربوية وم 739 فقرة 2 وهي تجيز استرداد دين المغامرة والرهان ) .
( [1592] ) أما إذا دفع ناقص الأهلية ديناً مترتباً في ذمته ، فإن الدفع يكون صحيحاً مبرئاً للذمة إذا لم يلحق به ضرراً ، ومن ثم لا يجوز له استرداد ما دفع . وقد نصت الفقرة الثانية من المادة 325 على هذا الحكم صراحة إذ تقول : " ومع ذلك فالوفاء بالشيء المستحق ممن ليس أهلا للتصرف فيه ينقضي به الالتزام إذا لم يلحق الوفاء ضرراً بالموقى " .
( [1593] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه إذا صدر حكم في مخالفة ، ونفذته النيابة العامة بتنفيذ أعمال محكوم بها على حساب المحكوم عليه ، فإن هذا الأخير يجوز له ، بعد أن يدفع المصروفات المطلوبة منه ، أن يسترد ما دفع دون حق إذا هو أثبت أن ما دفعه يزيد على الأجرة المعتادة لهذه الأعمال ، وبخاصة إذا كان قد طلب من الإدارة قبل ذلك بيانات وتفاصيل عن الأعمال المطلوبة لينفذها بنفسه فلم ترد عليه الإدارة ( 19 ابريل سنة 1923 م 35 ص 357 – أنظر أيضاً استئناف مختلط في 10 ابريل سنة 1879 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلطة 4 ص 252 – وفي 20 ديسمبر سنة 1898 م 11 ص 74 – وفي 3 ديسمبر سنة 1913 م 26 ص 73 – وفي 10 مايو سنة 1927 م 39 ص 452 – وفي 17 يونية سنة 1930 م 42 ص 569 ) .
ومع ذلك فقد قضت محكمة النقض بأنه " إذا ادعى مدين أنه سدد الدين المطلوب الحكم به عليه ، ثم حكم بالزامه بهذا الدين ، وتناول هذا الحكم ما كان يدعيه المدين من التخالص من الدين بالوفاء قائلا عنه إنه غير ثابت لعدم تقديم أية مخالصة ، فليس لهذا المدين بعد ذلك أن يدعي براءة ذمته بدعوى جديدة بناء على مخالصة يجدها بعد ذلك " ( نقض في 30 نوفمبر سنة 1939 مجموعة عمر 3 رقم 7 ص 16 ) . وقد يقال لتبرير قضاء محكمة النقض إن عدم التخالص من الدين قد قضى فيه بحكم حاز قوة الشيء المقضى فلا يجوز الرجوع بعد ذلك لمناقشة هذه للمسألة . على أن محكمة الاستئناف المختلطة تهدر الدفع بقوة الشيء المقضي إذا ثبت لها أن المدفوع له قد حصل على غير المستحق عن طريق التدليس ( استئناف مختلط في 13 مايو سنة 1949 م 61 ص 122 ) .
( [1594] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن إجبار شركة على أن تدفع ضريبة السير في الطرق الزراعية عن طريق تهديدها بعدم إعطائها رخصة بتسيير مركباتها أو بعدم تجديد هذه الرخصة يجعل للشركة الحق في أن تسترد ما دفعته دون حق إذا كانت الضريبة غير قانونية ( 21 ديسمبر سنة 1939 م 52 ص 68 – أنظر أيضاً استئناف مختلط في 7 مايو سنة 1908 م 20 ص 202 ) .
هذا وقد ور في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " فإذا أقام المدعى هذا الدليل ( على أنه وفي ديناً غير مستحق ) فيفرض أنه قد أوفى خطأ وأن من حقه أن يسترد ما دفع . وقد نص التقنين الاسباني على ذلك صراحة ، فقرر في المادة 1901 أنه يفرض الخطأ في الوفاء إذا سلم ما لم يستحق أصلاً أو ما سبق أداؤه . ويضيف النص إلى ذلك : ولكن يجوز لمن يطلب إليه الرد أن يقيم الدليل على أن التسليم كان على سبيل التبرع أو لأي سبب مشروع آخر . والواقع أن من تسلم ما يدعى بعدم استحقاقه له لا يكون عليه إلا إسقاط قرينة الخطأ في الوفاء . فإذا اثبت أن الوفاء بما لم يكن مستحقاً قد تم عن بينة من الموفى ، فيفرض أنه أوفى على سبيل التبرع ، إلا أن يكون غير كامل الأهلية أو أن يقوم الدليل على أنه أدى ما أداه تحت سلطان إكراه : كما إذا كان قد فقد المخالصة وأكره بذلك على الوفاء مرة أخرى " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 449 – ص 450 ) .
( [1595] ) وإذا كان لا بد من القول في هذه الحالة بأن هناك غلطا في جانب الدافع وهو يدفع الدين نف من الممكن القول بذلك على الاعتبار الآتي : أن الدافع وقت أن دفع الدين المعلق على شرط فاسخ أو الدين الواجب بعقد قابل للفسخ أو قابل للأبطال لم يكن يعلم أن الشرط الفاسخ سيتحقق و أن العقد قابل للفسخ أو للأبطال . ويترتب على ذلك أنه لو دفع ديناً معلقاً على شرط فاسخ وهو يعلم أن الشرط قد تحقق ، ا, ديناً واجباً بعقد قابل للفسخ وهو علام بقيام سبب الفسخ ، حمل ذلك منه على أنه يفي بالتزام طبيعي أو على أنه متبرع . وإذا دفع دينا واجباً بعقد قابل للإبطال وهو يعلم ذلك اعتبر دفعه للدين اجازة للعقد .
( [1596] ) محكمة استئناف ليون في 15 ديسمبر سنة 1841 سيريه 1824 – 2 – 168 – محكمة استئناف ريوم في 28 يونية سنة 1855 داللوز 1856 – 2 – 136 – محكمة اسئتناف الجزائر في 2 يناير سنة 1883 سيريه 1884 – 2 – 17 .
( [1597] ) أنظر في هذا المعنى لارومبيير م 1377 فقرة 17 – ديمولومب 31 فقرة 306 – بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 1237 – ديموج 3 فقرة 95 .
( [1598] ) استئناف مختلط في 23 نوفمبر سنة 1899 م 12 ص 28 – وفي 23 يونية سنة 1915 م 27 ص 430 ( وفي هذه القضية كان الدافع حائزاً للعقار ووفي الدائن المرتهن . ثم نزعت ملكية العقار فرسا عليه المزاد ، فيكون قد وفى الدائن المرتهن مرتين وله الرجوع عليه بدعوى غير المستحق ) . وفي 26 فبراير سنة 1929 م 41 ص 258 .
ويقرب من ذلك ما قضت به محكمة الاستئناف المختلطة من أنه إذا كان المدينون اخوة ثلاثة ، ووقع خطأ في قائمة التوزيع النهائية فلم يذكر إلا اثنتان منهم ، ولم يدرج إلا دائنو هذين الاثنين فاستولوا على جميع الثمن ، كان على هؤلاء الدائنين أن يردوا ثلث ما استولوا عليه لدائني الأخ الثالث ( 17 فبراير سنة 1920 م 32 ص 157 ) . وقضت أيضاً با ،÷ إذا دفع المدين المحال عليه عن غلط كل الدين إلى المحال له ، بالرغم من وجود حجوز تحت يده ، كان له أن يسترد من المحال له ما أخذه هذا دون حق ( 22 مايو سنة 1930 م 42 ص 513 ) . وقضت كذلك بأنه إذا دفع المشتري وقت توقيع العقد الابتدائي قسطاً من الثمن لدائن مرتهن ، ثم نزع هذا الدائن ملكية العقار المبيع فاستولى على حقه ، جاز للمشتري أن يسترد منه ما سبق أن دفعه له ( 26 ديسمبر سنة 1940 م 53 ص 51 ) . أنظر مع ذلك محكمة مصر المختلطة في 28 يناير سنة 1919 جازيت ) رقم 133 ص 230 – وانظر أيضاً ما قضت به محكمة الاستئناف المختلطة من أن الدائن المدرج في كشف التوزيع لا يجوز أن يسترد منه ما أخذ بحجة أنه أخذ أكثر من حقه إذا لم تحصل منازعة في إدراجه في كشف التوزيع لا يجوز أن يسترد منه ما أخذ بحجة أنه أخذ أكثر من حقه إذا لم تحصل منازعة في إدراجه في كشف التوزيع وفاتت مواعيد الطعن ( 21 مايو سنة 1908 م 13 ص 319 – 28 فبراير سنة 1918 م 30 ص 254 – أول ديسمبر سنة 1931 م 44 ص 37 – 9 مارس سنة 1937 م 49 ص 139 ) ، وذلك ما لم يقع منه تدليس ( 13 مايو سنة 1930 م 42 ص 495 – 12 مايو سنة 1949 م 61 ص 122 ) .
( [1599] ) جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ليس دفع غير المستحق سوى تطبيق خاص للقاعدة العامة في الإثراء بلا سبب . فالوفاء يدين تصرف قانوني يجب أن تجتمع له الشروط الواجب توافرها في سائر التصرفات القانونية . فيشترط أن يكون بوجه خاص خلواً مما يعيب الرضاء من غلط أو تدليس أو إكراه ، وأن يصدر ممن تتوافر لديه أهلية الوفاء . فإذا شاب الرضاء عيب من هذه العيوب أو تخلف شرط الأهلية كان الوفاء غير صحيح . ويعتبر من تسلم ما أوفى به أو أدى على هذا الوجه قد أثرى دون سبب ، ويصبح ملزما بالرد وفقاً لقواعد الإثراء " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 448 ) .
( [1600] ) جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " يلتزم من يتسلم غير المستحق برد ما يؤدي إليه . وليس ترتيب هذا الالتزام إلا تطبيقاً للقواعد العامة في الإثراء . فمما لا ريب فيه أن من يقبض غير المستحق يثري دون سبب ما دام وفاء من أدى قد وقع غير صحيح . وأقل قيمة ينبغي ردفها هي مقدار المبلغ الذي سلم بغير حق . ومع ذلك فليس ثمة محل للمفاضلة بين قيم شتى ، إذ الأمر ينحصر في قيمة واحدة . فالمبلغ الذي يدفع يمثل قيمة ما أثرى به المدين وما نقص من مال الدائن في آن واحد " ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 459 ) .
( [1601] ) قارن ما جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 459 ) . وقد يجوز التفريق من بعض الوجوه بين قاعدة الإثراء بلا سبب في ذاتها وبين تطبيقها في حالة دفع غير المستحق . فيراعى أن الإثراء بلا سبب يسلتزم دخول ما يثرى به المدين في ذمته الملاية ، ولا يلزم بالرد إلا بمقتضى التزام شخصي . وعلى النقيض من ذلك لا يترتب على دفع غير المستحق انتقال ملك ما يؤدي دون حق إلى المدين ودخوله في ذمته . ذلك أن هذا الوفاء ، وهو قابل للبطلان بحكم الحال ، لا يكون من شأنه تقل الملك . فالمدين يلتزم برد ما تلقى عيناً لا بمقتضى التزام شخصي ، بل بمقتضى استحقاق الغير له . على أن هذا الفارق الفقهي البحث لا يحول دون اعتبار أحكام دفع غير المستحق تطبيقاً لقاعدة الإثراء بلا سبب من حيث مضمون الفكرة بوجه عام . ومن المحقق أن من يتسلم غير المستحق يتعين عليه رده بمقتضى التزام يقع على عاتقه طبقاً لهذه القاعدة ، دون أن يكون هناك محل للتفريق بين ما إذا كان من تسلم حسن النية أو سيئها ، وما إذا كان ما سلم من القيميات أو المثليات .
( [1602] ) استئناف مختلط 7 فبراير سنة 1935 م 47 ص 149 .
( [1603] ) وقد يدفع مدين الدين لغير دائنه ، فيستطيع الرجوع بدعوى غير المستحق على المدفوع له ، ويبقى للدائن الحقيقي أن يرجع بحقه على هذا المدين . ولكن هل يجوز ، تجنباً لتعدد الرجوع ، أن نجعل الدائن الحقيقي يرجع مباشرة على المدفوع له ؟ لا نرى وجهاً لرجوع الدائن الحقيقي على المدفوع له بدعوى غير المستحق لأن الذي يرجع بهذه الدعوى هو المدين الذي دفع من ماله كما رأينا ، ولا بدعوى الإثراء لأنه لم يفتقر إذا أن حقه لا يزال باقياً في ذمة المدين ، ولكن يستطيع استعمال حق مدينه في الرجوع على المدفوع له عن طريق الدعوى غير المباشرة . وقد يستطيع أيضاً أن يرجع على المدفوع له بدعوى الفضالة إذا كان هذا قد نظر إلى مصلحته فتقبل الدفع نيابة عنه . ( أنظر في هذه المسألة ديموج 3 ص 99 - بلا نيول روبير وبولانجيه 2 فقرة 1244 ) .
( [1604] ) وإذا استوفي دائن حقه من غير المدين ، كان للدافع ، وبدعوى الإثراء بلا سبب على المدين الحقيقي . ولكنه لا يرجع على المدين الحقيقي بدعوى غير المستحق طبقاً للقواعد التي بيناها .
( [1605] ) وكان النص في القانون المدني القديم على الوجع الآتي : " فإذا أخذ ذلك الشيء مع علمه بعدم استحقاقه له كان مسئولاً عن فقده وملزماً بفوائده وريعه " ( م 146 / 207 قديم ) . وظاهر أن النص الجديد أوضح بياناً من النص القديم . تاريخ النص الجديد : ورد هذا النص في المادة 254 من المشروع التمهيدي مع خلافات لفظية طفيفة . وفي لجنة المراجعة اقترح إدخال هذه التعديلات اللفظية فأقرتها اللجنة ، وأصبح رقم المادة 190 في المشروع النهائي . وفي مجلس النواب ووفق على المادة دون تعديل تحت رقم 190 . وفي مجلس الشيوخ ووفق على المادة دون تعديل ، وأصبح رقمها 185 . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 457 - ص 461 ) .
( [1606] ) ويجوز طبقاً للمادة 205 من القانون المدني الجديد ، أن يحصل الدائن على شئ من النوع ذاته على نفقة المدين بعد استئذان القاضي أو دون استئذانه في حالة الاستعجال ، كما يجوز للدائن أن يطالب بقيمة الشيء ، من غير إخلال في الحالتين بحقه في التعويض .
هذا وإذا أصدرت شركة سندات استهلكتها فيما بعد ، ودفعت غلطاً فوائد هذه السندات بعد استهلاكها ، فإن لها أن تسترد الفوائد التي دفعتها دون حق أو أن تجعل ما دفعته من الفوائد قصاصاً في بعض رأس مال السندات التي استهلكت . ولكن صدر قانون في فرنسا في أول أغسطس سنة 1893 يقضى بأن الشركة لا تسترد في هذه الحالة الفوائد التي دفعتها ، وعليها أن ترد رأس المال السندات المستهلكة كاملاً ويبررون هذا الحكم في فرنسا بخطأ الشركة في الاستمرار على دفع فوائد السندات بعد استهلاكها ، وبأن هذه الفوائد تقابل ريع رأس مال السندات المستهلكة قبل دفعه ( أنظر بلا نيول وربير وبولانجيه 2 فقرة 1243 ) .
( [1607] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " أما فيما يتعلق بثمرات الشيء الذي سلم فثمة محل للتفريق بين من قبض بحسن نية ومن قبض بسوء نية . فلا يلزم الأول بالثمرات أو الفوائد إلا من وقت رفع الدعوى ، لأنه يمتلك الثمرات ما دام حسن النية وفقاً للقواعد العامة " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 460 ) .
هذا والمطالبة القضائية برد الشيء غير المستحق إذا كان نقداً توجب دفع الفوائد القانونية ( 4%في المائل المدنية و 5% في المائل التجارية ) من وقت المطالبة متى دخلت المطالبة بالفوائد في صحيفة الدعوى ( م 226 ) ، وتوجب در الثمرات أو التعويض بحسب ما يقدر القاضي من وقت رفع الدعوى إذا كان المدفوع أشياء مثلية لا نقداً
أنظر في الموضوع استئناف مختلط 4 إبريل سنة 1889 م 1 ص 147 - 10 مايو سنة 1927 م 39 ص 452 - محكمة مصر المختلطة التجارية 13 إبريل سنة 1929 جازيت 20 رقم 132 ص 127 - دي هلتس تحت لفظ Ex - paiement فقرة 166 وما بعدها الدكتور عبد السلام دهنى في الالتزامات ص 688 .
( [1608] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 409 .
( [1609] ) وقد يقبض المستحق في الوقف نصيبه في الغلة ، ثم يتبين أنه غير مستحق في الوقف أو أنه قبض أكثر من نصيبه ، فيعتبر الاستحقاق ( وهو حق الانتفاع العيني ) في هذه الحالة عيناً مدفوعة دون حق ، ويجب على المدفوع له ردها ، ولكن إذا كان هذا حسن النية فإنه لا يرد غلة الوقف التي صرفها له الناظر لأنها تعتبر ثماراً ملكها بالقبض . وقد قررت محكمة النقض هذا المبدأ في وضوح على الوجه الآتي : " إن تطبيق المادتين 145 و 146 من القانون المدني ( م 181 و 185 جديد ) يقتضي حتما التفريق بين الشيء المأخوذ بدون حق وبين ثمرته ، فإن لكل حكماً ، إذ الشيء المأخوذ واجب الرد على كل حال ، أما الثمرة فواجبة الرد إذا كان آخذ الشيء قد أخذه بسوء نية عالماً ألا حق له فيه . أما إذا كان أخذه إياه وقع بسلامة نية دون علمه بعدم استحقاقه له فلا رد للثمرة . فإذا كانت الوقائع الثابتة بالحكم أن زبداً كان يعتبر نفسه مستحقاً في وقف ، وكان يعتقد هذا تمام الاعتقاد ، ويعتقده معه ناظر الوقف وباقي المستحقين اعتقاداً هم جميعاً سليمون النية فيه ، واستمر زبد مدة طويلة يستولي على نصيبه من غلة الوقف ، حتى جاء بكر فأدعى الاستحقاق دونه وحصل على حكم شرعي نهائي لمصلحته ، ثم رفع بكر دعوى يطالب بها زبداً أن يرد ما أخذه من غلة الوقف في السنين الماضية التي استولي فيها على هذه الغلة ، فهذه الوقائع تدل على أن الذي أخذه زبد بدون حق إنما هو حق الانتفاع أو أصل الاستحقاق ، ذلك الحق العيني الذي كان واضعاً يده عليه بواسطة ناظر الوقف ، وان المال الذي كان يقبضه سنوياً إنما هو الثمرة الناتجة من ذلك الحق العيني الذي أخذه بدون وجه حق . وإذن فالشيء الذي يجب رده بمقتضى المادة 145 ( 181 جديد ) هو أصل الاستحقاق في الوقف أي حق الانتفاع العيني ( droit d usufruit وهو ما حصل رده تنفيذاً للحكم الشرعي . أما الثمرة وهي الربع الذي كان يقبضه فغير واجب ردها ما دام أخذه لأصل الحق المنتج لها ووضع يده عليه كان بسلامة نية " ( تقض في 23 مايو سنة 1935 مجموعة عمر 1 رقم 268 ص 793 ) .
وعلى أساس أن المستحق في الوقف لا يلزم برد ما تسلمه زيادة على استحقاقه إلا إذا كان سئ النية ينبغي أن يفهم الحكم الآتي الصادر هو أيضاً من محكمة النقض : " التزام المستحق في الوقف برد ما تسلمه زيادة على استحقاقه يقوم على حكم المادة 145 من القانون المدني ( م 181 جديد ) ، فالحكم الذي يلزمه بالرد منعاً إثرائه على حساب الغير ( والأولي أن يقال رداً لما أخذ دون حق " لا مخالفة فيه للقانون . ولا محل للاحتجاج بالمادة 147 مدني ( م 201 جديد ) إذ أنها وردت في شأن الالتزامات الطبيعية وامتناع الرد فيما يوفي منها " ( تقض 13 يونية سنة 1946 مجموعة عمر رقم 94 ص 191 ) . ومع ذلك أنظر الحكم الآتي وقد صدر أيضاً من محكمة النقض " إذا كان الوقف صادراً على ذرية الواقف ، ويرهن أحد على أنه من الذرية وأثبت استحقاقه ، وكان الخلاف على استحقاقه متعلقاً بالنسب ، فإن الحكم يكون مستنداً إلى وقت الوقف ويكون له الرجوع بحصته في السنين الماضية على من قبضه من المستحقين . أما إذا كان الخلاف غير متعلق بالنسب ، وإنما يتعلق بقيام الشرط فيه بعد تفسيره ، كما إذا وقع على أولاد ولده وأثبت شخص أنه من أولاد البنات وقضى بدخوله ، فإنه لا يستحق شيئاً من غلة السنين الماضية المستهلكة لأن القضاء يكون مثبتاً أنه من الموقوف عليهم لا مظهراً لوجود شبهة الاقتصار في شرط الواقف ، فإذا كانت الغلة موجودة استحق فيها نصيبه وإلا فلا " ( نقض 11 مارس سنة 1937 المجموعة الرسمية رقم 6 ص 126 ) . ويبدو أن محكمة النقض هنا جعلت العبرة في استرداد الغلة الماضية يكون الحكم مظهراً لا مثبتاً . والأولي الوقوف عند نية من استولي على الغلة ، فإن كان سئ النية فإنه يرد ما استولي عليه ، وأما إذا كان حسن النية فإنه لا يرد شيئاً من الغلة .
أنظر أيضاً في هذه المسألة محكمة استئناف مصر في 30 إبريل سنة 1929 المجموعة الرسمية 30 رقم 140 / 4 ص 340 - وفي 13 نوفمبر سنة 1932 المحاماة 13 رقم 283 ص 546 . ومحكمة الإسكندرية الابتدائية الوطنية في 10 ديسمبر 1906 المجموعة الرسمية 8 رقم 19 .
( [1610] ) هذا وتقدير ما إذا كان المدفوع له حسن النية أو سيئها مسألة واقع لا رقابة لمحكمة النقض عليها . وقد قضت محكمة النقض في هذا المعنى بما يأتي : " تعتبر مسألة حسن النية واضع اليد على العقار مسألة موضوعية لمحكمة الموضوع الحق المطلق في تقديرها ، ولا رقابة لمحكمة النقض عليها فيها . فإذا قضت المحكمة بإعفاء المشتري من ريع الأرض التي اشتراها إلى تاريخ رفع دعوى الاستحقاق عليه بناء على أنه كان حسن النية إلى ذلك التاريخ فلا رقابة لمحكمة النقض عليها في ذلك " ( نقض 19 نوفمبر سنة 1931 مجموعة عمر 1 رقم 4 ص 13 ) . وقضت أيضاً بما يأتي : " إن تعرف حقيقة نية واضع اليد عند البحث في تملك غلة العين الموجودة تحت يده هو مما يتعلق بموضوع الدعوى . فمن سلطة محكمة الموضوع وحدها تقديره ، ولا رقابة لمحكمة النقض عليها في ذلك متى كان قضاءها مبيناً على مقدمات من شأنها أن تؤدي إلى النتيجة التي انتهت إليها . فإذا كان الحكم قد أسس انتفاء حسن النية لدى واضع اليد ( وزارة الأوقاف ) على علمها بحجج الوقف المتنازع عليه واستغلالها إياه بصفتها ناظرة دون أن تستصدر بهذه النظارة حكماً من جهة القضاء ، فلا سبيل للجدل في هذا التقدير لدى محكمة النقض " ( نقض 28 يناير سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 20 ص 46 ) .
ففي ثبت أن المدفوع له حسن النية فإنه يملك الثمار بقبضها إلى يوم رفع الدعوى . وقد قضت محكمة استئناف الوطنية في هذا المعنى بما يأتي : " لا يلزم واضع اليد برد ثمرة العين إذا كان حسن النية إلى أن ترفع عليه الدعوى بالثمرة من تاريخ رفع الدعوى لا بواقع ما حصله من ريعها ولكن بقدر ما فات من صاحب العين من ربح " ( استئناف 9 مايو سنة 1922 المحاماة 3 رقم 11 / 2 ص 27 ) - وانظر أيضاً في هذا المعنى استئناف 16 ديسمبر سنة 1902 الحقوق 18 ص 179 - المجموعة الرسمية 4 رقم 71 / 1 ص 165 - وفي 21 فبرايرسنة 1911 المجموعة الرسمية 12 رقم 70 ص 130 - وفي أكتوبر سنة 1914 الشرائع 2 رقم 79 ص 83 - وفي 23 يناير سنة 1922 المجموعة الرسمية 24 رقم 43 ص 70 - المحاماة 2 رقم 81 ص 258 - وفي 24 مارس سنة 1927 المحاماة 8 رقم 477 / 1 ص 784 - وفي 10 فبراير سنة 1927 المحاماة 8 رقم 131 / 2 ص 178 : وقد قضى هذا الحكم الأخير بأن وضع يد الورثة على العقار الموقوف باعتقاد أنه مملوك لمورثهم يمنع من مطالبتهم بالربع عن المدة السابقة على تكليفهم – وانظر أيضاً محكمة مصر الكلية الوطنية في 25 يونية سنة 1894 الحقوق 9 ص 189 - محكمة طنطا في 30 نوفمبر سنة 1913 الحقوق 29 ص 132 محكمة مصر الكلية الوطنية في 9 ديسمبر سنة 1915 الحقوق 31 ص 278 . وقد قضت محكمة طنطا بأنه " إذا دلت ظروف الدعوى على وجود التسامح المائلي بين الوالد وولده والاختلاط في المعايش والأرزاق كان الوالد حسن النية في وضع يده على أملاك ابنه وأخذ غلتها ، ولا يطلب منه رد ما أخذه ، وإنما يبتدئ اعتباره سئ النية وملزماً بالرد من وقت أن رفع ولده دعوى ضده يطالبه فيها بالملكية والتسليم " ( طنطا 4 مارس سنة 1933 المحاماة 3 رقم 419 ص 514 ) .
ومن يوم رفع الدعوى يعتبر المدفوع له سئ النية ويجب عليه رد الثمار ، والقرينة هنا قرينة قانونية غير قابلة لإثبات العكس ، فلا يجوز له إثبات حسن نيته بعد رفع الدعوى . وقد قضت محكمة الاستئناف الوطنية بأن " مجرد الإنذار لواضع اليد من المالك الحقيقي بتسليم العقار الذي تحت يده لا يكفي في اعتباره سئ النية ، بل يجب على من يدعى سوء النية أن يقدم الدليل على أن ما قام به من الإنذار لخصمه كان كافياً لتغيير حالته النفسية واعتقاده عدم أحقيته في وضع يده –ولكن يترتب على رفع الدعوى بالمطالبة بالملكية التزام واضع اليد برد الريع من تاريخ المقاضاة من غير أن يكون ثمة محل للبحث في حسن أو سوء النية واضع اليد المترتب على رفع الدعوى " ( استئناف 24 مارس سنة 1927 المحاماة 8 رقم 477 / 3 ص 784 - أنظر أيضاً استئناف 29 نوفمبر سنة 1927 المجموعة الرسمية 29 رقم 37 / 1 ص 79 ) - وقضت استئناف مصر أيضاً في هذا المعنى بأنه " من المبادئ المقررة قانوناً أن حسن النية عند واضع اليد يزول بمجرد علمه بالعيب الذي يلحق وضع يده ، وأن هذا العيب يعتبر موجوداً ، وواضع اليد عالماً به من يوم رفع الدعوى عليه . فإذا كانت الدعوى الملكية من شأنها أن تنبه واضع اليد على أن العيب الذي يلحق وضع يده ليس قاصراً على الجزء المرفوع به الدعوى بل إن العيب شامل لجميع العين الواضع يده عليها ، كما إذا رفعت الدعوى عليه من أحد الورثة مطالباً بالجزء الذي يخصه ، فلا يمكن تخصيص العيب بذلك الجزء في حين أن الحق وأحد ودليل الملكية هو بالنسبة لباقي الأجزاء التي تخص بقية الورثة . وقم واضع اليد بالعيب الذي يلحق وضع يده من شأنه أن يزيل حسن نيته ويجعله مسئولاً عن ثمرة العين كلها من تاريخ هذا العلم " استئناف 25 مارس سنة 1931 المجموعة الرسمية 33 رقم 119 ص 228 ) . أنظر أيضاً استئناف مص ر 9 يونية سنة 1934 المحاماة 15 رقم 276 / 2 ص 563 .
وقضت أيضاً محكمة استئناف مصر بأنه " ليس من الضروري لمسئولية واضع اليد على عقار بحسن نية عن الغلة من وقت رفع الدعوى عليه أن يصبح سئ النية بعد رفع الدعوى ، بل يكفي ذلك أن يظهر فيما بعد بمقتضى حكم نهائي أن منازعة يملك الأرض من قبل أن يتملكها البائع له لأن هذا الحكم مقرر للحق لا منشئ له ، وله أثر رجعى ينسحب فيما يتعلق بالريع إلى وقت رفع الدعوى ولكل من كان واضعاً يده بحسن نية على عقار حق الاستيلاء على ريعه ، وإنما يلزم واضع اليد في جميع الأحوال برد الريع من يوم رفع الدعوى باستحقاق العقار عليه إذا فيها وذلك لأن حقوق المتقاضين تعتبر معلقة وموقوفة في بحر مدة التقاضي " ( استئناف مصر 12 مارس سنة 1939 المحاماة 20 رقم 80 ص 215 ) . وانظر أيضاً استئناف مصر في 23 أبريل لسنة 1931 المحاماة 12 رقم 255 ص 518 - وفي 6 ديسمبر سنة 1939 المحاماة 20 رقم 487 ص 1156 .
على أن القضاء المصري في ظل القانون القديم لا يخلو من بعض التردد في تقرير المبدأ القاضي بأن الثمار ترد من يوم رقع الدعوى . فقد قضت محكمة استئناف مصر الوطنية في 12 إبريل سنة 1928 ( المحاماة 8 رقم 553 ص 915 ) بأنه " من المتفق عليه علماً وعملاً أن مسألة حسن النية وسوئها في وضع اليد من المسائل الموضوعية التي ترتبط بظروف الدعوى ووقائعها ، وإذا ثبت حسن نية الخصم في وضع يده فلا تزول هذه الصفة بمجرد رفع الدعوى عليه ببطلان عقده ، وإنما تزول من يوم صدور حكم نهائي بذلك في موضوع الدعوى " . وقضت محكمة مصر الكلية الوطنية في 23 نوفمبرسنة 1939 ( المحاماة 20 رقم 226 ص 636 ) بأنه " وإن كانت أغلب أحكام القضاء قد سارت على اعتبار أن سوء نية واضع اليد يبدأ من تاريخ رفع الدعوى إلا أنه من المتفق عليه أن مسألة حسن النية وسوئها في وضع اليد من المسائل الموضوعية التي ترتبط بظروف الدعوى ووقائعها ، وليس ضرورياً أن تزول هذه الصفقة بمجرد رفع الدعوى " .
وغنى عن البيان أن القانون المدني الجديد ( م 185 فقرة 3 ) قطع كل شك في هذه المسألة بأن أقام قرنية قانونية لا تقبل إثبات العكس علي سوء نية من تسلم غير المستحق من يوم رفع الدعوى . ويمكن القول أيضاً مع محكمة أسيوط ( 26 أبريل سنة 1928 المحاماة 9 رقم 424 / 4 ص 672 ) إن سوء نية واضع اليد الثابت بصدور حكم نهائي إنما يستند إلى يوم رفع الدعوى لأن الأحكام مقررة للحقوق لا منشئة لها
( [1611] ) وهذا الحكم هو تطبيق محض لدعوى الإثراء ، فإن الدافع ، وهو المثري ، يرد أقل قيمتي الإثراء والافتقار للمدفوع له ، وهو المفتقر . وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
( [1612] ) هذا وقد منح القانون المدني الجديد للدافع الذي يلتزم برد المصروفات للمدفوع له تسهيلات خاصة في الدفع . فنصت المادة 982 على أنه " لا يجوز للقاضي بناء على طلب المالك أن يقرر ما يراه مناسباً للوفاء بالمصروفات المنصوص عليها في المادتين السابقتين . وله أن يقضي بأن يكون الوفاء على أقساط دورية بشرط تقديم الضمانات اللازمة . ولذلك أن يتحلل من هذا الالتزام إذا هو عجل مبلغاً يوازي قيمة الأقساط مخصوماً منها فوائدها بالسعر القانوني لغاية مواعيد استحقاقها " .
( [1613] ) وقضت محكمة استئناف مصر بأنه " لا يجوز الحكم بالرد على من أخذ شيئاً سليمة ومن غير سبب صحيح إلا إذا حصل له إثراء فعلاً وقت رفع الدعوى ، ولا يحكم بالرد إلا بمقدار قيمة هذا الإثراء بصرف النظر عن قيمة ما لحق المدعى من الضرر ، فإذا فقد الشيء بغير خطأ المدعى عليه الحين النية وقت رفع الدعوى لم يكن هناك إثراء ولم يكن هناك موجب للرد " ( استئناف مصر 30 أبريل سنة 1929 المجموعة الرسمية 30 رقم 140 / 3 ص 340 - المحاماة 9 رقم 535 ص 989 ) .
( [1614] ) وقد قضت محكمة استئناف مصر بأن " الإثراء القانوني المترتب على الحكم بقبول دعاوى الاسترداد هو أن المحكوم عليه الحسن النية لا يكون ملزماً إلا برد الزيادة التي حصلت في ماله ، فلا يرد إلا ما حكم عليه برده إن كان قائماً ولم يهلك بحادث قهري ، أو ثمنه الذي قبضه فعلاً في حالة ما إذا كان قد تصرف فيه بحسن نية ، كل ذلك من غير مطالبته بتعويض ما " ( استئناف مصر 29 نوفمبر سنة 1927 المجموعة الرسمية 29 رقم 37 / 2 ص 79 ) . أنظر أيضاً في هذا المعنى محكمة الاستئناف المختلطة في 28 أبريل سنة 1927 م 39 ص 416 .
( [1615] ) سنورد في مكان آخر ما جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذه النصوص المحذوفة .
( [1616] ) جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " أما سئ النية فيلزم على تقيض ذلك برد الفوائد أو الأرباح التي حصل عليها أو كان بوسعه أن يحصل عليها من الشيء من وقت القبض أو من الوقت الذي أصبح فيه سئ النية . وهذا أيضاً تطبيق للقواعد العامة لأن الحائز سئ النية لا يكون له حق في الثمرات . ويراعي في الحالة الأخيرة أنه إذا كان الشيء المقبوض مبلغاً من النقود فيلتزم من قبضه برد الفوائد محتسبة على أساس السعر المقرر في القانون حتى قبل رفع الدعوى . وهذه الحالة من حالات الاستثناء النادرة التي ترد على قاعدة عدم استحقاق الفوائد القانونية إلا من تاريخ رفع الدعوى " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 460 ) . أنظر استئناف مختلط 3 فبراير سنة 1898 م 10 ص 127 - وفي 31 ديسمبر سنة 1903 م 16 ص 63 - وفي 28 مايو سنة 1942 م 54 ص 211 .
وتطبيقاً لرد الفوائد عن النقود التي أخذت بغير حق ، قضت محكمة النقض بأنه " لا يجوز مخالفة القانون في القضاء بإلزام المقرض بالربا الفاحش بفوائد المحكوم عليه بردها محسوبة من تاريخ قبضها " ( نقض 9 مايو سنة 1940 مجموعة عمر 3 رقم 58 ص 192 ) .
أما محكمة الاستئناف المختلطة فكانت لا تقضي في مبدأ الأمر برد الفوائد الربوية ، ثم قضت بذلك ، وترددت ، حتى استقرت على الرد ( انظر استئناف مختلط 29 ديسمبر سنة 1948 م 61 ص 41 :ويلخص الحكم تطور القضاء المختلط في هذه المسألة ) .
( [1617] ) استئناف مختلط في 27 مارس سنة 1945 م 57 ص 113 .
( [1618] ) وقد قضت محكمة الاستئناف الوطنية بأن " من اشترى عقاراً فأخرج منه واضع اليد عليه ، فله إن كان واضع اليد سئ النية أن يطالبه بثمار هذا العقار لا من تاريخ تسجيل عقد البيع فقط بل من تاريخ العقد نفسه " ( استئناف 3 فبراير سنة 1903 المجمومعة الرسمية 4 رقم 84 ص 191 ) . وقضت بأنه " في حالة وضع يد بعض الورثة على التركة ومنعهم أحد الورثة من استلام نصيبه يلزم الورثة واضعو اليد جميعاً بالرجوع للوارث الذي حرم من وضع يده ، ولهؤلاء الورثة تقسيم المسئولية فيما بينهم إن شاءوا بنسبة ما انتفع به كل منهم من الأطيان " ( استئناف 5 نوفمبر سنة 1913 الشرائع 1 رقم 322 ص 181 ) . وقضت بأن " الشخص الذي يضع يده على أعيان باعتباره مالكاً بمقتضى مالكاً بمقتضى عقد صدر له من المورث أضيف فيه التمليك والتصرف إلى ما بعد الوفاة واعتبر وصية باطلة لصدروها لوارث يكون مسئولاً عن الريع لأن نيته لم تكن حسنة فيما استهلك منه " ( استئناف 18 مارس سنة 1929 المحاماة 9 رقم 315 من 520 ) .
( [1619] ) وقد سبق أن أشرنا إلى التسهيلات التي منحها القانون المدني الجديد للدافع الذي يلتزم برد المصروفات للمدفوع له ( م 928 ) .
( [1620] ) قارن مسئولية السارق ، فإن الشيء المسروق إذا هلك أو ضاع بأية صورة كانت ، حتى لو ثبت أن الشيء يهلك لو بقى في يد مالكه ، فإن تبعة الهلاك تقع على السارق في جميع الأحوال ( م 207 فقرة 3 ) .
( [1621] ) النص المحذوف من المشروع التمهيدي يجعل العبرة في تحديد قيمة العين بوقت رفع الدعوى ، ولكن لما كانت القواعد العامة هي التي يجب تطبيقها بعد حذف هذا النص ، فإن هذه القواعد تقضى بتحديد قيمة العين وقت التصرف فيها .
( [1622] ) وتنقل هنا – بعد أن فرغنا من الكلام في النصوص المحذوفة من المشروع التمهيدي - ما ورد في المذكرة الإيضاحية في صدد هذه النصوص : " تتناول هذه النصوص المتتابعة حالات خاصة لها أهمية بالغة في الحياة العملية ، حيث يكون الشيء الذي قبض بغير حق معيناً بالذات . فإذا بقى الشيء في يد من قبضه وجب عليه أن يرده بعينه ، إما إلى من سلمه ، ويكون ذلك بمقتضى التزام شخصي ، وإما إلى مالكه إذا طالب باستحقاقه له – فإذا ضاع هذا الشيء أو تلف بسبب أجنبي ، فيجب التفريق بين حالة من تسلم بحسن نية وحالة من تسلم وهو سيء النية . ففي الحالة الأولي يتحمل مالك الشيء تبعة الضياع أو التلف ، ولا يلزم حسن النية برد شيء ما ، وفقاً للقواعد العامة . وفي الحالة الثانية يكون من تسلم الشيء قد ارتكب خطأ ما دام قد تسلمه وهو سيء النية ، فهو يتحمل تبعة هذا الخطأ ولو كان التلف أو الضياع بحادث جبري ، وبذلك يلتزم برد قيمة الشيء وقت ضياعه أو تلفه ، أي في آخر وقت كان يتعين عليه الرد فيه . على أن لمن سلم الشيء ، في حالة التلف ، أن يطالب بالشيء التالف مع التعويض عن نقص قيمته . وغنى عن البيان أنه إذا تسبب الضياع أو التلف بخطأ شخص معين ، كان من وقع منه هذا الخطأ مسئولاً عنه . فإذا خرج الشيء من يد من تسلمه على أثر التصرف فيه بعوض فيجب التفريق كذلك بين التصرف بحسن نية وبين التصرف بسوء نية . ويراعي أن من يتسلم الشيء وهو حسن النية قد يصبح سئ النية وقت التصرف ، ولا عكس ، فسئ النية عند التسلم لا يصبح حسن النية وقت التصرف على أي حال . فإذا وقع التصرف بحسن نية ، وكان من قبيل المعاوضة ، فلمن سلم الشيء أن يرجع ( 1 ) على من تسلمه منه ، ويتعين على هذا الأخير رد العوض الذي قبضه أو تحويل حقه فيه ، ولا يلزم برد الشيء عيناً كما هو الشأن بمقتضى تعاقده مع من تسلم هذا الشيء ، لأنه تعامل مع غير مالك . فيجوز لمن سلم الشيء أن يطالب باستحقاقه له ، ما لم يكن المتصرف له قد كسب حق الملك فيه بالتقادم أو بالحيازة أن كان من بالمنقولات . ولا يخل ذلك بما يكون للمتصرف له من حق في الرجوع بالضمان على من تعاقد معه ، وهو من تسلم الشيء وأدلي إليه به . فإذا كان التصرف من قبيل التبرعات ، فلمن سلم الشيء أن يسترده من يد المتصرف له ، وله كذلك أن يطالبه بقيمة ما أثرى به إن تم له كسب ملكية الشيء من طريق التقادم أو الحيازة باعتباره أن دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة ( أنظر الفقرة الثانية من المادة 248 من المشروع – ونستدرك هنا على المذكرة الإيضاحية أن هذا الحكم لا يسري لأن النص عليه قد حذف وهو لا يتفق مع القواعد العامة ) . أما إذا كان التصرف من قبيل المعاوضات ووقع بسوء نية ، فلمن سلم الشيء أن يرجع على من تسلمه منه وعلى المتصرف له كما هو الشأن في القرض الذي تقدمت الإشارة إليه ، مع فارق يتمثل فيما يتصل بحق الرجوع من رخص الخيار . ذلك أن من سلم الشيء يكون في هذه الحالة بالخيار بين إلزام المتصرف بأن يؤدي ما قبض من عوض ، أو إلزامه بأن يحل محله في دعوى المطالبة بهذا العوض . هذا فضلاً عن حقه الأصيل في إلزامه برد الشيء عيناً أو رد قيمته وقت رفع الدعوى لا وقت الضياع لأن الشيء لا يزال قائماً ( كذا ) . وإن كان التصرف تبرعاً جاز لمن سلم الشيء أن يرجع على من تسلمهم منه ، وله أن يلزمه برد الشيء بعينه أو برد قيمته رفع الدعوى دون رد العوض ، إذ المفروض أن التصرف وقع بغير مقابل . وله كذلك أن يسترد الشيء من يد المتصرف له ، فإذا كان هذا قد كسب حق الملك عليه بالتقادم أو بالحيازة أو لم يتيسر لمن تسلمه أن يرد قيمته التزم قبل من سلم الشيء بتعويض لا يجاوز قيمة ما أثرى به كما هو الشأن في الفرض السابق ( عين الاستدراك المتقدم ) " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 458 - ص 459 ) .
( [1623] ) وكان القانون المدني القديم يضيف حالة ثالثة هي حالة الوفاء بالتزام مخالف للآداب فلا يسترد ما دفع في بعض الأحوال . ولكن القانون الجديد أغفل هذه الحالة كما بينا عند الكلام في بطلان العقد ( أنظر آنفاً فقرة 338 ) .
( [1624] ) تاريخ النص :ورد هذا النص في المادة 252 من المشروع التمهيدي مع خلافات لفظية طفيفة ومع إغفال عبارة " وكان الموفي جاهلاً بقيام الأجل " في آخر الفقرة الأولي . وفي لجنة المراجعة اقترح إدخال التعديلات اللفظية فأقرتها اللجنة وأصبح رقم المادة 188 في المشروع النهائي . وفي مجلس النواب ووفق على المادة 188 . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تليت المادة ، فاقترح حذفها لما تحدثه من اضطراب في المعاملات على أن تطبق في الحالات المنصوص عليها فيه ا المواد السابقة الخاصة بالإثراء بلا سبب . فعارض في ذلك ممثل الحكومة قائلاً إن حكم الفقرة الثانية من المادة 186 ينصرف إلى من لا يكون ملزماً بالوفاء أصلاً وإن هذه المادة تتكلم عن شخص ملزم إلا أن أجل الوفاء لم يحل بعد ، وإن الأصل يقوم بالوفاء بدين قبل حلول أجله أنه يدفع ما ليس مستحقاً عليه من وجه ، فإذا تم الدفع من جراء غلطه أو من جراء ظروف لها حكم الغلط ، فلمن دفع أن يسترد ما أداه على أن يقوم بالوفاء عند حلول الأجل ، وقد آثر المشروع الأخذ بهذا الرأي لسلامة منطقه . واقترح أحد الأعضاء استبدال عبارة " إذا كان الوفاء قد تم تنفيذاً لالتزام " بعبارة " إذا كان التسليم تم وفاء لالتزام " في الفقرة الأولي ، كما اقترح إضافة عبارة " وكان الموفي جاهلاً قيام الأجل " في آخر الفقرة . فوافقت اللجنة على ذلك . وجاء في تقريرها أنها أضافت إلى الفقرة الأولي عبارة " وكان الموفي جاهلاً قيام الأجل " لأن الموفي لو كان عالماً بقيام الأجل ووفي على المادة كما عدلتها اللجنة تحت رقم 183 . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 451 - ص 454 ) .
هذا وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : " الأصل فيمن يقوم بالوفاء بدين قبل حلول أجله أنه يدفع ما ليس مستحقاً عليه من وجه . فإذا تم الدفع من جراء غلطة أو من جراء ظروف لها حكم الغلط ، فمن دفع أن يسترد ما أداه ، على أن يقوم بالوفاء عند حلول الأجل . وقد آثر الأخذ بهذا الرأي لسلامة منطقة ، مقتفياً في ذلك أثر المشروع الفرنسي الإيطالي ، ولو أن بعض تقنيات أخرى قد أعرضت عنه " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 451 - ص 452 ) .
( [1625] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 452 .
( [1626] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 452 .
( [1627] ) هذا ولما كان القانون المدني القديم لم يجز دعوى غير المستحق في الدين الذي وفي قبل حلول أجله ( الموجز للمؤلف فقرة 402 - الدكتور حشمت أبو ستيت ص 396 هامش رقم 1 - أنظر أيضاً المادة 1186 من القانون المدني – ومع ذلك قارن دي هلتس 2 ص 93 فقرة 144 ) ، فإن القانون المدني الجديد يكون قد استحدث هنا حكماً جديداً كما قدمنا . وليس لهذا الحكم الجديد أثر رجعي فإذا وفى المدين ديناً قبل حلول أجله ووقع الوفاء قبل 15 أكتوبر سنة 1949 ، فلا يرجع بشء على الدائن حتى لو كان أجل الدين لا يحل إلا في 15 أكتوبر سنة 1949 أو في ميعاد بعد ذلك أما إذا وقع الوفاء في 15 أكتوبر سنة 1949 أو بعد ذلك فالقانون الجديد هو الذي ينطبق ، ويرجع المدين على الدائن بدعوى غير المستحق على النحو الذي بيناه ، حتى لو كان الدين الذي وفي قبل حلول أجله قد نشأ قبل 15 أكتوبر سنة 1494 . ومن ثم نرى أن العبرة في تطبيق القانون الجديد لا تكون بتاريخ نشوء الدين ولا بتاريخ حلول الأجل ، ولكن بتاريخ الوفاء المعجل ، فإن هذا الوفاء المعجل هو الواقعة التي ترتب عليها التزام المدفوع له برد غير المستحق . فإذا وقع الوفاء المعجل في 15 أكتوبر سنة 1949 أو بعد ذلك كان القانون الجديد هو الواجب التطبيق ، وإذا وقع قبل 15 أكتوبر سنة 1949 والقانون القديم هو الذي يطبق .
( [1628] ) تاريخ النص " ورد هذا النص في المادة 259 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " إذا كان من تسلم شيئاً غير مستحق له لا تتوافر فيه أهلية التعاقد ، فلا يكون ملتزماً إلا بالقدر الذي إثري به حتى لو كان سئ النية ، وهذا مع عدم الإخلال بحكم المادة 255 " . وفي لجنة المراجعة اقترح حذف العبارة الأخيرة لعدم ضرورتها ، فأقرت اللجنة ذلك وأصبح النص النهائي الذي قدمته اللجنة تحت رقم 191 على الوجه الآتي : " إذا لم تتوافر أهلية التعاقد فيمن تسلم غير المستحق فلا يكون ملتزماً إلا بالقدر الذي أثرى به " . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 191 . ووافقت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ على المادة دون تعديل وأصبح رقمها 186 . ثم وافق مجلس الشيوخ على المادة دون تعديل . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 461 - ص 462 ) .
( [1629] ) استئناف مختلط 28 أبريل سنة 1942 م 54 ص 180 .
( [1630] ) أما كامل الأهلية فإنه يلتزم برد قيمة الشيء كما رأينا . ( قارن بلانيول وربير وبولانجية 2 فقرة 1254 ) .
( [1631] ) وقد رأينا فيما تقدم أن كامل الأهلية يلتزم برد قيمة الشيء . هذا والدافع هو الذي يقع عليه عبء الإثبات في بيان أن ناقص الأهلية قد أثرى وقي تقدير مدى إثرائه وذلك وفقاً للمبادئ التي قررناها في دعوى الإثراء بلا سبب ( انظر في هذا المعني بلا نيول وربير وبولانجية 2 فقرة 1255 ) وانظر أيضاً محكمة الاستئناف الوطنية في 7 ديسمبر سنة 1909 الحقوق 25 ص 68 - وفي 5 فبراير سنة 1931 المحاماة 11 رقم 534 ص 1052 - ويجوز الإثبات بجميع اطرق لأن المطلوب هو إثبات واقعة مادية ولكن لا يجوز الاستدلال على حصول المنفعة لناقص الأهلية بالمستندات الممضاة منه لأنها هي أيضاً باطلة .
وهذا ورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في شأن النص الذي نحن بصدده : " لا يشترط الالتزام برد ما سلم بغير حق أن يكون المدين أهلا للتعاقد . ذلك أنه لا يلتزم التزاماً إرادياً ، بل ينشأ التزامه برد ما أدي إليه عن واقعة تسلم ما لم يكن مستحقاً له . ولكن إذا كان من تسلم الشيء غير كامل الأهلية فلا يكون التزامه كامل الأهلية من حيث المدى بمنزلة سواء فيجوز أن يلزم كامل الأهلية بما يربو على قيمة ما أثرى به ، وبوجه خاص في حالة ضياع الشيء ( م 256 ) وحالة التصرف فيه بسوء نية ( م 258 ) . أما ناقص الأهلية فلا يلتزم على النقيض من ذلك إلا بقيمة ما أثرى به ولو كان سئ النية ، ولا يلزم بشيء ما إذا فقد ما تسلم ه بحادث فجائي . وهو لا يؤدي كذلك إلا ما قبض من عوض إذا تصرف فيما تسلم بسوء نية دون أن يلزم برد الشيء عيناً أو بأداء قيمته على نحو ما يلزم بذلك كامل الأهلية . وتستثنى من حكم القاعدة المتقدمة حالة تسلم ناقص الأهلية لشيء معين بالذات ، فهو يلزم برده عيناً ما دام قائماً ولو أنه لم يثر منه باعتبار أنه لم يدخل في ذمته . وهذا هو ما قصد من التحفظ الخاص بالمادة 251 " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 461 –ص 462 ) .
ويعتبر ناقص الأهلية قد أفاد مما أخذه إذا كان قد وفي به ديناً عليه ، أو اشترى به شيئاً نافعاً ولو قلت قيمة الشيء بعد ذلك أو انعدمت بسبب طبيعي ، أو رمم به عقاراً حتى لو هلك العقار بعد ذلك بقوة قاهرة ، أو بقى المال الذي أخذه في يده إلى وقت الرد ( استئناف وطني في 27 نوفمبر سنة 1928 المحاماة 9 رقم 48 ص 72 ) . ويعتبر مفيداً ما صرفه القاصر في ضرورياته أو في كمالياته المعقولة التي يحصل عليها أمثاله ( استئناف مختلط في 16 مايو سنة 1889 م 1 ص 150 - وفي أول يونية سنة 1899 م 11 ص 266 ) . ويعتبر غير مفيد ما بدده ناقص الأهلية في ملاهيه أو في المقامرة أو في شراء أشياء غير مفيدة وغير متناسبة مع حالته الاجتماعية ومقدار ثروته أو في أشياء ضارة كالمواد المخدرة ، أو ضاع المال عن خرق أو عدم حيطة ( انظر في كل ذلك نظرية العقد للمؤلف فقرة 613 ) .
( [1632] ) تاريخ النص :ورد هذا النص في المادة 253 من المشروع التمهيدي كما هو . وأقرته لجنة المراجعة على أصله تحت رقم 189 . ووافق مجلس النواب عليه دون تعديل . ثم وافقت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ عليه دون تعديل وأصبح رقمه 184 . ووافق مجلس الشيوخ عليه دون تعديل ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 455 - ص 456 ) .
( [1633] ) وكان القضاء المصري يفسر عبارة " وانعدم سند الدين " التي وردت في القانون القديم تفسيراً ضيقاً . فقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه " إذا دفع المشتري الثمن لدائن مرتهن ، ثن استحق المبيع أو أبطل البيع لخرجت العين من يده ، كان دفعه الثمن للدائن المرتهن قائماً على غير سبب ، وله أن يسترد الثمن الذي دفعه . ولا يمنعه من ذلك أن يكون الدائن قد عمد إلى شطب الرهن بعد أن استوفي حقه ، فإن نص القانون إنما يمنع الاسترداد في حالة انعدام السند ، أي في حالة زواله بحيث يصبح مستحيلاً على الدائن أن يثبت حقه . وما لم يشتمل شطب الرهن أي في حالة زواله بحيث يصبح مستحيلاً على الدائن أن يثبت حقه . وما لم يشتمل شطب الرهن على النزول صراحة عن الرهن ذاته فإنه لا يفقد الدائن حقه في الرهن . ولا يزال السند المنشئ للحق باقياً على كل حال يستطيع به الدائن أن يرجع على مدينه ( استئناف مختلط 23 نوفمبر سنة 1899 م 12 ص 27 ) . ومع ذلك فقد توسعت محكمة الاستئناف المختلطة أخيراً في التفسير فقاست على " انعدام السند " تقادم الدين ، إذ قضت بأنه " في تطبيق المادة 209 من القانون المدني المختلط المتعلقة باسترداد غير المستحق يقاس على حالة انعدام السند حالة تقادم الدين " ( استئناف مختلط 15 ديسمبر سنة 1932 م 45 م ص 72 ) .
( [1634] ) وقد ورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " إذا قام غير المدين بوفاء الدين معتقداً أنه ملزم بأدائه ، فمن حقه أن يسترد ما أدى وفقاً للقواعد الخاصة بدفع ما لا يستحق سواء أكان الدائن حسن النية أن سيئها . ومع ذلك فقد رؤى اختصاص الدائن حسن النية بقسط من الرعاية ، فأقسط عنه الالتزام بالرد على استيفائه ما أدى للغير إلحاق ضرر بحقه ، إما من ناحية الواقع بسبب تجرده من سند الدين أو من التأمينات المخصصة للوفاء به ، وإما من ناحية القانون بسبب سكوته عن مطالبة المدين الحقيقي وتقادم دعواه قبله تفريعاً على ذلك . فالحق أن المقارنة بين الغير الذي أدى ديناً لم يكن ملزماً بأدائه وبين الدائن حسن النية وقد تجرد من سند دينه معتقداً صحة الوفاء تنتهي دون شك إلى توجيه ما ينبغي لمصالح الأخير من أسباب الحماية والتغلب . وقد أخذ التقنين الحالي ( القديم ) بهذا الحكم ولو أنه أفرغه في عبارة يعوزها الوضوح ، إذا " انعدم سند الدين " دون أن يتناول بصريح النص حالات هامة كالتقادم وضياع التأمينات " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 455 ) .
( [1635] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 455 .
( [1636] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 260 من المشروع التمهيدي مع اختلاف لفظي طفيف . واقرته لجنة المراجعة على أصله تحت رقم 192 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب عليه دون تعديل تحت رقم 192 . ثم وافقت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ على النص مع حذف كلمة " بالتقادم " وأصبح رقمه 187 . ووافق مجلس الشيوخ على النص كما عدلته اللجنة التحضيرية . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 463 - ص 464 ) . ويلاحظ أن كلمة " بالتقادم " إذ حذفت لأنها لا ضرورة لها ، وسقوط دعوى غير المستحق بثلاث سنوات كسقوطها بخمس عشرة سنة إنما يأتي عن طريق التقادم .
( [1637] ) وتسقط الدعوى بثلاث سنوات من وقت العلم لو كان المدفوع له سئ النية بل وحتى لو استعمل طرق الغش للاستيلاء على ما أخذ . على أن محكمة النقض قضت في ظل القانون القديم أن الدعوى تسقط بخمس عشرة سنة لا بخمس سنوات ( المدة القصيرة في الدعاوى التجارية ) متى كان المدفوع له قد استعمل أساليب الغش حتى استخلص لنفسه ما أخذه من الدافع . وهذا هو المبدأ الذي قررته محكمة النقض : إذا كانت المحكمة قد ارتكنت في قضائها للمدعى على المدعى عليه برد ما استلبه بطريق الغش على ما حصلته من فهم الواقع في الدعوى والتحقيقات المتعلقة بها من أنه قد استعمل أساليب الغش حتى استخلص لنفسه من المدعى بلا وجه حق ولا مسوغ المبلغ الذي ألزمته برده ، فإنه ذلك كاف وحده لصحة قضائها دون حاجة لبحث وتكييف العلاقة القانونية التي توسل بها الخصم إلى التدليس الذي ارتكبه . وإذن فلا يقبل الدفع بسقوط هذه الدعوى لمضى خمس سنين على اعتبار أن المعاملة بين المدعى عليه إنما كانت تجارياً ، لأن الغش الذي أثبت المحكمة وقوعه بهدم كل اعتبار لهذه المعاملة " ( نقض 23 مارس سنة 1939 مجموعة عمر 2 رقم 174 ص 532 ) .
( [1638] ) المراجع :دي هلتس الجزء الثاني ( gestion d affaires ) –ولتون الجزء الثاني - الدكتور عبد السلام ذهني في الالتزامات –الدكتور محمود رهيبة في الالتزامات – الدكتور محمد صالح في أصول التعهدات – الموجز في الالتزامات للمؤلف - الدكتور حشمت أبو ستيت في النظرية الالتزام - بلانيول وربيير وإسمان الجزء السابع - ديموج الجزء الثالث بلانيون وربير وبولانجيه الجزء الثاني - كولان وكابيتان الجزء الثاني - جوسران الجزء الثاني - جويليه ( goublet ) رسالة من باريس سنة 1904 - فيزيوز ( vizioz ) رسالة من بوردو سنة 1912 - جليو ( guillot ) رسالة من رن سنة 1928 - مارويت ( msiuitte ) رسالة من كان ( caen ) سنة 1930 - بيكار ( picard ) في المجلة الفصلية للقانون سنة 1921 ص 419 وما بعدها ، وسنة 1922 ص 5 وما بعدها .
( [1639] ) تاريخ النص :ورد في المادة 261 من المشروع التمهيدي . وأقرانه لجنة المراجعة بعد أن أبدلت كلمة " ملتزما " بكلمة " ملزماً " وأصبح رقمه 193 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على النص دون تعديل تحت رقم 193 . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ رأي سعادة رئيس اللجنة حذف المادة لأنها أوردت تعريف الفضالة وأنه ليس من الحكمة إيراد التعاريف في القانون ، بل الحكمة تقضي بإيراد الأحكام فقط ، ولكن أغلبية اللجنة وافقت على إبقاء المادة وأصبح رقمها 188 . ووافق مجلس الشيوخ عليها دون تعديل ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 465 - ص 466 ) .
( [1640] ) تاريخ النص :ورد هذا النص في المادة 262 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي " تقوم الفضالة حتى لو كان الفضولي مدفوعاً في الوقت الذي يتولى فيه شأناً لنفسه إلى القيام بشأن لغيره بسبب وجود ارتباط بين الشأنين لا يمكن معه القيام بأحدهما منفصلاً عن الآخر " . وفي لجنة المراجعة اقترح إدخال تعديلات لفضية ، فأقرت اللجنة النص تحت رقم 194 على الوجه الآتي : " تثبت الفضالة ولو كان الفضولي في أثناء توليه شأناً لنفسه قد اندفع إلى القيام بشأن غيره لما بين الشأنين من ارتباط لا يمكن معه القيام بأحدهما منفصلاً عن الآخر " . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 194 . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ وافقت اللجنة على المادة مع استبدال كلمة " تولي " بعبارة " قد اندفع إلى القيام " . وأصبح رقم المادة 189 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها لجنة القانون المدني . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 467 - ص 469 ) .
( [1641] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 264 من المشروع التمهيدي كما هو . وأقرته لجنة المراجعة تحت رقم 196 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب عليه دون تعديل تحت رقم 196 . ثم وافقت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ دون تعديل تحت رقم 190 . ووافق عليه بعدن ذلك مجلس الشيوخ دون تعديل ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 470 - ص 472 ) .
( [1642] ) وقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند الكلام في قاعدة الإثراء بلا سبب . أنظر دي هلتس 2 ص 259 فقرة 4 - واتون 2 ص 140 - ص 141 - الموجز للمؤلف ص 403 - ص 404 - الدكتور حشمت أبو ستيت بك ص 410 فقرة 566 - الدكتور عبد السلام ذهني بك في الالتزامات فقرة 960 - الأستاذ بطوروس في تعليقاته على القانون المدني 2 ص 423 في الهامش .
( [1643] ) جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " لا يتضمن التقنين المصري الحالي ( القديم ) بشأن الفضالة سوى نص وأحد ، اختلطت فيه شروط الفضالة بآثار الإثراء بلا سبب . وقد استبدل المشروع بهذا النص سلسلة متصلة الحلقات من المواد عرض فيها لتحديد نطاق الفضالة وآثارها تحديداً واضحاً . والحق أنه من الأهمية بمكان إيضاح ما يفرق من الحدود بين مبدأ الإثراء بلا سبب في عمومه وبين الفضالة باعتبارها تطبيقاً خاصاً لهذا المبدأ فيجب أن تتوافر شروط أربعة حتى يكون لواقعة من وقائع الإثراء مشخصات الفضالة ، وتعدل آثارها تفريعاً على ذلك . فإذا تخلف شرط هذه الشروط لم يكن ثمة محل لإعمال الأحكام المتعلقة بهذا التطبيق الخاص ، وتعين الرجوع إلى المبدأ العام " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 470 ) . وجاء في موضع آخر في هذا الشأن ما يأتي : " أما فيما يتعلق بالفضالة فقد نص على توافر صفة الاستعجال فيما يتصدى الفضولي للقيام به . فهذه الصفة هي محلة ما يترتب على الفضالة من نيابة قانونية ومناط تفسير ما يتفرع عليها من حقوق والتزامات . وقد عنى المشروع بإيضاح الحدود التي تفرق بين نطاق تطبيق الإثراء بلا سبب ، وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بأحوال الفضالة التي يتولى فيها الشخص شؤون غيره معتقداً أنه يتولى شأن نفسه ، أو التي يتصدى فيها الشخص لشؤون غيره مخالفاً في ذلك إرادة هذا الغير " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 440 ) .
( [1644] ) وقد لخصت محكمة استئناف مصر الأهلية أركان الفضالة وأحكامها في حكمها الصادر في 25 نوفمبر سنة 1926 ( المحاماة 7 رقم 339 ص 478 ) .
( [1645] ) وقد قضت محكمة الإسكندرية التجارية الوطنية بأنه إذا باشر الوكيل بالعمولة صفقة ما بشروط أفيد لموكله عادت الفائدة على الموكل . فإن تسلم ثمناً للبيع يزيد على الثمن الحقيقي وحسبه لنفسه اعتبر خائناً للأمانة وحق عليه العقاب ( 9 فبراير سنة 1941 المحاماة 21 رقم 340 ص 787 ) .
( [1646] ) قارن ما قضت به محكمة النقض من أن الوكيل الذي يظل يتابع عمله بعد موت موكله لصالح الورثة مع علمهم بذلك يكون وكيلاً عنهم لا مجرد فضولي ( نقض 21 مايو سنة 1942 مجموعة عمر رقم 163 ص 458 ) .
( [1647] ) أنظر في فروض يكون فيها المالك في الشيوع فضولياً : استئناف وطني في 2 يناير سنة 1896 الحقوق 11 ص 142 - استئناف مختلط في 8 ديسمبر سنة 1893 م 6 ص 91 - وفي 10 مايو سنة 1902 م 14 ص 284 - وفي 20 يناير سنة 1910 م 22 ص 101 محكمة الإسكندرية الابتدائية المختلطة في 18 أبريل سنة 1914 جازيت 4 رقم 128 ص 317 . وفي إحدى القضايا آجر زبد أحد الشركاء في ملك مشاع قطعة أرض إلى بكر عن نفسه وبالنيابة عن شركائه ، واشترط في عقد الإجازة دفع الأجرة إليه أو إلى من يحوله بها ، وحول الأجرة إلى عمرو . ومع ذلك دفع بكر إلى خالد أحد الشركاء في الشيوع جزءاً من الأجرة يعادل نصيبه في الملك المشاع . فرفع عمرو دعوى على بكر يطالبه بالأجرة ، وكان خالد خصماً فيها ، وأقر خالد الإجازة ولم يقر تحويل . فقضت محكمة الاستئناف الوطنية بصحة الدفع الحاصل من بكر إلى خالد ( 14 فبراير سنة 1911 المجموعة الرسمية 12 رقم 68 / 1 ) .
( [1648] ) استئناف مختلط في 15 يناير سنة 1880 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلطة 5 ص 99 .
( [1649] ) مثل ذلك أيضاً أن يقبض الفضولي حقاً لرب العمل نيابة عنه . وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن التعويض الذي يستحقه المستأجر من الباطن بسبب تعرض السلطة العسكرية له في انتفاعه بالعين المؤجرة واستيلائها على هذه العين إنمما هو دين يترتب في ذمة السلطة العسكرية لا في ذمة المالك . ومع ذلك إذا سوت السلطة العسكرية الحساب مع المالك ، ودخل في هذا الحساب التعويض الواجب للمستأجر من الباطن ، لم يكن لهذا الأخير إلا الرجوع على المالك باعتباره فضولياً ناب عنه في قبض حقه من السلطة العسكرية ( 12 أبريل سنة 1916 م 28 ص 252 ) . أنظر أيضاً في هذا المعنى محكمة الإسكندرية الجزئية المختلطة في 10 ديسمبر سنة 1929 جازيت 12 رقم 88 ص 158 .
( [1650] ) أنظر مع ذلك بلانيول وربير وبولانجيه 2 فقرة 1223 ، وحكم محكمة النقض الفرنسية المشار إليه في هذا المرجع ( 20 أكتوبر سنة 1910 سيريه 1912 - 1 - 337 ) .
( [1651] ) أنظر في بحث هذا الرأي ونقده والتون 2 ص 151 - ص 152 .
( [1652] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه إذا باع شريك في الشيوع باسمه الخاص وعلى مرأى ومسمع من شريكه الآخر ، محصول القطن الناتج من الأرض المملوكة في الشيوع ، كان في تصرفه بالنسبة إلى شريكه فضولياً ينوب عنه في بيع وفي قبض الثمن ( 17 ديسمبر سنة 1930 م 43 ص 91 ) .
( [1653] ) وقد اعتبر محكمة الاستئناف المختلطة قيام مجلس الصحة البحرية والكورنتينات بترحيل فريق من الحجاج جنحت بهم سفينتهم فأنزلتهم في المحجر عملاً من أعمال الفضالة قام به المجلس لمصلحة أصحاب السفينة الجانحة ( 25 أبريل سنة 1900 م 12 ص 217 ) . وكذلك اعتبرت عملاً من أعمال الفضالة إدارة الشؤون المتعلقة بدير سيناء وهي شؤون كان الأرشيمونديت يتولاها يتولاها في مدينة كييف بمقتضى توكيل عام ، ثم اعتزل الوكالة ، ولكنه بقى بعد ذلك يدير هذه الشؤون دون وكالة إلى أن احتلت الجنود السوفييتية مدينة كييف ( 23 يونيو سنة 1927 م 39 ص 574 ) . واعتبر أيضاً عملاً من أعمال الفضالة انحراف سفينة عن طريقها العادي لمعاونة سفينة أخرى والسير بها إلى الميناء التي مقصدها ( 18 أبريل سنة 1888 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلطة 13 ص 184 ) .
( [1654] ) وقد قضت محكمة الاستئناف الوطنية " أن عمل شخص لمصلحة شخص آخر بقصد جلب المنفعة إليه يعد شبه عقد يترتب عليه التزام من عادت عليه المنفعة ولو كان عديم الأهلية يدفع مقابل لذلك الشخص الذي ترتب على فعله جلب المنفعة ، ويجوز إثبات شبه العقد هذا بجميع طرق الإثبات ، بما فيها البينة وقرائن الأحوال ، فتحنيط الموتى لما فيه من حفظ الجثة من التلف العاجل ولما فيه من تسهيل نقلها من ديار الغربة إلى الوطن حيث تقيم العائلة ، فيه ولا شكك منفعة العائلة التي ترغب بمقتضى العوائد اوالعقائد أن تكون الجثة مدفونة في ضريحها الخاصحيث تسهل زيارتها . وهذه المنفعة تولد شبه عقد يستحق مقابلاً . والتحنيط عمل مستقل من أعمال الطبيب لا يدخل فيما هو مسئول عنه للمتوفي من المعالجة أثناء حياته ، ولذلك فهو يستحق عليه أجراً مستقلاً وللمحاكم أن تقدر قيمته في حالة عدم الاتفاق عليه من قبل " ( 5 ديسمبر سنة 1901 الحقوق 18 ص 109 ) .
( [1655] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 471 .
( [1656] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن الفضولي لا يجوز له أن ينزل عن حق لرب العمل ، وبخاصة إذا كان هذا قد عاد من غيبته ( 29 نوفمبر سننة 1900 م 13 ص 27 ) - وقضت محكمة الإسكندرية التجارية المختلطة بأنه لا يدخل في أعمال الفضالة عقود الغرر ولا عمليات البورصة ( 17 مايو سنة 1915 جازيت 5 رقم 140 ص 355 ) - أنظر أيضاً محكمة الاستئناف المختلطة في 23 مايو سنة 1911 م 23 ص 333 .
( [1657] ) أنظر في هذه المسألة محكمة الاستئناف المختلطة في 5 يونية سنة 1878 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلطة 3 ص 279 - وفي 31 مايو سنة 1938 م 50 ص 338 - وفي 27 مارس سنة 1947 م 59 ث 169 . وانظر بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 1216 . ولكن ليس من الضروري أن يصل نجاح إلى حد تحقيق النتيجة المرجوة من تدخله ، فقد نصت المادة 195 على أنه " يعتبر الفضولي نائباً عن رب العمل متى كان قد بذل في إدارته عناية الشخص العادي ، ولو لم تتحقق النتيجة المرجوة " .
( [1658] ) ونميز أيضاً ما بين الفضالة والاشتراط لمصلحة الغير . فقد رأينا في الاشتراط لمصلحة الغير أن المشترط له مصلحة شخصية في الاشتراط ، أما الفضولي فليست له مصلحة شخصية في الاشتراط ، أما الفضولي فليست له مصلحة شخصية في الفضالة ولا يقصد إلا مصلحة رب العمل .
( [1659] ) وقد قضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأن " محل تطبيق نظرية الإثراء بغير سبب على حساب الغير ودعوى الفضولي هو أن يكون الإثراء بغير سبب من الأسباب القانونية وان يكون العمل الفضولي لحساب المالك لا لحسابه الخاص لغرض الوصول إلى الانتفاع بالعين شخصياً فمستأجر الأرض الذي يجري تحسينات بها ويقيم مباني ويغرس أشجاراً بقصد تسهيل وسائل الاستغلال والاستعمال الشخصي رغم الخطر الصريح عليه في عقد الإيجار بعدم إجراء شيء من ذلك إلا بأمر المالك " يكون ملزماً بإزالة ما أحدثه بدون أن يكون له حق الرجوع على المالك بما أوجده من التحسينات في العين المؤجرة " ( 27 أبريل سنة 1937 المجموعة الرسمية 38 رقم 8 ص 175 - المحاماة 18 رقم 72 ص 150 ) . وقضت محكمة المنشية بأن " أعمال الفضولي…شروطها أن يكون الفضولي قد انصرف جهده واتجه غرضه في عمله إلى منفعة رب المال ، وان يكون قد عاد هذا الأخير فائدة مباشرة لم تكن وليدة المصادفة ، فلا يجوز لمن قام بعمل لفائدة نفسه أن يرجع على غيره لمجرد أنه استفاد من عمله بالتبعية " ( 23 يناير سنة 1934 المحاماة 16 رقم 233 ص 535 ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن حامل السند الذي يقاضي الشركة عن سنده لا يعتبر فضولياً بالنسبة إلى سائر حاملي السندات ( 22 مايو سنة 1935 م 47 ص 327 ) . وقضت هذه المحكمة أيضاً بأنه إذا قدم الشريك حصته في الشركة عقاراً مثقلاً بحكر فإنه لا يكون ملزماً بشراء الحكر ولا يرد الثمن الذي رأت الشركة أن تشتري به الحكر ، وكل ما تملكه الشركة قبله هو أن ترجع عليه بدعوى الإثراء لما أفاده من تخليص العقار من حق الحكر ( 23 فبراير سنة 1932 م 44 ص 195 ) ، ولم تعتبر المحكمة الشركة فضولياً أنها حكمت لمصلحة نفسها لا لمصلحة الشريك – انظر أيضاً محكمة الاستئناف المختلطة في 27 مارس سنة 1945 م 57 ص 113 ، ومحكمة الإسكندرية الابتدائية المختلطة في 6 يناير سنة 917 جاوزت 7 رقم 90 ص 265 . انظر في القضاء الفرنسي محكمة النقض الفرنسية في 25 يونية سنة 1919 داللوز 1923 - 1 - 223 - سيريه 1921 - 1 - 12 ( وهو منشور في " الأحكام الرئيسية للقضاء المدني " لكابيتان باريس سنة 1950 ص 427 - ص 429 - وقد أشار لحكم آخر من محكمة النقض الفرنسية في 14 ديسمبر سنة 1931 داللوز الأسبوعي 1932 ص 98 - وأشار إلى :كولان وكابيتان 2 فقرة 1375 - بلانيول وربير وبولانجية 2 فقرة 1213 - بلانيول وربير وإسمان 7 فقرة 727 - بودري وبارد 4 فقرة 2792 - أوبرى ورو 6 فقرة 441 ص 295 - ص 296 ) .
( [1660] ) ولكن إذا عمل سمسار لمصلحة أحد المتبايعين حتى تمت الصفقة فإنه لا يعتبر فضولياً بالنسبة إلى المتبايع الآخر ( استئناف مختلط في 23 فبراير سنة 1949 م 61 ص 59 ) . وكذلك إذا عمل محام لمصلحة موكله حتى كسب القضية فإنه لا يعتبر فضولياً بالنسبة إلى المتقاضين الآخرين الذين لم يوكلوه وكانت لهم مصلحة مشتركة مع موكله ( استئناف مختلط 31 مايو سنة 1938 م 50 ص 338 ) .
( [1661] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 471 .
( [1662] ) وقد حذفت هذه المادة بفقرتيها في لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ " لأنها تتصدى لجزيئات يدخل بعضها في نطاق تطبيق القواعد العامة ويسهل استنتاج البعض الآخر من الأحكام المبينة في مواد الإثراء بلا سبب " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 468 ) .
( [1663] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 471 . وانظر في هذه المسألة استئناف مختلط في 22 مارس سنة 1894 م 6 ص 891 - وفي 2 أبريل سنة 1903 م 15 ص 227 .
( [1664] ) محكمة الإسكندرية التجارية المختلطة في 3 أبريل سنة 1916 جازيت 6 رقم 121 ص 375 .
( [1665] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 471 - ص 472 .
( [1666] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 472 . ويلاحظ أن التزام الوكيل بالعقد ، على ما جاء في المذكرة الإيضاحية هو التزام يجوز للوكيل الرجوع فيه لأن الوكالة عقد غير لازم ونؤثر أن يكون استبعاد الوكيل عن نطاق الفضالة آنياً من طريق أنه مأمور من رب العمل لا من طريق أنه ملتزم بمقتضى العقد ، كما سنرى .
هذا والكفيل إذا تطوع لكفالة المدين ، دون أمر منه أو نهى ، كان فضولياً ، والعمل الذي قام به لمصلحة المدين هو التزامه نحو الدائن بوفاء الدين إذا لم يف المدين به . وللكفيل في هذه الحالة ، إذا هو دفع الدين ، أن يرجع على المدين بدعوى الفضالة . أما إذا كان الكفيل مأموراً من المدين بالكفالة ، فكفل الدين ثم دفعه للدائن ، كان له أن يرجع على المدين بدعوى الوكالة ، ولا يكون فضولياً في هذه الحالة . وكذلك لا يكون فضولياً إذا نهاه المدين عن الكفالة ، ولكنه كفل المدين بالرغم من هذا النهي ودفعه للدائن ، ويرجع في هذه الحالة على المدين بدعوى الإثراء بلا سبب .
( [1667] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 470 .
( [1668] ) استئناف مختلط في 28 مايو سنة 1930 م 42 ص 537 . ويشترط حتى يكون الغير وكيلاً أن يكون العمل الذي يتولاه هو تصرف قانوني .
( [1669] ) ويجوز مع ذلك إلا يكون رب العمل أهلاً للتصرف الذي قام به الفضولي وقت قيام هذا به ، ما دام يصبح كامل الأهلية وقت الإجازة فإن القاصر يستطيع عند بلوغ سن الرشد إجازة التصرفات التي صدرت وهو قاصر ( انظر في هذا المعني بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 1224 ص 422 ) .
( [1670] ) وللإجازة فائدة عملية تظهر فيما إذا كان هناك شك في أن تدخل الغير قد استوفي شروط الفضالة ، فإجازة رب العمل لتدخل الغير تقطع :كل شك وتجعل التصرف المجاز سارياً في حق المجيز ( انظر في هذا المعني بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 1224 ص 421 ) .
( [1671] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 471 . ويلاحظ أن الفضالة لا تنقلب وكالة في جميع الصور المتقدمة إلا إذا كان العمل الذي يتولاه الفضولي هو تصرف قانوني .
( [1672] ) استئناف مختلط في 23 مايو سنة 1911 م 23 ص 333 - وفي 21 ديسمبر سنة 1927 م 40 ص 92 - وفي 20 مايو سنة 1973 م 49 ص 234 - وفي 27 مارس سنة 1947 م 59 ص 169 .
( [1673] ) وقد سبق أن أشرنا إلى أن المشروع التمهيدي كان يشتمل على نص هو المادة 263 من هذا المشروع . وقد جرى هذا النص على الوجه الآتي : " 1 - تطبق قواعد الإثراء بلا سبب عندما يقوم شخص بشأن لغيره معتقداً أنه يقوم بشأن لنفسه . 2 - وكذلك تطبق قواعد الإثراء بلا سبب إذا تدخل شخص في شأن لغيره مخالفاً في ذلك إرادة هذا الغير ، معروفة كانت هذه الإرادة أو مفروضة . ومع ذلك تطبق قواعد الفضالة ، ولا يعتد بهذه الإرادة المخالفة ، إذا كان من تدخل في شؤون غيره قد أراد بهذا التدخل أن يسد حاجة ملحة اقتضاها وجود التزام فرضه القانون على رب العمل وقضت بأدائه مصلحة عامة ، كالالتزام بالنفقة والالتزام بتجهيز الميت " وقد أدخلت لجنة المراجعة تعديلات لفظية على هذا النص . ووافق عليه مجلس النواب تحت رقم 195 . ولما عرض النص على لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، رأت اللجنة حذفه لأنه يتصدى لجزيئات يدخل بعضها في نطاق تطبيق القواعد العامة ويسهل استنتاج البعض الآخر من الأحكام المبينة في مواد الإثراء بلا سبب . ووافق مجلس الشيوخ على الحذف .
ولا شك في أن تطبيق القواعد العامة تتسع لاستنباط الأحكام الرئيسية التي اشتمل عليها النص . فالشخص الذي بشأن لغيره معتقداً انه يقوم بشأن لنفسه لا يكون فضولياً ، بل يرجع بدعوى الإثراء بلا سبب . كذلك يرجع بدعوى الإثراء بلا سبب من تدخل في شؤون غيره مخالفاً في ذلك إرادة هذا الغير حتى لو كانت هذه الإرادة مفروضة . ولكن النص استثنى من القاعدة الثانية حالة ما إذا كان التدخل قد اقتضته حاجة ملحة هي وجود التزام قانوني في ذمة رب العمل تقضي بأدائه المصلحة العامة ، كالالتزام بالنفقة والالتزام بتجهيز ميت يلتزم رب العمل شرعاً بتجهيزه ، فإن هذا الشخص يعتبر فضولياً في هذه الحالة حتى لو نهاه رب العمل عن التدخل وعن أداء هذا الالتزام القانوني . وعلة هذا الحكم مفهومة ، فإن الفضولي إنما يقوم عن رب العمل بالتزام قانوني تقضى المصلحة العامة بأدائه ، فلا يعتد في هذه الحالة ينهى رب العمل للفضولي عن أداء هذا الالتزام . ولكن أيكفي أن تكون على الاستثناء مفهومة ؟ وأليس من الواجب ، إذا أريد الاستثناء من قاعدة عامة ، أن ينص على هذا الاستثناء ؟ ( انظر في المسألة مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 467 هامش رقم 1 وص 470 - ص 471 ) .
( [1674] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 470 .
( [1675] ) جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الشأن ما يأتي : " يعتبر القانون مصدراً مباشراً لالتزامات الفضولي ، ولو أنها تنشأ بمناسبة عمل إرادي " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 473 ) . ونريد بالعمل المادي الإرادي هنا أن الذي أراده الفضولي هو العمل المادي ، لا التزامات التي يرتبها القانون على هذا العمل ( قارن الدكتور أبو عافية في التصرف القانوني المجرد النسخة العربية ص 170 هامش رقم 7 ) . ولا يجوز القول أن القانون مصدر غير مباشر لالتزامات الفضولي وأن المصدر المباشر لهذه الالتزامات هو هذا العمل المادي الإرادي الصادر من الفضولي فإن القانون لم يصل بعد إلى أن يجعل من العمل المادي الإرادي مصدراً عاماً للالتزام ، كما فعل في العقد وفي العمل غير المشروع وفي الإثراء بلا سبب . والصحيح أن القانون رتب على واقعة قانونية معينة ، هي العمل المادي الصادر من الفضولي بشروطه المعروفة . التزامات معينة ، كما رتب التزامات معينة على وقائع قانونية أخرى كواقعة الجوار وواقعة القرابة . فكل هذه الوقائع يرتب عليها القانون التزامات ينص عليها ، ويعتبر القانون مصدراً مباشراً لهذه الالتزامات وسنفصل ذلك عند الكلام في الالتزامات التي تنشأ من القانون ( انظر في الرأي الأخر مذكرات مطبوعة للدكتور وديع فرج ص 29 - ص 30 ) .
( [1676] ) تاريخ النص :ورد هذا النص في المادة 265 من المشروع التمهيدي بتغيير لفظي طفيف . وأقرته لجنة المراجعة بعد إدخال تعديلات لفظية بسيطة تحت رقم 197 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب دون تعديل تحت رقم 197 . كما وافق عليه كل من لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ومجلس الشيوخ دون تعديل تحت رقم 191 ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 473 - ص 474 ) .
( [1677] ) انظر فقرة 878 في الهامش .
( [1678] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 473 .
( [1679] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 266 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي
1 - يجب على الفضولي أن يبذل في القيام بالعمل العناية المطلوبة من الشخص المعتاد وان يطابق بين عمله وبين إرادة رب العمل معروفة كانت هذه الإرادة أو مفروضة .
2 - ويكون مسئولاً عن كل خطأ ، غير أنه يجوز للقاضي أن ينقص التعويض المترتب على خطئه إذا كانت الظروف التي ساقته إلى القيام بالعمل تقتضي ذلك .
3 - وإذا عهد الفضولي إلى غيره بكل ما تولاه أو ببعضه كان مسئولاً عن تصرفات نائبه ، دون إخلال بما لرب العمل من الرجوع مباشرة على هذا النائب . وإن تعدد الفضولي كان الجميع متضامنين في المسئولية " . ثم قدمت لجنة المراجعة النص تحت رقم 198 في المشروع النهائي بالصيغة الآتية : " 1 - يجب على الفضولي أن يبذل في القيام بالعمل عناية الشخص العادي وان يطابق بين عمله وبين إرادة رب العمل معروفة كانت هذه الإرادة أو مفترضة . ويكون مسئولاً عن كل خطأ ، غير أنه يجوز للقاضي أن ينقص التعويض المترتب على حصته إذا كانت الظروف التي ساقته إلى القيام بالعمل تقتضي ذلك .
2 - وإذا عهد الفضولي إلى غيره بكل العمل أو ببعضه كان مسئولاً عن تصرفات نائبه ، دون إخلال بما لرب العمل من الرجوع مباشرة على هذا النائب .
3 - وإذا تعدد الفضوليون كانوا متضامنين في المسئولية " . - وقد وافق مجلس النواب على المادة كما وردت في المشروع النهائي دون تعديل تحت رقم 198 - وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تليت المادة 198 ، فاقترح حذف العبارة " وأن يطابق بين علمه وإرادة رب العمل معروفة كانت هذه الإرادة أو مفترضة " الواردة في الفقرة الأولي من هذه المادة لأنها تورد معياراً شخصياً يوقع في إشكالات كثيرة . واقترح كذلك الاكتفاء بالمعيار المادي الوارد في صدر هذه الفقرة وتعديل باقي الفقرة إلى ما يأتي : " ويكون مسئولاً عن خطت ، ومع ذلك يجوز للقاضي أن ينقض التعويض المترتب على هذا الخطأ إذا كانت الظروف تبرر ذلك " . كما اقترح حذف الفقرة الثانية لأنها تطبيق للقواعد العامة وقواعد مسئولية المتبرع عن تابعه . واعترض على صياغة الفقرة الثالثة لأنه يجب أن يكون هناك ارتباط في العمل بين الفضولين ، وإذا كان المقصود منها أن تطبق في حالة ما إذا قام أكثر من وأحد بعمل وأحد فمن الواجب إظهار هذا الحكم . واقترح أن يكون نصها كالآتي : " وإذا تعدد الفضوليون في القيام بعمل وأحد كانوا متضامنين في المسئولية " . وبذلك أصبح نص المادة 198 كالآتي :
1 - يجب على الفضولي أن يبذل في القيام بالعمل عناية الشخص العادي ويكون مسئولاً عن خطته . ومع ذلك يجوز للقاضي أن ينقص التعويض المترتب على هذا الخطأ إذا كانت الظروف تبرر ذلك .
2 - إذا تعدد الفضوليون في القيام بعمل وأحد كانوا متضامنين في المسئولية " " . وفي جلسة أخرى من جلسات لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تليت المادة 198 ورأت اللجنة بعد مناقشتها إرجاع الفقرة الثانية منها وكانت قد حذفها ، وسبب ذلك أن الفضالة عمل قائم بذاته يحتاج إلى شيء من العناية في النصوص الخاصة به وقالت اللجنة في تقريرها ما يأتي : " حذفت اللجنة من الفقرة الأولي من هذه المادة عبارة " وأن يطابق بين عمله وبين إرادة رب العمل معروفة كانت هذه الإرادة أو مفترضة " اكتفت اللجنة بأن يبذل الفضولي في القيام بالعمل عناية الشخص العادي ، واستبدلت في الفقرة نفسها عبارة " إذا كانت الظروف تبرر ذلك " بعبارة " إذا كانت الظروف التي ساقته إلى القيام بالعمل تقتضي ذلك " فقد تكون هناك ظروف غير التي دفعت الفضولي للقيام بالعمل وتقتضي في الوقت نفسه إنقاص التعويض . ورأت اللجنة أن هذا التعديل أكثر تمشياً مع ما تمليه العدالة " . وأصبح رقم المادة 192 - ثم وافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 474 - ص 478 ) .
( [1680] ) انظر ما يقابلها في التقنيات الأجنبية المادة 63 من المشروع الفرنسي الإيطالي والمادة 1372 و 1374 من القانون الفرنسي والمادة 1890 من القانون الإسبانولي والمادة 106 من القانون اللبناني والمادة 681 من القانون الألماني 420 من قانون الالتزامات السويسري .
ولا مقابل في القانون المصري القديم لهذا النص الجديد إلا لمادتان 149 / 210 من القانون القديم ، وهذا هو نصهما ، " الالتزامات الناشئة عن الأفعال في الأحوال المتقدم ذكرها ( وهى حالة الفضالة وحالة استرداد غير المستحق ) لا يترتب عليها تضامن فاعليها " . ونرى من ذلك أن القانون القديم لم يعرض في هذا النص إلا لتضامن الفضولين في المسئولية فنفي هذا التضامن على خلاف ما قرره القانون الجديد أما الأحكام الأخرى – معيار الخطأ وما يترتب عليه من مسئولية الفضولي وأحكام نائب الفضولي – فلم يعرض لها القانون القديم ، ولكن القضاء والفقه في مصر كانا يقرران دون النص ، ومن طريق تطبيق القواعد العامة ، الأحكام التي وردت في نصوص القانون الجديد إلا ما كان منها يحتاج في تقريره إلى نص كرجوع رب العمل على نائب الفضولي بدعوى مباشرة .
( [1681] ) وإذا كان عمل الفضولي هو تصرف قانوني يبرمه باسمه الشخصي أو نيابة عن رب العمل ، فلا يعتبر إبرام هذا التصرف هو الغاية المرجوة . بل هو الوسيلة لإدراك هذه الغاية فيبقى إذن التزام الفضولي ، حتى في هذه الحالة ، التزام عناية لا التزام غاية .
( [1682] ) وقد كان المشروع التمهيدي ( م 266 ) يوجب أن يضايق الفضولي بين عمله وبين إدارة رب العمل ، معروفة كانت هذه الإرادة أو مفترضة . وقد رأينا أن لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ حذفت هذا الحكم لأنه " يورد معياراً شخصياً يوقع في إشكالات كثيرة ، ورؤى الاكتفاء بها على المدى الوارد في صدر الفقرة ، وهو معيار السلوك المألوف للرجل المعتاد " .
( [1683] ) وقد ورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " يلاحظ أن الفضولي يلزم ، ما بقى قائماً بالعمل ، بأن يبذل فيما يعمل عناية الشخص المعتاد…وكل مخالفة لهذا الالتزام تعتبر خطأ يستتبع مساءلته . ومع ذلك فينبغي التسامح في تقدير هذه المسئولية إذا كان الفضولي بما تصدى له من شؤون رب العمل لدفع الضرر يتهدده ( انظر المادة 420 من تقنين الالتزامات السويسري والمادة 68 من التقنين الألماني والمادة 156 من التقنين اللبناني والمادتين 1181 / 945 من التقنين التونسي والمراكشي ) " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 475 ) .
( [1684] ) وقد رأينا ما جاء في تقرير لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ : " واستبدلت …عبارة ( إذا كانت الظروف تبررذلك ) ، فقد تكون هناك ظروف غير التي دفعت الفضولي إلى القيام بالعمل وتقتضي في الوقت نفسه إنقاص التعويض ، ورأت اللجنة أن هذا التعديل أكثر تمشياً مع ما تمليه العدالة " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 478 ) .
( [1685] ) وقد رأينا أن الفقرة الثالثة من المادة 266 من المشروع التمهيدي كانت تجري على الوجه الآتي : " وإذا عهد الفضولي إلى غيره بكل ما تولاه أو ببعضه… " فكان النص على هذا النحو يفرض أن الفضولي قد تولي العمل قبل أن يعهد به إلى غيره . وقد عدل النص . كما قدمنا ، في المشروع النهائي على الوجه الآتي " وإذا عهد الفضولي إلى غيره بكل العمل أو ببعضه… " فاتسع النص بذلك حالة ما إذا عهد الفضولي بالعمل لنائب من مبدأ الأمر وقبل أن يتولاه بنفسه .
( [1686] ) ويستوي في ذلك أن يكون الأصيل في التصرف القانوني هو رب العمل أو الفضولي .
( [1687] ) ولم يكن هناك نص في القانون القديم يعطى لرب العمل هذه الدعوى المباشرة . فهي دعوى قد استحدثها القانون الجديد . وليس لهذا الحكم المستحدث أثر رجعي . فلو أن فضولياً عهد إلى نائب أن يقوم عنه بالعمل وكان ذلك قبل 15 أكتوبر سنة 1949 فإن رب العمل لا تكون له دعوى مباشرة قبل نائب الفضولي عن عمل قام به النائب قبل 15 أكتوبر سنة 1949 . ولكن يجوز القول ، تطبيقاً لنظرية الأثر الفوري ( effet immediat ) . بأن رب العمل تكون له دعوى مباشرة قبل نائب الفضولي عن عمل قام به هذا منذ 15 أكتوبر سنة 1949 أي منذ سريان القانون الجديد .
( [1688] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ويسأل الفضولي كذلك باعتباره متبوعاً عن خطأ من بالعمل " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 476 ) .
( [1689] ) أنظر المادة 708 فقرة ثالثة من القانون المدني الجديد .
( [1690] ) انظر المادة 662 من القانون المدني الجديد .
( [1691] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد يأتي : " وعند تعدد المتصدين لشأن وأحد من الفضولين ، يسألون عن خطئهم على وجه التضامن . ولما كان هذا الخطأ يغاير صنوه في نطاق المسئولية التقصيرية ، لذلك كان من الضروري تقرير التضامن بين هؤلاء المسئولين بنص خاص " ( مجموعة الأعمال التحضيريرة 2 ص 476 ) . انظر فيما يتعلق بتضامن الوكلاء عند تعددهم المادة 707 من القانون المدني الجديد .
( [1692] ) وقد رأينا في الأعمال التحضيرية أن ذكر في لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ أنه " يجب أن يكون هناك ارتباط في العمل بين الفضولين " حتى يقوم التضامن فيما بينهم ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 477 ) - هذا وتضامن الفضوليين حكم استحدثه القانون الجديد كما رأينا ، فلا يكون له أثر رجعي . فلو أن الفضوليين قاموا بعمل وأحد قبل 15 أكتوبر سنة 1949 لما كانوا مسئولين عنه بالتضامن أما إذا قاموا بهذا العمل في 15 أكتوبر سنة 1949 أو بعد ذلك فإنهم يكونون مسئولين بالتضامن حتى لو قامت الفضالة قبل هذا التاريخ وذلك تطبيقاً لنظرية الأثر الفوري ( effet immediat ) .
( [1693] ) تاريخ النص : ورد هذا النص كما هو في المادة 267 من المشروع التمهيدي . وأقرته لجنة المراجعة وأصبح المادة 199 في المشروع النهائي ووافق مجلس النواب عليه كما هو تحت رقم 199 . كما وافقت عليه لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم 193 ، ووافق عليه مجلس الشيوخ دون تعديل كذلك . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 479 ) .
وورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : " يراعى أن الفضولي يلزم برد ما استولي عليه بسبب الفضالة وتقديم حساب لرب العمل عما قام به هو من الناحية يلتزم بما يلتزم به الوكيل " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 479 ) .
( [1694] ) تاريخ النص :ورد النص بفقرتيه كما هو في المادة 270 من المشروع التمهيدي . وأقرته لجنة المراجعة تحت رقم 203 ، ثم وافق عليه مجلس النواب تحت الرقم ذاته . وأرجأت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ البت في النص ثم أقرته دون تعديل تحت رقم 196 . ووافق عليه مجلس الشيوخ كما هو ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 486 – ص 488 ) . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد الفقرة الأولي من هذا النص ما يأتي : " تفترض التزامات الفضولي - وهي التزامات المضي في العمل والتزام بذل عناية الشخص المعتاد والتزام تقديم الحساب - توافر أهلية التعاقد فيه " ما دام وضعه يماثل وضع الوكيل من هذا الوجه . وتفريعاً على ذلك قضت الفقرة الثانية من المادة 61 من المشروع الفرنسي الإيطالي " بأن من لا تتوافر فيه أهلية قبول التوكيل لا يكون أهلاً للالتزام بطريق الفضالة " . واستدرك النص فقرر أن الفضولي يسأل مع ذلك يحدث من ضرر ، ويلزم بقدر ما يثرى بغير سبب . فإذا لم يكن الفضولي أهلاً للتعاقد ، فلا يسأل عن إرادته إلا وفقاً للقواعد الإثراء بلا سبب وقواعد المسئولية التقصيرية . فمسئوليته والحال هذه تقتصر على القدر الذي أثري به على ألا يجاوز هذا القدر ما افتقر به رب العمل ثم إن تلك المسئولية ليس أساسها خطأ قوامه التفريط في بذل عناية الشخص المعتاد ، بل يجب لترتيبها إقامة الدليل على وقوع عمل غير مشروع من الفضولي متى كان بداهة غير مجرد من التمييز " ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 486 – ص 487 ) . ونحن نأخذ على ما جاء في المذكرة الإيضاحية أن العبارة الأخيرة منها تخلط ما بين الخطأ في الفضالة ومسئولية الفضولي ناقص الأهلية عنه مسئولية غير كاملة في حدود الإثراء بلا سبب ، والخطأ التقصيري ، ومسئولية الفضولي عنه مسئولية كاملة حتى لو كان ناقص الأهلية . ونأخذ عليها أيضاً أنها لم تميز تميزاً واضحاً بين أهلية الفضولي بالنسبة إلى التصرف القانوني الذي قد يتولاه وأهليته بالنسبة إلى التصرف القانوني الذي قد يتولاه وأهليته بالنسبة إلى أعمال الفضولي بالمضي في العمل والإخطار عنه والتزاماته يبذل العناية الواجبة وتقديم الحساب .
وعذرنا - ونحن الذين وضعنا المذكرة الإيضاحية - أن هذه المسألة الدقيقة يضطرب القول فيها عادة ، ولا يكاد الفقهاء يجمعون فيها على رأي وقد استقر بنا الرأي بعد تمحيص على ما قررناه فيما تقدم ( قارن الموجز للمؤلف فقرة 409 ص 405 - الدكتور حشمت أبو ستيت فقرة 562 - الدكتور أبو عافية في التصرف القانوني المجرد النسخة الفرنسية ص 167 هامش رقم 7 – الدكتور محمد وهيبة في النظرية العامة للالتزامات فقرة 377 – والتون 2 ص 158 - ص 159 - دي هلتس 2 ص 301 فقرة 46 - بلانيول وريبير وإسمان 7 فقرة 729 - أوبري ورو 6 ص 293 - بودري وبارد 4 فقرة 2799 - كولان وكابيتان 2 ص 721 - ديموج 3 فقرة 29 - بلانيول وريبير ورولانجيه 2 فقرة 1218 ) .
( [1695] ) تاريخ النص :ورد هذا النص في المادة 268 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي :
" 1 - تنقضي الفضالة بموت الفضولي ، ومنع ذلك يلتزم ورثته بما يلتزم به ورثة الوكيل طبقاً لأحكام المادة 996 فقرة 203 - ولا تنقضي الفضالة بموت رب العمل ، ويبقى الفضولي ملتزماً نحو مورثهم " وفي لجنة المراجعة اقترح إدخال تعديل في الصياغة يقصر النص على الحكم المطلوب فأقرته اللجنة وأصبح النص النهائي ما يأتي :
" 1 - إذا مات الفضولي التزم ورثته بما يلتزم به ورثة الوكيل طبقاً لأحكام المادة 794 .
" 2 - إذا مات رب العمل بقى الفضولي ملتزماً تحو الورثة بما كان ملتزماً به نحو مورثهم " . وأصبح رقم المادة 200 في المشروع النهائي - ووافقت لجنة مجلس النواب على المادة بعد أن أضافت إلى أخر الفقرة الأولي كلمتي " فقرة 2 " ، واستبدلت رقم 748 برقم 749 - ووافق مجلس النواب على المادة كما عدلتها اللجنة تحت رقم 200 - وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ووافق على المادة دون تعديل بعد استبدال رقم 717 برقم 748 وأصبح رقم المادة 194 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 480 – ص 481 ) .
وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدها هذا النص ما يأتي : " يظل الفضولي مرتبطاً بالتزاماته هذه ولو مات رب العمل . وفي هذه الحالة يلتزم قبل الورثة إذ يؤول إليهم ما كان لمورثهم من حقوق في هذا الصدد من طريق الميراث بيد أن التزامات الفضولي تنقضي على تقيض ذلك بموته ولا تنتقل إلى ورثته . ومع ذلك فليزم هؤلاء الورثة التزاماً شخصياً مباشراً على تقيض ذلك بموته ولا تنتقل إلى ورثته ومع ذلك فليزم هؤلاء الورثة التزاماً شخصياً مباشرا ًبما يلتزم به ورثة الوكيل " . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 480 ) .
( [1696] ) تاريخ النص :ورد في المادة 271 من المشروع التمهيدي مع زيادة كلمة " بالتقادم " في صدر النص . وأقرته لجنة المراجعة تحت رقم 203 في المشروع النهائي ووافق عليه مجلس النواب تحت الرقم ذاته وأقرته لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ مع حذف كلمة " بالتقادم " تحت رقم 197 . ووافق عليه مجلس الشيوخ كما أقرته اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 488 – ص 489 ) . وحذفت كلمة " بالتقادم " لأن معنى التقادم واضح بدونها ، فلا ضرورة لها .
( [1697] ) تاريخ النص في المادة 269 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي
" 1 - يعتبر الفضولي نائباً عن رب العمل في حدود إدارته الحسنة ، فإذا حسنت هذه الإرادة ولو لم تتحقق النتيجة المرجوة منها ، كان رب العمل ملزماً بأن ينفذ التعهدات التي عقدها باسمه الفضولي ، وأن يعوضه عن التعهدات التي التزم بها شخصاً ، وأن يرد له كل النفقات الضرورية والنافعة التي تسوغها الظروف ، مضافاً إليها فوائدها من يوم دفعها ، وأن يعوضه تعويضاً عادلاً عن الضرر الذي لحقه بسبب قيامه بالعمل .
2 - ولا يستحق الفضولي أجراً على عمله إلا أن يكون من أعمال مهنته " وقد أقرت لجنة المراجعة النص بعد استبدال كلمة " سوغتها " بكلمة " تسوغها " تحت رقم 201 في المشروع النهائي –ووافق مجلس النواب على النص دون تعديل تحت رقم 201 - وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ اعترض على عبارة " في حدود إدارته الحسنة فإذا حسنت هذه الإرادة الواردة في أول الفقرة الأولي ، واقترحت الإحالة إلى المعيار المطابق النص عليه في المادة 198 . كما اقترح استبدال كلمة " لحسابه " بكلمة " باسمه " وحذف كلمتي " كل " و " شخصياً " وعبارتي " التي سوغتها الظروف " و " تعويضاً عادلاً " . كذلك اقترح جعل المادة فقرة واحدة . فوافقت اللجنة على كل ذلك وقد اقتضت الصياغة حذف كلمتي منها كان " والاستعاضة عنهما بعبارة " وفي هذه الحالة يكون " . وبذلك أصبح نص المادة كالآتي : " يعتبر الفضولي نائباً عن رب العمل متى كان قد بذلك في إدارته عناية الشخص العادي ولو لم تتحقق النتيجة المرجوة . وفي هذه الحالة يكون رب العمل ملزماً بأن ينفذ التعهدات التي عقدها لحسابه الفضولي ، وأن يعوضه عن التعهدات التي التزم بها ، وأن يرد له النفقات الضرورية والنافعة مضافاً إليها فوائدها من يوم دفعها وأن يعوضه عن الضرر الذي لحقه بسبب قيامه بالعمل . ولا يستحق الفضولي أجراً على عمله إلا أن يكون من أعمال مهنته " . وفي جلسة أخرى وافقت اللجنة على إعادة العبارة التي سبق لها أن حذفتها وهي " التي سوغتها الظروف " ، وكتبت في تقريرها ما يأتي : " عدلت اللجنة الفقرة الأولي وأدمجت فيها الفقرة الثانية ، وخلاصة التعديل أن اللجنة استبدلت بعبارة " في حدود إدارته الحسنة " عبارة " متى كان قد بذل في إدارته عناية الشخص العادي " حتى لا يتبادر إلى الذهن أن النص يأخذ بمعيار غير المعيار الذي قررته المادة 198 ، وهذبت صياغة المادة تهذيباً لفظياً يتناسب مع هذا التعديل وأصبح رقمها 195 " .
ثم وافق مجلس الشيوخ على النص كما عدلته اللجنة . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 482 – ص 485 ) .
( [1698] ) جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " يلزم رب العمل أولاً بالوفاء بما تعهد به الفضولي . وينبغي التفريق في هذا الصدد بين فرضين :فإذا كانت هذه التعهدات قد تولي عندها الفضولي باسم رب العمل بأن أضاف العقد إليه ، التزم هذا مباشرة بمقتضى النيابة القانونية التي تنشأ عن الفضالة ، وبهذا يصبح رأساً دائناً أو مديناً لمن تعاقد معه الفضولي " . مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 483 ) .
وهذا وقد خلطت محكمة الاستئناف المختلطة في العهد الأول ما بين الفضالة ولإثراء بلا سبب عندما قضت بما يأتي : " الأوراق المالية التي جعل لها غوردون باشا سعراً إجبارياً في أثناء حصار الخرطوم ليست أورقاً تجارية بل هي أوراق نقدية حقاً . ولما كان إصدار الأوراق النقدية هو من حق الحكومة وحدها ، ولم تقرض هذا الحق إلى غوردون باشا ، فإن هذه الأوراق لا يحتج بها على الحكومة المصرية . ومع ذلك يجوز لحامل هذه الأوراق الحسنى النية أن يطالبوا برد قيمتها إذا هم أثبتوا أنهم قدموا للحكومة أو لعملائها من المؤن والبضائع ما يساوي هذه القيمة " . استئناف مختلط في 17 مايوسنة 1888 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلطة 13 ( 224 ) . والظاهر أن المحكمة طبقت في هذه القضية قاعدة الإثراء بلا سبب وان كانت لم تفصح عن ذلك يعمل باسم الحكومة المصرية ، عن طريق الفضالة لأنه لم يتلق تفويضاً منها ، فتصبح الحكومة المصرية مدينة مباشرة لحاملي هذه الأوراق لأن غوردون باشا كان نائباً عنها في هذا التصرف القانوني أنظر مارافان المجلة العصرية سنة 1949 عدد يناير وفبراير ص 30 – ص 31 ) .
( [1699] ) جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " أما إذا تعاقد الفضولي باسمه شخصياً ، فأن أضاف العقد إلى نفقة لا إلى رب العمل ، فلا يصبح هذا دائناً أو مدينا لمن تعاقد معه الفضولي من الأغيار ، وإنما ترجع حقوق العقد والتزاماته إلى الفضولي . ولكن رب العمل يلزم بتعويض عن جميع ما عقد من التعهدات على هذا الوجه وفقاً لقواعد الإثراء بلا سبب " مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 483 ) . ويلاحظ أن العبارة الأخيرة من المذكرة الإيضاحية " وفقاً لقواعد الإثراء بلا سبب " إنما يراد بها أن يكون التعويض قائماً على أساس الإثراء بلا سبب ولا أن التعويض يكون أقل القيمتين .
( [1700] ) وقد قضت محكمة المنصورة الجزئية المختلطة بأن دعوى الفضالة تجعل للفضولي الحق في أن يسترد المصروفات النافعة ، ما دامت هذه المصروفات كانت نافعة وقت إنفاقها ، حتى لو كان النفع الذي كان ينجم عنها لم يتحقق أو زال بعد تحققه 12 أغسطس سنة 1925 جازيت 15 رقم 199 ص 317 ) .
( [1701] ) وقد قضت محكمة الإسكندرية الابتدائية المختلطة بأن للفضولي الحق في استرداد المصروفات التي اقتضاها أعمال إدارته ، مضافاً إليها الفوائد القانونية من وقت الإنفاق ، أما في دعوى الإثراء فلا يسترد المدعى هذه المصروفات إلا في حدود ما انتفع به المالك ، ولا يتقاضى فوائدها عنها إلا من وقت المطالبة القضائية 6 يناير سنة 1917 جازيت 7 رقم 90 ص 265 ) .
( [1702] ) وقد قضت محكمة النقض الفرنسية بأنه إذا آوى صاحب فندق عاملين جرحا في حادث وعالجهما ، وقد مات أحدهما وشفى الآخر ، جاز لصاحب الفندق أن يرجع على رب العمل بجميع نفقات المأوى والعلاج ، دون تفريق بين نفقات من مات ونفقات من شفى ، وليس لرب العمل أن يعتبر هذه النفقات مصروفات زائدة على الحد الواجب ، وان يطلب إنقاصها إلى القدرالجزافي الذي حدده قانون العمل الصادر في 9 أبريل سنة 1898 محكمة النقض الفرنسية في 28 فبراير سنة 1910 دللوز 1911 - 1 - 137 - وأنظر أيضاً تعليقاً على الحكم في مجموعة كابيتان في الأحكام الرئيسية للقضاء المدني باريس سنة 1950 ص 425 – ص 427 ) .
( [1703] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " والأصل أن الفضولي لا يستحق أجراً على عمله ، إذ يفرض فيه أنه يتبرع بخدمة يؤديها لرب العمل ، إلا أن هذه القرينة تسقط متى كان ما قام به الفضولي من قبيل وجوه الإنفاق الحقيقية بالنسبة له ، ويتحقق ذلك إذا كان العمل الذي أداه يدخل في نطاق أعمال مهنته ، كما هو الشأن في طبيب يقوم بعلاج مريض أو مهندس يتولى ترميم عين من الأعيان ، فعندئذ يصبح من حقه أن يؤدى على هذا العمل " مجموعة العمل التحضيرية 2 ص 483 ) .
( [1704] ) جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " ويلزم رب العمل أخيراً بتعويض الفضولي تعويضاً عادلاً عما يلحقه من ضرر بسبب قيامه بالعمل . ويتحقق معنى العدالة في التعويض متى كان متناسباً مع ما لم يستطيع الفضولي إنقاذه من ضرر مع بذل المألوف من أسباب المادية . ويقوم حق الفضولي في اقتضاء التعويض على ما يتمثل في الضرر الحادث له من إفقار " . مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 484 ) .
وتطبيقاً لحق الفضولي في اقتضاء تعويض عن الضرر الذي يلحقه ، قضت محكمة الاستئناف الوطنية لسائق قطار بذل جهداً غير عادي لاتقاء حادث فأصابه على أثر ذلك اضطراب عصبي جعله غير صالح للخدمة ، بأنه علاوة على ما يستحقه من المكافأة طبقاً لقانون المعاشات بسبب فصله من الخدمة ، يحق له بمقتضى المبدأ المقرر في المادة 144 من القانون المدني م 195 جديد ) أن يتقاضى تعويضاً نظير الخسارة التي درأها عن مصلحة السكة الحديدية باتقائه حادثاً جسيماً للقطار وفي مقابل ما أصاب صحته من الضرر بسبب هذا العمل 20 مارس سنة 1919 المجموعة الرسمية 20 برقم 100 ص 130 – الحقوق 55 ص 99 ) .
( [1705] ) جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " أما ما يترتب من الالتزامات في ذمة رب العمل فلا يقتضي فيه أهلية ما ، فتصبح النيابة القانونية من طريق الفضالة ولو كان الأصيل غير مميز . وفي هذه الصورة يلزم الأصيل بأداء ما تحمل الفضولي من نفقات وتعويض ما أصابه من ضرر بمقتضى قواعد الإثراء بلا سبب " . مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 487 ) . ونلاحظ هنا أيضاً أن العبارة الأخيرة " بمقتضى قواعد الإثراء بلا سبب " يراد بها أن يكون التعويض قائماً على أساس الإثراء بلا سبب ، لا أن التعويض يكون أقل القيمتين .
( [1706] ) وقد كنا نعقد المقارنة في مناسبات متفرقة بين الفضالة والوكالة ، وإذ فرغنا من الكلام في الفضالة نلخص هذه المقارنة فيما يأتي :
نقترب الفضالة من الوكالة في أن كلا منهما مصدر للنيابة ، وفي أن الفضالة قد تنقلب إلى وكالة إذا أجيزت والوكالة تنتهي إلى فضالة إذا خرج الوكيل عن حدود وكالته أو بقى يعمل بعد انتهاء الوكالة ويختلفان في أن مصدر الفضالة عمل مادي ومصدر الوكالة اتفاق ، ومن ثم فالفضالة مصدر للنيابة قانونية ، أما الوكالة فمصدر لنيابة اتفاقية ويختلفان كذلك في أن عمل الفضولي قد تصرفاً قانونياً ، وقد يكون مادياً . أما عمل الوكيل فلا يكون إلا تصرفاً قانونياً هذا من حيث الأركان . أما من حيث الالتزامات التي تنشأ من الفضالة والوكالة فتقوم الفروق بينهما فيها على اعتبار جوهري :هو أن رب العمل لم يختر الفضولي ولم يعد يعهد إليه في أن يقوم بعمل ما ، أما الموكل فقد أختار وكيله وعهد إليه في أن يقوم بعمل وكله فيه . لذلك كانت الالتزامات الفضولي أشد قليلاً من التزامات الوكيل ، وكانت التزامات رب العمل أخف قليلاً من التزامات الموكل ، وإن كانت كل هذه الالتزامات في مجموعها متقاربة . ويظهر ذلك من التفصيل الآتي :
1 - يلتزم الفضولي بالمضي في العمل الذي بدأه . أما الوكيل فله بوجه عام حق الرجوع في الوكالة .
2 - يلتزم الفضولي بإخطار رب العمل متى تمكن من ذلك وهذا الالتزام غير متصور في حالة الوكيل .
3 - يلتزم الفضولي ببذل عناية الرجل المعتاد سواء أخذ أجراً أو لم يأخذ . أما الوكيل فيلتزم ببذل عناية الرجل المعتاد إذا أخذ أجراً ، فإذا لم يأخذ أجراً فلا يلتزم إلا ببذل العناية التي يبذلها في أعماله الخاصة دون أن يكلف في ذلك أزيد من عناية الرجل المعتادم 704 ) .
4 - لا يعتبر الفضولي تابعاً لرب العمل . أما الوكيل فقد يعتبر تابعاً للموكل ، فيكون هذا مسئولاً عنه مسئولية المتبرع عن التابع .
5 - يرجع رب العمل مباشرة على نائب الفضولي ، ولا يرجع نائب الفضولي مباشرة على رب العمل أما الموكل ونائب الوكيل فيرجع كل منهما مباشرة على الآخر .
6 - إذا تعدد الفضوليون قام بينهم التضامن ، ولا يقوم التضامن بين أرباب العمل إذا تعددوا . أما الوكالة فيقوم بالتضامن إذا تعدد الوكلاء أو تعدد الموكلون م 707 وم 712 ) .
7 - يلتزم الفضولي بما يلتزم به الوكيل من رد ما استولي عليه بسبب الفضالى وتقديم حساب عما قام به . وعليه ، كما على الموكل ، فوائد المبالغ التي استخدمها لصالحه من وقت استخدامها وفوائد ما تبقى في ذمته من وقت أن يعذر .
8 - ينصرف أثر العقد الذي أبرمه الفضولي أو الوكيل ، باسم رب العمل أو الموكل ، مباشرة إلى هذين .
9 - تتفق الفضالة والوكالة أيضاً في أن الفضولي أو الوكيل يسترد ما تكلفه من التزامات ومصروفات ، ويعوض عما أصابه من ضرر ، ويتقاضى فوائد ما أنفق من وقت الإنفاق ولكن قد يكون حق الفضولي في استرداد المصروفات النافعة التي سوغتها الظروف أضيق قليلاً من حق الوكيل في استردادها ما أنفقه في تنفيذ الوكالة التنفيذ المعتاد –كذلك في الأجر يأخذ الوكيل أجراً إذا اتفق على ذلك مع الموكل أو إذا دخلت الوكالة في أعمال حرفته ، أما الفضولي فلا يأخذ أجراً إلا إذا دخلت الفضالة في أعمال حرفته ولا يتصور في حالته الاتفاق على الأجر .
10 - أهلية الفضولي تتراوح بين التمييز والأهلية الكاملة على تفصيل يختلف فيه عن الوكيل . ورب العمل يختلف عن الموكل في الأهلية ، إذ لا تشترط فيه أهلية ما ويشترط في الموكل أهلية التصرف الذي وكل فيه .
11 - موت الفضولي يقضى الفضالة ، ولا يقضيها موت رب العمل ، أما الوكالة فتقضى بموت كل من الوكيل والموكل .
12 - قد تقضى الالتزامات الناشئة عن الفضالة بأقل من خمس عشرة سنة . أما الالتزامات الناشئة عن الوكالة فلا تتقادم إلا خمس عشرة سنة .
( [1707] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 272 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : " 1 - الالتزامات التي تنشأ مباشرة عن القانون وحده تسرى عليها النصوص القانونية التي أنشأتها . 2 - ولا يشترط أية أهلية في هذه الالتزامات ، ما لم يوجد نص يقضى بخلاف ذلك وفي لجنة المراجعة حذفت الفقرة الثانية لعدم الحاجة إليها ، وأصبح النص رقمه المادة 204 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ رؤى مبدئياً أن الحكم الذي تضمنه النص لا لزوم له فهو تحصيل حاصل ، ولكن اللجنة لم تقطع في ذلك برأي بات . وفي جلسة أخرى وافقت اللجنة على النص كما هو ، وأصبح رقمه 198 . ووافق المجلس الشيوخ على النص كما أقرته لجنتهمجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 490 – ص 493 ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : " كل التزام أيا كان مصدره المباشر يرجع إلى القانون ، باعتبار المصدر الأخير للالتزامات والحقوق جميعاً . فيمن الالتزامات ما يكون مصدره المباشر تصرفاً قانونياً أو عملاً غير مشروع أو إثراء بلا سبب ، ويرد في مصدره الأخير إلى القانون ومنها على تقيض ذلك ، ما يكون القانون مصدره المباشر والأخير في آن وأحد . ويراعى أن القانون يعتبر في هذه الصورة مصدراً وحيداً يتكفل بإنشاء الالتزامات التي تصدر عن نص القانون التزامات الجوار والالتزام بالإتفاق على بعض الأصهار . وقد تقدم أن التزامات الفضولي ، فيما يتعلق بالمضي في العمل والعناية المطلوبة وتقديم الحساب ، كلها ينشئها القانون رأساً ، وينفرد بذلك دون سائر مصادر الالتزام " . مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 492 ) .
( [1708] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 490 .
( [1709] ) ففي الالتزامات ذات المصادر المباشرة يكون المصدر المباشر هو المصدر الأول للالتزام ، ثم يأتي بعد ذلك مصدراً غير مباشر . أما في الالتزامات القانونية ، فالقانون هو المصدر الأول والآخر ، والنص القانوني هو الذي ينشئ الالتزام مباشرة دون أن يستند في إنشائه إلى واقعة أخرى كمصدر مباشر .
ونرى من ذلك أن القانون يستبقى وصايته على بعض الوقائع التي تكون مصدراً للالتزام ، فيمسك بزمامها ، ولا يترتب الالتزام على ما يختاره منها إلا بالنص . وهو في الوقت ذاته يحرر بعض الوقائع من هذه الوصاية ، فيجعلها مصادر عامة للالتزام ، وهذه هي العقد والعمل غير المشروع والإثراء دون سبب .
( [1710] ) أنظر المادة 273 من المشروع التمهيدي للقانون المدني الجديد ، وقد حذفتها لجنة المراجعة ، وسنعود إليها فيما يلي . هذا ويلاحظ أن التزامات رب العمل ، يخلاف التزامات الفضولي ، لها مصدر عام هو الإثراء بلا سبب .
( [1711] ) وسنرى فيما يلي أن الالتزامات التي تنشأ عن الإرادة المنفردة في القانون المدني الجديد هي التزامات أنشأتها نصوص خاصة ، فهي التزامات قانونية . ولم ترق الإرادة المنفردة في القانون الجديد إلى أن تكون مصدراً عاماً للالتزام ، بالرغم من إفراد فصل خاص لها .
( [1712] ) بعض المراجع في الإرادة المنفردة : ديموج في الالتزامات 1 فقرة 18 وما بعدها –سالي الالتزامات فقرة 138 - فقرة 144 – ورمز WORMS ) رسالة من باريس سنة 1891 - جيهير GUIHAIRE ) رسالة من رن سنة 1901 - إلياس ELINS ) رسالة من باريس سنة 1909 - تالايدية TAIIANDIER ) رسالة من تولوز سنة 1912 - كولدبرجCOLDBERG ) رسالة من نانسي سنة 1913 - مارسكوMARESCO ) رسالة من باريس سنة 1915 - تاردTARDE ) في تطورات القانون ص 119 وما بعدها – ديجيهDUGUIT ) في تطورات القانون الخاص - نظرية العقد للمؤلف فقرة 180 - فقرة 196 - الدكتور حلمي بهجت بدوي بك فقرة 75 - فقرة 78 - الدكتور حشمت أبو ستيت بك فقرة 404 - فقرة 464 .
( [1713] ) تنقل ما يلي عن نظرية العقد للمؤلف فقرة 180 - فقرة 185 .
( [1714] ) بودري وبارد 1 فقرة 38 ص 36 - ص 37 - أوبرى ورو 4 فقرة 342 - لوران 10 فقرة 465 - ديمولومب 24 فقرة 45 - يبدان في الالتزامات فقرة 58 . محكمة النقض الفرنسية في 29 أبريل سنة 1903 سيريه 1908 - 1 - 404 .
( [1715] ) والتون 1 ص 17 - نظرية العقد للمؤلف فقرة 181 - محكمة الاستئناف المختلطة في 30 ينايرسنة 1896 م 8 ص 101 - وفي 9 يونية سنة 1898 م 10 ص 322 - وفي 15 نوفمبر سنة 1923 م 36 ص 32 .
( [1716] ) أنظر جاكوبيJACOBI ) وكونتسKUNTZE ) وكين KOPPEN ) ومانزمان MANNESMANN ) وهو لتسندروفHOLZENDORFF ) في المراجع المشار إليها في نظرية العقد للمؤلف ص 186 هامش رقم 1 .
( [1717] ) أنظر تاردTARDE ) في تطورات القانون ص 120 - ديموج في الالتزامات 1 فقرة 18 ص 55 و 2 فقرة 553 ص 136 - كولان وكابيتان 2 ص 271 – ص 272 - ورمز في رسالته الإرادة المنفردة باريس سنة 1891 والأستاذ ورمز هو من أسبق الفقهاء الفرنسيين إلى نشر نظرية الإرادة المنفردة في فرنسا إلى جانب الأستاذ سالي الذي تولى نشر النظريات الألمانية في كتابيه المعروفين الالتزامات في القانون الألماني والإعلان عن الإرادة وقد تشيع الأستاذ ورمز لنظرية الإرادة المنفردة اكبر تشيع ، وهو يرى أن التطور التاريخي للإرادة ، باعتبارها منشئة للالتزام ، يدل على أنها تخلصت تدريجياً من الأوضاع التي كانت تحوط بها ، وان لها أن تتخلص من ذلك جملة واحدة فلا تبقى على اشتراط توافق إرادتين لإنشاء الالتزام لأن ضرورة اتحاد إرادتين نوع من الشكلية لا يزال باقياً ، فإذا قضينا عليه أصبحت الإرادة المنفردة كافية لإنشاء الالتزام . والدليل على أن الإرادة الواحدة هي التي تولد الالتزام أن من صدر منه الإيجاب إذا عدل عن إيجابه ولم يصل ذلك الى علم الطرف الآخر قبل أن يقبل ، فإن العقد يتم رغماً من عدول الموجب وعدم توافق الإرادتين ، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بأن الإيجاب ، وهو إرادة منفردة ، ملزم بذاته رسالة الأستاذ ورمز ص 165 وص 179 ) . ويقول أيضاً إنه متى سلمنا بأن الإرادة المنفردة تكون مصدراً للالتزام ، فلا معنى لعدم الأخذ بهذا المذهب في العقد ذاته ، لأنه إذا كانت الإرادة وحدها تولد التزاماً ، فلماذا لا تستطيع أن تكون هي وحدها مصدر الالتزام إذا اقترنت بإدارة أخرى ، فهل يمكن أن تكون الإرادة المقترنة بإرادة أخرى أضعف من الإرادة المنفردة أنظر رسالة الأستاذ ورمز ص 93 ) .
( [1718] ) وقد نصت 305 من القانون المدني الألماني على أن إنشاء الالتزام من طريق العمل القانوني لا يكون إلا بعقد ، عدا الأحوال التي ينص فيها القانون على خلاف ذلك وفي هذا يقول المعلقون على الترجمة الفرنسية الرسمية للقانون الألماني ما يأتي : " إن الغرض من تقرير هذا المبدأ هو إخراج الإرادة المنفردة من أن تكون مصدراً عاماً لإنشاء الالتزامات ، في الحد الذي ينشأ فيه الالتزام من عمل قانوني . صحيح أنه طلب ، حتى من اللجنة الثانية لتحضير مشروع القانون الألماني ) ، حذف هذا النص ، لتترك المسألة لتقدير الفقهاء . وقد كان هذا يسمح للقضاء ، مع تملكه بالقاعدة التقليدية ، أن يتوسع في الاستثناءات التي يدخلها على القاعدة . ولكن الأغلبية لم تكن من هذا الرأي . ومع ذلك فقد أريدت الإشارة إلى الأحوال الاستثنائية التي يعترف بها القانون ، حتى يكون من المقرر أن الحالات التي يسلم فيها القانون بأن الالتزام ينشأ من مجرد إرادة منفردة يكون من المستطاع تصورها على اعتبارها أنها استثناء من القاعدة الواردة في المادة 305 ، وتطبيق لنظرية الإرادة المنفردة " الترجمة الفرنسية للقانون الألماني م 305 )
هذا وقد احتاط المشروع الألماني في أنه لم يجعل الإرادة المنفردة مصدراً عاماً للالتزام لاعتبارات عملية . وفي هذا يقول سالي : " إذا كان المشروع الألماني قد رفض الأخذ بالنظرية كمبدأ عام ، فذلك راجع دون شك للأسباب التي أبداها برنتزBrins ) ، فإن من الخطر إعطاء مثل هذه الحرية للإرادة ، إذ يصعب ، أمام مظهر هذه الإرادة المنفردة أن نتبين أن هناك التزام بات جدي ، أو أنه لا يوجد إلا قول ألقي جزافاً دون أن يقصد صاحبه أن يتقيد به " الالتزامات في القانون الألماني فقرة 142 ) .
( [1719] ) وقد أنفرد المشروع الفرنسي الايطالي بعقد فصل خاص للإرادة المنفردة باعتبارها مصدراً عاماً للالتزام فقضى في المادة 60 بأن الإرادة المنفردة إذا كانت مكتوبة ، واقترنت بأجل محدد ، تلزم صاحبها بمجرد وصولها إلى علم من توجهت إليه ولم يرفضها ، وتنطبق على الإرادة المنفردة القواعد التي تنطبق على العقد عدا القواعد المتعلقة بضرورة توافق الإرادتين لإنشاء الالتزامات .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع الفرنسي الإيطالي أن هذا النص كان مثاراً للمناقشة بين أعضاء اللجنتين الفرنسية والإيطالية . فقد ظن البعض أن في تقرير هذا المبدأ تجديداً جريئاً لا يتطلبه العمل ، ولكن هذا الاعتراض ، إذا كان فيه بعض الوجاهة بالنسبة إلى القانون الفرنسي ، غير وجيه بالنسبة إلى القانون الفرنسي ، غير وجيه بالنسبة إلى القانون الإيطالي . فقد نصت المادة 36 من القانون التجاري الإيطالي على أنه في العقود الملزمة لجانب وأحد يعتبر الإيجاب ملزماً بمجرد وصوله إلى علم من وجه إليه ، فالتجديد ليس إذن كبيراً بالنسبة إلى هذا القانون . ومن المفيد إدخاله في القانون الفرنسي فهو يضع حداً للخلاف في تعرف طبيعة بعض الأعمال القانونية ، هل هي عقود أو هي مجرد إرادة منفردة كما في تطهير العقار ، وهو في الوقت ذاته يوسع دائرة احترام ما يصدر عن الشخص من وعد ، بالتمشي مع ما يقتضه حسن النية . على أن المادة 60 قد رسمت حدوداً معقولة لهذا التجديد ، فهي لم تكتف بالشروط الموضوعية للعقد من الأهلية ومشروعية المحل والسبب ، بل اشترطت فوق ذلك أن تكون الإرادة المنفردة الملزمة ثابتة بالكتابة ، وأن تحدد مدة لبقائها ملزمة أنظر ص 71 – ص 73 من المذكرة الإيضاحية المذكورة ) .
( [1720] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 338 في الهامش .
( [1721] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ، شرحاً لهذا النص ، ما يأتي : " 1 - لا يصبح الوعد الصادر من جانب وأحد ملزماً إلا من الوقت الذي يصل فيه إلى علم من وجه إليه ، شأنه في ذلك شأن كل تعبير عن الإرادة . فيجوز العدول عنه بعد صدوره متى وصل هذا العدول إلى علم من وجه إليه قبل وصول الوعد ذاته أو وقت وصوله وفقاً لأحكام القواعد العامة . بيد أن الوعد الصادر من جانب وأحد يمتاز بترتيب حكمه دون حاجة إلى القبول ، وهذا ما يفرقه عن العقود فيكفي للزومه أن يصل إلى علم من وجه إليه وألا يفرضه هذا . ولكنه يسقط في حالة الفرض ، إذ لا يجوز أن يجبر أحد على أن يكسب حقاً على رغمه . وهو من هذا الوجه يختلف اختلافاً بيناً عن العقد ، فالعقد لا يتم إلا بقبول الدائن ووصول هذا القبول إلى علم من صدر الإيجاب عنه . ومن الأهمية بمكان تبيين ما إذا كان يقصد بالتعبير عن الإرادة إلى الارتباط بوعد من جانب وأحد مجرد الإيجاب . فمن المعلوم أن الإيجاب ، وإن كانت له قوة في الإلزام من حيث عدم جواز العدول عنه ، لابد أن يقترن بالقبول حتى ينشأ الالتزام الذي يراد ترتيبه . 2 - ويفترض عند شك في مرمى التعبير عن الإرادة أنه قصد به إلى مجرد الإيجاب ويقع عبء إثبات قيام الوعد الصادر من جانب وأحد على عاتق الدائن الذي يدعى ذلك . ويكون الإثبات بالكتابة دائماً ولو كانت قيمة الوعد لا تجاوز عشرة جنيهات وكذلك يجب أن تتضمن وثيقة الوعد بيان المدة التي يبقى الواعد خلالها ملتزماً بما وعد . 3 - ومتى تقرر مبدأ الالتزام بمجرد الوعد ، تعين سريان أحكام العقود عليه . ويترتب على ذلك وجوب توافر أهلية التعاقد في الواعد ، وخلو إرادته مما يشوب الرضا من عيوب ، وقيام التزامه على سبب ومحل تتوافر فيهما الشرائط اللازمة . ويستثنى من هذه الأحكام بداهة ما يتعلق بضرورة توافق الإرادتين ما دامت الإرادة المنفردة هي مصدر الالتزام " . مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 338 – ص 339 في الهامش ) .
( [1722] ) وقد جاء في النظرة العامة للمذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " جعل المشروع من الإرادة المنفردة مصدراً للالتزام ، محتذياً في ذلك مثال المشروع الفرنسي الإيطالي . وليس نقتصر الأمر في إسناد قوة الالتزام إلى هذه الإرادة على القضاء على ضروب من الخلاف سوف تعدم أهميتها بعد أن فرقت وجوه الرأي بين الفكرة التعاقد وفكرة المشيئة الواحدة في تكييف طبيعة بعض التصرفات ، كعرض الثمن على الدائنين المقيدة حقوقهم عند تظهير العقار ، المذكرة الإيضاحية للمشروع الفرنسي الإيطالي ص 54 ) ، وهو لا يقتصر كذلك على بسط نطاق مبدأ البر بالعهود استجابة لما يقتضي حسن النية ، المذكرة الإيضاحية للمشروع الفرنسي الإيطالي ص 54 ) في نطاق التعامل ، ولكن هذا التجديد مهما يكن حظه من الجرأة ، يعتبر نتيجة منطقية لإقرار المشروع لمبدأ لزوم الإيجاب . فمتى اعترف للإيجاب بقوة الإلزام ، فليس ثمة ما يدعو إلى الوقوف عند هذا الحد ، ذلك أن التزام المنطق نفسه يؤدي إلى إقرار كفاية الإرادة المنفردة لإنشاء الالتزام بوجه عام " . مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 336 - ص 337 في الهامش ) .
( [1723] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 339 في الهامش .
( [1724] ) أنظر نظرية العقد للمؤلف فقرة 193 - فقرة 194 .
ومما يدل على أن إرادة المنشئ للمؤسسة قد أنشأت التزاماً في ذمته تحو هذه المؤسسة أن المشروع شبه إنشاء المؤسسة بالهبة أو الوصية في خصوص الدعوى البوليصية ، فنص في المادة 71 على أنه " يعتبر المؤسسة بالنسبة إلى دائني المنشئ وورثته بمثابة هبة أو وصية . فإذا كانت المؤسسة قد أنشئت إضراراً بحقوقهم ، جاز لهم مباشرة الدعاوى التي يقررها القانون في مثل هذه الحالة بالنسبة إلى الهبات والوصايا " . غير أن لا تكون إلا بعقد ، أما إنشاء المؤسسة فتكون بإرادة منفردة .
وكما تنشأ المؤسسة بإرادة منفردة ، يجوز الرجوع فيها فإرادة منفردة كذلك إلى أن يتم شهرها . وقد نصت المادة 72 على أنه " متى كان إنشاء المؤسسة بسند رسمي جاز لمن أنشأها أن يعدل عنها بسند رسمي آخر ، وذلك إلى أن يتم شهرها وفقاً لأحكام المادة 59 " . وبديهي أن المؤسسة إذا أنشئت بوصية جاز الرجوع فيها دائماً حتى موت الموصى ، شأنها في ذلك شأن كل وصية .
( [1725] ) ويدخل في تطبيقات الإرادة المنفردة منشئة للالتزام السند لحامله . ويكيف عادة بأن هناك عقداً مجرداً CONTRAT ABSTRAIT ) تم بين الساحب وأول حامل السند وهذا العقد هو الذي ولد الالتزام في ذمة الساحب . وقد حول الحامل الأول حقه إلى آخر ، وهذا إلى غيره ، إلى أن وصل السند إلى الحامل الأخير . إلا أن هناك فروضاً لا تنزل على هذا التكييف فقد يكتب الساحب السند ، وقبل أن يسلمه لأحد يضيع منه أو يسرق ، فتتبادله الأيدي إلى أن يقع في يد شخص حسن النية ، فيكون لهذا الشخص الحق في استيفاء قيمة من الساحب . ولا يمكن أن يقال هنا إن الساحب ملتزم بموجب بينه وبين أول حامل ، فإن هذا كان شخصاً عثر على سند وهو ضائع أو لصاً سرقه . فلم يبق إذن لتفسير هذا الالتزام إلا أن نقول أن الساحب قد التزم بإرادته المنفردة التزاماً مجرداً . كذلك إذا فرض أن الساحب قبل تسلمه السند لأحد مات أو فقد أهليته ، ثم تداولت الأيدي السند ، فهو أو ورثته ) يبقى ملتزماً ، ومصدر التزامه لا يمكن أن يكون عقداً في هذه الحالة ، فليس إلا إرادته المنفردة مصدراً لالتزامه هنا . وقد نص القانون الألماني صراحة على الحلول المتقدمة ، فقضت المادة 794 بأن من يصدر منه سند لحامله يلتزم به ، حتى لو سرق منه أو ضاع ، وحتى لو تبادله الأيدي رغم إرادته بأي شكل كان . وتقضى المادة ذاتها بأن السند لحامله يبقى حافظاً لقوته القانونية حتى لو مات من صدر منه السند أو فقد الأهلية قبل التعامل بهنظرية العقد للمؤلف فقرة 195 ) .
أما التزامات الفضولي فقد قدمنا أنها لا تنشأ من إرادة منفردة ، بل من واقعة مادية هي أن يتولى الفضولي شأناً لرب العمل . ولا يكفي لالتزام الفضولي أن يظهر إرادته في أن يتولى شأناً لرب العمل ، مهما كانت هذه الإرادة واضحة ، ما دام لم يتول هذا الشأن بالعمل . فالعمل الماد . لا إرادة الفضولي ، هو الذي ينشئ في ذمة الفضولي التزاماته المعروفة .
وكذلك التزام المتعهد نحو المنتفع في الاشتراط لمصلحة الغير مصدره العقد لا الإرادة المنفردة . وقد مر بيان تفصيلاً عند الكلام في الاشتراط لمصلحة الغير .
( [1726] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 493 - وانظر آنفاً فقرة 901 في الهامش . ويلاحظ أن المادة 272 من المشروع التمهيدي وهي التي تقابل المادة 198 من القانون المدني الجديد ، لم تعرض إلا للالتزامات القانونية المبنية على وقائع مادية ، لأن الإرادة المنفردة في المشروع التمهيدي كانت مصدراً عاماً للالتزام كما قدمنا ، فلم تدخل الالتزامات الناشئة عنها في نطاق هذا النص ومن ثم كان مفهوماً أن تنص الفقرة الثانية من المادة 272 على أنه لا تشترط أية أهلية في الالتزامات القانونية .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ، في صدد الأهلية في الالتزامات القانونية المبنية على وقائع مادية ، ما يأتي : " وتنشأ الالتزامات المقررة بنص القانون استقلالاً عن إرادة ذوى الشأن ، فهي لا تقتضي فهم أهلية ما المادة 120 من التقنين اللبناني ) . ومع هذا فقد يتطلب القانون أهلية خاصة بالنسبة لبعض هذا الالتزامات ، مراعياً في ذلك أنها لا تترتب بمعزل عن الإرادة . ومن هذا القبيل ما يقع من الالتزامات على عاتق الفضولي ، إذ يشترط القانون لترتبه أن يكون من يتصدى لشأن من شؤون الغير تفضلاً أهلاً للتعاقد ، . مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 492 – ص 493 ) .
( [1727] ) محكمة الاستئناف الوطنية في 19 أبريل سنة 1924 المجموعة الرسمية 26 رقم 111 / 1 ص 191 - وانظر في القضاء المختلط في مناسبة دين النفقة المنصوص عليه في القانون المدني القديم مواد 154 - 157 / 216 - 220 ) تعليقات الأستاذ بطوروس على القانون المدني القديم جزء 2 ص 601 – ص 605 .
( [1728] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 492 في الهامش . هذا والنص المشار إليه هو المادة م 27 من المشروع التمهيدي ، وكان يجري على الوجه الآتي " " 1 - كل من حاز شيئاً أو أحرزه يلتزم بعرضه على من يدعى حقاً متعلقاً بسندات أو أوراق أخرى ، فاللقاضى أن يأمر بعرضها على ذي الشأن وبتقديمها عند الحاجة إلى القضاء ، ولو كان ذلك لمصلحة شخص لا يريد إلا أن يستند إليها في إثبات حق له . 2 - على أنه يجوز للقاضي أن يرفض إصدار الأمر بعرض الشيء إذا كان لمن أحرزه مصلحة مشروعة في الامتناع عن عرضه . 3 - ويكون عرض الشيء في المكان الذي يوجد فيه وقت طلب العرض ، ما لم يعين القاضي مكاناً آخر . وعلى طالب العرض أن يقوم بدفع نفقاته مقدماً وللقاضي أن يعلق عرض الشيء على تقديم كفالة تضمن لمن أحرز الشيء تعويض ما قد يحدث له من ضرر بسبب العرض " وقد جاء في النظرة العامة للمذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ما يأتي :ومع ذلك فقد رؤى أن ينص استثناء على الالتزام بتقديم شيء . ذلك أن هذا الالتزام لم يظفر بمكان في سائر نواحي التشريع ، ولهذا أفراد له نص خاص أخذ عن المشروع الفرنسي الإيطالي . ويراعى أن هذا المشروع قد استلهم في هذا الشأن ما ورد من الأحكام في التقنين الألماني والسويسري " . وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : " 1 - يدخل الالتزام بتقديم شيء من نطاق الالتزامات المقررة بنص القانون . ويقتضي ترتيب هذا الالتزام اجتماع شروط ثلاثة :1 ) أولها أن يدعى شخص بحق يتعلق بشيء ، شخصياً كان الحق أم عينياً .
ب ) والثاني أن يكون الشيء المدعي به في يد شخص آخر على سبيل الحيازة أو الإحراز ، سواء أكان هذا الشخص خصماً في الدعوى أم لم يكن فيها .
ج ) والثالث أن يكون فحص الشيء ضرورياً للبت في الحق المدعي به من حيث وجوده ومداه ، ويرجع تقدير هذه الضرورة للقاضي . فيجوز مثلاً لمالك الشيء المسروق أن يطالب من يشتبه في حيازته له بعرضه عليه ليتثبت من ذاتيته . ويجوز ذلك لوارث المهندس أن يطلب تمكينه من معاينة الترميمات التي أجراها مورثه ، حتى يتسنى له أن يعين مدى حقه في الأجراء بعد أن آل إليه هذا الحق من طريق الميراث .
2 - فإذا كان الشيء الذي يطلب عرضه سنداً أو وثيقة فيلاحظ أمران : أولهما أن فحص الوثيقة قد يكون ضرورياً لا للبث في وجود الحق المدعى به وتعيين مداه ، بل لمجرد الاستناد إليها في إثبات حق للطالب . والثاني أن للقاضي أن يأمر ، عند الإقتضاء ، بتقديم الوثيقة للمحكمة لا مجرد عرضها على الطالب . فيجوز مثلاً لمشترى الأرض ، إذا تعهد بالوفاء بما بقى من ثمن آلة زراعية ملحقة بها ، أن يطلب عرض الوثائق الخاصة بتعيين القدر الواجب أداؤه من هذا الثمن . ويجوز كذلك لموظف يدعى أنه عزل تعسفاً أن يطلب تقديم ملف خدمته للقضاء ، ليستخلص منه الدليل على التعسف .
3 - فإذا اجتمعت الشروط المتقدم ذكرها ، جاز للقاضي أن يأمر بعرض الشيء أو الوثيقة المطلوبة ، إلا أن يتمسك المدين بمصلحة مشروعة أو سبب قوى للامتناع ، كالحرص على حرمة سر عائلي مثلاً . والأصل في العرض أن يحصل حيث يوجد الشيء وقت رفع الدعوى ، ولكن يجوز للقاضي أن يحكم بغير ذلك ، كما هو الشأن في تقديم الشيء أمام القضاء وتكون نفقات العرض على عاتق من يطلبه ، ويجوز إلزامه ، إذا رأي القاضي ذلك ، بتقديم تأمين لضمان تعويض ما قد يصيب محرز الشيء من ضرر من وراء هذا العرض " مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 490 و ص 491 – ص 492 في الهامش ) .
وبعد أن حذف هذا النص الجامع ، لم يعد هناك إلا نصوص متناثرة في قوانين مختلفة لا تتسع لما كان هذا النص يتسع له من ذلك ما جاء في المادة 16 من قانون التجارة : " لا يجوز للمحكمة في غير المنازعات التجارية أن تأمر بالاطلاع على الدفترين المتقدم ذكرهما ولا على دفتر الجرد إلا في مواد الأموال المشاعة أو مواد التركات وقسمة الشركات وفي حالة الإفلاس ، وفي هذه الأحوال يجوز للمحكمة يجوز للمحكمة أن تأمر من تلقاء نفسها بالاطلاع على تلك الدفاتر " . وما جاء في هذه الأحوال يجوز للمحكمة أن تأمر من تلقاء نفسها بالاطلاع على تلك الدفاتر " . وما جاء في المادة 253 من قانون المرافعات الجديد : " يجوز للخصم في الحالات الآتية أن يطلب إلزام خصمه بتقديم أية ورقة منتجة في الدعوى تكون تحت يده : 1 - إذا كان القانون يجيز مطالبته بتقديمها أو تسليمها . 2 - إذا كانت مشتركة بينه وبين خصمه ، وتعتبر الورقة مشتركة على الأخص إذا كانت محررة لمصلحة الخصمين أو كانت مثبتة لالتزاماتها وحقوقها المتبادلة . 3 - إذا استند إليها خصمه في أية مرحلة من مراحل الدعوى " . وما جاء في المادة 259 من قانون المرافعات الجديد : " يجوز للمحكمة أثناء سير الدعوى ولو أمام محكمة الاستئناف أن تأذن في إدخال الغير لإلزامه بتقديم ورقة تحت يده ، وذلك في الأحوال ومع مراعاة الأحكام والأوضاع المنصوص عليها في المواد السابقة " . أنظر المواد 185 إلى 188 من قانون المرافعات الجديد .
( [1729] ) تاريخ النص :ورد هذا النص في المادة 229 من المشروع التمهيدي على : 1 - الوجه من وجه للجمهور وعداً أن يعطي جائزة لمن يقوم بعمل معين ، التزم بإعطاء الجائزة لمن قام بهذا العمل ، حتى لو قام به دون نظر إلى الوعد بالجائزة . 2 - وإذا لم يحدد الواعد أجلاً للقيام بالعمل ، جاز له الرجوع في وعده بإعلان للجمهور ، على ألا يؤثر ذلك في حق من قام بالعمل قبل الرجوع في الوعد . 3 - أما إذا كان هناك من بدأ في العمل بحسن نية قبل إعلان الرجوع في الوعد ، فإن الواعد ما لم يثبت أن النجاح المنشود لم يكن ليتحقق ، يلتزم أن يرد إليه ما صرف على ألا يجاوز في ذلك قيمة الجائزة الموعودة بها . وتسقط الدعوى باسترداد ما صرف بانقضاء ستة شهور من يوم إعلان الرجوع في الوعد " . وقد حذفت لجنة المراجعة الفقرة الثانية وإدخال بعض التعديلات اللفظية ، فأصبح النص النهائي ما يأتي : " 1 - من وجه للجمهور وعداً بجائزة يعطيها لمن يقوم بعمل معين التزم بإعطاء الجائزة لمن قام بهذا العمل ، حتى لو قام به دون نظر إلى الوعد بالجائزة .
2 - وإذا لم يحدد الواعد أجلاً للقيام بالعمل قبل الرجوع في الوعد . فإذا كان قد بدأ العمل دون أن يتمه ، جاز الحكم له بتعويض عادل لا يجاوز في أي حال قيمة الجائزة " . فأصبح رقم المادة 166 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ جرت مناقشات طويلة ، انتهت بأن أضافت اللجنة إلى الفقرة الأولي عبارة أو دون علم بها " وهذه الإضافة تجعل المعنى أوضح لأن المقصود هو أن يلتزم من يعد بإعطاء الجائزة بما تعهد بأدائه ما دام الطرف الآخر قد قام بالعمل الذي خصصت الجائزة له ولو كان لم يعلم بهذا التعهد . وحذفت اللجنة من آخر الفقرة الثانية عبارة " فإذا كان قد بدأ العمل دون أن يتمه جاز الحكم له بتعويض عادل لا يجاوز في أي حال قيمة الجائزة " ، وقد راعت اللجنة في الحذف أن تترك المسألة للقواعد العامة ، فضلاً عن أن نص المشروع يفضي إلى منازعات كثيرة غير عادلة . وأضافت حكماً جديداً أفرغته في العبارة الآتية : " وتسقط دعوى المطالبة بالجائزة إذا لم ترفع خلال ستة أشهر من تاريخ إعلان العدول للجمهور " ، وقد راعت اللجنة في هذه الإضافة أن تقطع السبيل على كل محاولة مصطنعة يراد بها استغلال الوعد بالجائزة بعد إعلان العدول وحسم المنازعات التي تنشأ بسبب تقادم العهد على الجائزة وصعوبة الإثبات ، ولذلك جعلت مدة السقوط ستة أشهر . واصبح رقم المادة 162 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 338 – ص 349 ) .
وقد جاء في النظرة العامة للمذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي " عمد المشروع إلى إيراد أهم تطبيق من تطبيقات الإرادة المنفردة ، فعرض لأحكام الوعد بالجائزة إذا وجه للجمهور ، وخالف المشروع الفرنسي الإيطالي بشأنها ، فلا يزال هذا المشروع مبقياً الإطلاق أن يقال إن هذا التكييف التعاقدي يرد إلى ما للوعد من خصيصة تبادلية ، وأن الوعد لا يتم إلا برضاء يصدر من إرادتين المذكرة الإيضاحية للمشروع الفرنسي الإيطالي ص 56 ) ، فالواقع أنه لا يقصد إلى مجرد استظهار معنى إتمام أحكام الوعد باشتراك إرادتين ، وهو من يتحقق في كل الأحوال . بل الجوهري . بل الجوهري في هذا الصدد هو إبراز وجه انفراد الإرادة بترتيب التزام الواعد ، فهو يلتزم بمشيئته وحدها إزاء من يقوم بالعمل ولو كان يجهل صدور الوعد . مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 336 ) .
أنظر في نصوص التقنيات الحديثة في الوعد بجائزة م 657 و 658 من التقنين الألماني وم 8 من تقنين الالتزامات السويسري وم 4 من المشروع الفرنسي الإيطالي ) نظرية العقد للمؤلف فقرة 190 .
( [1730] ) وقد أضافت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ إلى آخر الفقرة الأولي من المادة 162 عبارة " أو دون علم بها " لتشمل الفقرة " الصور التي تكون فيها جوائز يعلن عنها الجمهور عن أعمال تمت قبل أو بعد الوعد ، ولو كان الشخص القائم بالعمل به دون علم بوجود الجائزة " . مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 344 – ص 345 ) .
( [1731] ) وتقول المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " يجب التفريق بصدد هذا الوعد بين ما كان الواعد قد حدد مدة لوعده ، وبين ما إذا كان قد ترك المدة دون تحديد . ففي الحالة الأولي يلتزم الواعد نهائياً بمشيئة وحدها ، دون أن يكون له أن يعدل عن وعده خلال المدة المحددة . فإذا انقضت هذه المدة ولم يقم أحد بالعمل قبل انتهاء المدة ، فيصبح من قام به دائناً بالجائزة من فوره ، ولو لم يصدر في ذلك عن رغبة في الحصول عليها ، بل ولو كان جاهلاً بالوعد . وفي هذا ما ينفي عن الوعد بالجائزة صفته العقدية ، فهذه الصفة ليست في رأي المشرع من مستلزماته " . مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 339 ) .
( [1732] ) تقول في مدة معقولة لأن التزام الواعد ، كما سنرى ، معلق على شرط واقف هو قيام شخص بالعمل المطلوب في وقت يجدي فيه القيام بهذا العمل . وإذا وقع خلاف في تقدير المدة المعقولة فصل القاضي في ذلك .
( [1733] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " أما في الحالة الثانية ، حيث لا يحدد أجل لأداء العمل المطلوب ، فيلتزم الواعد رغم ذلك بالوعد الصادر من جانبه . ولكن يكون له أن يعدل عنه ، وفقاً للأوضاع التي صدر بها ، بأن يحمل العدول علنا بطريق النشر في الصحف أو اللصق مثلاً . ولا تخلو الحال في الفقرة التي تمضي بين إعلان الوعد والرجوع فيه من أحد فروض ثلاثة : أ ) فإذا لم يكن قد بدئ في تنفيذ العمل المطلوب ، تحلل الواعد نهائياً من نتائج وعده . ب ) وإذا كان قد بدئ في تنفيذ هذا العمل دون أن يبلغ مرحلة الإتمام ، التزم الواعد أن يرد إلى من بدأ في هذا التنفيذ ما أنفقه ، على ألا يجاوز في ذلك قيمة الجائزة الموعود بها . ولا يعتبر الوعد الذي عدل عنه أساساً لهذا الالتزام بل هو رد في أساسه إلى أحكام المسئولية التقصيرية المقررة في نصوص القانون . وتسقط هذه المسئولية في حالتين : أولاهما حالة سقوط الدعوى باسترداد ما أنفق بانقضاء ستة اشهر من يوم إعلان الرجوع في الوعد ، والثانية حالة إقامة الواعد الدليل على أن النجاح المنشود لم يكن ليتحقق لو أن ما بدئ في تنفيذ قد تم ، إذ تنعدم في هذه الحالة رابطة السيبية بين الضرر الذي أصاب من تحمل النفقات ورجوع الواعد في وعده . وكذلك يكون الشأن في حالة البدء في تنفيذ العمل المطلوب قبل إعلان العدول وإتمامه بعد هذا العدول . جـ ) … … " . مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 339 – ص 340 ) .
ويلاحظ أن المشروع التمهيدي م 229 فقرة 3 ) كان ينص على ما يأتي : " أما إذا كان هناك من بدأ في العمل بحسن نية قبل إعلان الرجوع في الوعد ، فإن الواعد ، ما لم يثبت أن النجاح المنشود لم يكن ليتحقق ، يلتزم أن يرد إليه ما صرف على ألا يجاوز في ذلك قيمة الجائزة الموعود بها . وتسقط الدعوى باسترداد ما صرف بانقضاء ستة شهور من يوم إعلان الرجوع في الوعد " . وهذا يفسر ما ورد في المذكرة الإيضاحية في هذا الشأن . وقد عدلت لجنة المراجعة هذا النص ، كما قدمنا ، على الوجه الآتي : " فإذا كان قد بدأ العمل دون أن يتسنى جاز الحكم له بتعويض عادل ، لا يجاوز في أي حال قيمة الجائزة " . الأعمال التحضيرية 2 ص 338 و ص 341 )
( [1734] ) أنظر في هذا المعنى المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 340 . وجاء في المذكرة ذاتها ختاماً لهذا الموضوع ما يأتي :
" وليس يبقى بعد هذا سوى بعض مسائل تفصيلية عرضت لها التقنيات الأجنبية بأحكام تشريعية خاصة ، واغفل المشروع ذكرها ، مكتفياً في شأنها بتطبيق القواعد العامة . فالمادة 659 من التقنين الألماني تنص على أنه " إذا نفذ العمل الذب بذلت الجائزة من أجله أكثر من شخص واحد ، كانت الجائزة للأسبق فإذا تعدد المنفذون في وقت وأحد ، كانت الجائزة سوية بينهم : انظر أيضاً المادة 17 من كل من التقنينين التونسي والمراكشي ) . وكذلك تنص المادة 660 من التقنين الألماني على أنه " إذا تعاون عدة أشخاص في تحقيق النتيجة التي بذلت الجائزة من أجلها وجب على الواعد أن يقسم الجائزة بينهم على أساس تقدير عادل ، قوامه ما يكون لكل منهم من نصيب في تحقيق هذه النتيجة " . ويقضي التقنين البولوني في المادة 106 ببطلان " الوعد الموجه إلى الجمهور يمنح جائزة لأفضل عمل يقدم في مسابقة ، إذا لم يحدد الإعلان ميعاداً للتقدم في هذه المسابقة ويكون للواعد الحق في تقرير ما إذا كان هناك محل لمنح الجائزة ، ولأي عمل تمنح ، إلا إذا كان قد بين في إعلانه طريقاً آخر للفصل في نتيجة المسابقة . ولا يكسب الواعد ملكية العمل الذي استحق الجائزة ، أو حقوق منشئة فيه ، إلا إذا كان قد احتفظ لنفسه بهذا الحق في الإعلان " . مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 340 - ص 341 ) .
( [1735] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 347 .