المذكرة الإيضاحية للقانون المدني الكويتي - الجزء الأول
المذكرة الإيضاحية للقانون المدني (الكويت)
أحكام عامة
يستند كل نظام قانوني بالضرورة إلى أحكام عامة يقوم عليها، وتسري كأصل عام في شأن فروع القانون دون تخصيص. ومثال ذلك، ما يتعلق بمصادر القانون وتطبيقه في الزمان، وثبوت الشخصية وانتهاؤها، والخصائص التي تتميز بها، وتقسيم الأشياء والأموال، واستعمال الحقوق. وغير ذلك مما لا يختلف في شأنه عادةً فرع من فروع القانون.
وإذ كان تقنين هذه الأحكام أمرًا جوهريًا لا غناء عنه، فقد جرت التشريعات المختلفة على أن تفرد لها مكانًا رحبًا في مدونة القانون المدني باعتبار أن هذا القانون هو الفرع الأصيل في دوحة القانون الخاص. بل في دوحة القانون بوجه عام.
ولم تعرض مجلة الأحكام العدلية – وهي أساس القانون المدني المطبق في الكويت – لمثل هذه الأحكام العامة. وهو نقص قد لا يكون له من الناحية العملية كبير أثر بالنسبة إلى بعض الأمور التي يمكن الوصول إلى الحكم فيها على هدي المبادئ العامة المستقرة أو يمكن استخلاصه من تشريع قائم. فلا يمكن مثلاً أن يثور خلاف في شأن أولوية التشريع في التطبيق بالنسبة إلى غيره من مصادر القانون، ولا كذلك في شأن مبدأ عدم رجعية القوانين هو منصوص عليه في الدستور ولا يمكن أيضًا أن يثور حول الاعتراف بالشخصية الاعتبارية بعد أن منحها المشرع بالفعل لبعض الكائنات من مؤسسات وشركات ونقابات وجمعيات، ولكن الأمر يختلف بالنسبة إلى مسائل أخرى يكون إغفال التقنين فيها أكثر خطورة وأبعد أثرًا، ومن ذلك عدم النص على حكم عام يحدد مصادر القانون وترتيبها، وعدم تنظيم الآثار المترتبة على تعاقب القوانين في الزمان، وعدم وضع قاعدة موحدة في حساب المواعيد، وعدم تحديد موطن الأشخاص ودرجات القرابة، وعدم الأخذ بتقسيم للأشياء والأموال يتفق والتطور القانوني الحديث، إلى غير ذلك من المسائل التي أفضى سكوت التشريع عن إيراد حكم عام فيها، إلى خلق كثير من الصعوبات.
وغني عن البيان أن ما ورد من قواعد فقهية في المقالة الثانية من مقدمة مجلة الأحكام العدلية لا يُعتبر من قبيل الأحكام العامة المشار إليها فيما تقدم، وإنما هي في أغلبها أصول فقهية مكانها الصحيح كتب الفقهاء أو المذكرات الإيضاحية وليس مدونات القانون، وهو ما حرص تقرير المجلة ذاته على التنبيه إليه.
لذلك عني المشروع بأن يورد في صدره أحكامًا عامة في القانون والحق واختص القانون بباب أول حدد فيه مصادره وأورد فيه الأحكام المتعلقة بإلغاء التشريع وتعاقب القوانين في الزمان محيلاً في تنظيم تنازعها في المكان إلى قانون خاص، ثم عرض في باب ثانٍ للأحكام العامة في الحق، فخص صاحبه بفصل أول تناول فيه الشخص الطبيعي وبدء شخصيته ونهايتها وخصائص هذه الشخصية، وتناول بعد ذلك الأشخاص الاعتبارية فحدد أهليتها وموطنها، وعرض في فصلٍ ثانٍ لمحل الحق وتقسيم الأشياء والأموال، وأخيرًا خصص فصلاً ثالثًا لاستعمال الحقوق وضوابط عدم المشروعية في هذا الاستعمال.
الباب الأول: القانون
المواد (1 – 8):
ترسم المادة الأولى بفقرتها الأولى نطاق سريان النصوص التشريعية فتقضي بسريان نصوص التشريع على جميع المسائل التي ينسحب عليها حكمه، سواء استخلص هذا الحكم من منطوق النص أو من مفهومه التي يتم الكشف عن حقيقته بطرق التفسير المختلفة.
وجدير بالذكر أن كلمة التشريع هنا تصدق على جميع أنواع التشريع سواء أكان تشريعًا دستوريًا أو تشريعًا صادرًا من السلطة التشريعية أو تشريعًا فرعيًا.
وتعرض الفقرة الثانية من هذه المادة لمصادر القانون الاحتياطية التي يتعين استقاء الحكم منها عند سكوت التشريع فتحيل القاضي أولاً إلى العرف باعتباره المصدر الذي يلي التشريع في المرتبة، ومن ثم يكون على القاضي أن يلجأ إلى العرف مباشرةً في حالة سكوت النص، وغني عن البيان أن العرف المعتبر هنا هو ذاك الذي لا يخالف النظام العام أو حسن الآداب، فالعادات التي تتنافى مع الأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية التي تقوم عليها الجماعة لا ترقى أبدًا إلى مرتبة العرف وإن طال عليها الأمد، وفي بلد – كالكويت – يدين بالإسلام بنص الدستور، لا يمكن أن يُعتبر عرفًا كل ما يخالف أصلاً من أصول الإسلام أو حكمًا من أحكامه الأساسية الثابتة.
ومكانة العرف من حيث أنه يلي التشريع ترجع إلى كونه المصدر الشعبي الأصيل الذي يتصل اتصالاً مباشرًا بالجماعة ويُعتبر وسيلتها الفطرية لتنظيم تفاصيل المعاملات ومقومات المعايير التي يعجز التشريع عن تناولها بسبب تشعبها أو استعصائها على النص، ولذلك يظل هذا المصدر – إلى جانب التشريع – مصدرًا تكميليًا خصبًا يتناول المسائل التي تسري في شأنها قواعد القانون المدني وقانون التجارة وغيرهما من فروع القانون التي تقبل ذلك بطبيعتها.
ويتفق نص المشروع، في الإحالة أولاً إلى العرف، مع نص الفقرة (2) من المادة الأولى من التقنين المدني المصري ومثيلتها من التقنين المدني العراقي، أما التقنينات العربية الأخرى، فقد قدم بعض منها (كالتقنين السوري والتقنين الليبي والتقنين السوداني والتقنين الأردني) مبادئ الشريعة الإسلامية أو الفقه الإسلامي على العرف، وأسقط بعض آخر منها العرف من بين مصادر القانون: فالتقنين المدني الصومالي، يحيل القاضي إلى مبادئ الشريعة الإسلامية ثم إلى مبادئ العدالة الاجتماعية وقواعد العدالة (م 1 ف 2) بينما يقتصر المشروع المصري الليبي على الإحالة إلى أصول الشريعة الإسلامية وأحكامها دون غيرها من المصادر.
والواقع أن تقديم مبادئ الشريعة الإسلامية على العرف لا يتفق تمامًا مع منطق ترتيب مصادر القانون، لأن العرف من أهم المصادر التي توجب الشريعة والفقه الإسلامي اعتمادها، واعتماد مبادئ أو أصول الشريعة الإسلامية مؤداه اعتماد العرف الذي له في الشريعة اعتبار أساسي في بناء الأحكام، فالأصل في المعاملات هو ما تراضى عليه الناس أو جرى به العرف بينهم، إلا أن يتراضوا أو يتعارفوا على ما يخالف حكم الشرع، من تحليل حرام، أو تحريم حلال، وقد قرر القرآن الكريم والسنة النبوية هذا الأصل، فقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم "، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه: " أنتم أعلم بأمر دنياكم "، وقوله فيما رواه أحمد في مسنده: " ما كان من أمر دينكم فإليَّ، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به "، ولذلك فقد اشتهر على ألسنة الشرعيين قولهم العرف في الشرع له اعتباره وقولهم: العرف شريعة محكمة ومن ثم يكون ذكر العرف بعد مبادئ الشريعة الإسلامية من قبيل التزيد، ما دام أن العرف يعتبر من أهم المصادر في الشريعة الغراء.
فإذا لم يجد القاضي في التشريع أو العرف حكمًا يمكن تطبيقه، فإن المشروع يطلق للقاضي حرية الاجتهاد، مهتديًا بأحكام الفقه الإسلامي الأكثر اتفاقًا مع واقع البلاد ومصالحها وفي ذلك يضع المشروع في اعتباره ما جاء بالمذكرة التفسيرية للدستور تعليقًا على المادة الثانية منه، وكذلك ما ورد في قرار مجلس الوزراء بشأن تنقيح التشريعات وتطويرها، من أن تكون التشريعات الموضوعة متفقة مع واقع الكويت وتقاليدها.
ولا محل للتخوف من دعوة القاضي إلى الاجتهاد، ففي الشروط التي يشترطها القانون فيمن يولى القضاء، وفي رقابة محكمة التمييز على عمل القضاة خير ضمان لسلامة الاجتهاد وحسن الاهتداء بأحكام الفقه الإسلامي فضلاً عن توحيد الرأي، ثم إن هذا الاهتداء ينضبط بما يأتي:
أولاً: عدم التقيد بمذهب معين من المذاهب ولا الوقوف عند أرجح الأقوال فيها.
وثانيًا: الأخذ بالأحكام الأكثر اتفاقًا مع واقع البلاد ومصالحها والتي تتسق مع الأحكام والمبادئ العامة التي يقوم عليها القانون الكويتي في جملته، فلا يجوز الأخذ بحكم في الفقه الإسلامي يتعارض مع مبدأ من هذه المبادئ، حتى لا يفقد النظام القانوني تجانسه وانسجامه. وفي الرخصة في الأخذ بمذاهب الفقه جميعًا ما يجعل تحقيق هذا التجانس أمرًا ميسورًا.
وغني عن البيان أن نص المشروع لا يمنع القاضي من الاهتداء – إلى جانب أحكام الفقه الإسلامي – بمبادئ القانون العامة، أو بالقواعد المقررة في معاهدات دولية أو تشريعات أخرى، أو أن يستلهم الرأي من الأحكام التي أقرها القضاء والفقه كويتيًا كان أو غير كويتي، ما دامت متفقة مع واقع البلاد ومصلحة الجماعة وتتغيا تحقيق العدالة.
هذا ولم يشأ المشروع – بعد ذلك – أن يجاري التقنين المصري وبعض التقنينات العربية الأخرى في إحالتها إلى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة لما يؤخذ على هاتين العبارتين من غموض وإبهام، ولأن مثل هذه العبارات لا ترد القاضي إلى ضابط يقيني وإنما تقتصر – في الحقيقة – على إلزامه أن يجتهد رأيه لتقطع عليه سبيل النكول عن القضاء، وهو ما يسره المشروع للقاضي في أرحب نطاق.
وتعرض المادة الثانية لإلغاء التشريع أو نسخه. والإلغاء هو تجريد القاعدة القانونية من قوتها الملزمة، وقد وجد الإلغاء في الشرائع المنزلة وسُمي نسخًا: قال تعالى في سورة البقرة: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأتِ بخير منها أو مثلها " وعرفه ابن قيم الجوزية بأنه: " .. رفع الحكم الذي ثبت تكليفه للعباد إما بإسقاطه إلى غير بدل أو إلى بدل " فإذا جاز النسخ في الشرائع السماوية فإن جوازه أولى في شريعة من صنع البشر.
وإلغاء التشريع إنما يكون بتشريع آخر في مثل منزلته أو أسمى منه، فالتشريع الدستوري لا يعدله إلا تشريع دستوري، والتشريع العادي يلغيه تشريع دستوري أو تشريع عادي مثله، ولكن لا يلغيه تشريع فرعي كما لا يلغيه العرف وإن طال استقراره.
وإلغاء التشريع قد يتم بنص صريح يتضمنه تشريع لاحق، وهو ما نص عليه المشروع في صدر الفقرة الأولى من المادة الثانية. ويتحدد الإلغاء وفقًا للنص الذي يقرره: فقد يكون الإلغاء شاملاً وقد يكون جزئيًا، وقد يكون هذا الإلغاء إلى غير بدل يحل محل النص الملغى وقد يكون إلى بدل، وقد يأت إلغاء التشريع ضمنيًا، وهو ما يتحقق في صورتين:
الأولى: أن يصدر تشريع جديد يتضمن نصًا يتعارض مع نص في تشريع قديم، وفي هذه الحالة يقتصر الإلغاء على النص القديم في حدود ما يتحقق به التعارض.
والثانية: أن يصدر تشريع ينظم من جديد تنظيمًا كاملاً موضوعًا كان ينظمه تشريع سابق، وفي هذه الحالة يعتبر التشريع السابق منسوخًا جملةً وتفصيلاً، حتى ولو تضمن حكمًا لا يتعارض ونصوص التشريع الجديد.
وتتناول المواد من (3 - 6) أحكام تنازع القوانين من حيث الزمان، فإذا ألغى قانون جديد قانونًا كان معمولاً به من قبل فإن تعاقب القوانين يثير التنازع بين ولاية القانون القديم والقانون الجديد. فولاية القانون القديم وإن زالت بزواله قد تظل برغم ذلك تلاحق بعض الأوضاع في ظل القانون الجديد، وولاية القانون اللاحق وإن تناولت ما يجد في المستقبل من وقائع قد تتناول ما تم من أوضاع قبل صدوره، وفي هذا الوضع يعرض أمر التنازع واضحًا.
وقد يتدخل المشرع لفض التنازع بين القانونين القديم والجديد، ولكن ذلك لا يغني عن وضع مبادئ عامة تطبق في حالة عدم تدخل المشرع أو في حالة عدم كفاية القواعد التي أصدرها، وإذا كان الدستور قد تكفل بوضع المبدأ الأساسي في ذلك فنص في المادة (179) منه على أن " لا تسري أحكام القوانين إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها، ولا يترتب عليها أثر فيما وقع قبل هذا التاريخ، ويجوز في غير المواد الجزائية، النص في القانون على خلاف ذلك ... "، غير أن هذا النص يحتاج إلى تفصيل وهو ما تكفل به المشروع في مادته الثالثة، فضمنها الضوابط التي تحكم ذلك النوع من التنازع.
فنص أولاً، على أن القانون الجديد لا يسري إلا على ما يقع عليه من تاريخ العمل به، ما لم ينص فيه على سريانه على ما تقدمه من أوضاع.
ونص ثانيًا، على أن القانون المنسوخ يظل ساريًا على آثار التصرفات التي أُبرمت تحت سلطانه، إلا إذا كانت أحكام القانون الجديد متعلقة بالنظام العام فتسري بأثر فوري على ما يترتب من تلك الآثار بعد نفاذه.
وقد أورد المشروع بعد ذلك أهم الحلول العملية لمسائل التنازع فعرض للنصوص المتعلقة بالأهلية وبالتقادم ثم المتعلقة بأدلة الإثبات، وذلك كله على نحو يكفل استقرار الحقوق والمعاملات.
( أ ) النصوص المتعلقة بالأهلية - تقضي المادة الرابعة، في فقرتها الأولى، بأن النصوص المتعلقة بالأهلية تسري على جميع الأشخاص الذين تتناولهم أحكامها، ومؤدى ذلك أن القانون الجديد إذا رفع سن الرشد، فإنه يرد من كان يعتبر رشيدًا إلى حالة القصر إذا لم يكن قد بلغ السن المحددة فيه، وإذا خفض القانون الجديد السن، كان من شأنه أن يدخل في عداد الراشدين من كان يعتبر قاصرًا في ظل القانون القديم، ذلك أن تحديد الأهلية يراعى فيه حماية الشخص من تصرفاته الإرادية، وهي حماية تتعلق بالنظام العام.
ولكن تغير أهلية الشخص بمقتضى قانون جديد، لا يؤثر في تصرفاته السابقة، كما تنص عليه الفقرة الثانية من هذه المادة. فإذا عاد شخص إلى حالة القصر بعد أن كان رشيدًا في ظل التشريع القديم. فإن هذا لا يؤثر في صحة التصرفات التي صدرت منه تحت سلطان ذلك التشريع، وكذلك إذا أصبح القاصر رشيدًا، فإن التصرفات التي صدرت منه في ظل التشريع القديم تظل باطله أو قابله للإبطال ويجوز الطعن فيها بسبب نقص الأهلية متى كان الشخص ناقص الأهلية وقت إجرائها ذلك أن القانون الجديد لا يغير في أهلية الأشخاص إلا بالنسبة للمستقبل فحسب، ولا تأثير له على التصرفات التي أُبرمت قبل صدوره.
(ب) النصوص المتعلقة بالتقادم - لما كان من مقتضى الأثر الفوري للقانون الجديد، أن تسري نصوصه فور العمل به على كل تقادم لم يكتمل فلم يرَ المشروع داعيًا للنص على هذه القاعدة العامة على النحو الذي جرت عليه بعض التقنيات العربية، ونص في المادة الخامسة منه، على أنه إذا أطال القانون الجديد مدة التقادم، سرت المدة الجديدة على كل تقادم لم يكتمل، مع الاعتداد بما انقضى من مدته، أما إذا قصر القانون الجديد مدة التقادم، فإنه طبقًا للفقرة الثانية من هذه المادة، تسري المدة التي ينص عليها القانون الجديد من وقت العمل به وذلك بالنسبة لكل تقادم لم يكتمل دون اعتداد بالمدة التي انقضت في ظل القانون القديم، غير أن المشروع رأى عدم إعمال هذا الحكم في الحالة التي يكون فيها الباقي من المدة القديمة أقصر من المدة التي تقررت في التشريع الجديد. كما لو كانت المدة القديمة عشر سنوات ولم يبق لاكتمالها سوى ثلاث سنوات ثم جعل التشريع الجديد المدة خمس سنوات، ففي هذه الحالة يعتد بالمدة القديمة وما سرى منها ويتم التقادم بانقضاء باقيها (ثلاث سنوات)، وتكون ولاية التشريع القديم قد امتدت بعد زواله تحقيقًا للعدالة لأنه بغير هذا الاستثناء تطول مدة التقادم على عكس ما أراد الشارع، وهو حل أثره المشروع، اقتداءً بالتقنين المدني المصري والتقنيات العربية الأخرى التي حذت حذوه.
وجلي بعد ذلك أن المسائل الخاصة ببدء التقادم ووقفه وانقطاعه، هي وقائع تخضع للقانون الساري وقت وقوعها طبقًا للقاعدة العامة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة الثالثة من المشروع وكذلك طبقًا لقاعدة عدم رجعية القوانين المنصوص عليها في الدستور.
(ج) النصوص المتعلقة بأدلة الإثبات - وتعرض المادة السادسة من المشروع للقواعد التي تحكم قبول أدلة الإثبات وتعين حجيتها فتنص على أنه يسري في شأنها أحكام القانون القائم وقت حصول الوقائع أو التصرفات المراد إثباتها، فإذا كان الدليل الذي يجوز أن يحصل به الإثبات وقت نشوء الواقعة أو حصول التصرف هو البينة، جاز أثبات هذه الواقعة أو التصرف بالبينة ولو كان القانون المعمول به وقت النزاع يمنع الإثبات بها ويتطلب الكتابة.
وغني عن البيان أن النصوص المتعلقة بإجراءات الإثبات، تسري فور العمل بها على جميع الدعاوى القائمة لتعلقها بنظام التقاضي واتصالها على هذا الوجه بالنظام العام.
أما القواعد الخاصة بتعاقب القوانين فيما يتعلق بالتنظيم القضائي واختصاص المحاكم وإجراءات الترافع والأحكام، فلم يرَ المشروع أن يتعرض لها، تاركًا ذلك لمكانه المناسب في قانون المرافعات.
وتحيل المادة السابعة من المشروع إلى قانون خاص، لبيان القانون الواجب التطبيق على المسائل التي تتضمن عنصرًا أجنبيًا، أو ما يسمى بتنازع القوانين من حيث المكان. فتنظيم التنازع بين قوانين الدول المختلفة يتكفل به فرع مستقل من فروع القانون، هو القانون الدولي الخاص. والقواعد التي يقررها في ذلك لا تنظم العلاقات القانونية، وإنما تقتصر على تعيين القانون الواجب التطبيق على هذه العلاقات إذا تضمنت عنصرًا أجنبيًا، ومن ثم يكون من الأفضل أن تقنن هذه القواعد في تشريع قائم بذاته، وهو مسلك اتبعه كثير من الدول ومنها دولة الكويت نفسها التي أصدرت لذلك القانون رقم (5) لسنة 1961 بتنظيم العلاقات القانونية ذات العنصر الأجنبي.
وتتضمن المادة الثامنة من هذا الباب حكمًا عامًا يقضي بحساب المواعيد بالتقويـم الميلادي، وهو حكم يسري على جميع المواعيد والمدد المنصوص عليها في القانون المدني أو في غيره من التشريعات، ما لم يخرج عليه المشرع بنص صريح، إذا رأى في ذلك مصلحة يستقل هو بتقديرها.
الباب الثاني: الحق
لم يعن علماء الفقه الإسلامي ببيان أركان الحق ومصادره واستعماله، مكتفين ببيان أنواع المعاملات وفروعها ومسائلها. ولكن علماء أصول الفقه بحثوا ذلك عند الكلام عن " المحكوم فيه "، وإن عمموا كلامهم في ذلك على جميع الحقوق المالية وغير المالية ما كان منها من حق الله تعالى، وما كان منها من حق العبد، واهتداءً بهذه الأصول عني المشروع – في هذا الباب - ببيان الأحكام العامة في الحق، مقتصرًا في ذلك على الحقوق المالية التي تدخل وحدها رحاب القانون الخاص، ووزع هذه الأحكام على فصول ثلاثة خصصها على التوالي: لصاحب الحق ولمحل الحق ولاستعمال الحق.
الفصل الأول: صاحب الحق:
العنصر أو الركن الأول في الحق – هو صاحبه. فما من حق إلا وله صاحب – وصاحب الحق هو الشخص في معناه القانوني، أي الكائن الذي يصلح لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات، سواء كان شخصًا طبيعيًا - وهو الإنسان – أو شخصًا اعتباريًا يعترف له القانون بالشخصية الاعتبارية، ولذلك يقسم المشروع هذا الفصل إلى قسمين يتناول في أولهما الشخص الطبيعي ويخصص الثاني للشخص الاعتباري.
1- الشخص الطبيعي:
المـواد (9 – 17):
وتحدد المادتان (9 و10) بدء الشخصية ونهايتها، وطبقًا لأولاهما تبدأ الشخصية الطبيعية للإنسان بتمام ولادته حيًا.
فقبل أن تتم الولادة لا تبدأ الشخصية، وإذا تمت الولادة ولكن الجنين ولد ميتًا، فلا تقوم الشخصية كذلك. وهو حكم بُني على ما رآه الحنابلة والمالكية والشافعية، في بيان الحياة التي يثبت بها الميراث للمولود وأخذت به التقنينات العربية وفي مقدمتها القانون المصري (المادة 29 مدني وقانون الميراث رقم (77) لسنة 1943 وقانون الوصية رقم 71 لسنة 1946). وتنتهي الشخصية الطبيعية بالموت، سواء كان الموت حقيقيًا أو حكميًا، وغني عن البيان أن إثبات الولادة والوفاة، يرجع فيه إلى القانون الخاص بذلك، فقيد المواليد والوفيات ينظمه القانون رقم (36) لسنة 1969، كما أن قانون الأحوال الشخصية هو الذي يحدد أدلة الإثبات وقوتها في حالة عدم وجود شهادة ميلاد أو شهادة وفاة، وما بين الولادة والوفاة يوجد الشخص الطبيعي ويتمتع بأهلية الوجوب، أي القابلية لأن تكون له حقوق وأن تترتب في ذمته التزامات.
وإذا كانت الشخصية الطبيعية لا تبدأ إلا بتمام الولادة، فإن مقتضى ذلك ألا يكون للحمل شخصية، إذ يعتبر وهو موجود في بطن أمه جزءًا منها يتحرك بحركتها ويقر بقرارها.
ولكنه إلى جانب ذلك جزء يوشك أن ينفصل انفصالاً كاملاً مستقلاً بحياته. ولذلك نرى فقهاء الشريعة مجمعين على الاحتفاظ له ببعض الحقوق، وهي التي يكون فيها نفع له ولا تحتاج في وجودها وصحتها وثبوتها إلى القبول، مثل ثبوت نسبه من أبيه، وإرثه من مورثه، واستحقاقه ما أُوصي له به. وكذلك استحقاقه من غلة الوقف الذي يكون من بين مستحقيه فإذا ما ولد حيًا، ثبتت له هذه الحقوق، وإن ولد ميتًا لم تثبت له، أما غير ذلك من الحقوق التي فيها نفع له ولكنها تحتاج إلى قبول، كالهبة، فلا تثبت له، وكذلك لا تجب على الجنين حقوق قِبل غيره، لأن وجوب الحق على الشخص يكون بفعله أو بالتزام يلتزمه بعبارته أو بعبارة من له الولاية أو الوصاية عليه وهو غير متحقق في الجنين، إذ لا يتصور أن يصدر منه فعل أو عبارة وليس له ولي أو وصي حتى ينوب عنه في إنشاء الحقوق والالتزام بها فالأصل عند الحنفية ألا تبدأ الولاية على الإنسان إلا من وقت ولادته حيًا، ولم يرد عن فقهائهم نصوص صريحة تتعلق بصحة إقامة وصي على الحمل قبل انفصاله سوى استظهارات لبعض المتأخرين منهم، وقد كان هذا الموضوع محل خلاف في مصر، إلى أن صدر المرسوم بقانون رقم (119) لسنة 1952 – فنص في المادة (28) على أنه يجوز للأب أن يقيم وصيًا مختارًا لولده القاصر أو للحمل المستكن، وفي المادة (29) على أنه إذا لم يكن للقاصر أو للحمل المستكن وصي مختار تعين المحكمة وصيًا، ويبقى وصي الحمل المستكن وصيًا على المولود ما لم تعين المحكمة غيره. وفي الكويت، ردد المشرع في المادتين (37 و38) من قانون التسجيل العقاري ثم في المادة العاشرة من قانون إدارة شؤون القصر رقم (4) لسنة 1974 نص المادتين (28، 29) من قانون الولاية على المال المصري، كما عهد لإدارة شؤون القصر بالوصاية على الحمل المستكن إذا لم يكن له وصي مختار ولم تعين المحكمة وصيًا آخر، وما دام القانون قد أجاز تعيين وصي على الحمل المستكن، وهو احتياط حسن يدعو إليه افتراض ولادة الحمل حيًا، فإن امتناع الهبة لمصلحة الجنين لم يعد له مبرر، إذ يمكن للولي أو للوصي أن يقبل الهبة عنه وهو حكم ورد في فقه المالكية وأخذ به التقنين اللبناني للموجبات والعقود بنصه في المادة (518) على أن الهبات التي تمنح للأجنة في الأرحام يجوز أن يقبلها الأشخاص الذين يمثلونهم.
ولهذه الاعتبارات جميعها فإن المشروع بعد أن نص في الفقرة الأولى من المادة العاشرة على القاعدة العامة التي تقتضي بأن الحمل أهل لثبوت الحقوق التي لا يحتاج سبب إنشائها إلى قبول وذلك بشرط تمام ولادته حيًا، عاد في الفقرة الثانية من هذه المادة وأجاز الهبة له إذا كانت خالصة من العوض كما حمله بالالتزامات التي تقتضيها إدارة ماله، وغني عن البيان أن سلطات القيم على الحمل لا تستقر له بصفة نهائية إلا بتمام ولادته حيًا، فإن ولد ميتًا اعتبر كأن لم يكن موجودًا وآل ما كان قد حُجز له من حقوق إلى من كان يستحقها أصلاً.
وإذا كانت شخصية الإنسان تنتهي بموته موتًا حقيقيًا، فإنها قد تنتهي أيضًا باعتباره ميتًا حكمًا وهو أمر يلحق بالإنسان في حالة فقده، وقد آثر المشروع عدم التعرض لأحكام المفقود تاركًا إياها لقانون الأحوال الشخصية.
وعالج المشروع موطن الشخص الطبيعي في المواد (من 11 إلى 14) فصور في المادة (11) منه موطن الشخص تصويرًا واقعيًا يستجيب للحاجات العملية، مستهديًا في ذلك بأحكام الفقه الإسلامي كما فعل التقنين المصري والتقنينات العربية الأخرى التي حذت حذوه. فحدد موطن الشخص بالمكان الذي يقيم فيه على نحو معتاد. وهو ما يترتب عليه حتمًا نتيجتان – الأولى: أنه يجوز ألا يكون للشخص موطن ما، إذا كان ممن لا يقيمون في مكان معين بصفة مستقرة، كالبدو الرحل الذين لا يقر لهم على أرض قرار، والثانية: أنه يجوز أن يكون للشخص الواحد أكثر من موطن، كما إذا كانت للشخص زوجتان يقيم مع كل منهما في مكان على استقلال.
وإذا كانت القاعدة هي أن الموطن العام للشخص يتحدد بالمكان الذي يقيم فيه على نحو معتاد، إلا أنه يجوز أن يحدد القانون موطنًا خاصًا للشخص على أساس آخر، ومن هذا القبيل موطن الأعمال والموطن الحكمي الموطن المختار.
ففي المادة (12) اعتبر المشروع المكان الذي يباشر فيه الشخص تجارة أو حرفة، موطنًا له بالنسبة إلى كل ما يتعلق بهذه التجارة أو الحرفة من أعمال، وفي المادة (13) حدد لعديمي الأهلية وناقصيها موطنًا حكميًا، هو موطن من ينوب عنهم قانونًا، مجيزًا أن يكون لناقص الأهلية موطن خاص بالنسبة إلى التصرفات التي يعتبره القانون أهلاً لأدائها، كالقاصر إذا بلغ الثماني عشرة وأذن له في إدارة أمواله، وغني عن البيان أن الموطن الحكمي أو القانوني لا يكون إلا في الأحوال التي يحددها القانون، وأجاز المشروع – في المادة (14) – اتخاذ موطن مختار لعمل قانوني معين وذلك من باب التيسير على الأفراد في معاملاتهم وخصوماتهم، ولكن القانون قد يوجب أيضًا في بعض الأحيان اتخاذ موطن مختار في مكان معين ومن ذلك ما نصت عليه المادة (175) من قانون المرافعات من وجوب أن يعين طالب أمر الأداء في عريضة طلب الأمر موطنًا مختارًا له في الكويت، ويعتد بالموطن المختار بالنسبة إلى كل ما يتعلق بالعمل القانوني الذي اختير له، ما لم يشترط صراحةً قصر هذا الموطن على أعمال دون أخرى، ولكنه يجب لإثبات الموطن المختار أن يكون اختياره واردًا في ورقة مكتوبة.
وتعرض المواد (من 15 إلى 17) لحالة الشخص العائلية، فتحدد المادة (15) المقصود من الأسرة التي يرتبط بها الشخص سواء بالزواج أو القرابة، كما تحدد ذوي القربى بكل من يجمعهم بالشخص أصل مشترك.
وتقسم المادة (16) القرابة إلى قرابة مباشرة تربط بين الأصول والفروع، وقرابة حواشي تربط بين الشخص وبين كل من يجمعه به أصل مشترك دون أن يكون أحدهم فرعًا للآخر.
وأخيرًا تحدد المادة (17) درجة القرابة المباشرة ودرجة قرابة الحواشي، كما تحدد درجة المصاهرة بدرجة القرابة للزوج.
هذا ولم يشأ المشروع أن يعرض لحالة الشخص من حيث انتمائه إلى الدولة تاركًا أمر ذلك للقانون الخاص بالجنسية (انظر المرسوم الأميري رقم 15 لسنة 1959 بقانون الجنسية الكويتي).
2 - الشخص الاعتباري:
المواد (18 – 21):
يقرر المشروع الشخصية الاعتبارية لكل مجموعة من الأشخاص أو الأموال يعترف لها القانون بهذه الشخصية (المادة 18)، وبذلك فإنه يجب لنشوء الشخص الاعتباري توافر عنصرين، عنصر موضوعي، هو وجود جماعة من الأشخاص أو مجموعة من الأموال بقصد تحقيق غرض معين، وعنصر شكلي، هو اعتراف القانون لهذه المجموعة بالشخصية الاعتبارية وفقًا للشروط والأوضاع التي يحددها.
ولم يضع المشروع بيانًا بالأشخاص الاعتبارية – كما فعلت التقنينات العربية الأخرى – لاعتبارات منطقية وعملية.
فالدولة، وهي أولى الأشخاص الاعتبارية التي تذكرها هذه القوانين، تستمد شخصيتها من طبيعة وجودها ومن العرف والتقاليد ومن ثم يكون من غير المنطقي أن ينص القانون على الاعتراف بالشخصية لها، أما الكائنات الأخرى العامة والخاصة فذات حياة مشتقة من النظام القانوني وتابعة له، تنشأ وتتبدل وتتكاثر تبعًا لتطور أهدافه وتبدل الظروف والأحوال، مما يستقل المشرع بتقديره.
وقد وردت في الدستور إشارات متفرقة إلى بعض من هذه الكائنات كالجمعيات والنقابات والمؤسسات العامة وهيئات الإدارة والبلدية أو الأشخاص المعنوية المحلية العامة (المواد 43 و133 و137 و156). وورد النص في القوانين المتعلقة بالشركات التجارية والجمعيات التعاونية والأندية وجمعيات النفع العام (القوانين 15 لسنة 1960 و20 لسنة 1962 و24 لسنة 1962 على التوالي) على تمتعها بالشخصية الاعتبارية، كما اعترفت قوانين أخرى متعددة بهذه الشخصية لبعض من المؤسسات والهيئات العامة، كالصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية، والهيئة العامة لمنطقة الشعيبة الصناعية، ومؤسسة الخطوط الجوية الكويتية، وبنك التسليف والادخار والهيئة العامة للجنوب والخليج العربي والبنك الكويتي المركزي.
ولذلك فإن المشروع يكتفي ببيان الخصائص الرئيسية للأشخاص الاعتبارية تاركًا تحديد الحقوق التي تتمتع بها هذه الأشخاص وتنظيم الأحكام المتعلقة بها ومدى الرقابة عليها لتقدير المشرع.
ونص المشروع في المادة (19) على أن أهلية الشخص الاعتباري فيما يثبت له من حقوق وما يتحمل به من التزامات – أي أهلية الوجوب – تتحدد بالغرض الذي أنشئ الشخص من أجله، كما تتحدد بما يعينه له القانون من مجال عمل لا يجوز له تجاوزه، فضلاً عما يرسمه له سند إنشائه أو النظام الخاص به من حدود، وغني عن البيان أن تكون للشخص الاعتباري أهلية أداء كنتيجة لازمة لكونه أهلاً للوجوب، فيستطيع أن يقوم - بواسطة ممثله – بأداء التصرفات القانونية في الحدود التي هو أهل لها، بما يستتبعه ذلك من حقه في التقاضي.
ويستقل موطن الشخص الاعتباري عن موطن أعضائه، ويتحدد أصلاً بالمكان الذي يوجد فيه مركز إدارته (المادة 20 فقرة أولى). فإذا كان له فروع في أماكن متعددة، فإن المكان الذي يوجد فيه كل فرع يعتبر موطنًا خاصًا بالنسبة إلى ما يدخل في نشاط هذا الفرع (المادة 20 فقرة ثانية) وذلك تيسيرًا على المتعاملين معه ورفعًا للعنت عنهم.
وأخيرًا تعرض المادة (21) لحالة الشخص الاعتباري الأجنبي الذي يباشر نشاطه في الكويت ويكون مركزه الرئيسي في الخارج. فنصت على اعتبار المكان الذي توجد فيه إدارته المحلية موطنًا له بالنسبة لنشاطه الذي يباشره في داخل الدولة، وذلك حماية لمصالح المتعاملين معه من المقيمين في البلاد.
الفصل الثاني: محل الحق:
المواد (22 - 29):
يبدأ هذا الفصل ببيان محل الحق بوجه عام. ثم يتابع بعد ذلك التقسيمات المختلفة للأشياء المادية. أما الأشياء غير المادية وما يرد عليها من حقوق فسوف يفرد لها قانون خاص.
وتنص المادة (22) من المشروع على أن الأشياء المتقومة هي وحدها التي تصلح محلاً للحقوق المادية. والأشياء المتقومة هي الأشياء التي لا تخرج عن التعامل بطبيعتها أو بحكم القانون.
فلا تكون محلاً للحق الأشياء التي لا يستطيع أحد أن يستأثر بحيازتها كالشمس والهواء، أو تلك لا يجيز القانون التعامل فيها كالخمر والخنزير والحشيش والأفيون، وكذلك الأشياء العامة، ولا يغير من هذا الوصف لتلك الأشياء إجازة نوع معين من التعامل فيها كبيع الأفيون لأغراض طبية وإعطاء رخص للانتفاع ببعض الأشياء العامة.
فالأشياء العامة باعتبارها من الأشياء التي تخرج عن التعامل بحكم القانون، لا يجوز أن تكون محلاً للحقوق المالية، وينص الدستور على أن لها " حرمة وحمايتها واجب على كل مواطن " (م 17).
وقد اعتبرت المادة (23) من المشروع الأشياء المملوكة للدول أو أي شخص اعتباري عام أشياء عامة إذا كانت مخصصة للنفع العام بالفعل أو بمقتضى القانون، ثم رتبت على اعتبارها كذلك ثلاث نتائج:
الأولى: عدم جواز التعامل في تلك الأشياء بما يتعارض مع تخصيصها للنفع العام.
الثانية: عدم جواز الحجز عليها، لأن الحجز بما يستتبعه مع بيع إجباري يتعارض مع ذلك التخصيص.
الثالثة: عدم جواز وضع اليد على هذه الأشياء بما يقتضيه ذلك من عدم جواز كسب أي حق عليها بمرور الزمان.
ومن ذلك يتضح أن المشروع أخذ في تحديد الأشياء العامة، بمعيار التخصيص للنفع العام وهو المعيار الذي تأخذ به غالبية التشريعات ويقره الرأي الراجح في الفقه والقضاء، كما يعتبر المشروع حق الدولة على الأشياء العامة حق ملكية، وهو ما يؤيده نص الدستور في المادة (21) على أن " الثروات الطبيعية جميعها و مواردها ملك الدولة "، ويُجرى عليه العمل حاليًا بشأن العقارات المستملكة فيتم تسجيلها في إدارة التسجيل العقاري باسم الدولة.
وينتهي التخصيص للنفع العام أيضًا بالفعل أو بمقتضى القانون وهو ما تنص عليه الفقرة الثانية من المادة (23)، وبانتهاء التخصيص تصبح الأشياء العامة مملوكة ملكية خاصة للدولة بما يترتب على ذلك من أحكام.
ويعرض المشروع بعد ذلك لتقسيم الأشياء التي يصح أن تكون محلاً للحقوق العينية فيقسمها إلى عقار ومنقول ومثلية وقيمية ثم إلى استهلاكية وغير استهلاكية.
وتعرف الفقرة الأولى من المادة (24) العقار بأنه كل شيء مستقر بحيزه ثابت فيه لا يمكن نقله منه دون تلف أو تغيير في هيئته وفي ذلك يتفق المشروع من الفقه المالكي في تحديد العقار فيدخل فيه الأرض والبناء، وكذلك الشجر لأنه لا يمكن نقله مع الاحتفاظ بصورته التي كان عليها، أما المجلة فتعرف العقار بأنه ما لا يمكن نقله من محل إلى آخر كالدور والأراضي (م 129)، كما يعرفه مرشد الحيران بأنه كل ما له أصل ثابت لا يمكن نقله وتحويله (م 2).
وأخذ المشروع في الفقرة الثانية من المادة (24) بنظرية استقرت في الفقه باسم نظرية المنقول بحسب المآل، وهي نظرية لا يوجد بشأنها في التقنينات الأخرى نص عام، وإن وردت لها بعض التطبيقات في نصوص متفرقة من تلك التقنينات تتعلق بالمحصول الزراعي - وهو عقار طبيعته - فتعتبره منقولاً حكمًا في بعض الأحوال لأن مآله الحتمي أن ينفصل عن الأرض ومن ثم يكون منقولاً بحسب المال (انظر على سبيل المثال المواد 1142 فقرة 1، 1143 فقرة 1 مدني مصري و499 مرافعات مصري، وما يقابلها في التقنينات العربية الأخرى).
على أن نظرية المنقول بحسب المآل لا يقتصر تطبيقها على المحصولات فحسب بل تتسع لتتناول كل ما هو معد للانفصال عن أصله، ومن ثم حرص المشروع على أن يستحدث حكمًا عامًا في شأنها فنص على اعتبار الشيء منقولاً إذا كان انفصاله عن أصله وشيك الحصول، ونظر إليه استقلالاً على هذا الاعتبار، ومن ثم يجب أن يتوافر شرطان لإمكان اعتبار العقار بطبيعته منقولاً بحسب المآل، الأول: أن يكون العقار معدًا بالفعل للانفصال عن أصله في مستقبل قريب، وأن يكون مصيره المحتوم هو هذا الانفصال، وهو ما قد يستخلص من طبيعة الأشياء كما في المحصول والثمار، أو من الإعداد الفعلي من جانب مالك العقار كصاحب الأشجار إذا أعدها للقطع وباعها خشبًا، وصاحب البناء إذا أعده للهدم وباعه أنقاضًا، والثاني: أن يكون التعامل قد جرى لا على أساس حقيقة العقار في الحال، بل على أساس ما يصير إليه في المآل، فإذا باع صاحب الثمار أو البناء ثماره أو بناءه لمشترٍ، وجب أن يكون كل منهما قد نظر في هذا التعامل إلى الثمار أو البناء لا على أنه قائم على الشجر أو على أنه متصل بالأرض، بل على أنه قد تم قطفه أو هدمه فأصبح منقولاً، فهما يتبايعان في منقول لا في عقار.
وإذا كان المشروع قد ناقض في الحالة السابقة طبيعة الأشياء، واعتبر العقار بطبيعته منقولاً بحسب المآل، فإنه يناقضها أيضًا في حالة أخرى عكسية ويعتبر المنقول بطبيعته عقارًا بالتخصيص في بعض الأحوال فينص في المادة (25) على أنه " يعتبر عقارًا بالتخصيص المنقول الذي يضعه صاحبه في عقار يملكه رصدًا على خدمته واستغلاله ". دون أن يشترط في تخصيص المنقول لخدمة العقار أو استغلاله أن يكون التخصيص ضروريًا، وفكرة العقار بالتخصيص منقولة أصلاً عن القانون المدني الفرنسي (م 524 و525)، ويأخذ بها جميع القوانين العربية. وهي تطبيق لفكرة أعم هي فكرة التبعية المتمثلة في قاعدة " الفرع يتبع الأصل " ولذا نجد بعض التقنينات الأوربية يستغني عنها اكتفاءً بفكرة التبعية، وهي ذات الفكرة التي أخذ بها الفقه الإسلامي وفي ذلك تنص المجلة على أن التابع تابع ... (م 47) وعلى أن التابع لا يفرد بالحكم (م 48) وعلى أن من ملك شيئًا ملك ما هو من ضروراته ... (م 49)، كما تنص على أن كل ما جرى عرف البلدة على أنه من مشتملات البيع يدخـل في البيـع من غـير ذكـر ... (م 230) وعلى أن ما كان في حكم جزء من المبيع أي ما لا يقبل الانفكاك عن المبيع نظرًا إلى غرض الاشتراء يدخل في البيع بدون ذكر ... (م 231)، وعلى أن توابع المبيع المتصلة المستقرة تدخل في البيع تبعًا بدون ذكر ... (م 232). ومع هذا فقد رأى المشروع أن يأخذ بفكرة العقار بالتخصيص، لأنها وإن كانت تطبيقًا لفكرة أعم، إلا أنها أكثر تحديدًا ووضوحًا، كما أنها أصبحت مستقرة في التشريعات الكويتية (انظر على سبيل المثال المادة 9 من قانون التأمينات العينية).
وتعالج المادة (26) تقسيم الحقوق. والحقوق بحسب الأصل أشياء معنوية لا تقبل أن تكون عقارًا أو منقولاً ولكن المشروع تبعًا للتقاليد القانونية يقسم الحقوق إلى عقار ومنقول، تبعًا لطبيعة المحل الذي تقع عليه، فيعتبر الحقوق العينية التي تقع على العقار عقارًا، سواء كانت من الحقوق العينية الأصلية أو التبعية، وسواء كانت واقـعة على عقار بطبيعته أو على عقار بالتخصيص.
ولم يجارِ المشروع التقنين المصري والتقنينات التي حذت حذوه (المادة 83 مصري وما يقابلها)، في اعتبارها كل دعوى تتعلق بحق عيني على عقار مالاً عقاريًا لأن الدعوى ليست مالاً وإنما هي وسيلة لحماية الحق عن طريق القضاء. كما لم يعرف المنقول تعريفًا مباشرًا كما فعلت بعض التقنينات العربية ومنها التقنين العراقي الذي يعرف المنقول بأنه " كل شيء يمكن نقله وتحويله دون تلف فيشمل النقود والعروض والحيوانات "، بل اقتصر على أن يقرر في المادة (27) أن " كل ما ليس عقارًا فهو منقول "، وفي ذلك كل الغناء.
وفي تحديد المقصود بالأشياء المثلية والقيمية، نقل المشروع في المادة (28) منه نص المادة (56) من القانون الأردني التي تتفق مع الفقه الإسلامي في تعريفه لهذه الأشياء (قارن المواد 145 - 148 و1119 من المجلة)، وهو تعريف أدق مما جاء في المادة (85) من التقنين المدني المصري التي تنص على أن " الأشياء المثلية هي التي يقوم بعضها مقام بعض عند الوفاء ... " لأن هذا القيام يعتبر نتيجة لكونها مثلية لا تعريفًا لها.
وأخيرًا يعرف المشروع في المادة (29) الأشياء الاستهلاكية بأنها ما لا يتحقق الانتفاع به إلا باستهلاكه أو إنفاقه، معتبرًا كل ما أعد في المتاجر للبيع من الأشياء الاستهلاكية.
الفصل الثالث: استعمال الحق:
المادة (30):
الأصل أن استعمال الحق من جانب صاحبه يعتبر فعلاً مشروعًا ما دام يلتزم فيه مضمون الحق وحدوده كما رسمها القانون. ومن هنا كان السائد زمنًا طويلاً أن صاحب الحق يتمتع بحرية مطلقة في استعمال حقه ولا يكون مسؤولاً عما يصيب الغير من جراء استعماله ولكن غالبية التشريعات الحديثة تقيد من هذه الحرية وتضع على استعمال الحقوق رقابة تكفل مشروعيته، فتُضفي حماية القانون على استعمال المشروع وحده، وتمنعها من الاستعمال الذي ينحرف به صاحب الحق عن طريقه الطبيعي بل وتساؤله عما يسبب للغير من ضرر، أو تمنعه أصلاً من المضي في هذا الاستعمال.
والفكرة قديمة تمتد جذورها إلى الشرائع السالفة، عرفها القانون الروماني في صورتها البدائية البسيطة فأثَّم استعمال الحق إذا قُصد به الإضرار بالغير. وكذلك عرفها الفقه الإسلامي، ولكن دون أن يحصرها في هذه الصورة البسيطة. بل توسع فيها وصاغها نظرية عامة تضارع في دقتها وأحكامها أحدث ما وصلت إليه الشرائع الحديثة وأسفرت عنه مذاهـب المحدثين من فقهاء الغرب. وقننت مجلة الأحكام العدلية هذا الفقه وأوردت له كثيرًا من التطبيقات، فلما تقرر العمل بها في الكويت، انتقلت نظرية التعسف بكل أبعادها إلى القانون الكويتي وذلك قبل إن يتقرر الأخذ بها في كثير من البلاد، فلا غرو إذن أن يتضمن قانون المرافعات الصادر في سنة 1960 تطبيقًا لهذه النظرية، في حالة رفع الدعوى أو الدفاع بقصد الإضرار بالغير (المادة 208)، وأن ينص الدستور بعد ذلك على أن الملكية حق من حقوق الفردية ذات الوظيفة الاجتماعية، ويقصد بذلك - كما جاء في المذكرة التفسيرية - تنظيم وظيفة الملكية بما فيه صالح الجماعة بهدف منع الإضرار بمصلحة المجموع أو إساءة استعمال الحق. فحيث يتعارض حق الملكية مع مصلحة عامة، قُدمت المصلحة العامة. فيما ينبغي أن تقف الملكية حجر عثرة في سبيل تحقيق المصلحة العامة، ولا يدخل هذا في وظيفتها الاجتماعية. وحيث يتعارض حق المالك مع مصلحة خاصة هي أولى بالرعاية من حق المالك فإن هذه المصلحة الخاصة هي التي تقدم، فما ينبغي استعمال حق الملكية فيما يضر بالغير ضررًا غير مشروع ولا يدخل هذا في وظيفتها الاجتماعية.
على أنه إذا كان الأخذ بنظرية عامة للتعسف قد أصبح مبدأ مستقرًا في كثير من التشريعات الحديث إلا أن هذه التشريعات تختلف فيما بينها عند تحديد المعيار الذي يقاس به التعسف فيكتفي بعضها بوضع مبدأ عام دون تحديد لصور التعسف، ومن ذلك معيار الهدف أو الغرض الذي منح الحق من أجله. ويفضل بعضها الآخر تحديد صور التعسف بغير إبراز للمبدأ العام الذي يحكمها، كما فعل المشرع المصري وغالبية القوانين العربية التي نحت نحوه، وإذا كانت الطريقة الأولى بتجردها ومرونتها أكثر مناسبة للعمل التشريعي حتى لا ينحصر معيار التعسف في صور محددة لا يلبث أن يظهر تقدم الزمان وتغير الأوضاع قصورها عن ملاحقة التطور، إلا أنه يعيبها في الوقت ذاته صعوبة تحديد الهدف أو الغرض من كل حق من الحقوق، ولذلك رأى المشروع أن يجمع بين الطريقتين، فيورد المبدأ العام الذي يحكم معيار التعسف، ثم يورد بعده التطبيقات الرئيسية للمبدأ.
وقد عُني المشروع بوضع المبدأ العام متحاميًا – كما فعل القانون المصري – اصطلاح التعسف لسعته وإبهامه، ودمغ استعمال الحق بعدم المشروعية إذا انحرف به صاحب الحق عن الغرض منه أو عن وظيفته الاجتماعية، وتحديد معيار عدم المشروعية بالانحراف عن غاية الحق أو الغرض منه يحظى بتأييد كبير في التشريع والفقه الحديث، أما الوظيفة الاجتماعية للحقوق فهي مكرسة في الدستور.
وفي تعديد التطبيقات الرئيسية لعدم المشروعية، حرص المشروع على أن تكون هذه التطبيقات مستمدة من الفقه الإسلامي بوجه خاص. وأول هذه التطبيقات، عدم مشروعية المصلحة التي تترتب على استعمال الحق، وهو تطبيق يقوم على ضرورة موافقة استعمال الحق لغايته أو الغرض منه، وإلا كان استعمالاً منحرفًا، وفي ذلك فإن المصلحة لا تكون غير مشروعة إذا كان تحقيقها مخالفًا لحكم من أحكام القانون فحسب، بل إنها تكون غير مشروعة أيضًا إذا كان تحقيقها يتعارض مع النظام العام أو الآداب. والتطبيق الثاني، هو استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير، وهو تطبيق استقر عليه الفقه الإسلامي وأخذ به التقنين الألماني (المادة 226)، ونقلته عنه غالبية التقنينات الحديثة. والجوهري في شأنه هو توافر قصد الإضرار ولو أفضى استعمال الحق إلى تحصيل منفعة لصاحبه، وكما يُستخلص هذا القصد من تفاهة المصلحة التي تعود على صاحب الحق، فإنه يستخلص بالأولى من انتفاء كل مصلحة من استعمال الحق. والتطبيق الثالث، هو انعدام التناسب بين مصلحة صاحب الحق وبين الضرر الذي يصيب الغير، وهو ما يُتخذ قرينة على توافر قصد الإضرار بالغير. والتطبيق الأخير، هو استعمال الحق استعمالاً من شأنه أن يلحق بالغير ضررًا فاحشًا غير مألوف، وهو تطبيق يخصه الفقه الإسلامي بكيان مستقل ويوليه كثيرًا من الاهتمام – وقد قننته المجلة في المادة (1198) بقولها " كل أحد له التعلي على حائط الملك وبناءً ما يريد وليس لجاره منعه ما لم يكن ضرره فاحشًا " وعرفت الضرر الفاحش في المادة التالية بأنه " كل ما يمنع الحوائج الأصلية يعني المنفعة الأصلية المقصودة من البناء كالسكنى أو يضر بالبناء أي يجلب له وهنًا ويكون سبب انهدامه " ثم عقبت على ذلك بتطبيقات مختلفة في المواد (من 1200 إلى 1212). وإذا كان هذا التطبيق قد حذف من نص المادة الخامسة من القانون المصري بعد أن كان واردًا في مشروعه التمهيدي، غير أن هذا الحذف لم يكن عدولاً عن اعتباره تطبيقًا للتعسف وإنما اكتفاء بتطبيقه الخاص الوارد في باب الملكية وهو تطبيقه الرئيسي.
يبقى بعد ذلك أن يجتهد القاضي رأيه فيما يعرض عليه من مسائل لا تندرج تحت واحد من هذه التطبيقات، وذلك بإعمال المبدأ العام الذي وضعه المشروع، مهتديًا بأحكام الفقه الإسلامي ومتأسيًا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار ".
وعلى هذا النحو مكن المشروع لنظرية التعسف بين أحكامه العامة، باعتبارها فكرة ملازمة لفكرة الحق ومكملة لها، تستهدف تحقيق مصلحة الجماعة، وتجاوز في دورها وجزائها دور المسؤولية وجزائها التعويضي مما يجعل للقضاء رقابة مبتدأة على استعمال الحقوق إلى جانب رقابته اللاحقة على هذا الاستعمال.
القسم الأول: الحقوق الشخصية أو الالتزامات:
تنقسم الحقوق المالية، بصفة أساسية، إلى حقوق عينية وحقوق شخصية. وهو تقسيم تقليدي قال به الرومان، ولا زال القانون المعاصر في مجموعه يسير عليه إلى الآن، وإن كان قد اتسع بعض الشيء، ليشمل نوعًا جد من الحقوق، وهي تلك التي ترد على ثمرة الفكر والقريحة في جانبها المالي، والتي أُطلق عليها في البداية اسم " حقوق الملكية الأدبية والفنية والصناعية " ثم أخذ الفكر القانوني يبتعد عنه، مضفيًا عليها اسمًا آخر، بعد أن تبين مغايرتها واختلافها عن حق الملكية بمفهومه العلمي، ليقول تارة " الحقوق المعنوية " وتارة أخرى " الحقوق الذهنية ".
والتزام التقسيم التقليدي للحقوق المالية إلى شخصية وعينية كنهج يُتبع في سرد الأحكام التي تتضمنها مدونة القانون المدني، يتمشى تمامًا مع منطق القانون ومقتضيات فنه، سيما وأن أحكام النوع الثالث الذي جد من الحقوق المالية، لينتظم الحقوق المعنوية أو الذهنية، تجد مكانها، وفقًا لما جرت عليه العادة في الدول المختلفة، في قانون خاص بها، نظرًا لما تتسم به من طابع متميز، ولما تتجه إليه من دولية تقوى على مر الزمن.
ثم إن ذلك ليس غريبًا على الفقه الإسلامي. فهو يتجاوب في مجموعه مع ما سار عليه فقهاء المسلمين من تقسيم الحقوق المالية إلى عين ودين. من أجل ذلك رأى المشروع اتباع هذا النهج، فهو ينقسم قسمين أساسيين: يتناول أولهما أحكام الحقوق الشخصية أو الالتزامات. ويتضمن ثانيهما أحكام الحقوق العينية. وذلك بعد أن انتهى المشروع من سرد الأحكام العامة.
والمشروع، في سرده النصوص التي تتضمن أحكام الحقوق الشخصية أو الالتزامات، يتناول بادئ ذي بدء الالتزام بوجه عام، وهي الأحكام التي تدخل فيما يطلق عليه عادةً " نظرية الالتزام ". ثم يتناول أهم العقود المتداولة. من هنا لزم أن ينشطر القسم الأول المتعلق بالحقوق الشخصية أو الالتزامات شطرين، يتضمن أولهما أحكام الالتزام بوجه عام، ويتناول ثانيهما العقود المسماة.
الكتاب الأول: الالتزامات بوجه عام
الأحكام التي تنظم الالتزامات بوجه عام، تتسم بأهمية قصوى في دنيا القانون ككل. فهي التي تقوم عليها المعاملات المالية، أيًا ما كانت طبيعتها بل إن الأسس التي ترسيها نظرية الالتزام كثيرًا ما تراعى في غير المعاملات المالية من مظاهر حياة الناس، وإن لحقها تعديل هنا أو هناك وفقًا لما تقتضيه طبيعة العلاقة المحكومة.
ولأن أحكام الالتزامات بوجه عام، تُرسي الأسس التي تقوم عليها المعاملات المالية، فإن تطبيقها لا يقف عند حدود القانون المدني، بل يتجاوزها أي غيره من فروع القانون الأخرى بوجه عام، لا سيما فروع القانون الخاص، وعلى رأسها القانون التجاري، ثم قانون العمل.
ولقد كان من شأن الأهمية القصوى لأحكام الالتزامات أن أفردت لها بعض الدول مدونة خاصة بها، إما وحدها وإما مع العقود المسماة، بيد أن إفراد مدونة مستقلة لأحكام الالتزام بوجه عام ليس أمرًا ضروريًا، فيمكن لهذه الأحكام أن تجد مكانها المرموق بين دفتي مدونة القانون المدني. فالقانون المدني هو الفرع الأصيل في دوحة القانون الخاص، ومن ثم يمكن لمدونته أن تضم، الأحكام القانونية التي من شأنها أن تسري داخل نطاقه، كما تسري في نطاق غيره من فروع القانون الأخرى، وهي مهمة يضطلع بها بالفعل من قديم في الأغلبية الكبرى من البلاد.
وقد ارتأى المشروع أن يسلك هذا النهج فيتضمن بين نصوصه أحكام الالتزامات بوجه عام، أو أحكام نظرية الالتزام وبهذا تتاح الفرصة لمدونة قانون التجارة الكويتية الجديدة المزمع إصدارها أن تترك هذه الأحكام، لتحل في مكانها الطبيعي المألوف، بعد أن اتسعت لها دفتا مدونة قانون التجارة الحالية.
فقد رأى المشروع الكويتي، عند إصدار قانون التجارة في عام 1961، أن تشمل مدونته نصوصًا تتضمن أحكام نظرية الالتزام، أو أحكام " الالتزامات بوجه عام " كما شاء هو أن يقول، وهو وضع فريد لا يُعرف له مثيل، ولكنه كان أمرًا ضروريًا ليس عنه غناء، فقانون التجارة يتضمن لحكم المعاملات التجارية نصوصًا مستقاة من القانون المعاصر، فلا بد إذن من إرسائها على أسس هي بدورها معاصرة.
ولكن ورود أحكام نظرية الالتزام في مدونة قانون التجارة مع تضمين هذه المدونة نصًا يقضي بقصر سريان ما تضمنته من أحكام على المعاملات التجارية أثار شيئًا من التناقض من وجه، والكثير من التناقض من وجه آخر. فمن وجه أول، أصبحت المعاملات المالية مختلفة في حكمها باختلاف صبغتها المدنية أو التجارية، ليس في الجزئيات والتفريعات فحسب، كما هو الشأن في البلاد المختلفة، بل في ذات الأسس التي تقوم عليها أيضًا، ومن وجه آخر، ثار الجدل حول ما إذا كان يمكن لأحكام نظرية الالتزامات أن تسري خارج نطاق التجارة والتجار، وعلى الأخص كأساس للقواعد التي جاءت بها التشريعات الحديثة التي صدرت في الكويت مؤخرًا، وهي تتضمن أحكامًا مستقاة من القانون المصري، كقانون التسجيل وقانون التأمينات العينية وقانون العمل وقانون تنظيم الالتزامات الناشئة عن العمل غير المشروع وقانون إدارة شؤون القصر وقانون إيجار العقارات والأماكن.
وغني عن البيان أن نظرية الالتزامات تتضمن الأحكام المتعلقة بالالتزام بوجه عام، من غير أن تُعنى بالتزام بعينه، فهي تضم بين رحابها القواعد العامة الأساسية التي تسري على الالتزامات في مجموعها، بغض النظر عن ذاتية كل التزام، مدنيًا كان أم تجاريًا.
والنهج المنطقي لسرد الأحكام الداخلة في رحاب نظرية الالتزام يقتضي السير مع هذا النظام القانوني في مراحل حياته، فيواجه أولاً الالتزام في نشأته وهذا ما يدعو إلى البدء بمصادره على أن تليها الأحكام المتعلقة بآثاره، ثم تلك الخاصة بأوصافه وبانتقاله. وتأتي بعد ذلك المرحلة الأخيرة التي يواجهها الالتزام بالضرورة وهي مرحلة انقضائه، وهو ما التزمه المشروع في عرضه لتلك الأحكام.
وهذا النهج من المشروع ليس مبتدعًا، فقد سارت عليه من قبل مدونة القانون المدني المصري، والمدونات العربية الأخرى التي استوحتها، كمدونة القانون المدني السوري ومدونة القانون المدني العراقي، ومدونة القانون المدني الليبي، ومدونة القانون المدني الأردني، وهو نفس النهج الذي سار عليه بدوره قانون التجارة الكويتي.
ولم يشأ المشروع أن يعرض لقواعد الإثبات، لا بين الأحكام المتعلقة بنظرية الالتزام، ولا بين غيره من أحكامه الأخرى. فقد وجد من الملائم أن يفرد قانون خاص يجمع كافة قواعد الإثبات الموضوعية والإجرائية على السواء.
الباب الأول: مصادر الالتزام
لم يشأ المشروع أن يتضمن نصًا يُعرف الالتزام، وهو في ذلك يخالف ما سارت عليه بعض القوانين الأجنبية، ولكنه يساير غالبية القوانين العربية، كالقانون المصري والقانون العراقي والقانون السوري والقانون الليبي والقانون الأردني.
فحسن صناعة التشريع يأبى أن تلجأ النصوص لتعريف الأنظمة القانونية ما لم تتطلبه ضرورة أو حاجة، فذلك بعمل الفقه أخلق.
ولم يشأ المشروع كذلك أن يعرض في نصوصه لتقسم مصادر الالتزام وردها إلى أصولها، وهو في ذلك يخالف مدونة نابليون التي تبنت التقسيم التقليدي البالي لمصادر الالتزام إلى العقد والجريمة وشبه العقد وشبه الجريمة والقانون، وهو تقسيم وجهت إليه سهام النقد الجارحة لتصيبه في الصميم.
والواقع أن الاتجاه الحديث في التقنين ينبذ التعرض في النصوص لتقسيم مصدر الالتزام. وكان من أول التقنينات التي عرضت عن تقسيم مصادر الالتزام مشروع القانون الفرنسي الإيطالي للالتزامات والعقود، الذي رأى واضعوه بحق أن هذا التقسيم أليق بأغراض التعليم منه بأغراض صناعة التشريع، وجاء القانون المدني المصري، وغيره من القوانين العربية التي استوحته، لتسير في نفس الطريق وهو ما يراه المشروع أولى بالاتباع.
وإذا كان المشروع لا يعرض في ذات نصوصه لتقسيم مصادر الالتزام وردها إلى أصولها، إلا أنه يراعي بالضرورة ترتيبًا معينًا في تناوله، فهو يبدأ بالعقد، وهو المصدر الغالب في أهميته. ثم يتناول الإرادة المنفردة ويعرض بعد ذلك للفعل الضار، ويعقب بالفعل النافع، وينتهي بنشأة الالتزامات التي لا ترتد إلى أصل مما سبق، والتي جرت العادة على أن تُعزى نشأتها إلى القانون.
الفصل الأول: العقد:
العقد هو المصدر الأساسي لنشأة الالتزام، بل الحقوق المالية كلها عامة، وهو يتمثل، في العمل، أهم المصادر على الإطلاق، بل إنه ينشئ وحده، في واقع حياة الناس، الأغلبية الكبرى من الالتزامات، بحيث أن مصادر الالتزام الأخرى، كلها مجتمعة، لا تتناسب معه في الأهمية.
والعقد، إذا كان من شأنه أن يولد الالتزام، بل وغيره من الحقوق والواجبات، فليس هذا الأمر وحده، على جليل خطره، أثره الوحيد. فمن شأن العقد أن يرتب أيضًا آثارًا قانونية أخرى بعيدة المدى. فهو ينقل الحق أو الالتزام. وهو يعدل فيه على نحو أو على آخر، ويمكن له أن ينهيه. وهو بهذه المثابة يتمثل اصطلاحًا قانونيًا متفقًا تمامًا في مدلوله مع اصطلاح الاتفاق.
فالعقد والاتفاق أصبحا، في لغة القانون المعاصر السائدة، اصطلاحين مترادفين، يعني أحدهما ما يعنيه الآخر. وقد دعم هذا النهج سير فقهاء المسلمين في نفس الطريق، حيث استعملوا اصطلاح " العقد " في نفس المعنى الذي يمكن لاصطلاح " الاتفاق " أن يفيده، فضلاً عن شيوع الأول على ألسنتهم وندرة الثاني، لما لاصطلاح " العقد " من دلالة أقوى على ارتباط المتعاقد بما تعاقد عليه.
وقد جاءت في القرآن الكريم كلمة " العقدة " بمعنى العقد، في قوله عز شأنه: " ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله " وكان لهذا القول الإلهي أثره في بعض البلاد العربية كالمغرب، حيث يجري على الألسنة أحيانًا استعمال لفظ " العقدة " بدلاً من العقد. بيد أن الغالب، عند فقهاء المسلمين، هو استعمال اصطلاح " العقد " لعموم قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ".
وإذا كان المشروع يتناول أحكام العقد في الباب المخصص لمصادر الالتزام، فليس معنى ذلك، بطبيعة الحال، أن هذه الأحكام لا تسري عليه إلا حيثما ينتج هذا الأثر. فهي تلزمه في شتى مجالات أعماله، دون تفريق.
وغني عن البيان أن المشروع هنا لا يتناول أحكام عقد بعينه، فهو يستهدف وضع القواعد الأساسية العامة المشتركة في العقود. وبعبارة أخرى هو يتناول أحكام العقود بوجه عام، وهو ما درج الفقه على أن يطلق عليها " نظرية العقد ".
والأحكام التي يتضمنها المشروع في هذا الفصـل، اعتبارًا بأنها ترسي الأسس العامة المشتركة، تسري على العقود المالية كلها، مدنية كانت أم تجارية أم غيرها، وسواء أكانت هذه العقود مسماة أم غير مسماة، وذلك ما لم يقضِ القانون، في شأن عقد معين، بحكم خاص به، أو اقتضته طبيعة هذا العقد.
تعريف العقد (م 31):
تباين أمر التقنينات، في الدول المختلفة، في شأن تضمن النصوص تعريفًا للعقد. فبعضها سار عليه، وسلك نفس النهج قانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 103). والبعض الآخر تجنب إيراد تعريف له.
وإذا كان الأصل هو أن تعريف الأنظمة القانونية أخلق أن يترك للفقه، على أن المصلحة قد تدعو التشريع أحيانًا إلى أن يتناوله. ويظهر ذلك، على وجه الخصوص، إذا كان من شأن إيراد التعريف في النص أن يبرز فلسفة النظام ويرسي أسسه، سيما إذا تعلق الأمر بنظام فذ وعملاق كالعقد.
وقد عرفت المادة (31) من المشروع العقد بقولها: " العقد هو ارتباط الإيجاب بالقبول على إحداث أثر يرتبه القانون ". ومقتضى هذا التعريف أن يبرز في شأن الرضاء بالعقد - وهو الركن الأساسي فيه - أمرين أساسين: الأول: ارتباط الإيجاب بالقبول، وهو ما يكون الإرادة المشتركة، الثاني: اتجاه الإرادة المشتركة إلى إحداث أثر قانوني.
ولم يشأ المشروع أن يساير الكثرة الغالبة من التقنينات في تعريفها العقد تارة بأنه اتفاق وتارة بأنه توافق إرادتين أو أكثر. فالاتفاق أو التوافق لا يكفي في ذاته لقيام العقد، ما بقيت الإرادة كامنة في نفس صاحبها، لم تتجاوزها إلى العالم الخارجي عن طريق التعبير عنها، وهو ما يُطلق عليه في الفقه الإسلامي، (الصيغة)، ثم إنه ينبغي أن يجيء القبول حالة كون الإيجاب باقيًا لم يسقط لسبب أو لآخر. وعبارة ارتباط الإيجاب بالقبول أخلق بأن تبرز هذه الأمرين كليهما.
وارتباط الإيجاب بالقبول، كأساس للعقد، قول مستمد من الفقه الإسلامي، وهو شائع على ألسنة رجاله وأوردته المجلة (المادة 103) ومرشد الحيران (المادة 262)، كما أورده أخيرًا مشروع تقنين الشريعة الإسلامية على مذهب الإمام أبي حنيفة، الذي أصدره مجلس البحوث الإسلامية بالقاهرة (المادة 3). وقد أقام القانون العراقي تعريف العقد على ذلك القول، فنقل عن مرشد الحيران، في المادة (73) منه النص على أن: " العقد هو ارتباط الإيجاب الصادر من أحد العاقدين بقبول الآخر على وجه يثبت أثره في المعقود عليه "، وجاء قانون التجارة الكويتي الحالي وتبنى نفس التعريف. في المادة (103) منه. وأخذ القانون الأردني في المادة (87) منه، بالتعريف ذاته مع شيء من الإضافة إليه.
ولم يشأ المشروع أن يأخذ بنفس التعريف الذي أورده قانون التجارة الكويتي الحالي، نقلاً عن القانون العراقي ومرشد الحيران، فهو من ناحية يعمم ارتباط الإيجاب بالقبول، دون أن يخصه بحصوله بين متعاقد وآخر، لإمكان أن يقوم العقد بين أكثر من طرفين، كما هو الشأن في الشركة والقسمة.
ومن ناحية أخرى، حرص المشروع على أن يذكر أن ارتباط الإيجاب بالقبول يرد في شأن إحداث أثر قانوني، بدلاً من القول بأن يرد " على وجه يثبت أثره في المعقود عليه " لإبراز ما يمكن للأثر المترتب على العقد من عمومية وشمول، وهو في إبراز هذه الفكرة، لم يشأ أن يجاري القانون الأردني الذي أضاف إلى القول بأن ارتباط الإيجاب بالقبول يكون على وجه يثبت أثره في المعقود عليه، عبارة " ويترتب عليه التزام كل منهما (المتعاقدين) بما وجب عليه للآخر، فأثر العقد أعم من أن ينشئ الالتزام، فيمكن له أن يعدل في التزام قائم، أو ينقله أو ينهيه.
فجوهر العقد أن يستهدف إنشاء أثر قانوني، أيًا ما كان هذا الأثر، وقد حرص المشروع على أن يبرز هذه الفكرة، حتى يبدد كل مظنة، وعلى الأخص ما ثار منها في خصوص النقل بالمجان، حيث التبس الأمر في شأن قيام عقد، سواء أكان عقد النقل أو غيره، وما يترتب عليه من الالتزام بضمان السلامة، وهو اتجاه رفضه القضاء بحق، اعتدادًا بانتفاء القصد في ترتيب أثر قانوني. ولا يهم بعد ذلك طبيعة الأثر القانوني المبتغى. فسواء أن يتعلق بالمعقود عليه مباشرة، كما إذا كان من شأنه أن ينقل ملكيته، أو يتعلق بأمر آخر من أمور إنشاء الالتزام أو تعديله أو نقله أو انتهائه، وهذا ما يتفق تمامًا مع ما سار عليه فقهاء المسلمين من التمييز بين حكم العقد، بمعنى ما يترتب عليه من أثر مباشر في المعقود عليه، كنقل ملكية المبيع إلى المشتري، وبين حقوق العقد، بمعنى آثاره المترتبة في ذمة المتعاقد. كالتزام البائع بالتسليم والتزامه بالضمان والتزام المشتري بدفع الثمن.
الفرع الأول – انعقاد العقد:
المواد (32 – 192):
تعدد المادة (32) أركان العقد التي لا يقوم بغير توافرها كلها مجتمعة، وتقضي بانعقاده بمجرد توافرها. وأركان العقد هي الرضاء – المتمثل في ارتباط الإيجاب بالقبول – والمحل والسبب، وذلك فضلاً على الشكل الذي يتطلبه القانون، في حالات خاصة، لانعقاد العقد.
وقد حرص المشروع، في هذه المادة، على أن يذكر المحل والسبب، باعتبارهما ركنين لازمين لانعقاد العقد، جنبًا إلى جنب مع الرضاء، وهو في ذلك يسير على نهج المادة (1103) من القانون المدني الفرنسي، بعد أن استبعد منها أهلية التعاقد، اعتبارًا بأنها لا ترتقي إلى مرتبة ركن في العقد، وبأن عدم توافرها لا يمنع من ذات انعقاده، وإنما يعيب الرضاء به فحسب بما يجعله قابلاً للإبطال.
ولم يشأ المشروع أن يساير بعض التقنينات الغربية التي تقول بقيام العقد بمجرد ارتباط الإيجاب بالقبول، أو توافق الإرادة، من غير ذكر للمحل والسبب. كما أنه لم يشأ أن يساير تقنينات أخرى عربية، كالقانون المصري (المادة 89)، والقانون الأردني (المادة 90)، التي وإن لم تذكر بدورها المحل والسبب كركنين لازمين لانعقاد العقد، قرنت توافق الإرادة، أو ارتباط الإيجاب بالقبول، بوجوب " مراعاة ما يقرره القانون فوق ذلك من أوضاع معينة لانعقاد العقد "، فالعقد لا ينعقد بتوافر الرضاء وحده. وإنما يلزم إلى جانبه المحل والسبب، وهذا أمر جوهري ينبغي التصريح به. ولا يجزئ عنه ذكر عبارة عامة تفيد وجوب مراعاة ما يقرره القانون من أوضاع معينة لانعقاد العقد. لأن هذه العبارة قد تنصرف إلى الشكل الذي يتطلبه القانون، في حالات خاصة. وهو بالفعل المعنى الذي يقصده منها المشروع، وهي على أية حال أدنى من أن تدل دلالة واضحة على أمرين يتمثلان ركيزتين أساسيتين يقوم العقد عليهما، إلى جانب الرضاء، وعلى نفس المرتبة معه.
وفي القول بأن العقد ينعقد إذا ورد الرضاء على محل واستند إلى سبب معتبرين قانونًا، لم يشأ المشروع أن يقف عند الجدل الذي ثار في الفقه حول ما إذا كان المحل أو السبب يعتبر ركنًا في الالتزام أو في العقد أو حتى في الإرادة، فأيًا ما كان من أمر الخلاف الذي نشب في هذا الخصوص، فإن كل ما يتعلق بالالتزام ينعكس بالضرورة على العقد الذي من شأنه أن يولده. فالمحل المباشر للعقد هو الالتزامات التي ينشئها. وبهذه المثابة، يتمثل ما يعتبر ركنًا في الالتزام، ركنًا في العقد أيضًا، وإن كان ذلك بطريق غير مباشر.
1 - الرضاء:
تواجه المادة (33) بفقرتيها رضاء المتعاقد الذي من شأنه أن يكون الرضاء بالعقد، عند اقترانه برضاء المتعاقد الآخر، وتبين عنصريه اللازمين لقيامه، وهما: الإرادة والتعبير عنها.
وتتناول الفقرة الأولى عنصري الرضاء السابقين من حيث الموضوع، متطلبة توافرهما. إذ أن الرضاء لا يقوم بغير الإرادة. ولا تتوافر الإرادة في المتعاقد، إلا إذا وعى وتدبر أمر التعاقد الذي هو قادم عليه، وانتهى إلى أن يقصده. بيد أن توافر الإرادة وحده لا يكفي، فالقانون لا يعتد بالإرادة طالما بقيت حبيسة في نفس صاحبها، فلابد أن تخرج إلى العالم الخارجي الملموس. ويتم ذلك عن طريق التعبير عنها. وبهذا يمكن أن يقال إن الإرادة التي يعتد بها القانون في إنشاء العقود والتصرفات القانونية بوجه عام، تمر بمراحل ثلاثة: التدبير والتقرير والتعبير.
والمرحلتان الأوليان نفسيتان. أما الثالثة فتأخذ مظهرًا ماديًا.
وتعرض الفقرة الثانية من المادة للإرادة من حيث الإثبات، وهي تقيم قرينة على توافرها عند إجراء التصرف، تمشيًا مع الغالب في شأن الناس، واستقرارًا للمعاملات بينهم. ولكن هذه القرينة بسيطة. فيجوز إثبات عكسها ممن يدعيه. ثم إن هذه القرينة لا يمكن لها أن تقوم بمخالفة حكم يمليه القانون بانعدام الإرادة كما هو الشأن في حالة الصبي غير المميز.
( أ ) التعبير عن الإرادة:
وتعرض المادة (34) لطريقة التعبير عن الإرادة. وهي مستوحاة من نص المادة (90) من القانون المصري والنصوص الأخرى التي أخذت عنه، وعلى الأخص نص المادة (106) من قانون التجارة الكويتي ونص المادة (93) من القانون الأردني، دون أن تأتي بحكم مغاير.
وحكمها يتمشى مع الاتجاه الغالب، سواء في القانون المعاصر أم في الفقه الإسلامي، من إطلاق الصورة التي يجيء عليها، التعبير عن الإرادة، بالتمكين له أن يأتي بأي طريق كان، طالما كان من شأن هذا الطريق أن يدل على حقيقة الإرادة بغير لبس أو غموض. فهي تقضي بأن التعبير عن الإرادة يمكن أن يحصل باللفظ، أو بالكتابة، أو بالإشارة الشائعة الاستعمال - أي تلك التي يعم بين الناس استعمالها في نفس المدلول - أو بالمبادلة الفعلية الدالة على التراضي - وهو ما يُطلق عليه، في الفقه الإسلامي " تعاقد المعاطاة " - أو باتخاذ أي موقف آخر غير ما ذُكر، إذا كانت ظروف الحال لا تدع شكًا في دلالته على حقيقة المقصود منه.
ولم يشأ المشروع أن يساير نص المادة (106) من قانون التجارة الكويتي الحالي ونص المادة (93) من القانون الأردني في حرصهما على ذكر أن الإشارة تصلح تعبيرًا عن الإرادة، ولو وقعت من غير الأخرس، مكتفيًا بإيراد لفظ الإشارة في عمومه، اعتبارًا بأنه يعنيها ما دامت شائعة بين الناس، أيًا ما كان الشخص الذي صدرت منه، أخرس كان أم غير أخرس.
ولم يشأ المشروع كذلك أن يعرض للجدل الذي ثار في الفقه الإسلامي حول الصيغة التي يأتي عليها اللفظ الدال على الرضاء، سواء أكانت صيغة الماضي أم المضارع أم الأمر، وهو جدل ترك أثره في بعض تقنيناتنا العربية، كقانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 105)، والقانون المدني العراقي (المادة 77) والقانون الأردني (المادة 93). فالأمر مرده إلى الدلالة على حقيقة القصد، على نحو ما يتبينه قاضي الموضوع. وسيان بعد ذلك أن يأتي اللفظ على صيغة أو على أخرى. وهو من بعد الأمر الذي يسود في الفقه الإسلامي، وعلى الأخص وفقًا لما يقول به المذهب المالكي والمذهب الحنبلي.
وقد حرص المشروع على أن يشير، في عجز المادة الرابعة والثلاثين إلى ما قد يورده المشرع - في حالات خاصة - من قيود على مبدأ إطلاق طريقة التعبير عن الإرادة، ليتحفظ على الأخص، في شأن الشكل، حينما يستلزمه القانون لذات انعقاد العقد.
وتعرض الخامسة والثلاثون للتعبير الضمني عن الإرادة، وهو ذاك الذي تستخلص فيه الإرادة دلالة من ظروف الحال، بعد إعمال الفكر في الاستنتاج المنطقي، وهي تقرر جواز هذا النوع من التعبير عن الإرادة كأصل عام، مستثنية الحالات التي يقضي فيها القانون أو الاتفاق بأن يجيء التعبير عن الإرادة صريحًا، وتلك التي يكون من شأن طبيعة المعاملة ذاتها أن تستوجبه في خصوصها.
وحكم هذه المادة متفق مع ما يقضي به القانون المعاصر والفقه الإسلامي على حد سواء، وهو مستمد من المادة 90/ 2 مصري، بعد أن رئي إضافة طبيعة المعاملة كاستثناء للحالات التي يمكن فيها أن تستظهر الإرادة دلالة من ظروف الحال، إلى جانب القانون والاتفاق، إذ قد يكون من شأن جسامة الأثر المترتب على المعاملة أن يتطلب التعبير المباشر الصريح.
وتعرض الفقرة الأولى من المادة السادسة والثلاثين للتعبير عن الإرادة، من حيث قيامه وإنتاج أثره، وتحرص على التفرقة بين هذين الأمرين، فقد يوجد التعبير عن الإرادة، بأن يكتمل له مظهره المادي، من غير أن يترتب عليه الأثر القانوني المبتغى منه، على نحو ما تقرره أغلب التشريعات المعاصرة من تراخي هذا الأثر إلى وقت اتصال التعبير عن الإرادة بعلم من يوجه إليه.
وهذا التصور قائم أيضًا في الفقه الإسلامي، بالنسبة إلى الإيجاب، عند التعاقد بوساطة رسول، ففكرة وحدة مجلس العقد تؤدي إلى عدم الاعتداد بالتعبير الصادر من الموجب، قبل أن تبلغ الرسالة إلى الموجب له، حيث يبدأ بهذا التبليغ انعقاد مجلس العقد.
وتقرر المادة أن التعبير عن الإرادة يتكامل له وجوده، بمجرد صدوره من صاحبه، وهذا أمر ظاهر لا خلاف فيه.
إنما الخلاف الذي يمكن أن يثور يتعلق بالأثر القانوني الذي من شأن التعبير أن يحدثه، فقد يمكن لهذا الأثر أن يترتب فور صدور التعبير، وهنا يختلط الوجود القانوني للتعبير مع وجوده المادي، وقد يمكن لأثر التعبير أن يتراخى إلى وقت يلي صدوره. فيتفرق عندئذٍ الوجودان.
وقد آثر المشروع أن يأخذ بوجهة النظر الثانية فجعل أثر التعبير عن الإرادة متراخيًا إلى وقت اتصاله بعلم من يوجه إليه، مسايرًا في ذلك كثرة غالبة في التقنينات الحديثة، وهذا هو ما يقضي به على وجه الخصوص القانون الألماني (المادة 130) وإن كان قد جعل إنتاج التعبير أثره رهينًا بوصوله إلى من وجه إليه، ومدونة الالتزامات السويسرية (المادة 9)، ومشروع القانون الفرنسي الإيطالي (المادة 2/ 4)، والقانون البرازيلي (المادة 1081).
وهو ما يقضي به أيضًا القانون المصري (المادة 91)، وتبعه فيه القانون الليبي (المادة 91)، ووافقه فقه القانون العراقي وإن لم يصرح به. ولم يأخذ بحكم مغاير من التقنينات العربية التي أخذت أحكامها عن القانون المصري إلا القانون السوري، حيث ترك على غير عادته، نص المادة (91) مصري، وتضمن نصًا (المادة 98) يوحي بأنه يغايره في الحكم.
أما قانون التجارة الكويتي، فقد جاء على غرار القانون العراقي، آخذًا، في صدد القبول عند التعاقد بين الغائبين، بحكم تراخي أثر التعبير عن الإرادة إلى وقت اتصاله بعلم من وجه إليه، دون أن يصرح به كمبدأ عام (المادة 112).
وغني عن البيان أن تراخي أثر التعبير إلى فترة تأتي بعد صدوره لا يكون إلا في العقود، أما في التصرف القانوني الصادر من جانب واحد، فلا يوجد فيه طرف آخر يوجه التعبير إليه، ومن ثم ينتج التعبير عن الإرادة أثره بمجرد صدوره من صاحبه، طالما يظهر أنه يتضمن منه عزمه النهائي على إبرام التصرف.
ولا تظهر أهمية تراخي أثر التعبير عن الإرادة إلى وقت اتصاله بعلم من يوجه إليه إلا في التعاقد بالمراسلة بين الغائبين.
إذ توجد فيه بالضرورة فترة من الزمن، تطول أو تقصر، بين صدور التعبير من صاحبه، ووصوله إلى من يرسل إليه. أما في التعاقد بين الحاضرين، سواء أكان في مجلس العقد أو عن طريق الهاتف أو ما يشابهه، فلا تظهر الأهمية السابقة. إذ أن صدور التعبير ووصوله يتمان في نفس الوقت.
وتعرض الفقرة الثانية من المادة السادسة والثلاثين لإثبات وصول التعبير عن الإرادة إلى علم من يوجه إليه، لاتسامه بأهمية لا تخفى، ما دام أثر التعبير مناطًا بهذا الوصول، وهي تجعل من وصول التعبير إلى من يوجه إليه قرينة على علم هذا به. وهو حكم تقتضيه طبيعة الأمور ذاتها. إذ أنه يتمشى مع الغالب حصوله في واقع حياة الناس، ثم إنه يتعذر عملاً على من صدر التعبير منه إثبات العلم به ممن وجه إليه، ومن ثم لزم أن يتحول عبء الإثبات. على أن القرينة هنا بسيطة، فيجوز دحضها بإثبات العكس ممن يدعيه.
وتقضي المادة (37) بإمكان العدول عن التعبير عن الإرادة، برغم صدوره من صاحبه، ومنعه بالتالي من أن يرتب أثره، طالما أن هذا العدول قد وصل إلى من وجه إليه التعبير، قبل وصول هذا التعبير ذاته إليه، أو في نفس الوقت. ففي هذه الحالة يُعتبر التعبير كأن لم يكن.
ولا عبرة هنا بعلم من وُجه إليه التعبير بحصول العدول عنه أو عدم علمه به، طالما أنه قد وصل إليه في وقته. إذ لا يقبل منه هنا أن يدعي علمه بالتعبير وعدم علمه بالعدول عنه، أو علمه بالأول قبل الثاني.
والحكم الذي تقضي به المادة (37) هو نتيجة منطقية للحكم الذي تقضي به المادة (36)، وتظهر أهمية هذا الحكم، بشكل واضح بالنسبة إلى القبول، حيث يجوز لمن أرسل إلى الموجب، يبلغه بقبوله أن يعدل عنه، وبهذا يستطيع أن يقيل نفسه من الصفقة، إذا ندم على ارتضائها، بيد أن هذا الحكم لا يعدم كل فائدة بالنسبة إلى الإيجاب. فتظهر له فائدته في الحالات التي يكون فيها الإيجاب ملزمًا له، لا يستطيع الرجوع فيه. إذ بالعدول، لا يتمثل التعبير إيجابًا أصلاً.
وهذا الحكم يتمشى أيضًا مع الروح السمحة للشريعة الإسلامية الغراء، التي من شأنها أن تسمح بالعدول عن ارتضاء الصفقة، طالما أنه لم يتعلق بهذا الرضاء حق للغير معتبر شرعًا. وهو يتجاوب مع الحديث النبوي الشريف: " من أقال نادمًا بيعته، أقال الله عثرته يوم القيامة ".
وتواجه المادة (38) موضوعًا ثار حوله الخلاف واحتدم، في القانون المعاصر، وفي الفقه الإسلامي على حد سواء. وهو موضوع عدم مطابقة التعبير عن الإرادة لحقيقة قصد صاحبه. فقد يختلف التعبير عن الإرادة، أو ما يُطلق عليه في لغة الفقه الإسلامي " الصيغة "، مع حقيقة ما انتواه صاحبه وعقد العزم عليه، وقد يحصل ذلك عن قصد أو عن غير قصد.
وأيًا ما كان من أمر الصورة التي يجيء عليها الاختلاف بين حقيقة الإرادة وبين التعبير عنها، فإنه يجب حسمه على نحو أو على آخر، وتتنازع هذا الأمر، في القانون المعاصر، نزعتان: نزعة تغلب الإرادة الحقيقية أو ما يُطلق عليها الإرادة الباطنة، ولا تعتد بالتعبير عنها، إلا إذا جاء مطابقًا لها، وفي حدود تلك المطابقة. وهذه هي النزعة اللاتينية التي تستند أساسًا إلى القانون الفرنسي. أما النزعة الأخرى فهي تغلب التعبير عن الإرادة أو ما يُطلق عليه الإرادة الظاهرة أو الإعلان عن الإرادة. وهذه هي النزعة الجرمانية.
وهذا التغاير في أساس الحكم الذي نجده في ظل القانون المعاصر بين النزعتين اللاتينية والجرمانية، نجده أيضًا في ظل الفقه الإسلامي، بين مذاهبه المختلفة، فالمذاهب الإسلامية لم يتفق فيها بدورها الرأي حول الحكم الواجب اتباعه، عند الاختلاف بين الإرادة الباطنة – وتُسمى عند الفقهاء بالقصد أو النية – وبين الإرادة الظاهرة، وتُسمى بالصيغة. فمن هذه المذاهب ما يغلب الإرادة الباطنة، ومنها ما يغلب الإرادة الظاهرة. وقد بلغ الأمر عند بعض المذاهب، في اعتدادها بالإرادة الظاهرة، إلى حد القول بأن عبارة الهازل تصلح لإنشاء العقود وترتب الآثار عليها، دون فرق في ذلك بين عقد وعقد (وهذا هو الراجح في مذهب الشافعية). وإن كان الغالب في الفقه الإسلامي هو عدم الاعتداد بعبارة الهازل، إلا فيما يكون فيه حق لله تعالى، اعتبارًا بأن حق الله - جلت قدرته - لا يكون موضعًا للهزل (مذهب الحنابلة وأكثر المالكية). وأساس هذا الرأي قوله صلوات الله عليه " ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعِتاق ". وفي بعض الروايات أُضيفت الرجعة، وفي بعضها الآخر، أُضيفت اليمين. أما الحنفية، فيعتدون بإرادة الهازل، حتى في غير ما كان فيه حق لله تعالى، ولكن فقط من حيث كونها تصلح لانعقاد العقد، دون أن تكفي لصحته. فالعقد القائم على إرادة الهازل، عند الحنفية، ينعقد (لتحقيق الاختيار بمعنى القصد إلى التكلم بالعبارة)، ولكنه ينعقد فاسدًا (لفوات الرضاء، أي لانعدام الإرادة).
وقد ارتأى المشروع أن يحسم الخلاف بحكم توفيقي يتمشى مع منطق العقد ودور الإرادة فيه باعتبارها الأساس المكين لقيامه، وذلك من غير أن يضحي بما ينبغي أن يسود المعاملات من الثقة والائتمان والاستقرار. فهو ينزع، في الفقرة الأولى من المادة، إلى تغليب الإرادة الباطنة ويقرره كمبدأ عام، ثم يجيء في الفقرة الثانية، فيرخص لمن وجه إليه التعبير غير المطابق لحقيقة القصد، أن يعتد به، شريطة أن يثبت أنه عول عليه، حالة كونه يعتقد عندئذٍ مطابقته لحقيقة الإرادة، ومن غير أن يكون من شأن ظروف الحال أن تثير الشك حول تلك المطابقة.
وبهذا يلزم للاعتداد بالتعبير المخالف لحقيقة القصد أمران الأول: التعويل على التعبير، بمعنى أن يرتب من وجه إليه أموره على أساسه. الثاني: حسن النية، بأن يكون من وجه التعبير إليه معتقدًا مطابقته لحقيقة قصد غريمه، دون أن يكون من شأن ظروف الحال أن تثير الشك حول تلك المطابقة. وقد دفع المشروع إلى هذا رغبته في عدم التضحية بالإرادة الحقيقية، التي هي قوام العقد وأساسه، إلا في الحدود التي يتطلبها توفير الثقة والائتمان واستقرار المعاملات. وهو الاعتبار الذي يسوغ أمامه التضحية بحقيقة الإرادة.
الإيجاب:
تعرض المواد (من 39 إلى 42) للإيجاب، باعتباره الخطوة الأولى لقيام العقد.
وتعمد المادة (39) لتحديد ما يعتبر إيجابًا، يقوم العقد بقبوله، فقد يدق، في بعض الأحيان، تكييف ما يصدر من المتعاقد أهو إيجاب أم هو مجرد دعوة إلى التعاقد، أو من قبيل التفاوض بشأنه. ولهذا التكييف أهمية لا تخفى. فالإيجاب خطوة إلى العقد، تصل به إليه بمجرد أن يقترن به القبول، وعندئذٍ يمتنع على صاحبه الرجوع والنكوص. أما الدعوة إلى التعاقد، فإن تلبيتها تتضمن إيجابًا، يلزم قبوله من وجهها، ليقوم العقد، وبهذا المثابة، يجوز لهذا الأخير أن يتحلل من إبرام العقد، مع عدم الإخلال بما تقتضيه قواعد المسؤولية التقصيرية من تحميله بالتعويض، إذا كان له محل.
وقد عمد المشروع إلى وضع معيار مرن، من شأنه أن يساعد في تحديد ما إذا كان الإيجاب قد قام يتربص القبول، أم أنه لم يقم بعد، وينبني هذا المعيار على أمرين جوهريين، الأول: العزم النهائي من العاقد على إبرام العقد. فلا تكفي مجرد الرغبة فيه، إن لم تصل إلى حد البت. الثاني: أن يكون العرض قد حصل على صورة، بحيث يمكن للعقد أن يقوم على أساسه، بمجرد أن يقترن به القبول ممن وجه إليه. وهذا الأمر وذاك يتطلبان في العرض، لكي يرتقي إلى مرتبة الإيجاب، أن يتضمن، في الأقل طبيعة العقد وشروطه الأساسية.
ولم يشأ المشروع أن يقف عند نص اتفقت المادة (105) من قانون التجارة الكويتي الحالي، والمادة 77/ 1 من القانون المدني العراقي، والمادة 91/ 1 من القانون المدني الأردني، على أن تأتي به بحرفيته، قائلة كلها إن: " الإيجاب والقبول كل لفظين مستعملين عرفًا لإنشاء العقد. وأي لفظ صدر أولاً فهو إيجاب والثاني قبول ... " كما أنه لم يشأ أن يقف عند نص المادة (101) من المجلة التي تقضي بأن: " الإيجاب أول كلام يصدر من أحد العاقدين لإنشاء التصرف، وبه يوجب ويثبُت التصرف "، فكل من هذين النصين لا يحقق الغاية التي استهدفها المشروع وهي تحديد ما يعتبر إيجابًا وتمييزه عما قد يصاحبه من مقدمات أو مفاوضات.
وتعرض المادة (40) لصورة من صور الإيجاب شائعة في واقع حياة الناس وهي صورة الإيجاب المقدم للجمهور، فتقرر الفقرة الأولى مبدأ جواز مجيء الإيجاب في هذه الصورة بعد أن تقيدها بقيد تقتضيه طبيعة الأمور ذاتها، ومؤداه ألا تكون شخصية المتعاقد ذات اعتبار أساسي في التعاقد، فالعرض الذي يوجهه مثلاً رب عمل للجمهور في شأن تشغيل العمال عنده لا يكون إيجابًا حتى لو تضمن شروط العقد الأساسية، لما لشخصية العامل من اعتبار أساسي في التعاقد.
وقد حرص المشروع على أن يتحفظ، في شأن الإيجاب الموجه للجمهور، بوجوب مراعاة ما تقتضيه ظروف الحال، إذ أن الإيجاب هنا يرد بالضرورة معلقًا على إمكانية تمشي صاحبه مع مقتضاه.
وتجيء الفقرة الثانية لتخص بالذكر، حالة عرض البضائع في واجهات المتاجر أو ما يشبهها مع بيان أثمانها، باعتبارها أكثر حالات العرض الموجه للجمهور شيوعًا في العمل، مضفية عليه وصف الإيجاب. ولا يعدو هذا الحكم أن يكون مجرد تطبيق للمبدأ الذي قررته الفقرة الأولى.
أما الفقرة الثالثة، فتعرض لحالات النشر والإعلان وإرسال وتوزيع قوائم الأسعار الجاري التعامل بها وكل بيان آخر متعلق بعروض أو طلبات موجهة للجمهور أو لأفراد معينين، وتقرر أنها لا تعتبر، بحسب الأصل إيجابًا، ولا يخالف هذا الأصل إلا إذا استبان عكسه من ظروف الحال. وهذا الحكم يتمشى تمامًا مع الغالب حصوله في العمل. حيث أنه يقصد في العادة بإرسال ما سبق، الدعاية، أو في الأكثر الدعوة إلى التعاقد.
وحكم الفقرتين الثانية والثالثة مستمد في أصله من المادة 7/ 2 و3 من مدونة الالتزامات السويسرية، والمادة (73) من مدونة القانون البولوني، وقد أخذه عنهما مشروع تنقيح القانون المدني المصري (المادة 134). وعن هذا الأخير، انتقل إلى قانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 107).
وقد حرص المشروع، في الفقرة الثانية من المادة (40) على أن يورد على مبدأ اعتبار عرض البضائع مع بيان أثمانها إيجابًا تحفظًا تفرضه طبيعة الأمور مؤداه وجوب مراعاة ما تقتضيه التجارة من أوضاع. ولهذا التحفظ ما يبرره. فقد لا يقصد التاجر، بعرض سلعة معينة في واجهة محله، أن يوجب بيعها بذاتها، وإنما بيع سلعة أخرى تماثلها. وقد لا تكون في المتجر سلعة غير تلك المعروضة في واجهته. فيعمد التاجر إلى إبقائها فيها على سبيل الدعاية لا أكثر، انتظارًا منه لوصول غيرها.
وتعرض المادة (41) للأثر المترتب على الإيجاب. وتتنازع هذا الحكم في القانون المقارن فكرتان: تقوم أولاهما على التزام الموجب بإيجابه، فتحرمه من الرجوع فيه، ما لم يتضمن ما ينم عن قصده في الاحتفاظ بحقه في ذلك. أما الفكرة الثانية، فلا تضفي على الإيجاب في ذاته صفه الإلزام، وتخول بالتالي لصاحبه أن يرجع فيه، طالما لم يقترن به بعد قبول، وهذه الفكرة هي التي تسود في الغالبية الكبرى من القوانين المعاصرة، ومنها قانون التجارة الكويتي الحالي، وهي الفكرة التي تسود أيضًا في الفقه الإسلامي، حيث يثبت للموجب ما يطلق عليه الفقهاء (خيار الرجوع). وقد أخذت بها المجلة بدورها (المواد 182 - 185)، وذهب رأي في المذهب المالكي يقول بلزوم الإيجاب على صاحبه، حتى أنه إذا رجع فيه، وصدر مع ذلك القبول في مجلس العقد، انعقد العقد (راجع الخطاب ج 4 ص 240).
وقد آثر المشروع أن يأخذ بمبدأ عدم لزوم الإيجاب على صاحبه، لما فيه من التيسير عليه، بمنحه فرصة التحلل من العقد، إذا أصبح عنه راغبًا.
وتورد الفقرة الثانية استثناءً على مبدأ عدم لزوم الإيجاب على صاحبه ومنحه خيار الرجوع فيه. وذلك في الحالة التي يحدد فيها الموجب ميعادًا للموجب له، يبدي خلاله رأيه فيه، قبولاً أو رفضًا. وهذا الحكم لا يعدو أن يكون تفسيرًا لإرادة الموجب. وقد يأتي تحديد الميعاد من الموجب صراحةً. وقد يُستدل عليه من ظروف الحال أو طبيعة المعاملة، كما هو الشأن، على وجه الخصوص، في التعاقد بالمراسلة أو التعاقد بالمزاد أو التعاقد بالتجربة.
وقد ارتأى المشروع أن يعدل بعض الشيء في الصياغة المألوفة التي جرت عليها المدونات المختلفة، في صدد تقرير لزوم الإيجاب المقترن بمدة تحديد للقبول، والتي جاء عليها القانون المصري (المادة 93)، واتبعته فيها المدونات العربية الأخرى، ومنها قانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 110). فهو لم يشأ أن يساير تلك المدونات فيقول إنه، في حالة ما إذا اقترن الإيجاب بميعاد محدد للقبول، " التزم الموجب بالبقاء على إيجابه "، أو " التزم الموجب بإيجابه " وإنما قال " بقي الإيجاب قائمًا ".
وهذه العبارة أدق في التعبير عن الحكم المبتغى، وهو استمرار بقاء الإيجاب قائمًا، طوال الميعاد المحدد، حتى لو رجع الموجب فيه، الأمر الذي من شأنه أن يمكن من قيام العقد، بمجرد علم الموجب بالقبول.
وارتأى المشروع أيضًا أن ينهج منهجًا يغاير ما سارت عليه المدونات السابقة كلها، فجاء يصرح بسقوط الإيجاب المقترن بميعاد محدد للقبول، بمجرد فوات هذا الميعاد، وذلك لكي يزيل مظنة استمرار بقائه بعدئذٍ، ولكن مجردًا من وصف الإلزام.
وتعرض المادة (42) لأثر الموت وفقد الأهلية على الإيجاب، قبل أن يقترن به القبول، وتجعل من كل منهما سببًا لسقوطه. سواء ألحق الموت أو فقد الأهلية الموجب أم الموجب له.
وهذا حكم تقتضيه المصلحة. فمن شأن سقوط الإيجاب بموت الموجب، أن يقيل ورثته من صفقة ربما كانت لا تحوز رضائهم، سيما إذا كان الإيجاب ملزمًا، أما موت الموجب له، فمن شأنه أن يتيح للموجب التحرر من عقد الصفقة مع ورثته، إذ قد لا يكون راغبًا في التعاقد معهم، ثم إن سقوط الإيجاب بموت الموجب يتمشى مع الحكم الذي سبق أن أورده، في المادة 36/ 1 منه، من أن التغيير عن الإدارة لا ينتج أثره إلا بعد وصوله إلى علم من وجه إليه. وقد رُئي أن يأخذ فقد الأهلية حكم الموت في أثره على الإيجاب. والحكم الذي جاءت به المادة (42) يتفق مع السائد في الفقه الإسلامي، إذ أن القول الغالب فيه هو أنه إذا صدر الإيجاب من أحد المتعاقدين وهو أهل للتعاقد، وقبل القبول من الطرف الآخر مات الموجب، أو خرج عن الأهلية، بطل الإيجاب، حتى إذا صدر بعد ذلك القبول من الطرف الآخر لا ينعقد العقد. وهذا هو مذهب الحنفية (رد المحتار لابن عابدين 4/ 29) والشافعية (مغنى المحتاج 2/ 6)، والحنابلة (المغنى لابن قدامة 3/ 482) والشيعة الجعفرية (فقه الإمام جعفر 3/ 44). وهذه المذاهب تقيم سقوط الإيجاب بموت الموجب أو بفقد أهليته على أساس خيار الموجب في الرجوع فيه اعتبارًا بأنه يتعذر عليه عندئذٍ إعمال هذا الخيار.
القبول:
تعرض المادة (43) للقبول، باعتباره الخطوة الأساسية الثانية لانعقاد العقد. وتقضي في فقرتها الأولى، بأن للموجب له الخيار فيه، فله أن يرتضي الإيجاب، أو أن يرفضه. والأصل أنه لا معقب عليه في هذا ولا في ذاك. إذ الأمر أمره ومتروك لتقديره.
بيد أنه إذا كان الإيجاب قد جاء من صاحبه تلبية لدعوة إلى التعاقد سبق أن وجهت من الموجب له، فقد يتحمل هذا الأخير بالمسؤولية إذا لم يستند رفضه للإيجاب إلى مبرر سائغ، ولم يشأ المشروع أن يساير القانون اللبناني فيصرح مثله بهذا الحكم (المادة 181)، لأنه لا يعدو أن يكون تطبيقًا للقواعد العامة.
وتعرض الفقرة الثانية لما يعتبر قبولاً، وتستلزم لذلك أن يجيء الرد من الموجب له مطابقًا للإيجاب. ويجب أن تكون هذه المطابقة تامة شاملة كل ما تناوله الإيجاب من أمور التعاقد.
وتجيء الفقرة الثالثة لتبين حكم عدم التطابق بين الإيجاب وبين الرد عليه من الموجب له، وتقضي بأن مثل هذا الرد يعتبر رفضًا للإيجاب. فأي تخالف بين الإيجاب وبين الرد عليه، سواء بالزيادة أو النقصان في مداه أو بالتعليق على شرط، أو الاقتران بأجل، أو على أية صورة أخرى، يجعل من الرد رفضًا للإيجاب.
على أن الرد المخالف للإيجاب إذا اعتُبر رفضًا له، فهو يقع بمثابة إيجاب جديد.
والأحكام التي جاءت بها المادة (43) في فقراتها الثلاث متجاوبة تمامًا مع ما يقضي به الفقه الإسلامي، وما تقول به القوانين المعاصرة، ومنها قانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 111).
وتعرض المادة (44) لحالة خاصة يجيء عليها القبول، في بعض الأحيان، وهذه هي حالة السكوت عن الرد على الإيجاب.
وينبغي التفريق بين السكوت وبين التعبير الضمني عن الإرادة، فهما، وإن اتفقا معًا في وجوب إعمال الاستنتاج المنطقي للوصول إلى حقيقة القصد، فإنهما يختلفان في طبيعتهما إذ أن التعبير الضمني يقوم على وضع إيجابي يصدر من المتعاقد، وإن لم يدل على إرادته بطريق مباشر، أما السكوت، فهو مجرد صمت عن الرد. فهو إذن وضع سلبي، وإن أمكن في بعض الأحيان أن يُستدل منه على الإرادة، وإذا كان التعبير الضمني عن الإرادة يصلح للإيجاب وللقبول، فإن السكوت لا يصلح إلا للقبول، بل هو لا يصلح للقبول، إلا إذا لابسته ظروف خاصة من شأنها أن تدعم دلالته عليه.
فقد تلابس السكوت بالنسبة إلى القبول ظروف تجعل منه دلالة على الرضاء، وليس يوجد في هذا الخصوص معيار أصلح من ذاك الذي قال به فقهاء المسلمين من الأحناف، وقننته المجلة عنهم (المادة 67)، من أن السكوت في معرض الحاجة إلى الكلام بيان. فكلما كان من شأن طبيعة المعاملة والظروف التي تكتنف إبرامها أن تقتضي من الموجب له أن يُصرح برفض الإيجاب الموجه له، إذا كان عنه راغبًا، فإن سكوته عن رفضه يتمثل دلالة واضحة على رضائه به. وقد آثر المشروع أن يأخذ بهذا المعيار الذي جاء به الفقه الإسلامي، وأخذته عنه المجلة، ثم القانون العراقي (المادة 81) ومن بعده قانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 108) لأنه أدق وأسلم من المعيار الذي جاء به القانون الألماني ومدونة الالتزامات السويسرية (المادة 6) وسايرهما فيه القانون المصري (المادة 98) وهو معيار يقوم على عدم انتظار الموجب تصريحًا بالقبول يصدر من الموجب له. فالأمر مرده إلى الموجب له نفسه، هل أنه بسكوته عن الرد قد قبل الإيجاب أم أنه لم يقبله. وليس مرده إلى ما إذا كان الموجب ينتظر أو لا ينتظر تصريحًا بالقبول.
وتعرض المادة (44) في فقرتها الثانية لتطبيقات ثلاثة، لعلها من أبرز ما يقع في العمل. وهي مذكورة على سبيل التخصيص والتمثيل، وليس على سبيل التحديد والحصر، فلا يوجد ثمة ما يمنع من أن تتواجد حالات أخرى يتلابس فيها السكوت مع ظروف تدعم دلالته على القبول.
وتعرض المادة (45) لحالة موت الموجب له أو فقده الأهلية بعد صدور القبول منه، وقبل أن يتصل قبوله هذا بعلم الموجب. وهي تقضي هنا بسقوط القبول. وعلة هذا الحكم ما سبق للمشروع أن قرره في المادة 36/ 1 من أن التعبير عن الإرادة لا يحدث أثره إلا بعد اتصاله بعلم من وجه إليه. فطالما أن القابل مات أو فقد أهليته قبل أن ينعقد العقد، فأولى بقبوله أن يسقط.
ارتباط الإيجاب والقبول:
تبدأ المادة (46) بمواجهة الحالة الغالبة في حصول التعاقد، وهي تلك التي يتم فيها بين عاقدين حاضرين، أو ما يطلق عليه التعاقد في مجلس العقد.
ومجلس العقد اصطلاح شرعي قال به الفقه الإسلامي، وأخذه عنه بادئ ذي بدء القانون المدني المصري (المادة 94). ومن خلال هذا القانون، شق طريقه إلى كافة القوانين العربية التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 109) وقد آثر المشروع أن يُبقي على هذا الاصطلاح، لما فيه من أحكام الدلالة على المقصود.
ومجلس العقد يعني اجتماع المتعاقدين في نفس المكان والزمان، بحيث يسمع أحدهما كلام الآخر مباشرةً، حالة كونهما منصرفين إلى التعاقد، لا يشغلها عنه شاغل. وهو يبدأ بتقديم الإيجاب وينتهي إما بالرد على الإيجاب قبولاً أو رفضًا، وإما بانفضاضه دون رد، سواء أكان هذا الانفضاض بالمفارقة الجسدية أم بكونهما قد انشغلا أحدهما أو كلاهما عن التعاقد بشاغل.
ومجلس العقد أمر أساسي في الفقه الإسلامي. إذ يلزم أن يجيء الإيجاب والقبول فيه، وهو ما يسمى بوحدة المجلس. وإن كان الفقه الإسلامي أجاز أيضًا التعاقد بالمراسلة، اعتبارًا بأن ثمة مجلسًا حكميًا للعقد، ينعقد إما حال أداء الرسول رسالته، وإما حال قراءة الخطاب، وقد أفرط بعض فقهاء المسلمين من الحنفية في فكرة وحدة المجلس، باعتبارها شرطًا لانعقاد العقد، على نحو لا يتسق مع روح الشريعة السمحة، ولا مع المبدأ الأساسي الذي يسود، تحت ظلها، وهو مبدأ الرضائية في العقود، فقالوا إن أي تغيير في موقف المتعاقدين أو في مكان وجودهما، ولو كان يسيرًا، ينهي المجلس، ويحول بالتالي دون قيام العقد. ولم يسد هذا التصوير المفرط في الشكلية في الفقه الإسلامي، حيث رأى جمهور رجاله، وعلى الأخص المالكية منهم والحنابلة، أن مجلس العقد يظل قائمًا، وفقًا لما تعارف عليه الناس، بل إن المجلة نفسها، برغم أنها تقنين للفقه الحنفي، لم تتضمن ما يدل على أنها تسايره في الإفراط في تصويره مجلس العقد.
وإذا كان المشروع يعرض، في المادة (46) منه، للتعاقد في مجلس العقد، فهو لا يحتم صدور الإيجاب والقبول فيه، إلا إذا كان المقصود هو أن يتم التعاقد في الحال، فإن اقترن الإيجاب بميعاد حُدد للقبول، ظل قائمًا طوال هذا الميعاد، بحيث يمكن للقبول أن يلحقه حينئذٍ، فيقوم العقد ولو تبلغ للموجب بعد انفضاض المجلس. ثم إن المشروع لا ينظر إلى مجلس العقد، إلا على النحو الذي ينظر إليه جمهور فقهاء المسلمين، من حيث أنه يعني قبل كل شيء، انصراف المتعاقدين إلى التعاقد، لا يشغلها عنه شاغل.
وإذا صدر الإيجاب في مجلس العقد من غير أن يتضمن ميعادًا للقبول، ظل قائمًا إلى آخر المجلس. وهنا يثبت لكل من المتعاقدين الخيار على صاحبه. فللموجب خيار الرجوع في إيجابه، طالما لم يقترن به قبول. وللموجب له خيار القبول إلى آخر المجلس.
وقد اختلف فقهاء المسلمين في تحديد الوقت الذي يسوغ فيه للقبول أن يصدر. ونجد تحت ظله نزعتين أساسيتين: فالشافعية يقولون بالفور، بمعنى وجوب أن يأتي القبول فور صدور الإيجاب، وإلا اعتُبر هذا الإيجاب مرفوضًا. ويقول بالفور أيضًا من القوانين المعاصرة: القانون المصري (المادة 94)، والقانون السوري (المادة 95)، والقانون الليبي (المادة 94)، والقانون الألماني (المادة 147)، ومدونة الالتزامات السويسرية (المادة 4)، ومدونة الالتزامات والعقود التونسية (المادة 27)، ومدونة الالتزامات والعقود المغربية (الفصل 185).
وثمة نزعة ثانية في الفقه الإسلامي، وهي النزعة السائدة فيه، ويقول بها على الأخص الحنفية والمالكية والحنابلة، ومؤداها أن الفور غير لازم، وأن الإيجاب طالما أن صاحبه لم يرجع فيه، يبقى قائمًا يتربص القبول إلى آخر مجلس العقد، وإن كان هذا المجلس لا ينتهي بالمفارقة الجسدية فحسب، بل أيضًا بكل ما يشغل المتعاقدين عن التعاقد وقد أخذت المجلة بهذه النزعة وقننتها في المادة (181) منها، في صدد البيع.
وقد آثر المشروع أن يأخذ بالنزعة الأخيرة. لأنها أكثر تمشيًا مع قصد المتعاقدين. ثم أنها أدعى إلى التحديد والانضباط، لقيامها على أساس بيِّن واضح، هو انعقاد مجلس العقد، فيبقى الإيجاب قائمًا إلى آخر المجلس. فإذا انفض المجلس بالمفارقة الجسدية، أو بأي قول أو فعل يقوم مقامها، لما يترتب عنه من الانشغال عن التعاقد، اعتُبر الإيجاب مرفوضًا، وهو الحكم الذي يأخذ به القانون الكويتي الحالي (المادة 109).
وتعرض المادة (47) للحالة التي يتم فيها اقتران الإيجاب بالقبول، وهي وإن كانت واردة في مجال التعاقد في مجلس العقد إلا أن حكمها يسري أيضًا على جميع الصور الأخرى في التعاقد، أيًا ما كانت، وهي تقضي بلزوم العقد على عاقديه، بمجرد أن يتم ارتباط الإيجاب بالقبول، فلا يسوغ بعد ذلك لأي منهما أن يتحلل من حكمه، برغم إرادة الآخر، ما لم يشفع له في ذلك الاتفاق، أو نص في القانون، أو حكم يقضي به العرف.
وقد آثر المشروع أن يورد هذا الحكم، نظرًا لأهميته العملية القصوى. ثم إن فقهاء المسلمين اختلفوا حوله اختلافًا كبيرًا، الأمر الذي يتعين معه أن يتخذ له موقفًا في شأنه.
فطائفة من فقهاء المسلمين، يتزعمها الفقه الشافعي والفقه الحنبلي، تقول بأن لأي من المتعاقدين أن يرجع في العقد، برغم توافق الإيجاب والقبول، طالما بقي المتعاقدان مجتمعين لم يتفارقا بالبدن. وهذا ما يسمى عندهم (خيار المجلس). ودعامة هذا الرأي الحديث الشريف (المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا إلا بيع الخيار)، والطائفة الثانية من فقهاء المسلمين يتزعمها الفقه الحنفي والفقه المالكي. وهي تقول بأن العقد، بعد انعقاده بتوافق الإيجاب والقبول، يصير لازمًا، ويمتنع على أي من طرفيه الرجوع فيه، برغم إرادة الآخر. فهي لا تقول بخيار المجلس. وعمدة هذا الرأي قوله، عز شأنه: “ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود “، اعتبارًا بأنه مما يتنافى مع الوفاء بالعقد أن يُسمح لأي من طرفيه بالنكوص عنه بعد تمام انعقاده. وأنصار هذا الرأي يعمدون إلى تفسير الحديث الشريف (المتبايعان بالخيار ......) على نحو يجعله متسقًا مع إطلاق الآية الكريمة كقول بعضهم بأن المقصود، في الحديث الشريف، من كلمة المتبايعان هو المتساومان، أي المتفاوضان في شأن البيع، وكقول البعض الآخر إن المقصود بكلمة (يفترقا) هو الافتراق بالقول، لا التفرق بالأبدان. وهو يتم بصدور القبول.
وقد آثر المشروع أن يأخذ بالرأي الأخير، لأنه يتمشى مع إطلاق الآية الكريمة: “ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود “ واطمئنانًا منه إلى تفسير فقهاء الحنفية والمالكية للحديث النبوي الشريف بما يجعله متسقًا مع هذا الإطلاق.
وتعرض المادة (48) والمادة (49) لصورة جد شائعة في التعاقد لا سيما في المعاملات التجارية وهي من بعد صورة يزداد شيوعها يومًا بعد يوم، على أثر تقدم العلم وتكنولوجيا العصر. وهذه هي صورة التعاقد بالمراسلة سواء أتم عن طريق إيفاد رسول يبلغ الرسالة من هذا الطرف لذاك، أو تم بالمكاتبة عن طريق البريد أو عن طريق البرق أو ما يشبهه من وسائل الاتصال الأخرى، وسمة هذا التعاقد أنه يتم بين غائبين، دون أن يسمع أحدهما الآخر فور أداء عبارته، الأمر الذي يتطلب بالضرورة فوات فترة من الزمن، تطول أم تقصر، بين تعبير كل من الطرفين عن إرادته ووصول تعبيره هذا إلى علم الآخر.
وقد جرت العادة، في تقنينات الدول المختلفة، عربية كانت أم أجنبية، على أن يُقتصر أمر التشريع، في تنظيمه التعاقد بالمراسلة، على مواجهة مسألة زمان انعقاد العقد ومكانه. وهي مسألة، على كبير أهميتها، ليست الوحيدة الجديرة بأن يعرض لها التشريع بالتنظيم المباشر. فإلى جانبها، توجد مسألة أخرى لا تقل عنها أهمية، بل تزيد وهذه هي مسألة تحديد مدى التزام الموجب بالإبقاء على إيجابه بعد أن يبعث به إلى الموجب له. وهذه المسألة وإن كان يمكن الوصول إلى بيان الحكم فيها عن طريق الاستنتاج من الفقرة الثانية من المادة (41) من المشروع، إلا أنه من المفيد أن يخصها التشريع بالذكر، لإقامة معيار يحدد على أساسه فترة بقاء الإيجاب ملزمًا، عندما لا يحدد الموجب لإيجابه ميعادًا صريحًا. وقد أقام المشروع لذلك معيارًا مرنًا قوامه الفترة المعقولة التي تقتضيها ظروف الحال لوصول الإيجاب للموجب له، وإبداء هذا رأيه فيه، ثم وصول قبوله للموجب، إذا قُدر له أن يكون.
وتعرض الفقرة الثانية من المادة (48) للحالة التي يصدر فيها القبول في وقت مناسب، بمعنى أن يجيء في وقت تسمح فيه الظروف، بحسب المألوف، بوصوله إلى الموجب خلال الفترة المعقولة التي يبقى فيها إيجابه قائمًا، ولكنه مع ذلك يتأخر في وصوله، لسبب أو لآخر، إلى ما بعد فوات تلك الفترة. وهي هنا ترخص للموجب أن يعتبر إيجابه مرفوضًا. إذ أنه أولى بالقابل أن يتحمل تبعة ذاك التأخير دونه.
وتواجه المادة (49) مسألة تحديد زمان ومكان انعقاد العقد، عندما يتم إبرامه بالمراسلة، وهي مسألة تباين وجه الحكم فيها تباينًا كبيرًا، في تقنينات الدول المختلفة. فمن هذه التقنينات ما يعتد في ذلك بصدور القبول. ومنها ما يعتد بتصدير القبول ومنها ما يعتد بوصول القبول إلى الموجب له. وقد تبنى القانون المصري هذا الرأي الأخير (المادة 97)، وتبعته فيه أغلب القوانين العربية التي استوحته، كالقانون الليبي (المادة 97)، والقانون العراقي (المادة 87) وأخذ بهذا الرأي كذلك قانون التجارة الكويتي (المادة 112).
وقد آثر المشروع أن يأخذ بمبدأ العلم بالقبول، لتمشيه مع المصلحة أكثر من غيره. فقضى بأن التعاقد بالمراسلة يُعتبر أنه قد تم في الزمان والمكان اللذين يتصل فيها القبول بعلم الموجب، ما لم يُتفق على غير ذلك، أو يقضي القانون أو العرف بخلافه. والحكم الذي أخذ به المشروع لا يعدو أن يكون تطبيقًا للمبدأ الذي سبق أن قرره في المادة 36/ 1.
وغني عن البيان أن وصول القبول إلى الموجب يقوم قرينة على علم هذا به، ما لم يقم الدليل على عكس ذلك، إعمالاً لحكم الفقرة الثانية من المادة (36).
وتعرض المادة (50) لصورة ثالثة من صور التعاقد، وهي تلك التي يتم فيها التعاقد بطريق الهاتف أو أي طريق آخر مشابه. وسمة التعاقد بالهاتف، أو ما يشبهه، أنه يتم بين شخصين غائبين أحدهما عن الآخر مكانًا، ولكنهما في حكم الحاضرين كلامًا، حيث أن كل منهما يسمع عبارة الآخر فور إبدائها منه. من أجل ذلك يعطي المشروع التعاقد الذي يتم على هذه الصورة حكم التعاقد بين الغائبين، أي التعاقد بالمراسلة، بالنسبة إلى مكان انعقاد العقد، حيث يتحدد هذا المكان بذاك الذي يتكلم منه الموجب. ويعطيه حكم التعاقد بين الحاضرين، أو التعاقد في مجلس العقد بالنسبة إلى كيفية تمام العقد وزمان انعقاده. إذ أنه من الممكن اعتبار التعاقد بالهاتف في خصوص تمام إبرامه وزمانه، في حكم التعاقد الحاصل في مجلس العقد.
وإذا كانت العادة قد جرت، في تقنينات الدول المختلفة، ألا تعرض، في صدد التعاقد بالهاتف، إلا لمكان انعقاد العقد وزمانه، كما هو الحال في قانون التجارة الكويتي (المادة 113) فالمشروع قد آثر أن يعرض أيضًا لكيفية تمام إبرام العقد لأهميتها القصوى، مقررًا في شأنها حكمًا مماثلاً لذاك الذي يسري على التعاقد في مجلس العقد.
وتواجه المادة (51) حالة أخذت تشيع في المعاملات المالية، لا سيما التجارية منها، وهي الحالة التي يتفق فيها المتعاقدان على الإحالة، في صدد حكم عقدهما، على عقد نموذج contrat - type أو على لائحة نموذجية reglement - type والعقد النموذج ليس في حقيقته عقدًا. فهو لا يتضمن رضاء يقوم بين طرفين، ولكنه مجرد جماع لشروط توضع مسبقًا، لتتخذ نموذجًا لحكم عقود فردية تُبرم في تاريخ لاحق، إعمالاً لذات إرادة عاقديها وكان أولى به أن يطلق عليه (صيغة نموذجية للعقد formule - type) أو نموذج العقد. ولكن الفكر القانوني العالمي سار من قديم على أن يطلق عليه اصطلاح (العقد النموذج)، وقد آثر المشروع ألا يقطع هذا التقليد الثابت المستقر.
والعقد النموذج تضعه، في العادة، منظمات جماعية خاصة، كالنقابات وغيرها من الهيئات المهنية والغرف التجارية واتحاد البنوك. وقد تعمد الدولة نفسها أو غيرها من الأشخاص المعنوية العامة لوضع نموذج للشروط التي تتعاقد عليها مع الأفراد، كما إذا وضعت نموذجًا للشروط التي يتضمنها بيع أموال الدولة الخاصة أو تأجيرها، أو لمنح امتياز إدارة المرافق العامة. وقد يُطلق على جماع الشروط التي تضعها الإدارة اصطلاح (اللائحة النموذجية). ونظام العقد النموذج أو اللائحة النموذجية، وإن كان له جليل الفائدة، من حيث أنه يتضمن نموذجًا لتنظيم تفصيلي ودقيق لما يُبرمه الأفراد من عقود، وهو تنظيم كثيرًا ما تقعد عنه النصوص القانونية، إلا أنه لا يخلو من بعض مظاهر الخطورة. ففيه تقييد واضح لسلطان الإرادة، بل إنه أصبح اليوم – في كثير من الحالات – يُتخذ وسيلة فعالة لإعمال فكرة العقد الموجه.
بيد أن أخطر ما في نظام العقد النموذج يكمن في أن المتعاقد قد يرتضي الإحالة على حكمه، دون أن يكون في الحقيقة قد اطلع عليه وألم به، وقد جاء المشروع مستهدفًا تفادي هذا الخطر. فهو، إن كان يقضي بسريان أحكام العقد النموذج عند الاتفاق على الإحالة عليه، على العقد المبرم، ويفترض بذلك علم كل من المتعاقدين عندئذٍ بهذه الأحكام، إلا أنه أجاز لكل منهما أن يثبت عدم علمه بها كلها أو بعضها، فإن أفلح في إقامة الدليل، فإنه لا يسري عليه ما لم يعلم به من أحكام العقد النموذج.
على أن المشروع قد حرص هنا على ألا يقرر بطلان العقد، إلا إذا كانت الأحكام التي لم يحصل العلم بها أساسية، فإن كانت ثانوية، فما بطُل العقد، وتولى القاضي حسم الخلاف في شأنها، على هدي من طبيعة المعاملة والعرف الجاري ومقتضيات العدالة.
وقد سوى المشروع مع العلم بأحكام العقد النموذج أو اللائحة النموذجية الحالة التي يكون في مقدور المتعاقد فيها، عند إبرام العقد، أن يعلم بها، لكون الفرصة متاحة له في ذلك، وهو حكم يقتضيه استقرار المعاملات. ثم إنه ليس للمتعاقد هنا أن يلوم إلا نفسه.
وقد استوحى المشروع الفقرة الأولى من المادة (51) من نص المادة (9) من المشروع المقدم من الأستاذ mazeaud للجنة تنقيح القانون المدني الفرنسي، مع تعديل في الصياغة. ولم يشأ أن يقف عند نص المادة (147) من المشروع التمهيدي للقانون المدني المصري، الذي جاء يطلق أثر الاتفاق على الإحالة على العقد النموذج بغير قيود.
وجاء حكم الفقرة الثانية متمشيًا مع فكرة اقتصار بطلان العقد على حالة عدم اتفاق طرفيه المسائل الجوهرية فيه، طالما يثبت أن خلافهما لم يرد عندئذٍ على ما بقي من مسائلة الثانوية، وهو الحكم الذي أرست أصله المادة (52) من المشروع.
وتواجه المادة (52) الحالة التي يحصل فيها الاتفاق الفوري على بعض مسائل العقد، دون بعضها الآخر. فإن لزم لقيام العقد، عدم حصول خلاف بين المتعاقدين على أية مسألة من المسائل الداخلة في رحابه، أيًا ما كانت، إلا أنه قد يحصل أن يتفق المتعاقدان بالفعل على بعض هذه المسائل، ويرتضيان إرجاء اتفاقهما على بعضها الآخر، إلى وقت لاحق، على أمل منهما في وصولهما إلى هذا الاتفاق مستقبلاً.
ويتجاذب حكم هذه الحالة حلان: فإما أن يتقرر أن العقد لا ينعقد إلا إذا تم الاتفاق على المسائل المعلقة، إن قُدر له أن يقع. وإما أن يتقرر انعقاد العقد فورًا، شريطة أن يكون الاتفاق قد ورد على كل المسائل الجوهرية فيه، ولم يُعلق إلا الاتفاق على ما هو ثانوي منها.
وقد نهج القانون المصري النهج الأخير (المادة 95) وسارت على دربه أغلب القوانين العربية التي استوحته، كالقانون العراقي (المادة 86)، والقانون السوري (المادة 96)، والقانون الليبي (المادة 95). أما قانون التجارة الكويتي، فقد التزم الصمت، ولم يشأ أن يصرح في نصوصه بالسير في هذا الاتجاه أو في ذاك. وقد آثر المشروع أن يساير الاتجاه الثاني، فقضى في الفقرة الأولى من المادة (52) بالانعقاد الفوري للعقد، إذا كان الاتفاق قد ورد بالفعل على المسائل الجوهرية فيه، واقتصر الإرجاء على ما يُعتبر منها ثانويًا. بيد أن هذا الحكم لا يعدو أن يكون مجرد تفسير للإرادة المشتركة للمتعاقدين. ومن ثم فلا يُعمل به إلا عندما لا يستبين من شروط العقد أو من الظروف التي اكتنفته أن نية المتعاقدين قد انصرفت إلى غيره.
وإذ يتقرر انعقاد العقد بمجرد الاتفاق على المسائل الجوهرية فيه، مع ارتضاء تعليق الاتفاق على ما هو ثانوي منها إلى وقتٍ تالٍ، كان لزامًا أن تواجه الحالة التي لا يصل فيها الطرفان التي الاتفاق على المسائل المرجأة، وهذا ما يفعله المشروع في الفقرة الثانية من المادة، مقررًا بقاء العقد، وتخويل القاضي سلطة حسم الخلاف، على هدي من طبيعة المعاملة والعرف الجاري ومقتضيات العدالة. وهذا هو الحل الواجب اتباعه، برغم ما فيه من إعطاء القاضي ما يتجاوز المألوف من سلطته.
وقد استوحى المشروع حكم المادة (52) بفقرتيها من المادة (2) من مدونة الالتزامات السويسرية، ومن المادة (95) من القانون المدني المصري ونصوص قوانين الدول العربية الأخرى التي أخذت عنه، وإن كان قد لجأ إلى صياغة أسلم وأدق.
النيابة في التعاقد:
تتسم النيابة في التعاقد بأهمية عظيمة، ولذاك أولاها المشروع فائق عنايته، وعمد إلى تنظيمها في إطار نظرية عامة، تتضمن الأسس التي تقوم عليها، وتؤدي على هديها وظيفتها. وهو في ذلك يتجه إلى سد نقص ظاهر في القانون الكويتي الحالي، حيث لا يتضمن نظرية عامة للنيابة. فقد قنع القانون الكويتي الحالي بوضع أحكام في شأن بعض صور النيابة القانونية، وعلى الأخص النيابة عن فاقدي الأهلية وناقصيها، وبوضع أحكام للنيابة الناشئة عن الوكالة. وقد جاء ذلك منه في مواضع مختلفة، تتفرق بين المجلة وقانون التجارة، وغيرهما من التشريعات الكويتية الأخرى، لا سيما المرسوم بقانون رقم (5) لسنة 1959 في شأن التسجيل العقاري، والقانون رقم (4) لسنة 1974 في شأن إدارة شؤون القصر.
تحدد المادة (53) الإطار العام الذي يعمل فيه نظام النيابة في التعاقد. وترسي في هذا الصدد قاعدة أساسية عامة يقول بها الفقه الإسلامي والقانون المعاصر على حد سواء ومؤدى هذه القاعدة أن كل ما يجوز فيه التعاقد بالأصالة يجوز فيه التعاقد بالنيابة، ما لم يقضِ القانون في حالة معينة ولحكمة خاصة يتوخاها وجوب أن يجرى التصرف من الشخص بذات نفسه.
وحكم هذه المادة مستوحى من نص المادة 93/ 1 من القانون البولوني ونص المادة (155) من مشروع تنقيح القانون المدني المصري، ومن المادة (108) من القانون الأردني ونص المادة (1382) من القانون البرتغالي.
وتعرض المادة (54) لتحديد سلطة النائب. وتجيء في فقرتها الأولى، تُرسي الأصل العام، ومؤداه أن سلطة النائب تتحدد بسند نيابته بمعنى المصدر المنشئ لها. فإذا كان القانون هو مصدر النيابة، كما هو الشأن في الولاية على عديمي الأهلية وناقصيها تحددت سلطة النائب بما تقضي به أحكامه، وإن كان يجوز للقانون أن يعهد للقاضي في حالات خاصة بتحديد سلطة النائب، كما هو الشأن في الحراسة القضائية. وإذا كان الاتفاق هو مصدر النيابة، كما هو الحال في الوكالة، تعينت سلطة النائب بمقتضاه.
وتأتي المادة (54) في فقرتها الثانية، فتعرض لحالة خاصة. لا تعدم أن تجد لها تطبيقات في واقع حياة الناس، لا سيما في مجال التجارة وهذه هي الحالة التي يعلن فيها الأصيل للجمهور عن طريق الصحف أو غيرها من سبل الإعلام، عن سلطات نائبه، أو يخطر بها شخصًا معينًا أو أكثر، وذلك بما يتجاوز ما يقضي به سند نيابته. وفي مثل هذه الحالة، يخول المشروع لكل من شمله الإعلان أو الإخطار أن يتمسك في مواجهة الأصيل بما تضمنه من سلطات حتى لو تجاوزت ما جاء في أصل النيابة، وحتى لو كان النائب نفسه يجهل هذا التجاوز، وعلة هذا الحكم واضحة فلمن يتعاقد مع النائب أن يركن إلى ما أعلنه أو أخطره به الأصيل.
وغني عن البيان أن حكم الفقرة الثانية لا يسري إلى في شأن النيابة الاتفاقية. وهو ما حرص المشروع على أن يخصه به إذ أن سلطة النائب في مجال النيابة القانونية، تتحدد بالقانون ذاته، مراعاةً لما يراه هو من مصلحة الأصيل، ومن ثم لا يكون للنائب من السلطات إلا ما يقرره له القانون نفسه.
وحكم الفقرة الأولى مجرد إعمال للقواعد العامة، وإن كان المشروع قد ارتأى تقنينه، سيرًا على نهج بعض التقنينات الأخرى، ومنها مشروع تنقيح القانون المدني المصري (المادة 156) والقانون الأردني (المادة 109)، أما حكم الفقرة الثانية، ففكرته مستوحاة في عمومها من القانون السويسري (المادة 33/ 3)، وإن كان هو، في حد ذاته، تجديدًا من المشروع اقتضته المصلحة.
وتعرض المادة (55) للشكل الذي يأتي فيه سند النيابة أو مصدرها، عندما يراد بها أن يُجري النائب تصرفًا يتطلب له القانون شكلاً خاصًا لانعقاده. وهي ترسي القاعدة العامة في هذا الخصوص، ومؤداها أن الشكل المتطلب لقيام التصرف الذي يجريه النائب غير لازم لقيام مصدر النيابة ذاتها، وإن أوردت عليها الاستثناء في الحالة التي ينص فيها القانون على حكم مخالف، كما هو الشأن في الوكالة، حيث يتطلب القانون أن يجيء عقد الوكالة في نفس الشكل المرسوم لانعقاد العقد المناط بالوكيل إبرامه نيابةً عن موكله، وتظهر فائدة هذا النص في حالات النيابة التي تثبت بمقتضى تصرف قانوني، في غير حالات الوكالة، وعلى الأخص بالنسبة إلى حالات النيابة عن الأشخاص المعنوية كالشركات والجمعيات.
وحكم المادة (55) مستوحى من نص المادة (167) فقرة ثانية من القانون المدني الألماني.
وتعمد المادة (56) إلى تحديد من يعتد بشخصه، عند النظر في عيوب الرضاء، أو فيما يتطلبه القانون، في بعض الأحوال، من وجوب العلم أو الجهل بظروف معينة، أهو شخص النائب أو شخص الأصيل. وترسي الفقرة الأولى المبدأ العام، وهو وجوب الاعتداد هنا بشخص النائب، لا بشخص الأصيل.
وهذا المبدأ يتمشى تمامًا مع الفكرة التي باتت تسود الفكر القانوني المعاصر، من أن إرادة النائب تحل محل إرادة الأصيل في إبرام التصرف، بمعنى أن النائب عندما يبرم التصرف، يعبر عن إرادته هو، وليس عن إرادة الأصيل. وهذا واضح تمامًا في أغلب تطبيقات النيابة القانونية، ولكن الحكم يسري أيضًا في كافة مظاهر النيابة الأخرى، حتى الاتفاقية منها.
وما دام النائب يعبر عن إرادته هو، وجب أن يكون متمتعًا بالإرادة فإن كان عديم الإرادة فإن تعاقده، باعتباره نائبًا عن غيره، يقع باطلاً، كما يبطل تعاقده أصيلاً عن نفسه. وهذا الحكم يتفق تمامًا مع ما قضت به المجلة من عدم صحة توكيل الصبي غير المميز والمجنون (المادة 1457)، ومن أنه يشترط أن يكون الوكيل عاقلاً مميزًا (المادة 1458).
ولا يكفي أن تتوافر الإرادة في النائب، بل يلزم، لصحة التعاقد، أن تجيء إرادته سليمة خالية من العيوب، فإن شاب رضاءه عيب، كغلط أو تدليس أو إكراه أو استغلال، تأثر به العقد الذي يبرمه باسم الأصيل، في نفس الحدود التي يتأثر بها من يتعيب رضاؤه، حالة كونه يبرم التصرف لحساب نفسه، وذلك حتى لو كانت إرادة الأصيل لم تتعيب، وكما يُعتد بشخص النائب في تحديد عيوب الرضاء. يعتد به أيضًا، دون شخص الأصيل، في صدد ما يتطلبه القانون من وجوب العلم أو الجهل ببعض الظروف الخاصة، أو افتراض هذا العلم أو الجهل.
وقد حرص المشروع، في الفقرة الثانية من المادة (56) أن يعرض للحالة التي تكون النيابة فيها اتفاقية، ويتصرف النائب وفق تعليمات محددة يتلقاها من الأصيل، ليقضي بأنه لا يجوز فيها للأصيل أن يتمسك بجهل نائبه أمرًا كان يعلمه هو، أو كان مفروضًا فيه أن يعلمه، وبأنه يعتد عندئذٍ بما يشوب رضاء الأصيل لمن عيوب الرضاء. وليس في هذا الحكم خروج على القاعدة العامة التي تضمنتها الفقرة الأولى، إذ أن من يتولى أمر التعاقد لحساب غيره، لا يعتبر نائبًا عنه، إلا في حدود ما يجيء فيه التعاقد تعبيرًا عن ذات إرادته، فإن اقتصر أمره على تنفيذ تعليمات الأصيل غلبت عليه، في حدود تنفيذه تلك التعليمات صفة الرسول لا النائب.
وحكم المادة (56) في مجموعه، مستوحى من نص المادة (166) من القانون الألماني، الذي سبق أن استوحاه أيضًا القانون المصري في المادة (104)، ثم وجد النص المصري مكانه الرحب في المدونات العربية الأخرى التي نقلت عنه، كالقانون السوري (المادة 105)، والقانون الليبي (المادة 104) والقانون الأردني (المادة 111).
ولم يلتزم المشروع، في الفقرة الثانية من المادة (56) الصياغة التي جاء بها القانون المصري، وانتقلت منه إلى قوانين البلاد العربية الأخرى. فقد أجرى تعديلاً فيها من ناحتين، فأورد أن حكمها يخص من تنشأ نيابته بمقتضى اتفاق، بدلاً من القول بأن حكمها يخص الوكيل، لأن النيابة الاتفاقية في الحقيقة أعم من الوكالة وفق ما يذهب إليه الفكر القانوني المعاصر، الذي أخذ يعزف عن الفكرة التقليدية، التي ترى في النيابة الاتفاقية مجرد وكالة. وفي هذا الخصوص، يتجه المشروع إلى المصدر الأصلي للنص، المتمثل في الفقرة الثانية من المادة (166) من القانون الألماني، حيث خصت حكمها من تعهد إليه النيابة بمقتضى تصرف قانوني، والتعديل الثاني الذي أورده المشروع أنه ذكر وجوب الاعتداد بشخص الأصيل بالنسبة إلى عيوب الرضاء، عندما لا يفعل النائب إلا تنفيذ تعليماته، ولم يقتصر في ذلك على علم الأصيل ببعض الظروف أو افتراض علمه بها. وفي ذلك تجديد تفرضه الملاءمة ويتفادى به عيبًا اتسمت به صياغة النص الألماني، ومن بعده النص المصري وما تبعته من نصوص عربية أخرى.
وتعرض المادة (57) للأثر المترتب على النيابة في التعاقد، وهي تقضي بأنه إذا تم التعاقد بطريق النيابة، فإن كل ما يترتب على العقد الذي يبرمه النائب باسم الأصيل من آثار تنصرف إلى الأصيل، لا إلى النائب، وهي تنصرف إلى الأول مباشرةً، أي دون مرور بذمة الثاني، وهذا هو لب نظام النيابة.
ونص المادة (57) مستوحى من نص المادة (105) من القانون المدني المصري، بعد أن أجرى المشروع بعض التعديل في صياغته، توخيًا للدقة والانضباط، فذكر أن آثار العقد تنصرف إلى الأصيل، بدلاً من القول بانصراف الحقوق والالتزامات التي تنشأ من العقد. إذ قد يُقصد بالعقد الذي يبرمه النائب أمر آخر غير إنشاء الحق أو الالتزام، كما إذا أُريد به تعديل حق أو التزام قائم أو نقله أو انقضاؤه. وحرص المشروع أيضًا أن يذكر أن آثار العقد تنصرف إلى الأصيل مباشرةً، ولم يشأ أن يقول إن هذه الآثار تضاف إلى الأصيل، لما في عبارته من انضباط أكبر، يتمثل فيما يقتضيه نظام النيابة من انصراف آثار العقد إلى ذمة الأصيل، دون مرور بذمة النائب.
وتعرض المادة (58) والمادة (59) للحالة التي لا يظهر فيها النائب صفته، عند إبرام العقد، الذي يريد له أن يكون باسم الأصيل ولحسابه. وهي حالة لا تعدم الشيوع في واقع حياة الناس.
والأصل أن يتم إعلام المتعاقد مع النائب بأمر النيابة من النائب نفسه، حيث يعلن له صفته. ولكن يستوي مع قيام النائب بإعلان صفته لمن يتعاقد معه أن يعلم هذا الأخير بحصول التعاقد باسم الأصيل ولحسابه من طريق آخر، أو أن يكون مفروضًا فيه حتمًا، وفق ظروف الحال، أن يعلم بذلك، أو كان يستوي عنده أن يكون التعاقد حاصلاً بينه وبين النائب شخصيًا أو بينه وبين الأصيل، بأن كانت شخصية المتعاقد معه ليست ذات اعتبار أصلاً، كما إذا كان قد قام ببيع مال واستوفى ثمنه بتمامه. في كل هذه الحالات الثلاث، لا يكون لمن تعاقد معه النائب مصلحة سائغة ومقبولة في تجاهل الأصيل، بدعوى أن النائب لم يعلن له حصول التعاقد لحسابه. ومن ثم كان مجبرًا على اعتبار التعاقد حاصلاً مع الأصيل. أما إذا لم يعلن النائب، عند التعاقد صفته، ولم يعلم بها المتعاقد الآخر، ولم يكن مفروضًا فيه حتمًا أن يعلم بها، وكانت له مصلحة سائغة في عدم اعتبار التعاقد حاصلاً مع الأصيل، فإنه لا يجبر على اعتبار أن التعاقد قد حصل من النائب بوصفه نائبًا.
هذا هو الحكم الذي تقرره المادة (58) وحكمة تقريره بينة الوضوح، وهو مستوحى من نص المادة (106) مدني مصري بعد إجراء تعديل في الصياغة اقتضته الملاءمة التشريعية، وهو مطابق لحكم المادة (32) فقرة ثانية من مدونة الالتزامات السويسرية ولحكم المادة (552) من قانون التجارة الكويتي، وإن اقتصر على الوكالة، دون غيرها من أحوال النيابة.
وتعرض المادة (59) للحالة التي لا يظهر فيها النائب، وقت إبرام العقد لمن يتعاقد معه أنه يتعامل بوصفه نائبًا، حالة كون هذا الأخير غير مجبر على الاعتداد بصفته تلك إعمالاً للمادة (58)، ولم يرتضِ أن يكون التعامل بينه وبين الأصيل. وهي تقرر هنا الحق المتعاقد مع النائب في أن يعتبر التعاقد قد وقع بينه وبين النائب بصفته الشخصية، دون أن يكون ملزمًا باعتبار أنه قد قام بينه وبين الأصيل.
وهذا حكم تمليه المصلحة، فما دام أن النائب لم يظهر صفته، ولم يعلم بها من تعاقد معه، ولم يكن مفروضًا فيه أن يعلم بها، وكان يضره أن يقوم التعاقد بينه وبين الأصيل، وجب التمشي مع حقيقة قصده هو، وهو حصول التعاقد بينه وبين النائب بشخصه.
وليس للنائب هنا أن يحاج بأنه قد قصد أن يكون التعاقد باسم الأصيل ولحسابه. وأنه بذلك لم يرتضِ أن يتم التعاقد معه شخصيًا، فالقانون لا يُدخل في اعتباره مجرد النية، إذا ظلت حبيسة النفس، ثم أن ذلك لا يعدو أن يكون مجرد تطبيق لما سبق للمشروع أن قرره في المادة (38) من أنه يجوز لمن وجه إليه التعبير عن الإرادة أن يعتد به، برغم مخالفته لحقيقة قصد صاحبه، إذا أثبت أنه عول عليه، معتقدًا مطابقته لحقيقة الإرادة، من غير أن يكون من شأن ظروف الحال أن تثير الشك في تلك المطابقة.
ونص المادة (59) مستوحى من نص المادة (164) فقرة ثانية من القانون الألماني.
وتعرض المادة (60) للحالة التي يلجأ فيها النائب، بعد انتهاء نيابته، إلى التعاقد باسم الأصيل ولحسابه. ومقتضى القواعد العامة عدم إعمال أثر النيابة في هذه الحالة. فلا تنصرف آثار العقد إلى الأصيل. ولكن المادة (60) تورد على هذا الأصل العام استثناءً هامًا، مؤداه الترخيص لمن تعاقد مع النائب، في اعتبار التعاقد قد حصل على أساس النيابة. شريطة أن يكون هو والنائب عند التعاقد لا يعلمان بانتهاء النيابة، ولم يكن في مقدورهما أن يعلما به، لو أنهما بذلا من الحرص ما تفرضه ظروف الحال على الشخص العادي. وهذ الحكم تمليه المصلحة. فمن شأنه أن يوفر للمعاملات ما ينبغي لها من أسباب الثقة والائتمان والاستقرار.
وقد حرص المشروع - على خلاف الكثير من التقنيات الأجنبية - على أن يصرح بقصر أعمال أثر النيابة بعد انتهائها، لمصلحة حسني النية من الأشخاص، على النيابة الاتفاقية وحدها، دون النيابة القانونية. ذلك لأن النيابة القانونية يفرضها القانون، من غير أن يترك للأصيل حرية اختيار نائبه، ومن ثم فمن المصلحة ألا تبقى قائمة، بعد أن يقرر القانون نفسه انتهاءها. وفضلاً عن ذلك، فالقانون حينما يفرض النيابة القانونية، يفرضها لمصلحة أساسية تتمثل في رعاية من هم في حاجة إلى الحماية من الأشخاص، فكان حريًا بها أن تنتهي آثارها، بعد أن يقول هو بوصولها إلى أجلها. ثم إن الأصيل في النيابة التعاقدية، دون النيابة القانونية، هو الذي ينشئ منذ البداية سند النيابة. فهو بالتالي يسهم في إقامة المظهر الذي يقع، فيما بعد، الانخداع به.
وتعرض المادة (61) للحالة التي يبرم فيها شخص باسم آخر عقد، من غير أن تثبت له في الحقيقة صفة النيابة عنه، إما لانتفاء هذه النيابة أصلاً، أو لكون العقد قد أبرم منه خارج حدود نيابته.
وتواجه المادة (61) في فقرتها الأولى – هذه الحالة بالنسبة إلى الأصيل، لتقرر عدم انصراف آثار العقد إليه، إلا إذا حصل إقرار منه على نحو ما يقضي به القانون، وهذا حكم تمليه القواعد العامة، والإقرار هنا يتمشى في مصدره مع مصدر النيابة ذاتها، فإن نشأت النيابة من الاتفاق، كان للأصيل أن يجري الإقرار. وقد تمثل هذا الحكم، في شأن الوكالة، في القاعدة التي يقول بها الفقه الإسلامي والقانون المعاصر على حد سواء وقننتها المجلة بدورها في المادة (1453) منها، وهي أن الإقرار اللاحق أو الإجازة اللاحقة، كالوكالة السابقة. أما إذا كانت النيابة قانونية، وجب أن يحصل الإقرار ممن يمنحه القانون السلطة في إجرائه.
وتأتي الفقرة الثانية من المادة (61) لتواجه حالة انتفاء النيابة أو تجاوزها، من غير أن يحصل إقرار للتصرف بالنسبة إلى المتعاقد مع النائب. وهي تقرر لهذا المتعاقد الحق في مطالبة النائب بالتعويض عن الضرر الناجم له بسبب عدم نفاذ التصرف في مواجهة الأصيل، وبالتالي بسبب تفويت الصفقة عليه. ويلزم لاستحقاق التعويض أن يكون النائب مقصرًا، وهو يُعتبر كذلك، ما لم يثبت أنه لم يعلم في الحقيقة بانتفاء نيابته أو بانتهائها أو بتجاوزها، وأنه لم يكن في مقدوره أن يعلم بذلك أو أنه بذل من الجهد ما يبذله الشخص العادي، كما أنه يلزم أيضًا لا ستحاق التعويض، أن يكون المتعاقد مع النائب حسن النية، بأن كان يجهل انتفاء النيابة أو انتهاءها أو تجاوز حدودها، وأنه لم يكن في استطاعته أن يعلم بذلك، لو أنه بذل من الجهد ما تُمليه ظروف الحال على الشخص العادي.
وهذه الفقرة مستوحاة من المادة (554) من قانون التجارة الكويتي مع إجراء تعديل فيها، يتمثل في استلزام حصول التقصير ممن اتخذ صفة النيابة، لإمكان مطالبته بالتعويض.
وتعرض المادة (62) لحالة تعاقد النائب مع نفسه، بأن يبرم النائب العقد وحده، وإن تعددت صفته، ويتصور هذا الوضع في إحدى حالتين: فإما أن يبرم شخص العقد، بوصفه نائبًا عن غيره وأصيلاً عن نفسه، وإما أن يبرم شخص العقد بوصفه نائبًا عن كل من طرفيه.
وإذا كان من شأن إعمال فكرة النيابة في ذاتها أن يجيز التعاقد مع النفس، إلا أن ملابسات هذا النوع من التعاقد تدعو إلى الارتياب فيه، في الكثير الأغلب من حالاته، ومن أجل ذلك تنظر التقنينات في الدول المختلفة إلى هذا التعاقد بعين الحذر وهي تتغاير مع ذلك في الوسيلة، فمنها ما يجيزه كقاعدة ولكنه يحرمه في بعض الحالات على سبيل الاستثناء، ومنها ما يمنعه كقاعدة، وإن أجازه في بعض الحالات على سبيل الاستثناء. وأغلب التقنينات تسير في الاتجاه الأخير، كالقانون الألماني (المادة 181)، ومشروع القانون الفرنسي الإيطالي (المادة 37) ومشروع تنقيح القانون الفرنسي (المادة 58)، والقانون المصري (المادة 108) والقوانين العربية الأخرى التي استوحته، مثل القانون السوري (المادة 109) والقانون الليبي (المادة 108)، والقانون الأردني (المادة 115).
وقد آثر المشروع هذا الاتجاه الأخير بحظر تعاقد النائب مع نفسه باسم من ينوب عنه في صورتيه، على أنه لا يقرر هذا الحكم إلا على سبيل أنه يمثل أصلاً عامًا، يمكن له أن يُخالف ويُلزم لإمكان مخالفته أن يأذن به مصدر النيابة على نحو قاطع الدلالة، سواءً أكان هو القانون أو الاتفاق. والمشروع في ذلك، فضلاً عن أنه يتمشى مع أغلب التقنينات الأجنبية والعربية، يتفق في حكمه مع ما يسير الفقه الإسلامي عليه، وقننته المجلة في المادة (1488) في شأن الوكالة بالشراء، وفي المادة (1496) في شأن الوكالة بالبيع، كما تقنن أيضًا في المرسوم بقانون رقم (5) لسنة 1959، الخاص بالتسجيل العقاري. وإذا تعاقد النائب مع نفسه، من غير أن يؤذن فيه، كان متجاوزًا حدود النيابة. ومن ثم فلا ينفذ تصرفه في حق الأصيل، ما لم يحصل إقراره وفقًا للقانون.
وتحظر المادة (63) على النائب أن يحل محله شخصًا آخر غيره، يقيمه نائبًا مكانه، ما لم يسمح له بذلك مصدر نيابته من قانون أو اتفاق، وهذا حكم يتمشى مع أساس من أسس النيابة، متمثلاً في أنها شخصية لا تنتقل من صاحبها إلى غيره، ما لم يوجد إذن خاص.
وحكم المادة (63) مستوحى من المادة (55) من مشروع تنقيح القانون المدني الفرنسي الذي تضمنته أعمال لجنة التنقيح لعام 1946/ 1947.
وتعرض المادة (64) للحالة التي تنتهي فيها النيابة، ويكون قد سبق للنائب أن تسلم ما يدل عليها، كسند توكيل أو إقرار أو حكم تعيين، وهي تُلزم النائب بالمبادرة برد ما قام شهيدًا على نيابته فور انتهائها، فإن كان سند نيابته قضائيًا التزم بأن يودعه قلم كتاب المحكمة، أو جهة حكومية أخرى مناسبة.
ويستهدف المشروع بهذا الحكم حماية الغير، الذين قد يُتخذ سند النيابة، بعد انتهائها أداة لخديعتهم، كما أنه يستهدف أيضًا في النيابة الاتفاقية حماية الأصيل بمنع المتعاقد مع النائب من التمسك في مواجهته بأعمال النيابة استنادًا إلى حسن نيتهم.
والمادة (64) مستوحاة من المادة (175) من القانون الألماني ومن المادة (58) من مشروع تنقيح القانون المدني الفرنسي الوارد في مجموعة أعمال لجنة التنقيح لسنة 1946/ 1947.
شكل العقد:
تعرض المادة (65) في فقرتها الأولى للأصل الأساسي العام، في صدد الشكل الذي يمكن للعقد أن يرد فيه، بالنسبة إلى ذات قيامه، مجيزة له أن يأتي في أي شكل يريده له عاقداه، دون إخلال بما قد يتطلبه القانون من شكليات معينة، لغرض آخر غير انعقاد العقد كإثباته أو شهره وهذا حكم أساسي يتمثل في قاعدة رضائية العقود.
وإذ تقرر المادة (65)، في فقرتها الأولى قاعدة الرضائية في العقود، فهي تورد عليها استثناء تمليه طبيعة الأمور، يتمثل في الحالة التي يفرض فيها القانون نفسه، في خصوص عقد معين، شكلاً خاصًا يحدده لقيامه.
وتجيء المادة (65)، في فقرتها الثانية، لتتناول حكم عدم مراعاة الشكل الذي يفرضه القانون لقيام العقد، استثناءً من قاعدة رضائية العقود، مقررة أنه يتمثل في بطلان العقد. والبطلان لا يقع هنا إلا إذا كان الشكل الذي فرضه القانون متطلبًا لذات قيام العقد، فإن كان متطلبًا لغرض آخر، كإثبات العقد أو شهره، أُعمل الحكم الذي يرتبه القانون على إهماله.
وحكم المادة (65) بفقرتيها مجرد تقنين لما هو مستقر ثابت في الفكر القانوني المعاصر وفي الفقه الإسلامي على حد سواء. وهو متفق مع حكم المادة 11/ 1 من مدونة الالتزامات السويسرية، والمادة (125) من القانون المدني الألماني.
وتعرض المادة (66) للحالة التي لا يفرض فيها القانون شكلاً معينًا لقيام العقد، ولكن المتعاقدين يتفقان على أن عقدهما لا يقوم، إلا إذا جاء في شكل معلوم يحددانه، كما إذا اتفق المتبايعان على عدم قيام بيعهما إلا إذا جاء في الشكل الرسمي، أو في محرر مكتوب. وتقضي المادة (66) بصحة هذا الاتفاق، مقررة وجوب مراعاته من كل طرفيه، مانعة أيًا منهما دون رضاء الآخر أن يتمسك بقيام العقد، ما لم يأتِ في الشكل المتفق عليه.
والحكم الذي ترسيه المادة (66) يتمشى مع ما هو ثابت في الفكر القانوني المعاصر. فإن كانت شكلية العقد، حينما يفرضها القانون، تتصل بالنظام العام، اعتبارًا بأن القانون حينما يستلزمها، يستهدف بها تحقيق مصلحة عامة، فقاعدة رضائية العقود لا تتصل بالنظام العام، ومن ثم لا يوجد ثمة ما يمنع المتعاقدين من الاتفاق على مخالفتها، في شأن العقد الذي يزمعان إبرامه، بأن يرتضيا عدم قيامه إلا إذا جاء في الشكل الذي يحددانه.
على أنه يلاحظ هنا أن الشكلية التي تجيء نتيجة اتفاق المتعاقدين لا ترتقي إلى الشكلية التي يفرضها القانون. ففي حين أن مقتضى الشكلية الأخيرة أن يقع العقد باطلاً عند عدم مراعاتها، حتى لو اتفق المتعاقدان على مخالفتها، فإن الشكلية التي يتطلبها الاتفاق لا تمنع المتعاقدين من إبرام العقد بمخالفتها، شريطة أن يجيء ذلك نتيجة رضاء قاطع منهما بالتخلي عنها.
وتعرض المادة (67) للحالة التي يتطلب فيها القانون أو الاتفاق مراعاة شكل معين في شأن العقد، دون أن يستبين، على نحو قاطع الدلالة، ما إذا كان هذا الشكل متطلبًا لذات قيام العقد، فيبطل إن لم يراعَ، أو أنه متطلب لأمر آخر من الأمور المتعلقة به، والتي لا ترتقي إلى مرتبة قيامه، كإثباته أو إحداث أثر من آثاره.
ومن الممكن هنا أن يقال إن الأمر لا يعدو أن يكون مسألة تفسير لنص في القانون أو لشرط في العقد، ومن ثم كان أولى به أن يُترك للقضاء، يغلب في شأنه الناحية التي تستبين له متفقة أكثر مع قصد الشارع أو إرادة المتعاقدين. ولكن المشروع آثر مع ذلك أن يعرض له، مقتفيًا في ذلك أثر تقنينات أخرى، كالقانون الألماني (المادة 125) ومدونة الالتزامات السويسرية (المادة 11/ 2 والمادة 14/ 1 ) ومشروع تنقيح القانون المدني المصري (المادة 149).
وثمة اتجاهان يتنازعان في الفكر القانوني تنظيم الحالة التي لا تؤدي فيها وسائل التفسير إلى تبديد الشك حول ما إذا كان الشكل متطلبًا في العقد لذات قيامه، أو لأمر آخر من أموره. فاتجاه أول يفسر هذا الشك على أن الشكل غير متطلب لقيام العقد وإنما للأمر الآخر الذي يدنوه بالضرورة. أما الاتجاه الثاني، فيعمد إلى تفسير الشك على أن الشكل متطلب لذات قيام العقد. ولكل اتجاه ما يسوغه فالأول يتمشى أكثر مع مقتضيات المنطق القانوني لفكرة رضائية العقود، اعتبارًا بأنه ما دام الأصل في العقد أنه رضائي، فالشكل لا ينهض ركنًا لازمًا لقيامه، إلا إذا كان القصد فيه قاطع الدلالة. أما الاتجاه الثاني، فيبرره أن تطلب الشكل بخلاف الأصل، سواء أكان ذلك من المشرع أم من إرادة المتعاقدين، يستهدف بالضرورة تحقيق مصلحة أساسية أو في الأقل هامة، ومن ثم كان حريًا أن يفسر الشك على النحو الذي يوفر قدرًا أكبر من الحماية، وهو عدم قيام العقد برمته. وقد آثر المشروع أن يساير الرأي الأول.
وتعرض المادة (68) لفكرة العقود العينية التي لا تقوم إلا إذا اقترن الرضاء بها بتسليم المعقود عليه، وهي تُرسي أصلاً عامًا مؤداه أن تسليم المعقود عليه، إذا كان من شأن العقد أن يقتضيه، لا يعتبر متطلبًا لذات قيام العقد إلا إذا قضى القانون أو الاتفاق أو العرف بغير ذلك.
وإذا كان الحكم الذي تقرره المادة (68) يمكن له أن يستخلص من حكم المادة (67)، اعتبارًا بأن تسليم الشيء قد يعتبر نوعًا من الشكل، إلا أن المشروع آثر مع ذلك أن يفرد له نصًا خاصًا، دفعًا لكل مظنة، وحتى يجهز على فكرة العينية في العقود، إلا لضرورة أو مصلحة، ترك زمام الأمر فيها للقانون أو لإرادة المتعاقدين، على حسب الأحوال.
وقد استوحى المشروع المادة (68) من نص المادة (40) من مشروع تنقيح القانون المدني الفرنسي المقدم للجنة التنقيح (أعمال لجنة التنقيح لسنة 1946/ 1947). ولكنه حرص على أن يبتعد كل البعد عن إطلاق حكم النص الفرنسي المقترح، والذي جاء يقول إن تسليم الشيء لا يعتبر أبدًا شرطًا لازمًا لصحة العقد، ولو اشترط غير ذلك. وواضح أن النص الفرنسي أراد أن ينتقل بفكرة العقود العينية من النقيض إلى النقيض، فقيد من إرادة المتعاقدين من غير مبرر، وهو الأمر الذي راعته بالفعل لجنة التنقيح، عند مناقشة النص المقترح، فقيدت من إطلاقه، لتترك الباب مفتوحًا، لبعض الاستثناءات.
وتعرض المادة (69) للاتفاقات التي ترتبط بعقد يلزم فيه الشكل لذات قيامه، سواء أكانت سابقة عليه، كما هو الشأن في الوعد به أم لاحقة له، كما هو الشأن في الاتفاقات على تعديل أحكامه أو آثاره، وذلك من حيث الشكل الذي ينبغي أن يراعى في إبرامها بدورها. وهي تقرر وجوب أن يراعى فيها الشكل المتطلب لقيام العقد ذاته فإن لم يراع في إبرامها، وقعت باطلة.
والحكمة التي تستهدفها المادة (69) بينة الوضوح، فإن لم يراع الشكل المتطلب لقيام العقد ذاته في عقد الوعد به، أو في الاتفاقات اللاحقة التي تقضي بتعديل أحكامه أو آثاره، فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى الإفلات من الشكل المستلزم قانونًا أو اتفاقًا، وإن كان ذلك بطريق غير مباشر.
والحكم الذي تمليه المادة (69) لا يعدو أن يكون أمرًا مستقرًا ثابتًا فقهًا وقضاءً، بل إن كثيرًا من قوانين البلاد المختلفة قد نصت عليه في خصوص الوعد بالعقد، كما هو الشأن بالنسبة إلى القانون السويسري (المادة 22/ 2 من مدونة الالتزامات) والقانون المصري (المادة 101/ 2) والقوانين العربية الأخرى التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي (المادة 115/ 2). وقد آثر المشروع أن يصرح بالحكم، ليس فقط في صدد الوعد بالتعاقد، بل أيضًا بالنسبة إلى الاتفاقات التي تجيء بعد إبرام العقد، وتستهدف تعديل أحكامه أو آثاره، وذلك في المكان المخصص لشكل العقد، ما دام هو ينظم هذا الشكل في إطار نظرية عامة.
وقد حرص المشروع، بالنسبة إلى الاتفاقات اللاحقة للعقد، أن يتطلب مراعاة الشكل الواجب له، فيما يكون من شأنه أن يعدل في أحكامه أو آثاره. وهو بهذا يستبعد الاتفاقات التي تجيء لتفصل أو تسهل أو تضمن أعمال ما يقضي به العقد، طالما أنها لا تعتبر تعديلاً لما يقضي هو به، فلا يوجد ثمة ما يمنع، مثلاً من الاتفاق العرفي على تقسيط دين ناشئ من عقد رسمي أو على ضمانه برهن حيازي.
والمادة (69) إذ تتطلب مراعاة الشكل الواجب لقيام العقد في عقد الوعد به وفي الاتفاقات اللاحقة المعدلة لأحكامه أو آثاره، تتحفظ في شأن الحالة التي يقضي فيه القانون بحكم مخالف، وهي تتحفظ أيضًا في شأن الحالة التي تسمح فيها طبيعة المعاملة ذاتها بعدم مراعاة الشكل الذي يتطلبه القانون، كما إذا استلزم القانون الشكل في العقد لحماية الجانب الضعيف فيه، ثم طرأ بعد ذلك تعديل عليه يكون من شأنه أن يتضمن له نفعًا محضًا، ومثال ذلك أن يُتفق في صدد عقد الرهن الرسمي، على نزول المرتهن عن الرهن كله أو بعضه.
بعض صور خاصة في التعاقد:
العقد الابتدائي:
يتناول المشروع، في المواد من (70 إلى 73) لنوع خاص من العقود، تتميز بأنها تستهدف التمكين من قيام عقود أخرى غيرها، أو تستتبع إعادة إبرامها بذاتها في ثوب جديد، على نحو يقتضيه القانون، فالسمة الجامعة لهذه العقود أنها عقود أولية، أو هي كما يُطلق عليها أحيانًا، عقود ما قبل العقود avant contrats.
فتعرض المادة (70) للعقد الابتدائي، من حيث حالات قيامه وأثره. وهي تقضي بأن العقد يعتبر ابتدائيًا كلما كان من شأنه أن يبرم مره ثانية أو في صورة أخرى جديدة. وإعادة إبرام العقد الابتدائي، في شكله النهائي، قد تقتضيها طبيعة العقد ذاتها، وعلى الأخص إذا كان ذلك متطلبًا لإنجاز ما يفرضه القانون من إجراءات لسريان العقد أو لإنتاج أثر من آثاره، كما هو الشأن بالنسبة إلى بيع العقار، حيث يلزم إعادة إبرامه على نحو معين لإمكان تسجيله، ومن ثم لكي ينتج أثره في نقل الملكية، وكذلك بالنسبة إلى الرهن الحيازي، حيث قد يلزم إعادة صياغته في شكل جديد، حتى يتسنى شهره بالقيد، ويتيسر بذلك إتمام إجراءات نفاذه في حق الغير، ولا يوجد ثمة ما يمنع من أن يتفق المتعاقدان على إعادة إبرام عقدهما في صورة جديدة، كما إذا اتفقا على وجوب تحرير العقد الذي يبرمانه، تيسيرًا لإثباته، فيتصف عقدهما الأول حينئذٍ بأنه ابتدائي.
وترتب الفقرة الأولى من المادة (70) على كل من طرفي العقد الابتدائي التزامًا بإبرام العقد النهائي في الميعاد المحدد فيه. وإن لم تحدد مدة لإبرام العقد النهائي، وجب على المتعاقدين إبرام هذا العقد الأخير، في فترة معقولة، تخضع في تقديرها لقاضي الموضوع.
وتقضي الفقرة الثانية من المادة (70) بأن العقد النهائي يُبرم بنفس شروط العقد الابتدائي، ما لم يتفق طرفاه على إجراء تعديل فيها، أو كان هذا التعديل مما تستوجبه طبيعة المعاملة، كإجراء تعديل في حدود العقار مثلاً، على نحو ما يستبين من الإجراءات التمهيدية في التسجيل. كما أنه يمكن إجراء التعديل إذا اقتضته ظروف الحال، كما إذا مات المشتري، ورغب ورثته في أن يُكتب العقد النهائي بأسمائهم، ولم يكن في ذلك أي خطر يتهدد المشتري.
ويلاحظ أن إضفاء وصف (الابتدائي) على العقد لا يغير من حقيقته المتمثلة في أنه عقد كامل، وأنه ذات العقد الذي يقصده عاقداه أولاً وأخيرًا، وإذا كان العقد الابتدائي هو ذات العقد المقصود أولاً وأخيرًا، وجبت أن تراعى فيه كل الأحكام المتطلبة للانعقاد والصحة، بما فيها شرط الشكل إن لزم.
وتواجه المادة (71) الإخلال بالالتزام الذي يفرضه العقد الابتدائي على كل من طرفيه المشاركة في إبرام العقد النهائي، وهو الالتزام الذي قررته المادة (70) وتجعل له جزاءً متمثلاً في تخويل الطرف الذي يحصل الإخلال إضرارًا به الحق في أن يقاضي غريمه، ويطلب الحكم، بصحة العقد الابتدائي ونفاذه. وهو حق يثبت له دون إخلال بما تقضي به القواعد العامة من حقوق أخرى. على أنه يلزم للحكم بصحة العقد الابتدائي ونفاذه أن يكون المتعاقد الذي يطلبه غير مخل بدوره بالتزاماته. فإن كان مخلاً، بأن لم يوفِ بما فرضه عليه العقد من التزامات حالة، امتنع عليه طلب الحكم بصحة العقد ونفاذه، فلا عهد لمن لا عهد له.
وتقضي المادة (71) في فقرتها الثانية بأن الحكم الصادر بصحة ونفاذ العقد الابتدائي يقوم مقام العقد النهائي ويغني عنه وما ذلك إلا إعمال للقاعدة العامة في التنفيذ العيني للالتزام.
ونص المادة (71) وإن كان مستحدثًا غير أن حكمه لا يتمثل خلقًا جديدًا وابتكارًا، فهو من وجه مجرد تطبيق للقواعد العامة في تنفيذ الالتزام. وهو من وجه ثانٍ قد بات حكمًا مستقرًا ثابتًا في القضاء، في دولة الكويت كما هو الشأن في دول عربية أخرى سبقتها إليها، وعلى الأخص مصر.
الوعد بالعقد:
تعرض المادة (72) والمادة (73) للوعد بالعقد.
وتبين المادة (72) الشروط اللازمة لانعقاد الوعد بالعقد، وهي تتطلب لذلك أن تعين فيه المسائل الجوهرية للعقد الموعود بإبرامه، والمدة التي يجب أن يبرم خلالها، وذلك دون إخلال بوجوب اتباع نفس الشكل المتطلب للعقد الموعود بإبرامه، إذا استلزم له القانون شكلاً خاصًا، إعمالاً لما تقضي به المادة (69) من المشروع.
وغني عن البيان أن تطلب الشروط الخاصة المنصوص عليها في المادة (73) لا يغني عن شروط الانعقاد وشروط الصحة المتطلبة في العقود بوجه عام، اعتبارًا بأن الوعد بالعقد لا يعدو أن يكون هو في ذاته عقدًا وإن كان ليس هو العقد المقصود في النهاية.
وتجيء المادة (73) لتحدد الأثر المترتب على الوعد بالعقد. وهي تقرر في فقرتها الأولى، أن هذا الأثر يتمثل في قيام العقد الموعود بإبرامه، إذا ارتضاه من صدر الوعد لصالحه، قبل فوات المدة التي حددت له، واتصل رضاؤه هذا بعلم الواعد قبل هذا الوقت أيضًا، وقد حرص المشروع على أن ينص على قيام العقد الموعود بإبرامه، إذا ما ارتضاه الموعود له، على نحو ما يتطلبه القانون. وهو بذلك يريد أن يحسم خلافًا ثار في الفقه الفرنسي على الأخص حول ما إذا كان العقد الموعود بإبرامه يقوم بمجرد أن يأتي رضاء الموعود له به، أم أنه لا يترتب على هذا الرضاء إلا التزام الواعد بإبرامه، الأمر الذي يتطلب، عند نكول الواعد، الالتجاء إلى القضاء وإصدار حكمه بإيقاع العقد. وإذا كان الفقه في الكويت، كما هو الشأن في مصر، قد صار في الاتجاه الثاني، إلا أن المشروع آثر مع ذلك أن يتبنى الاتجاه الأول، توخيًا لليسر، ومنعًا لتفرقة تتجافى مع المنطق بين الوعد بالعقد والإيجاب به، إذا اقترن بميعاد للقبول وصار بذلك ملزمًا. حيث يتجه الفقه إلى القول بقيام العقد في هذا النوع من الإيجاب بمجرد أن يصدر القبول في ميعاده، ويتصل بعلم الموجب، دون حاجة به إلى أن يوقعه حكم القاضي. فليس من المعقول أن يكون للوعد بالعقد الذي هو في ذاته عقد، أثر أدنى من ذاك الذي يلحق الإيجاب المقترن بميعاد للقبول، وهو في ذاته ليس عقدًا وإنما مجرد خطوة إلى العقد. وحتى لو اعتُبر عرض الصفقة عقدًا كما يغلب في الفقه الفرنسي، فهو بالنسبة إلى العقد المقصود في النهاية أدنى بالضرورة من الوعد بالعقد.
وتعرض المادة (73) في فقرتها الثانية للحالة التي يموت فيها الواعد، أو يفقد أهليته، قبل استعمال الموعود له الخيار الذي يمنحه إياه الوعد، وتبقى له على هذا الخيار، حتى إذا ما ارتضى قيام العقد الذي وعد به في الميعاد، قام وانعقد.
وتجيء الفقرة الثالثة من المادة (73) لتقضي بأن موت الموعود له لا يُسقط الوعد، وينتقل خيار قبول العقد الموعود بإبرامه إلى خلفائه، على أن ذلك الحكم لا يتبع بالضرورة إذا كان الوعد قد أُعطى للموعود له بمراعاة شخصه.
وقد حرص المشروع، في هاتين الفقرتين، على بقاء أثر الوعد قائمًا برغم موت الواعد أو الموعود له، حتى يقطع مظنة سقوطه، قياسًا على الإيجاب. وهو من بعد الحكم الذي استقر الفقه عليه، اعتبارًا بأن الوعد عقد، ينشأ عنه التزام على الواعد بإبرام العقد، وحق للموعود له في إبرامه، والالتزام والحق لا ينقضيان بموت المدين أو الدائن.
والمادتان (72، 73) وإن تضمنتا أحكامًا مستحدثة، فهما في عمومها مستمدتان من القانون السويسري (المادة 22 من مدونة الالتزامات)، والقانون البولوني (المادة 62) والقانون المصري (المادة 101 والمادة 102)، والقانون السوري (المادة 102 والمادة 103)، والقانون الليبي (المادة 101 والمادة 102)، والقانون العراقي (المادة 91) والقانون الأردني (المادة 105 والمادة 106)، وقانون التجارة الكويتي (المادة 115).
التعاقد بالعربون:
عمد المشروع إلى تنظيم التعاقد بالعربون تنظيمًا متكاملاً، وخصه بأربع مواد، وذلك اعتبارًا منه بأهمية هذا النوع من التعاقد وشيوعه في المعاملات المالية، المدنية منها والتجارية على حد سواء.
تعرض المادة (74) لدلالة العربون، إذا قام الشك حولها، وتمثل بذلك أمرها على القاضي غمة، فدفع العربون عند إبرام العقد قد يقصد به المتعاقدان تأكيد قيامه، وأنه بالتالي بات، لا رجوع فيه ولا عدول عنه وقد يقصد به المتعاقدان، على نقيض ما سبق، تخويل كل منهما خيار العدول عن العقد، والأمر هنا وهناك مرده إلى قصد المتعاقدين. وتقتصر مهمة القاضي في البحث عن هذا القصد.
ولكن قصد المتعاقدين قد يغم على القاضي، وهنا يثور التساؤل حول الاتجاه الذي يفسر فيه هذا الشك، أيفسر دفع العربون على أن المتعاقدين قد قصدا به أن يكون عربون بتات أم عربون رجوع ؟
وفي سبيل الأخذ بهذا الاتجاه أو ذاك، اختلفت تقنينات الدول وتباينت أحكامها، فمنها ما سار في اتجاه عربون البتات، ومنها ما سار في اتجاه عربون الرجوع، وجاء القانون المصري الحالي وسار في اتجاه عربون الرجوع (المادة 103) وحذا حذوه أكثر قوانين البلاد العربية الأخرى التي استوحته، كالقانون السوري (المادة 104)، والقانون الليبي (المادة 103)، ولم يخالف هذا الاتجاه إلا القانون العراقي حيث اعتبر العربون، عند الشك، عربون بتات (المادة 92). وجاء قانون التجارة الكويتي على نهج القانون المصري ليعتبر دفع العربون، عند الشك، عربون الرجوع (المادة 116/ 1).
وقد آثر المشروع أن يسير في اتجاه عربون الرجوع أيضًا، فاعتبر دفع العربون وقت إبرام العقد، أنه يفيد، عند الشك، قصد المتعاقدين في منح كل منهما خيار الرجوع عن العقد، وهو بذلك أراد أن يتمشى مع حكم ألفه الناس في الكويت وساروا عليه، وأصبح بذلك أقرب إلى قصد المتعاقدين، وقد أدخل المشروع بعض التعديلات على صياغة نص المادة (116) من قانون التجارة اقتضتها الملاءمة، فاستبدل بعبارة (الحق في العدول) عبارة (خيار العدول) لأنها أكثر دقة من وجه، وأكثر تمشيًا مع مصطلحات الفقه الإسلامي من وجه آخر.
كما أنه استبدل بعبارة (إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك)، عبارة (ما لم يظهر أنهما “ المتعاقدان “ قصدا غير ذلك)، توخيًا للدقة والانضباط، واعتبارًا بأن قصد المتعاقدين في اعتبار العقد نهائيًا قد يظهر من ظروف العقد ذاته، ومن غير أن يتفق عليه بطريق مباشر، كما إذا كان مبلغ العربون كبيرًا، لم تجرِ العادة على دفعة باعتباره مخولاً خيار الرجوع في العقد.
وتعرض المادة (75) للجزاء المترتب على عدول المتعاقد عن العقد الذي أبرمه مقترنًا بدفع العربون، عندما يثبت له الخيار فيه، وتركز هذا الجزاء في قيمة العربون ذاته، لا أقل منه ولا أكثر، ما لم يُتفق على غير ذلك. فإذا كان من عدل هو الذي دفع العربون فقده وأصبح مبلغ العربون بذلك حقًا خالصًا للمتعاقد الآخر، أما إذا كان العادل هو من قبض العربون، التزم برده ودفع مثله.
واستحقاق قيمة العربون للمتعاقد الذي يحصل ضده العدول، لا يثبت له على سبيل التعويض عما رتبه له هذا العدول من ضرر، وإنما هو يستحق له اعتبارًا بأنه مقابل استعمال غريمه خيار العدول فالتعويض في مجال العقد، يكون عند الإخلال بالالتزام الناشئ عنه، والمتعاقد بالعربون الذي يعدل عن العقد لا يفعل بعدوله إلا أنه يستعمل حقًا ثابتًا له، ومن يستعمل حقه لا يخل فالجواز الشرعي ينافي الضمان، ولتقرير هذا الحكم، حرص المشرع على النص على أن مبلغ العربون يثبت لمن حصل ضده العدول، دون اعتبار لما يترتب عنه من ضرر له، فهو يستحق له حتى ولو لم ينله من العدول أي ضرر، بل حتى لو استتبع له النفع، كما إذا أعاد الصفقة لآخر بثمن أكبر، وهو من ناحية أخرى، يُستحق له دون زيادة عليه، حتى لو نجم له عن العدول ضرر يتجاوزه، والعربون بهذه المثابة يختلف أساسيًا عن الشرط الجزائي، الذي هو تقدير اتفاقي للتعويض عن الإخلال بالالتزام.
والمادة (75) مستوحاة من المادة (116) من قانون التجارة الكويتي في شطرها الأخير، والتي هي مستوحاة بدورها من الفقرة الثانية من المادة (103) مصري، وذلك بعد إدخال تعديلات لفظية اقتضتها الملاءمة، من غير أن تغير في جوهر الحكم. وذلك الحكم يمكن له أن يتمشى مع السائد في الفقه الحنبلي، وإن كان يتخالف مع ما يقول به الفقه المالكي.
وتعرض المادة (76) لتحديد المدة التي يباشر خلالها خيار العدول عن العقد، عندما يسمح هو بذلك لأي من المتعاقدين أو لكليهما، وإذا حدد الاتفاق لذلك مدة، أو جرى العرف بتحديدها، لم تكن ثمة صعوبة، ووجب مباشرة رخصة العدول خلالها، وإلا تأكد قيام العقد، فإن لم تحدد مدة لمباشرة خيار العدول عن العقد عرفًا أو اتفاقًا، بقي هذا الخيار قائمًا للمتعاقد وحق له أن يعدل عن العقد إلى أن يصدر منه ما ينم عن رغبته في تأكيد قيامه، وبالتالي عن رغبته في النزول عن خيار العدول عنه. وتلك الرغبة من المتعاقد قد تجيء منه صراحةً، وقد تستخلص دلالة من ظروف الحال، وعلى الأخص من قيامه، بعد دفع العربون أو قبضه، على حسب الأحوال، بتنفيذ الالتزامات التي يولدها العقد في ذمته.
وتجيء المادة (76) في فقرتها الثانية، وتقضي بأن قعود المتعاقد الثابت له خيار العدول عن العقد عن تنفيذ الالتزامات الناشئة عنه في الأجل المضروب لأدائها أو تراخيه في ذلك مدة لا تتجاوز المعقول والمألوف عند عدم تحديد أجل لها من شأنه أن يجيز للمتعاقد الآخر اعتبار ذلك منه عدولاً عن العقد مباشرة منه للخيار الثابت له.
وحكم المادة (76) بفقرتيها مستحدث وهو مع ذلك لا يعدو أن يكون تقنينًا لما سار الفقه والقضاء عليه.
وتعرض المادة (77) لحالة استحالة تنفيذ الالتزامات الناشئة عن العقد التي تطرأ بعد إبرامه مقترنًا بخيار العدول، كما إذا ذبح البائع بالعربون البقرة المبيعة أو هدم المنزل، وتعذر بذلك عليه الوفاء بالتزامه بالتسليم إلى المشتري نتيجة خطئه، وتقضي هنا باعتبار استحالة التنفيذ في حكم العدول عن العقد، فلا يكون للمتعاقد الآخر أكثر من قيمة العربون المتفق عليه، على نحو ما تقضي به المادة (75) فلا يكون له حق في التعويض، ذلك لأنه كان عليه أن يتوقع من غريمه أن يعدل عن العقد، مباشرةً منه لخيار العدول الثابت له، فكأن ثمة ضررًا لم ينله على أن هذا الحكم لا يسري، بطبيعة الحال، إلا إذا وقعت استحالة تنفيذ الالتزام في الفترة التي يكون فيها خيار العدول قائمًا لما يزل، فإن زال خيار العدول، وصار العقد بالتالي إلى بتاته، ثم وقعت استحالة تنفيذ الالتزام بخطأ التعاقد، أثقلته المسؤولية وفقًا للقواعد القانونية العامة.
وتجيء الفقرة الثانية لتواجه حالة استحالة التنفيذ الراجعة إلى سبب أجنبي لا يد لأحد المتعاقدين فيه، كما إذا هلك محل الالتزام بقوة قاهرة، وهي تقضي هنا برد العربون إلى دافعه، وهذا الحكم إعمال للقواعد القانونية العامة، حيث أن العقد هنا ينفسخ ويعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل إبرامه.
والمادة (77) بفقرتيها نص مستحدث، وإن كانت فقرتها في مطلق عمومها، مستوحاة من المادة (338) من القانون الألماني.
التعاقد بالمزايدة:
والمتعاقد عن طريق المزايدة، في الفقه الإسلامي جائز قضاءً ولا غبار عليه ديانةً، وعلى الأخص بالنسبة إلى البيع، حيث سمي (بيع المزايدة) أو (بيع من يزيد)، وذلك ما لم تكن المزايدة صورية، قُصد بها التواطؤ على رفع الثمن، وقد أطلق فقهاء المسلمين على المزاد الصوري الذي ابتُغي به التواطؤ على رفع الثمن (النجش).
وتُرسي المادة (78)، في فقراتها الأربع القواعد العامة التي يقوم عليها التعاقد عن طريق المزايدة، وهي – بين النزعتين اللتين قامتا في الفكر القانوني بصدد هذا النوع من التعاقد – تنحو منحى النزعة التي ترى الإيجاب في العطاء الذي يتقدم به المتزايد، تاركةً النزعة التي ترى الإيجاب متمثلاً في الإعداد للمزاد وفتحه، فالإعداد للمزاد أو حتى فتحه لا يعدو أن يكون من قبيل الدعوة إلى التعاقد، وفي ذلك يتمشى المشروع مع قانون التجارة الكويتي (المادة 114)، والقانون المصري (المادة 99)، والقانون السوري (المادة 100)، والقانون الليبي (المادة 99)، والقانون العراقي (المادة 89)، والقانون الأردني (المادة 103)، كما يتفق مع ما يقول به الفقه الإسلامي.
وعطاء المتزايد – وإن اعتبر إيجابًا – إلا أن صاحبه يبقى ملتزمًا به إلى حين تقدم متزايد آخر بعطاء أفضل، أو إلى أن يُقفل المزاد، دون أن يُرسى على أحد إذا كان عطاؤه هو الأفضل، وهذا ما تقرره الفقرة الأولى، وهو حكم يتفق مع ما يقول به الفقه الإسلامي، الذي يرى في مجموعه، وقوع عطاء المتزايد ملزمًا لصاحبه فترة من الزمن، خلافًا للأصل العام الذي يقوم على منح الموجب خيار الرجوع في إيجابه. وهذا الحكم الذي تقرره الفقرة الأولى يتمشى في الغالب من الأمر مع قصد المتعاقدين. فمن يتقدم بعطائه دون تحفظ، يريد بذلك بالضرورة أن يبقى عطاؤه قائمًا، ويظل ملتزمًا به إلى أن يتقدم متزايد آخر بعطاء يفوقه، أو إلى أن يُرسى المزاد عليه إذا كان عطاؤه هو أفضل عطاء، ثم إن هذا الحكم لا يعدو أن يكون تطبيقًا للأصل العام الذي سبق للمشروع أن قرره في المادة (41) منه والذي مؤداه أن يقع الإيجاب ملزمًا، إذا اقترن بميعاد للقبول. فإذا كان من الممكن لهذا الميعاد أن يجيء صريحًا، فإنه قد يستخلص دلالة من الظروف.
فإذا تقدم متزايد آخر بعطاء يزيد على عطاء من سبقه، سقط العطاء السابق، لمضي الفترة التي حددها صاحبة لقيامه، من غير أن يلحقه قبول، فإن كان عطاء المتزايد هو الأفضل وبالتالي الأخير، بقي وحده يتربص القبول، فإن أُرسي المزاد على صاحبه اعتُبر ذلك قبولاً، وتم العقد، أما إذا قُفل المزاد، دون أن يرسى عليه، سقط عطاؤه لفوات ميعاده أيضًا من غير أن يلحقه قبول.
وتقضي الفقرة الثانية بأنه لا يمنع من سقوط العطاء بعطاء أفضل منه أن يقع هذا العطاء الأخير باطلاً، كما إذا تقدم من مجنون أو من شخص يمنعه القانون من المزايدة، كعمال القضاء ونحوهم، أو أن يرفض العطاء الأفضل وهذا الحكم يتمشى تمامًا مع قصد المتزايد الذي يرتضي بالتقدم بعطائه، أن يظل عطاؤه هذا قائمًا فترة من الزمن، تتحدد بالتقدم من غيره بعطاء أكبر منه بغض النظر عن قيمة هذا العطاء الآخر في ذاته أو عن مصيره.
وتعرض الفقرة الثالثة لتحديد القبول الذي ينعقد به العقد، ويتمثل هذا القبول في إرساء المزاد ممن يتولاه، فلا ينعقد العقد لمجرد أن يتمثل العطاء هو الأفضل أو الأوحد. وإنما يلزم أن يلحقه قبول، وهو ما يجيء في صورة إرساء المزاد وليس ثمة ما يمنع متولي المزاد من عدم قبول عطاء المتزايد، ولو كان هو الأفضل أو الأوحد، دون إخلال بما عساه أن يتحمل به من مسؤولية، وفقًا للقواعد العامة، إن تمثل رفض إرساء المزاد خطأ، كما إذا وقع دون مبرر معقول، وإن جرت عادة الكثيرين على مواجهة هذه الحالة بتضمين قائمة المزاد شرطًا يقضي بأن لمتوليه الحق في رفض إرسائه على المتزايد ذي العطاء الأفضل دون إبداء الأسباب.
وتستطرد الفقرة الثالثة، فتقرر استثناءً للحكم الذي يقضي بقيام العقد بإرساء المزاد، في حالة وجوب المصادقة على إرسائه من شخص معين أو هيئة معلومة، وهذا شائع في المزايدات وعلى الأخص في المزايدات التي تقوم في شأن أموال ومشروعات الدولة أو غيرها من الأشخاص المعنوية العامة، وتقضي الفقرة الثالثة بعدم تمام العقد، في هذه الحالة، إلا بصدور المصادقة ممن يملكها، وإن ردت تاريخ انعقاد العقد عند حصولها التي تاريخ رسو المزاد.
وتأتي الفقرة الرابعة لتتحفظ في شأن الأحكام التي أوردتها الفقرات السابقة عليها، بقولها أنها لا تسري في الأحوال التي ينص القانون على خلافها أو يظهر أن المتعاقدين قد قصدا حكمًا مغايرًا لما تقضي به.
والمادة (78) مستوحاة من القانون المصري (المادة 99) وغيره من القوانين العربية الأخرى التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي (المادة 114)، وهي مع ذلك تتضمن تعديلاً كبيرًا في الصياغة والمضمون، اقتضته الملاءمة التشريعية.
وتعرض المادة (79) لصورة خاصة من المزايدات، وهي تلك التي لا تتم علنًا، بحيث يعرف المتزايد العطاءات المقدمة من غيره، وإنما تقدم فيها العطاءات، بحيث لا يعرفها المتزايدون الآخرون. وهذه هي الصورة التي جرى عرف التعاقد على أن يطلق عليها: المزايدات أو المناقصات داخل مظروفات، والمناقصة ما هي إلا مزايدة، ولكن لا في رفع المقابل الذي يعرضه المتزايد في نظير ما سوف يأخذ وإنما في الإقلال من المقابل الذي يرتضي أن يأخذه في نظير ما سوف يعطيه.
وتسري على المزايدات أو المناقصات داخل مظروفات الأحكام العامة التي تسري على المزايدات المنصوص عليها في المادة (78)، ويُستثنى من ذلك ما تعلق بالوقت الذي يبقى فيه العطاء قائمًا يلتزم به صاحبه، فالعطاء في المزايدات داخل مظروفات يظل ملزمًا لصاحبه، حتى يبت متولي المزاد فيه مع غيره من العطاءات الأخرى، دون نظر إلى قيمته بالنسبة إلى قيمة غيره. فهو لا يسقط إذا اتضح أن ثمة عطاء أفضل منه، ويكون لمتولي المزاد أن يقبل العطاء الذي يراه له أفضل، دون أن يكون ملزمًا بالضرورة بقبول العطاء الأكبر في المزايدة، أو الأقل في المناقصة، وذلك ما لم يقضِ القانون، في حالة خاصة بغيره أو يتضح أن المتعاقدين قد قصدا خلافه.
ونص المادة (79) مستحدَث، ومع ذلك فحكمه متفق تمامًا مع ما يجري العمل عليه، وهو من بعد يتمشى مع قصد المتعاقدين.
التعاقد بالإذعان:
وتجيء المادة (80) لتحسم خلافًا ثار واحتدم في الفكر القانوني في فرنسا وفي بلاد أخرى كثيرة غيرها، حول طبيعة عقد الإذعان ذاتها، وهو خلاف تركز حول ما إذا كان عقد الإذعان يُعتبر عقدًا، وبالتالي تسري في شأنه أحكام العقود بوجه عام، أو أنه لا يُعتبر كذلك.
وقد آثر المشروع أن يحسم هذا الخلاف العنيف الحاد حول عقود الإذعان، فناصر فكرة العقدية في صددها، قاضيًا في المادة (80) أنه: (لا يمنع من قيام العقد أن يجيء القبول من أحد طرفيه إذعانًا لإرادة الطرف الآخر، بأن يرتضي التسليم بمشروع عقد وضعه مسبقًا، ولا يقبل مناقشة في شروطه). والمشروع بذلك يغلب الرأي السليم، الذي ناصره القضاء دومًا، فضلاً عن كثرة من الفقهاء، وقد راعى في ذلك أن الطرف المذعن، ولو كان في مركز اقتصادي أو اجتماعي أضعف بكثير من غريمه، ولو أن رضاءه يأتي على صورة التسليم بشروطه والإذعان لمشيئته، إلا أنه مع ذلك رضاء قائم وكافٍ لقيام العقد، ثم إن علاج رضوخ الطرف المذعن لإرادة غريمه والتسليم بشروطه من غير مناقشة فيها لا يتمثل في رفض فكرة العقدية في ذاتها، وإنما في حماية هذا الطرف الضعيف عندما تقتضيها المصلحة واعتبارات العدالة، وهو الأمر الذي عمد المشروع بالفعل إليه في المادتين التاليتين.
والمادة (80) مستوحاة في مجموعها من المادة (161/ 1) تجاري كويتي، التي هي مستوحاة بدورها من المادة (100) من القانون المصري، عبر المادة (167/ 1) عراقي، ولكن المشروع عدل في صياغة المادة (80)، تعديلاً كبيرًا استهدف به تحقيق الغاية التي استهدفها وهو تقرير صفة العقدية في عقد الإذعان، حسمًا للخلاف الكبير الذي احتدم حولها، وذلك بطريق صريح ومباشر، ثم إن المشروع بصياغته للمادة (80) يتفادى العيب الذي يشوب صياغة النص المصري والنصوص العربية الأخرى التي نقلت عنه، فهذه النصوص جاءت في صياغة من شأنها أن تجعلها تقنع بمجرد عرض الطريقة التي يتم عليها القبول في عقود الإذعان، من غير أن تقرنه بأي حكم إيجابي، على الأقل بطريق مباشر، وليس هذا هو الشأن في التشريع، بل هو الشأن في الفقه.
وتقرر المادة (81) حماية فعالة للطرف المذعن – وهي الغاية التي استهدفها الفكر القانوني دومًا – اعتبارًا بأنه في قبوله العقد يرضخ لإرادة المتعاقد الآخر ويسلم بشروطه من غير نقاش، وتتركز الحماية في تجنيبه المذعن أثر إعمال الشروط التعسفية الجائرة المجحفة به، وهي تكون كذلك إذا جاءت متجافية مع ما ينبغي أن يسود التعامل من شرف ونزاهة، أو مع ما يستوجبه من مراعاة مقتضيات حسن النية، وتثبت هذه الحماية، حتى لو كان المذعن يعلم بها وشملها بالتالي رضاؤه.
وسبيل الطرف المذعن إلى توفير الحماية لنفسه هو أن يلجأ إلى القضاء، الذي له، بناءً على طلبه، وعلى حسب الأحوال، ووفقًا لما تقتضيه العدالة، أن يعدل من الشروط التعسفية بما يرفع إجحافها عن الطرف المذعن، أو يعفيه كلية منها، ويقع باطلاً كل اتفاق من شأنه أن يرفع تلك الحماية بوجهيها.
والمادة (81) مستوحاة من نص المادة 161/ 2 تجاري كويتي، التي هي بدورها مستوحاة من نص المادة (149) مدني مصري، عبر المادة 167/ 2 مدني عراقي، بعد إجراء تعديلات في الصياغة، اقتضتها الملاءمة.
وتعرض المادة (82) لتفسير الشك الذي يبقى في عبارات عقد الإذعان الغامضة، والتي لا تصل وسائل التفسير إلى تبديده، وتقضي بأن هذا الشك يفسر دائمًا، وفي كل الأحوال، لمصلحة الطرف المذعن، وهذا مظهر آخر من مظاهر الحماية للجانب الضعيف في عقد الإذعان.
والمادة (82) مستوحاة من نص المادة 161/ 3 من قانون التجارة الكويتي، الذي هو بدوره مستوحى من نص المادة (151) مدني مصري، عبر المادة 167/ 3 مدني عراقي.
ولكن المشروع أجرى تعديلاً جوهريًا في الصياغة، توخيًا للدقة، فلم يشأ أن يقول أن تفسير العبارات الغامضة يكون في مصلحة الطرف المذعن – لأن ذلك ليس هو المقصود، وإنما قال بأن الذي يفسر لمصلحة الطرف المذعن هو الشك الذي يبقى، بعد أن يعمد القاضي إلى وسائل التفسير المختلفة بغية إزالة غموض العبارة، كما أن المشروع لم يشأ أن ينص على أن الشك يفسر لمصلحة الطرف المذعن، ولو كان دائنًا. وإنما استعاض عن ذلك بالقول بأن الشك يفسر دائمًا لمصلحته، إذ أن تفسير الشك لمصلحة الدائن، أمر تقتضيه القواعد العامة نفسها في بعض الأحيان، ويحصل ذلك كلما كان من مقتضى الشرط الغامض أن يؤدي إلى تقرير حكم يخالف القواعد العامة، فيفسر هذا الشرط على النحو الذي يسايرها، ولو كان من شأن ذلك أن يعود بالنفع على الدائن، كما هو الحال في شروط الإعفاء من المسؤولية أو شروط الإعفاء من الضمان، في صوره العديدة.
(ب) سلامة الرضاء:
الرضاء قوام العقد وأساسه وركنه الركين، فلا قيام للعقد بغيره، بحيث أنه إذا انعدم الرضاء بطل العقد، ولكن توافر الرضاء، وإن مكن للعقد أن يقوم، إلا أنه بذاته غير كافٍ، ليكون العقد بمنأى عن كل خلل يعتريه، إذ يلزم كذلك، أن يجيء الرضاء سليمًا. وهو لا يكون كذلك، إلا إذا صدر عن شخص متمتع بأهلية إجراء العقد، وجاء خاليًا من العيوب التي تشوبه، وهي تلك التي استقر الفكر القانوني على أن يطلق عليها (عيوب الرضاء).
والمادة (83) تستهدف إبراز هذه الفكرة، وهي وإن كانت تقرر حكمًا عامًا بات مسلمًا، إلا أنها لا تخلو من كل فائدة، فإلى جانب كونها تتضمن تركيزًا وتأصيلاً لفكرة أساسية في العقد، فهي تتمثل تقديمًا منطقيًا للنصوص التالية التي تعرض لأحكام الأهلية ولعيوب الرضاء.
الأهلية:
وتُرسي المادة (84) الأصل العام في صدد التمتع بأهلية إجراء العقود، ومؤداه أن هذه الأهلية تثبت للشخص، ما لم يقرر القانون عدم أهليته لإجراء العقد أو نقصها، وذلك مبدأ مسلم في الفقه الإسلامي وفي القانون المعاصر على حد سواء، وتكاد المادة التي أتى بها المشروع أن تكون مطابقة في صياغتها لنص المادة (117) تجاري كويتي، حيث لم تأتِ عليه إلا بتعديل جد طفيف لا يغير في المدلول، فقد آثر المشروع أن يستعمل عبارة “ ينقص منها (من الأهلية) بدلاً من عبارة (يحد منها) حتى يتمشى النص مع السائد في لغة القانون، حيث يقال عادة: “ نقص الأهلية “ و“ ناقصو الأهلية “، ولا يقال “ الحد من الأهلية “ أو “ محدودو الأهلية “.
وثمة حالة لم يتطرق إليها شك ولم يقع في صددها خلاف، وتلك هي حالة الصغير الذي لما يبلغ سن الرشد، فهو عديم الأهلية أو ناقصها، بحسب ما إذا كان غير مميز أو مميزًا، من غير حاجة إلى تدخل من القاضي، وبعبارة الفقه الإسلامي، هو محجور لذاته، والعلة في ذلك واضحة، إذ أن مرجع الصغر أو القصر هو السن، والسن أمر موضوعي، ليس من شأنه أن يثير كبير خلاف، وإن أثاره، أمكن حسمه من غير حاجة التي تدخل من القاضي.
أما المجنون والمعتوه، فقد اختلفت في شأن الحجر عليهما قوانين البلاد العربية، فالقانون المصري (المادة 113) لا يجعل منهما محجورين لذاتهما وإنما يتطلب لإيقاع الحجر عليهما حكم القاضي، بل إنه لا يجعل هذا الحجر ساريًا في مواجهة الغير إلا بتسجيله، وقد ساير القانون المصري في ذلك كل من القانون السوري (المادة 114) والقانون الليبي (المادة 113)، أما القانون العراقي (المادة 94) فقد أخذ بحكم يتخالف مع حكم القانون المصري، ولكنه يتوافق مع ما جاءت به المجلة (المادة 958) ومع ما يسود في الفقه الإسلامي من أن المجنون والمعتوه، كالصغير، محجور عليهما لذاتهما، أي بحكم الشرع وبغير حاجة إلى تدخل القاضي، وقد نهج القانون الأردني نفس النهج الذي اتبعته المجلة، وسايرها فيه من قبل القانون العراقي.
وقد آثر المشروع أن يسير في هذا الاتجاه، قاضيًا في الفقرة الأولى من المادة (85) بأن المجنون والمعتوه كالقاصر، محجور عليهما لذاتهما وهذا الذي أخذ به المشروع، فضلاً عن توافقه مع ما يقول به الفقه الإسلامي وتبنته المجلة، هو الذي يتفق مع طبيعة الأمور نفسها، إذ أن الجنون والعته يمسان من الإنسان ذات عقله، وهما من بعد أمران واضحان يدمغان ببصماتهما تصرفات صاحبهما، بحيث يصعب عدم التعرف عليهما، إلا فيما ندر.
ومن ناحية أخرى انعقد الإجماع في الفكر القانوني المعاصر على وجوب تدخل القاضي لإيقاع الحجر على السفيه وذي الغفلة. ذلك لأن السفه والغفلة لا يمسان من الإنسان إدراكه، كما هو الشأن عند الصغير والمجنون والمعتوه، وإنما مجرد تدبيره أمره. فهما يتمثلان في ضعف بعض الملكات الضابطة للنفس، يعتري الإنسان فيجعله يسرف في إنفاق ماله، أو يغبن في معاملاته. وذاك أمر لا يمكن الاطمئنان إلى وجوده ما لم يتثبت منه القاضي، كما أن في الفقه الإسلامي، اتجاهًا قويًا يقول بوجوب تدخل القاضي لإيقاع الحجر على السفيه. ويناصر هذا الرأي في الفقه الحنفي أبو يوسف، ولكن محمدًا عارضه، حيث قال إن الحجر يثبت بنفس السفه، ولا يتوقف على القضاء، وقد أخذت المجلة برأي محمد وأبي يوسف من حيث الحجر على السفيه، وبرأي أبي يوسف من حيث لزوم حكم القاضي لوقوعه، والغفلة عن الحنفية، نوع من السفه، وهو ما أقرته المجلة (المادة 946).
وقد آثر المشروع أن يسير على نهج المجلة فجاءت المادة (85) وفقرتها الثانية تقضي بأن الحجر لا يقع على السفيه وذي الغفلة إلا بحكم القاضي، كما قضت بأن المحكمة تحجر عليهما وترفع الحجر عنهما وفقًا لما تقتضيه ظروف الحال، أي تمشيًا مع علة الحجر ثبوتًا وزوالاً، كما استوجبت شهر الحكم الصادر بالحجر على السفيه وذي الغفلة، حماية للغير، بإتاحة الفرصة لهم في العلم بالحجر أو برفعه، حتى لا يفاجئوا به وبما عساه أن يترتب عليه من أثر في صدد العقود التي أبرموها، ونصت كذلك على أنه يتم شهر الحجر ورفعه وفق قواعد يصدر بها قرار من وزير العدل.
وتعرض المادة (86) لأهلية الأداء، وأهلية أداء التصرفات مناطها الإدراك أو التمييز، فهي تدور معه وجودًا وعدمًا، كمالاً ونقصانًا، والقانون يعتبر الصبي غير المميز عديم الإدراك وهو بالتالي منعدم الأهلية، وتقع تصرفاته كلها باطلة، ولو أجازها وليه لأن التصرف الباطل لا تلحقه الإجازة، وقد نصت المادة (86) في فقرتها الأولى على هذا الحكم وهي في ذلك تتفق مع القوانين المعاصرة كلها عربية كانت أم أجنبية، وهي أيضًا تتوافق مع ما يقضي به الفقه الإسلامي، ومع ما تقضي به المجلة (المادة 966).
ولم يتفق فقهاء الشرع الإسلامي حول تحديد السن الذي يتجاوز فيه الصغير مرحلة انعدام التمييز، فيصير بذلك صبيًا مميزًا. ولم تحدد المجلة بدورها هذا السن، والسائد عند الحنفية أن مرحلة انعدم التمييز تصاحب الصبي من ميلاده إلى بلوغه سن السابعة قمرية من عمره، وهم في ذلك يستندون إلى حديث الرسول، صلوات الله عليه “ مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع “.
وقد حددت المادة (86) في فقرتها الثانية، سن التمييز بسبع سنوات كاملة، وهي في ذلك تتمشى مع رأي سائد في الفقه الإسلامي، يناصره على الأخص الأحناف، مع ملاحظة الفارق بين القمرية والشمسية في السنين، إذ أن السنوات السبع التي تتطلبها المادة (86) تحسب وفقًا للتقويم الميلادي، إعمالاً للأصل العام الذي سبق للمشروع أن قرره في المادة (8) وحكم المادة 86/ 2 يتوافق أيضًا مع الكثير من قوانين البلاد العربية كمصر وسوريا وليبيا والعراق والأردن، ومع الكثير أيضًا من قوانين البلاد الأوربية كالقانون الألماني (المادة 104).
والمادة (87) لا تعدو في مجموع أحكامها، أن تكون تقنينًا لما يقول به الفقه الإسلامي، في صدد حكم تصرفات الصبي المميز، ولما جاءت به المجلة، وسار عليه الكثير من قوانين الدول العربية، فهي تقضي، في فقرتها الأولى، بصحة تصرفات الصبي المميز، إذا كانت نافعة له نفعًا محضًا، وبطلان تصرفاته الضارة به ضررًا محضًا، وهي بذلك تمنحه أهلية الاغتناء، وتحظر عليه أهلية الافتقار، وتعرض في فقرتها الثانية، لتصرفات الصبي المميز الدائرة في ذاتها بين النفع والضرر، أي تلك التي بمقتضاها يأخذ الصبي ويعطي بغض النظر عن مدى ما يخلص له شخصيًا من نفع أو خسارة، نتيجة أخذه وعطائه. فالعبرة هنا هي بطبيعة العقد ذاته، وليس بمدى ما يترتب عنه في النهاية من غنم أو غرم، وتقر بأنها قابلة للإبطال لمصلحته.
وقد آثر المشروع هنا أن يأخذ بفكرة القابلية للإبطال كجزاء يرد على عقد القاصر، دون فكرة العقد الموقوف، ذلك لأن وقوع العقد قابلاً للإبطال فيه حماية أكبر للقاصر من وقوعه موقوفًا على الإجازة، فالعقد القابل للإبطال ينتج آثاره بمجرد انعقاده، مع تخويل القاصر حق إبطاله، وهو حق يمكن لمن له الولاية على أن يباشره فورًا نيابةً عنه، أو يباشره هو بنفسه عند بلوغه رشده. فكأنه يمكن بذلك للقاصر أن يفيد من العقد، إذا كان له فيه مصلحة، من غير حاجة إلى أي إجراء يتخذه هو أو وليه. فإن تلمس فيه بعد بلوغه رشده، ضررًا له، أو تلمسه فيه وليه حال قصره، أمكن له أن يطلب من القاضي الحكم بإبطاله بنفسه أو بوساطة وليه، فيزول بذلك أثره من وقت إبرامه. ثم إن فكرة العقد الموقوف ليست فكرة إسلامية بالمعنى الشامل. وإنما هي فكرة قال بها الحنفية والمالكية، ولم يأخذ بها من مذاهب السنة، لا الشافعية ولا الحنابلة، فيما عدا إحدى الروايات عن الإمام أحمد، أخذ فيها بنظام العقد الموقوف.
ولعل ميزة فكرة قابلية العقد للإبطال، كجزاء يرد على تصرفات القاصر وغيره من ناقصي الأهلية، على فكرة العقد الموقوف هي التي حدت بالأغلبية الكبرى من قوانين البلاد العربية إلى تأخذ بها دونها. فلم يسلك النهج المغاير إلا القانون العراقي، ثم القانون الأردني، بل لعل هذا القانون الأخير لا يأخذ بفكرة العقد الموقوف على نحو مطلق (تراجع المادة 128/ 2، والمادة 134/ 1 أردني).
وقد حرص المشروع أن يتحفظ في شأن وقوع تصرفات القاصر الدائرة بين النفع والضرر قابلة للإبطال، فنص على أنها تأخذ هذا الحكم، مع مراعاة ما تقضي به النصوص التالية وغيرها من أحكام القانون الأخرى، وهو بذلك أراد الإشارة إلى الأهليات الخاصة التي تثبت للقاصر في إبرام نوع أو آخر من التصرفات، سواء ما تقضي به منها النصوص الواردة في هذا الباب، أم أحكام القانون الأخرى.
وتعرض المادة (87) في فقرتها الثالثة، للمدة التي يعتبر فيها القاصر صغيرًا مميزًا، قاضية بأنه يعتبر كذلك، بدءًا من سن التمييز إلى بلوغه سن الرشد، وذلك ما لم تكن به عاهة في عقله.
وحددت المادة (88) الثامنة عشرة من العمر سنًا يمكن للصغير بعد بلوغه إياه أن يؤذن في إدارة أمواله، وهو نفس السن الذي يحدده قانون إدارة شؤون القصر (المادة 9) للإذن بالإدارة للقاصر المشمول بوصاية إدارة شؤون القصر، ويحصل الإذن في الإدارة من ولي القاصر أو وصيه على حسب الأحوال، إذا آنس منه القدرة على أن يتولى إدارة أمواله بنفسه، ويكون الإذن مطلقًا أو مقيدًا، وفق ما يراه مصدره.
وتقضي المادة (89) بجواز سحب الإذن للصغير في الإدارة أو تقييده، بعد إعطائه إياه، فالإذن بالإدارة يستهدف ابتلاء الصغير وتجربته، فإن لم تثبت جدارة الصغير في أداء ما أذن فيه وجب سحب الإذن منه، وإن كان ذلك لا يمنع بالضرورة صدور الإذن له من جديد، إذا تبين لوليه أو وصيه أنه اكتمل ما كان يفتقده.
وإذا جاز سحب الإذن في الإدارة لولي الصغير أو وصيه على حسب الأحوال، إلا أن هذا الإذن لا يبطل بزوال الولاية عمن أعطاه، وقد حرص المشروع على أن يصرح بهذا الحكم دفعًا لأية مظنة، واعتبارًا منه بأن الإذن للصغير في إدارة أمواله يستقل عمن يصدره ممن تكون له الولاية على أمواله، فلا يتأثر بموته أو بزوال أهليته أو بعزله، والمشروع في ذلك يجاري القانون العراقي (المادة 98) والقانون الأردني (المادة 119) وإن خالف المجلة (المادة 976).
وتتطلب المادة (90) أن يحصل الإذن بالإدارة أو سحبه أو تقييده بإشهاد رسمي، توخيًا للانضباط، وذلك دون إخلال بما يقضي به قانون إدارة شؤون القصر بالنسبة إلى المشمولين بوصاية إدارة شؤون القصر، حيث يكفي أن يصدر الإذن في الإدارة أو سحبه أو تقييده وفق ما يقضي هو به، لما في ذلك من كفاية في تحقيق الغاية المطلوبة.
وتعرض المدة (91) للتظلم من رفض الإذن في الإدارة، أو سحبه أو تقييده بعد إعطائه، وتجيزه إذا كان الرفض أو التقييد أو السحب قد صدر من الوصي، أما الولي فلم يرَ المشروع أن يجعل على رفضه الإذن لصغيره أو سحبه أو تقييده معقبًا احترامًا للأبوة وحفاظًا على أواصر العلاقة بين الولد وأبيه من وجه، ولكون الولي أبًا كان أم جدًا بعيدًا عن المظنة، من وجه آخر.
وقد أجاز المشروع التظلم للصغير نفسه، كما أجازه لإدارة شؤون القصر ولكل ذي شأن آخر، ويُرفع التظلم إلى المحكمة وفقًا للقواعد والإجراءات التي يقضي بها قانون المرافعات، وللمحكمة أن تأذن للقاصر في إدارة أمواله كلها أو بعضها، إذنًا مطلقًا أم مقيدًا، وفق ما ترى، وذلك إذا تبينت أن رفض الوصي الإذن أو تقييده أو سحبه لا يستند إلى أساس، فإن قضت برفض طلب القاصر تعين عدم قبول تجديده قبل مضي سنة من التاريخ الذي يصبح فيه رفضها نهائيًا.
وتعرض المادة (92) لأهلية الصغير المميز المأذون في الإدارة وتقرر له، في الفقرة الأولى منها، أهلية إجراء كل التصرفات التي تقتضيها إدارة أمواله التي تُسلم له، سواءً أكانت تعتبر هي في ذاتها من أعمال الإدارة، كالاتفاق الذي يبرمه الصبي مع مقاول على ترميم منزله أو مع ميكانيكي لإصلاح سيارته وكتأجير أمواله، أو من أعمال التصرف، كوفاء واستيفاء الديون الناشئة عن إدارة المال، وبيع وشراء ما يلزم لها، ثم تجيء المادة (92) في فقرتها الثانية، وتستثني من أعمال الإدارة التي يكون للصغير المأذون إجراؤها إيجار المال لمدة تزيد على سنة، منقولاً كان هذا المال أو عقارًا، وذلك نظرًا لما قد ينجم للصغير من ضرر من الإيجار الذي تزيد مدته على هذا القدر، وإذا كان إيجار عقار القاصر لمدة سنة لا يمنع من امتداده في الحالة التي يقضي فيها القانون بذلك، إلا أن الحد من أهليته فيما يتجاوز هذه المدة لا يكون مجردًا من المصلحة له حتى في هذه الحالة.
وتقرر المادة (93)، في فقرتها الأولى، للصغير المميز أيًا ما كانت سنه، أهلية التصرف فيما يُعطى له من مال لأغراض نفقته، وهذا الحكم يتمشى مع واقع حياة الناس، حيث يقوم الصغير بنفسه بإنفاق ما يُعطى له من مصروف، ثم أنه لا خوف أن يسمح للصغير أن يتصرف فيما يُعطى له من مال لأغراض نفقته، لضآلة هذا المال من وجه، ولخضوع الصغير لرقابة ذويه في إنفاقه من وجه آخر، بحيث يمكنهم أن يحجبوه عنه كله أو بعضه، إن رأوا منه تبذيرًا، وبعد هذا كله فمال النفقة يعطى للصغير لكي يصرفه بنفسه، ومن ثم لزم الإقرار له بأهلية التصرف فيه كاملة.
وقد حرص المشروع على أن يطلق أهلية الصغير في التصرف فيما يُعطى من مال لأغراض نفقته، فلم يقيدها بقيد، حتى يتيح له التصرف فيه على نحو ما يريد، ولو جاء ذلك منه على سبيل التبرع، لأنه إن فعل، فلم يتبرع إلا بقليل، لا يضيره أن يؤثر به غيره على نفسه، في حين أن تبرعه بهذا القليل يُربَّي فيه، على حداثة سنه أسمى الفضائل وأنبلها طرًا، من غيرية وإيثار ومساعدة المحتاجين وإحسان إلى الفقراء، ولا يقتصر هذا الحكم، على منح الصبي المميز، أيًا ما كانت سنه، أهلية التصرف فيما يُعطى من مال لأغراض نفقته، وإنما يقرر له أيضًا أهلية أداء التصرفات الأخرى، طالما جاءت في حدود تلك الأغراض. والمشروع يريد بذلك أن يتيح للصبي أن يُشبع بنفسه حاجاته اليومية، كأن يشتري شيئًا يلزمه من غير أن يدفع في الحال ثمنه، أو يقترض مالاً يشتري به هذا الشيء.
وتأتي المادة (93) في فقرتها الثانية، تحدد مسؤولية الصغير المميز عن الالتزامات الناشئة عن التصرفات التي يجريها بنفسه لأغراض نفقته، بما يُعطى إياه من مال لهذه الأغراض.
والمادة (93) مستوحاة من المادة (61) من قانون الولاية على المال في مصر مع تعديلات أساسية في الصياغة، توخيًا للدقة والانضباط.
وتعرض المادة (94) لأهلية إبرام عقد العمل والتصرف فيما يجيء ثمرة العمل من مال، أجرًا كان أم غيره. وقد ارتأى المشروع، لثبوت هذه الأهلية، أن يحدد سن الصغير المميز بالخامسة عشرة من عمره، اعتبارًا بأن هذه السن، فضلاً عن كونها مناسبة، فهي تلك التي تحددها الاتفاقات الدولية، كحد أدنى لتشغيل الأحداث (الاتفاقيتان الدوليتان الصادرتان من مؤتمر هيئة العمل الدولية رقم “ 59 و60 “ لسنة 1937 – والمادة “ 367 “ من مدونة العمل الدولية) وإن كان الاتجاه الدولي يسير نحو رفعها إلى السادسة عشرة.
وإذا كان المشروع قد ارتأى تحديد سن الخامسة عشرة لكي تثبت للصغير المميز أهلية إبرام عقد العمل والتصرف فيما يكسبه من عمله، فهو لم يغفل عن أن قانون العمل الكويتي يجيز تشغيل الأحداث عند بلوغهم الرابعة عشرة (المادة “ 18 “ من قانون العمل في القطاع الأهلي) فضلاً عن أن هذه السن أدنى من متطلبات هيئة العمل الدولية التي تتمتع دولة الكويت بعضويتها، فهي سن يغلب ألا يصل فيها الصغير إلى الإدراك الكافي الذي يؤهله لإبرام عقد العمل وللتصرف فيما يجيء ثمرة كسبه من عمله. ثم إن قانون العمل الكويتي، وإن شمل بحمايته السخية العمال الذين يخضعون لأحكامه، فهناك طوائف عديدة من العمال مبعدة عن دائرة سلطانه.
والغاية التي يتوخاها المشروع من تقرير أهلية خاصة للصغير المميز، عند بلوغه الخامسة عشرة من عمره، لإبرام عقد العمل وللتصرف فيما يكسبه من عمله، أجرًا كان أو غيره، هي التيسير عليه، دون التخلي عما يلزم لحمايته، فهو يتيح للصغير، في هذه السن، أن يُبرم عقد العمل بذات نفسه، دون حاجة إلى أن يلجأ إلى وليه أو وصيه، وبهذه المثابة يستطيع أن يتخير بنفسه العمل الذي يروقه، ثم أنه يتفادى ما قد يكون من شأنه أن يفوت عليه فرصة الحصول على مورد رزقه، سيما إذا كان تدخل الوصي يتطلب إجراءات معينة تقتضي وقتًا قد يطول، كما هو الشأن بالنسبة إلى المشمولين بوصاية إدارة شؤون القصر.
والمشروع مع ذلك لم يترك القاصر بعيدًا عن الحماية، فهو لم يطلق أهليته في إبرام عقد العمل، إذ هو يحددها بإبرام هذا العقد لمدة سنة، إذا كان محدد المدة، أما إذا كان عقد العمل غير محدد المدة، ففي قواعد قانون العمل ما يحمي القاصر على وجه كافٍ، حيث يجوز له أن ينهي العقد في أي وقت يشاؤه، بعد المدة التي يتطلبها القانون للتنبيه على رب العمل برغبته في إنهائه، وهي مدة تتراوح بين سبعة أيام وخمسة عشر يومًا على حسب الأحوال وفق ما تقضي به المادة (53) من قانون العمل في القطاع الأهلي.
أما أهلية التصرف فيما يكسبه الصغير المميز البالغ من العمر خمسة عشر عامًا من عمله، أجرًا كان أم غيره، فهي من وجه نتيجة طبيعية لأهلية إبرام عقد العمل، وهي من وجه آخر، تشجيع للصبي على أن يعمل ويكسب، وإذا كان المشروع يمنح الصغير، عند بلوغه الخامسة عشرة أهلية إبرام عقد العمل، وأهلية التصرف في أجره وفي غيره مما يكسبه من عمله، فقد حرص، توخيًا لحمايته، على أن يحدد مسؤوليته الناجمة عن الوفاء بالتزاماته الناشئة عن هذه التصرفات بالأموال التي عادت عليه من كسب عمله.
وتأتي المادة (94) في فقرتها الثانية، وترخص للمحكمة في أن تقيد أهلية الصغير في التصرف في أجره وفي غيره مما يعود عليه من عمله، إذا رأت لذلك مقتض، والمشروع وإن كان في تقريره أهلية الصغير المميز في التصرف فيما يكسبه من عمله من أجر وغيره، قد استوحى المادة (93) من قانون الولاية على المال في مصر، مع جعل السن خمسة عشر عامًا بدلاً من ستة عشر، إلا أنه قد استحدث الحكم الذي يقرر أهلية إبرام عقد العمل ذاته ببلوغ تلك السن وهو في هذا الصدد يتوسط، من بين قوانين بلادنا العربية، بين نهجين: نهج يقرر للصغير المميز أهلية إبرام عقد العمل بمجرد بلوغه سن التمييز، أي سن السابعة، وهو النهج الذي سار عليه القانون المصري (المادة 62) ونهج لم يحدد أهلية خاصة لإبرام عقد العمل، الأمر الذي اقتضى بلوغ سن الرشد لثبوت الأهلية في إبرام عقد العمل، اعتبارًا بأنه عقد يتردد بين النفع والضر. وكل من هذين النهجين لا يخلو من تطرف. وقد ارتأى المشروع أن يسلك بينهما طريقًا وسطًا، فحدد لثبوت أهلية إبرام عقد العمل خمسة عشر عامًا، وهي نفس السن اللازمة لثبوت الأهلية في التصرف فيما يعود على الصغير من عمله أجرًا كان أم غيره.
وتقرر المادة (95) للصغير عند بلوغه الثامنة عشرة من عمره أهلية إبرام الوصية، ولم يشأ المشروع أن يقيد هذه الأهلية بوجوب صدور إذن المحكمة، على نحو ما يقتضيه قانون الوصية في مصر (المادة 5 القانون من رقم 71 لسنة 1946)، لأن في تطلب هذا الإذن، من الناحية العملية، ما يقعد الصغير عن إشباع رغبته المشروعة في أن يؤثر، بعد موته ببعض ماله من تجوز له الوصية قانونًا، وهو بعد غض الإهاب، لم يألف التعامل مع المحاكم.
وتعرض المادة (96) لاكتمال أهلية الأداء ببلوغ سن الرشد، وللحكم العام لعوارض الأهلية بعد بلوغ الرشد ومؤدى نصها أن الأصل أنه ببلوغ الإنسان سن الرشد، يصبح كامل الأهلية لأداء كافة التصرفات القانونية، اعتبارًا بأن إدراكه حينئذٍ يكتمل وهو عند بلوغه هذه السن، يصبح كامل الأهلية بقوة القانون، ومن غير لزوم لاتباع أي إجراء من أي نوع كان وسن الرشد إحدى وعشرون سنة ميلادية كاملة.
على أن اكتمال الأهلية ببلوغ سن الرشد يقوم على افتراض توافر العقل وحسن التدبير في الإنسان، وهو افتراض يتمشى مع الغالب من الناس، فإن كانت في الصبي علة في عقله أو في تدبيره أمره، كان لمن له ولاية على ماله، أو لأي ذي شأن آخر، أن يرفع الأمر للقاضي طالبًا الحكم باستمرار الولاية أو الوصاية على حسب الأحوال، على أنه ينبغي أن يُرفع هذا الطلب إلى القاضي قبل بلوغ سن الرشد، فإن بلغ الصبي سن الرشد، من غير أن يطلب استمرار الولاية أو الوصاية على ماله، انتهت هذه أو تلك بقوة القانون، ويصبح الطريق في إضفاء الحماية على الشخص متمثلاً في نظام القوامة.
وإذا صار الصبي إلى رشده، واكتملت عنده بالتالي أهلية أدائه، فإنه يستمر على هذا النحو ما قدر له أن يعيش، ما لم يطرأ عليه عارض من عوارض الأهلية التي يحددها القانون.
وتعرض المادة (97) للحالة التي يدعي فيها ناقص الأهلية توافر الأهلية عنده، أو يعمد إلى إخفاء النقص في أهليته. وهي حالة لا تعدم الحصول في واقع حياة الناس، وتجيء الفقرة الأولى، لترسي الأصل العام في هذا الخصوص. ومؤداه أن مجرد ادعاء الشخص توافر الأهلية لديه، حالة كونه في الواقع ناقصها، لا يغير شيئًا من حقيقة أمره، ولا يمنعه بالتالي من أن يتمسك بنقص أهليته، وهذا حكم بين واضح، فعلى كل متعاقد أن يتأكد بنفسه من توافر الأهلية فيمن يتعاقد معه، دون أن يركن لمجرد كلامه، ثم إن حماية ناقص الأهلية تتضاءل إلى حد بالغ، إذا كان في مجرد تصريحه بأهليته ما يمنعه من أن يتمسك بما يعتورها من نقص.
وتقضي المادة (97) في فقرتها الثانية، بمسؤولية القاصر عن التعويض عن الضرر الذي يرتبه الإبطال لمن تعاقد معه، إذا كان في سبيل إخفاء نقص أهليته، قد لجأ إلى طرق تدليسية من شأنها أن تحمل على الاعتقاد بتوافر الأهلية لديه، وهذا الحكم لا يعدو أن يكون تطبيقًا للقاعدة العامة في المسؤولية التقصيرية، وقد حرص المشروع على أن يتطلب في الطرق التدليسية التي من شأنها أن تثقل ناقص الأهلية بالمسؤولية، أن يكون من شأنها أن تحمل على الاعتقاد بتوافر الأهلية عنده، فالمعيار هنا ليس شخصيًا يتعلق بذات المتعاقد مع القاصر، ولكنه معيار موضوعي أساسه الشخص العادي، فإذا كانت الحيلة، التي أخفى بها القاصر نقص الأهلية قد انطلت على المتعاقد نفسه، وما كانت لتنطلي على غيره من سواد الناس وجمهرتهم، فإنها لا تصلح دعامة للمسؤولية.
وإذا كانت الفقرة الثانية قد خصت بالذكر القاصر، دون غيره من ناقصي الأهلية، فإن ذلك يرجع إلى أن الحيلة التي يمكن أن تُتخذ سبيلاً لإخفاء سنه يمكن أن تنطلي على الشخص العادي، كما إذا زُورت شهادة ميلاده، أما بالنسبة إلى غير القاصر من ناقصي الأهلية، فيصعب أن تنطلي الحيلة على الشخص العادي، إما بسبب ما يميله عليه الحرص في الكشف في السجلات الخاصة بشهر سبب النقص في الأهلية، كما هو الحال في السفه أو الغفلة، وإما بسبب الضعف الظاهر في الإدراك الذي لا يخفى على فطنته، كما هو الشأن في العته.
وترخص الفقرة الثالثة من المادة (97) للقاضي بأن يحكم على سبيل التعويض المستحق على القاصر نتيجة التجائه إلى الغش لإخفاء نقص أهليته، برفض الدعوى التي يرفعها بإبطال العقد، وما هذا إلا مجرد تطبيق للقاعدة العامة في التعويض العيني.
وتعرض المادة (98) للمجنون من حيث أهلية أداء التصرفات، وتقضي في فقرتها الأولى بانعدام هذه الأهلية عنده، وهذا حكم تفرضه طبيعة الأمور ذاتها، ويجمع عليه فقهاء المسلمين، كما يجمع عليه الفكر القانوني المعاصر على حد سواء، إذ أن الجنون خلل يلحق من الإنسان عقله، فيُعدم الإدراك عنده، والأهلية مناطها الإدراك، تدور معها وجودًا وعدمًا كمالاً ونقصانًا.
على أن الشخص لا يكون عديم الأهلية، إلا عندما يعتريه الجنون، فالعلة تدور مع معلولها، فإن كان الجنون غير مطبق، بحيث تتخلله فترات إفاقة، وأبرم الشخص العقد أثناء فترة منها، كان عقده سليمًا، إذا الفرض أنه أبرمه وهو عاقل، وهذا هو ما تقرره الفقرة الثانية، وهو حكم يقول به فقهاء المسلمين، وأقرته المجلة (المادة 980).
وحكم تصرفات المجنون، من البطلان أو الصحة، على حسب ما إذا كان الشخص عند إبرامها، مجنونًا، أو عاقلاً، لا يتأثر بتنصيب القيم أو عدم تنصيبه، فعلة الحكم هي في ذات اضطراب العقل، وتنصيب القيم أو عدم تنصيبه لا يؤثر في ذلك الاضطراب. ومن هنا كان الحكم في الفقه الإسلامي، أن المجنون محجور عليه لذاته، مثله في ذلك مثل الصغير، مميزًا كان أم كان غير مميز، وهو نفس الحكم الذي سبق للمشروع أن تبناه في المادة (85) فقرة أولى.
وقد حرص المشروع على أن يُصرح، في الفقرة الثالثة، بأن تنصيب المحكمة قيمًا على المجنون لا يغير من الأحكام التي تنظم الأهلية عنده، دفعًا لأية مظنة، برغم أنه لا يعدو أن يكون تطبيقًا لما سبق له أن أورده من أن المجنون محجور عليه لذاته.
وتواجه المادة (99) أهلية المعتوه، ويلاحظ في ذلك الخصوص أن فقهاء المسلمين اختلفوا على تحديد المقصود من العته. فرأى البعض منهم أنه نوع من الجنون، يتميز بأن صاحبته لا يلجأ إلى العنف، فهو جنون هادئ، ورأى البعض الآخر أنه، وإن تشابه مع الجنون في كونه يقوم مثله على علة تلحق العقل، إلا أنه يتخالف معه في أن الخلل الذي يقوم عليه أدنى درجة من ذاك الذي يقوم عليه الجنون، بحيث لا يعدم عند صاحبه الإدراك، وإنما ينقصه فحسب.
وإذا كان الفرق بين الجنون والعته يتمثل، في واقع الأمر في خيط رفيع، يُترك أمر التقدير فيه لقاضي الموضوع، إلا أنه قائم على أية حال، والمصلحة هي في تقرير الخلاف بين الجنون والعته، ليتغير الحكم في شأنهما، فإن كان الخلل الذي يلحق العقل يعدم عند صاحبه الإدراك، اعتبر جنونًا يعدم الأهلية بغض النظر عن هدوء الشخص أو هياجه. أم إذا كان الخلل لا يعدم من الإنسان إدراكه، وإنما ينقصه فحسب، اعتبر عنها، ونقصت الأهلية بسببه، دون أن تنعدم وهذا هو الاتجاه الذي آثر المشروع أن يسايره، مقتفيًا أثر المجلة وما سار على دربها من قوانين دولنا العربية، كالقانون العراقي والقانون الأردني، وقضت المادة (99) بأنه تسري على تصرفات المعتوه الأحكام التي تخضع لها تصرفات الصغير المميز المنصوص عليها في المادة (87).
ولم يشأ المشروع أن يساير المجلة والقانون العراقي والقانون الأردني، فيكتفي بالقول بأن المعتوه هو في حكم الصغير المميز، رغبةً منه في تقييد ما يثبت للمعتوه من أهلية بتلك التي يقررها المشروع للصغير المميز بوجه عام في المادة (87) منه دون الأهليات الخاصة التي تقررها للصغير المميز المواد التي تتلوها.
وتعرض المادة (100)، لإثبات الجنون أو العته، وإذا كانت القاعدة العامة هي أن يفترض في الشخص، عند إجرائه تصرفًا ما أن الإرادة كانت متوافرة لديه حال إبرامه، ما لم يثبت العكس، وهي القاعدة التي سبق للمشروع أن قننها في المادة 33/ 2، إلا أنه أراد أن يأخذ بحكم مغاير في صدد المجنون أو المعتوه، عندما يكون جنونه أو عتهه مشهورًا، أو عندما يكون القاضي قد عين له قيمًا، ليقرر في هذه الحالة وتلك افتراض إبرام التصرف حالة الجنون أو العته، ليلقي بذلك عبء إثبات إبرام التصرف، حالة الإفاقة، على من يدعيه، وهو حكم يجد له ما يبرره ويسوغه إذ أن الشخص الذي يشتهر عنه الجنون أو العته، أو ذاك الذي يُعين له القاضي قيمًا، يكون في أغلب أوقاته فريسة هذا الأمر أو ذاك، بحيث تتمثل فترات إفاقته إن تواجدت، قليلة عارضة، ولقد أراد المشروع أن يتمشى مع الغالب، فيفترض حصوله، ليُلقي بذلك عبء إثبات النادر على من يدعيه.
ويعرض المشروع، في المواد (101 إلى 106) لأحكام تصرفات السفيه وذي الغفلة. والأصل أن حكم تصرفات السفيه وذي الغفلة واحد، اعتبارًا بأن كلاً من السفه والغفلة يتشابهان في أنهما لا يمسان من الإنسان عقله، وإنما مجرد تدبيره أمره – على ما تقدم – وقد تمشى المشروع كأصل عام مع فكرة وحدة الحكم في تصرفات كل من السفيه وذي الغفلة في تقريره في المادة (101) الأصل العام في هذا الخصوص، وكذلك في المادة (102)، حيث أجاز لكليهما إبرام الوقف والوصية، متى أذن لهما به القاضي.
ومع ذلك، لم يغفل المشروع عن أن التماثل بين السفه والغفلة غير قائم، وأن ثمة خلافًا بينهما وإن لم يعظم، فإن كان كل منهما يتمثل في ضعف بعض الملكات الضابطة للنفس، فإن هذا الضعف في السفه يحمل صاحبه على تبذير ماله، في حين أنه، في الغفلة يحمل صاحبه على أن يغبنه غيره في معاملاته، لفرط الطيبة في قلبه، ولما يعتريه من سذاجة، وهذا ما أدى بالمشروع إلى أن يخص السفيه، دون ذي الغفلة، بأهمية إدارة أمواله، إذا أذنته المحكمة في ذلك، وتحت رقابتها، ليصل بذلك إلى مرتبة الصغير المميز عند بلوغه الثامنة عشرة، كما أنه أدى به أيضًا إلى أن يمنحه، دون ذي الغفلة، أهلية إبرام عقد العمل والتصرف فيما يكسبه من عمله، أجرًا كان أم غيره، تحت رقابة المحكمة، ليأخذ بذلك حكم الصغير المميز عندما يبلغ الخامسة عشرة من عمره.
وتقرر المادة (101) الأصل العام الذي يحكم تصرفات كل من السفيه وذي الغفلة. فتقضي بأن ما جاء من تلك التصرفات بعد صدور الحجر وشهره، تسري عليه أحكام تصرفات الصغير المميز المنصوص عليها في المادة (87) من المشروع. أما ما جاء منها قبل شهر قرار الحجر، فيقع صحيحًا، ما لم يكن قد أُبرم بالتواطؤ توقعًا للحجر، وهذا الذي تقرره المادة (101)، من جعل نقص الأهلية عند كل من السفيه وذي الغفلة رهينًا بصدور قرار الحجر وشهره، لا يعدو أن يكون إعمالاً للفكرة التي تقضي بأنهما ليسا محجورين لذاتيهما وإنما يقع حجرهما بحكم القاضي.
أما شهر قرار الحجر، فقد تطلبه المشروع حمايةً للغير، بإتاحة الفرصة لهم في العلم بالحجر، فإن كان قرار الحجر لما يصدر، أو كان قد صدر ولكنه لما يشهر، وتعاقد السفيه مع شخص يعلم بدعوى الحجر أو حتى بالعزم عليها، فعمدا معًا إلى إبرام العقد تواطؤًا منهما على استباق الزمن، فوت عليهما المشروع قصدهما، وأهدر احتيالهما، وأعطى تصرفهما الحكم الذي كان ليأخذه، لو أنه أُبرم بعد قرار الحجر وشهره.
وقد اقتصر المشروع على النص على التواطؤ توقعًا للحجر، باعتبار أن من شأنه إعطاء تصرف السفيه أو ذي الغفلة، قبل شهر قرار الحجر، حكم تصرفه الذي يُبرم بعد ذلك، دون أن يقرن به الاستغلال، على خلاف ما فعل القانون المصري وبعض القوانين العربية الأخرى التي استوحته كالقانون الأردني، إذ أن الاستغلال أصبح عيبًا عام يشوب الرضاء، ويمكن بالتالي إعمال حكمه على تصرفات السفيه أو ذي الغفلة بدون نص خاص، إذا استبان أن من تعاقد معه قد عمد إلى استغلال طيش بين أو هوى جامح أو ضعف ظاهر فيه.
وتمنح المادة (102) للسفيه وذي الغفلة، على خلاف الأصل، أهلية إبرام الوصية والوقف، شريطة أن تأذن المحكمة لهما في إبرامهما، والمشروع في ذلك يحذو حذو كل من القانون المصري (المادة 116/ 1) والقانون الأردني (المادة 130/ 1)، وقد ارتأى المشروع المصلحة في منح السفيه وذي الغفلة أهلية إبرام الوصية والوقف، برغم كونهما من أعمال التبرع، وإن كان قد اشترط لإجرائهما منهما إذن المحكمة، وذلك اعتبارًا منه بأنهما تصرفان يتسمان بنزعة شخصية تخص السفيه أو ذي الغفلة وحده، دون القيم عليه، وأن الواجب ألا يُحرم هذا أو ذاك من أدائهما، لما عساه أن يكون له فيهما من هدوء البال أو راحة الضمير أو إشباع نزعة إنسانية أو دينية سامية، ثم إنه لا خوف مما يبرمانه، طالما أن الأمر يتم بإذن المحكمة، التي تعمل حكمتها في الرقابة.
وتعرض المادة (103) والمادة (104) للسفيه المأذون في إدارة أمواله كلها أو بعضها.
وتقضي المادة (103) في فقرتها الأولى، بأن للمحكمة أن تأذن للسفيه في تلك الإدارة إذنًا مطلقًا أو محددًا بما تراه من قيود، وعلى الأخص ما تراه من إلزام السفيه بأن يقدم لها حسابًا عن إدارته في المواعيد التي تعينها، وقد آثر المشروع أن يقصر الإذن في الإدارة على المحكمة، بخلاف ما سبق له أن قرره في شأن الإذن للصغير المميز في الإدارة، حيث أناط به الولي أو الوصي تحت رقابة المحكمة، ذلك لأن الإذن للسفيه بالإدارة أكثر خطورة من ذاك الذي يُمنح للقاصر، سيما وإن سوء إدارته لا ينعكس عليه وحده، وإنما قد ينعكس أيضًا على من يعولهم من زوج أو ولد، بخلاف القاصر، الذي يندر أن يكون له زوج أو ولد، في تلك السن المبكرة التي يُتاح له فيها أن يستحصل على الإذن في إدارة أمواله.
وتقضي المادة (103) في فقرتها الثانية، بأن للمحكمة أن تسحب الإذن الذي سبق لها أن أعطته للسفيه في إدارة أمواله، أو أن تقيده، إذا رأت لذلك مقتضيًا ذلك لأن الإذن للسفيه في الإدارة يُعطى له، كما يُعطى للقاصر، على سبيل التجربة والابتلاء، وتحت رقابة المحكمة، فإن تلمست فيه المحكمة صلاحًا أبقته يدير ماله، وإن رأت فيه اعوجاجًا، سلبته ما سبق لها أن منحته من أهلية الإدارة.
وتقضي المادة (103)، في فقرتها الثالثة، بوجوب التأشير على هامش شهر قرار الحجر بما عساه أن تصدره المحكمة من الإذن بالإدارة أو تقييده أو بسحبه، حماية للغير، عن طريق إتاحة الفرصة لهم في أن يكونوا على بينة مما تقرره المحكمة. ويتم التأشير الهامشي على مقتضى النظام الذي يقضي به قرار يصدر من وزير العدل.
وتقضي المادة (104) بأن للسفيه المأذون في الإدارة أهلية إجراء التصرفات التي تقتضيها إدارة ما يسلم إليه من أمواله لإدارتها، في حدود القيود التي يتضمنها الإذن الصادر من المحكمة، ولم يشأ المشروع أن يقيد أهلية السفيه المأذون في الإدارة بالنسبة إلى تأجير الأموال، بخلاف ما سبق له أن فعله في شأن الصغير المميز، حيث قيد أهليته في تأجير ماله بمدة سنة، وقد حدا به إلى ذلك أن الإذن للسفيه في الإدارة لا يكون إلا من المحكمة، فهو لا يكون ممن له الولاية على ماله، بخلاف القاصر. وللمحكمة أن تضع لإدارة السفيه لأمواله من القيود ما ترى أن المصلحة تقتضيه.
وتعرض المادة (105) في فقرتها الأولى، لما يخصص للسفيه من مال لأغراض نفقته هو ومن يعول، وتمنحه أهلية التصرف فيه، في نفس الحدود التي تثبت فيها أهلية الصغير المميز في التصرف فيما يُعطى له من مال لأغراض نفقته.
وتجيء الفقرة الثانية لتخول المحكمة، بناءً على طلب السفيه أو القيم عليه أو أي ذي شأن آخر كزوجته أو ولده، سلطة تحديد ما يجب تخصيصه للسفيه من مال لأغراض النفقة، على أن تراعي المحكمة في ذلك موارد السفيه وحاجاته هو ومن يعول.
وتعطي المادة (105) في فقرتها الثالثة، السلطة للمحكمة في أن تمنع عن السفيه المال المخصص لأغراض النفقة، إذا توافرت أسباب جدية تدعو إلى الخشية من قيامه بتبذيره، وللمحكمة عندئذٍ أن تعهد بمال النفقة إلى من ترى الصلاح في توليه أمر الإنفاق على السفيه وأسرته من زوجة أو ولد أو غيرهما.
وتقرر المادة (106) أن للسفيه أهلية إبرام عقد العمل وأهلية التصرف فيما يعود عليه من عمل، أجرًا كان أم غيره، في نفس الحدود التي تقررها المادة (94) من المشروع في شأن الصغير المميز، وفي منح السفيه أهلية إبرام عقد العمل والتصرف فيما يكسبه من عمله، لا سيما الأجر، مصلحة لا تخفى، إذ أن من شأن ذلك أن يسهل عليه أن يجد لنفسه عملاً يتمثل موردًا لرزقه ورزق من يعول، ثم إن في ذلك رفعًا للعنت عن رب العمل، حيث يكون له أن يوفي الأجر للعامل بنفسه، دون أن يلزم بأن يدفعه للقيم عليه وبعد ذلك كله فالرقابة ثابتة للمحكمة بالنسبة إلى التصرف في الأجر أو في غيره مما يعود على السفيه ثمرة لعمله، فإن رأت مقتضيًا للحد من أهلية السفيه في هذا التصرف، قضت به.
وتجيز المادة (107) للمحكمة المختصة أن تعين مساعدًا قضائيًا لمن يكون به عجز جسماني شديد من شأنه أن يصعب عليه التعبير عن إرادته أو يعسر عليه الإلمام بظروف التعاقد، وعلى الأخص إذا كان هذا العجز الجسماني راجعًا للإصابة بعاهتين من عاهات فقد السمع والكلام والبصر، بأن كان الشخص أصم أبكم أو أعمى أصم أو أعمى أبكم، فمثل هذا الشخص، يعترض العجز جسمه، فلا يمس عقله، ولا يلحق تدبيره. فهو بالتالي كامل الإدراك، سليم التدبير، ولكنه يتعذر عليه، بسبب عاهاته أو حالته المرضية أو الجسمية، أن يعبر وحده عن إرادته تعبيرًا واضحًا سليمًا، كما قد يُخشى عليه بسببها من عدم تبين ظروف التصرف الذي يجريه على نحو سليم، ولهذا يقرر له المشروع نظام المساعدة القضائية، بأن يجيز للمحكمة أن تعين له من يتولى معاونته في إبرام التصرفات التي تحددها له، على أن يُشهر قرار تعيين المساعد القضائي، حماية للغير، عن طريق إتاحة الفرصة لهم في العلم بصدوره.
ويختلف دور المساعد القضائي اختلافًا أساسيًا عن دور الولي أو الوصي أو القيم أو الأشخاص الآخرين، الذين يتولون مثلهم النيابة عن غيرهم، كمدير التفليسة والحارس القضائي، فالمساعد القضائي، بخلاف هؤلاء جميعًا، لا ينوب عن العاجز جسمانيًا في إبرام التصرفات، وهو بالتالي لا يُغني عنه في ذلك. فالذي يبرم التصرف هو هذا العاجز نفسه، ويقتصر دور المساعد القضائي بحسب الأصل، في أن يكون مجرد معين له في إبرامه، بأن يعاونه في الإلمام بظروف التعاقد، كما يعاونه أيضًا في التعبير عن إرادته، فهو بمثابة المترجم له وعنه. ومن أجل ذلك حرص المشروع على ألا يجاري القانون العراقي في إطلاق اصطلاح (الوصي) عليه، وإنما حذا حذو القانون المصري في إطلاق اصطلاح (المساعد القضائي) وقد حرص المشروع على أن يجعل العجز الجسماني الشديد مناط تعيين الحارس القضائي كلما كان من شأن هذا العجز أن يصعب على صاحبة الإلمام بظروف التعاقد، أو يعسر عليه التعبير عن إرادته في شأنه، وبهذا يضع للقاضي معيارًا مرنًا، يصل به إلى العموم والشمول بالنسبة إلى حالات العجز الجسماني الذي يقتضي المساعدة لصاحبه، والمشروع بذلك يتدارك عيبًا وقع فيه القانون المدني المصري، بقصره الحكم على ذي العاهتين من عاهات الصم والبكم والعمى، وهو عيب عمد المشرع المصري نفسه إلى تفاديه في قانون لاحق، هو قانون الولاية على المال، حيث أضاف العجز الجسماني الشديد، وإنما كمجرد حالة من الحالات المسوغة لإعمال نظام المساعدة القضائية، أما المشروع فيجعل من العجز الجسماني الشديد مناطًا لأعمال هذا النظام. ويذكر ذا العاهتين كمثال يستنير به القاضي لتحديد نوعية العجز المقصود، والأمر بعد ذلك متروك لتقديره، حسب ظروف كل حالة.
وتقرر المادة (108) الأثر المترتب على تعيين المساعد القضائي، ويتركز هذا الأثر في وجوب اشتراك المساعد القضائي مع العاجز عجزًا جسمانيًا في إبرام العقد أو غيره من التصرفات التي تقررت المساعدة في شأنها، على أن اشتراك المساعد القضائي في التصرف يتمثل، بحسب الأصل، في مجرد معاونة العاجز في إبرامه، دونما تجاوز في ذلك، فهذا العاجز هو الذي يبرم التصرف، وإنما يلزمه أن يبرمه بمعاونة مساعدة، ومن ثم وجب الاعتداد بإرادة العاجز نفسه من حيث ذات وجودها، ومن حيث العيوب التي تشوبها، بخلاف غيره من المشمولين بالولاية أو الوصاية أو القوامة، على أن المشروع يتطلب، حمايةً للعاجز، أن يعبر عن إرادته بمعاونة مساعدة، فإن صدر منه التصرف، بغير تلك المعاونة، وقع تصرفه قابلاً للإبطال لمصلحته، طالما صدر بعد قرار تعيين المساعد.
على أن المشروع قد استثنى من هذا الأصل الحالة التي تأذن فيها المحكمة لمن تقررت مساعدته بالانفراد في إبرام التصرف، دون معاونة مساعدة وقد أراد بذلك أن يواجه الحالة التي يحجم فيها المساعد عن تقديم العون، في حين أن المحكمة ترى، من ظروف الحال، إمكان انفراد الشخص بإبرامه دون أن يلحقه الضرر.
وتواجه المادة (109) الحالة التي يتعذر فيها على الشخص، بسبب حالته الجسمية أو المرضية، أن يًبرم تصرفًا معينًا، ولو بمعاونة مساعد قضائي، عُين له من قبل أو يراد تعيينه له، في حين أن مصلحته تقتضي إبرامه، دونما انتظار، وإلا تعرضت للخطر، ويقضي المشروع بأنه يجوز للمحكمة، في تلك الحالة، أن تأذن للمساعد القضائي بأن يقوم بنفسه، وبغير تدخل من العاجز، بإبرام التصرف، وللمحكمة عند صدور إذنها للمساعد في إبرام التصرف منفردًا، أن تقرر القيود التي تراها كفيلة بتحقيق مصلحة العاجز.
وفي الحالة المنصوص عليها في المادة (109) يكون للمساعد القضائي صفة النائب، بخلاف الأصل المتمثل في أنه مجرد مترجم للعاجز وعنه.
الولاية على مال الصغير:
إذا كان للصغير مال احتاج إلى من يقوم بحفظه وإدارته والتصرف فيه. وتُناط هذه المهمة بالولي أو الوصي على حسب الأحوال.
والولي في اصطلاح الفقه الإسلامي، يُطلق على الأب والجد الصحيح وهو أبو الأب، أما الوصي فهو من يختاره الأب وصيًا على مال أولاده الصغار، ويقال له: الوصي المختار، أو من تعينه المحكمة وصيًا.
وقد أوضحت المادة (110) من المشروع الأشخاص الذين تكون لهم هذه الولاية أو الوصاية على مال الصغير، ودرجة كل منهم فيها، فنصت على أن الولاية تكون لأبي الصغير، فإن لم يوجد له أب، أو وُجد ولم يكن أهلاً للولاية، كانت الولاية لمن اختاره الأب وصيًا، فإن لم يكن الأب قد اختار لابنه وصيًا، كانت الولاية للجد الصحيح، فإن لم يوجد الجد الصحيح، أو وجد ولم يكن أهلاً للولاية، كانت الولاية لمن تختاره المحكمة وصيًا.
وثبوت الولاية للأب، وتقديمه على غيره فيها حكم متفق عليه في الفقه الإسلامي، لأن الأب أقرب الناس إلى أولاده، وأشفقهم وأرعاهم لمصالحهم، يهمه من أمرهم أكثر ما يهمه من أمر نفسه، أما ثبوتها لوصيه المختار، وتقديمه على الجد، فقد أخذه المشروع من مذهب الحنفية والمالكية لأن الأب إذا اختار وصيًا مع وجود الجد كان اختياره دليلاً على أنه يرى الوصي أصلح من الجد في رعاية مال أولاده، والتصرف فيه، ورأي الأب في شؤون أولاده محترم بعد وفاته، كما هو محترم في حال حياته، فيقدم الوصي الذي اختاره، عملاً برأيه، وتحقيقًا لرغبته، كما يقدم الأب نفسه على الجد لو كان موجودًا، وأما ثبوت الولاية للجد، وتقديمه على الوصي الذي تعينه المحكمة، فقد أخذه المشروع من مذهب الحنفية والشافعية، إذ الجد وافر الشفقة على أولاد أولاده، فتثبت له الولاية، إلا أن شفقته لما كانت دون شفقة الأب أُخرت ولايته عن ولاية الأب، وولاية من اختاره لابنه وصيًا.
وقد حرص المشروع على النص على أن ولاية كل من الأب والجد ولاية إلزامية، فلا يكون لواحد منهما أن يتنحى عنها إلا إذا وجد سبب يبرر هذا التنحي، كأن يكون الأب أو الجد كبير السن أو مريضًا لا يستطيع القيام بما تتطلبه الولاية من واجبات والتزامات. فعندئذٍ يجوز له التنحي عن الولاية. وهذا التنحي لا يكون إلا بناءً على إذن المحكمة المختصة، وذلك رعاية لمصلحة الصغير وحفظًا لماله.
وهذا الحكم يتفق تمامًا مع ما هو مقرر في الفقه الإسلامي، ففي هذا الفقه: أن ولاية الأب والجد ولاية أصلية ذاتية، أثبتها الشارع لهما بسبب الأبوة، فكانت الولاية حقًا لهما، كما أنها واجبة عليهما.
وتعرض المادة (111) لبيان الشروط التي يلزم توافرها في الولي والوصي. فتنص على أنه يشترط في كل من الولي والوصي أن يكون عدلاً، أي أمينًا حسن السيرة، وأن يكون كفئًا، أي قادرًا على إدارة المال الذي في ولايته، والتصرف فيه، وأن يكون بالغًا رشيدًا غير محجور عليه بسبب من أسباب الحجر، لأن من فقد وصفًا من هذه الأوصاف لم يكن أهلاً للولاية على مال نفسه، ومن لا يكون أهلاً للولاية على مال نفسه لا يكون أهلاً للولاية على مال غيره بالطريق الأولى، وكذلك يشترط في الولي والوصي ألا يكون قد أشهر إفلاسه، ولم يُرد إليه اعتباره، لأنه من أشهر إفلاسه، ولم يرد إليه اعتباره يُخشى منه على المال الذي يكون تحت ولايته، فلا يمكن من الولاية عليه.
ولم تقتصر المادة على تلك الشروط بل أضافت إليها كل شرط يتطلبه القانون أو تشترطه الشريعة الإسلامية في الولي أو الوصي. والذي دعا المشروع إلى الاعتداد بالشروط التي تتطلبها الشريعة الإسلامية، ما وجده من أن هذه الشريعة أضافت إلى الشروط الواجب توافرها في الولي والوصي شرطًا فيه رعاية زائدة لمال القاصر مسلمًا كان أو غير مسلم، فاشترطت في الولي والوصي أن يكون متحدًا في الدين مع من يكون في ولايته، وبناءً على هذا الشرط منعت المسلم أن يكون وليًا أو وصيًا على غير المسلم، كما منعت غير المسلم أن يكون وليًا على المسلم، ولا يَخفَى ما في هذا الاشتراط من ضمان شفقة الولي أو الوصي على من له الولاية أو الوصاية عليه، وحسن عنايته به، لأن الاتفاق في الدين باعث على العناية وشدة الرعاية بالموافق فيه. كما أن الاختلاف في الدين باعث في الغالب على ترك العناية بمصالح المخالف فيه.
هذا والغرض من وضع هذه الشروط العمل على حماية مال الصغير، وضمان حسن إدارته والتصرف فيه، وهو أمر تحث عليه الشريعة الإسلامية وتوجبه.
وتضمنت المادة (112) حكمًا خاصًا خرجت به عن الحكم العام الذي جاء في المادة (110) حيث أنها جعلت، في فقرتها الأولى، الوصاية على مال الصغير لإدارة شؤون القصر إذا كان من الكويتيين، ولم يكن له أب ولا وصي مختار للأب ولا جد صحيح، وذلك ما لم تعين المحكمة له وصيًا غيرها.
ونصت المادة (112) في فقرتها الثانية، على إعطاء المحكمة سلطة تعيين الوصي الذي تراه بدلاً من إدارة شؤون القصر في أي وقت تشاء، متى رأت أن ذلك في مصلحة القاصر.
والمشروع، بالأحكام التي يوردها في المادة (112) بفقرتيها، يتوافق مع ما يقضي به القانون رقم (4) لسنة 1974 في شأن إدارة شؤون القصر.
وتنظم المادة (113) في فقراتها الثلاث، الشكل الذي تلزم مراعاته للاعتداد باختيار الأب وصيًا لصغيره، وحق الأب في الرجوع عن اختيار هذا الوصي، وتثبيت المحكمة له، فتنص في الفقرة الأولى، على أنه يلزم لاعتبار الشخص وصيًا مختارًا أن يكون اختياره مثبتًا في ورقة رسمية، أو في ورقة عرفية مصدق فيها على توقيع الأب، أو في ورقة مكتوبة كلها بخط الأب وموقعة بإمضائه.
وهذه الفقرة مستوحاة من المادة (28) من القانون المصري رقم (119) لسنة 1952 الخاص بأحكام الولاية على المال.
والهدف من اشتراط ذلك في تعيين الوصي المختار هو حسم المنازعات الخاصة بالإثبات، وحماية القصر ممن يدعون الوصاية عليهم زورًا وبهتانًا، وهو أمر يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية التي تدعو إلى المحافظة على مصالح الناس، وتسد الباب في وجه الكاذبين والمزورين.
وقد أعطى المشروع، في الفقرة الثانية، للأب الحق في الرجوع عن اختيار الوصي، ولم يشترط في اعتبار هذا الرجوع ما اشترطه في اختيار الوصي، وهو بهذا يمتاز عن القانون المصري رقم (119) لسنة 1952الذى تطلب لاعتبار الرجوع عن اختيار الوصي ما تطلبه لاعتباره وصيًا لأنه بهذا المسلك يسر طريق العدول عن اختيار الوصي، وفي هذا التيسير مصلحة للصغير، فقد يختار الأب شخصًا للوصاية على أولاده، معتقدًا أنه صالح لإدارة أموالهم والتصرف فيها وأمين على هذه الأموال، ثم يتبين بعد ذلك أنه على عكس ما كان يعتقد.
وقد استلزم المشروع، في الفقرة الثالثة، عرض اختيار الوصي على المحكمة لتثبيته، وتبعًا لذلك يكون للمحكمة رفض الوصي المختار إذا وجدت أنه لا يتوافر فيه الشروط اللازمة في الوصي بوجه عام.
وتناولت الفقرة الأولى من المادة (114) سلطة المحكمة في تقييد سلطة الولي والوصي المختار وسلب ولاية كل منهما، فنصت على أن للمحكمة الحق في تقييد ولاية الأب أو الجد أو الوصي المختار، وفي سلب هذه الولاية متى وجدت في إطلاق ولايتهم أو استمرارها خطرًا على مال الصغير، وطلب منها ذلك إدارة شؤون القصر أو أي شخص ذي شأن، وكان هناك من الأسباب ما يُخشى معها الضرر على أموال الصغير، وللمحكمة سلطة تقدير الأسباب التي تقتضي سلب الولاية أو الحد منها.
وتناولت الفقرة الثانية سلطة المحكمة في عزل الوصي المعين، فأعطتها الحق في عزل هذا الوصي وتعيين وصي آخر بدلاً منه، إذا استدعى ذلك صالح الصغير.
والحكمة في إعطاء المحكمة هذا الحق أن الولاية منوطة بمصلحة الصغير ومن مهمات المحكمة رعاية هذه المصلحة، فإذا رأت أن مصلحة الصغير تقتضي زوال الولاية أو تقييدها كان عليها أن تحكم بزوالها أو تقييدها متى طلب منها ذلك من له الصفة في التقدم به، وهو إدارة شؤون القصر أو أي ذي شأن آخر.
وتعرض المادة (115) في فقرتيها لما يلزم اتخاذه في حالة غياب الولي أو الوصي المختار وفي حالة حبس أحدهما.
فقررت الفقرة الأولى أن للمحكمة أن توقف الولاية عن الأب أو الجد أو الوصي المختار، إذا اعتبر غائبًا، وفقًا لما تقضي به الفقرة الثانية من المادة (141) أو إذا سجن تنفيذًا لحكم بالحبس لمدة تزيد على سنة.
وبينت الفقرة الثانية من تكون له الولاية على مال الصغير في فترة الوقف، فنصت على أنها تثبت لمن تكون له ولاية المال وفقًا للأصل العام المقرر في المادة (110) من المشروع.
وتتناول المادة (116) في فقرتيها، ما يدخل تحت نطاق الولاية أو الوصاية من مال الصغير، فتنص في الفقرة الأولى على شمول الولاية أو الوصاية لكل أموال الصغير، إلا إذا رأى الأب تخصيص الوصي الذي اختاره بنوع من المال أو بنوع من التصرفات أو رأت المحكمة تحديد ولاية الوصي ببعض أنواع المال أو بنوع من التصرفات، فإن الولي أو الوصي في هذه الحالة يتخصص بما خصصه الولي أو القاضي، وذلك لأن ولاية الوصي مستمدة من الأب أو القاضي، فتكون على حسب ما فوضه كل منهما إليه وأذن فيه، وهذا الحكم مستمد من مذهب أبي يوسف ومذهب المالكية والشافعية والحنابلة.
وتنص المادة (116) في فقرتها الثانية، على حكم خاص ببعض أموال الصغير، وهو المال الذي يؤول إليه عن طريق الميراث أو التبرع، فتبين أن هذا المال يكون خارجًا عن نطاق ولاية الأب أو الجد أو وصاية شخص معين، إذا أوصى المورث أو اشترط المتبرع عند التبرع عدم خضوعه لولاية الأب أو الجد أو شخص معين، وفي هذه الحالة تثبت الولاية في خصوصه لمن يختاره المورث أو المتبرع وصيًا مع مراعاة الشكل الذي تقضي به المادة (113) من المشروع فإن لم يختر المورث أو المتبرع للصغير وصيًا في خصوص هذا المال في الشكل المرسوم، عينت المحكمة له وصيًا خاصًا تكون سلطته مقصورة عليه. وهذا الحكم مأخوذ من الفقه المالكي، ففي حاشية الصاوي على الشرح الصغير (2/ 474) من تبرع لمحجور عليه فله أن يجعل لما تبرع به من شاء ناظرًا، ولو كان للمحجور عليه أب أو وصي. وفي الشرح الصغير (أن للأم إذا ورث الابن عنها شيئًا أن توصي لمن تشاء على هذا المال).
وتعرض المادة (117) في فقرتيها لبيان الحكم في حالة وجود مال للحمل المستكن، فتنص في الفقرة الأولى، على أن الأمانة على مال الحمل المستكن تكون لمن تثبت له الولاية على مال الصغير، وقد آثر المشروع أن يُسمى من يعين على مال الجنين أمينًا بدلاً من تسميته وصيًا، كما في بعض القوانين العربية وذلك لأن من يعين على مال الحمل ليس وصيًا بالمعنى القانوني لهذه الكلمة، بل هو لا يعدو أن يكون أمينًا وحفيظًا على ماله حتى لا يضيع عليه، أو تضيع عليه غلتها.
وتبين الفقرة الثانية أن من يختار أو يعين أمينًا على مال الحمل يبقى وصيًا على ماله بعد ولادته إلا إذا عينت المحكمة له وصيًا غيره. والأحكام التي تضمنتها هذه المادة مستمدة من الفقه المالكي.
. وتضمنت المادة (118) بفقرتيها مهمة الأمين على مال الحمل، فجعلت مهمته حفظ مال الجنين وإدارته والقيام بالتصرفات التي يتطلبها حفظ هذا المال وإدارته، وقبول التصرفات النافعة للحمل نفعًا محضًا كالهبة الخالصة.
وتعرض المادة (119) للحالة التي يمكن فيها تعدد الأوصياء، فتبين أن للأب أن يوصي على مال أولاده الصغار إلى أكثر من واحد، كما يجوز للمحكمة أن تعين أكثر من وصي واحد إذا ما رأت أن مصلحة الصغير تقتضي ذلك.
وتعرض المادة (120) في فقرتها الأولى، للحكم في حالة تعدد الأوصياء المختارين أو المعينين، فتنص على أنه إذا تعدد الأوصياء وحدد الأب أو المحكمة لكل واحد اختصاصه، فإنه يجوز لكل وصي أن ينفرد بالتصرف في حدود ما خصص له، كأن يعهد إلى أحد الأوصياء القيام بشؤون الأراضي الزراعية، وإلى آخر بشؤون متجر أو مصنع، وإلى ثالث بشؤون المباني. أما إذا لم يحدد الأب أو المحكمة لكل وصي اختصاصه فلا يجوز لأحدهم أن ينفرد بالتصرف في المال، بل لا بد من اشتراكهم جميعًا فيه، وذلك لأن اختيار أو تعيين أكثر من وصي يدل على أن الغرض من هذا التعدد اجتماع رأيهم واشتراكهم في كل تصرف في المال حتى يكون التصرف الذي يُجرى أصلح وأنفع للصغير من التصرف الذي ينفرد به وصي واحد.
وتضمنت الفقرة الثانية استثناءً من الحكم العام الذي قررته الفقرة الأولى، فأجازت لكل واحد من الأوصياء الانفراد بالتصرف إذا كان لازمًا لحفظ المال، أو كان من التصرفات العاجلة، التي لا تحتمل التأخير، أو التي يكون فيها نفع ظاهر للصغير.
وتعرضت المادة (121) للحكم عند اختلاف الأوصياء المتعددين في شأن التصرفات التي يلزم اجتماع رأيهم فيها، فنصت على تفويض المحكمة البت في موضوع النزاع بما تراه محققًا لصالح الصغير، إذا طلب منها ذلك إدارة شؤون القصر، أو أي ذي شأن آخر.
والأحكام التي تضمنتها المواد (119 و120 و121) تتفق مع المذهب المالكي والشافعي والحنبلي ومذهب أبي يوسف محمد بن الحنفية.
وتعرض المادة (122) للحالة التي تتطلب فيها مصلحة الصغير تعيين وصي خاص له، في صدد شأن معين من شؤونه، ليتولى الولاية عليه في هذا الشأن، بدلاً ممن تكون له الولاية العامة على كافة أمواله، قاضية بجواز ذلك للمحكمة، فكلما اقتضت مصلحة الصغير أن يكون له وصي خاص، ساغ للمحكمة أن تقيمه، بناءً على طلب إدارة شؤون القصر أو أي ذي شأن.
وتخص المادة (122) بالذكر، على سبيل المثال لا الحصر، بعضًا من الحالات التي تقتضي فيها مصلحة الصغير تعيين وصي خاص، فذكرت الحالة التي تتعارض فيها مصلحة الصغير مع مصلحة وليه الشرعي أو مصلحة زوجه أو مصلحة أي شخص آخر مشمول بولايته أو التي تتعارض فيها مصلحة الصغير مع مصلحة الوصي أو مصلحة زوجه أو مصلحة أحد أصولهما أو فروعهما أو مصلحة شخص يتولى الوصي الولاية على ماله.
وتعرض المادة (123) لتعيين المشرف، وهو الشخص الذي يعين لمراقبة أعمال الوصي وتصرفاته المتعلقة بالوصاية، دون أن يشترك معه في إجرائها.
فتنص الفقرة الأولى على أن الوصاية على مال الصغير إذا كانت لغير إدارة شؤون القصر فإنه يجوز أن يُعين مشرف يتولى الرقابة على تصرفات الوصي، سواء كان وصيًا مختارًا من قِبل الأب أم كان وصيًا معينًا من المحكمة، وذلك لضمان قيام الوصي بعمله على الوجه الأكمل. وهذا الحكم مستمد من المذهب المالكي والحنفي.
وتعهد الفقرة الثانية إلى المحكمة أمر تعيين المشرف، إذا لم يكن الأب قد اختار مشرفًا، كما تجيز الفقرة الثالثة للمحكمة أن تعهد بالإشراف إلى إدارة شؤون القصر إذا كان الصغير من الكويتيين.
وتحدد المادة (124) مهمة المشرف، فتبين أن مهمته أن يراقب الوصي في إدارته مال الصغير وتصرفاته فيه، وأن يبلغ المحكمة كل أمر تقتضي المصلحة رفعه إليها، وليس للمشرف حق الاشتراك في الإدارة ولا الانفراد بالتصرف فيما عدا الأمور التي خولها القانون له.
وتلزم المادة (125) الوصي بإجابة المشرف إلى كل ما يطلبه من إيضاح عن إدارته وتصرفاته في مال الصغير، وأن يمكنه من فحص الأوراق والمستندات الخاصة بهذا المال، وذلك لكي يستطيع المشرف القيام بمهمته التي عُين من أجلها.
وتنص المادة (126) في فقرتها الأولى، على أن مهمة المشرف، إذا خلا مكان الوصي، هي أن يرعي مال الصغير، ويحفظه إلى أن تعين المحكمة وصيًا جديدًا، وتبين، في فقرتها الثانية، أن المشرف له في الفترة التي لا يوجد فيها وصي للصغير أن يقوم بالأعمال التي يكون في تأجيلها ضرر ظاهر للصغير، كبيع المحصول الذي يتبادر إليه التلف والفساد، وكالطعن في الأحكام قبل انقضاء المواعيد القانونية للطعن فيها، وكاتخاذ الإجراءات العاجلة الضرورية لصيانة مال الصغير.
سلطة الولي الشرعي:
وتعرض المادة (127) في فقرتيها، لبيان سلطة الولي في التصرفات التي يباشرها نيابةً عن الصغير، فتبين الفقرة الأولى أن الولي، سواء أكان أبًا أم جدًا، له أن يباشر التصرفات النافعة نفعًا محضًا للصغير كقبول الهبة الخالصة غير المقترنة بشرط، أي العارية عن التزامات تحمل بها، أما الهبة بشرط، أي تلك المحملة بالتزامات معينة، فإنه لا يجوز للولي بمقتضى الفقرة الثانية قبولها إلا بإذن المحكمة، وذلك لأن اقتران التبرع بالتزام قد يؤدى إلى ضياع منفعته، وجعله عبئًا على الصغير، فكان من المفيد أن يجعل قبوله من الولي متوقفًا على إذن المحكمة، حتى يمكنها التأكد من وجود المصلحة للصغير في قبول هذا التبرع أو رفضه، وهذا احتياط آثر المشروع أن يضفيه على الصغير، دون أن تأباه الشريعة الإسلامية.
وتتضمن المادة (128) بيان ما يملكه الولي من أعمال في مال الصغير، فأوضحت الفقرة الأولى أن الولي، سواء كان أبًا أم جدًا، له أن يجري أي تصرف يكون فيه حفظ لمال الصغير وتنميته واستثماره وإدارته.
ونصت الفقرة الثانية على منع الولي من تأجير مال الصغير، عقارًا كان أم منقولاً، لمدة تستمر إلى ما بعد بلوغ الصغير سن الرشد بأكثر من سنة بغير إذن المحكمة. فإن لم تتجاوز مدة الإجارة هذا المدى جاز للولي إجراؤها بدون إذن المحكمة.
وتعرض المادة (129) لبيان الحكم في التصرفات التي يجريها الولي في مال الصغير والتي يكون لها مقابل كالبيع والشراء والإيجار والاستئجار فتبين أن الولي له أن يجري هذه التصرفات على أن يراعي فيها القيود التي تتضمنها المواد التالية لهذه المادة.
وتورد المادة (130) قيدًا على تصرف الولي في عقار الصغير أو محله التجاري ببيع أو إيجار، إذا كان البيع لنفس الولي أو كان لزوجه، أو لأحد أقارب الولي أو أقارب زوجه إلى الدرجة الثالثة وهذا القيد هو استئذان المحكمة قبل إجراء هذا التصرف.
والحكمة من تقرير هذا القيد ترجع إلى أن البيع أو الإيجار أو نحوهما إذا كان للولي أو لزوجه أو لأحد أقاربهما إلى الدرجة الثالثة فإنه يخشى أن تكون فيه محاباة، فكان من مصلحة الصغير أن يؤخذ إذن المحكمة قبل الإقدام على التصرف، وذلك لتتمكن المحكمة من التحقق من عدالة المقابل وانتفاء المحاباة.
وهذا الحكم تقره الشريعة الإسلامية، فالشريعة لا تجيز التصرفات التي يكون احتمال التهمة فيها قائمًا، ولهذا منعت شهادة الوالد لولده وشهادة الرجل لزوجه، وبالعكس. وقد نص صاحب كتاب (جامع أحكام الصغار) على أن الأب أو الوصي إذا باع عقار اليتيم فرأى القاضي أن نقض البيع أصلح للصغير كان له نقضه، مما يفيد أن للقاضي مراقبة التصرف في عقار الصغير، وأن له نقض التصرف فيه، إذا وجد أن نقضه في مصلحة الصغير، حتى ولو كان التصرف فيه صادرًا من الأب، وكان المتصرف له شخصًا أجنبيًا.
والحكمة في قصر هذا المنع على العقر والمحل التجاري – كما جاء في المشروع - ترجع إلى ما للعقار والمحل التجاري من أهمية خاصة، فالعقار أساس الثروة، والمحل التجاري قد يكون مورد الرزق الوحيد للقاصر، وفي التصرف فيه بالبيع ما يودي بذلك المورد.
وتتضمن المادة (131) قيدًا على تصرف الولي في مال الصغير، عقارًا كان أو منقولاً، إذا زادت قيمته على مائتي ألف دينار، فاشترطت لجواز التصرف فيه أخذ الإذن من المحكمة قبل إجرائه، فإن كانت قيمة المال لا تتجاوز هذا القدر فللولي أن يتصرف فيه بدون إذن المحكمة، والمقصود من وضع هذا القيد هو توفير أكبر قسط من الضمان لرعاية مصلحة المشمولين بالولاية، وهو أمر لا تأباه الشريعة الإسلامية التي تحيط القاصر بكل ضروب الحياطة وتنهى عن قربان ماله إلا بالتي هي أحسن.
وتبين المادة (132) حكمًا خاصًا بالمال الذي يؤول إلى الصغير بطريق الميراث أو التبرع، والذي يشترط المورث أو المتبرع عدم تصرف الولي فيه، وهذا الحكم هو أن الولي ليس له أن يتصرف في هذا المال بأي نوع من التصرفات، ولا يستثنى من ذلك إلا التصرفات العاجلة التي يقتضيها حفظ المال كبيع الأشياء التي يُخشى فسادها لو بقيت، ويشترط لإجراء هذه التصرفات الحصول على إذن المحكمة، للتحقق من ضرورة التصرف الذي يجريه الولي أو عدم ضرورته.
وتضمنت المادة (133) بفقرتها الأولى حكمًا عامًا في شأن التبرعات من مال الصغير، فقضت بمنع الولي من التبرع بشيء من ماله ولكن الفقرة الثانية استثنت من ذلك التبرع لغرض عائلي أو إنساني، كإنشاء مستشفى أو ملجأ، أو تقديم المساعدة لقريب مريض أو معوز، واشترطت لصحة هذا التبرع أن يكون في مال الصغير سعة تسمح بالتبرع وأن يكون المال المتبرع به لا يؤثر على ثروته، واستئذان المحكمة قبل التبرع.
فإذا تبرع الولي بغير إذن المحكمة كان تبرعه غير نافذ في حق الصغير، وللمحكمة سلطة تقدير ظروف التبرع والدافع إليه، وتقدير مال الصغير، إذا كان يتحمل التبرع أم لا.
والحكم الذي قررته الفقرة الأولى من هذه المادة يتفق مع ما نُص عليه في الفقه الإسلامي من منع الولي من التبرع بشيء من مال القاصر لأنه من التصرفات الضارة للصغير ضررًا محضًا، والولي لا يملك إجراء تصرف منها.
أما الحكم الاستثنائي الذي تضمنته الفقرة الثانية فإنه لا يتفق مع مذهب الحنفية، ولكنه يتفق مع ما جاء في المذهب المالكي من أنه يجوز للولي أن يهب من مال الصغير القليل المتعارف، كما أنه يوافق مذهب الفقهاء الذين أوجبوا الزكاة في مال القاصر، لأن التبرع لواجب إنساني أو عائلي يمكن أن يُعتبر من مصارف الزكاة، لأن من مصارفها سبيل الله، وسبيل الله عام يشمل كل ما يكون فيه خير وطاعة لله.
وتعرضت المواد (134 و135 و136) لبيان بعض التصرفات التي لا يجوز للولي إجراؤها، فتبين المادة (134) أن الولي ليس له إقراض مال الصغير للغير، وليس له أيضًا اقتراض مال الصغير لنفسه، وذلك لأن الإقراض قد يؤدي إلى ضياع مال الصغير، لو كان المقترض مفلسًا، أو مماطلاً في أداء ما عليه من ديون. واقتراض الولي لمال الصغير يؤدي إلى تعطيل المال عن الاستثمار والتنمية، والولي مأمور شرعًا باستثمار مال الصغير وتنميته بكل ما يمكنه، عملاً بقول النبي صلي الله عليه وسلم (اتجروا في مال اليتامى حتى لا تأكلها الزكاة).
وحكم المادة (134) يتفق مع المنصوص عليه في المذهب الحنفية.
وتنص المادة (135) على منع الولي من رهن مال الصغير إلا إذا كان الرهن في دين على الصغير نفسه، أما إن كان الدين على الولي أو على شخص آخر، فلا يجوز له أن يرهن مال الصغير في هذا الدين، ولا تملك المحكمة الإذن له بذلك، فهو منع مطلق، ذلك لأن الرهن يفضي إلى استيفاء الدين من المال المرهون، إذا لم يدفع الدين في الموعد المحدد للوفاة ولا يجوز للولي أن يؤدي الدين الذي عليه أو على شخص آخر من مال الصغير، لأن فيه ضررًا محضًا للصغير، والولي لا يملك التصرف الذي يكون فيه ضرر محض للصغير، ومن ناحية أخرى، فإن في إباحة رهن مال الصغير في الدين الذي يكون على الولي ما ييسر له الالتجاء إليه كلما وقع في ضيق مالي، فكان من المصلحة أن يجنب مال الصغير هذا الخطر، وهذا الحكم يتفق مع رأى أبي يوسف وزفر من الحنفية.
وتقضي المادة (136) بأن جميع القيود الواردة على سلطة الولي لا تسري على المال الذي آل إلى الصغير من الولي نفسه على سبيل التبرع، ولو كان من طريق غير مباشر.
وقد راعى المشروع في تقرير هذا الحكم أن المال هو في الأصل مال الولي، فلا جُرم أن تثبت له سلطة التصرف فيه بغير قيود، بعد أن آل منه إلى الصغير بغير مقابل. ثم إن في تقرير هذا الحكم تشجيعًا للولي على التبرع بماله للصغير، الأمر الذي يعود عليه بالنفع.
سلطة الوصي:
الوصي هو كل شخص مُنح الولاية على مال الصغير غير أبيه وجده لأبيه، وسلطة الوصي أضيق نطاقًا من سلطة الولي الشرعي، سواء كان مختارًا من قبل الأب، أم كان معينًا من قبل المحكمة المختصة، أم كان إدارة شؤون القصر.
وتقضي الفقرة الأولى من المادة (137) بأن سلطة الوصي – ولو كان مختارًا من الأب – على مال الصغير إنما تكون في الحدود التي يرسمها القانون لسلطة إدارة شؤون القصر باعتبار أن لها الوصاية أو القوامة على معدومي الأهلية أو ناقصيها. وعلى هذا لا يكون لمن يختار وصيًا بدلاً من إدارة شؤون القصر أو لمن تعينه المحكمة وصيًا مكانها من السلطات إلا ما كان في الحدود التي رسمها القانون لها.
وألزمت الفقرة الثانية الوصي، إذا كان شخصًا آخر غير إدارة شؤون القصر أن يأخذ الإذن من المحكمة لإجراء أي تصرف لا يكون لمدير تلك الإدارة أن يتولاه وحده.
وتحدد الفقرة الثالثة من المادة (137) النطاق العام لسلطة الوصي، قاضية بأن سلطته لا تتجاوز سلطة الولي الشرعي، على الوجه الذي يحدده القانون.
فسلطة الوصي، في ظل الشريعة الإسلامية، أضيق نطاقًا من سلطة الولي الشرعي، لحكمة ظاهرة لا تخفى، فإذا كان ذلك فإنه لا ينبغي أن يكون للوصي، في ظل القانون، ولو كان هو إدارة شؤون القصر، من السلطات أكثر من تلك التي يخولها القانون للولي الشرعي، وعلى ذلك فإن سلطة الوصي، أيًا من كان تتحدد بالقيود التي يفرضها القانون على سلطة الولي الشرعي.
الولاية على مال المحجور عليه:
وتعرض المادة (138) لبيان الجهة التي يكون لها الولاية على مال المحجور عليه، فتبين الفقرة الأولى أن المحكمة المختصة هي التي يكون لها سلطة تعيين الولي على مال المحجور عليه لجنون أو عته أو سفه أو غفلة، ويسمى (قيمًا)، وأن هذا التعيين إنما يكون بناءً على طلب من إدارة شؤون القصر، أو أي ذي شأن آخر.
وتقضي الفقرة الثانية بأن المحجور عليه إذا كان من الكويتيين، ولم تعين المحكمة قيمًا على ماله، فإن القوامة عليه تكون لإدارة شؤون القصر، فالقوامة على ناقص الأهلية أو فاقدها ممن تجاوزوا السن المحددة لبلوغ الرشد من الكويتيين تثبت لإدارة شؤون القصر لمجرد أن الحكمة لم تعين على ماله قيمًا، من غير حاجة إلى صدور قرار من المحكمة المختصة بذلك، كما هو الحال في الوصاية على مال الصغير.
ويُلاحظ هنا أن تعيين القيم على مال ناقص الأهلية أو فاقدها إنما هو للمحكمة من أول الأمر، وهذا على خلاف الأمر في الولي على مال الصغير حيث أن الولاية على ماله تثبت من أول الأمر للأب أو الجد الصحيح، إذا لم يكن الأب قد اختار وصيًا، من غير أن تحتاج هذه الولاية إلى صدور قرار من المحكمة بتقريرها، والسبب في ذلك يرجع إلى أن الحجر على الإنسان قبل كمال أهليته يكون لمصلحته أولاً لا لمصلحة غيره، فتثبت الولاية على ماله لمن يكون أحرص من غيره على هذا المال، ولما كان الأب والجد لأب هما أحرص الناس على مال أولادهم، وكانت شفقتهما على أولادهم فوق شفقة غيرهم، أثبت الشارع لهما الولاية على مال أولادهم الصغار ومن في حكمهم بسبب قرابتهم القريبة، وهي قرابة الأبوة، فكانت ولايتها ولاية ذاتية أصلية تثبت ابتداءً، لا بطريق النيابة عن قاضٍ استمدا منه هذه الولاية.
أما إذا كُملت أهلية الإنسان ثم قامت به صفات أو طرأ عليه عارض كالجنون أو العته أو السفه اقتضت الحجر عليه في التصرفات المالية فإن هذا الحجر قد يكون لمصلحة المحجور عليه، وقد يكون لمصلحة غيره محافظة على مال المحجور من التبذير والضياع، وعلى هذا فإن النظر في ماله يكون للمحكمة، ولمن تقيمه قيمًا عليه نيابةً عنها، ولا يكون النظر لغير المحكمة ابتداءً حتى ولو كان ذلك الغير أبًا للمحجور عليه أو جدًا لأبيه إلا إذا عينته المحكمة قيمًا على المحجور عليه، فإذا عينت المحكمة أحدهما قيمًا كانت قوامته مستمدة من المحكمة، وليست حقًا شرعيًا ثابتًا لهما ابتداءً بسبب الأبوة، فيكون شأنه في هذه القوامة شأن غيره من القوام الذين يُختارون لهذه المهمة.
وتأتي المادة (139) لتبين أن سلطة المحكمة في تعيين القيم ليست مطلقة تختار بمقتضاها من تشاء، وإنما سلطتها في ذلك مقيدة، فعلى المحكمة أن تبدأ في تنصيب القيم على المحجور عليه بأبنائه، فتختار منهم من يصلح للقوامة، فإن تعدد الأبناء الصالحون للقوامة، عينت المحكمة الأصلح منهم لهذه القوامة، وهو من يكون أكثر من غيره، رعايةً للمحجور عليه، وعناية بشؤونه، وإن تساووا في الأصلحية كان الأمر مفوضًا للمحكمة تختار منهم من تشاء للقيام بشؤون المحجور عليه، فإن لم يوجد من أبنائه من يصلح للقوامة عينت المحكمة الأب قيمًا، فإن لم يوجد الأب، أو وجد ولم يكن أهلاً للقوامة عهدت بالقوامة إلى الجد الصحيح، فإن لم يوجد الجد الصحيح، أو وُجد ولم يكن أهلاً للقوامة اختارت المحكمة من تراه صالحًا للقوامة.
وتعرض المادة (140) لبيان أحكام القيم، فتنص على أن أحكام القيم هي أحكام الوصي فشأنه في ذلك شأن الوصي، وعلى هذا يُشترط في الشخص الذي يعين قيمًا أن تتوافر فيه الشروط اللازمة في الوصي، ويكون للقيم نفس السلطة التي تثبت للوصي، وعليه من الواجبات ما يكون على الوصي، ويجوز للمحكمة أن تعين مشرفًا يراقب القيم في إدارة شؤون المحجور عليه، في نفس الحدود التي يجوز لها تعيين مشرف على الوصي، ويكون للمشرف على القيم نفس سلطة المشرف على الوصي.
الولاية على مال المفقود والغائب:
وتتضمن المادة (141) تنظيم الولاية على مال المفقود والغائب، والمراد بالمفقود كل شخص كامل الأهلية انقطعت أخباره، ولا يُدرى مكانه ولا تُعرف حياته من مماته، أما الغائب فالمراد به كل شخص كامل الأهلية، وليس له محل إقامة ولا موطن معلوم كمن يهيم على وجهه أو يفر من إجراءات اتُخذت ضده، أو كان له محل إقامة أو موطن معلوم في الخارج وتعذر عليه، بسبب غيابه، أن يتولى شؤونه أو يُشرف على من أنابه في إدارتها.
وقد بينت الفقرة الأولى الحكم في حال الفقد، فأعطت المحكمة الحق في أن تعين قيمًا على مال المفقود، إذا ثبت فقده، وطلب ذلك إدارة شؤون القصر أو أي شخص آخر يكون ذا شأن.
كما بينت الفقرة الثانية الحكم في حال الغيبة، فأجازت للمحكمة أن تعين قيمًا لمن كانت حياته معلومة، ولكنه غاب مدة تزيد على سنة، وتعذر عليه أن يتولى رعاية أمواله بنفسه أو أن يشرف على من أنابه في إدارتها.
وتقرر المادة (142) الحكم فيما إذا ترك الغائب أو المفقود وكيلاً لإدارة أمواله، ومؤداه أن المحكمة تُعين هذا الوكيل قيمًا على أموال الغائب أو المفقود، إذا توافرت فيه الشروط التي يتطلبها القانون في الوصي، وهي حالة تماثل تثبيت المحكمة للوصي المختار من قبل الأب، فإن لم يكن الغائب أو المفقود قد نصب عنه وكيلاً لإدارة أمواله، أو كان قد نصبه ولم تتوافر فيه الشروط التي يتطلبها القانون في الوصي، عهدت المحكمة بالقوامة على مال الغائب أو المفقود إلى من تختاره لهذه المهمة، مع مراعاة ما يقضي به القانون في شأن القيم على المحجور عليه، وعلى الأخص في صدد ثبوت القوامة على الكويتيين لإدارة شؤون القصر.
وتحدد المادة (143) سلطات القيم على مال الغائب أو المفقود وأحكامه، فتبين أن القيم يكون له نفس السلطة التي تثبت للوصي على مال القاصر، وأن أحكامه هي ذات الأحكام المقررة في شأن الوصاية على القاصر.
والأحكام التي تضمنتها هذه المواد مستوحاة من الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة.
أحكام عامة في الولاية على المال:
تقرر المادة (144) في فقرتها الأولى، للولي على مال الصغير أو المحجور عليه أو المفقود أو الغائب الحق في أن يأخذ أجرًا عن ولايته تقدره له المحكمة، على أن يكون هذا الأجر مناسبًا لما يؤديه من أعمال، من غير أن يبهظ المُولى عليه، ولا يسقط حق الولي في الأجر إلا إذا قضى القانون بغير ذلك، أو كان الولي قد قبل أن تكون ولايته بدون مقابل.
وتقرر المادة (144) في فقرتها الثانية، أن الحق في طلب الأجر عن الولاية مقصور على الشخص الذي يتولاها، فلو كان على الولي ديون فلا يكون للدائنين الحق في أن يطالبوا بهذا الأجر باسمه ونيابةً عنه بمقتضى الدعوى غير المباشرة، كما أن حق الولي في الأجر لا ينتقل بعد موته إلى ورثته، إلا إذا كان قد تقدم للقضاء يطلب أجرًا عن ولايته، ومات قبل أن يُقضى له به.
وإعطاء الولي أجرًا عن ولايته يتفق في الجملة مع المقرر في الفقه الإسلامي، وقد أشار إليه القرآن الكريم في قول الله عز وجل (ومن كان غنيًا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف).
وتقرر المادة (145) الحكم في حالة زوال الولاية أو الوصاية أو القوامة عمن يتولاها، فتنص على إلزام كل من زالت ولايته بأي سبب من أسباب زوالها بتسليم الأموال التي كانت في ولايته لذي الصفة في تسلمها، ولا يجوز لمن زالت ولايته أن يتأخر في تسليم المال الذي كان في ولايته، إلا بمقدار المدة التي يقتضيها التسليم، ويجب على من زالت ولايته تقديم حساب مفصل عن أعماله التي باشرها أثناء ولايته في خلال مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر من تاريخ انتهاء ولايته.
وتحدد المادة (146) مسؤولية كل من الولي والوصي والقيم عن أعمالهم التي يباشرونها بمقتضى ولايتهم على أموال القاصر.
وقد فرقت في هذه المسؤولية بين الأب والأم والجد وبين غيرهم، فقصرت مسؤولية الأب والأم والجد على حالة الخطأ الجسيم، حتى ولو تقاضى واحد منهم أجرًا عن ولايته، أما الخطأ اليسير فلا مسؤولية لهم عنه، أما غير الأب والجد والأم فإن مسؤوليته لا تقتصر على الخطأ الجسيم، بل تشمله وتشمل الخطأ اليسير معًا، سواء تقاضى أجرًا عن ولايته أم لم يتقاضَ أجرًا عنها، شأنه في ذلك شأن الوكيل بأجر، فإذا أخل الوصي أو القيم غير الأب والجد والأم بواجب من الواجبات المفروضة عليه بمقتضى القانون كان مسؤولاً عما لحق القاصر من ضرر بسبب ذلك مسؤولية الوكيل بأجر، حتى وإن لم يتقاضَ أجرًا عن وصايته أو قوامته.
والسبب في هذه التفرقة يرجع إلى أن الأب والجد والأم تربطهم بالقاصر القرابة القريبة، وهذه القرابة باعثة على بذل العناية والرعاية الزائدة بشؤون المُولى عليه، فلا يكون ثمة ما يدعو إلى حث صاحب هذه القرابة على بذل مزيد من الحرص على مصلحة المُولى عليه بجعله مسؤولاً حتى عن تقصيره اليسير، ومن ناحية أخرى، فإن ما بين هؤلاء الأقارب وبين القاصر من روابط القرابة القريبة ينبغي أن يكون شفيعًا لهم في الخطأ اليسير، إبقاءً على الربط العائلي من أن يؤثر فيه الرجوع عليهم بناءً على الخطأ اليسير، وهو خطأ يكثر وقوعه وقلما يمكن الاحتراز منه حتى في مال الولي نفسه. أما الوصي أو القيم الذي لا يكون أبًا ولا جدًا ولا أمًا، فإنه لا يوجد بينه وبين القاصر مثل هذه القرابة القريبة حتى تدعوه إلى بذل العناية التامة في أعماله الخاصة بالقاصر، فكان من الحكمة أن يكون ملزمًا في مباشرة شؤون القاصر ببذل عناية الشخص العادي دائمًا سواء تقاضى على عمله أجرًا أو لم يتقاضَ عنه أجرًا، فلا يغتفر له الخطأ اليسير، كما يغتفر للأب والجد والأم.
وقد سوى المشروع في هذه المسؤولية بين الأب والجد والأم، ولم يفرق بينه وبينهما فيها، كما فعل القانون المصري. ووجهته في ذلك أن قرابة الأبوة متحققة في كل من الجد والأم كما هي متحققة في الأب، أما تحققها في الأم فواضح، لأن قرابتها لابنها بمنزلة قرابة الأب، وأما تحققها في الجد، فلأن الجد يقال: إنه أب لولد ابنه، وقد سماه القرآن بذلك في قوله تعالي في شأن يوسف عليه السلام “ يتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق “، فإنه سبحانه – جعل كلاً من إبراهيم وإسحاق أبًا ليوسف مع أن كلاً منهما جد له، وما دام الجد والأم يشتركان في قرابة الأبوة مع الأب، فإنهما يشتركان معه في الحكم الذي يُبنى عليها، في خصوص المسؤولية عن الولاية على مال الصغير.
عيوب الرضاء:
تحقيقًا لسلامة الرضاء، تتطلب القوانين الوضعية المختلفة، كما يتطلب الفقه الإسلامي بدوره، إلى جانب صدوره عن أهلية من صاحبه، خلوه من العيوب التي تشوبه، والتي تجعل مجيئه من صاحبة عن غير كامل بينة، أو عن غير كامل اختياره، دون أن تضحي مع ذلك بأمن التعامل واستقراره، كلما استوجبت المصلحة حمايته.
والعيوب التقليدية التي تشوب الرضاء، هي الغلط والتدليس والإكراه، ووُجد إلى جانبها الغبن الذي اعترف له، في حالات خاصة تحددها النصوص، بتأثير على العقد، اعتبارًا بأنه يخل إخلالاً كبيرًا بمبدأ المساواة بين طرفيه. كما أنه من عهد ليس ببعيد، وبتأثير من القوانين ذات النزعة الجرمانية، أخذ عيب رابع من عيوب الرضاء هو الاستغلال يشق طريقه إلى تقنينات الكثير من البلاد ومنها دولة الكويت.
الغلط:
تعرضت المادة (147) لشروط أعمال الغلط وأثره، وهي تتطلب لإعمال الغلط أن يكون هو الذي دفع المتعاقد إلى التعاقد، بحيث أنه لولا وقوعه فيه لما ارتضى العقد، فالمعيار هنا شخصي يتعلق بالمتعاقد ذاته وأثر الغلط عليه، فإذا تبين أن المتعاقد، حال ارتضائه العقد، وقع في غلط وإن هذا الغلط هو الذي دفعه إلى الرضاء به، بحيث أنه ما كان ليرتضيه بغيره، تهيأ الغلط لأن ينتج أثره في دمغ العقد بالقابلية لإبطاله، دون اعتداد بعد ذلك للأمر الذي ينصب الغلط عليه. أما إذا ظهر أن وقوع المتعاقد في الغلط ليس هو الذي دفعه إلى التعاقد فلا يكون لغلطه تأثير على صحة العقد، ولو كان قد انصب على مادة الشيء محل التعاقد ذاتها، التي هي من بعد الركيزة الأولى للغلط المؤثر في ظل النظرية القديمة. فالعبرة ليست بموضوع الغلط، وإنما بأثره على صاحبه بالنسبة إلى ارتضائه العقد، والمشروع في ذلك يحذو حذو القانون المصري وقوانين البلاد العربية الأخرى التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي.
على أن المادة (147) كأصل عام، لا تكتفي لإعمال أثر الغلط في العقد، بأن يكون هو الدافع إلى التعاقد، فالمشروع لا ينظر إلى الغلط من زاوية المتعاقد الغالط وحده، وإنما ينظر إليه أيضًا من زاوية المتعاقد الآخر، الذي من شأن دمغ العقد بالقابلية للإبطال نتيجة الغلط أن يتهدده بالخطر، اعتبارًا بأنه يخل بأمن تعاقده واستقراره ويجعله قابلاً للزوال وفق مشيئة غريمه، وهي من بعد نظرة لم تفت الفكر القانوني المعاصر فقهًا وقضاءً وتشريعًا، ولذلك فإن المشروع يتطلب لإعمال أثر الغلط أن يكون المتعاقد الآخر قد وقع بدوره في نفس الغلط، أو علم بوقوع غريمه فيه، أو كان من السهل عليه أن يتبين عنه ذلك.
فوقوع المتعاقدين كليهما في نفس الغلط ينهض بذاته دليلاً على أن أيًا منهما معذور في غلطه، فيغفر له الوقوع فيه، ويكون لصاحب المصلحة منهما أن يتمسك بإبطال العقد، على أن المشروع حرص هنا على أن يستثني الحالة التي يقع فيها أحد المتعاقدين في الغلط، فيؤثر في الآخر تأثيرًا يتعذر عليه تداركه، ويجره إلى الوقوع معه فيه، كما إذا تملكه اعتقاد معين، فنقله إلى غريمه، فصدقه عنه. ففي مثل هذه الحالة لا يكون الغلط مغتفرًا إلا لمن نشأ اعتقاده بتأثير من الآخر، أما ذاك الذي جر غريمه إلى الغلط فلا يعتبر غلطه مغتفرًا له إذ هو وحده في الأصل الذي وقع في الغلط، وهذا التحفظ من المشروع يدرأ عن فكرة الغلط المشترك عيبًا كبيرًا وُصِمَتْ به وهو عيب برز على وجه الخصوص، في حالة ارتضاء المتعاقد العقد نتيجة باعث شخصي له، قائم على اعتقاد كاذب، عندما يُخطر به المتعاقد الآخر فيصدقه عنه. فالأخذ هنا بفكرة الغلط المشترك على إطلاقها من شأنه أن يمنح الغالط الأصلي حق طلب إبطال العقد، في حين أنه هو الذي جر غريمه معه في الغلط، وجعله يشاركه فيه.
أما في الحالتين الأخيرتين – حالة علم المتعاقد الآخر بوقوع غريمه في الغلط، وحالة إمكانه العلم بالغلط فتقرير وقوع العقد قابلاً للإبطال له ما يبرره على نحو أظهر وأوضح، فالمتعاقد الآخر هنا يعتبر مخطئًا، حيث أنه لم يؤدِ ما يفرضه عليه الحرص والشرف ونزاهة التعامل من واجب يتمثل في تبصير صاحبه.
على أن المشروع، إذ يتطلب، لإعمال الغلط، أن يكون متصلاً بالمتعاقد الآخر، فهو لا يفعل ذلك إلا في المعاوضات دون التبرعات وقد حدا به إلى ذلك حرصه على أن يجيء التبرع من صاحبه عن إرادة خالصة من كل ما يشوبها، فحسب المتبرع لإبطال تبرعه، أن يكون رضاؤه به قد جاء نتيجة وقوعه في الغلط دون اعتبار بعد ذلك لموقف المتبرع له من غلطه، وهذا هو ما يقرره المشروع في الفقرة الثانية من المادة (148)، وهو حكم استحدثه المشروع، تمشيًا مع طبية التبرع.
وتواجه المادة (148) أثر الغلط في القانون وتقضي بأن حكمه كحكم الغلط في الواقع بالنسبة إلى تعييب الرضاء، وبالتالي إلى وقوع العقد قابلاً للإبطال، فكل منهما يؤدي إلى صدور الرضاء من صاحبه على غير بينة من حقيقة ما يرتضيه.
وإذا كان الفكر القانوني قد تردد حينًا من الزمن في هذا الخصوص فإن تردده هذا يرجع إلى الاعتقاد بأن من شأن إعمال الغلط في القانون أن يؤدي إلى الإخلال بقاعدة عدم جواز العذر بجهل القانون، وهو اعتقاد بعيد عن أن يكون صحيحًا. وقد فطن الفكر القانوني في مجموعة اليوم لهذه الحقيقة، الأمر الذي أدى بالفقه والقضاء إلى إعطاء الغلط في القانون نفس حكم الغلط في الواقع بالنسبة إلى تعييب الرضاء ووقوع العقد بالتالي قابلاً للإبطال، وذلك حتى في البلاد التي لم يقنن فيها هذا الحكم بنص خاص، كما هو الشأن في فرنسا، وفي مصر تحت ظل قانونها المدني القديم، وفي الكويت في ظل قانون التجارة الحالي.
ويتمثل الغلط وهمًا كاذبًا يقع فيه المتعاقد من تلقاء نفسه، دون أن يجره إليه المتعاقد الآخر، أو في الأقل، دون أن يجره إليه بما كان يتوجب عليه التحرز منه، وفقًا لمألوف التعامل، فغلطه إذن يُعزى إليه قبل كل شيء، فإن أراد أن يتمسك به، بغية الوصول إلى إبطال العقد وجب ألا يكون ذلك منه على نحو يتجافى مع ما يوجبه عليه حسن النية وشرف التعامل، وإلا كان متعنتًا ومتعسفًا فيما يطلب من حماية القانون، ولزم رفض دعواه وهو حكم جاء به المشروع في المادة (149) واستوحاه من القانون المصري (المادة 124) مع إجراء تعديلات وإضافات جوهرية إليه.
ومن أبرز الحالات التي يظهر فيها التعنت من الغالط أن يصر على إبطال العقد والخلاص كلية من أي تعامل مع غريمه، إذا أظهر هذا الأخير استعداده أن يجري التعامل معه على نحو يتمشى مع حقيقة ما اعتقده الغالط عند إبرام العقد، أي على نحو يرتفع عنه فيه أثر الغلط، وذلك حتى لو كان من شأنه أن يحمل الغالط بالقليل مما لا يبهظه من تضحية.
ويعرض المشروع في المادة (150) للغلط المادي، المتمثل في أخطاء الحساب أو زلات القلم، ويقضي بأنه لا يؤثر في صحة العقد، ذلك لأن الخطأ المادي بمجرده وذاته لا يتمثل عيبًا في الرضاء، فهو لا يعدو أن يكون مظهرًا غير صحيح لرضاء هو في ذاته سليم، ومن ثم فهو لا يؤثر بداهةً في صحة العقد وإنما يلزمه تصحيحه.
على أن الخطأ المادي الذي لا يكون له تأثير على العقد هو ذاك الذي يجيء كمظهر لرضاء قد تم بالفعل من المتعاقدين. أما إذا وقع أحد المتعاقدين في غلط مادي في حسابات أجراها، أو زل منه القلم في التعبير عن إرادته، وجاء رضاء الطرف الآخر متأثرًا بغلطه المادي هذا، فقد يكون من شأن ذلك أن يؤثر في حكم العلاقة بينهما على وجه ما يقضي به القانون، وهذا ما أراد المشروع أن يتحفظ في شأنه بقوله إن الذي لا يؤثر في صحة العقد هو مجرد الخطأ في الحساب أو مجرد زلات القلم.
التدليس:
التدليس باعتباره عيبًا يشوب الرضاء، ليس له دوره المهم في الفكر القانوني المعاصر فحسب، بل إنه له أهميته أيضًا في الفقه الإسلامي، بل لعل أهميته في هذا الفقه الحنيف تفوق ما يتسم به منها في القانون المعاصر.
وقد حرص المشروع على أن يتمشى مع الفقه الإسلامي في التوسع في الاعتداد بالكذب أو الكتمان، باعتباره تدليسًا من شأنه أن يُبطل العقد، وجعله بمثابة الحيل التدليسية، كلما جاء بمخالفة واجب خاص متميز في الصدق والمصارحة يفرضه القانون أو الاتفاق أو طبيعة المعاملة أو الثقة التي يكون من حق أحد الطرفين أن يضعها في الآخر على نحو ما تمليه ظروف التعاقد.
ويعرض المشروع في المادة (151) للهيكل العام لنظام التدليس، فيقرر في الفقرة الأولى، أن قوام التدليس هو الحيلة التي توجه للمتعاقد بقصد تغريره وجعله يعتقد أمرًا يخالف الواقع والحقيقة وذلك بغية دفعه إلى ارتضاء التعاقد. فلا بد لقيام التدليس، من التجاء المدلس إلى حيلة من الحيل، وأن يكون ذلك منه بقصد أن يضلل المتعاقد ويخدعه، ليجعله يرتضى العقد. فالتدليس يقوم على قصد مزدوج من المدلس: قصد في الخديعة والتضليل، وقصد في دفع المضلل المخدوع إلى التعاقد.
وقد حرص المشروع على أن يتجنب اشتراط أن تبلغ الحيل قدرًا من الجسامة بحيث تدفع المتعاقد التي التعاقد، كما فعل القانون المصري والقوانين العربية الأخرى التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي، فالعبرة ليست بمدى ما تتسم به الحيلة من جسامة، وإنما بأثرها على المتعاقد بالنسبة إلى تضليله وجره بذلك إلى التعاقد، فالمعيار هنا هو معيار شخصي قوامه المتعاقد ذاته من حيث ما إذا كانت الحيلة أفلحت في تضليله أم لم تفلح، وليس معيارًا ماديًا يقوم على قدر ما تتسم به الحيلة في ذاتها من جسامة.
على أن الأمر لا يصل، بطبيعة الحال، إلى مستوى الحيلة، إلا إذا انطوى على قدر معقول من الخداع والغش. فإن لم يكن كذلك، فإنه لا يعتبر حيلة أصلاً، ولا يصلح بالتالي تدليسًا من شأنه أن يصلح أساسًا لإبطال العقد، حتى لو ثبت أن المتعاقد قد انخدع به بالفعل، فمن ينخدع بالبسيط من الأمور هو في العادة من المفرطين في السذاجة، ولا يدخل في دور نظام التدليس بأن يحمي أمثال هؤلاء، وإنما قد يمكن له أن يجدوا الحماية في نظام الحجر للغفلة، كما قد يمكن لهم أن يجدوا تلك الحماية في نظام الاستغلال.
ويلزم لإعمال التدليس أن يكون هو الذي دفع المتعاقد إلى ارتضاء العقد، بحيث أنه ما كان ليرتضيه من غيره، شأن التدليس في ذلك شأن الغلط وغيره من كافة عيوب الرضاء الأخرى.
على أن كون التدليس هو الدافع إلى التعاقد، وإن كان يتضمن ما يدل على تعييب الرضاء، إلا أنه لا يكفي بمجرده وذاته لجعل العقد قابلاً للإبطال، وإنما يلزم إلى جانبه أن يكون التدليس متصلاً بالمتعاقد الآخر على النحو الذي تحدده المادتان (153 و154) من المشروع.
وقد حرص المشروع على أن يبين أثر التدليس الذي تتوافر فيه شروط إعماله، على نحو جلي واضح، دفعًا لما ثار من شك حوله في بعض النواحي، ويتركز هذا الأثر في دمغ العقد بالقابلية للإبطال لمصلحة من دُلس عليه، إذا أثبت أنه ما كان ليرتضي العقد، على نحو ما ارتضاه عليه، بغير التدليس، فالحق في طلب إبطال العقد لا يقتصر على الحالة التي يثبت فيها المتعاقد أن التدليس هو الذي جره إلى قبول التعاقد في ذاته، وإنما يثبت أيضًا حتى لو اقتصر دور التدليس على جعله يقبل في التعاقد شروطًا أشد وقرًا مما كان ليقبله لو لم يغرر به، وهو ما جرى الفقه على تسميته بالتدليس العارض، تمييزًا له عن التدليس الأول، الذي أُطلق عليه التدليس الأصلي، ذلك لأن العقد كل لا يتجزأ فتعيب الرضاء في شأن أمر جوهري من أموره، يتمثل تعييبًا في ارتضائه كله.
وإذا كان من شأن التدليس، عندما تتوافر له شروط إعماله، أن ينهض سببًا لإبطال العقد، فإن هذا الأثر يثبت له، إلى جانب ما قد يترتب عليه من مسؤولية المدلس، باعتبار أنه يتمثل خطأ موجبًا لمسؤوليته التقصيرية عن تعويض الضرر المترتب عنه. وبذلك يرى المدلَس عليه نفسه وقد انفتح أمامه طريقان له أن يختار من بينهما ما يراه لمصلحته أوفق: فإما أن يطلب إبطال العقد. وإما أن يبقى عليه، ويكتفي بدعوى المسؤولية التقصيرية وما تؤدي به إلى تعويض ما ناله من ضرر.
وإذا كان الأصل في الحيلة، التي هي أساس التدليس، أن تقوم على أفعال مادية (وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي بالتغرير الفعلي) فإن المشروع قد حرص في المادة (152) على أن يجعل في مقامها الكذب والكتمان، كلما جاءا إخلالاً بواجب خاص في الصدق والمصارحة يفرضه القانون أو الاتفاق أو طبيعة المعاملة أو الثقة الخاصة التي يكون من شأن ظروف الحال أن يجعل للمدلس عليه الحق في أن يضعها فيمن غشه وغرر به (وهذا هو ما يسمى في الفقه الإسلامي بالتغرير القولي)، وقد استوحى المشروع في هذا التوسع الهام في نظام التدليس الفقه الإسلامي، فضلاً عما وصلت إليه أحكام القضاء في البلاد المختلفة.
وغني عن البيان أن الكذب في ذاته، ومجردًا عن أي اعتبار آخر، لا ينهض دعامة كافية للتدليس المبطل العقد، برغم ما فيه من قُبح، وبرغم أن ديننا وأخلاقياتنا تأباه وتمقته وتحرمه، فقد تفشي الكذب اليوم، حتى وصل بنا إلى حد إلقاء الواجب علينا في أن نتحرز نحن منه. فإن لم نفعل كنا مقصرين في حق أنفسنا، وما كان لنا أن نلجأ إلى القانون ليحمينا، إنما الكذب الذي يتدنى إلى مرتبة التدليس هو ذاك الذي يأتي بمخالفة واجب خاص يملي على الشخص الإحجام عنه، غير مجرد الواجب الديني أو الأخلاقي، وهذا الواجب قد يأتي من القانون، أو من الاتفاق كما هو الحال فيما يطلق عليه في الفقه الإسلامي (بيوع الأمانة) أو من طبيعة المعاملة ذاتها التي تقتضي الالتزام الصارم بالصدق والمصارحة، كما هو الحال على الأخص في شأن البيانات التي يقدمها المؤمن له في عقد التأمين، أو حتى من الثقة التي يكون من شأن ظروف الحال وما ينبغي أن يقوم عليه التعاقد من اعتبارات حسن النية، أن تجعل للمتعاقد المدلس عليه حقًا في أن يضعها فيمن خدعه وغرر به.
وتملي المادة (153) شرطًا أساسيًا لإعمال التدليس، يتمثل في وجوب أن يكون التدليس الموجه إلى المتعاقد، والذي دفعه بالفعل إلى التعاقد متصلاً بالمتعاقد الآخر، وهو يُعتبر كذلك بداهة إذا كان المتعاقد الآخر هو الذي لجأ بذات نفسه إلى الحيلة، أو لجأ إليها نائبه. وهو الأمر الذي وقف عنده القانون المصري وغيره من القوانين العربية التي استوحته ومن بينها قانون التجارة الكويتي، وقد توسع المشروع في هذا المجال، فاعتبر التدليس أيضًا متصلاً بالمتعاقد الآخر، إذا كان قد صدر من أحد أتباعه، والمقصود بالتابع هنا أي شخص تكون له صلة بالمتعاقد من شأنها أن تجعله يعمل لخدمته ولحسابه، ولم لم يكن تابعًا بالمعنى الدقيق لهذا الاصطلاح، كالولد أو الزوج الذي يلجأ إلى الاحتيال على شخص لكي يدفعه إلى التعاقد مع أبيه أو زوجه. واعتبر المشروع أيضًا التدليس متصلاً بالمتعاقد، إذا كان قد صدر ممن كلفه، الوساطة في إبرام الصفقة، فما دام هو قد لجأ إليه، طالبًا وساطته، فمن العدل والمصلحة أن يتحمل نتيجة ما يلجأ إليه من الخديعة والغش. واعتبر المشروع التدليس متصلاً بالمتعاقد الآخر، في النهاية، إذا كان قد صدر ممن يبرم التعاقد لمصلحته، وهو حكم عادل تقتضي الملاءمة تقنينه، بعد أن ذاع وانتشر نظام الاشتراط لمصلحة الغير، وهو من بعد حكم استوحاه المشروع من أحكام القضاء.
فإذا وقع التدليس من الغير، فلا يعتبر متصلاً بالمتعاقد الآخر، وبالتالي مخولاً طلب الإبطال، إلا إذا كان هذا قد علم، عند إبرام العقد، بصدوره أو كان في استطاعته حينئذ أن يعلم به.
والغاية التي يتوخاها المشروع من تطلُب أن يكون التدليس بالمتعاقد الآخر، هي العمل على تقرير الأمن والاستقرار للتعامل، عن طريق عدم تعريض هذا المتعاقد للإبطال، إلا إذا أمكن أن يُعزى إليه ما يبرر تحمله نتيجة.
وارتأى المشروع بالمادة (154) أن يستثني عقود التبرع من شرط اتصال التدليس بالمتعاقد الآخر مكتفيًا، لإمكان إبطالها، أن يجيء رضاء المتعاقد بها نتيجة التدليس، ودون اعتبار بعد ذلك لمن وُجهت منه الحيلة، ولما إذا كان المتعاقد الآخر قد علم بها أم لم يعلم وقد حدا به إلى تقرير هذا الحكم رغبته في أن يجيء التبرع، في جميع الحالات، عن إرادة بعيدة عن الغش والاحتيال والخديعة.
ويعرض المشروع، في المادة (155) لحالة التدليس المتبادل وهي تلك التي يلجأ فيها كل من طرفي العقد إلى التدليس على الآخر، في صدد شأن من شؤون التعاقد، ويجره بذلك إلى ارتضائه، مقررًا حرمان أي منهما من حق طلب إبطال العقد، فكل منهما قد دنسته حيلته وغشه، فليس له أن يتأذى من غش غريمه، إذا كان قد صدر منه نحوه ما يماثله.
وقد استوحى المشروع هذا الحكم من أعمال لجنة تنقيح القانون المدني الفرنسي المادة (16) من مشروع النصوص المتعلقة بالمصادر الإرادية للالتزامات (أعمال اللجنة لسنة 1948/ 1949 ص 706).
الإكراه:
أولى الفكر القانوني منذ القدم أهمية قصوى للإكراه إلى جانب كونه عيبًا يشوب الرضاء ويفسده، فهو يقوم على العنف أو التهديد به.
وقد وجد نظام الإكراه، في الفقه الإسلامي، مكانًا رحبًا بارزًا، واهتم به رجاله اهتمامًا كبيرًا، بل لعل اهتمام فقهاء المسلمين بالإكراه يفوق إلى حد كبير الاهتمام الذي أُولي إياه في ظل الشرائع الأخرى، بل إنه يفوق اهتمامهم هم أنفسهم بغيره مما يدخل، في النظرة المعاصرة، في زمرة عيوب الرضاء.
وترجع الأهمية الكبرى لنظام الإكراه، في ظل الفقه الإسلامي، إلى أن اعتناق الدين الإسلامي نفسه بُني على الاختيار عند الفرد، فلا جبر فيه ولا قسر ولا إرغام، إذ أنه (لا إكراه في الدين) وكان طبيعيًا أن تنعكس هذه القيمة السامية على المعاملات، ليتحتم أن تقوم على الرضاء الحر، بعيدة عن الضغط والإجبار، وتوخًيا للوصول إلى هذه الغاية النبيلة، جاء القرآن الكريم يحارب الإكراه في العقود بقوله، عز شأنه " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم " وجاء الرسول الأمين يقول " إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ".
وإذا كان الفقه الإسلامي بكل مذاهبه قد عمد إلى محاربة الإكراه في العقود، إلا أن أثره يتفاوت باختلاف تلك المذاهب، فعند الشافعية، الإكراه يبطل التصرف، حيث قالوا إن عقد المكره يكون باطلاً، كعقد الصبي غير المميز والمجنون، وتقول الجعفرية بحكم مماثل (كاشف الغطاء ج 3 ص 153) وعند الحنفية وقع الاختلاف في حكم الإكراه: فعقد المكره يقع موقوفًا على إجازته عند زفر ولكنه يقع فاسدًا عند أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد، وهو الرأي الراجح في المذهب، أما عند المالكية فالإكراه لا يمس انعقاد العقد (كما تقول الشافعية والجعفرية)، ولا يمس صحته بالفساد (كما يقول الرأي السائد عند الحنفية)، ولكن أثره يقتصر على أن يجعل منه عقدًا غير لازم، بمعنى أن يثبت للمكره خيار الفسخ، وهو رأي يتفق مع ما يقول به الفكر القانوني المعاصر الذي تبناه المشروع.
وقد حرص المشروع، في تنظيمه للإكراه، أن يقف عند حدوده التقليدية الموروثة، اعتبارًا بأنه يقوم على وسائل تهديدية توجه إلى المتعاقد، بغرض حمله على ارتضاء العقد، درءًا للأذى عنه أو عن غيره ممن يؤثر فيه إيذاؤهم، وهي من بعد الحدود التي تكون الإطار الذي عرف الإكراه في أصله عليه، سواء في الفقه الإسلامي أم في الفكر القانوني المعاصر.
وترسم المادة (156) الإطار العام لنظام الإكراه، من حيث قيامه وأثره، فهي تقرر أن أساس قيام الإكراه يتركز في أن المتعاقد يرتضي التصرف تحت سلطان الرهبة أو الخوف، فهو إذا كان يرتضي التصرف حقيقة، إلا أن رضاءه به لم يأت حرًا وعن كامل اختيار، وإنما جاء عن ضغط عليه وقسر وإجبار، ورغبة منه في دفع الأذى الذي يتهدد غيره.
وينبغي لقيام الإكراه أن تكون الرهبة قد بُعثت في نفس المتعاقد بفعل فاعل، سواء أكان هو المتعاقد الآخر أو شخصًا آخر ممن يمكن أن يعزى عملهم إليه، على نحو ما تقرره المادة (157)، فإن تولدت الرهبة بغير تدخل من أحد، كما إذا تولدت بفعل الظروف المحيطة بالشخص، أو تولدت بتأثير مجرد الإجلال الذي يستشعره نحو شخص آخر، فإن الإكراه لا يتواجد، وإنما قد ينفتح المجال لأعمال عيب آخر من عيوب الرضاء هو الاستغلال.
ويلزم أن تكون الرهبة قائمة حقيقة في نفس المتعاقد عند ارتضائه العقد، وهي تعتبر كذلك، إذا وُجهت إليه وسائل ضغط وإكراه جعلته يستشعر الخوف من أذى جسيم يتهدده، أو يتصور أنه يتهدده، هو أو أحد من الغير، في النفس أو الجسم أو العرض أو الشرف أو المال أو أية قيمة أخرى من القيم العزيزة على النفس. فالعبرة هنا هي بحصول الرهبة بالفعل، ولا أهمية بعد ذلك للأداة التي أفلحت في توليدها في النفس، فلا أهمية لما إذا كان الخطر الذي يتهدد الشخص حقيقيًا أو وهميًا، ما دام المكره قد استشعره بالفعل في ذات نفسه.
ولا تحديد للأشخاص الذين يعتبر تهديدنا بإلحاق الأذى بهم إكراهًا لنا بالنسبة إلى القرابة أو غيرها، ولم يشأ المشروع هنا أن يلجأ إلى مثل هذا التحديد. مخالفًا في ذلك ما فعلته بعض القوانين، كالقانون الفرنسي، (المادة 1113) لما فيه من تحكم غير مقبول، فالمسألة مردها إلى أثر التهديد على نفس المتعاقد، من حيث توليد الرهبة أو عدم توليدها في نفسه. وقد يشعر الفرد منا بالحب والإعزاز نحو شخص لا يمت بصلة قربى فيولد تهديده بإيذائه فادح الخوف، في حين أنه قد لا يهمه أمر أقرب الناس إليه، فلا يستشعر الخوف من أن يصيبه كبير الأذى.
والمعيار الذي يراعى في تحديد ما إذا كانت الرهبة قد قامت في نفس المتعاقد أم لم تقم، هو معيار شخصي أساسه المتعاقد المكره نفسه، فطالما أنه قد ثبت أنه قد خاف بالفعل وأن الرهبة التي تولدت هي التي دفعته إلى التعاقد، فإن الإكراه يتوافر، بغض النظر عما إذا كان من شأن وسائل الإكراه التي وجهت إليه أن تبعث الرهبة في نفس غيره أم لا تبعثها، والناس يتفاوتون فيما من شأنه أن يبعث في نفسهم الرهبة، بل إن من شأن الظروف المحيطة بهم أن تلعب في ذلك دورها، ولذلك وجب الاعتداد في تحديد قيام الرهبة في نفس المتعاقد ومدى أثرها عليه بظروفه الخاصة، كحالته من الذكورة أو الأنوثة، وسنه، وعلمه أو جهله، وصحته أو مرضه، وكذلك بكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر بدوره فيما يترتب من خوف في نفسه ولو كان هذا الظرف غير متعلق بذات شخصه، كما إذا وقع التهديد عليه في مكان منعزل بعيد عن الناس.
ويلزم لقيام الإكراه أن تكون الرهبة قد ولدت في نفس المتعاقد بغير وجه حق، فلا قيام للإكراه إذا بعث المتعاقد الرهبة في نفس غريمه بوسيلة يسمح بها القانون، ومن غير تجاوز للغرض الذي أباحها من أجله، وفي ذلك يتجاوب المشروع من الفقه الإسلامي الذي يبشر بأن الإكراه بحق، أو ما يطلق عليه تحت ظله (الجبر الشرعي) يقع غير مؤثر على العقد.
وإذا توافرت للإكراه شروط إعماله، أنتج أثره. ويتركز هذا الأثر في وقوع العقد قابلاً للإبطال لمصلحة من جاء رضاؤه متعيبًا، وهو حكم إن خالف السائد عند الشافعية والجعفرية، حيث يقع عقد المكره باطلاً عندهم، وإن خالف ما يقول به فقهاء الحنفية من وقوع عقد المكره موقوفًا أو فاسدًا على خلاف بينهم، فهو يتفق مع مذهب المالكية، حيث يقولون بوقوع عقد المكره منعقدًا غير باطل، وصحيحًا غير فاسد، ونافذًا غير موقوف، ولكنه يكون غير لازم، حيث تثبت للمكره خيار الفسخ.
ويثبت حق طلب الإبطال للمكره، سواء دفعه الإكراه إلى قبول التعاقد ذاته، أم اقتصر على حمله قبول شروط أقسى وأشد وقرًا مما كان يقبل بها من غيره، شأن الإكراه في ذلك شأن التدليس.
على أنه إذا اقتصر دور الإكراه على حمل المتعاقد على قبول شروطه تبهظه، فإنه يترخص له، كما هو الحال في التدليس، ألا يتمسك بإبطال العقد، ويرجع على المتعاقد الآخر على أساس المسؤولية التقصيرية، إذا توافرت شروطها، بُغية أن يدفع عن نفسه ما يبهظ من شروط العقد، اعتبارًا بأنه بذلك يصل إلى تعويض عيني للضرر الذي لحقه من جراء الإكراه.
ويتطلب المشروع في المادة (157) أن يكون الإكراه، الذي تعيب به رضاء المتعاقد، قد جاء من المتعاقد الآخر، أو من نائبه، أو بفعل من يُبرم العقد لمصلحته، شأن الإكراه في ذلك شأن التدليس.
وكما هو الحال في شأن التدليس، فإن المشروع يقصد بالتابع هنا كل من يعمل لحساب المتعاقد، حتى لو لم يكن تابعًا له بالمعنى الصارم لهذا الاصطلاح، وحتى لو لم يكن ملتزمًا قانونًا بأن يعمل لصالحه، بل أجرى ذلك تطوعًا منه، فإذا وقع الإكراه من شخص من الغير، ما كان له تأثير على العقد، ما لم يكن المتعاقد الآخر، عند إبرام العقد، عالمًا بحصول الإكراه، أو كان من المفروض عليه حتمًا أن يعلم به، والمكره بعد ذلك وشأنه مع من سلط عليه سيف التهديد.
والمشروع، إذ يجعل الإكراه الواقع من الغير غير مؤثر على العقد، لا يغفل عن أنه يؤدي، هو أيضًا، إلى تعييب الرضاء. ولكنه راعى مصلحة المتعاقد الآخر، وهي مصلحة يراها جديرة بالرعاية إذ الفرض أن هذا المتعاقد كان بعيدًا عن الإكراه لم يتصل به بسبب.
والمشروع، بتطلبه أن يكون الإكراه متصلاً بالمتعاقد الآخر، وإن خالف الفكرة التقليدية التي تعمل الإكراه طالما كان هو الدافع إلى التعاقد، دون اعتبار بعد ذلك لمن يصدر عنه، فهو يتمشى مع الفكرة التي أخذت تسود في القانون المعاصر، والتي تُدخل في اعتبارها وجوب توفير الأمن والاستقرار للمعاملات، كلما كان الطرف الآخر في العقد بمنأى عما شاب رضاء غريمه من عيب، ثم إنه يسوي بذلك في الحكم بين الإكراه والتدليس.
وقد استوحى المشروع حكم المادة (157) من القانون المصري وغيره من قوانين البلاد العربية الأخرى التي اتبعته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي، وذلك بعد إجراء تعديلات في الصياغة اقتضتها الملاءمة.
يستثني المشروع في المادة (158) التبرعات من شرط اتصال الإكراه بالمتعاقد الآخر، كما فعل ذلك من قبل بالنسبة للغلط والتدليس. وقد قرر هذا الحكم، حرصًا منه على أن يجيء التبرع دومًا عن إرادة حرة مختارة، كما حرص من قبل على أن تجيء عن بينة من الأمر، لم يفسدها غلط، ولم يضللها تدليس.
الاستغلال:
تعرض المادة (159) لكيان نظام الاستغلال وللأثر المرتب عليه.
وهي تقيم الاستغلال على أمرين، يتمثل أولهما وسيلة يستهدف بها الوصول إلى الثاني.
فالمادة (159) تتطلب، بادئ ذي بدء، استغلال ناحية من نواحي الضعف في المتعاقد، ونواحي الضعف عديدة يذكر المشروع أهمها وأكثرها شيوعًا في حياة الناس، وهو إذ يذكرها، لا يغفل عن أن بعضها يتداخل مع بعضها الآخر، بل حتى يمكن له أن يغني، ولكنه أراد لنظام الاستغلال أن ينطلق، ليغطي جميع أوجه الضعف في الشخص، حينما يعمد الغير إلى استغلالها فيه، وصولاً إلى الكسب المفرط المتجافي مع شرف التعامل، وبالتالي الكسب الحرام.
ومن نواحي الضعف التي يخصها المشروع بالذكر، الحاجة الملجئة، أو حالة الضرورة، ويقصد بها الحالة التي يرى الشخص فيها نفسه، لظروف معينة تحيط به، مضطرًا إلى إبرام التصرف، تحت ضغط حاجة ملحة، تتمثل عادة في دفع خطر محدق بالنفس أو بالمال، وهي حالة لا تعدم الشيوع في حياة الناس، وقد عالجها القضاء في البلاد التي لم تأخذ بنظام الاستغلال على أساس الإكراه، وأولى بها أن ترتد في حكمها لنظام الاستغلال.
ويذكر المشروع أيضًا من نواحي الضعف التي يلجأ إلى استغلالها الطيش البين، ويقصد به عدم الخبرة البالغ بأمر التعاقد والاستهانة الشديدة بعواقبه، كما يذكر الضعف الظاهر الذي قد يتمثل في قلة إدراك الشخص أو غبائه أو في الإفراط في طيبة قلبه، أو أي ضعف آخر يراه القاضي كافيًا لقيام الاستغلال.
ويذكر المشروع كذلك من نواحي الضعف الإنساني التي يلجأ إلى استغلالها الهوى الجامح، وهو ذاك الذي يتمثل في الشعور العارم الملح العنيف نحو شخص أو نحو شيء، فهو لا يقوم على مجرد العطف أو المودة أو الحب المتزن.
ويذكر المشروع كذلك في النهاية السطوة الأدبية، ويقصد بها النفوذ الأدبي الذي يكون لشخص على آخر، ويبلغ تأثيره عليه من الكبر حدًا بحيث يجعله ينقاد إليه، إما عن عقيدة في صواب رأيه، وإما خشية إغضابه، كما هو الشأن على وجه الخصوص، في السطوة الأدبية التي قد تكون للأب على ابنه، أو للرئيس على مرؤوسه، أو للمعلم على تلميذه، أو لرجل الدين على الدين.
والأمر الثاني الذي تقيم المادة (159) الاستغلال عليه، هو التفاوت الباهظ الجسيم في الأخذ والعطاء، بحيث يتمثل العقد تنكرًا ظاهرًا لشرف التعامل ومقتضيات حسن النية. فنظام الاستغلال لا يتغيا قيام العقود على المساواة بين طرفيها في أخذ كل منهما وعطائه، بل هو لا يحارب مجرد عدم التناسب بين ذاك الأخذ وهذا العطاء، وإنما هو يحارب عدم التناسب الباهظ الصارخ بينهما. وقد عمدت كل التقنينات التي أخذت بنظام الاستغلال إلى إبراز هذا الجانب منه، وإن كان ذلك بعبارات مغايرة.
وقد حرص المشروع على أن يذكر أن عدم التناسب الذي يقوم الاستغلال عليه هو ذاك الذي يكون بين ما يلتزم ضحية الاستغلال بأدائه وبين ما يجره عليه العقد من نفع مادي أو أدبي. وقد قصد بذلك ألا يقتصر إعمال نظام الاستغلال على عقود المعاوضات، وليحدث أثره في عقود التبرع.
ويتركز أثر الاستغلال في أنه يترخص للقاضي، بناءً على طلب ضحية الاستغلال، ووفقًا للعدالة ومراعاة لظروف الحال، أن يقضي، إما بإنقاص التزاماته أو بالزيادة في التزامات الطرف الآخر، أو بإبطال العقد.
والمشروع، إذ يُدخل ضمن الرخص الممنوحة للقاضي الزيادة في التزامات الطرف الآخر، يخالف بذلك أغلب التقنينات التي يقتصر أثر الاستغلال فيها، إما على بطلان العقد (القانون الألماني - المادة 138)، أو على جعل العقد قابلاً للإبطال (مدونة الالتزامات السويسرية – المادة 21) أو على ثبوت الرخصة للقاضي في إبطال العقد أو إنقاص التزامات الطرف المستغل، وقد قال بهذا الحكم الأخير مشروع القانون الفرنسي الإيطالي (المادة 22)، ومنه انتقل إلى القانون المصري، ومن بعده إلى قوانين البلاد العربية الأخرى التي استوحته ومن بينها قانون التجارة الكويتي. والمشروع، إذ يرخص لقاضي إجراء الزيادة في التزامات الطرف الآخر، إلى جانب إبطال العقد وإنقاص التزامات الطرف المستغل، يتمشى مع الفكرة السائدة في نظام الغبن، سواء في الفقه الإسلامي أو في القانون المعاصر، والتي تقوم على الزيادة في التزام الطرف الغابن بما يرفع الغبن الفاحش عن الطرف المغبون، فضلاً عن أنه يتجاوب مع الأثر المترتب على إعمال نظرية الظروف الطارئة.
والزيادة في التزام الطرف الآخر قد يحكم بها القاضي، إما بناءً على طلب ضحية الاستغلال، أو بناءً على ذات طلبه هو، كدفع يعمد به إلى اتقاء إبطال العقد.
والمشروع في إعطائه للقاضي سلطة الزيادة في التزامات الطرف الآخر، قد استوحى القانون البولوني (المادة 42).
وغني عن البيان أن الاستغلال، شأنه في ذلك شأن غيره من كافة عيوب الرضاء، لا ينتج أثره، إلا إذا كان هو الدافع إلى التعاقد، بحيث أنه لولاه لما أُبرم العقد، أو لما أبرم على نحو ما أبرم عليه، وسواء بعد ذلك أن يكون الاستغلال قد وقع من المتعاقد الآخر، أم من شخص غيره يعمل لصالحه.
وأتت المادة (160) لتؤكد إمكان إعمال نظام الاستغلال في عقود البيع، دفعًا لأية شبهة، فلا يوجد أي مسوغ لقصر دائرة الاستغلال على المعاوضات، وإذا كانت ثمة شبهة قامت في الماضي حول هذا الأمر، فإن مردها إلى الاعتقاد بأن نظام الاستغلال لا يعدو أن يكون مجرد تطوير لنظام الغبن، وإلى أن هذا الأخير لا يسري في صدد التبرعات، فأيًا ما كان وجه الحق في البنوة المدعاة بين الاستغلال والغبن، فقد اكتملت لنظام الاستغلال ذاتيته، وأصبحت له دائرة أعماله الخاصة به، فضلاً عن شروطه وأثره. ولا يوجد ثمة ما يمنع من سريانه على التبرعات، بل إن التبرعات تتمثل الحقل الخصيب لإعماله، لا سيما بالنسبة إلى ما قام منه على الهوى الجامح.
على أن أثر الاستغلال في عقود التبرع يختلف بالضرورة بعض الشيء عن أثره في المعاوضات، فهو يقتصر على الترخيص للقاضي، بناءً على طلب المتبرع، ووفقًا لظروف الحال، ومراعاةً لمقتضيات العدالة والاعتبارات الإنسانية أن يبطل العقد أو أن ينقص القدر المتبرع به، وقد حرص المشروع أن يذكر الاعتبارات الإنسانية من بين الأمور التي يهتدي بها القاضي في حكمه، تقديرًا منه أن بعضًا من التبرعات التي تجيء وليدة الاستغلال، تستهدف غاية إنسانية جديرة بالرعاية كما إذا استغلت الزوجة الهوى الجامح الذي يستشعره زوجها نحوها، فتجعله يهب أولادهما الصغار من أمواله ما يلزم لتربيتهم، ففي مثل هذه الحالة، يستطيع القاضي أن يتمشى في حكمه مع ما تقتضيه المصلحة الإنسانية في تربية الصغار، في حدود اتساق هذه المصلحة مع مصلحة باقي الورثة والتوفيق بينهما.
وتعرض المادة (161) للمدة التي ينبغي أن ترفع خلالها دعوى الاستغلال، وإلا سقطت، وتحدد الفقرة الأولى هذه المدة بسنة واحدة، تبدأ من تاريخ إبرام العقد. وهذه المدة، وإن كانت قصيرة، إلا أنه تشفع لقصرها الرغبة في استقرار المعاملات. وهي على أية حال، المدة التي قدرتها أغلب القوانين ومن بينها قانون التجارة الكويتي (المادة 126/ 2). وإذا كان المشروع قد قرر، الأصل العام لبدء سريان مدة السنة، محددًا إياه بوقت إبرام العقد، على نحو ما تقول به المدونات القانونية في أغلب الدول التي أخذت بنظام الاستغلال إلا أنه استحدث في الفقرة الثانية حكمًا مغايرًا بالنسبة إلى دعاوى الاستغلال الذي يقوم على الهوى الجامح أو السطوة الأدبية، جاعلاً بدء سريان مدة السنة، بالنسبة إليها، من تاريخ انقطاع أثر الهوى أو السطوة على أن تسقط الدعوى، على أية حال، بمضي 15 سنة من تاريخ إبرام العقد.
وقد دعا المشروع إلى تقرير الحكم الذي استحدثه ما رآه من أنه، في العمل، يتعذر على من يبرم التصرف، تحت تأثير الهوى الجامح أو تحت تأثير السطوة الأدبية، أن يطعن فيه، طالما بقي أسيرًا لهذه أو لذاك، ومن ثم لزم أن تبدأ فترة السنة من وقت تحرره منها، وإلا ضاق مجال إعمال الاستغلال بصددهما إلى حد يتقارب مع العدم، سيما وأن مدة السنة تتمثل فترة بالغة القصر. والمشروع بهذا الحكم المستحدث يتفادى عيبًا ظاهرًا في التشريع الكويتي الحالي، وهو عيب لم يفت الفقه أن يستظهره.
الغبن:
عني المشروع بالغبن وعالجه في إطار نظرية عامة، من شأن أحكامها أن تسري على كافة العقود، ما لم يخص القانون بعض منها بحكم مغاير.
ويبدأ المشروع في المادة (162) بوضع الأصل العام، ومؤداه أن الغبن بمجرده وذاته، ومن غير أن يأتي نتيجة عيب من عيوب الرضاء، المتمثلة في الغلط والتدليس والإكراه والاستغلال لا يكون له تأثير على العقد، على أنه يورد على هذا الأصل العام تحفظين، يتعلق أولهما بالأحوال الخاصة التي ينص فيها القانون، في صدد عقد من العقود أو تصرف قانوني بوجه عام، على إعطاء الغبن أثرًا معينًا يحدده، ويتعلق التحفظ الثاني بالعقود أيًا ما كانت، إذا ترتب عنها غبن لأشخاص محددين بنوعياتهم، تبينهم المدة (163).
والمشروع إذ يقرر الأصل العام القاضي بأن الغبن بمجرده وذاته لا يكون له تأثير على العقد يتجاوب تمامًا مع الفقه الإسلامي ومع الفكر القانوني المعاصر على حد سواء.
ويأتي المشروع في المادة (163) بتحفظ هام على الأصل العام الذي أورده في المادة (162) ومؤدى هذا التحفظ إعطاء أثر للغبن الذي يتضمنه العقد للدولة أو لغيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة، ولجهة الوقف، ولعديمي الأهلية وناقصيها، شريطة أن يكون هذا الغبن فاحشًا، ويتركز هذا الأثر في الترخيص للمغبون في أن يطلب من القاضي تعديل مقابل أدائه، وهو التزام الطرف الآخر، أو تعديل التزامه هو بما يرفع عنه لا كل الغبن، وإنما فقط الفحش فيه.
وتحدد المادة (164) في فقرتها الثانية الغبن الفاحش بما يزيد، عند إبرام العقد على الخمس، والمشروع يريد بذلك قدرًا موحدًا لا يتغير بتغير محل الالتزام، أو بتغير المعقود عليه كما يقول الفقه الإسلامي، والمشروع، إذ يتخالف في هذا الصدد مع ما جاء به الفقه الإسلامي من التنويع في قدر الغبن الفاحش حسب طبيعة المعقود عليه، ذلك التنويع الذي كان له صداه في مجلة الأحكام العدلية، حيث جاءت المدة (164) منها تحدد الغبن الفاحش بنصف العشر في العروض، والعشر في الحيوانات، والخمس في العقارات، فهو يريد التبسيط من وجه، ويتوخى من وجه ثانٍ، التمشي مع مقتضيات العصر المتمثلة في اتساع وتنوع طبيعة المعقود عليه إلى حدود باتت لا تتناهى.
وتجيء المادة (163) في فقرتها الثالثة، لتقضي بأنه لا يحول دون الطعن بالغبن، أن يكون العقد قد أجري عن المغبون ممن ينوب عنه وفقًا للقانون أو أذنت به المحكمة، ذلك لأن النائب قد لا يبذل من العناية بمصلحة من يمثله القدر اللازم الذي تقتضيه مصلحته.
والمشروع إذ يقرر حماية الدولة وغيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة وجهة الوقف وعديمي الأهلية وناقصيها، يتجاوب مع الفقه الإسلامي الذي حرص كل الحرص على مال اليتيم ومال بيت المال ومال الوقف، ومع ذلك فلم يشأ المشروع أن يصل في مدى الحماية إلى حد تقرير عدم صحة العقد كما تقضي المجلة (المادة 356) أو إلى بطلانه كما يقضي القانون العراقي (المادة 124/ 2) مكتفيًا برفع ما فحش من الغبن.
ويجيء المشروع في المادة (164) ويرخص لمن يتعاقد مع المغبون، الذي يطعن بالغبن، أن يتوقى زيادة عبء التزامه بما يرفع الغبن الفاحش، وذلك بمنحه الحق في طلب فسخ العقد، وقد راعى المشروع في منح هذه الرخصة للمتعاقد مع المغبون، أنه من المحتمل أن يكون قد ارتضى العقد لمجيئه على نحو ما تم عليه، بحيث أنه ما كان ليرتضيه بالزيادة التي يراد له أن يتحملها في مدى التزامه، ثم إنه قد يكون في تحميله بهذه الزيادة ما يبهظه، فإذا كان ذلك، فلا أقل من أن يترك له الخيار بين أن يتقبل الزيادة في مدى التزامه بما يرفع عن المغبون فحش الغبن، وبين أن يتحلل من العقد.
على أن المشروع يمنع رخصة توقي الزيادة في الالتزام عمن يكون قد تعاقد مع الدولة أو مع غيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة، تقديرًا منه للمصلحة العامة التي قد تتأذى من فسخ العقد، والتي ينبغي على المصلحة الخاصة أن تنزوي أمامها.
ويورد المشروع، في المادة (165) استثناءً على جواز الطعن على أساس الغبن للدولة ولغيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة، ولعديمي الأهلية وناقصيها ولجهة الوقف، فهو يمنع هذا الطعن، إذا تم العقد بطريق المزايدة أو المناقصة على نحو ما يقضي به القانون، ووفقًا للإجراءات التي يرسمها، وعلة هذا الاستثناء تتمثل في الرغبة في توفير الحصانة للعقود التي تُبرم عن طريق المزادات أو المناقصات القانونية، وما يترتب على ذلك من التشجيع على الدخول فيها، ثم إن في حصول التعاقد بالمزاد أو بالمناقصة على نحو ما يقضي به القانون ووفقًا للإجراءات التي يحددها الضمان الكافي لمن يريد القانون حمايتهم.
ويعرض المشروع في المادة (166)، للمدة التي ينبغي أن ترفع خلالها دعوى الغبن إعمالاً لحكم المادة (163) ويحدد هذه المدة بسنة واحدة وهي نفس المدة التي حددها لدعوى الاستغلال. وتبدأ مدة السنة من وقت إبرام العقد، بالنسبة إلى الدولة أو غيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة ولجهة الوقف، ومن وقت اكتمال الأهلية أو الموت بالنسبة لعديمي الأهلية وناقصيها، على ألا تتجاوز المدة في أية حال 15 سنة من وقت إبرام العقد، فإن رُفعت دعوى الغبن، بعد المدة القانونية تعين على القاضي الحكم بسقوطها
2 - المحل:
المحل اعتبارًا بأنه الشيء الذي يلتزم المدين بعمله أو بالامتناع عن عمله، يتمثل - في حقيقة الواقع - ركنًا في الالتزام إذ أن محل العقد هو ذات الالتزامات التي يولدها.
ومع ذلك فقد درج الفكر القانوني، ليس فقهيًا فحسب، بل تشريعًا أيضًا، على أن ينظر إلى الفعل الذي يلتزم المدين بعمله أو بالامتناع عن عمله، باعتباره محلاً، لا للالتزام وحده، وإنما أيضًا للعقد الذي ينشئه.
وهذه هي النظرة التي يرى المشروع أن يسايرها، وهو إذ يفعل، لا يعمد فقط إلى عدم القطيعة مع تقليد استقر من قديم، ولكن أيضًا لأنه يرى أن لتلك النظرة ما يبررها، فالعقد ينشئ الالتزام، فإن كان العمل الذي يلتزم المدين بفعله أو بالامتناع عن فعله، يتمثل محلاً مباشرًا للالتزام، فهو ينهض، في نفس الوقت محلاً للعقد الذي يولد هذا الالتزام، وإن كان ذلك بطريق غير مباشر. ومن هنا ساغ أن ينظر إلى محل الالتزام باعتباره ركنًا في العقد، وأيًا ما كان الأمر، فإن الغاية من العقد هي إنشاء الالتزام. فإذا تعذر عليه أن ينشئ الالتزام لأمر يخص محله، فإنه يكون غير ذي موضوع فيبطل بدوره.
ويعرض المشروع، في المادة (167) لأحد الشروط اللازم توافرها في محل الالتزام، وهو إمكان أدائه، وهذا شرط تمليه طبيعة الأمور ذاتها، إذ أنه لا يُتصور أن يلزم الشخص بعمل المستحيل. ومن هنا كان الأصل العام القاضي بأنه لا التزام بمستحيل، فإن التزم المدين بما هو مستحيل بطل التزامه، وبطل العقد الذي أُريد له أن ينشئه.
على أن الاستحالة التي تمنع من قيام العقد هي الاستحالة الموضوعية، أي استحالة محل الالتزام ذاته، أو استحالته من حيث هو، وليست الاستحالة الذاتية المتعلقة بالمدين نفسه. فإن كان محل الالتزام ممكنًا في ذاته قام العقد، حتى لو كان المدين نفسه يستحيل عليه أن يؤديه، على أن تنشغل مسؤوليته حينئذٍ عن عدم الوفاء بالالتزام، وفقًا للقواعد القانونية العامة.
والاستحالة الموضوعية التي تؤدي إلى بطلان العقد هي تلك التي تكون قائمة عند إبرامه. فإن كان محل الالتزام ممكنًا عند إبرام العقد، ولكنه أصبح مستحيلاً في تاريخ لاحق، ما أثر ذلك في ذات انعقاد العقد، ولكن يكون له آثار قانونية أخرى، تختلف باختلاف الأحوال.
والمشروع يستوحي نص المادة (167) من نص المادة (130) من قانون التجارة الكويتي، الذي هو مستمد بدوره من المادة (132) مدني مصري، وذلك بعد أن أدخل المشروع تعديلاً طفيفًا في الصياغة توخيًا للإيضاح.
ويعرض المشروع في المادة (168)، للتعامل في الأشياء المستقبلة قاضيًا بجوازه، كأصل عام.
فإذا كان يتوجب لإمكان محل الالتزام، وبالتالي لقيام العقد، أن يكون الشيء الذي يتعلق به موجودًا عند إبرام العقد، فإن ذلك لا يتحتم إلا إذا نظر إلى الشيء على اعتبار أنه قائم فعلاً عندئذٍ، أما إذا نظر إلى الشيء على اعتبار أنه غير موجود الآن، ولكنه سوف يوجد بعد حين، فإن المحل يعتبر ممكنًا، طالما أن وجود الشيء مستقبلاً غير مستحيل استحالة موضوعية مطلقة فالشيء الذي يتعلق به الالتزام، إما أن يكون موجودًا بالفعل عند إبرام العقد، وإما أن يكون قابلاً للوجود في تاريخ تالٍ.
والمشروع إذ يجيز بحسب الأصل، التعامل في الأشياء المستقبلة، إنما يتجاوب مع ما تقتضيه المصلحة. وهو من بعد الحكم الذي تسايره كل التقنينات الحديثة في الدول المختلفة، ومن بينها دولة الكويت (المادة 131/ 1 والمادة 383 من قانون التجارة).
وإذا كان الفقه الإسلامي يرسي الأصل العام في عدم جواز التعامل في الأشياء المستقبلة، إلا أنه يورد على هذا الأصل استثناءات عديدة بحيث أنه يمكن أن يقال أنه بات لا يحرم هذا النوع من التعامل، إلا إذا اقترن بالشديد من الغرر. وهذا ما أراد المشروع أن يتمشى معه، حيث أورد على التعامل في الأشياء المستقبلة تحفظًا، قوامه منعه، حينما يكون وجود الشيء رهينًا بمحض الصدفة، اعتبارًا منه بأن التعامل يكون عندئذٍ أقرب إلى المقامرة.
ويورد المشروع في المادة (169) استثناءً هامًا على مبدأ جواز التعامل في الأموال المستقبلة، فهو يحظر بحسب الأصل التعامل في التركات التي لما تفتح، لكون أصحابها لا زالوا على قيد الحياة. والمشروع إذ يحظر التعامل في التركات المستقبلة، يساير التقنينات الحديثة، سواء في بلادنا العربية أم في الدول الراقية الأخرى. وقانون التجارة الكويتي بدوره يأخذ بالحظر (المادة 131/ 2).
والمشروع يحظر بحسب الأصل، التعامل في التركات المستقبلة، أو الحقوق الاحتمالية الداخلة فيها، بغض النظر عن طبيعة التعامل أو نوعيته، ودون اعتبار لشخص المتصرف أو المتصرف إليه، وقد حرص على أن يصرح ببطلان التصرف في التركات المستقبلة، ولو تم من المورث المحتمل نفسه، أو تم من غيره ووافق عليه هو وارتضاه، وهذا هو الحكم السائد في التشريع المعاصر، ولم يشذ عنه إلا قليل من التقنينات، كمدونة الالتزامات السويسرية (المادة 636) وهو من بعد حكم تحتمه المصلحة. فالتعامل في التركات المستقبلة لا يتضمن فقط المضاربة على حياة المورث المحتمل، إذ أنه يقوم في العادة على استغلال المرابين حاجة الورثة الاحتماليين ونزقهم، فيسلبونهم حقوقهم المحتملة نظير مقابل بخس زهيد. وفضلاً عن ذلك فتصرف الشخص نفسه فيما عساه أن يخلفه عند موته من أموال يتعارض مع قواعد الميراث، زيادة على اتسامه بالغرر الشديد.
على أن المشروع، إذا كان يحظر التعامل في التركات المستقبلة، فقد حرص على أن يستثنِي من هذا الحظر الحالات التي يسمح بها القانون بهذا النوع من التعامل، وهو بهذا التحفظ يريد على وجه الخصوص، أن يشير إلى الوصية حيث أنها تقع جائزة في حدود ما يقضي به القانون.
وتورد المادة (170) قاعدة أساسية هامة مؤداها جواز التعاقد في شأن مال الغير أو فعله، فلا يوجد ثمة ما يمنع من أن يتعاقد الشخص بشأن شيء يملكه غيره، كما إذا باعه أو أجره أو رهنه، كما أنه لا يوجد ثمة ما يمنع من أن يتعاقد شخص مع آخر في شأن فعل يراد لثالث أن يؤديه، وقد درج الفكر القانوني على أن يطلق على هذا النوع الأخير من التعامل: التعهد عن الغير.
وإذا كان التعهد عن الغير، قد لقي من الفكر القانوني القبول في سهولة ويسر، فقد لقي، على النقيض من ذلك التصرف في مال الغير جدلاً بالغ العنف، واختلف بصدده الحكم من النقيض إلى النقيض، اختلف بين البطلان والصحة، مرورًا بالقابلية للإبطال بل إن عنف الخلاف لم يقف عند الحكم على التصرف في مال الغير بوجه عام، بل إنه امتد أيضًا إلى نوعية التصرف ذاتها، بحيث لم يسلم الأمر من أن يُعطى بيع ملك الغير حكمًا يتغاير مع إيجاره أو مع رهنه.
وقد حرص المشروع على أن يحسم الخلاف العتيد الذي ثار حول التصرف في ملك الغير، قاضيًا بجوازه ما لم ينص القانون، في حالة خاصة، على بطلانه. وهو – إذ يفعل – يتمشى مع القواعد القانونية العامة، التي لا يوجد أدنى مبرر للتضحية بها، فالالتزام الذي يتعلق بمال الغير، لا يكون محله مستحيلاً استحالة موضوعية فالاستحالة - إن قامت لا تعدو أن تكون استحالة ذاتية، متعلقة بالمدين نفسه.
ولا تخفى أهمية الحكم الذي تتضمنه المادة (170) فإلى جانب كونه يحسم الخلاف العتيد حول حكم التصرف في مال الغير، فإنه يوحد الحكم في صدد التصرفات المختلفة الطبيعية، بعد أن تغاير الحكم في شأنها في الفكر القانوني المعاصر، فكل تصرف يرد على مال الغير يقع صحيحًا، بغض النظر عن طبيعته، بيعًا كان أم إيجارًا أم غيرهما، وذلك، بطبيعة الحال، ما لم يقضِ القانون، بصدد عقد معين، ببطلان التصرف.
على أنه إذا وقع التعاقد في شأن مال الغير أو فعله صحيحًا، فإنه لا يترتب عنه أي التزام على هذا الغير، ما لم يقره، وهذا أمر بين الظهور، يقتضيه إعمال القاعدة الأساسية التي تقضي بأن العقود لا تنفع الغير ولا تضرهم، ومع ذلك فقد حرص المشروع أن يصرح به، دفعًا لأية مظنة. وإذا لم يستطع المدين، الذي التزم بصدد مال الغير أو فعله، أن يوفي بالتزامه، تحمل هو بالمسؤولية، وفقًا لما يقضي به القانون.
وقد استوحى المشروع حكم المادة (170) من المادة 38/ 2 من مشروع تنقيح القانون الفرنسي (مجموعة أعمال لجنة التنقيح لعام 1948/ 1949).
وتعرض المادة (171) لتعيين محل الالتزام، وتُرسي الفقرة الأولى القاعدة العامة في هذا الصدد، حيث تقضي بوجوب أن يكون محل الالتزام معينًا تعيينًا دقيقًا نافيًا للجهالة الفاحشة، وإلا وقع العقد باطلاً.
وكيفية تعيين محل الالتزام تختلف بالضرورة باختلاف طبيعته وباختلاف الظروف التي تحيط بالتعاقد - والمسألة مردها في النهاية لتقدير قاضي الموضوع، فهي مسألة واقع، على أنه لا يتحتم، بطبيعة الحال أن يحصل تحديد محل الالتزام بطريق مباشر. فيكفي أن يتضمن العقد أساسًا لتحديده، ما دام هذا الأساس سليمًا.
وإذا تعلق الالتزام بشيء، فإن تحديد محله يقتضي بالضرورة تحديد هذا الشيء تحديدًا كافيًا. وتختلف طريقة التحديد هنا باختلاف ما إذا ورد التعاقد في شأن شيء محدد بذاته أو محدد بنوعه، فإن كانت الحالة الأولى، لزم أن يتعين الشيء نفسه، تعيينًا يبرز ذاتيته ويحول بالتالي دون الخلط بينه وبين غيره. وإن كانت الحالة الثانية، توجب أن يتحدد الشيء بنوعه ومقداره ودرجة جودته. على أن المشروع آثر هنا أن لا يجعل لعدم تحديد درجة الجودة نفس الجزاء المترتب على عدم تحديد النوع أو المقدار، وهو بطلان العقد، فجاءت الفقرة الثانية تقضي في عجزها، بأنه إذا لم تُذكر في العقد درجة الجودة، ولم يتيسر للقاضي أن يستخلصها من ظروف الحال، فإن العقد لا يبطل، ويلتزم المدين بأن يقدم شيئًا من صنف متوسط، وقد حدا بالمشروع إلى تقرير هذا الحكم رغبته في عدم إهدار العقد بسبب أمر يمكن حسمه على نحو يوفق بين مصلحة الطرفين، سيما وأنه يغلب أن يتفق مع قصدهما المشترك.
وحكم المادة (171) متفق مع غالبية التقنينات الحديثة، فضلاً عن مسايرته للفقه الإسلامي، وهو مستوحى من نص المادة (127) من قانون التجارة الكويتي ومن نص المادة (133) مصري، مع تعديلات جوهرية في الصياغة، توخيًا للدقة والانضباط.
وتعرض المادة (172) لمشروعية المحل، قاضية بوجوب أن يكون غير مخالف للقانون ولا للنظام العام ولا لحسن الآداب في الدولة. والحكم الذي تتضمنه ظاهر. وهو مستمد من المادة (129) من قانون التجارة الكويتي، الذي هو مستمد بدوره من المادة (135) مصري.
وتعرض المادتان (173 و174) لنوع معين من الالتزامات، هو أكثرها شيوعًا في العمل إلى حد بالغ ساحق، وهو الالتزام بدفع مبلغ من النقود.
وتقضي المادة (173) في صدده، بوجوب أن يتحدد التزام المدين بذات القدر المحدد في العقد، دون أن يكون لتغيير قيمة النقود، ارتفاعًا أو انخفاضًا، أي أثر، وقد حرص المشروع على أن يصرح ببطلان أي اتفاق على خلاف هذا الحكم، حرصًا منه على دفع أية مظنة في أمر يمس الثقة في النقد، التي هي من صميم النظام العام في الدولة.
وتجيء المادة (174) في فقرتها الأولى وتقرر مبدأ حصول الوفاء بالالتزام بدفع مبلغ من النقود بالعملة الكويتية، ثم تأتي الفقرة الثانية من هذه المادة فتجيز الاتفاق على أن يكون الوفاء بالعملة الأجنبية، وهكذا فإن جاء العقد خلوًا من تحديد العملة التي يقع بها الوفاء بالالتزام كان من اللازم أداؤه بالعملة الكويتية أما إذا تضمن العقد شرطًا صريحًا بوفاء الالتزام بعملة أجنبية معينة، لزم الوفاء بها، وذلك في المعاملات الداخلية والخارجية على حد سواء.
وقد جوز المشروع الاتفاق على الوفاء بالعملة الأجنبية، حتى لو حصل ذلك في المعاملات الداخلية، استشعارًا منه بما يتمتع به النقد الكويتي من بالغ القوة، بحيث لا يقلل من مكانته أو يضعف الثقة فيه أن يتفق على أن يكون الوفاء بغيره.
وتتناول المادة (175) في فقرتها الأولى، الشروط التي يمكن للعقد أن يتضمنها، وترسي في ذلك أصلاً عامًا مؤداه إمكان أن يشتمل العقد على أي شرط يرتضيه المتعاقدان، طالما أنه غير ممنوع قانونًا، وغير مخالف للنظام العام وحسن الآداب، وسواء بعد ذلك أن يكون الشرط من مقتضيات العقد أو من ملائماته أو أن يكون فيه نفع لأحد العاقدين أو لشخص من الغير.
وقد حرص المشروع على أن يقرر هذا الحكم، على غرار ما فعله قانون التجارة الكويتي (المادة 132) ومن قبله القانون المدني العراقي (المادة 131) ومن بعده القانون المدني الأردني (المادة 164)، برغم أنه قد يبدو أقرب إلى البداهة في الفكر القانوني المعاصر، وقد حدا بالمشروع إلى ذلك رغبته من وجه في حسم أمر احتدم حوله الخلاف في الفقه الإسلامي، ولدفع أية مظنة في شأنه، من وجه آخر.
وتعرض المادة (175) في فقرتها الثانية، للجزاء المترتب على عدم مشروعية الشرط، إما لأنه ممنوع قانونًا، أو لأنه مخالف للنظام العام أو لحسن الآداب، ويتمثل هذا الجزاء، كأصل عام، في وقوع الشرط لغوًا، حيث أنه يبطل، دون أن ينعكس بطلانه على العقد ذاته، فلا يمس صحته. فالشرط هنا، يقع فاسدًا غير مفسد.
وإذا كان الشرط غير المشروع يلغى، دون أن يترتب عليه بطلان العقد، إلا أن من شأنه أن يؤدي إلى هذا البطلان، إذا أثبت المتعاقد أنه ارتضى العقد على أساسه، وأنه ما كان ليرتضيه بغيره، ففي مثل هذه الحالة، يقع الشرط فاسدًا مفسدًا في آن معًا. وهذا الحكم لا يعدو أن يكون تطبيقًا تشريعيًا لنظرية السبب، باعتباره ركنًا لازمًا لقيام العق
3 - السبب:
آثر المشروع أن يتمسك بالسبب كركن لازم العقد، إلى جانب الرضاء والمحل، ناهجًا في ذلك نهج التشريعات اللاتينية النزعة، وحاذيًا حذو قانون التجارة الكويتي وغيره من قوانين أغلب البلاد العربية الأخرى، وهو إذ يفعل لا يقصر السبب على الغرض المباشر الأول، وإنما يدخل فيه الباعث المستحث الدافع، شريطة أن يكون ملحوظًا في التعاقد، بأن يعلم العاقد الآخر به، أو يكون من المفروض عليه أن يعلم به.
والمشروع إذ يجعل من السبب في وجوده ومشروعيته أمرًا لازمًا لا يقوم العقد بغيره، يستهدف تحقيق العدالة في العقود من وجه، وإضفاء المشروعية والفضيلة على العقود من وجه آخر، وهو بذلك يساير الأغلبية الكبرى من قوانين البلاد المتحضرة عامة، والبلاد العربية منها خاصة. ثم إنه يتجاوب تمامًا مع هدف الشريعة الإسلامية الغراء في إضفاء مبدأ العدالة في العقود من وجه، ومنع العقود من وجه آخر، من أن تتخذ وسيلة لمخالفة صالح المجتمع وتنكب طريق الفضيلة والخلق الجميل.
وترسي المادة (176) في فقرتها الأولى، أصلاً من أصول العقد، وهو وجوب أن يستند التزام المتعاقد إلى سبب، وأن يكون هذا السبب مشروعًا، وإلا فإن العقد يفتقد ركنًا من الأركان التي ينبغي له أن يقوم عليها، فيبطل.
وقد حرص المشروع، في صياغة الفقرة الأولى من المادة (176) على أن ينص على بطلان العقد، إذا التزم المتعاقد دون سبب، أو لسبب غير مشروع، مستوحيًا في ذلك صياغة المادة (132) من القانون العراقي. وهو قد أراد بذلك أن يتجنب صياغة أغلب قوانين البلاد المختلفة التي يلحق بعضها السبب بالالتزام، وبعضها الآخر بالعقد، وبعضها الثالث بالاثنين معًا. فكون السبب ركنًا في العقد، أو في الالتزام، أو فيهما معًا، أو حتى في غيرهما (في الإدارة)، أمر فقهي ومن ثم كان خليقًا به أن يُترك للاجتهاد دون ما تقييد من الشارع.
وتأتي الفقرة الثانية من المادة (176) لتنص على أنه يعتد، في تحديد مضمون السبب، بالباعث المستحث الدافع إلى التعاقد، إذا كان المتعاقد الآخر يعلمه أو كان من المفروض عليه أن يعلمه، فالسبب لا يقتصر على الغرض المباشر الأول الذي يسعى المتعاقد إلى تحقيقه من وراء ارتضائه التحمل بالالتزام وإنما يشمل أيضًا الباعث المستحث الدافع إذا كان ملحوظًا في العقد، بأن كان المتعاقد الآخر يعلمه أو كان مفروضًا فيه أن يعلمه، والقصد من اشتراط علم المتعاقد الآخر بالباعث الدافع، هو ما يقتضيه استقرار المعاملات من عدم تعريضه لأثر البطلان إذا كان بعيدًا بالكلية عنه، وهو من بعد أمر شخصي يتعلق بصاحبه.
وإذا كان قد وجد، في الفكر القانوني، اتجاه إلى استلزام مساهمة المتعاقدين كليهما في العمل على تحقيق الباعث الدافع للاعتداد به، فإن هذا الفكر لم يسد، واكتفى من المتعاقد الآخر، بمجرد العلم أو إمكان حصوله. وهو الحكم الذي ارتأى المشروع أن يتبناه. ومن وجه آخر، تواجد في الفكر القانوني نظر ساد في الفقه يرى قصر استلزام العلم بالباعث الدافع على عقود المعاوضات، دون عقود التبرع، وهو نظر لم يسد في القضاء، وقد ارتأى المشروع بدوره ألا يسايره، وعلى أية حال، فليس للجدل حول هذا الأمر كبير أهمية من الناحية العملية، إذا أنه يندر، في واقع حياتنا، أن يكون المتبرع له بعيدًا عن الباعث الذي يدفع المتبرع إلى أن يتبرع له، والوصف الذي يتسم به، خيرًا كان أم شرًا، جميلاً كان أم نكرًا.
وتعرض المادة (177) والمادة (178) لإثبات السبب، من حيث وجوده ومشروعيته على حد سواء.
فالمادة (177) تقرر قرينة قانونية بسيطة مؤداها أن التزام المتعاقد يقوم على سبب، وأن هذا السبب مشروع، ولم لم يذكر هذا السبب في العقد.
وتتناول المادة (178) الحالة التي يذكر فيها السبب في العقد، وتقيم، في فقرتها الأولى، قرينة على أنه السبب الحقيقي، وهي بدورها قرينة بسيطة، يجوز دحضها بإثبات الصورية.
وتعرض المادة (178) في فقرتها الثانية، للحالة التي تثبت فيها صورية السبب، لتلقي على من يدعي أن لالتزام المتعاقد سببًا آخر مشروعًا عبء إقامة الدليل على صحة ما يدعيه.
ثانيًا: بطلان العقد:
البطلان جزاء اختلال تكوين العقد، وهو نظام قانوني مؤداه اعتبار أن العقد أو التصرف القانوني بوجه عام لم يقم أصلاً، فمن شأن البطلان أن يعدم العقد، وهو يعدمه بأثر رجعي يستند إلى تاريخ إبرامه، والبطلان في ذاته ومن حيث هو، واحد لا يتشكل ولا يتنوع، لأنه عدم، والعدم - وإن أمكن لأسبابه أن تتعدد بل وتتخالف وتتغاير - إلا أنه من حيث ذات ماهيته واحد.
ولكن البطلان يختلف من حيث الوقت الذي يلحق فيه العقد، فهناك نوع منه يلحق العقد منذ إبرامه، فهو يجعل العقد يولد ميتًا، أو بالأحرى هو يحول أصلاً دون ميلاده، وهناك نوع آخر من البطلان لا يلحق العقد إلا بعد إبرامه بفترة من الزمن، قد تطول بعض الشيء وقد تقصر، وهو أن لحقه، فلا يكون ذلك على سبيل اللزوم والحتم، وإنما لإعمال رخصة يعطيها القانون لمن يريد حمايته من المتعاقدين إن أراد هذا أن يباشرها.
وقد جرى الفكر القانوني التقليدي، منذ عهد الرومان إلى الآن، على أن يخلع على النوع الأول من البطلان اصطلاح (البطلان المطلق)، في حين أنه يخلع على النوع الثاني اصطلاح (البطلان النسبي)، وتلك التسمية معيبة، بالنسبة إلى نوعي البطلان على حد سواء، فعبارة (البطلان المطلق) تثير في الذهن إن هناك تفاوتًا في درجات البطلان، في حين أن البطلان في ذاته، عدم وليس للعدم درجات يتراوح بينها، ثم إن العقد الذي يخلع عليه وصف (البطلان النسبي) ليس بباطل ما لم يبطل، فهو عقد قائم ومنتج آثاره، ويظل كذلك إلى أن يقضي بإبطاله.
من هنا كانت التسمية التقليدية لنوعي البطلان بعيدة عن التوفيق ولعل الفضل يرجع إلى القانون المصري، حيث كان سباقًا إلى نبذها، مضفيًا على ما يطلق عليه العقد الباطل بطلانًا مطلقًا اسم (العقد الباطل) من غير نعت ولا تخصيص وعلى ما يوصف بالعقد الباطل بطلانًا نسبيًا، اسم (العقد القابل للإبطال)، وقد أخذتها عن القانون المصري كافة القوانين العربية الأخرى التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي، ولا يسعى المشروع إلا أن يأخذ بها بدوره.
1 - العقد القابل للإبطال:
وتُرسي المادة (179) الأساس الذي يقوم عليه نظام العقد القابل للإبطال، قاضية بأن ذاك الأساس يتمثل في أن العقد القابل للإبطال ينعقد وينتج آثاره، ويظل كذلك ما لم يقض بإبطاله. فإذا قضي بإبطاله صار عدمًا، واعتُبر كذلك من وقت إبرامه، فالعقد القابل للإبطال هو عقد توافرت له كل أركانه فلا يوجد بالتالي ثمة ما يحول دون انعقاده وإنتاج آثاره، كل ما في الأمر أن خللاً أصاب منه أحد أركانه، هو ركن الرضاء، وهذا الخلل ليس من الجسامة بحيث يؤدى بذاته وبمجرده إلى انهيار العقد. ولكن من شأنه أن يخول للمتعاقد، الذي يريد القانون حمايته منه، الرخصة في إهدار العقد.
وحكم المادة (179) أمر مسلم، وقد آثر المشروع مع ذلك أن ينص عليه، لأنه يتمثل لب نظام العقد القابل للإبطال وأساسه.
وتعرض المادة (180) لإبطال العقد القابل للإبطال، وهو مصير من بين اثنين، لا بد لهذا العقد أن يلقى أحدهما، فهو إما أن يُعمل فيه سيف الإبطال، فيبطل، وإما أن يزول عنه عيبه الذي كان الإبطال يتهدده بسببه، فتتدعم صحته، ويدخل في زمرة العقود تامة السلامة.
والمادة (180) إذ تعرض للإبطال، كمصير قد يلقاه العقد القابل له، تمنع في فقرتها الأولى، المحكمة من أن تقضي به بغير أن يطلبه منها المتعاقد الذي قرره القانون لصالحة وحماية له.
وتجيء المادة (180) في فقرتها الثانية، قاضية بأنه إذا قام سبب الإبطال، وتمسك به من تقرر لصالحه، تعين على المحكمة القضاء به، ما لم يسمح لها القانون بغيره، كما هو الشأن في الاستغلال (المادة 159 من المشروع)، فإبطال العقد لا يدخل، كأصل عام، في رحاب سلطة القاضي التقديرية.
ويعرض المشروع في المادة (181) لإجازة العقد القابل للإبطال قاضيًا بأنها تطهره من العيب الذي انتابه، وقصد بها تطهيره منه، طالما أنها صدرت ممن له الحق في إجرائها، وهو المتعاقد الذي يقرر القانون وقوع العقد قابلاً للإبطال لمصلحته، وشريطة أن تكون صحيحة في ذاتها، باعتبارها تصرفًا قانونيًا وأن تجيء من صاحبها على بينة من العيب الذي يراد بها تطهير العقد منه.
والإجازة لا تعدو أن تكون نزولاً عن حق التمسك ببطلان العقد ممن يملكه. وهي تصرف قانوني يمكن له أن يصد من جانب واحد، هو المتعاقد الذي يقرر القانون الإبطال لصالحه فهي تقع صحيحة دون لزوم صدور الموافقة عليها من المتعاقد الآخر.
والإجازة قد تكون صريحة، كما أنها يمكن لها أن تكون ضمنية بأن يُستدل عليها من ظروف الحال، شريطة أن يكون هذا الاستدلال قاطعًا في إفادته قصد المتعاقد تطهير العقد من العيب الذي شابه، والنزول بالتالي عن حق طلب الإبطال بسببه. فالنزول عن الحق لا يُفترض، ولا يتوسع في الأخذ بما يدل عليه.
وقد حرص المشروع على أن ينص على أن الإجازة تطهر العقد من العيب الذي انصبت عليه، إذ قد يكون العقد مشوبًا بأكثر من عيب، وقابلاً للإبطال بسببها جميعًا، فتصدر الإجازة بالنسبة لعيب منها، فلا يتطهر إلا منه وحده، ويبقى قابلاً للإبطال بسبب غيره، مما لم ترد الإجازة في شأنه بدوره.
وغني عن البيان أن إجازة العقد القابل للإبطال، وإن كان من شأنها أن تدعم صحته بإزالة الحق في طلب إبطاله، إلا أنها لا ترفع أصل العيب الذي انتاب العقد عدم مشروعيته، إن كان متصفًا بها، كما هو الشأن بالنسبة إلى الإكراه والتدليس، ولا تحول بالتالي دون إمكان الرجوع على أساس المسؤولية التقصيرية، إذا توافرت مقوماتها، وذلك ما لم يتضح غيره من قصد المتعاقد الذي صدرت منه الإجازة.
ولم يشأ المشروع أن يساير التقنينات في الدول المختلفة، ومن بينها التقنين المصري وغيره من تقنينات الدول العربية الأخرى التي استوحته – وقانون التجارة الكويتي من زمرتها – في النص على أن أثر الإجازة يستند إلى التاريخ الذي يتم فيه العقد، دون إخلال بحقوق الغير، إذ أن هذا الحكم، وإن أمكن أن يكون له ما يبرره في صدد إجازة العقد الموقوف وفق ما يقضي به الفقه الإسلامي، وفي صدد العقد غير النافذ في حق شخص معين، والذي يحصل منه إقراره، تحت ظل القانون المعاصر، إلا أنه يقع خاليًا من أي مضمون بالنسبة إلى إجازة العقد القابل للإبطال، فهذا العقد ينعقد، ويقوم صحيحًا منتجًا آثاره، من تاريخ إبرامه، كل ما هنالك أن الإبطال يتهدده، فإذا جاءت الإجازة، رفعت عنه خطر الإبطال. وهي لا ترفعه بالضرورة إلا للمستقبل. أما بالنسبة إلى الماضي، فلا حاجة للعقد إليها، إذ أنه كان صحيحًا منتجًا آثاره قبلها، ومن ثم فهي لا تضيف إليه جديدًا في هذه الفترة.
والعقد القابل للإبطال عقد مجهل المصير، فقد يستمر قائمًا منتجًا آثاره، وقد ينقضي ويزول بأثر رجعي يستند إلى تاريخ إبرامه، ومن ثم فهو عقد حائر قلق، ومن شأن ذلك عدم الاستقرار والاضطراب في صدده، وفي صدد العقود الأخرى التي تترتب عليه، فيضار بذلك المتعاقد الذي يثبت الإبطال إضرارًا به، كما يضار غيره من الأشخاص الذين يتلقون الحق عنه، أو يريدون أن يتلقوه منه.
من أجل ذلك أراد المشروع، بالحكم الذي أورده في المادة (182) أن يتيح لكل ذي مصلحة، سواء أكان هو المتعاقد الآخر أم غيره، وسيلة تمكنه من التعرف على قصد المتعاقد الذي يترخص له في إبطال العقد أو إجازته حتى يدبر أمره على ضوئه. وتتمثل هذه الوسيلة في القيام بإعذار من له حق طلب الإبطال بوجوب إبداء رغبته بالتمسك بهذا الحق أو تركه، وذلك خلال لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، ومن غير أن يكون لهذا الإعذار أي أثر بالنسبة إلى المدة المقررة لسقوط الحق في الإبطال على نحو ما تقرره المادة (183) من المشروع فإذا لم يبدِ صاحب الحق في طلب الإبطال رغبته في التمسك بحقه هذا، خلال ميعاد الإعذار، اعتُبر سكوته عن الرد بمثابة إجازة العقد.
على أنه لا يعتد بالإعذار الموجه إلى من له حق طلب الإبطال بسبب الغلط أو التدليس إلا بعد تكشفهما، مع ملاحظة أن الإعذار نفسه قد يكون السبيل إلى هذا التكشف، فتبدأ فترة إبداء الرغبة في إبطال العقد أو إجازته، حتى في هذه الحالة، من وقت توجيه الإعذار، ولا يعتد بالإعذار، في حالة الإكراه، إلا إذا كان قد وجه بعد انقطاعه. كما أنه لا يعتد بالإعذار الذي يوجه إلى ناقص الأهلية نفسه، ما لم يكن قد زال عنه النقص في أهليته.
وحكم المادة (182) قد يتمثل تجديدًا، بالنسبة إلى التقنينات الرسمية في الدول المختلفة، وهو حكم تقتضيه المصلحة، وقد استوحاه المشروع من أعمال لجنة تنقيح القانون المدني الفرنسي (المادة 8 من المشروع الابتدائي للنصوص الخاصة ببطلان التصرفات القانونية، أعمال لجنة تنقيح القانون المدني الفرنسي لعام 1946/ 1947).
هذا والعقد القابل للإبطال، كما يزول بالإجازة عيبه الذي يقع مهددًا بالإبطال بسببه، يزول عنه هذا العيب أيضًا بالتقدم أو بمرور الزمان. فالحق في طلب إبطال العقد لا يثبت لصاحبه إلا إلى أجل محدد، حتى إذا ما انقضى هذا الأجل دون مباشرة ذاك الحق، سقط حق الإبطال وزال، وتدعمت بالتالي صحة العقد وتأيدت.
والحكمة من تقرير سقوط حق طلب الإبطال بمرور الزمان هو الرغبة في عدم ترك العقد القابل للإبطال مجهل المصير إلى وقت بالغ الطول، استقرارًا للمعاملات، ثم إن عدم تمسك المتعاقد بحقه في الإبطال، بعد أن يتبينه خلال الفترة التي يحددها القانون، يمكن أن تُعتبر منه قبولاً للعقد، وبالتالي إجازة إياه.
وقد تغايرت القوانين، في البلاد المختلفة، في شأن المدة التي تُحدد لسقوط الحق في طلب إبطال العقد، فهذه المدة تتراوح في ظل التقنينات المختلفة، بين سنة وعشر.
وقد ارتأى المشروع أن يبقي على ما ذهب إليه قانون التجارة الكويتي الحالي، فحدد مثله، في الفقرة الأولى، مدة سقوط حق الإبطال بثلاث سنوات، تبدأ من وقت زوال سبب الإبطال.
وقد حرص المشروع على أن يتحفظ، في شأن تحديد مدة سقوط الحق في الإبطال بمرور الزمان، مقررًا إعمال هذا الحكم، ما لم يقضِ القانون بخلافه، فقد يحدد القانون مدة أخرى، كما هو الشأن بالنسبة إلى الإبطال على أساس الاستغلال (المادة 161 من المشروع).
وإذ تقرر المادة (183) في فقرتها الأولى، سقوط الحق في طلب إبطال العقد، إذا لم يتمسك به صاحبه، خلال ثلاث سنوات فإن من شأن ذلك أن يمتنع، بفوات تلك المدة، التمسك بالإبطال عن طريق الدعوى وعن طريق الدفع كليهما.
وتحدد الفقرة الثانية من المادة (183) بدء سريان مدة سقوط الحق في طلب الإبطال، في حالة نقص الأهلية من يوم اكتمالها، وفي حالة الغلط أو التدليس من يوم انكشافه، وفي حالة الإكراه من يوم زواله، وهو نفس الحكم الذي تقرره التقنينات في الدول المختلفة، ومن بينها قانون التجارة الكويتي الحالي.
وتأتي الفقرة الثالثة من المادة (183) فتضع حدًا أقصى للتمسك بإبطال العقد في جميع الحالات، محددة إياه بخمس عشرة سنة من تاريخ إبطال العقد، وهكذا يجوز التمسك بإبطال العقد خلال ثلاث سنوات، يبدأ سريانها على نحو ما تقرره الفقرتان الأولى والثانية، أو خلال خمس عشرة سنة من وقت تمام العقد، أي المدتين تنقضي أولاً.
2 - العقد الباطل:
أما العقد الباطل فإنه عدم، ومن ثم فهو لا ينتج بذاته أثرًا ما وهو الحكم الذي تقرره المادة (184) وكذلك يجوز لكل ذي مصلحة، سواء أكان أحد المتعاقدين أو من الغير، أن يتمسك بالبطلان. فمن يتمسك بالبطلان لا يفعل أكثر من أن يطلب أن يعمل في مواجهته بالأمر الواقع، وهو ذاك المتمثل في عدم قيام العقد أصلاً.
ولا يقف الأمر عند حد ثبوت الحق في التمسك بالبطلان لكل ذي مصلحة بل إنه يتوجب أيضًا على المحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها، ولو لم يُطلب منها القضاء به، ففضلاً عن أن البطلان يعني العدم، فإن إعمال عقد باطل، لم تتوافر له أركانه، بإنفاذ آثاره، يتنافى مع النظام العام.
وترسي المادة (185) القاعدة المستقرة بأن العقد باطل لا يتصحح بالإجازة فالعقد الباطل عدم، ولذلك لا تلحقه الإجازة، فلا يمكن للإجازة أن تجعل من العدم شيئًا صحيحًا، فمؤدى الإجازة النزول عن حق التمسك بالبطلان، والبطلان الذي يلحق العقد الباطل يمس النظام العام، فلا يسوغ النزول عن حق التمسك به.
وإذا كانت الإجازة تمتنع عن العقد الباطل، فلا يوجد بطبيعة الحال، ثمة ما يمنع من إعادة إبرامه، بعد تلافي سبب البطلان. على أن هذا يقتضي من جديد توافق إرادتي طرفي العقد كليهما، فلا تكفي إرادة أحدهما، بخلاف الحال لو أن الإجازة كانت ممكنة.
وحكم المادة (185) أمر مسلم في كل القوانين العصرية، كما أنه أمر مسلم في الفقه الإسلامي، وقد تضمنه قانون التجارة الكويتي في المادة (137) كما تضمنه القانون المصري (المادة 141) وغيره من قوانين بلادنا العربية الأخرى التي أخذت عنه.
وتقرر المادة (186) قاعدة مستقرة أخرى هي أن العقد الباطل لا يتصحح بمرور الزمان فالعقد الباطل عدم، والعدم لا يصير شيئًا بفوات الزمن، ولكن إذا كان البطلان الذي يلحق العقد لا يزول عنه بمضي الزمن، فإن دعوى البطلان ذاتها تسقط بخمس عشرة سنة من تاريخ العقد.
ولكن سقوط دعوى البطلان لا يعني أن العقد أصبح صحيحًا، فهو لا زال باطلاً، كل ما في الأمر أن دعوى البطلان تقع غير مقبولة، فلا تسمع إذا ما رفعت بعد 15 سنة من تاريخ إبرام العقد، وهكذا نصبح هنا أمام عقد باطل، دون أن يكون من الممكن تقرير بطلانه عن طريق الدعوى.
وإذا كان من شأن سقوط دعوى البطلان بمضي الزمان أن يمتنع بطلان العقد عن طريقها، فإنه يمكن التمسك بهذا البطلان عن طريق الدفع، مهما طال الزمن.
وإذا كانت بعض التقنينات، كالتقنين الإيطالي (المادة 1302) ومشروع القانون الفرنسي الإيطالي (المادة 227) والمشروع الأولي لتنقيح القانون المدني الفرنسي (المادة 27 من مشروع النصوص المتعلقة ببطلان التصرفات القانونية – أعمال لجنة التنقيح لعام 1946/ 1947) قد حرصت على أن تنص على أن سقوط دعوى البطلان بمرور الزمان لا يمنع من التمسك بالبطلان على سبيل الدفع ممن يطالب بتنفيذ العقد، فإن المشروع لم يرَ ضرورة أن يسير على نفس النهج، اعتبارًا منه بأن الحكم يصل في وضوحه وجلائه إلى حد أنه يمكن الوصول إليه بغير ما عناء، استخلاصًا من طبيعة البطلان ذاتها، المتمثلة في اعتبار العقد عدمًا، والمشروع في ذلك يساير قانون التجارة الكويتي والقانون المصري وغيرهما من أغلب قوانين البلاد المختلفة التي قنعت بالنص على سقوط دعوى البطلان بالتقادم، دون أن يمنع ذلك الفكر القانوني من أن يصل في سهولة ويسر إلى أن سقوط هذه الدعوى لا يمنع من التمسك بالبطلان على سبيل الدفع.
وحكم المادة (186) أمر مسلم في الفكر القانوني المعاصر، تشريعًا وفقهًا وقضاءً، كما أنه لا يتعارض مع الفقه الإسلامي.
3 - أثر البطلان:
وإذ كان مؤدى البطلان أو الإبطال هو إعدام العقد إعدامًا يستند إلى وقت إبرامه فإنه يترتب على ذلك اعتبار تنفيذه كأن لم يكن، إن كان قد تنفذ، وهذا ما يقتضي إعادة المتعاقدين إلى الحالة التي كانا عليها عند العقد، إن كان ذلك متيسرًا، فإن استحال على أحد المتعاقدين أن يعيد الآخر إلى الحالة التي كان عليها عند العقد، بأن تعذر عليه أن يرد له ما أخذه أو أفاد به نتيجة تنفيذ العقد، جاز للقاضي أن يلزمه بأن يقدم له أداءً معادلاً.
والمشروع، إذ يقرر، في الفقرة الأولى من المادة (187) أثر البطلان أو الإبطال، المتمثل في وجوب إعادة المتعاقدين إلى الحالة التي كانا عليها عند العقد، قد حرص على أن يتحفظ في شأن الحالات الخاصة التي يقرر فيها القانون حكمًا يتغاير على نحو أو على آخر، كما هي الحال بالنسبة إلى تطبيق نظرية تحول العقد المنصوص عليها في المادة (192) من المشروع، وبالنسبة إلى ما هو مقرر من أن بطلان عقد الشركة لا يمنع من إعمال حكمه في تصفيتها، اعتبارًا بأنها تتمثل شركة واقع. وأراد أن يتحفظ على وجه الخصوص، في شأن الأثر المترتب على البطلان أو الإبطال، بالنسبة إلى عديمي الأهلية أو ناقصيها المنصوص عليها في المادة (188) من المشروع، وفي شأن ما يقتضيه مبدأ حماية الغير حسني النية على نحو ما يقرره المشروع في المادة (189).
فتورد المادة (188) استثناءً هامًا على قاعدة أنه يترتب على بطلان العقد أو إبطاله وجوب رد المتعاقدين إلى الحالة التي كانا عليها عند إبرامه، وذلك في الحالة التي يرجع فيها البطلان أو الإبطال إلى عدم الأهلية أو نقصها.
فتلك المادة تقضي بأن عديم الأهلية أو ناقصها لا يُلزم إلا بما عاد عليه، بسبب تنفيذ العقد الباطل أو المبطل، من نفع معتبر قانونًا، أي نفع أفاد به وأثرى، على نحو بعيد عما يجره إليه النزق أو الطيش أو عدم توافر الإدراك أو اكتماله من تبذير أو حماقة.
والمادة (188) بالحكم الذي تقرره، تستند إلى مبرر عملي واضح، فهي تستهدف حماية عديم الأهلية أو ناقصها مما يجره إليه ما يعتوره من اضطراب أو ضعف أو نقص في إدراكه أو في الملكات الضابطة لتدبيره أمره.
وإن كان من شأن إعمال حكم هذه المادة أن يلحق المتعاقد مع عديم الأهلية أو ناقصها الضرر، فإن تحميله الغرم الواقع عليه يجد له ما يسوغه في الرغبة في جعل الناس يتحرزون في تعاملهم مع غيرهم بغية التأكد من توافر الأهلية عندهم، ثم إن عدم الأهلية أو نقصها أمر يغلب أن يكون ظاهرًا في صاحبه، بحيث يستحق من يتعاقد معه أن يتحمل مغبة فعله.
ولقد كان من شأن من ما يستند إليه مبدأ حماية عديمي الأهلية وناقصيها، عند بطلان أو إبطال عقودهم، من مبرر قوي، إن وجد مكانه في قوانين البلاد المختلفة، عربية كانت أم أجنبية، ثم إن الفقه الإسلامي يأخذ به ويناصره، ولم يتخلَ قانون التجارة الكويتي بدوره عن السير على الدرب، فقد قنن المبدأ في المادة 138/ 2 في مجال البطلان، ثم عاد فقننه مرة ثانية في المادة (186) في مجال الكسب دون سبب.
وقد حرص المشروع على أن تجيء صياغة المادة (188)، على نحو يجعل حكمها شاملاً عديمي الأهلية وناقصيها، متلافيًا بذلك عيبًا في صياغة المادة 138/ 2 تجارة كويتي، التي جاءت على غرار المادة 142/ 2 مصري، مقصورة على ذكر ناقص الأهلية دون عديمها، وهو من بعد عيب عمد المشروع الكويتي نفسه إلى تفاديه في المادة (186) من قانون التجارة، حيث عمم صياغتها ليجعل حكمها ساريًا على من لم تتوافر فيه أهلية التعاقد، وهو نفس الأمر الذي فعله المشرع المصري من قبل، في المادة (186) مدني مصري.
ويعرض المشروع، في المادة (189) لمبدأ هام أخذ يرسخ وجوده ويثبت أقدامه في دنيا القانون، ألا وهو مبدأ حماية الغير حسني النية مما عساه أن يرتبه لهم إبطال عقود من يتلقون الحق عنهم من فادح الضرر.
فقد عمد، في المادة (189) إلى أن يساير الفقه الإسلامي والفكر القانوني المعاصر في مبدأ حماية الخلف الخاص مما يترتب له من ضرر، نتيجة إبطال سند سلفه، لاجئًا إلى ضبط هذا المبدأ ورسم حدوده على النحو الذي يجعله متمشيًا مع ما تقتضيه المصلحة المتمثلة في توفير الائتمان والاعتداد بالثقة المشروعة، عندما يكون من حق الناس أن يعولوا عليهما في معاملاتهم.
ووفقًا للفقرة الأولى، لا تتقرر الحماية إلا لمن يكون قد تلقى حقه عن شخص يكون، هو نفسه، قد تلقاه بمقتضى قد قائم ولكنه قابل للإبطال وقبل أن يقضى بإبطاله، فالحماية هنا لا تكون لمن تعامل مع أحد طرفي العقد الباطل، ذلك لأن العقد الباطل عدم، بحيث أن عاقده لا يتلقى منه شيئًا ألبته، حتى يمكنه أن يعطيه لم يتعامل معه بشأنه، ليتيسر بعد ذلك تقريره استمرار بقائه لهذا الأخير، أما العقد القابل للإبطال فأمره مختلف تمامًا، فهو ينتج أثره طالما بقي قائمًا، لم يُقضَ بعد بإبطاله.
ويلزم لثبوت الحماية للخلف الخاص، أن تكون خلافته قد تمت بمقتضى تصرف تعاوضي، فلا يفيد من الحماية المتبرع له. وقد ارتأى المشروع أن يقصر الحماية في هذا النطاق. إذ أن حماية الخلف الخاص تقع بالضرورة على حساب من تلقى سلفه الحق عنه، بمقتضى العقد الذي قضى بإبطاله، أي سلف السلف، ثم إن تلك الحماية تتقرر على خلاف منطق الإبطال وأثره الرجعي. ولذلك فمن العدل والمصلحة أن تقصر على المتعاوض دون المتبرع له، فدرء المغارم مقدم على جلب المغانم.
وثمة أمر آخر تتطلبه الفقرة الأولى، وهو أن يكون الخلف الخاص حسن النية، وعلة هذا الحكم واضحة، إذ أن الحماية التي تقررها المادة (189) لا ينبغي أن تكون إلا لحسني النية من الأشخاص، وهي من بعد حماية استثنائية خاصة تجيء على خلاف منطق الإبطال ومتقضياته.
وتعرض الفقرة الثانية من المادة (189) لتحديد حسن النية في المتطلب في الخلف الخاص، ليتقي أثر إبطال سند سلفه، وهي تبنيه على جهل الخلف سبب إبطال سند السلف، طالما كان جهله هذا غير ناشئ عن خطأ منه، بأن كان في مقدوره أن يصل إلى العلم بسبب الإبطال، لو أنه بذل من الحرص ما تستوجبه ظروف الحال من الشخص العادي.
والمشروع إذ يقرر تلك الحماية للخلف الخاص لمن تلقى حقه بمقتضى عقد قابل للإبطال، لم يشأ أن يساير القانون المصري فيقصرها في مجال العقار، فقد بسطها أيضًا على من يتعاملون في المنقولات، فلا توجد حكمة في التفريق.
وتعرض المادة (190) للحالة التي يقتصر فيها البطلان أو الإبطال على شق من العقد دون باقيه، وتجيء الفقرة الأولى مقررة القاعدة العامة في هذا الصدد، قاضية بأن البطلان أو الإبطال يقتصر على الشق الذي لحقه العيب، دون باقي العقد، وهذا الحكم يتمثل إعمالاً لما يطلق عليه نظرية انتقاص العقد، وهي نظرية جرمانية الأصل، بدأ القانون الألماني بالنص عليها (المادة 139)، وشقت النظرية طريقها إلى القانون المصري (المادة 113) ومن القانون المصري انتقلت إلى كل القوانين العربية الأخرى التي استوحته ومن بينها قانون التجارة الكويتي (المادة 139).
وانتقاص العقد بقصر البطلان أو الإبطال على ما تعيب منه، دون ما لم يتعيب، أمر تقتضيه المصلحة، فما دام العقد قد اقتُطع منه ما تعيب، فالخير، بحسب الأصل، أن يستمر قائمًا في باقيه.
على أن بقاء العقد قائمًا، بعد أن يقتطع منه الشق الباطل أو المبطل ليس إلا أصلاً عامًا، وهو أصل غير مطلق في تطبيقه. فالفقرة الثانية تورد عليه استثناءً هامًا في الحالة التي يُثبت فيها أحد المتعاقدين أنه ما كان ليرتضي العقد بغير الشق الذي انتزع منه نتيجة البطلان أو الإبطال، مقررة أن العقد في تلك الحالة، يبطل كله. وما هذا إلا مجرد إعمال لفكرة (السبب)، باعتباره ركنًا لازمًا لا يقوم العقد بغيره.
وتعرض المادة (191) للحالة التي يقع فيها العقد باطلاً، أو قابلاً للإبطال ثم يبطل، حالة أنه من الممكن أن يستخلص من وقائع إبرامه الأركان اللازمة لعقد آخر غيره، قاضية بقيام هذا العقد الآخر، ويطلق على هذا الحكم، في الفكر القانوني، نظرية تحول العقد، اعتبارًا بأن العقد الباطل أو المبطل يتحول إلى عقد آخر صحيح.
ونظرية تحول العقد نظرية ألمانية النشأة، فقد قال بها القانون الألماني (المادة 140) ومن القانون الألماني شقت طريقها إلى قوانين أخرى كثيرة، منها القانون المدني المصري الحالي (المادة 144). ومن القانون المصري انتقلت إلى القوانين العربية الأخرى التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي (المادة 140).
والمشروع إذ يقضي، في المادة (191) بتحول العقد، يستهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه مما أراده المتعاقدان تنظيمًا لشأنهما، فإن بطل العقد الذي قصداه في الحقيقة، فلا أقل من أن يقوم مكانه العقد الذي كانا ينصرفان بإرادتهما إليه، لو علما بالبطلان، شريطة أن يكون من المقدور أن يستخلص من أنقاض العقد الباطل أركان العقد الصحيح الذي يصير التحول إليه.
وقد عرضت الفقرة الثانية من المادة (191) للرضاء اللازم لقيام العقد الذي يصير التحول إليه قاضية، على نحو ما تفعل قوانين البلاد الأخرى، باعتبار هذا الرضا متوافرًا، إذا تبين للقاضي أن طرفي العقد الباطل كانا يريدان العقد الجديد، لو أنهما علما بالبطلان.
فالإرادة الحقيقية للطرفين لم تنصرف، في واقع الأمر، إلا إلى العقد الباطل، ولكن القاضي يستخلص من ظروف الحال أن المتعاقدين كانا يرتضيان العقد الجديد، لو أنهما علما بالبطلان، وإذا كان القاضي لا يستطيع هنا أن يقطع بأن المتعاقدين كانا يرتضيان العقد الجديد، فإنه يكتفي منه أن يرى احتمال هذا التراضي، فإن لم يقم العقد الجديد على أساس الإرادة الحقيقية لطرفيه فإنه يقوم على أساس إرادتهما الاحتمالية، أي تلك التي يرى القاضي أن الظروف تدل على أنه كان من المحتمل أن تكون.
ولا شك أن من شأن إعمال نظرية التحول على نحو ما يأخذ به الفكر القانوني المعاصر، وقننه المشروع، إعطاء القاضي دورًا إيجابيًا هامًا في إنشاء العقد الذي يصير التحول إليه، ولكن في الشروط المتطلبة لإعمال هذه النظرية ما يجعل القاضي بعيدًا عن التحكم.
وتعرض المادة (192) للحالة التي يبطل فيها العقد، نتيجة خطأ يعزى لأحد عاقديه، حالة كون المتعاقد الآخر بعيدًا عن كل خطأ، وتقرر لهذا الأخير الحق في تعويضه عما يرتبه له البطلان من ضرر، كما تقرر هذا الحق في التعويض للغير، الذي يتضرر من إبطال العقد حال كونه بدوره بعيدًا عن الخطأ.
ووفقًا للفقرة الثانية من المادة (192) يعتبر الشخص الذي أصابه الضرر نتيجة بطلان العقد، سواء أكان هو المتعاقد الآخر أو أحدًا من الغير، متصلاً بالخطأ الذي يعزى إلى من جاء البطلان من ناحيته، ولا يكون له بالتالي الحق في التعويض، إذا كان قد أسهم فيما أدى إلى وقوع البطلان، أو كان يعلم بسببه أو كان ينبغي عليه أن يعلم به وفقًا لظروف الحال وما تقتضيه من فطنة الشخص العادي وحرصه.
وحكم المادة (192) يتمشى مع القواعد العامة في المسؤولية التقصيرية، وهو من بعد، إعمال لنظرية الخطأ عند تكوين العقد، بعد أن تصحح منها أساسها، برده إلى المسؤولية عن العمل الغير المشروع.
وقد سبق للمشروع أن قنن تطبيقًا تشريعيًا للحكم الذي يورده في المادة (192) وذلك في خصوص القاصر الذي يلجأ إلى طرق احتيالية يُخفي بها حاله قصره (المادة 97 من المشروع)
الفرع الثاني – آثار العقد:
المواد (193 - 208):
أولاً: تفسير العقد وتحديد مضمونه:
1 - تفسير العقد:
يعرض المشروع في المادتين (193 و194) لتفسير العقد، فيتناول في أولاهما تفسير العقد في ذاته، وفي ثانيتهما كيفية تفسير الشك، عندما لا تفلح وسائل تفسير العقد في تبديده.
فعبارة العقد، من حيث أنها تتضمن الإرادة المشتركة لطرفيه، وبالتالي المعنى المقصود من العقد، تتخذ إحدى صورتين أساسيتين: فهي إما أن تجيء واضحة في الدلالة على ما قصدته منها الإرادة المشتركة، وإما أن تجيء متسمة في ذلك بغموض أو لبس.
فإذا كانت عبارة العقد واضحة في دلالتها على ما قصدته الإرادة المشتركة، فإنها لا تكون في حاجة إلى تفسير، ووجب على القاضي أن يأخذ بمعناها الظاهر دون أن ينحرف عنه، فلا مساغ للاجتهاد في مورد النص، كما تقول القاعدة الفقهية. وهذا الحكم قننته المادة (193) بفقرتها الأولى.
بيد أنه لا يكفي، لكي تتمثل العبارة واضحة، وبالتالي في غير حاجة إلى تفسير، أن تكون واضحة في ذاتها وإنما يلزم أن تكون كذلك بالنسبة إلى دلالتها على ما قصدته الإرادة المشتركة، فقد تكون العبارة في ذاتها واضحة، ومع ذلك يكتنفها الغموض أو اللبس بالنسبة إلى حقيقة مدلولها، كما إذا تعارضت مع عبارة أخرى، فالعقد كل ينظر إليه في مجموعه، ولا ينظر إلى جزئياته مستقلاً بعضها عن البعض الآخر.
أما إذا كانت عبارة العقد غامضة في دلالتها على المعنى المقصود منها، بأن تعذر الوصول من خلالها على قصد المتعاقدين، أو جاءت متسمة بلبس، بأن كان من الممكن تأويلها على أكثر من معنى، تعين الالتجاء إلى التفسير، بغية استجلاء الغموض، وإزالة اللبس، والوصول بذلك إلى حقيقة المقصود.
وقد عمد قانون التجارة الكويتي (المواد من 154 إلى 159) إلى إيراد نصوص عديدة تتضمن قواعد هي، في أغلبها بينة الظهور، بحيث أن الحاجة لا تدعو إلى تقنينها كلها، وهو في هذا الصدد قد حذا حذو القانون العراقي (المواد من 155 إلى 165)، وإن لم يبلغ مبلغه في الإطناب، الذي بلغه من بعد القانون الأردني (المواد من 213 إلى 239).
وقد قنع المشروع، في الفقرة الثانية من المادة (193) ببيان الغاية من تفسير العقد، عندما يكون له محل، وهذه الغاية تتمثل في البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين، وذكر عدة أمور عامة يتبعها القاضي، أو يستهدي بها، في الوصول إلى تلك الغاية.
وقد حرص المشروع على أن يوجه القاضي إلى البحث عن القصد الحقيقي للمتعاقدين من مجموع وقائع العقد وظروف إبرامه، اعتبارًا منه بأن شروط العقد أو وقائعه قد يفسر بعضها بعضًا، كما حرص المشروع على أن يوجه القاضي إلى عدم الوقوف بالضرورة عند المعنى الحرفي لعبارات العقد أو ألفاظه، إذ أن العبرة في العقود، كما هي في غيرها، للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني، ويوجه المشروع كذلك القاضي إلى أن يستهدي، في تفسير العقد، بطبيعة التعامل والعادات الجارية وما ينبغي أن يتوافر بين المتعاقدين من أمانة وثقة، فهذه الأمور كلها لها أهميتها في مجال تقصي الإرادة المشتركة للمتعاقدين.
والمشروع إذ يورد الأمور التي تساعد القاضي في جلاء ما يعتري عبارات العقد من غموض أو لبس، لا يغفل عن أن التفسير يتمثل، في نهاية المطاف، مسألة فن وذوق وكياسة وخبرة.
وتعرض المادة (194) للحالة التي يعمد فيها القاضي إلى تفسير شرط من شروط العقد، من غير أن يصل إلى حقيقة ما قصدته منه الإرادة المشتركة للمتعاقدين، على نحو يطمئن هو إليه.
فتفسير العقد يصل بالقاضي إلى أحد أمرين، فهو إما أن يؤدي إلى جلاء غموض عبارته، واستخلاص ما قصدته النية المشتركة للمتعاقدين، على شكل يقيني قاطع يطمئن هو إليه، وإما ألا يؤدي به إلى ذلك، فيبقى عند شك في حقيقة مدلول عبارة العقد.
ولا صعوبة في الحالة الأولى حيث يعمل القاضي المعنى الذي استخلصه من عبارة العقد، سواء أكان من شأنه نفع هذا المتعاقد أم ذاك، أما في الحالة الثانية، وهي حالة وجود شك في مدلول عبارة العقد، فتثور بعض الصعوبة. وقد جرت القاعدة، في هذا الصدد، وربما بتأثير من مدونة نابليون، على أن الشك يفسر في مصلحة المدين، ووجدت هذه القاعدة مكانها في تقنينات بلاد كثيرة، كما هو الشأن في القانون التونسي (المادة 99) والقانون المغربي (المادة 472) والقانون اللبناني (المادة 369) والقانون النمساوي (المادة 915)، وجاء القانون المصري متضمنًا نفس القاعدة (المادة 151/ 1)، وسايره في ذلك القوانين العربية التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي (المادة 160).
والقول بأن تفسير الشك يكون في مصلحة المدين، بالمعنى الفني لهذا الاصطلاح، وإن كان سليمًا في الحالات الغالبة في العمل، وهي تلك التي يكون من شأن إعمال الشرط الغامض تحميل المدين بالالتزام أو تشديد عبئه عليه، إلا أنه يتمثل غير صحيح على إطلاقه، ولم يلتزمه الفقه ولا القضاء في شموله وعمومه.
فهناك حالات من المسلم فيها أن الشك يفسر ضد من يتحمل عبء الالتزام أي المدين، وهذه، على وجه الخصوص، هي حالات الإعفاء من المسؤولية على نحو ما يقضي به القانون، سواءً أكانت هذه المسؤولية ناجمة عن عمل غير مشروع، أو عن إخلال بالتزام ناشئ من العقد، فلو أن المضرور - وهو الدائن بالتعويض - اتفق مع محدث الضرر – وهو المدين بالتعويض – على إعفاء هذا الأخير من المسؤولية وثار شك في مدلول الشرط القاضي بهذا الإعفاء، في وجود أو في مداه. فإنه من المسلم فقهًا وقضاءً أن الشك يفسر في المعنى الذي يُضيق من الإعفاء أي أنه يفسر لمصلحة المضرور، وهو الدائن بالتعويض، وليس لمصلحة محدث الضرر، وهو المدين بالتعويض، وكذلك الشأن تمامًا في حالة الإعفاء من المسؤولية عن العجز في الشيء المبيع أو الشيء المؤجر، حيث يفسر الشك لمصلحة المشتري أو المستأجر، برغم أنه الدائن في الالتزام بالتسليم، وهذا ما دعا بعض القوانين، كالقانون الإسباني (المادة 1289) والقانون البرتغالي (المادة 685) إلى النص على أن الشك يفسر، في عقود المعاوضات، على النحو الذي يتمشى أكثر مع التبادل في المصالح. وهو ما دعا البعض من الفقهاء إلى القول بتفسير اصطلاح (المدين) في القول (بأن الشك يفسر لمصلحة المدين) على أنه يعني من يكون في إعمال الشرط إضرار به، أو هو المدين في الشرط، وليس بالضرورة المدين في الالتزام، ولعل ذلك هو ما قصدته المادة (1162) فرنسي بقولها إنه، عند الشك، يفسر الاتفاق ضد من وضع الشرط.
وقد حرص المشروع أن يضمن المادة (194) القاعدة السليمة في تفسير الشك الذي يتمخض الشرط الغامض عنه، ولا تفلح وسائل التفسير في تبديده، وهو في ذلك يقضي، في الفقرة الأولى، بأنه إذا تعذر تبديد الغموض، فإن الشك يفسر لمصلحة المتعاقد الذي يتفق مع الوضع العادي للأمور أو مع القواعد القانونية العامة التي يراد بالشرط إملاء حكم يخالفها.
وتجيء الفقرة الثانية تقرر تطبيقًا تشريعيًا للحكم الذي تورده الفقرة الأولى، قاضية بأن الشك يفسر لمصلحة المدين، إذا كان من شأن إعمال الشرط الغامض أن يحمله بالالتزام أو يجعل عبأه عليه أكثر ثقلاً.
وتأتي الفقرة الثالثة تتحفظ في شأن تفسير عقود الإذعان، الذي سبق للمادة (82) أن أوردت الحكم في شأنه، ومؤداه أن الشك يفسر دومًا في مصلحة الطرف المذعن، دائنًا كان أم مدينًا.
2 - مضمون العقد:
وإذا كان من الظاهر والميسور القول بأن العقد يتضمن الأحكام التي تجيء بها شروطه، وتلك التي يقضي بها القانون ويكون من شأنها أن تسري عليه، فإن ثمة سؤالاً طرح نفسه على الفكر القانوني، فقهًا وقضاءً، حول ما إذا كان العقد يقف عند هذه الأحكام وتلك، مقتصرًا عليها وحدها، أم أنه من الممكن أن يدخل فيه غيرها.
وتواجدت، في هذا الخصوص، نزعة تعمد إلى الحد والقصر، استنادًا إلى الرغبة في تسويد مبدأ سلطان الإرادة بالوقوف عنده وعدم الخروج عليه، ولكن هذه النزعة لم يُكتب لها النصر، وما كان ليكتب لها، على الأخص بعد أن أخذت تتغلغل في ثنايا العصر الذي نعيشه فكرة العدالة الاجتماعية، وسرعان ما استقر الفكر القانوني على شيء معقول من التوسعة في مضمون العقد، من غير إسراف أو شطط، ومؤدى هذه التوسعة أن يدخل في مضمون العقد، إلى جانب الأحكام التي يجيء بها عاقداه وتلك التي يقضي بها القانون في شأنه، ما يعتبر من توابع العقد ومستلزماته.
ووجدت هذه التوسعة مكانها المرموق بين دفات المدونات القانونية المعاصرة، أجنبية كانت أم عربية، ولم يتخلف قانون التجارة الكويتي الحالي عن الركب، فجاء بدوره يتضمنها، في المادة 149/ 2، نقلاً عن القانون المصري (المادة 148/ 2).
ولم يسعَ المشروع إلا أن يأتي بالمادة (195) ليساير هذا الاتجاه المحمود في التوسعة في مضمون العقد على النحو الذي يجعله متضمنًا، إلى جانب الأحكام الواردة فيه أو السارية عليه، ما يعتبر من مستلزماته، وفقًا لما تجري عليه العادة وما تمليه العدالة، ومع مراعاة طبيعة التعامل. وما يقتضيه من شرف ونزاهة، وهو إذ يفعل ذلك، يقدر ما أدته هذه التوسعة، عبر السنين، من جليل النفع، وما الالتزام بضمان السلامة، الذي أدخل بادئ ذي بدء في نطاق عقد العمل، ثم بعد ذلك في نطاق عقد النقل، والتزام العامل بعدم إفشاء سر العمل، والتزامه بالامتناع عن منافسة رب العمل في تجارته، إلا مجرد أمثلة لما أضفته تلك التوسعة على عالم القانون من يافع الثمار.
ثانيًا: القوة الملزمة للعقد:
وتقرر المادة (196) أساسًا من أهم الأسس التي يقوم عليها القانون وهو أن العقد شريعة المتعاقدين، فالعقد بالنسبة إلى عاقديه يعتبر بمثابة القانون، أو هو قانون خاص بهما، وإن كان منشؤه الاتفاق بينهما، وقد توج الله سبحانه وتعالى أثر العقد ومدى إلزامه طرفيه بقوله عز شأنه: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود "، وجاء الرسول الكريم يقول: " المسلمون عند شروطهم ".
ويترتب على كون العقد بمثابة القانون بالنسبة إلى طرفيه، أنه لا يجوز لأيهما أن يستقل بنقضه أو تعديل أحكامه أو الإعفاء من آثاره إلا في حدود ما يسمح به الاتفاق أو يقضي به القانون.
ويتنفذ العقد على نحو ما تضمنته أحكامه، على أن تتمشى طريقة التنفيذ مع ما يقتضيه حسن النية وشرف التعامل يظلان العقد، ليس فقط بالنسبة إلى تحديد مضمونه، بل أيضًا بالنسبة إلى تحديد الطريقة التي يتم بها تنفيذه وهو ما يقرره المشروع بالمادة (197).
والمادة (198) تقنين تشريعي لنظرية الظروف الطارئة ومؤدى حكم هذه المادة أنه إذا حدث، بعد انعقاد العقد، وقبل تمام تنفيذ الالتزام الناشئ عنه، أن وقعت نازلة استثنائية عامة، لم تكن في الحسبان ولم يكن في الوسع توقعها عند التعاقد، وكان من شأن هذه النازلة أن أصبح تنفيذ الالتزام – وإن ظل ممكنًا – شديد الإرهاق بالمدين، بحيث يهدده بخسارة فادحة، فإنه يجوز للقاضي، بناءً على طلب المدين، وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين، أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، وللقاضي، في هذا المجال، أن يُنقص في مدى التزام المدين، أو أن يزيد في الالتزام المقابل، على النحو الذي تقتضيه العدالة ويمليه التوفيق بين مصلحة الطرفين كليهما، والحكم الذي تقرره المادة (198) اعتبارًا بأنه يضفي حماية فعالة على العاقد الذي بات بسبب ظرف طارئ لم يكن في الوسع توقعه، مهددًا بخسارة فادحة، يمس النظام العام، ومن ثم يقع باطلاً كل اتفاق على ما يخالفه.
وإذا كان من شأن إعمال حكم المادة (198) أن تثبت للقاضي، في صدد العقد، السلطة في تعديل آثاره، متجاوزًا في ذلك حدود سلطته الأصيلة إزاءه، فإنه يجد مع ذلك مبرره القوى في أنه يتمثل رفقًا بمدين تعسر به الحظ، إذ شاءت ظروف طارئة غير متوقعة أن تهدده بخسارة فادحة بعيدة عن كل حسبان، وهو بهذه المثابة يتضمن تخفيفًا من شدة القانون وصرامة أحكامه، ويطبع تنفيذ العقد بطابع العدالة والرحمة والإنسانية.
وقد استوحى المشروع حكم المادة (198) من نص المادة 147/ 2 مصري والنصوص العربية الأخرى التي استمدت منه، ومن بينها نص المادة 146/ 2 من قانون التجارة الكويتي، وذلك بعد إجراء تعديلات طفيفة في الصياغة توخيًا للدقة والانضباط.
ويعرض المشروع، في المادتين (199 و200) للحالة التي يلجأ فيها المتعاقدان إلى الصورية، بأن يظهرا أمام غيرهما بمظهر أنهما يعقدان عقدًا معينًا، حالة كون هذا العقد في حقيقته زائفًا كليًا أو جزئيًا، إما لأن الطرفين لم يبرما في الحقيقة أي عقد على الإطلاق، وإما لأنهما أبرما عقدًا آخر غير ذاك الذي أظهراه، وإما لأنهما في النهاية أبرما بالفعل عقدًا يتفق في طبيعته مع العقد الذي صوراه، ولكنه يتغير معه على نحو أو على آخر.
والصورية ليست بذاتها سببًا للبطلان. وإذا كانت هي كذلك، فإن مؤداه أن يثور تساؤل أساسي هام، يتمثل فيما إذا كان من الواجب الاعتداد بالحقيقة أم بالمظهر، بالعقد المستتر أم بالعقد الصوري الساتر.
والأصل العام هو وجوب الاعتداد بالحقيقة. فهي التي حدثت بالفعل، دون المظهر الذي أُريد لها أن تتخفي فيه، ويتمشى المشروع مع هذا الأصل العام في العلاقة بين طرفي العقد والخلف العام لكل منهما، مقررًا في المادة (199) أن العبرة فيما بينهما هي بالحقيقية، التي من شأنها أن يسري بينهم العقد الحقيقي المستور، دون العقد الصوري الساتر، شريطة أن يكون هذا العقد المستور قد توفرت له مقومات قيامه، بطبيعة الحال.
وكان من مؤدى المنطق البحت للقانون ألا يقتصر إعمال الحقيقة على المتعاقدين وعلى الخلف العام لكل منهما بل ليمتد أيضًا ليشمل الغير، ولكن المشروع لاحظ مع ذلك أن ثمة أشخاص في تعاملهم مع طرفي العقد الصوري قد ينخدعون، ويعتقدون أنه حقيقي لا زيف فيه، ومن هنا توجب أن تُضفى الحماية على هؤلاء، لا مراعاة لمصلحتهم هم فحسب، بل مراعاة للصالح العام كذلك، متمثلاً في استقرار المعاملات التي قامت على الثقة المشروعة ومن هذا المنطلق يقرر المشروع في المادة (200) لدائني كل من المتعاقدين وللخلف الخاص لأي منهما، الحق في أن يتمسكوا بالعقد الحقيقي أو العقد الصوري، أيهما يرونه لهم أصلح، ولهم إذا شاءوا إعمال العقد الحقيقي في مواجهتهم، أن يثبتوا الصورية بكافة طرق الإثبات، اعتبارًا بأن الصورية واقعة هم عنها غرباء، على أنهم لا يكون لهم التمسك بالعقد الصوري، إلا إذا كانوا حسني النية، بأن كانوا يجهلون الصورية، عند قيام أسباب نشأة حقوقهم، فلو أنهم كانوا يلمون حينئذٍ بزيف عقد من تعاملوا معه، ما ساغ لهم أن يدعوا بأنهم انخدعوا به ورتبوا أمورهم عليه، وقد حرص المشروع على أن يقتصر، في منحه رخصة التمسك بالعقد الحقيقي أو العقد الصوري، على الدائنين والخلف الخاص لكل من طرفي العقد الصوري، فليس لغير هؤلاء أن يفيدوا من تلك الرخصة، وإنما يعمل في حقهم بالعقد الحقيقي.
وإذا كان لدائني كل من طرفي العقد الصوري ولخلفه الخاص أن يتمسكوا بالعقد الصوري أو بالعقد الحقيقي، فإنه من المتصور أن تتعارض المصالح بين هؤلاء، فيتمسك بعضهم بهذا العقد، في حين يتمسك الآخرون بذاك، وتجيء الفقرة الثانية من المادة (200) لتقرر الحكم في هذا التعارض، مقررة أفضلية لمن يتمسك بالعقد الصوري على من يتمسك بالعقد الحقيقي. وهو حكم، إن خالف المنطق البحت لقانون العقود، إلا أنه يتفق مع مبدأ حماية الغير حسني النية استقرارًا للمعاملات التي تقوم على الثقة المشروعة.
والمادة (200) إذ ترخص لدائني كل من طرفي العقد الصوري ولخلفه الخاص أن يتمسكوا بالعقد الحقيقي المستتر أو العقد الصوري الظاهر، أيهما يرونه لهم أوفق، وإذ تقرر الأفضلية لمن يتمسك من بين هؤلاء بالعقد الصوري على من يتمسك منهم بالعقد الحقيقي، تتجاوب مع قاعدة تمتد جذورها عميقة في دنيا الماضي، وأخذت ترسخ وجودها وتدعم كيانها في قانون اليوم، وهي قاعدة المظهر الخادع يحمي المخدوع، أو كما يقال، في عبارة أكثر شيوعًا وإن كانت أقل دقة، الخطأ الشائع يولد الحق.
وقد استمد المشروع تلك الأحكام من المادتين (147 و148) من قانون التجارة الحالي مع بعديل صياغتها توخيًا للدقة والانضباط.
ثالثًا: نسبية آثار العقد:
وتعرض المادة (201) للأصل المقرر بأن آثار العقد نسبية ومن البداهة أن آثار العقد تنصرف إلى طرفيه، ولكنها لا تقف عندهما. فهي بعد الموت تنتقل إلى الخلف العام بيد أن انتقال آثار العقد إلى الخلف العام يكون في الحدود التي لا يُخل فيها بأحكام الميراث، على نحو ما يقضي به الشرع الإسلامي الحنيف، ومن بين ما قصده المشروع من هذا التحفظ، عدم المساس بقاعدة لا تركة إلا بعد سداد الديون.
وإذا كان من شأن آثار العقد أن تنتقل بعد موت المتعاقد إلى خلفه العام، في الحدود التي لا يكون فيها مساس بأحكام الميراث، فإن هذه القاعدة ليست مطلقة، إذ أن هذه الآثار قد تكون مقصورة على المتعاقدين أو على أحدهما على حسب الأحوال، إذا اقتضى ذلك العقد أو طبيعة التعامل أو نص في القانون.
وقد استوحى المشروع نص المادة (201) من القانون المصري (المادة 145) – وهو نص شق طريقه بحرفيته إلى كل من القانون السوري والليبي والعراقي الأردني وكذلك قانون التجارة الكويتي (المادة 141) – وذلك مع إجراء تعديل في الصياغة اقتضته الملاءمة.
وتعرض المادة (202) لأثر العقد الذي يعقده السلف على الخلف الخاص والأصل أن الخلف الخاص لا يـتأثر بالعقود التي يبرمها السلف ما لم يرتضِ هو ذلك، أو يقضي به القانون.
ولكن هذا الأصل يترك مكانه لاستثناء جوهري هام بالنسبة إلى العقود التي يكون السلف قد أبرمها قبل الاستخلاف، متعلقة بذات المال الذي حصل الاستخلاف فيه، إذا كان من شأن هذه العقود أن تولد حقوقًا أو التزامات متصلة بذلك المال نفسه، لا متصلة أساسًا بشخص السلف، بحيث تنشأ الحقوق لمنفعة المال مباشرةً، على نحو يمكن معه القول بأنها من توابعه، وبحيث تنشأ الالتزامات مضيقة لمجال المال أو مقيدة للانتفاع به، على نحو يمكن القول معه أنها تعتبر من محدداته. فالحقوق والالتزامات التي من هذا النوع تنتقل من السلف إلى الخلف الخاص مع المال المرتبطة به والذي يحصل فيه الاستخلاف.
ولقد وصل القضاء في فرنسا في سهولة ويسر إلى هذا الحكم من غير أن يستمده من نص تشريعي يقرره مباشرة. كما وصل إليه أيضًا، في ظروف مماثلة، القضاء في مصر، تحت ظل قانونها المدني القديم، ولقد جاء القانون المصري الحالي وقنن هذا الحكم (المادة 146) دون أن يستند في تقنينه إلى سابقة تشريعية، مستظلاً بالسوابق القضائية وحدها، ومن القانون المصري شق الحكم طريقة إلى كافة القوانين العربية الأخرى التي استوحته، فنقلته عنه بذات عبارته، ومن تلك القوانين، قانون التجارة الكويتي (المادة 142)، واعتنقه المشروع وتفادى ما به من عيب في الصياغة.
وغني عن البيان أن الحكم الذي جاء به المشروع في المادة (202) لا يتعلق إلا بالحقوق الشخصية التي تثقل المال الذي يحصل فيه الاستخلاف، فوجه الحكم في شأن هذه الحقوق الأخيرة ظاهر لا يحتاج إلى بيان، فالحق العيني الذي يرد على مال معين، حق الرهن مثلاً يثقل هذا المال في أية يد يكون، بحكم طبيعة الحق العيني ذاتها، وما يمنحه لصاحبه من حق التتبع.
تبقى الحقوق الشخصية أو الالتزامات التي تتعلق بالمال الذي يحصل الاستخلاف فيه، وهي التي تحتاج إلى بيان وجه الحكم فيها، اعتبارًا بأنها لا تثقل المال ذاته على نحو ما يكون في الحق العيني.
وفي خصوص تلك الحقوق والالتزامات، تقرر المادة (202) أنه إذا أنشأ العقد الذي سبق للسلف أن أبرمه شيئًا منها، قبل حصول الاستخلاف في المال المتعلق هي به، فإنها تنتقل إلى الخلف الخاص في نفس الوقت الذي ينتقل فيه المال ذاته، ويشملها الاستخلاف بدورها، على أنه يلزم هنا، بالنسبة إلى الحقوق، أن تكون متصلة بالمال على نحو يجعلها من توابعه الخادمة له والمفيدة في استخلاص المنفعة منه، الأمر الذي يتطلب أن تكون مقررة أساسًا باعتبار المال ذاته intuiti rei لا على أساس الاعتبار الشخصي للمتعاقد، ويلزم بالنسبة إلى الالتزامات أن تكون متصلة بالمال على نحو يجعلها مضيقة لمجاله أو محددة للانتفاع به، وهي الالتزامات التي جرى البعض على أن ينعتها بالالتزامات العينية.
وقد حرص المشروع على أن يتحاشى الوصف الذي أضفاه القانون المصري وما تبعه من قوانين البلاد العربية الأخرى على الحقوق والالتزامات التي ينشئها عقد السلف والتي يحصل فيها الاستخلاف بأنها (من مستلزمات الشيء) نظرًا لغموض مدلول هذه العبارة من وجه، ولعدم دقتها من وجه آخر كما حرص المشروع على أن يقتصر، في تطلب علم الخلف الخاص أو في استطاعته هذا العلم، على حالة الاستخلاف في الالتزامات وحدها، دون حالة الاستخلاف في الحقوق، إذ أنه بالنسبة إلى الحقوق المتعلقة بالمال، يكون علم الخلف بها غير ذي موضوع، ثم إنها تنتقل مع المال الذي يحصل فيه الاستخلاف لمجرد أنها من توابعه، إعمالاً لقاعدة أن التابع يتبع الأصل.
وتقرر المادة (203) قاعدة أساسية من القواعد التي تحكم العقود، ومؤداها أن آثار العقود تقتصر على عاقديها وخلفائهما، على نحو ما تقضي به المادة (201) والمادة (202) وإن كان من شأنها أن تنعكس على الدائنين من حيث زيادة الضمان العام المقرر لهم على أموال مدينهما أو نقصه، على حسب الأحوال، وإذا كانت العقود تقف بالنسبة إلى الآثار التي تنتجها، عند المتعاقدين والخلفاء الدائنين، فهي بمجردها وذاتها، لا يكون لها أثر في مواجهة الغير، فهي لا تنفع هؤلاء الغير، كما أنها لا تضرهم.
بيد أن قاعدة أن العقود لا تنفع الغير ولا تضرهم بعيدة عن أن تكون مطلقة، فنطاقها ينحسر بالضرورة عن كل حالة ينص فيها القانون على تأثر الغير بالعقد، إن ضرًا أو نفعًا، وإذا كانت الأحوال التي ينص فيها القانون على مضرة الأشخاص بعقود غيرهم جد نادرة بحيث تقارب العدم، فأحوال نفعهم من عقود غيرهم أخذت، في وقتنا الحاضر، تتزايد وتتكاثر، متمثلة في نظام أخذ يعم ويشيع وهو نظام الاشتراط لمصلحة الغير.
1 - التعهد عن الغير:
وتعرض المادة (204) للتعهد عن الغير والقواعد التي تحكمه، ذلك أنه يحدث في بعض الأحيان أن يتعهد شخص لآخر بأن يجعل أحدًا من الغير يتحمل نحوه بالتزام معين، ومثل هذا التعهد يقع صحيحًا، ويترتب عليه أن يلتزم المتعهد بما تعهد به.
ولكن الغير المتعهد عنه لا يتحمل بأي التزام من جراء ذلك التعهد ذاته، لأنه أجنبي عنه، والعقود لا تنفع ولا تضر غير عاقديها وخلفائهما.
وهكذا يبقى للغير المتعهد عنه كامل الحرية في أن يرتضي أن يحمل نفسه بالالتزام المتعهد به أو لا يرتضيه، فإن رفض أن يحمل نفسه به، فما كان عليه جناح، ولكن المتعهد يعتبر حينئذٍ أنه أخل بالعهد الذي قطعه على نفسه، ومن ثم يلتزم بتعويض المتعهد له عما يناله من ضرر بسبب إخلاله، ما لم يعرض أن يقوم بنفسه بتنفيذ الالتزام الذي تعهد بأن يجعل الغير يرتضيه، وكان ذلك في مقدوره من غير ضرر ينال المتعهد له، أما إذا ارتضى الغير المتعهد عنه التحمل بالالتزام، كان ذلك وفاءً بالعهد الذي قطعه المتعهد على نفسه، ومن ثم تبرأ ذمة هذا الأخير، في حين أن المتعهد عنه يرى نفسه وقد تحمل بالالتزام الذي ارتضى أن يربط نفسه به، وهو يتحمل نتيجة رضائه هذا، ومن ثم فهو يتحمل به من وقت صدور هذا الرضاء، ما لم يثبت أنه قصد أن يستند أثر رضائه التحمل بالالتزام إلى تاريخ صدور التعهد.
وإذا كان المتعهد عنه لا يتحمل بالالتزام المتعهد به إلا برضاه، فإن نظام التعهد عن الغير لا يتضمن أية مخالفة لقاعدة أن العقود لا تضر بالغير.
ويوافق هذا الحكم ما تنص عليه المادة (207) من قانون التجارة الكويتي مع ما تقتضيه الملاءمة من تعديل في الصياغة.
2 - الاشتراط لمصحة الغير:
عني المشروع بنظام الاشتراط لمصلحة الغير، ووضع له من الأحكام ما يحقق المصلحة منه، وهو في وضعه هذه الأحكام، لم يخرج عن تلك التي باتت مستقرة في الفكر القانوني المعاصر، والتي سبق لقانون التجارة الكويتي أن قننها، أخذًا عن القانون المصري وقوانين البلاد العربية الأخرى التي استوحته، وإن كان المشروع قد أجرى تعديلات هامة في الصياغة، توخيًا للدقة وتمشيًا مع فن صناعة التشريع.
وتأتي المادة (205) في فقرتها الأولى، لتقر نظام الاشتراط لمصلحة الغير، حيث تجيز للشخص، حينما يتعاقد عن نفسه، أن يتفق مع من يتعاقد معه على أن يتحمل بالتزامات معينة، يتعهد بأدائها لشخص من الغير، هو المنتفع أو المستفيد، شريطة أن يكون للمشترط في ذلك مصلحة ولو أدبية، وهو أمر يكاد يكون متحققًا دائمًا، فالمشترط يتعاقد أصيلاً عن نفسه، فهو ليس بنائب عن المستفيد، الذي يعتبر من الغير بالنسبة لعقد الاشتراط.
وتأتي الفقرة الثانية، لتجيز أن يكون المستفيد من عقد الاشتراط شخصًا مستقبلاً، كما أنها تجيز أن يكون المستفيد شخصًا غير معين بذاته عند الاشتراط، إذا كان من الممكن تعيينه عندما يتوجب على المتعهد أن يؤدي له المنفعة المشترطة لصالحه.
وتعرض المادة (206) لأثر الاشتراط لمصلحة الغير، وهي تقرر أنه يترتب عليه أن يثبت للغير المشترط لصالحه، أي المنتفع أو المستفيد، حق خاص به، في ذمة المتعهد، قوامه المنفعة المشترطة له، وهو حق يثبت له مباشرة من عقد الاشتراط، دون مرور بذمة المشترط، وبهذه المثابة يكون للمستفيد أن يستأدي حقه المشترط لصالحه من المتعهد باسمه هو، وبدعوى مباشرة، مع مراعاة حكم المادة (207) وهذا هو لب نظام الاشتراط لمصلحة الغير وجوهره ومعقل القوة فيه.
وإذا كان للمستفيد أن يطالب المتعهد مباشرة بالحق المشترط لصالحه، فإن ذلك لا يمنع المشترط نفسه من أن يكون له، في نفس الوقت، الحق في أن يطالب المتعهد بأن يؤدي الالتزام المشترط للمستفيد، وذلك ما لم يتفق على غيره، فالمشترط هو الطرف الثاني في العقد مع المتعهد، ومن ثم يكون له أن يطالبه بالوفاء بالتزاماته إلى يرتبها العقد عليه، وإن كانت فائدتها تعود على غيره، ثم إن الفرض أن للمشترط مصلحة في قيام المتعهد بالوفاء بالتزامه للمستفيد، فهذه المصلحة نفسها هي التي دفعته إلى أن يشترط هذا الالتزام عليه.
وإذا كان المستفيد من الغير بالنسبة إلى عقد الاشتراط إلا أنه يتلقى منه حقًا شخصيًا ومباشرًا في مواجهة المتعهد، ومن ثم تقرر المادة (207) للمتعهد الحق في أن يتمسك، في مواجهة المستفيد، بكافة الدفوع الناشئة له من عقد الاشتراط، والتي كان يسوغ له أن يحتج بها في مواجهة المشترط نفسه، لو أن المنفعة كانت مقررة لصالحه، وعلى هذا النحو، لا يضار المتعهد من كون المنفعة مشترطة للمستفيد.
والاشتراط لمصلحة الغير يتضمن تقديم منفعة للمستفيد. وإذا كان المتعهد هو الذي يقدمها له، نتيجة أدائه الالتزام الذي رتبه العقد عليه، إلا أن المشترط هو الذي اشترطها له، وهو الذي يتحمل مقابلها، إن كان لها مقابل، ومن ثم يخول المشروع في المادة (208) للمشترط، بعد أن ينعقد الاشتراط أن ينقضه، بمعنى أن يحرم المستفيد من الفائدة التي كان من شأنه أن يرتبها له. وهذه الرخصة تثبت للمشترط شخصيًا، فهي مقصورة عليه لخاصة نفسه. ومن ثم فهي لا تنتقل من بعده لورثته. كما أنه لا يجوز لدائنيه أن يباشروها عنه باسمه ولحسابه، حتى لو كان معسرًا. فالأمر متروك لمحض أريحيته هو، وفقًا لما يراه.
على أن نقض الاشتراط، في الحدود السابقة، يتقيد بإعلان المستفيد رغبته في الإفادة من الاشتراط، إما للمشترط وإما للمتعهد. فبمجرد أن يعلن المستفيد رغبته في الإفادة من الاشتراط للمشترط أو للمتعهد، يثبت له الحق المتولد عنه نهائيًا، ويستحيل بعد ذلك على المشترط أن يحرمه منه بنقض المشارطة.
وإذا باشر المشترط الرخصة المخولة له في نقض المشارطة، حرم المشترط لصالحة من المنفعة التي كانت مشترطة له، ولكن ذمة المتعهد لا تبرأ، ويبقى متحملاً بالالتزامات التي ولدها العقد عليه، وذلك بطبيعة الحال ما لم يتفق على خلافه.
وللمشترط، بعد نقضه المشارطة، أن يُحل منتفعًا آخر محل المنتفع الأصلي أو أن يستأثر بالمنفعة الخاصة لنفسه.
الفرع الثالث – انحلال العقد:
المواد (209 - 219):
تتركز أسباب الانحلال العامة للعقود في ثلاثة أسباب:
الفسخ والانفساخ والتقايل أو الإقالة.
أولاً: فسخ العقد:
ويعرض المشروع لفسخ العقد في المواد من 209 إلى 213.
وتتناول المادة (209) الفسخ بوجه عام مبينة مجال إعماله وشروطه الأساسية وكيفية إيقاعه وسلطة القاضي إزاءه، فهي تقرر بادئ ذي بدء أن الفسخ لا يكون إلى في العقود الملزمة للجانبين، ووجه هذا الحكم ظاهر، فمؤدى الفسخ أن يترخص للمتعاقد الذي حصل الإخلال بحقوقه، أن يتحرر من التزاماته المقابلة التي يفرضها العقد عليه، فإن حصل الإخلال بحقوقه من غير أن تكون ثمة التزامات مقابلة يفرضها العقد عليه، فإن الفسخ يكون غير وارد أصلاً.
وتجيء المادة (209) بعد ذلك لتبرز أن الفسخ لا يعدو أن يكون مجرد رخصة تثبت للمتعاقد الذي يحصل من غريمه الإخلال بحقوقه، كي يتحلل هو من التزاماته، فلا إجبار على المتعاقد في الفسخ، وهو إن ترخص له في طلبه، فإن ذلك لا يحرمه من حقه الأصيل في التمسك بالعقد، ومطالبة مدينة بالوفاء بحقوقه التي يرتبها له، وهكذا فللمتعاقد، عند الإخلال بحقوقه، الخيار بين أن يطلب من القاضي فسخ العقد، أو أن يطلب منه الحكم له بإلزام المتعاقد الآخر بحقوقه قبله، فإن فضل الفسخ، وحكم له به القاضي، فإن ذلك لا يحرمه من حقه في التعويض عما عساه أن يرتبه له الفسخ من ضرر.
وتعرض المادة (209) في فقرتها الأولى لشروط إعمال نظام الفسخ، وتقرر في هذا الصدد وجوب أن يكون المتعاقد، الذي يعمل الفسخ إضرارًا به، مخلاً بالوفاء بالتزامه الذي يفرضه العقد عليه، بأن يحل أجل الوفاء به دون أن يؤديه، وأن يستمر في تقاعسه عن أدائه إلى ما بعد إعذاره بوقت معقول، كما أنها تتطلب أيضًا أن يكون طالب الفسخ غير مقصر بدوره في الوفاء بالتزامه، بأن يكون قد أداه بالفعل، أو أن يعرض أداءه، فإن كان كل من المتعاقدين مخلاً بالتزاماته فإنه لا يكون لأيهما طلب الفسخ.
وتعرض المادة (209) في فقرتها الثانية لسلطة القاضي عند رفع دعوى الفسخ، وهي تمنحه، في هذا المجال، سلطة رحبة الحدود. وتتمثل سلطته هذه في مظهرين أساسيين:
فللقاضي أن يمنح المتعاقد الذي ترفع دعوى الفسخ ضده أجلاً يحدده له، ليقوم خلاله بالوفاء بالالتزام الذي تقاعس عن أدائه، إذا رأى الظروف تقتضي منحه هذا الأجل، كما إذا رأى أن ثمة أملاً في أن يفلح في الوفاء بالالتزام في وقت ليس بجد بعيد، فينظره إلى ميسرة، لعل الله يؤتيه من بعد عسر يسرًا.
وللقاضي أن يرفض الفسخ كلية برغم توافر كل شروطه، ويكون له ذلك إذا كان ما لم يوفِ به المدين قليلاً بالنسبة إلى كافة الالتزامات التي يفرضها العقد عليه. وقد حرص المشروع على أن يجعل التناسب بين ما أداه المدين وبين ما لم يؤده قائمًا على أساس التزاماته كلها، وليس فقط على أساس الالتزام الواحد، عندما يقف المدين عند الوفاء ببعضه، ذلك لأن العبرة هي بالعقد في مجموعه وبكل الالتزامات التي يرتبها على المتعاقد وقد يفي المتعاقد بالالتزامات الأساسية التي يفرضها العقد عليه، ولكنه يتقاعس عن الوفاء بالتزام ثانوي لا يترتب على الإخلال به كبير ضرر للمتعاقد الآخر، وفي مثل هذه الحالة، يكون للقاضي أن يرفض الفسخ، كما يكون له أن يرفضه في خصوص الالتزام الأساسي الواحد، عندما يوفي معظمه، ويتقاعس عن الوفاء بقليله.
وقد أُخذ حكم المادة (209) مما جاء به القانون الكويتي في المادة (172) وذلك بعد تعديل صياغتها على وجه أدنى إلى الدقة والوضوح.
وتعرض المادة (210) للحالة التي يتضمن فيها العقد شرطًا يقضي باعتبار العقد مفسوخًا من تلقاء نفسه وبقوة القانون ودون حاجة إلى حكم القاضي، أو بتقييده سلطة القاضي إزاء الفسخ على نحو ما يقرره المشروع في المادة (209) قاضية بوجوب أن يثبت انصراف إرادة المتعاقدين كليهما إليه على نحو صريح قاطع.
والمشروع بذلك يستهدف وضع حد لم ظهر في العمل من إساءة استعمال هذا الشرط في العقود، وللنتائج الوخيمة المترتبة عليه للمتعاقد، عندما يتعسر في أداء التزاماته، ولو كان تعسره مؤقتًا أو قليلاً نسبيًا، بحرمانه من رقابة القضاء، وما تنطوي عليه من سلطة الرفق به ونظرته إلى ميسرة.
فالمتعاقدون كثيرًا ما يضمنونه عقودهم، دون أن يقدروا خطورته بل حتى دون أن يقفوا على حقيقة أثره أو حتى على حقيقة مدلوله. فتكاد صياغة هذا الشرط تكون محفوظة عند بعض محترفي تحرير العقود من غير رجال القانون، يضعونها فيما يحررونه منها، من غير فهم لمدلولها ولا استيعاب لنتائجها، حتى ضمانة الإعذار، باعتباره وسيلة لإثبات إخلال المدين بالالتزام، يغلب أن يتضمن الشرط الإعفاء منها، وإذا كان القضاء، في البلاد التي تقضي قوانينها بصحة هذا الشرط، قد عمد إلى التقليل من خطره، بالتضييق ما أمكن في تفسيره، فإن المشروع يتطلب لإعماله أن يثبت للقاضي على نحو صريح قاطع أن إرادة المتعاقدين كليهما قد انصرفت صراحة إليه، على بينة من حقيقة أثره، فإن ثبت ذلك للقاضي، توجب إعمال الشرط على نحو ما يقضي به.
وإذا اتضح للقاضي أن المتعاقدين قصدا حقيقة وعلى بينة من الأمر الشرط القاضي بفسخ العقد من تلقاء نفسه وبقوة القانون ودون حاجة إلى حكم القاضي، فإنه لا يكون من مقتضى هذا الشرط بمجرده وذاته أن يعفي المتعاقد الذي يعمل بالفسخ إضرارًا به، من ضمانة الإعذار.
على أنه إذا اتفق على الإعفاء من الإعذار بمقتضى شرط صريح قاطع في دلالته، صح هذا الشرط في المواد التجارية وحدها، أما في المواد المدنية، فلا يُعفى المتعاقد من ضمانة الإعذار، ولا يعمل بالشرط القاضي بحصول الفسخ بقوة القانون عند الإخلال بالالتزام، إلا إذا استمر هذا الإخلال لمدة معقولة بعد الإعذار، ولو اتُفق على غير ذلك، وقد أعرض المشروع فيما جاء به في هذا كله عما يجري به الحكم في قانون التجارة الكويتي بالمادة (173).
وتقابل المادة (211) المادة (175) من قانون التجارة الحالي، وهي تعرض لأثر الفسخ، وهذا الأثر يتركز في انحلال العقد وزواله. والأصل أن الفسخ يزيل العقد، ليس للمستقبل فحسب، بل للماضي أيضًا. فالعقد يعتبر كأن لم يبرم أبدًا، وهكذا فللفسخ أثر رجعي يمتد إلى تاريخ إبرامه. على أن هذا الأصل ليس مطلقًا. وهذا ما دعا المشروع إلى أن يتحفظ في خصوصه بالنسبة إلى العقود المستمرة، وبالنسبة إلى ما تقتضيه الحماية الواجبة للغير حسني النية، على نحو ما تقرره المادة (212) والمادة (213).
وإذا كان مؤدى الفسخ انحلال العقد بأثر رجعي واعتبار أنه لم يقصم أصلاً، فإنه يتعين إعادة المتعاقدين إلى الحالة التي كانا عليها عند إبرامه فإن استحال على أحد المتعاقدين أن يعيد الآخر إلى الحالة التي كان عليها عند العقد، جاز الحكم عليه بأداء معادل.
وتعرض المادة (212) لأثر الفسخ في العقود المستمرة مقررة له حكمًا مغايرًا بعض الشيء لأثره في العقود الفورية، قاصرة أثره في حل الرابطة العقدية على المستقبل دون الماضي، ومن تاريخ تحققه، وهو حكم سبق للقضاء أن وصل إليه في يسر دون نص يقرره، وقد ارتأى المشروع أن يقننه دفعًا لأية مظنة، سيما وقد بدا اتجاه في الفقه في فرنسا يبشر بوجوب إعمال الأثر الرجعي للفسخ حتى بالنسبة للعقود المستمرة، وقصر أثر الفسخ في العقود المستمرة على المستقبل دون الماضي له ما يبرره، فللزمن في صدد هذا النوع من العقود أهمية في تحديد مدى ما يؤدى من الالتزامات الناشئة عنها، فإذا استمر العقد فترة من الزمن ثم قُضي بفسخه، فإن ذلك لا يمنع من أن العقد أنتج بالفعل آثارًا في الماضي تتعذر إزالتها، ويكون من المصلحة الإبقاء عليها. وإذا كان الفسخ هنا يختلف عن الإبطال، فلهذا الاختلاف ما يسوغه. إذ الإبطال يقوم على إخلال وقع في ذات تكوين العقد، ومؤداه أن العقد لم يُبرم أصلاً. أما الفسخ فمؤداه أن العقد قام صحيحًا وأنتج بالفعل آثاره، فإن تقرر بعد ذلك فسخه كجزاء للإخلال بالالتزامات الناشئة عنه، فمن المقدور أن يقصر أثره على البعض من مدة سريانه، دون البعض الآخر.
ويتمشى المشروع في المادة (213)، مع مبدأ حماية الغير حسني النية، مقررًا عدم الاحتجاج بفسخ العقد في مواجهة الخلف الخاص لكل من عاقديه، إذا كان قد تلقى حقه معاوضة حالة كونه حسن النية، بأن كان عند التصرف له لا يعلم السبب الذي أفضى إلى الفسخ ولم يكن في مقدوره أن يعلم به.
والمشروع، إذ يحمي الخلف الخاص لكل من المتعاقدين من أثر فسخ عقدهما، يتجاوب مع الاتجاه الذي أخذ يفرض وجوده في الفكر القانوني المعاصر، والذي يهدف إلى حماية الغير حسني النية، استقرارًا للمعاملات وحماية للائتمان مع ضبط الحماية وحصرها في حدودها اللازمة، ثم إن الحكم الذي يقرره المشروع هنا لا يعدو أن يكون مثيلاً لذاك الذي سبق له أن قرره في خصوص إبطال العقد.
ثانيًا: انفساخ العقد:
انفساخ العقد نظام قانوني مؤداه أن يحدث، بعد انعقاد العقد، ما يجعل تنفيذ الالتزام الناشئ عنه مستحيلاً لسبب أجنبي عن المدين، فينقضي هذا الالتزام بسبب استحالة تنفيذه، وتنقضي معه الالتزامات المقابلة إن وجدت ويتفرغ العقد بالتالي من مضمونه، فيزول، وبهذه المثابة، يتميز انفساخ العقد عن فسخه تمييزًا واضحًا، إذ أن حل الرابطة العقدية في الفسخ تجيء كجزاء لإخلال أحد المتعاقدين بالتزامه.
وقد عمد المشروع إلى تنظيم الانفساخ تنظيمًا متكاملاً، سادًا بذلك نقصًا ظاهرًا وقع قانون التجارة الكويتي الحالي، كما وقع فيه من قبله القانون المصري الذي استوحاه، وغيرهما من قوانين بلاد عربية أخرى. ويتمثل وجه التكامل الذي لجأ المشروع إليه في أمرين أساسيين: (الأول) بين المشروع حكم الانفساخ في العقود الملزمة لجانب واحد، وفي العقود الملزمة للجانبين على حد سواء، في حين أن القانون المصري وما استوحته من قوانين البلاد العربية الأخرى، ومن بينها قانون التجارة الكويتي الحالي، لم تعرض إلا لحكم الانفساخ في العقود الملزمة للجانبين، (الثاني) عمد المشروع إلى بيان أثر استحالة تنفيذ الالتزام على العقد في حالتي الاستحالة الكلية والجزئية، حين اقتصر قانون التجارة الكويتي الحالي والقانون المصري وغيرهما من قوانين البلاد العربية الأخرى التي سارت على دربهما على حكم الاستحالة الكلية وحدها.
وتعرض المادة (214) لأثر استحالة تنفيذ الالتزام لسبب أجنبي عن المدين على العقد الملزم لجانب واحد، وترتب عليها انفساخ العقد من تلقاء نفسه، إن كانت كلية، فإن كانت استحالة تنفيذ الالتزام جزئية، فإن العقد لا ينفسخ من تلقاء نفسه وبقوة القانون إلا في حدود ما أصبح من محل الالتزام مستحيلاً، ويترخص للدائن أن يتمسك ببقاء العقد فيما يخص ما بقي ممكن التنفيذ من الالتزام.
وتعرض المادة (215) لأثر استحالة تنفيذ الالتزام لسبب أجنبي عن المدين في العقود الملزمة للجانبين، وهي تفرق في الحكم بين الاستحالة الكلية والاستحالة الجزئية.
فإن كانت الاستحالة كلية، انقضى التزام المدين بسببها، وانقضى معه الالتزام المقابل على الطرف الآخر، ويتفرغ العقد بالتالي من مضمونه، فينفسخ من تلقاء نفسه ويزول.
أما إذا كانت الاستحالة جزئية، فإن العقد لا ينفسخ كليًا ويكون للدائن حسب الأحوال، أن يتمسك بالعقد فيما يخص ما بقي ممكن التنفيذ من حقه وما يتناسب معه من الالتزام المقابل، أو أن يطلب فسخ العقد برمته.
وغني عن البيان أنه في حالة زوال العقد نتيجة استحالة تنفيذ الالتزام الناشئ لسبب أجنبي عن المدين، سواء كانت الاستحالة كلية أو جزئية، لا يستحق الدائن تعويضًا ما عما يناله من ضرر بسبب تفويت الصفقة عليه كليًا أو جزئيًا، فالفرض أن المدين هنا لم يخطئ، وبهذا يتميز انفساخ العقد عن فسخه، الذي لا يحول دون حق الدائن في التعويض عن الضرر الذي يرتبه له، اعتبارًا بأنه يتمثل رخصة يجيزها له القانون كجزاء لإخلال المدين أو تقصيره في الوفاء بالتزاماته.
وتعرض المادة (216) لأثر انفساخ العقد، وهو كالفسخ تمامًا يؤدي إلى حل الرابطة العقدية بأثر رجعي يستند إلى وقت نشوئها، الأمر الذي يتعين معه إرجاع المتعاقدين إلى الحالة التي كانا عليها عند إبرامه، على أن الأثر الرجعي للانفساخ لا يكون إلا في الحدود التي ترسمها المواد (211 و212 و213) في شأن الفسخ.
ثالثًا: الإقالة:
الإقالة أو التقايل أو التفاسخ سبب لانحلال العقد، إلى جانب الفسخ والانفساخ، وهو نظام يقوم على تراضي طرفي العقد على إزالته بعد إبرامه، وهو لا يعدم أن يجد بعض التطبيقات في واقع حياة الناس، سيما في الحالة التي يستشعر فيها أحد المتعاقدين الندم على صفقة يكون قد أبرمها، فيأتي المتعاقد الآخر ويتفق معه على إزالتها، وقد حبب إلينا الرسول الكريم مثل هذا النهج النبيل، بقوله: " من أقال نادمًا بيعته، أقال الله عثرته يوم القيامة ".
والإقالة تتميز عن الفسخ والانفساخ في أنها لا تكون إلا اتفاقية، بمعنى إنها لا تنشأ إلا بتراضي الطرفين عليها، وبشرط أن يجيء هذا التراضي بعد انعقاد العقد. أما الفسخ فلا يكون إلا بحكم القانون. والانفساخ يقع بقوة القانون.
وتقرر المادة (217) جواز الاتفاق على الإقالة. وهو أمر تقتضيه القواعد القانونية العامة بذاتها وبمجردها. فالعقد صنيعة إرادة المتعاقدين. وما تصنعه الإرادة المشتركة للمتعاقدين تستطيع أن تنقضه وتزيله، وذلك في الحدود التي لا تضر الغير بطبيعة الحال.
ويلزم لصحة الإقالة أن يكون الشيء الذي ورد العقد في شأنه أو المعقود عليه، قائمًا لم يهلك، وموجودًا في يد أحد المتعاقدين، لم يذهب إلى الغير. على أنه إذا هلك أو تلف من المعقود عليه بعضه، أو ذهب هذا البعض إلى الغير، فإنه يجوز التقابل في الباقي منه بقدر حصته من العوض.
ففي البيع، مثلاً، يلزم أن يكون المبيع قائمًا عند الإقالة، ولكن لا يمنع من إمكان الاتفاق عليها أن يكون بعض المبيع قد تلف، حيث تقع في الباقي بقدر حصته من الشيء، أما إذا قبض البائع الثمن، وذهب عنه لسبب أو لآخر، فإن ذلك لا يحول دون الإقالة إذ أن المثليات لا تهلك.
وقد استلهم المشروع تلك الأحكام من قانون التجارة الكويتي الحالي (في المادتين 176 و177) والتقنينات العربية التي أخذها عنها.
ويتركز أثر الإقالة في إزالة العقد - والأصل أنها تزيل العقد، لا بالنسبة إلى المستقبل فحسب، بل إلى الماضي أيضًا، شأنها في ذلك شأن الفسخ والانفساخ، فيعتبر العقد الذي حصل إقالته كأن لم يبرم أصلاً. بيد أن هذا الأثر الرجعي للإقالة، لا يكون إلا في العلاقة بين المتعاقدين نفسيهما، أما بالنسبة إلى الغير، فلا يكون للإقالة أثر إلا من تاريخ حصولها، ومن غير إخلال بقواعد الشهر العقاري. وهذا ما أدى بالمشروع إلى أن يعتبر الإقالة، بمثابة عقد جديد في حق الغير (المادة 218). وهو نفس الحكم الذي سبق لقانون التجارة الكويتي الحالي أن أخذ به (المادة 178)، ناهجًا في ذلك نهج القانون العراقي (المادة 183)، ومسايرًا الفقه الحنفي، الذي يرى بدوره أن للإقالة طبيعة مزدوجة، اعتبارًا بأنها فسخ اتفاقي بالنسبة إلى المتعاقدين وعقد جديد بالنسبة إلى الغير، أما المالكية وأهل الظاهر فقد رأوا في الإقالة عقدًا جديدًا، وليست فسخًا للعقد الأول، وذلك بالنسبة إلى المتعاقدين والغير على حد سواء، في حين أن الحنابلة ومعهم الشيعة الإمامية، رأوا أن الإقالة فسخ اتفاقي بالنسبة إلى الجميع.
رابعًا: الدفع بعدم التنفيذ:
الدفع بعدم التنفيذ نظام قانوني مؤداه أنه في العقود الملزمة للجانبين، يسوغ لكل من المتعاقدين أن يمتنع عن الوفاء بالالتزامات التي يفرضها العقد عليه، ولو كانت حالة الأداء، إلى أن يقوم المتعاقد الآخر بأداء التزاماته المقابلة، أو يعرض، في الأقل، أداءها، ما دامت هذه الالتزامات الأخيرة حالة الأداء بدورها.
والدفع بعدم التنفيذ وسيلة دفاعية، وليست هجومية. فهو كما يدل عليه اسمه، دفع وليس دعوى. وهو وسيلة دفاعية يقررها القانون للمتعاقد الذي يكون، في نفس الوقت، دائنًا ومدينًا للمتعاقد الآخر، ويخوله بمقتضاها الحق في أن يدفع مطالبة غريمه بالدين الذي له، حتى يفي هذا الغريم بدوره بما عليه. والفكرة الأساسية التي يقوم عليها هذا الدفع هي أنه: (إذا أردت أن تأخذ ما لك فعليك أن تفي بما عليك)، فلا عهد لمن لا عهد له، فقوامه الارتباط والتقابل بين الالتزامات.
ويلزم للتمسك بالدفع بعدم التنفيذ أن يكون الالتزام المقابل حال الأداء وأن يتقاعس المدين به عن أدائه برغم حلول أجله. على أنه يتعين على المتعاقد، في اعتصامه بالدفع بعدم التنفيذ، ألا يتجافى مع مقتضيات حسن النية ونزاهة التعامل، وعلى هذا فإن كان ما بقي من غير وفاء من الالتزام المقابل قليلاً بالنسبة إليه في جملته، فإنه يمتنع على المتعاقد أن يتمسك بالدفع بعدم التنفيذ، أو في الأقل يمتنع عليه التمسك به إلا في حدود حصة من التزامه تقابل ما بقي من حقه من غير وفاء، ولم يشأ المشروع أن يضمن نص المادة (219) ما يقرر هذا الحكم اعتبارًا بأنه لا يعدو أن يكون تطبيقًا للقواعد العامة التي تقتضي مراعاة حسن النية في تنفيذ العقود، وتقيد مباشرة الحقوق بما يمتنع معه التعسف والإساءة.
والدفع بعدم التنفيذ يتقيد بالضرورة بالاتفاق وعرف الجهة. فإذا قضى الاتفاق أو العرف بحرمان المتعاقد من التمسك بهذا الدفع، أو قضى بإلزامه بتنفيذ التزامه أولاً، فإنه لا يكون له أن يعتصم به.
وقد استمد المشروع أحكام الدفع بعد التنفيذ من القانون المصري (المادة 161) والقوانين العربية التي نقلت عنه أما قانون التجارة الكويتي فقد جاء خاليًا من النص عليه.
وغني عن البيان أن الدفع بعدم التنفيذ لا يعتبر سببًا لانحلال العقد فهو لا يزيل الرابطة العقدية، وإنما يضعفها فحسب، ولمدة مؤقتة، فأثره يقتصر على وقف العقد، وهو بهذه المثابة يتميز عن الفسخ والانفساخ والتفاسخ.
الفصل الثاني: الإرادة المنفردة:
المواد (220 - 226):
ثمة نظرية قديمة تقليدية، يمكن أن يُطلق عليها النظرية اللاتينية، تقول بأن الإرادة المنفردة لا تنشئ الالتزام، وهي النظرية التي لا زال القانون الفرنسي يسير عليها في مجموعها إلى الآن، من حيث التأصيل القانوني على الأقل، وثمة نظرية أخرى جديدة نسبيًا يتزعمها الفكر القانوني الألماني تبشر بأنه يوجد في منطق القانون ما يمنع من أن ينشأ الالتزام بإرادة المدين المنفردة. وهاتان النظريتان، تبدوان متغايرتان كل التغاير، ولكنهما تقتربان إلى حد كبير بالنسبة إلى النتائج التطبيقية التي وصل إليها الفكر القانوني في مجال إعمال كل منهما، بحيث يكاد أن يكون الفارق بينهما نظريًا لا يتجاوز مجرد التأصيل القانوني.
فالنظرية الألمانية، وإن لم ترَ ثمة مانعًا من أن ينشأ الالتزام عن التصرف الصادر من جانب واحد، إلا أن القانون الألماني نفسه لا يقر هذا الأثر إلا في الأحوال الخاصة التي يصرح بها القانون (المادة 305). وفي الجانب الآخر، نجد أنه بالنسبة إلى أهم التطبيقات العملية التي تعزى فيها نشأة الالتزام للإرادة المنفردة، يسير الفكر القانوني الفرنسي أيضًا على نشأة الالتزام فيها، وإن عمد إلى ردها تارة إلى العقد وتارة أخرى إلى المسؤولية التقصيرية.
وقد عمد المشروع إلى أن يقر للإرادة المنفردة قوة إنشاء الالتزام، ولكن في مجال محدود مقصور على الحالات الخاصة التي يأذن لها فيها القانون بإنشائه، وهكذا فالإرادة المنفردة، إذا اعتُبرت مصدرًا منشئًا للالتزام، فلا تكون إلا مصدرًا مقيدًا محدودًا. وهي، بهذه المثابة، تتميز عن العقد والعمل غير المشروع والكسب دون سبب، التي هي مصادر منطلقة من شأنها أن تولد الالتزام على نحو عام وشامل.
وبعد أن يُقر المشروع للإرادة المنفردة قوة إنشاء الالتزام في مجالها المقيد الضيق المحدود، يعمد إلى تنظيم أحد أهم تطبيقاتها العملية، وهو الوعد بالجائزة الموجه للجمهور، تاركًا التطبيقات الأخرى ليأتي الحكم فيها مع أحكام الأنظمة التي تخصها.
وتُرسي المادة (220)، في فقرتها الأولى، المبدأ الأساسي في خصوص الإرادة المنفردة، ومقتضاه أن التصرف القانوني الصادر بها، أو التصرف القانوني الصادر من جانب واحد كما يغلب أن يقال، لا ينشئ الالتزام ولا يعدله ولا ينهيه، إلا في الحالات الخاصة التي يأذن له فيها القانون بذلك.
وتجيء الفقرة الثانية لتضع الأساس الذي يراعى في حكم التصرف القانوني الصادر من جانب واحد، حينما يأذن له القانون بإنشاء الالتزام أو بتعديله أو بإنهائه، مقررة إخضاعه لما يخضع له العقد بوجه عام من أحكام القانون، إلا ما كان من هذه الأحكام متعارضًا مع قيامه على الإرادة الواحدة، وعلى الأخص ما تعلق منها بتوافق الإرادتين.
وقد استوحى المشروع حكم المادة (220) من القانون الألماني (المادة 305)، ومن القانون العراقي (المادة 94) ومن القانون الأردني (المادة 251).
الوعد بجائزة للجمهور:
وتعرض المادة (221) للوعد الذي يوجه للجمهور عن طريق سبل الإعلام المختلفة بجائزة تعطى عن إنجاز عمل معين كالوصول إلى اختراع محدد أو كشف علاج لمرض أو العثور على شيء فاقد أو حيوان ضال، فسمة الوعد بالجائزة أنه يوجه لجمهور الناس، ولا يوجه لشخص بعينه. فإذا وجه الوعد بالجائزة لشخص معين، تمثل إيجابًا له من الواعد حتى إذا ما قبله، قام العقد بينهما، أما الوعد الموجه للجمهور، فلا يعتبر إيجابًا لأحد، وإنما هو يلزم صاحبه بمجرده وذاته، تأسيسًا على إرادته المنفردة.
ولكي يعتبر الوعد للجمهور بالجائزة قائمًا، يلزم أن يتم إعلانه للجمهور بأي طريق من طرق الإعلام، كالنشر في الصحف أو في الإذاعة المنظورة منها أو المسموعة أو باللصق على الجدران أو غير ذلك.
وإذا قام الوعد التزم به صاحبه بمجرد إرادته المنفردة، وحق عليه أن يعطي الجائزة الموعود بها لمن أنجز العمل، ولو كان قد أنجزه قبل الوعد ما لم يتضمن الوعد غير ذلك، أو كانت ظروف الحال تقتضيه. كما أن الجائزة تُستحق لمن ينجز العمل، حتى لو أداه بغير نظر إليها أو دون أن يعلم بها.
وتعرض المادة (222) لأثر الرجوع في الوعد بالجائزة، وتقرر عدم ثبوت الحق للواعد في الرجوع في وعده، إذا كان قد حدد في الإعلان ميعادًا لبقائه قائمًا. وإنما يسقط الوعد بمجرده وذاته بفوات هذا الميعاد.
أما إذا لم يعين الواعد أجلاً لوعده، فإنه يمكنه الرجوع فيه في أي وقت. على أن الرجوع في الوعد لا يعتبر واقعًا إلا بإعلانه للجمهور على وجه مماثل، أو في الأقل، يشابه في أثره الإعلامي، الوجه الذي تم به توجيه الوعد.
وتعرض المادة (223) لأثر الرجوع في الوعد بالجائزة مقررة أن هذا الأثر لا يكون إلا بدءًا من وقت إعلانه للجمهور، وبهذا المثابة، لا يكون للرجوع عن الوعد أثر بالنسبة إلى من يكون قد أنجز العمل بحسن نية قبل ذلك، ولا يحول بالتالي دون حقه في الجائزة.
فإذا كان الشخص قد بدأ في العمل قبل إعلان الرجوع في الوعد، حالة كونه حسن النية، أي لا يعلم بصدور إرادة الواعد بالرجوع من طريق آخر، حل له أن يطالب الواعد بقيمة ما أنفقه من مصروفات وما بذله من جهد، إذا أثبت أنه كان ليتم العمل في وقت مناسب، على ألا يزيد مقدار ما يستحقه من قيمة الجائزة نفسها.
وتعرض المادة (224) للوقت الذي ينبغي فيه للواعد أن يبت في استحقاق الجائزة بتعيين الشخص أو الأشخاص الذين تثبت لهم، محددة إياه بستة أشهر على الأكثر من تاريخ انتهاء الأجل المحدد في الإعلان، وذلك ما لم يتضمن الإعلان ميعادًا أطول.
وتقرر المادة (225) أنه لا يترتب على الوعد بالجائزة ولا على إعطائها لمستحقها ثبوت حق للواعد في ثمرة العمل الذي وعد بالحائزة وأعطيت من أجله.
فالجائزة تُعطى نظير أداء العمل. فهي لا تتمثل مقابلاً لثمرته. ومن ثم يكون الحق في هذه الثمرة أو في الإفادة منها لمن قام بالعمل. فلو أن شخصًا وجه للجمهور وعدًا بإعطاء جائزة لمن يكتشف دواء لمرض معين، ووصل أحد من الناس إلى اكتشافه، واستحق الجائزة من أجله، فإن الحق في هذا الكشف سواء في جانبه الشخصي أو في جانبه المالي، يكون لصاحبه ولا يكون للواعد، وذلك ما لم تتضمن شروط الوعد ما يخالف ذلك.
وتعرض المادة (226) للمدة التي ينبغي أن ترفع فيها دعوى المطالبة بالجائزة الموعود بها وبغيرها من الحقوق التي تترتب على الوعد، مقررة وجوب رفعها خلال مدة لا تتجاوز ستة أشهر من تاريخ انتهاء أجل البت في استحقاق الجائزة على نحو ما تقضي به المادة (224) أو من تاريخ إعلان الرجوع في الوعد على حسب الأحوال.
وقد استوحى المشروع ما جاء به عن الوعد بجائزة للجمهور وأحكامه وآثاره القانون المصري (المادة 162) والقوانين العربية التي أخذت عنه وكذلك بعض القوانين الأجنبية الأخرى (مشروع القانون الفرنسي الإيطالي المادة 4). والقانون الألماني (المواد 657 إلى 661) ومدونة الالتزامات السويسرية (المادة 8)، والقانون البولوني (المادة 104).
الفصل الثالث: الفعل الضار:
العمل غير المشروع الذي ينجم عنه ضرر للغير، يتمثل في الفكر القانوني المعاصر، مصدرًا هامًا وأساسيًا لنشأة الالتزام، بل هو أهم مصادر الالتزام جميعًا بعد العقد.
وقد أشار قانون التجارة الكويتي الحالي إلى العمل غير المشروع، باعتباره مصدرًا للالتزام، دون أن يبين أحكامه، مقتصرًا، في المادة (179) منه، على القول بأنه (ينظم قانون خاص أحكام العمل غير المشروع وما يترتب عليه من المسؤولية والتعويض). وقد صدر هذا القانون الخاص بالفعل، وهو القانون رقم (6) لسنة 1961، بتنظيم الالتزامات الناشئة عن العمل غير المشروع، والذي عدل، فيما بعد، بمقتضى القانون رقم (42) لسنة 1967، ثم بمقتضى المرسوم بقانون رقم (73) لسنة 1976.
والمشروع في تنظيمه نتائج الفعل الضار، لم يشأ أن يبتعد كل البعد عن الأحكام التي يقضي بها القانون الكويتي الحالي، وإن عمد إلى أن يجري فيها الشيء الكثير من الضبط والتنسيق وإكمال النقص.
فقد أظهرت أحكام قانون العمل غير المشروع الحالي نجاحًا ملحوظًا، وأدت مهمتها على وجه مرضٍ، وهي من بعد أحكام تكون نظامًا قانونيًا متكاملاً، يقوم على جمع موفق بين آخر ما وصل إليه الفكر القانوني المعاصر، من ناحية وما حرص عليه الفقه الإسلامي الحرص كله من عدم ضياع دم الناس هدرًا، من ناحية أخرى.
ويتركز تنظيم المشروع للنتائج المترتبة على الفعل الضار في أمرين أساسيين استمد أولهما من الفكر القانوني المعاصر، وثانيهما من الفقه الإسلامي، وقوام الأول تقرير مسؤولية كاملة شاملة، ترجع في أساسها إلى فكرة الخطأ بوجه عام، وإن لم يلتزم المشروع هذه الفقرة دومًا على نحو ما كانت عليه من صرامة عند السابقين، وتستهدف هذه المسؤولية تعويض الضرر في جميع مظاهره وبالنسبة إلى كل عناصره المادية منها والأدبية على حد سواء، أما الأمر الثاني، فقوامه ضمان أذى النفس، دون أذى المال، في حدود ضيقة مقصورة على الدية الإسلامية، عندما يستغلق على المصاب أو ذويه من بعد الطريق إلى جبر الضرر الناجم لهم جبرًا كاملاً شاملاً على أساس المسؤولية التقصيرية.
وقد حرص المشروع على أن يميز الأمرين السابقين، حتى لا يقع الخلط بينهما. وقد حدا به إلى ذلك الاختلاف الجذري بينهما من حيث النشأة والشروط والأثر، سيما وقد توسع كثيرًا في نظام الدية عن الدم المهدر مستهديًا بفقه المسلمين.
والمشروع، إذ يميز بين الحالة التي تقوم أساسًا على الخطأ التقصيري والتي يثبت فيها الالتزام بتعويض الضرر تعويضًا كاملاً، وبين الحالة التي تستحق فيها الدية وحدها كليةً أم جزئيةً، يقصر اصطلاح المسؤولية على الحالة الأولى، مضفيًا على الحالة الثانية اصطلاح (الضمان).
وهذه التسمية بشطريها يقتضيها المنطق ويستلزمها في صناعة التشريع، فهي من وجه أول، تساير المنشأ، وهي من وجه ثانٍ، تتوافق مع الواقع، فالشخص منا لا يسأل إلا إذا وقع منه ما يستوجب مساءلته عن خطأ أو ما يدانيه، فإن تحمل بالالتزام عن ضرر يحدث لغيره، من غير خطأ يكون قد ارتكبه أو ما يدانيه، فهو إلى ضمان هذا الضرر أقرب من تحمله بالمسؤولية عنه.
الفرع الأول - المسؤولية عن العمل غير المشروع:
المواد (227 - 254):
أولاً: حالات المسؤولية عن العمل غير المشروع:
عمد المشروع، في تحديده حالات المسؤولية عن العمل غير المشروع، إلى أن يساير القانون الكويتي الحالي وغيره من القوانين العصرية الأخرى. فهو يبدأ بتقرير المسؤولية عن الأعمال الشخصية. ثم يقرر في حالات خاصة يحددها، مسؤولية الشخص عن أعمال غيره، ومن الضرر الناجم بفعل الأشياء.
1 - المسؤولية عن الأعمال الشخصية:
ومسؤولية الشخص عن أعمال نفسه تتمثل الأصل العام في المسؤولية عن العمل غير المشروع، وهي تقوم في كل حالة تتوافر فيها أركانها، دون تحديد مسبق لتلك الحالات، وفي ذلك تتخالف المسؤولية عن أعمال النفس مع المسؤولية عن فعل الغير، ومع المسؤولية عن الضرر الناجم بفعل الأشياء، فهاتان المسؤوليتان الأخيرتان استثنائيتان، وبحكم كونهما كذلك فإنهما لا تقومان إلى في الأحوال الخاصة التي يقررها القانون.
وتجيء المادة (227) لترسي في فقرتها الأولى، الأركان التي تقوم عليها المسؤولية عن الأعمال الشخصية، وهي الخطأ والضرر ورابطة السببية.
( أ ) الخطأ:
وإذا كانت أهمية الخطأ، كأساس للمسؤولية عن العمل غير المشروع، أخذت تتناقص على مر الزمن، إلا أن المشروع قد أثر أن يُبقى عليه في مجال المسؤولية عن عمل النفس، وحسبه أن يقنع بالمسؤولية الموضوعية في مجال الضرر الناجم بفعل الغير وبفعل الأشياء.
وقد حرص المشروع على أن يصرح بوجوب توافر الخطأ لقيام المسؤولية عن عمل النفس، سواء أجاء إحداث الضرر بطريق المباشرة أو التسبب، بمفهوم الفقه الإسلامي لكل من هذين الاصطلاحين. ذلك لأن المجال هنا هو مجال المسؤولية عن الضرر، وليس مجال ضمانه، والخطأ هنا واجب الإثبات، فعلى من يدعيه أن يقيم الدليل عليه وفقًا للقواعد العامة.
وقد اكتفى المشروع، في الفقرة الأولى من المادة (227) بإرساء المبدأ العام، مقررًا أن كل من يخطئ فيحدث بخطئه ضررًا بغيره يلتزم بتعويضه، وهو قد تجنب بذلك وضع أحكام تشريعية خاصة للحالات النوعية من الضرر، سواء تعلقت بإيذاء النفس أو إتلاف المال أو غصبه، اعتبارًا منه بأن المبدأ العام الذي يقرره يغطي الحالات الخاصة كلها، طالما توافرت فيها متطلبات القانون.
والمشروع، إذ ينهج هذا النهج، يساير الفن السليم في صناعة التشريع، وإن خالف قانون الالتزامات الناشئة عن العمل غير المشروع الكويتي الحالي، والذي جاء، على غرار القانون العراقي، يورد نصوصًا عديدة تتضمن أحكامًا تشريعية لنوعيات خاصة من الضرر، هي إيذاء النفس وإتلاف المال وغصب المال، وإن لم تختلف تلك الأحكام في أساسها، ثم إن ذكر أحكام النوعيات الخاصة من الضرر يعيبه عدم الشمول الذي يؤدي إليه تقرير المبدأ العام. وهو أمر لم يفت قانون العمل غير المشروع الكويتي الحالي أن يواجهه. فبعد أن قرر وجوب التعويض في النوعيات الخاصة التي ذكرها من الضرر، جاء يتحرز ويقرر وجوب التعويض في حالات الضرر الأخرى التي لم يذكرها (المادة 11). وهو حكم كان يمكن أن يجتزئ به وحده.
ولم يشأ المشروع أن يحدد المقصود بالخطأ كركن لقيام المسؤولية، تاركًا أمره لاجتهاد الفكر القانوني، وذلك بغية أن يضفي عليه ما ينبغي له من مرونة وانطلاق.
وتقرر المدة (227) في فقرتها الثانية، حكمًا أساسيًا مؤداه أن عدم الإدراك أو التمييز لا يحول دون مسؤولية صاحبه عن تعويض الضرر الذي يأتيه بفعله الخاطئ، وتضع بذلك حدًا لخلاف كبير ثار في الفقه القانوني الكويتي حول ما إذا كان الإدراك لازمًا أو غير لازم لقيام المسؤولية التقصيرية.
واستلزام الإدراك أو التمييز لقيام الخطأ الموجب للمسؤولية التقصيرية، في القانون الأوروبي، فكرة مستوحاة أصلاً من القانون الروماني، وهجرتها بعض القوانين العصرية الحديثة، وإن كانت أغلب هذه القوانين لم تهجرها إلا جزئيًا، حيث تركت للقاضي شيئًا من حرية التقدير، وفقًا لمقتضيات العدالة، وهذا هو، على وجه الخصوص، شأن القانون الألماني (المادة 829)، ومدونة الالتزامات السويسرية (المادة 54) والقانون البلجيكي (المادة 1386 مكرر) وقد ساير القانون المصري هذا الاتجاه بدوره (المادة 164). وأخيرًا جاء المشرع الفرنسي نفسه يقرر المسؤولية التقصيرية كاملة على من يحدث الضرر بغيره، حالة كونه تحت تأثير اختلال عقلي (قانون 3 يناير 1968 الذي عدل المادة 489 - 2 من مدونة نابليون).
والحكم الذي يقرره المشروع في الفقرة الثانية من المادة (227)، فضلاً عن اتساقه مع منطق القانون ومصلحة الناس ومسايرته للاتجاه الحديث في الفكر القانوني المعاصر، يتجاوب مع رأي الجمهور في الفقه الإسلامي، حيث لا يتطلب الإدراك أو التمييز لقيام الضمان عن الإتلاف، وقد جاء في قول بعض الفقهاء، لإظهار هذا الحكم، أن الوليد، لو أنه انقلب حال ولادته، على شيء فأتلفه، لزمه الضمان من ماله، وقد أخذ بهذا الحكم الحنفية والشافعية والحنابلة، أما المالكية، فثمة خلاف بينهم. فمنهم من قال إنه لا ضمان على الصبي الذي لا يعقل فيما أتلفه من نفس أو مال، لعدم تكليفه بتوجيه الخطاب إليه. فهو بمثابة العجماء، ولكن الرأي الراجح في المذهب، والذي يقول به جمهوره، يبشر بأن الضمان يلزم عديم التمييز اعتبارًا بأن أساس الضمان هو جبر الضرر، لا الجزاء والعقوبة، ولعموم قول الرسول الكريم: " لا ضرر ولا ضرار ".
والمجلة بدورها صريحة في عدم تطلب التمييز لثبوت الضمان (المادة 916 والمادة 960). وقد أخذ بنفس الحكم القانون العراقي (المادة 191) كما أخذ به القانون الأردني (المادة 278).
ويعرض المشروع بالمادة (228) للحالة التي يحدث فيها الضرر نتيجة أخطاء متعددة وقعت من أشخاص كثيرين، بحيث يتمثل خطأ كل من هؤلاء سببًا مقتضيًا للضرر، وتقرر مسؤولية كل واحد منهم، في مواجهة المضرور، عن التعويض كاملاً. فالمسؤولون المتعددون يتحملون، في مواجهة المضرور، بالتعويض على سبيل التضامن، وبمعنى أدق على سبيل التضامم.
أما في العلاقة بين المسؤولين المتعددين أنفسهم، فيتوزع غرم المسؤولية بينهم بقدر دور خطأ كل منهم في إحداث الضرر، فإن تعذر تحديد هذا الدور وزع عليهم غرم المسؤولية بالتساوي.
وقد حرص المشروع على أن يجعل أساس توزيع غرم المسؤولية على المسؤولين المتعددين فيما بينهم متمثلاً في دور خطأ كل منهم في إحداث الضرر، اعتبارًا منه بأنه أكثر اتساقًا مع فكرة السببية بين الخطأ والضرر من الأساس الذي يقول به قانون العمل غير المشروع الكويتي الحالي (المادة 30) والقائم على توزيع غرم المسؤولية بين من يتحملونها على أساس جسامة التعدي الذي وقع من كل منهم، وإن كان المشروع لم يغفل عن أن الخلاف بين الأساسين ضئيل من الناحية العملية، حيث يصعب، في واقع الحياة، تحديد دور خطأ كل من المسؤولين في إحداث الضرر، ثم إن هذا الدور يتناسب في الغالب مع جسامة الخطأ ذاتها.
وتعرض المادة (229) لحالة من حالات وقوع الضرر نتيجة أخطاء تقع من أشخاص متعددين، وهي تلك التي يحدث فيها الضرر من خطأ شخص معين، حالة كون خطئه هذا قد اقترن بأخطاء مؤثرة وقعت من آخرين، نتيجة التحريض أو المساعدة، وتقرر مسؤولية هؤلاء الأشخاص جميعًا، على نحو ما تقرره المادة (228) اعتبارًا بأن الضرر وقع بخطأ كل منهم. فالمسؤولية المدنية، كالمسؤولية الجنائية، لا تقتصر على الفاعل الأصلي، وإنما تمتد أيضًا إلى الشركاء.
والنص مستوحى في عموم حكمه من المادة (36) من القانون البو
(ب) الضرر:
الضرر ركن أساسي في المسؤولية التقصيرية، إلى جانب الخطأ ورابطة السببية، بل هو الركن الجوهري فيها. وأهميته تفوق أهمية الخطأ. فإذا أمكن في بعض الحالات، لهذه المسؤولية أن تقوم بغير خطأ - كما تقدم - فلا يتصور أبدًا وجودها بلا ضرر.
وقد أولى الفقه الإسلامي فكرة الضرر بالغ عنايته، عامدًا إلى درئه عن الناس، ومبتغيًا جبره لهم، إذا ألم بالفعل بهم، وليس هذا بغريب على رجاله، وهم يجتهدون في الظل الظليل لشريعة المسلمين، تلك الشريعة السمحة التي تأبى على الناس أن يؤذي بعضهم بعضًا. فمن الأسس التي قامت عليها هذه الشريعة الغراء أن: " لا ضرر ولا ضرار "، كما قال الرسول، عليه أفضل صلوات الله، وهو الأمر الذي دعا فقهاؤها إلى القول بتلك القاعدة الفقهية وهي أن " الضرر يزال "، ودعاهم بعد ذلك إلى أن يتحفظوا فيقولوا بقاعدة فقهية أخرى، مؤداها " أن الضر لا يزال بمثله ". ولقد كان من شدة اهتمام الفقه الإسلامي بالضرر والعمل على جبره لضحيته، أن جعله وحده، كأصل عام، مناط الضمان، من غير ضرورة لأن يقترن بوقوع الخطأ ممن أوقعه. فيكفي لتحمل الشخص بالضمان، في الفقه الإسلامي، أن يؤدي فعله بذاته إلى إلحاق الأذى بغيره، من هنا كانت القاعدة الأساسية التي تسود نظرية الضمان في هذا الفقه الحنيف، ومؤداها أن: " المباشر ضامن ولو لم يتعمد أو يتعدَ "، وإن كان " المتسبب لا يضمن إلا بالتعمد أو التعدي ".
وتحدد المدة (230) الضرر الذي يلتزم المسؤول عن العمل غير المشروع بالتعويض عنه بالخسارة التي وقعت للمضرور والكسب الذي فاته، شريطة أن يكون هذا وتلك نتيجة طبيعية للعمل غير المشروع ذاته، بأن يكون قد نجم عنه مباشرةً، بحيث أنه لم يكن في المقدور تفاديه ببذل الجهد المعقول الذي تقتضيه ظروف الحال من الشخص العادي، وسواء بعد ذلك أن يكون الضرر قد وقع بالفعل أم أنه سوف يقع حتمًا في المستقبل، كما أنه يستوي أن يكون الضرر متوقعًا أو غير متوقع.
وحرص المشروع على أن ينص، في المادة (231) على أن التعويض الذي يلتزم المسؤول عن العمل غير المشروع يتناول الضرر، ولو كان أدبيًا. فالضرر المادي والضرر الأدبي يشفعان كلاهما للمسؤولية التقصيرية سببًا، ويستوجبان التعويض عنهما، شأن المسؤولية التقصيرية في ذلك شأن المسؤولية المدنية بوجه عام.
وقد تردد الفكر القانوني طويلاً، في خصوص التعويض عن الضرر الأدبي، ورأى البعض بالفعل عدم ملاءمة ذلك. وتتركز حجتهم في أن الغاية من التعويض هي جبر الضرر. وإذا أمكن جبر الضرر المادي، فيستحيل جبر الضرر الأدبي. ثم إنه على فرض إمكان جبر الضرر الأدبي عن طريق التعويض عنه، فإنه لا يوجد أساس منضبط لتقدير هذا التعويض.
ولم يسد الرأي المناهض للتعويض عن الضرر الأدبي. وما كان له أن يسود. فإذا تعذر جبر الضرر الأدبي، فلا أقل من أن يُمنح عنه بعض من المال، يترك تقديره لقاضي الموضوع. وفقًا لظروف الحال، ليكون فيه على الأقل، بعض السلوى والعزاء. وما لا يدرك كله لا يترك كله.
من أجل ذلك سارت القوانين المعاصرة، في البلاد المختلفة، على تقرير مبدأ التعويض عن الضرر الأدبي، إلى جانب الضرر المادي. وهو الأمر الذي تبناه المشروع، وحرص على التصريح به، في الفقرة الأولى من المادة (231) دفعًا لأية مظنة.
وقد جاءت المادة (231) في فقرتها الثانية، تذكر على سبيل التمثيل لا الحصر، بعض صنوف من الضرر الأدبي، اعتبارًا بأنها تتمثل أهم ما ينتاب الناس في واقع حياتهم. وقد حرصت على أن تذكر بين ما أوردته من أمثلة، ما يستشعره الشخص من الحزن والأسى واللوعة وما يفتقده من عاطفة الحب والحنان نتيجة موت عزيز عليه، حتى تدفع شكًا قد ثار حولها في القضاء الكويتي، خلال فترة من الزمن، نتيجة بعض من غموض اعترى نص المادة (23) من قانون العمل غير المشروع. وهو شك سرعان ما تبدد ليستقر القضاء الكويتي على التعويض عن الضرر الأدبي في شتى مظاهره.
وإذا كان المشروع قد أجاز التعويض عن الضرر الأدبي في شتى مظاهره، إلا أنه آثر أن يقصر التعويض عن الضرر الأدبي الناشئ عن الوفاة في نطاق الأزواج والأقارب إلى الدرجة الثانية، توخيًا للدقة والانضباط.
وتعرض المادة (232) لانتقال الحق في التعويض عن الضرر الأدبي من صاحبه إلى غيره، سواء حال الحياة، أو بعد الممات عن طريق الميراث أو الوصية، وتقرر عدم جواز هذا الانتقال، إلا إذا كان مقدار التعويض محددًا بمقتضى القانون، كما هو الشأن في التعويض عن ذات إصابة النفس حيث تستحق الدية، أو كان قد تحدد بمقتضى الاتفاق، أو كان المضرور قد طالب به أمام القضاء.
(جـ) رابطة السببية:
لا يكفي لقيام المسؤولية عن العمل غير المشروع، أن كان يقع الخطأ ويحدث الضرر، بل يلزم أن تتوافر رابطة السببية، بأن ينشأ الضرر عن الخطأ ولذلك تقرر المادة (233) عدم الالتزام بالتعويض إذا كان الضرر قد نشأ عن سبب أجنبي.
فإذا استطاع المدعى عليه في دعوى المسؤولية أن يثبت أنه، برغم وقوع الخطأ منه، إلا أن خطأه هذا ليس هو الذي أحدث الضرر، ولم يسهم في إحداثه على نحو معتبر قانونًا، وأن الضرر قد حدث لسبب أجنبي عنه يد لا له فيه، كقوة قاهرة أو حادث مفاجئ أو فعل المضرور نفسه أو فعل الغير، فإنه يكون بذلك قد أفلح في قطع رابطة السببية بين خطئه وبين الضرر، ولا يكون بالتالي ملتزمًا بالتعويض وذلك ما لم يقضِ القانون بخلافه.
وتعرض المادة (234) للحالة التي يسهم فيها خطأ المدعى عليه في دعوى المسؤولية مع خطأ المضرور نفسه في إحداث الضرر، كل منهما بنصيب معتبر قانونًا، ودون أن يستغرق أحدهما الآخر، وهي حالة جد شائعة في واقع حياة الناس.
وفي هذه الحالة تنشغل مسؤولية المدعى عليه، ولكنها لا تكون كاملة، فهي تتحدد بقدر يتناسب مع دور خطأ المدعى عليه في إحداث الضرر بالنسبة إلى دور خطأ المضرور نفسه في ذلك، فإن تعذر تحديد دور كل من الخطأين في إحداث الضرر. وزعت المسؤولية بنسبة جسامة كل منهما اعتبارًا بأنه في الأخطاء المشتركة يتناسب أثر كل منها عادة مع درجة جسامته، فإن تعذر تحديد درجة جسامة كل من الخطأين توزعت المسؤولية بالتساوي.
على أن توزيع المسؤولية نتيجة الاشتراك في الخطأ بين المسؤول والمضرور لا يسري على الدية، باعتبارها تعويضًا عن ذات إصابة النفس، فالدية، كلية كانت أو جزئية، تستحق للمضرور بمقدارها المحدد في القانون دون أي إنقاص فيها.
وقد استمد المشروع أحكامه في ذلك الشأن من قانون التجارة الكويتي (المادة 218) وقانون العمل غير المشروع الكويتي (المادة 25) ومن القوانين العربية الأخرى التي نقل عنها التشريع الكويتي.
وإذا كان الدفاع الشرعي حقًا، والمقرر أن من يستعمل حقه لا يخطئ، طالما أنه لم يتجاوز مداه ومضمونه، لأن الجواز ينافي الضمان، كما يقول فقهاء المسلمين، فإنه انطلاقًا من هذه الفكرة، تقرر المادة (235) أن من أحدث، وهو في حالة دفاع شرعي عن نفسه أو عرضه أو ماله أو عن نفس الغير أو ماله، ضررًا بمن كان يهدده بالأذى، لا يكون ملتزمًا بتعويض هذا الضرر، طالما بقي في حدود الدفاع الشرعي لم يتجاوزه، وهكذا فمن يحدث الأذى بغيره، وهو في حالة دفاع شرعي عن نفسه أو غيره، لا يُسأل مدنيًا، كما أنه لا يُسأل جنائيًا.
على أن المسؤولية لا ترتفع إلا إذا اقتصر الشخص على ما هو ضروري لدفع الأذى، من غير شطط أو إسراف، أو تجاوز إلى التشفي والانتقام، فإن تجاوز الشخص حدود الدفاع الشرعي، كان مخطئًا بقدر هذا التجاوز وحقت المسؤولية عليه.
وإذا كان الشخص الذي يتجاوز حدود الدفاع الشرعي يُعتبر مخطئًا، وتنشغل بالتالي مسؤوليته، إلا أنه معذور بعض الشيء عن خطئه. وقد أدخل المشروع ذلك في تقديره، فلم يلزم من يتجاوز حدود الدفاع الشرعي بالتعويض على نحو ما تقرره القواعد القانونية العامة، وخول للقاضي أن يحكم عليه بتعويض تُراعى فيه ظروف الحال ومقتضيات العدالة.
وقد أخذ المشروع بحكم المادة (235) عن القانون الكويتي (المادة 26 قانون العمل غير المشروع) والقوانين العربية التي سبقت إلى تقنينه، مع صياغة الحكم صياغة أدنى إلى الدقة والوضوح.
وتعرض المادة (236) لحالة الضرورة، وهي الحالة التي يوجد فيها الشخص أمام خطر جسيم حال يتهدده أو يتهدد غيره سواء في النفس أو في العرض أو في المال، فيرى نفسه مضطرًا، في سبيل درئه، ومن غير أن يكون له طريق آخر أهون، إلى إتيان فعل يؤذي شخصًا ما، دون أن يكون لهذا الشخص يد في وقوع الخطر.
وقد رأى المشروع أن يجري بعض التعديلات في أحكام المسؤولية المدنية عن الضرر الذي يأتيه الشخص وهو في حالة الضرورة على نحو ما يقرره قانون العمل غير المشروع الكويتي الحالي بالمادة (27)، وتتركز هذه التعديلات في أمرين أساسيين:
الأول: قصر المشروع حالة الضرورة، باعتبارها سببًا للإعفاء أو للتخفيف من المسؤولية على حسب الأحوال، على حالة الضرر الذي يلحق المال، دون ذاك الذي يلحق النفس. وقد راعى المشروع في ذلك أن أنفس الناس مصونة، ولا يكفي للشخص منا أن يمس نفس غيره بالأذى، حتى لو كان ذلك اتقاءً لأذى يلحق نفسه هو أو نفس شخص آخر عزيز عليه، وإلا كان ذلك منه أنانية بغيضة يمقتها المجتمع ويعاديها. ثم إن أذى النفس قد يستوجب الدية، كلية كانت أو جزئية. والدية عندما تستحق، لا يعتريها نقصان. وفضلاً عن كل ذلك. فالحكم الذي أخذ به المشروع يتمشى مع الاتجاه الغالب في التشريعات المعاصرة، كالقانون البرتغالي (المادة 2396) والقانون الألماني (المادة 228) ومدونة الالتزامات السويسرية (المادة 52/ 2). وهو أكثر مسايرة للسائد في الفقه الإسلامي حيث يقتصر أثر الضرورة، أو الاضطرار إلى رفع القصاص أو المسؤولية الجنائية بوجه عام، دون أن يصل إلى أن يرفع الدية أو الضمان عن الإتلاف، وهذا ما أدى بالمجلة إلى أن تنص في المادة (33) منها على أن (الاضطرار لا يبطل حق الغير).
الثاني: علق المشروع مسؤولية محدث الضرر على شرط تعذر استيفاء المضرور ما يجبر له ضرره عن طريق دعوى الإثراء دون سبب على حساب الغير. ولهذا الحكم ما يبرره. إذ أنه يتعذر حقيقة أن ينسب الخطأ إلى من يحدث بغيره الضرر، وهو في حالة الضرورة بشروطها المتشددة. فإن أريد تحميله بالمسؤولية، فما ذلك إلا مراعاة للمضرور الذي يتمثل ضحية بريئة. فمسؤولية محدث الضرر لا تتفق مع القواعد العامة في المسؤولية عن العمل غير المشروع. فهي أقرب إلى أن تكون مسؤولية عدالة. وإذا كان ذلك كذلك، وجب ألا تقوم هذه المسؤولية إلا عندما يتعذر على المضرور أن يصل إلى جبر الضرر بسلوك الطريق الذي يتفق أكثر مع قواعد القانون، وهو ذاك المتمثل في دعوى الإثراء دون سبب على حساب الغير.
ومسؤولية من يحدث الضرر. تحت وطأة الضرورة، إذا قدر لها أن تقوم، باعتبار أنها مسؤولية عدالة، هي مسؤولية مخففة. فيثبت للقاضي إزاءها سلطة رحبة الحدود، حيث يترخص في تقدير التعويض الذي يراه مناسبًا وفقًا لظروف الحال ومقتضيات العدالة.
والأصل أن من يرتكب خطأ يتحمل مسؤوليته، حتى لو كان، في إتيانه، قد ائتمر بأمر من له عليه واجب الطاعة. ولكن المشرع شأنه في ذلك أن القانون الكويتي القائم (المادة 28 من قانون العمل غير المشروع) وغيره من قوانين بلاد عربية أخرى كثيرة، يملي استثناءً هامًا خاصًا بالموظف العام الذي ينفذ أمر القانون أو أمر رئيسه، مقررًا بالمادة (237) أنه لا يُسأل عن فعله، ولو كان في ذاته خاطئًا، طالما جاء إطاعة لأمر رئيسه حالة كونها واجبة عليه، أو أثبت أنه كانت لديه أسباب معقولة جعلته يعتقد أنها واجبة عليه، وأنه راعى في عمله جانب الحيطة والحذر. وحسب المضرور هنا أن يطلب ما يستحقه من تعويض من الرئيس الآمر، إذا كان من شأن القانون أن يشغل به مسؤوليته.
والذي يحق له أن يعتصم وراء أمر رئيسه هو الموظف العام وحده، وحكمة انفراد الموظف العام بالحكم هو الرغبة في عدم تعطيل الوظيفة العامة، عن طريق تغطية مسؤولية المرؤوسين، حتى لا يحجموا عن تنفيذ أوامر رؤسائهم متى كانت في ظاهرها على الأقل صحيحة سليمة.
2 - المسؤولية عن عمل الغير:
عمد القانون المعاصر، وتبعه في ذلك قانون العمل غير المشروع الكويتي الحالي، بتأثير من القانون المصري، إلى تقرير مسؤولية الشخص في بعض الحالات، عن الضرر الناتج عن عمل غيره. وهو في ذلك يستهدف الوصول إلى نوع من العدل الاجتماعي.
ولا شك أن مسؤولية الشخص عن عمل غيره هي مسؤولية تتسم ببعض المخالفة للقواعد القانونية العامة. ومن ثم فهي لا تكون إلا في الحالات التي يحددها القانون، وهي حالات تعتبر واردة فيه على سبيل الحصر، اعتبارًا بأنها استثنائية. ولا يصح التوسع في تلك الحالات ولا القياس عليها.
وقد أورد المشروع، شأنه في ذلك شأن القانون الكويتي القائم، وشأن القانون المصري، حالتين أساسيتين لمسؤولية الشخص عن عمل الغير، وهما مسؤولية من تجب عليه الرقابة، أو المكلف بالرقابة، عن عمل الخاضع لرقابته، ومسؤولية المتبوع عن فعل التابع، وأضاف إليهما مسؤولية الشخص عما يُلقى أو يسقط من مكان يشغله، اعتبارًا بأنها قد تتمثل في بعض الأحيان مسؤولية عن فعل من يتواجدون في المكان.
والمشروع إذ يقرر المسؤولية عن فعل الغير في هذا الحالات الثلاث، استهدف إتاحة الفرصة للمضرور في أن يستوفي التعويض الذي يجبر له ضرره، في حالات يغلب أن يكون المسؤول الأصلي غير مقتدر على أدائه، وهو إذ يستهدف تحقيق هذا الغرض النبيل لا يبتعد كثيرًا عن المبدأ الذي يقول به الفقه الإسلامي، فهو إن جعل المكلف بالرقابة أو المتبوع مسؤولاً عن التعويض في مواجهة المضرور، إلا أنه يجعل الخاضع للرقابة أو التابع هو المسؤول الأصلي عنه، حتى إذا ما قام أحد الأولين بأدائه، كان له أن يرجع به كاملاً على خاضعه أو متبوعه، ويسري نفس الحكم في حالة المسؤولية عن إلقاء أو سقوط الأشياء من المسكن أو نحوه، إذا أمكن معرفة من ألقاها أو أسقطها، وهكذا فالمسؤولية عن فعل الغير لا تعدو أن تكون مسؤولية ضمان، لا أكثر.
وتعرض المادة (238) لمسؤولية المكلف بالرقابة عن عمل الخاضع لرقابته، وترسي فقرتها الأولى الأصل العام، مقررة أن كل من يجب عليه قانونًا أو بمقتضى الاتفاق رقابة شخص في حاجة إلى الرقابة، بسبب قصره أو بسبب حالته العقلية أو الجسمية، يكون ملزمًا، في مواجهة المضرور، بتعويض الضرر الذي يحدثه ذلك الشخص بعمله غير المشروع.
وتقرر الفقرة الثانية أن القاصر يعتبر في حاجة للرقابة، طالما أنه لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره، أو بلغها وكان يعيش في كنف القائم على تربيته، حيث يستمر في حاجة إلى الرقابة إلى أن يبلغ رشده.
وتقرر الفقرة الثالثة أن الرقابة على القاصر تنتقل إلى المعلم في المدرسة أو المشرف في الحرفة.
وتعرض الفقرة الرابعة للزوجة القاصر، وتقرر أنها تكون خاضعة لرقابة زوجها الذي يُسأل بالتالي عن الضرر الناجم عن فعلها، وذلك إن كان الزوج رشيدًا عاقلاً. فإن لم يكن كذلك، ثبتت الرقابة على الزوجة القاصر لمن تكون له الرقابة على الزوج نفسه.
ومسؤولية المكلف بالرقابة عن عمل الخاضع لرقابته تقوم في أساسها على افتراض وقوع خطأ من الأول في تربية الثاني وتوجيهه ورقابته والإشراف عليه. وهي من بعد قرينة بسيطة، إذ يجوز للمكلف بالرقابة أن يدحضها بإثبات أنه قام بواجب الرقابة على نحو ما ينبغي. فإن أفلح في إقامة الدليل على ذلك أزاح المسؤولية عن كاهله، لانتفاء الخطأ عنه، ثم إن المكلف بالرقابة يستطيع كذلك أن يزيح عن نفسه المسؤولية بإقامته الدليل على أن الضرر كان لا بد واقعًا، حتى لو أنه قام بواجب الرقابة على نحو ما ينبغي، إذ أنه بذلك يصل إلى هدم رابطة السببية بين خطئه في الرقابة وبين الضرر.
وقد استوحى المشروع نص المادة (238) من قانون العمل غير المشروع الكويتي (المادة 13)، ومن القانون المصري (المادة 173)، وإن كان قد أجرى بعد تعديلات في الصياغة، اقتضتها الملاءمة.
وتستحدث المادة (239) حكمًا جديدًا في القانون الكويتي، حيث تقضي بحلول مسؤولية الدولة أو أصحاب المدارس أو المعاهد غير التابعة لها، على حسب الأحوال، محل مسؤولية المعلم المقررة بمقتضى المادة (238)، والقائمة على افتراض وقوع خطأ منه في رقابة التلميذ وتوجيهه والإشراف عليه، وإن كان هذا الحكم قد سبق وتقرر من قبل، بالنسبة إلى معلمي الدولة في فرنسا. حيث صدر في 5 إبريل سنة 1937، قانون يقرر حلول مسؤولية الدولة محل مسؤولية المعلم الحكومي، في الحالة التي يثبت فيها عليه الخطأ في رقابة تلاميذه، وحرمت على المضرور مقاضاة المعلم، وقد حذا المشرع اللبناني (المادة 26) والمشرع المغربي (الفصل 85) حذو صنوهما الفرنسي.
وقد ارتأى المشروع أن يأخذ بمبدأ حلول الدولة وغيرها من أصحاب المدارس والمعاهد غير التابعة لها، محل مسؤولية المعلم. وقد راعى في ذلك عدم إبهاظ المعلمين بمسؤولية ثقيلة لا يتحملها غيرهم من باقي الموظفين. بل إن مسؤولية المعلم تتمثل، في واقع الأمر، أشد ثقلاً من مسؤولية غيرهم من المكلفين بالرقابة، حتى الآباء أنفسهم. ذلك أن أمام المعلم من التلاميذ عشرات وعشرات يجتمعون معًا، وهم من بعد في سن شديد الصعوبة.
على أن المشروع لم يساير القانون الفرنسي وغيره من القوانين التي سارت على نهجه في مبدأ الحلول محل مسؤولية المعلم على إطلاقه. فقد وسع فيه من وجه. وضيق فيه من وجه آخر.
فقد وسع فيه من ناحية أنه جعله شاملاً المعلم الحكومي وغير الحكومي. إذ أن أنه لا يوجد مبرر للتفريق بينهما.
أما التضييق، فيتمثل في قصر الحلول محل مسؤولية المعلم على تلك المسؤولية القائمة على افتراض وقوع خطأ منه، باعتباره مكلفًا بالرقابة على نحو ما تقرره المادة (238). أما المسؤولية القائمة على خطأ ثابت وفق ما تقتضيه القواعد العامة، فتبقى مسؤولية المعلم قائمة، وإن تواجدت إلى جانبها مسؤولية الدولة أو غيرها من أصحاب المدارس والمعاهد غير التابعة لها، باعتبارها متبوعة تسأل عن تابعها.
ويعرض المشروع في المادة (240) لمسؤولية المتبوع عن الضرر الناجم عن فعل التابع، ويقرر قيام هذه المسؤولية لمصلحة المضرور، إذا كان فعل التابع يتمثل منه عملاً غير مشروع، من شأنه أن يشغل مسؤوليته هو، وبشرط أن يكون قد وقع منه في أداء وظيفته، أو بسبب هذه الوظيفة.
وقد استوحى المشروع نص المادة (240) بفقرتيها من المادة (14) من قانون العمل غير المشروع الكويتي الحالي، الذي استمد بدوره حرفيًا من المادة (174) مصري ولكنه أدخل تعديلات هامة في الصياغة توخيًا للدقة والانضباط.
فقد حرص المشروع، في الفقرة الأولى، على أن يصرح بأن مسؤولية المتبوع تقوم في مواجهة المضرور، دفعًا لمظنة المشاركة في الغرم النهائي للمسؤولية بين المتبوع والتابع.
وحرص المشروع كذلك على أن يتطلب، لقيام مسؤولية المتبوع أن يكون العمل غير المشروع قد وقع من التابع (في أداء وظيفته أو بسببها)، بدلاً من عبارة النص الحالي القائلة بوقوع ذلك العمل (حال تأدية الوظيفة أو بسببها)، فالعبرة ليست بزمن أداء الوظيفة في ذاته، وإنما هي في وجود علاقة ارتباط أو سببية بين وظيفة التابع وبين عمله غير المشروع، بحيث يكون العمل متصلاً بالوظيفة غير أجنبي عنها. ثم إن عبارة (حال تأدية الوظيفة) جاءت نتيجة ترجمة غير دقيقة للعبارة التي تقابلها في القانون الفرنسي، وانتقلت منه إلى قوانين البلاد العربية الأخرى التي استوحته ومن بينها قانون العمل غير المشروع الكويتي الحالي.
وقد حرص المشروع، في النهاية، على أن يذكر، في الفقرة الثانية أن رابطة التبعية تقوم (متى كان من شأن المهمة المكلف بها التابع أن تثبت للمتبوع سلطة فعلية في رقابته وتوجيهه) فليس من اللازم أن يكون للمتبوع سلطة فعلية يباشرها على تابعه في حاصل الأمر وواقع الحال متى كان من طبيعة التابع أو المهمة التي أنيطت به، أن تكون للمتبوع عليه هذه السلطة، باشرها بعد ذلك أم لم يباشرها، بل حتى لو كان، بسبب ظروف خاصة، غير قادر على أن يباشرها.
ومسؤولية المتبوع ترجع، في أساسها، إلى قيام المسؤولية على التابع. فكلما انشغلت مسؤولية التابع، باعتباره كذلك، نتيجة عمله غير المشروع، الذي وقع منه في أداء وظيفته أو بسببها قامت إلى جانب مسؤوليته هذه مسؤولية المتبوع.
ومسؤولية المكلف بالرقابة عن عمل الخاضع لرقابته ومسؤولية المتبوع عن فعل تابعه، إذا ما قامتا وفقًا لما تقضي به المادتان (238 و240) من المشروع، لا تجبان مسؤولية الخاضع للرقابة أو مسؤولية التابع فمسؤولية الشخص عن عمل غيره تأتي لتضاف إلى مسؤولية هذا الغير نفسه، دون أن تجبها أو تستغرقها أو تتمثل بديلة عنها، وهكذا يرى المضرور نفسه وقد انفتح له الخيار في أن يرجع بالتعويض كاملاً على المسؤول عن عمل غيره (المكلف بالرقابة أو المتبوع) وإما على هذا الغير نفسه (الخاضع للرقابة أو التابع) بشرط ألا يأخذ التعويض عن ذات الضرر إلا مرة واحدة بطبيعة الحال.
وقد جاءت المادة (241) لتقرر أنه إذا دفع المكلف بالرقابة أو المتبوع التعويض للمضرور حق له أن يرجع به كاملاً على الخاضع للرقابة أو التابع، وغني عن البيان أنه إذا كان الخاضع للرقابة أو التابع هو الذي أدى التعويض للمضرور فإنه لا يرجع بشيء ما على المكلف بالرقابة أو المتبوع اعتبارًا بأن مسؤولية هذا الأخير لا تعدو أن تكون مسؤولية ضمان وقد استوحى المشروع حكم المادة (241) من قانون العمل غير المشروع (المادة 15) ومصادره من القوانين العربية مع تعديل أحكم في الصياغة.
ويعرض المشروع في المادة (242) للمسؤولية عن نوع من الأضرار ينجم عن إلقاء أو سقوط الأشياء من المساكن أو غيرها من الأماكن المشغولة لأغراض أخرى من تجارة أو صناعة أو مباشرة مهنة أو حرفة أو نحو ذلك. وهو يحمل بهذه المسؤولية من يشغل المكان.
وليس يقصد بمن يشغل المكان من يتواجد فيه، ولكن يقصد به من يمكن اعتباره سيده، فرب الأسرة مثلاً، هو الذي يُسأل، في مواجهة المضرور، عما يحدث من ضرر نتيجة سقوط أو إلقاء الأشياء من المسكن، أما غيره ممن يقيمون معه في المنزل من زوجة أو ولد أو خدم أو غيرهم أو ممن يتواجدون فيه من زوار أو عمال أو نحوهم، لا يسألون إلا وفقًا للقواعد العامة في المسؤولية التي تقتضي قيام المضرور بإثبات وقوع الخطأ منهم.
والمسؤولية التي تقررها المادة (242) من المشروع تتميز بأنها قد تكون مسؤولية عن فعل الشخص نفسه أو عن فعل غيره ممن يتواجدون في المكان، فهي مسؤولية إما عن عمل النفس أو عن عمل الغير، فإن ثبت أنها عن عمل هذا الغير، فعندئذٍ تتمثل مسؤوليته مسؤولية ضمان، شأنها في ذلك شأن مسؤولية المكلف بالرقابة عن فعل خاضعه ومسؤولية المتبوع عن فعل تابعه.
وغني عن البيان أن المسؤولية التي تقررها المادة (242) لا تقوم إلا عن الضرر الناجم من الأشياء التي تُلقى أو تسقط من المسكن أو نحوه. فهي لا تقوم عن الضرر الناجم عن سقوط أجزاء البناء، كنوافذه أو أحجاره أو زجاجه.
وتقوم مسؤولية رب المكان عما يُلقى أو يسقط منه ما لم يثبت أن ذلك راجع لسبب أجنبي عنه لا يد له فيه من قوة قاهرة أو حادث مفاجئ أو فعل المضرور أو فعل الغير.
وقد استوحى المشروع حكم المادة (242) من المادة (246) من مشروع تنقيح القانون المدني المصري، والمادة (18) من قانون العمل غير المشروع الكويتي الحالي، والمادة (230) مدني عراقي، والمادة (1910) إسباني، والمادة (150) من القانون البولوني، والمادة (1529) من القانون البرازيلي.
على أن المشروع أدخل على صياغة هذه النصوص تعديلات ثلاثة جوهرية. فمن ناحية أولى، خالف المشروع قانون العمل غير المشروع الكويتي الحالي والقانون العراقي، حيث يجعل سبيل خلاص رب المكان من المسؤولية هو السبب الأجنبي وحده، اعتبارًا بأن هذه المسؤولية لا ينبغي أن تقل عن تلك الناجمة عن الأشياء الخطرة المقررة بمقتضى المادة (243) من المشروع.
ومن ناحية ثانية، خالف المشروع القوانين السابقة كلها، حيث لم يقصر مثلها المسؤولية على ساكن المكان، وإنما عممها على كل من يشغله لأغراض أخرى، وهو بذلك يتفادى عيبًا لم يفت الفقه الكويتي أن يبرره.
ومن ناحية ثالثة، صرح المشروع بإعطاء رب المكان الحق في الرجوع بما يدفعه للمضرور من تعويض على من يفلح في إثبات أن الشيء قد أُلقي أو وقع بخطئه.
3 - المسؤولية عن الضرر الناجم عن الأشياء:
يعالج قانون العمل غير المشروع المسؤولية عن الحيوان وعن النبات وعن الأشياء التي تتطلب حراستها عنايةً خاصةً كلاً منها على حدة ويخصها بحكم على استقلال (المواد 16 و17 و18) متأثرًا في ذلك بالقوانين العربية التي اتخذها مصدرًا له.
بيد أن المسؤولية عن ضرر الحيوان، في القانون المعاصر، تكاد أن تندمج تمامًا، في المسؤولية عن الضرر الناجم عن الأشياء بوجه عام، حتى باتت التفرقة في هذا المجال بين الأشياء الحية والأشياء غير الحية أي الجمادات، غير ذات موضوع.
أما المسؤولية عن انهدام البناء، فإن لم يكن الفكر القانوني في مجموعه قد وصل بها إلى حد الإدماج في المسؤولية عن الأشياء بوجه عام، بسبب وجود نصوص تشريعية تخصها بأحكام معينة، فقد ضيق من نطاقها إلى حد كبير، ليترك المجال للمسؤولية عن الأشياء لتؤدي دورها البالغ في إضفاء الحماية على المتضررين من البناء، بسبب آخر غير انهدامه، وعلى الأخص أولئك الذين ينالهم الضرر في حوادث المصاعد ونحوها، وهو أمر بات يتمثل مجافيًا مع المنطق، حيث أن المسؤولية عن الضرر الناجم بفعل المصعد، بل وعن كافة الأضرار الأخرى الناجمة عن البناء في غير ما نشأ منها عن انهياره وانهدامه، أصبحت أشد وقرًا من تلك الناجمة عن انهدام البناء ذاته، وإذا كان أصل هذا التجافي مع المنطق يرجع إلى نصوص في التشريع، وهي من بعد نصوص عتيقة تجاوزها الزمن، فقد آن له أن يُقتلع عن جذوره.
ولقد حرص المشروع على أن يساير آخر ما وصل إليه الفكر القانوني المعاصر، مزيلاً كل العقبات التشريعية التي تقف أمامه. وهذا ما دعاه إلى أن يركز المسؤولية عن الضرر الناجم بفعل الأشياء كلها في نص واحد، عقارات كانت أم منقولات، حيوانات كانت أم جمادات، بناءات كانت أم غير بناءات، وإن اشترط فيها جميعًا أن تكون من الأشياء التي يُخشى على الناس أذاها، والتي تتطلب لذلك عناية خاصة ممن يتولى أمرها ويسيطر عليها.
فيعرض المشروع في المادة (243) للمسؤولية عن الضرر الناجم بفعل الأشياء الخطرة، وهي تلك التي تتطلب عناية خاصة لمنع وقوع الأذى منها للناس في أرواحهم أو أموالهم.
وهو في تقريره هذه المسؤولية، لا يفرق بين الأشياء حسب طبيعتها من الحركة أو من الثبات أو من الحياة أو من الموت. فحسب الشيء لكي تثبت المسؤولية عن الضرر الناجم عنه أن يكون نتيجة ذات طبيعته أو وضعه، مما يتميز بالخطورة، من حيث أنه يعرض الناس للخطر في أرواحهم أو في أموالهم، وسواء بعد ذلك أن يكون منقولاً أم عقارًا، حيًا أم جمادًا، بناءً أم غير بناء. وإذا كان المشروع قد جاء، في الفقرة الثانية من المادة (243) يخص بالذكر أشياء معينة على اعتبار أنها تتسم بالخطورة وتتطلب لذلك عناية خاصة لمنع وقوع الأذى منها، فما ذلك إلا على سبيل التمثيل لا الحصر، مراعاةً منه أن هذه الأشياء هي التي تحدث في واقع حياة الناس أكثر ما يلاقونه من صروف الأذى.
وقد ارتأى المشروع أن يركز المسؤولية عن الأضرار الناجمة عن الأشياء الخطرة في نص واحد، ليوحد الحكم فيها، دون اعتبار لطبيعتها أو لكيفية وقوع الضرر منها. وهو بهذه المثابة يسوي في الأثر بين الضرر الناجم بفعل الحيوان، وبين الضرر الناجم بفعل الآلات وغيرها من الجمادات، وبين الضرر الواقع بسبب البناء، من جراء سقوطه أو غير ذلك من بقية أخطاره. وقد حدا بالمشروع إلى ما فعله ما لاحظه من أن التفريق في الحكم بحسب ما إذا كان الضرر ناجمًا بفعل الحيوان أو البناء أو غير ذلك من كافة الأشياء الخطرة الأخرى، لا يرجع إلا لاعتبارات تاريخية فقدت اليوم المبرر والمسوغ، الأمر الذي دعا الفكر القانوني المعاصر إلى أن يعمد إلى نبذه.
وقد آثر المشروع أن يساير الفكر القانوني المعاصر، الذي سبق المشرع الكويتي أن التزمه في قانون العمل غير المشروع الحالي، فجعل المسؤولية عن الضرر الناجم بفعل الأشياء على حارسها. فالحراسة وليست الملكية، هي مناط المسؤولية، وإن كان يُفترض في مالك الشيء أنه حارسه، ما لم يقم الدليل على غيره.
والمقصود بالحراسة على الشيء هو السيطرة الفعلية عليه التي تمكن صاحبها من الهيمنة والتسلط عليه لحساب نفسه، بحيث يكون زمامه في يديه، ولو لم تستند إلى أساس من القانون، وإنما قامت من حيث الأمر الواقع فحسب.
وتبقى الحراسة على الحيوان ثابتة لمن له السيطرة الفعلية عليه حتى لو ضل أو تسرب، وذلك حتى يتسلط عليه شخص آخر غيره، ويسيطر عليه لحساب نفسه.
وتُلزم المسؤولية حارس الشيء عن الضرر الناجم عن فعله، ما لم يثبت أنه قد حدث بسبب أجنبي عنه لا يد له فيه، ولم يكن له من سبيل إلى تفاديه، من قوة قاهرة، أو حادث مفاجئ أو فعل المضرور أو فعل الغير.
ويعرض المشروع في المادة (244) للحالة التي يكون فيها الشخص مهددًا بضرر يأتيه من شيء معين يملكه أو يسيطر عليه غيره. وفي مثل هذه الحالة، يتعذر القول بقيام المسؤولية عن العمل غير المشروع، ومع ذلك فالخير يكون في درء هذا الضرر قبل وقوعه.
وفي سبيل درء الضرر الذي يتهدد الناس من شيء معين، يقرر المشروع لك شخص ممن يكونون تحت طائلة الخطر الحق في أن يطالب مالكه أو حارسه، باتخاذ ما يلزم من التدابير لمنع وقوع الأذى منه، اعتبارًا بأن كلاً من مالك الشيء أو حارسه يتحمل بالتزام يفرضه القانون عليه بعدم تعريض الناس للخطر في أرواحهم أو أموالهم من الأشياء التي يملكونها أو يسيطرون عليها لحساب أنفسهم.
فإن لم يقم مالك الشيء أو حارسه، في وقت مناسب، باتخاذ ما يلزم من التدابير لدرء خطر الشيء، جاز لمن يتهدده أذاه، أن يحصل على ترخيص من القضاء في إجرائها بنفسه على حساب مالكه أو حارسه، على أن يتحملا بنفقتها متضامنين. ولا محل لإذن القاضي في حالة الاستعجال.
وقد استوحى المشروع حكم المادة (244) من القانون المصري (المادة 177/ 2) والقوانين العربية الأخرى التي سارت على نهجه ومن بينها قانون العمل غير المشروع الكويتي (المادة 17/ 2).
وإذا كان المشروع في إيراده المادة (244) قد استوحى القوانين السابقة، إلا أنه أدخل في سبيلها تعديلات جوهرية، وذلك من حيث الصياغة والمضمون، وتتركز هذه التعديلات في نواحٍ ثلاث:
الأولى: عمم المشروع فكرة تمكين الناس من درء الخطر الذي يتهددهم من الأشياء، فلم يقصرها على البناء، كما هو الشأن في القانون الكويتي الحالي وغيره من كافة القوانين الأخرى، فليس لانفراد البناء بالحكم أي مبرر، إذ أنه يمكن لغيره من الأشياء، أيًا ما كان نوعها أو طبيعتها، أن تهدد بدورها الناس بالخطر، كشجرة مائلة تنذر بالوقوع، أو كلب شرس لم يحكم صاحبه طريق الوقاية من أذاه.
الثانية: لم يقف المشروع عند حد جعل الالتزام باتخاذ التدابير اللازمة لدرء ضرر الشيء على مالكه، وإنما جعله أيضًا على حارسه، في الأحوال التي يكون فيها الحارس غير المالك، فكون الالتزام يثقل المالك وحده لا يعدو أن يكون أثرًا لفكرة قديمة تجاوزها الزمن، مؤداها أن المسؤولية عن ضرر الشيء تقع على مالكه، في حين أنها أصبحت اليوم على حارسه. فطالما أن حارس الشيء أصبح هو الذي يتحمل بالمسؤولية عما ينجم عنه من ضرر، وجب أن يتحمل بالالتزام باتخاذ التدابير التي من شأنها أن تمنع حدوث هذا الضرر منه. ومع ذلك فقد ارتأى المشروع أن يثقل أيضًا بالالتزام كاهل المالك إلى جانب الحارس، وهو بعد ذلك وشأنه مع هذا الأخير، وقد دعاه إلى ذلك ما لاحظه من أنه قد تتعذر معرفة الشخص الذي تكون له حراسة الشيء، في وقت لا يحتمل الكثير من التأخير.
الثالثة: أعفى المشروع الشخص الذي يتهدده الخطر، في حالة الاستعجال، من الحصول على إذن القاضي في اتخاذ ما يلزم من التدابير اللازمة لدرئه على نفقة حارسه ومالكه، تحقيقًا للمصلحة من وجه، وتمشيًا مع القواعد العامة في التنفيذ العيني للالتزام من وجه آخر.
ثانيًا: تعويض الضرر عن العمل غير المشروع:
ترسي المادة (245) الأصل العام بالنسبة إلى من يتولى تحديد التعويض في طبيعته ومداه، وتُلقي هذه المهمة على القاضي، إذا لم يتفق صاحبا الشأن – وهما المضرور والمسؤول على تحديده بنفسيهما.
فلا يوجد ثمة ما يمنع من أن يتفق المضرور والمسؤول على التعويض في طبيعته ومداه. فمثل هذا الاتفاق يقع صحيحًا، بشرط أن يجيء بعد قيام المسؤولية، لا قبله.
وتعرض المادة (246) لطبيعة التعويض الذي يحكم به القاضي، مقررة في الفقرة الأولى، أنه يكون بالنقد. على أن تقدير التعويض بالنقد لا يمنع القاضي من أن يستجيب لطلب المضرور في أن يكون التعويض عينيًا، كلما كان ذلك ممكنًا، فالتعويض العيني هو الأصل. وإن قام التعويض النقدي عنه بديلاً، فما ذلك إلا لأنه يقع متعذرًا في الغالب من الحالات. فإن تيسر وطالب المضرور به، جاز للقاضي أن يستجيب للمضرور، فيحكم له بأي أداء يكون من شأنه أن يصل به إليه، كأن يحكم له بإلزام المسؤول برد الشيء إلى أصله، أو أن يؤدي له عين ما غصبه منه أو شيئًا آخر يماثله أو أن ينشر في الصحف ما يكون من شأنه أن يعلم الناس بعدم صدق ما نسبه إليه، ردًا لاعتباره.
وتعرض المادة (247) لمدى التعويض الذي يحكم به القاضي وهي تقرر، في الفقرة الأولى، أن القاضي يقدر التعويض في مداه بالقدر الذي يراه جابرًا للضرر، وفق ما تحدده المادتان (230 و231).
فمقدار التعويض يتحدد بقدر ما لحق المضرور من خسارة وما فاته من كسب، إذا كان ذلك نتيجة طبيعية للعمل غير المشروع، بأن لم يكن في المقدور تفاديهما ببذل الجهد المعقول الذي تقتضيه ظروف الحال من الشخص العادي، وسواء بعد ذلك أن يكون الضرر ماديًا أو أدبيًا.
فإذا لم يتيسر للقاضي، عند الحكم، أن يحدد مدى الضرر بصفة نهائية، فإنه يجوز له، وفق ما تقضي به الفقرة الثانية، أن يحكم للمضرور بالتعويض عما تحقق بالفعل من عناصر الضرر، ويحتفظ له بالحق في أن يطالب مستقبلاً، في خلال مدة يحددها، بإعادة النظر في التقدير، ليشمل التعويض العناصر الأخرى التي يمكن لها أن تتحقق في تاريخ لاحق.
ويعرض المشروع، في المواد (248 إلى 251) للتعويض عن ذات إصابة النفس، مما تستحق عنه الدية وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية.
وتأتي المادة (248) لتقضي بأن هذا التعويض يتحدد بمبلغ جزافي يقدره القاضي سلفًا، وهو ما يتمثل في الدية الشرعية نفسها. والمشروع إذ يفعل ذلك، يخالف الأصل العام المقرر في القانون المعاصر المتمثل في ترك تحديد مقدار التعويض للمحكمة، لينحو منحى الفقه الإسلامي القاضي بأن يكون التعويض بقدر الدية، كاملة كانت أم في جزء منها. وهو عين الحكم الذي يقرره قانون تنظيم الالتزامات الناشئة عن العمل غير المشروع الكويتي الحالي (المادة 21)، ولم يرَ المشروع إلا أن يلتزمه ويسايره.
والتعويض عن ذات إصابة النفس يتحدد بالدية طبقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، وحاصل هذا، بادئ ذي بدء، أن ذاك التحديد لا يكون إلا حيثما تكون إصابة النفس مما يمكن أن تقوم عنها الدية أو الأرش، وفق ما تقضي به أحكام الشرع الإسلامي، وينص عليه جدول الديات الصادر بمرسوم، فإن التعويض عنها يكون وفق ما يقدره القاضي حسب ما يراه جابرًا للضرر، ويتفق هذا الحكم مع ما يقول به الفقه الإسلامي من أن في قطع الأعضاء والجراح التي تصيب الإنسان فتنقص من المنفعة أو الجمال، والتي لا يوجد فيها قصاص، وليس لها دية أو أرش مقدر شرعًا، تجب غرامة متروكة لتقدير القاضي، وتسمى حكومة العدل، مثال ذلك كسر غير السن من العظام وما كان بسيطًا من الخدوش والجراح وقد آثر المشروع أن ينحو نحو قانون تنظيم الالتزامات الناشئة عن العمل غير المشروع القائم، فلا يفرق في استحقاق الدية، باعتبارها تعويضًا عن ذات إصابة النفس، لجنس أو لسن أو لدين أو لجنسية أو لأي اعتبار آخر. فالناس كلهم في ذلك سواسية: المرأة كالرجل، والصغير كالكبير، والعظيم كالبسيط، والذمي كالمسلم، والعربي كغير العربي، والمشروع إذ يخالف في ذلك بعض ما ورد في أقوال فقهاء المسلمين، حين فرقوا في مقدار الدية بسبب الذكورة والأنوثة والدين والحرية، إلا أنه قد أدخل في اعتباره ما أخرجه البيهقي عن الزهري من أن دية النصراني واليهودي كانت مثل دية المسلم في زمن النبي وأبي بكر وعثمان، وأنها لم تنقص إلى النصف إلا في عهد معاوية، حيث أُخذ نصفها الآخر لبيت المال، ثم إنه قد روى عن ابن عليه وأبي بكر الأصم أنهما قالا: بخلاف رأي الجمهور، أن دية المرأة كدية الرجل مستندين إلى قول الرسول: (في النفس المؤمنة مائة من الإبل) دون تفرقة بين الرجل والمرأة.
والدية لا تتمثل تعويضًا إلا عن ذات إصابة النفس، وهي بهذه المثابة لا تمنع من التعويض، وفق ما يقدره القاضي، من كافة عناصر الضرر الأخرى، إن تواجدت كالضرر الناشئ عن القعود عن الكسب وفقد العائل ومصروفات العلاج والآلام حسية كانت أم نفسية، وغير ذلك كله من كافة صروف الأذى التي تلحق الناس في أنفسهم أو في أموالهم، وقد حرصت المادة (248) على أن تبرر هذا الحكم دفعًا لأية مظنة.
وتقرر المادة (249) أن الدية لا تدخل في الضمان العام لدائني المستحق، ما بقيت مستحقة له على من يلتزم بأدائها، وقد راعى المشروع في ذلك أن الدية تستحق إما عن إزهاق الروح، وإما عن إصابة تلحق الجسد، وهي بهذه المثابة تستحق عن أمور محض شخصية، فلا ينبغي أن يُسمح للدائنين أن تمد يدهم إليها، ابتغاء استيفاء ديونهم منها، طالما أنها لم تدفع بعد إلى مستحقها، ويترتب على إخراج الدية من الضمان العام المقرر للدائنين، طالما بقيت مستحقة لم تدفع، أن هؤلاء لا يستطيعون الحجز عليها لدى الملتزم بها، ولا أن يطالبوه بها باسم مدينهم ونيابة عنه بمقتضى الدعوى غير المباشرة، أما إذا دفعت الدية بالفعل لمن يستحقها، فإنها تختلط بأمواله، وتدخل بذلك في الضمان العام لدائنيه.
وتظهر أهمية الحكم الذي تقرره المادة (249) على وجه الخصوص، في حالة استحقاق الدية عن إزهاق الروح، حيث تتمثل تركة يتقاسمها الورثة دون أن يكون لدائني المصاب أن يستوفوا منها ديونهم.
وتقضي المادة (250) بأن الدية التي تستحق عن فقد النفس تعتبر تركة يتقاسمها الورثة وفقًا لأنصبائهم الشرعية، وهو الحكم الذي يقول به الفقه الإسلامي، اعتبارًا بأن الدية المستحقة للمتوفى عن وفاته تدخل في ماله، وقد سبق لقانون تنظيم الالتزامات الناشئة عن العمل غير المشروع أن ساير هذا الحكم (المادة الأولى)، ولم يشأ المشروع إلا أن يلتزمه.
ويأتي المشروع في المادة (251) ليعرض لمقدار الدية، محددًا إياه بعشرة آلاف دينار. وإذا كان الأصل في الدية أنها تتحدد وفق أحكام الشرع الإسلامي بمائة من الإبل، فليس يوجد في ظل هذا الشرع الأغر، ثمة ما يمنع أن يتحدد مقدارها بالنقود.
وقد أجاز المشروع تعديل مقدار الدية النقدي الذي حدده بغية إتاحة الفرصة في التمكين من جعله متمشيًا دومًا مع مستوى الأسعار. وتعديل مقدار الدية النقدي مبدأ مسلم في الفقه الإسلامي، ودليل ذلك ما روي من أن الدية كانت في عهد الرسول، عليه أفضل صلوات الله، ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم، وأنها بقيت كذلك حتى استخلف عمر، فرأى أن أثمان الإبل قد ارتفعت، فزاد الدية إلى ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم (المهذب ج 2 ص 210) وقد آثر المشروع أن يجعل تعديل مقدار الدية بمرسوم، توخيًا للسرعة واليسر في إجرائه.
وقد أجاز المشروع، في الفقرة الثانية من المادة (251) أن يصدر بمرسوم جدول للديات وفق أحكام الشرع الإسلامي، تتحدد بمقتضاه حالات استحقاق الدية كليًا أو جزئيًا. وقد آثر أن يسلك هذا السبيل لما لاحظه من أن الأمر يستدعي تفصيلات يضيق عنها القانون.
وتعرض المادة (252) للصورة التي يمكن للقاضي أن يحكم بأن يؤدي المسؤول التعويض عليها. فإلى جانب الصورة العادية التي يجيء عليها أداء الحكم بالتعويض، والمتمثلة في إلزام المسؤول بأدائه فورًا ومنجزًا، فإنه يسوغ للقاضي أن يحكم بأداء التعويض على أقساط معينة يحددها. كما أن له أن يحكم بأداء التعويض على هيئة إيراد يرتب للمضرور لمدة معلومة أو لمدى الحياة.
وإذا حكم القاضي بأن يكون أداء التعويض على أقساط أو في صورة إيراد مرتب، فإنه يجوز له، إذا رأى لذلك مقتضيًا، أن يحكم بإلزام المسؤول بتقديم تأمين كافٍ يضمن للمضرور استيفاء ما أجل من التعويض.
وتواجه المادة (253) المدة التي ينبغي أن ترفع خلالها دعوى المسؤولية عن العمل غير المشروع، وهي ترسي، في الفقرة الأولى، الأصل العام المتمثل في وجوب رفع تلك الدعوى خلال ثلاث سنوات تبدأ من وقت علم المضرور بالضرر الحاصل له وبمن يجعله القانون مسؤولاً عن تعويضه، أو خلال الخمس عشرة سنة التالية لوقوع العمل الضار، أي المدتين أقصر. فإذا لم تُرفع الدعوى خلال أي من هاتين المدتين الأقصر وبعبارة أخرى أي من هاتين المدتين تنقضي أولاً، فإنها تسقط إذا تمسك بذلك المسؤول بطبيعة الحال.
وتورد المادة (253) في فقرتها الثانية، استثناء على الأصل العام الذي تقرره في فقرتها الأولى في صدد دعوى المسؤولية عن العمل غير المشروع الذي يتمثل في نفس الوقت جريمة جنائية، قاضية بارتباط المسؤولية المدنية بالمسؤولية الجنائية في هذه الحالة، بحيث تبقى الأولى ما بقيت الثانية قائمة، حتى لو انقضت المدة المحددة لها بحسب الأصل.
والحكم الذي يقرره المشروع، في المادة (253) يتفق في مجموعه مع ما تقضي به المادة (32) من قانون الالتزامات الناشئة عن العمل غير المشروع الحالي، وإن كان المشروع قد أدخل عليها بعض التعديلات في الصياغة والمضمون اقتضتها الملاءمة.
ويعرض المشروع في المادة (254) لاتفاقات الإعفاء من المسؤولية عن العمل غير المشروع، مقررًا بطلانها، سواء أكان الإعفاء كليًا أم جزئيًا، كلما كان الاتفاق حاصلاً قبل قيام المسؤولية ذاتها، وهو في ذلك ينحو منحى القانون المصري (المادة 217/ 3) وغيره من قوانين البلاد العربية الأخرى التي سارت على نهجه، ومن بينها قانون التجارة الكويتي (المادة 219/ 3).
على أن الذي يبطل هو الاتفاق الذي يُعفى كليًا أو جزئيًا من المسؤولية عن العمل غير المشروع والذي يبرم قبل قيامها. فإن جاء الاتفاق بعد قيام المسؤولية بالفعل، فإنه يقع صحيحًا لأنه، في مثل هذه الحالة، لا يعدو أن يكون نزولاً من المضرور كليًا أو جزئيًا عن حقه في التعويض بعد وجوده، والنزول عن الحق بعد قيامه يقع صحيحًا، طالما توافرت فيه الشروط التي تقتضيها القواعد القانونية العامة.
الفرع الثاني - ضمان أذى النفس:
المواد (255 - 261):
يستهدف المشروع بالأحكام التي يوردها في باب ضمان أذى النفس، الحفاظ على الدم المسفوك من أن يضيع هدرًا، بحيث يضمن للمصاب دمه، في الأحوال التي تقعد فيها أحكام المسؤولية عن العمل غير المشروع عن التعويض عنه، وذلك ما لم يكن المصاب قد عمد إلى إهدار دمه بنفسه أو صدر منه ما يتدنى إلى مرتبته، وما لم يكن الشخص قد أحدث بغيره الضرر حالة كونه يدافع شرعًا عن نفسه أو ماله أو عن نفس الغير أو ماله.
والمشروع إذ يستهدف تلك الغاية، يروم أن يتجاوب مع أحكام الشريعة الإسلامية الغراء، فيما تضمنته من مبدأ أساسي هام، تركز في القول المأثور عن على بن أبي طالب كرم الله وجهه (لا يطل دم في الإسلام).
وإذا كانت القواعد التقليدية في ظل القانون المعاصر، والتي ما فتئت قوانين أكثر بلادنا العربية تلتزمها، تقف في تقرير المسؤولية عن الدم المسفوك عند الحالة العادية التي تكون نتيجة خطأ يقع من شخص معلوم أو ما هو في حكم الخطأ، فإن المشروع تعدى ذلك ليعرض لحالة أخرى شائعة في واقع الحياة وهي التي يُسفك فيها الدم بفعل شخص معلوم، ولكن من غير أن يقع منه خطأ أو ما هو في حكمه، مقررًا الجزاء على من يكون قد باشر سفك الدم، لمجرد أنه باشره، على أن المشروع هنا، إذ يقرر تحميل المباشر بغرم الدم المسفوك، فهو يقصر حكمه على من يكون قد باشر الضرر بشيء مما يتطلب لخطورته على الناس عناية خاصة كالسيارات ونحوها من المركبات بل وغير ذلك من كل شيء خطر آخر، كما يقصر الجزاء على ما يكون للضرر الناشئ عن الإصابة في النفس ذاتها، وقد أراد بذلك أن يبقى مسايرًا لقانون العمل غير المشروع الكويتي الحالي، وكذلك فإنه يتمشى في هذا الخصوص، مع القاعدة الأصيلة التي تسود نظام الضمان في الفقه الإسلامي، ومؤداها أن المباشر ضامن ولو لم يتعمد أو يتعدَ، وإن لم يطابقها.
ولم يرد المشروع أن يقف عند الخطوة التي خطاها القانون الكويتي الحالي، على جليل خطرها وعظيم نفعها، بل آثر أن يسير في طريق ضمان الدم المسفوك خطوة أخرى لا تقل عن الخطوة التي سبقتها أهمية ولا نفعًا، وتتركز هذه الخطوة الجديدة في وجوب ضمان الدم المسفوك في الحالة التي يبقى فيها المسؤول أو الضامن مجهولاً، ويتعذر بذلك على صاحبه الوصول إلى جبره تعويضًا أو ضمانًا، وهي حالة من المؤسف أن تكون شائعة الوقوع في دولة الكويت، شأنها في هذا شأن غيرها من بلاد الدنيا قاطبة، والإحصاءات الرسمية على ذلك خير شهيد.
والمشروع، إذ يعمد إلى ضمان الدم المسفوك، عندما يتعذر على صاحبه الوصول إلى جبره تعويضًا أو ضمانًا، بسبب عدم الوصول إلى معرفة المسؤول أو الضامن، فهو لا يفعل أكثر من أن يساير التشريع الإسلامي الأغر فيما يقضي به من التزام بيت المال بدفع دية من يتعذر معرفة المسؤول عن دمه قصاصًا أو دية.
وإذا كان من الممكن أن تقوم الدولة بالتعويض عما يصيب الناس من أضرار، إذا تعذر الوصول إلى معرفة المسؤول عنه، سواء ألحقت هذه الأضرار النفس أم المال، إلا أن المشروع آثر مع ذلك أن يقنع اليوم، شأنه في ذلك شأن غيره من كثير من القوانين الحديثة في أوروبا وأمريكا وأستراليا، بالوقوف عند الضرر الذي يلحق النفس، وهو الأخطر والأهم، حتى إذا ما استقر المبدأ واستوعبته حضارة الجيل، أمكن بعد ذلك النظر في تعميمه.
وتبسط المادة (255) القاعدة العامة في ضمان أذى النفس، مما يستوجب الدية وفقًا لأحكام الشرع الإسلامي وما يتضمنه جدول الديات، ملقية غرمه على من يكون قد باشره، وهي في ذلك عمدت إلى أن تساير الفقه الإسلامي، مستلهمة منه قاعدته الأساسية التي تسود نظام الضمان فيه، ومؤادها أن المباشر ضامن ولو لم يتعمد أو يتعدَ.
وإذا كانت المادة (255) قد لجأت إلى الفقه الإسلامي تغرف من معينه الفياض قاعدة أن المباشر ضامن ولو لم يتعمد أو يتعدَ، إلا أنها لم تعمل هذه القاعدة على إطلاقها، فقد قصرتها على أذى النفس دون تلف المال بل على ما تجب فيه الدية من أذى النفس دون غيره مما عداه من صروفه. ثم أنها تطلبت لإعمالها أن يكون الضرر قد بُوشر بشيء من الأشياء التي تتطلب لخطورتها عناية خاصة ممن يتولى أمرها، كسيارة ونحوها. وفضلاً عن هذا الأمر وذاك، فإن المشروع، في المادة (258) قد قيد تطبيق القاعدة الإسلامية العريقة، شأنها في ذلك شأن حالات ضمان أذى النفس الأخرى، بعدم وقوع الضرر نتيجة تعمد المصاب إلحاق الأذى بنفسه، أو نتيجة سوء سلوك فاحش ومقصود من جانبه. والمشروع، إذ يجعل إعمال قاعدة أن المباشر ضامن ولو لم يتعمد تحت ظله، في حدود هذه القيود الثلاثة السابقة، لم يفعل إلا أن يساير قانون تنظيم الالتزامات الناشئة عن العمل غير المشروع الحالي، فيما قضت به المادة (19) مكرر منه.
وإلى جانب تلك القيود الثلاثة، صرح المشروع بقيد آخر، فتطلب لثبوت الضمان، ألا يكون مباشر الضرر قد آتاه وهو ملتزم حدود الدفاع الشرعي عن نفسه أو ماله أو عن نفس الغير أو ماله. وقد حدت به إلى التصريح بهذا القيد رغبته في أن يتمشى مع تلك القاعدة الإسلامية العريقة القاضية بأن الجواز ينافي الضمان.
وإذا كان من شأن إعمال المادة (255) أن يتقرر ضمان أذى النفس على المباشر، وكان مؤدى هذا الضمان، وفقًا لما تقرره المادة (258) من المشروع، أن يقتصر الجزاء على الدية وحدها، كاملة كانت أم في جزء منها، فإن المضرور قد يرى مصلحته في الرجوع بدعوى المسؤولية عن العمل غير المشروع، إذا توافرت في شأنه مقوماتها، وبهذه المثابة تتمثل دعوى ضمان أذى النفس المنصوص عليها في المادة (255) مجرد دعوى احتياطية تسعف المضرور، في نطاقها الضيق المحدود، حيث تقصر أحكام المسؤولية عن العمل غير المشروع عن أن تصل به إلى التعويض الكامل الشامل. ولكن الاحتياط هنا من جانب المشروع. وليس يوجد ما يمنع المضرور من أن يلجأ إلى دعوى الضمان عن أذى النفس على أساس المباشرة، حتى لو كان في مكنته الرجوع بدعوى المسؤولية عن العمل غير المشروع، إذا ارتأى هو ذلك. فمن يملك الأكثر يملك الأقل. وهذا ما حدا بالمشروع إلى أن يبعد، من صياغة نص المادة (255) العبارة التي تضمنتها المادة (19) مكرر من قانون العمل غير المشروع الحالي، والتي مؤداها أن حكمها لا يطبق إلا إذا لم تتوافر شروط المسؤولية التقصيرية بعد أن أثارت بعض اللبس في أحكام القضاء الكويتي.
وأساس إعمال حكم المادة (255) هو مباشرة الضرر، وقد حرص المشروع على ألا يعرض لتعريف المباشر، حتى يترك باب الاجتهاد في خصوصه مفتوحًا على مصراعيه، من غير قيد أو توجيه. وإنما ينبغي هنا أن يكون الاجتهاد في إطار الفقه الإسلامي، اعتبارًا بأنه المصدر التاريخي فإنه مما يعرض للزلل أن يفسَّر حكم استُقِي من الفقه الإسلامي على ضوء قواعد أو نظريات ترتد إلى القانون المعاصر وهو عنها غريب.
ويعرض المشروع، في المادة (256) للحالة التي يقع فيها الضرر على النفس، مما يستوجب الدية وفقًا لأحكام الشرع الإسلامي وما يتضمنه جدول الديات المنصوص عليه في المادة (251) ويتعذر فيها على المضرور الرجوع بالمسؤولية أو بالضمان، لعدم معرفة المسؤول أو الضامن، ليلقي فيها غرم الضمان على الدولة، ما لم يثبت أن المصاب أو أحدًا من ورثته قد أدى بخطئه إلى عدم معرفة المسؤول أو الضامن على حسب الأحوال، وبهذا الحكم تتمثل الدولة الملاذ النهائي لضمان الدم المسفوك، وهو من بعد حكم يتمشى مع ما يقضي به الشرع الإسلامي من أن بيت المال يضمن، حيث لا يُعرف من يتحمل بالقصاص أو الدية، اعتبارًا بأنه لا يطل دم في الإسلام.
وتقرر المادة (256) في فقرتها الثانية، سقوط دعوى الضمان التي ترفع على الدولة بمرور ثلاث سنوات من وقت وقوع الحادث.
وتضع المادة (257) قيدًا عامًا على جميع حالات ضمان أذى النفس، مؤداه أن هذا الضمان لا يُستحق، إذا أثبت المدعى عليه أن المضرور قد تعمد إصابة نفسه، أو أن الإصابة قد لحقته نتيجة سوء سلوك فاحش ومقصود من جانبه. ولهذا القيد مسوغه، فالشخص الذي يتعمد أن يلحق بنفسه الأذى يُعتبر أنه أهدر دمه بنفسه، فلا يتوجب الرجوع على غيره بضمانه. ويأخذ حكم العمد سوء السلوك الفاحش المقصود، وهو خطأ يتدنى إلى حد يجعله غير مُغتفر.
وتعرض المادة (285) للجزاء المترتب على ضمان أذى النفس في جميع حالات وجوبه، قاصرة إياه على الدية كاملة كانت أم في جزء منها، على حسب الأحوال، ووفقًا لأحكام الشرع الإسلامي، وما يتضمنه جدول الديات، ومع مراعاة تحديد مقدار الدية الكاملة على نحو ما تقضي به المادة (251).
وتحفظ المادة (259) للمضرور حقه في الرجوع بدعوى المسؤولية عن العمل غير المشروع، إذا توافرت شروطها، ليستوفي التعويض عن عناصر الضرر الأخرى غير إصابة النفس التي يكون قد أخذ الدية عنها، وذلك ما لم يثبت أنه، باقتصاره على طلب الدية، قد نزل عن حقه في الرجوع بالتعويض عن غير إصابة النفس من صروف الضرر.
وتظهر فائدة الحكم الذي تتضمنه المادة (259) على وجه الخصوص، في الحالة التي يقنع فيها المضرور مؤقتًا بدعوى الضمان، بسبب تعذر معرفة من يتحمل بالتعويض الكامل إعمالاً لأحكام المسؤولية عن العمل غير المشروع، ثم يتوصل إلى معرفته. ففي مثل هذه الحالة، يستطيع المضرور أن يرجع بدعوى المسؤولية، طالبًا جبر كل صروف الضرر، باستثناء إصابة النفس التي أخذ الدية عنها، حيث يحل من أداها له محله فيها، وفقًا لحكم المادة (260).
وتعرض المادة (260) للحالة التي تقوم فيها الدولة بدفع الدية للمضرور إعمالاً لحكم المادة (256) معطية إياها حق الحلول القانوني محل المضرور في استيفائها ممن يلتزم بها.
وتمنح المادة (260) في فقرتها الثانية حق امتياز الخزانة العامة للمبلغ الذي ترجع به الدولة على المسؤول، في مقابل الدية التي تكون قد دفعتها للمضرور، وذلك مراعاة للمصلحة العامة.
ويُخضع المشروع في المادة (261) ضمان أذى النفس لأحكام المسؤولية عن العمل غير المشروع التي أوردها في المواد من (227 إلى 254) فيما لا يتعارض مع الأحكام التي خصها هو به
الفصل الرابع: الفعل النافع أو الإثراء دون سبب على حساب الغير:
المواد (262 – 278):
أخذ قانون التجارة الكويتي عن القانون المصري بنظام الإثراء دون سبب، كمصدر عام منشئ للالتزام، ويأخذ المشروع بدوره بذلك النظام أيضًا باعتباره مصدرًا عامًا منشئًا للالتزام على نفس المستوى مع العقد والفعل الضار، بادئًا بتقريره كنظرية عامة منطلقة التطبيق، ليتناول بعد ذلك صورتين خاصتين له، وهما تسلم غير المستحق والفضالة.
وتعرض المادة (262) لنظام الإثراء دون سبب، أو نظام الإثراء غير المشروع، كما يطلق عليه في بعض الأحيان، فتُقر فكرته وتركز شروطه وأثره. فهي من ناحية أولى، ترسي مبدأ عامًا مؤداه أن كل من يُثرى على حساب غيره، بدون سبب مشروع، يلتزم بأن يؤدي له، في حدود ما أُثرِي هو به، ما يرفع الخسارة عنه. وهي من ناحية ثانية، تركز شروط إعمال نظام الإثراء دون سبب وأثره فهي تتطلب لإعماله إثراء شخص معين يصبح بسبب هذا الإثراء، مدينًا بالالتزام الذي ينشأ، وافتقار شخص آخر، يصبح دائنًا بالالتزام، بما يرفع عنه هذا الافتقار ولو جزئيًا، وتوافر علاقة ارتباط أو تقابل بين الإثراء والافتقار، على نحو يمكن معه القول إنه لولا هذا لما كان ذاك، وانتفاء السبب المشروع الذي يبرر الإثراء والافتقار.
ولا تُشترط أهلية ما فيمن يثُرى أو فيمن يفتقر. فكل منهما يصير مدينًا أو دائنًا نتيجة مجرد واقعة قد حصلت، هي واقعة إثراء أو واقعة افتقار. والأهلية لا تُلتزم في الوقائع وإنما في التصرفات فحسب.
ولا يحول دون نشأة الالتزام، أن يزول الإثراء بعد حصوله طالما أن زواله لا يعزى إلى من افتقر. فما دام الإثراء قد حصل بالفعل فإن الالتزام يترتب من وقت حصوله ويتقدر مداه في حدوده، حتى لو زال هذا الإثراء كله أو بعضه، في تاريخ لاحق ويساير المشروع في ذلك قانون التجارة الكويتي ومن قبله القانون المصري وغيره من القوانين العربية التي استوحته.
ويترتب على الإثراء على حساب الغير بدون سبب مشروع نشأة الالتزام في ذمة المثري لصالح المفتقر، بما يرفع عن هذا الأخير افتقاره، في حدود ما عاد من نفع على غريمه. وهكذا تتحدد دعوى الإثراء بمقدار ما عاد على المثري من نفع، وما لحق المفتقر من خسارة، أي القيمتين أقل.
وتعرض المادة (263) لوقت رفع دعوى الإثراء، مقررة أنها تسقط بانقضاء ثلاث سنوات من يوم علم المفتقر بحقه في التعويض، أو بانقضاء خمس عشرة سنة من وقت نشأة هذا الحق، أي المدتين أقرب. وعلم المفتقر بحقه في التعويض يتضمن بطبيعة الحال معرفته بمن يسوغ له الرجوع به عليه.
حظي نظام تسلم غير المستحق من المشروع بالكبير من اهتمامه، شأن المشروع في ذلك شأن قوانين عديدة في البلاد المختلفة، ومن بينها قانون التجارة الكويتي الحالي، وإذا كان المشروع قد أضفى على النظام اسم (تسلم غير المستحق) فهو لم يغفل عن أنه كثيرًا ما يُطلق عليه في الفكر القانوني اسم (دفع غير المستحق) أو (دفع ما لا يجب). فهو يطرح هذه التسمية الأخيرة إذ أنها تنظر إلى الأمور من زاوية الدافع الذي يقع ضحية الافتقار. وذلك في حين أن الذي يولد الالتزام بالرد هو تسلم القابض للشيء، اعتبارًا بأنه ينهض إثراءً له. ومن هنا كانت الأفضلية لاصطلاح (تسلم غير المستحق) أو (أخذ غير المستحق). وهو ما يتسق على وجه أدق وأوفى من ذاك الذي يضفي على النظام المبدأ: (الإثراء دون سبب). وقد شجع المشروع على ما انتهجه ما لاحظه من بدء شيوع التسمية التي تخيرها في الفكر القانوني المعاصر.
وترسي المادة (264) الأصل العام لنظام تسلم غير المستحق، قاضية بأن كل من تسلم شيئًا لا يكون مستحقًا له يلتزم برده.
والمقصود بالاستحقاق هنا ليس هو استحقاق الشيء ذاته للمتسلم، وإنما استحقاق تسلمه. فقد يكون الشيء مستحقًا في ذات نفسه لمن تسلمه، ومع ذلك يلتزم هذا برده، إذا لم يقع تسلمه إياه على النحو القانوني السليم، كما لو وقع الوفاء باطلاً بسبب انعدام أهلية الموفي، أو كان هذا الوفاء غير نافذ في مواجهة دائني المتسلم، بسبب إعمال دعوى عدم نفاذ التصرفات أو بسبب حصول الوفاء بعد الحكم بشهر الإفلاس.
والعبرة بالنسبة إلى عدم الاستحقاق هي بالنظر إليه من زاوية المتسلم، لا من زاوية الدافع، فإذا كان الشيء مستحقًا أخذه للمتسلم، فإنه لا يلتزم برده، حتى لو كان أداؤه غير واجب أصلاً على الدافع، كما لو قام هذا الأخير بدفع دين على غيره، على بينة من أمره، أي حالة كونه يعلم بأنه يدفع للقابض دينًا له على الغير.
وإذا كان الشيء غير مستحق تسلمه، فلا أهمية بعد ذلك لما إذا كان عدم الاستحقاق هذا راجعًا إلى الأمر الواقع نفسه، كما إذا استوفى المستلم دينًا ليس له أصلاً أو أخذ أكثر مما يستحق، أو كان عدم الاستحقاق ناجمًا عن اعتبار قانوني، كما هو الشأن عندما يتسلم الشخص شيئًا على أساس عقد باطل أو يتقرر إبطاله أو فسخه أو انفساخه.
وتسلم غير المستحق كافٍ كأصل عام لتحمل المتسلم بالالتزام بالرد، اعتبارًا بأن هذا الأخير يثُرى بغير وجه حق على حساب الغير بما يتسلمه. والمشروع إذ يقرر ذاك، قاصرًا المادة (264) عليه لم يغفل عن الفكرة التي تواجدت من قديم والتي تتطلب لقيام الالتزام بالرد، أن يكون الدافع قد دفع عن غلط، معتقدًا، بخلاف الحقيقة، بأنه يدفع دينًا واجبًا عليه اعتبارًا بأنه إذا كان قد دفع عن بينة من الأمر، أي على علم بأنه غير ملزم بما يدفع، فإنه يسوغ تفسير هذا منه على أنه قد قصد إما التبرع بما دفع، أو أداء التزام طبيعي عليه، أو دفع دين على غيره. وفي هذه الحالات يمتنع الاسترداد عليه قانونًا. لأن المتسلم يكون له حق فيما يأخذ. وهي فكرة تأثر بها القانون المصري (المادة 181/ 2) ومن بعده القوانين العربية الأخرى التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي (المادة 181/ 2).
على أن اشتراط الغلط في الدافع أصبح مضللاً الآن، بعد أن اتسع نظام (تسلم غير المستحق)، وأصبح يشمل إلى جانب تسلم شيء غير مستحق ماديًا، أي من حيث الواقع، تسلم شيء غير مستحق لمحض اعتبار قانوني، كبطلان التصرف الذي وقع التسليم بمقتضاه أو إبطاله أو انفساخه أو فسخه، فتطلب غلط الدافع يقع غير ذي موضوع في هذا المجال.
بل إن اشتراط غلط الدافع ليست له في الحقيقة أية جدوى حتى في مجال تسلم الشيء الذي لا يكون مستحقًا ماديًا، أي من حيث الواقع، لأن الذي يدخل في الاعتبار، في مجال (تسلم غير المستحق) ليس هو نية الدافع أو اعتقاده، وإنما هو أحقية المتسلم فيما يأخذ أو عدمها، فإذا أمكن حمل علم الدافع بأنه غير ملزم بما دفعه على أنه أراد بذلك، وعلى نحو قانوني سليم، التبرع بما أدى أو الوفاء بالتزام طبيعي، أو دفع دين على غيره، فإن دعوى الاسترداد تمتنع عليه، لا تأسيسًا على أنه لم يدفع عن غلط وإنما تأسيسًا على ثبوت الحق للمتسلم فيما أخذ.
وتعرض المادة (265) للحالة التي يقوم فيها المدين بأداء دين عليه حقيقة، ولكنه يؤديه قبل حلول أجل استحقاقه على جهل منه. ومؤدى نظام تسلم غير المستحق، لو أنه أُخذ على إطلاقه، أن يلتزم الدائن بأن يرد للمدين ما استوفاه منه، ليعود بعد ذلك ويسترجعه عند حلول الأجل، ولقد آثر المشروع أن يرخص هنا للدائن بأن يُبقي على ما استوفاه من الدين، على أن يدفع للمدين قيمة ما استفاده نتيجة قبضه الدين قبل أوانه، وذلك في حدود ما لحق المدين من ضرر نتيجة التبكير في أدائه دينه. والحكمة التي توخاها المشروع من ذلك تتمثل في رغبته في إسلاس التعامل والبعد به عن التعقيد، وهذا الحكم مستمد في أصله من المادة (183) من قانون التجارة الكويتي ومصادره التشريعية.
وتواجه المادة (266) صورة أخرى، وهي حالة الدائن الذي يأخذ قيمة دينه من غير المدين، حالة كون هذا الأخير معتقدًا أنه يؤدي دينًا على نفسه فيقوم الدائن، مدفوعًا بأنه استوفى دينه استيفاءً صحيحًا، بتجريد نفسه من سند الدين، أو مما كان يضمن الدين من تأمينات، أو بترك دعواه قِبل المدين الحقيقي المدة التي لا تسمع بعد فواتها.
ومؤدى القواعد العامة، في مثل هذه الحالة، أن الوفاء يقع باطلاً، لعدم استناده إلى سبب، الأمر الذي من شأنه أن يترخص للدافع أن يسترد من القابض ما دفعه إياه، حتى لا يثُرى هذا الأخير على حسابه بدون سبب مشروع، اعتبارًا بأن دينه على مدينه الحقيقي له ينقضي بالوفاء. ولكن المادة (266) تمنع الدافع هنا من الرجوع على الدائن، اعتبارًا بأن حق هذا الأخير على مدينه الحقيقي بات معرضًا لخطر الضياع، فكأن إثراءه غير مؤكد.
على أنه يُشترط هنا أن يكون الدائن قد أجرى العمل الذي يهدد بالضياع حقه على مدينه وهو حسن النية، أي معتقدًا بصحة الوفاء. إذ أنه في هذه الحالة وحدها يكون للدائن عذر واضح عما فعل، والدافع بعد ذلك وشأنه مع من أدى عنه دينه، حيث يكون له أن يرجع عليه بدعوى الإثراء.
والمادة (266) متوافقة في حكمها مع المادة (184) من قانون التجارة الكويتي الحالي والمادة (184) من القانون المدني المصري، وإن تضمنت تعديلاً في الصياغة اقتضته الملاءمة.
ويعرض المشروع، في المادة (267) لمضمون الالتزام بالرد الذي تنشغل به مسؤولية من يتسلم غير المستحق، وهو في ذلك ينحو منحى قانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 185) والقانون المصري الذي استوحاه (المادة 185) فيفرق تفريقًا أساسيًا بين ما إذا كان القابض حسن أو سيئ النية.
فإن كان الفرض الأول، فإن القابض لا يلتزم بأن يرد إلا ما تسلمه بالفعل، دون ما عساه أن يكون قد أخذه من ثماره. فالثمار هنا تكون للقابض تأسيسًا على حيازته للشيء بحسن نية، وهو حكم تقضي به القواعد العامة في الحيازة.
أما إذا كان القابض سيئ النية، كما إذا كان يعلم بأنه يأخذ شيئًا غير مستحق له، فإنه يلتزم بأن يرد إلى جانب الشيء الذي قبضه الثمار التي جناها منه أو التي قصر في جنيها، وذلك من يوم تسلمه الشيء إذا كان يومئذٍ سيئ النية، أو من التاريخ الذي يصبح فيه سيئ النية إذا كان ذلك أمرًا طارئًا، وهو يلتزم على أية حال برد الثمار التي جناها أو تلك التي قصر في جنيها من يوم رفع الدعوى عليه برد الشيء، إذا قُضي له به، اعتبارًا بأنه يُعتبر سيئ النية من هذا التاريخ، وفقًا للقواعد العامة.
وتعرض المادة (268) لحالة خاصة من حالات تسلم غير المستحق، وهي تلك التي يكون فيها المتسلم غير مكتمل الأهلية، سواء أكان عديمها أو ناقصها، لتقضي أن المتسلم لا يكون ملتزمًا بالرد إلا في حدود ما عاد عليه من نفع معتبر قانونًا. وقد راعى المشروع في تقرير هذا الحكم أن المتسلم في الحالة المعنية، لا يقدر أصلاً، أو لا يقدر تقديرًا سليمًا، عواقب تسلمه ما لا حق له فيه، ثم إن هذا الحكم لا يعدو أن يكون تمشيًا مع المبدأ العام القاضي بأنه عند بطلان التصرف أو إبطاله، لا يتحمل من لا تتوافر فيه الأهلية بالالتزام بالرد إلا في حدود ما عاد عليه من نفع معتبر قانونًا، وهو مبدأ سبق للمشروع أن قننه في المادة (188).
أما المدة التي تسقط بعد فواتها دعوى استرداد ما دفع بغير وجه حق، فهي ثلاث سنوات من اليوم الذي يعلم فيه المدعي بحقه في الاسترداد أو بانقضاء خمس عشرة سنة من اليوم الذي ينشأ فيه هذا الحق، أي المدتين أقرب، وهو الحكم الذي سبق للمشروع أن قرره في صدد دعوى الإثراء بوجه عام (المادة 263).
ثانيًا: الفضالة:
ويضمن المشروع أحكام الفضالة المواد من (269 إلى 278) وهي أحكام لا تخرج في عمومها عن تلك التي يقضي بها قانون التجارة الكويتي الحالي (المواد من 187 إلى 195) والقانون المصري الذي استوحاه (المواد من 188 إلى 197).
تبدأ المادة (269) ببيان مقومات الفضالة التي لا تكون بغير توافرها، فتتطلب في فقرتها الأولى، قيام الفضولي بأمرٍ عاجل ومن ثم ضروري لحساب شخص غيره، عن قصد منه لمنفعته، من غير أن يكون ملزمًا بذلك قانونًا، أي من غير أن يكون ملزمًا بأداء ما فعل امتثالاً لأمر يُلزمه به نص في القانون أو شرط في العقد أو حكم من القضاء.
وإذا كانت الأمور السابقة تتمثل المقومات الحقة للفضالة إلا أن المشروع، محتذيًا في ذلك حذو قانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 187/ 2) وحذو القانون المصري (المادة 189/ 2) قد اعتبر في الفقرة الثانية من المادة (271) في حكم الفضالة، تولي الشخص شأن غيره أثناء توليه شأن نفسه، لما بين الشأنين من ترابط لا يمكن معه القيام بأحدهما دون الآخر.
وتعرض المادة (270) للحالة التي يقر فيها رب العمل ما قام به الفضولي، قاضية بسريان قواعد الوكالة في صدد ما قام به. وهذا الحكم لا يعدو أن يكون تطبيقًا لمبدأ أن الإقرار اللاحق كالوكالة السابقة.
على أن سريان قواعد الوكالة هنا يكون بطبيعة الحال في العلاقة بين الفضولي ورب العمل، أما بالنسبة إلى الغير الذي يكون الفضولي قد تعاقد معهم بصفته الشخصية، فيترخص لهم أن يعتبروا أن تعاملهم قد قام مع الفضولي باعتبار شخصه أو مع رب العمل باعتبار أن الفضولي كان وكيلاً عنه على حسب الأحوال.
وتفرض المادة (271) على الفضولي الالتزام بأن يمضي في العمل الذي بدأه إلى أن يتمكن رب العمل من أن يتولاه بنفسه، ما لم يكن هو قد أنهاه قبل ذلك، كما يفرض عليه أيضًا الالتزام بأن يبادر بإخطار رب العمل بتدخله في شأنه، عندما يتيسر له إجراء هذا الإخطار.
وتفرض المادة (272) على الفضولي التزامًا بأن يبذل في القيام بالعمل، الذي شاء لنفسه أن يتولاه، عناية الشخص العادي، حتى إذا ما قصر في بذل تلك العناية اعتبر مخطئًا، وحقت عليه المسؤولية عن تعويض الضرر الناجم عن خطئه.
وإذا كان المشروع قد أخذ الفضولي بعناية الشخص العادي، وحمله بالمسؤولية إن لم يبذلها، إلا أنه، نظرًا لعامل العجلة في تولي الأمر، واعتبارًا بخيرية الفضولي ونبيل قصده في التصدي لأمر يستهدف به نفع غيره دون إلزام عليه، فقد سوغ للقاضي في الفقرة الثانية من المادة (272) أن ينقص من مقدار التعويض المترتب على خطأ الفضولي أو أن يعفيه منه إذا رأى أن الظروف تبرر ذلك.
وتجيء المادة (273) لتقرر مسؤولية الفضولي، في مواجهة رب العمل، عن أعمال الغير الذين يكون الفضولي قد عهد إليهم بالقيام بشأن من شؤون رب العمل، وذلك دون إخلال بحق رب العمل نفسه في الرجوع مباشرة على هؤلاء الغير وفق ما تقضي به قواعد القانون.
وتقرر المادة (274) على الفضولي التزامًا بأن يرد لرب العمل كل ما يأخذه بسبب الفضالة، وبأن يقدم له حسابًا عما قام به من أعمال، وذلك على نحو ما يلتزم به الوكيل قبل الموكل.
وتعرض المادة (275) لحالة وفاة الفضولي ووفاة رب العمل، فتقرر في فقرتها الأولى أنه، في حالة وفاة الفضولي، يلتزم ورثته إزاء رب العمل، بما يلتزم به ورثة الوكيل إزاء الموكل، أما في حالة وفاة رب العمل فإن مركز الفضولي لا يتغير. ولذلك تقرر الفقرة الثانية بقاء الفضولي ملتزمًا نحو ورثة رب العمل بما كان ملتزمًا به نحوه.
وتعرض المادة (276) للصفة التي يخلعها القانون على الفضولي في قيامه بالعمل الذي يؤديه، قاضية بثبوت صفة النيابة له عن رب العمل.
وهكذا يعتبر الفضولي نائبًا عن رب العمل، سواء أقر هذا تصرفاته أم لم يقرها، فإن أقر رب العمل ما أجراه الفضولي من تصرفات، ثبتت للفضولي النيابة الاتفاقية أي الوكالة، وهو الحكم الذي سبق للمادة (270) من المشروع أن قننته، فإن لم يحصل من رب العمل إقرار لتصرفات الفضولي، كان لهذا الأخير وصف النيابة عنه، وإنما تكون نيابته هنا قانونية، على أن وصف النيابة القانونية لا يثبت بطبيعة الحال للفضولي إلا في حدود إدارة الشخص العادي، لأنه إذا خرج من يتولى شأن غيره عن حدود إدارة الشخص العادي، فإن وصف الفضولي يرتفع عنه في نطاق ما خرج فيه عنها، بل أنه يعرض نفسه للمسؤولية باعتباره مخطئًا، وفقًا لما تقضي به المادة (272) من المشروع.
ولا يرفع عن الفضولي وصف النائب، ما بقي في حدود إدارة الشخص العادي ألا تتحقق النتيجة المرجوة من عمله.
ويترتب على ثبوت صفة النيابة للفضولي انصراف آثار العقود التي أبرمها لرب العمل، فيكون هذا الأخير هو الدائن أو المدين على حسب الأحوال دون الفضولي، شريطة أن يكون الفضولي، عند التصرف قد أظهر لمن تعاقد معه صفته في النيابة، وتعاقد معه على هذا الأساس، فإن لم يتعاقد معه بهذه الصفة، وإنما بصفته الشخصية، كان لمن يتعاقد معه، كأصل عام، تجاهل رب العمل. وهنا يلتزم رب العمل بأن يعوض الفضولي عن التعهدات التي يتحمل غرمها.
وفي جميع الأحول يلتزم رب العمل بأن يدفع للفضولي كل المصروفات الضرورية والنافعة التي أداها، كما أنه يلتزم بأن يعوضه عن الضرر الذي لحقه بسبب قيامه بالعمل دون خروج منه عن حرص الشخص العادي، وذلك كله لو تجاوزت المصروفات أو الضرر مدى ما عاد على رب العمل من نفع، وفي هذا الصدد يتمثل الفارق الكبير الهام بين الأثر المترتب على الفضالة وذلك المترتب على الإثراء بدون سبب بوجه عام.
وإذا كان من مقتضى الفضالة أن يثبت للفضولي الحق في أن يرجع على رب العمل بكل ما ينفق من مصروفات ضرورية أو نافعة وبتعويض ما يتحمله من ضرر، إلا أن المشروع قد وضع حكمًا خاصًا لأجر الفضولي عن ذات عمله مقررًا عدم ثبوت حق له فيه، إلا أن يكون العمل الذي أداه داخلاً في أعمال مهنته، وقد راعى المشروع في تقرير هذا الحكم أن الفضولي يتبرع بجهده، فلا يستحق لذلك عنه أجرًا، إلا أن يكون العمل الذي أداه داخلاً في مهنته، فيستحق عنه الأجر المناسب، اعتبارًا بأن أداءه ربما يكون قد فوت عليه فرصة أداء عمل آخر مأجور.
ونص المادة (276) مأخوذ من نص المادة (193) من قانون التجارة الكويتي الذي هو بدوره مأخوذ من نص المادة (195) مدني مصري وذلك مع تعديل طفيف في الصياغة أجراه المشروع اقتضته الملاءمة، ومع استبعاد حق الفضولي في فوائد المصروفات التي أنفقها، تمشيًا مع النهج الذي التزمه المشروع من استبعاد الفوائد في شتي مظان وجودها.
وتعرض المادة (277) للحالة التي يكون الفضولي فيها غير مكتمل أهلية التعاقد، قاضية بعدم مسؤوليته قِبل رب العمل إلا في حدود ما أُثري به، ما لم يكن عمله قد تدنى إلى حد يصل به إلى المسؤولية التقصيرية.
وقد استوحى المشروع حكم المادة (277) من المادة (194) من قانون التجارة الكويتي الحالي، التي هي منقولة بدورها عن المادة (196) مدني مصري. على أن المشروع استبعد الحكم الذي جاء به سلفًا من أن مسؤولية رب العمل تبقى كاملة، ولو لم تتوافر فيه أهلية التعاقد، اعتبارًا منه بأن هذا الحكم أظهر من أن يقنن، إذ أن التزامات رب العمل إزاء الفضولي تثبت عليه نتيجة واقعة الفضالة ذاتها، وأهلية التعاقد إن لزمت في التصرفات، فلا مجال لها في الوقائع.
وتجيء المادة (278) لتبين المدة التي ترفع خلالها الدعوى الناشئة عن الفضالة، سواء رفعت من الفضولي على رب العمل أو من رب العمل على الفضولي. وهي في ذلك تقضي بسقوط هذه الدعوى بانقضاء ثلاث سنوات من اليوم الذي يعلم فيه المدعي بحقه أو بانقضاء خمس عشرة سنة من اليوم الذي ينشأ فيه هذا الحق، أي المدتين أقرب.
الفصل الخامس: القانون:
(المادة 279):
يعرض المشروع، في المادة (279)، للالتزامات التي يرتبها القانون على وقائع أخرى غير العقد والإرادة المنفردة والفعل الضار والفعل النافع، محيلاً، في شأن حكمها، على النصوص الخاصة التي تقررها.
الباب الثاني: آثار الالتزام
الفصل الأول - التنفيذ الجبري:
المواد (280 – 306):
يعرض المشروع في المادة (280) للقاعدة العامة في أثر الالتزام الذي يتلخص في وجوب تنفيذه، والأصل أن يقوم المدين مختارًا بتنفيذ التزامه، وهذا التنفيذ الاختياري ينظمه المشروع في الباب الخاص بانقضاء الالتزام تحت عنوان الوفاء.
فإذا لم ينفذ المدين اختيارًا أجبر على التنفيذ إذا كان الالتزام مدنيًا، وهو الأصل الذي تنصرف إليه كلمة التزام إذا وردت من غير وصف، واستثناءً من هذا الأصل إذا كان الالتزام طبيعيًا، فلا يجبر المدين على تنفيذه.
والقاعدة التي وردت في المادة (280) موافقة لما قرره قانون التجارة الحالي في المادة (197) مع اختلاف في صياغة الفقرة الأولى حيث صرح المشروع بأن الجبر في التنفيذ يكون إذا لم ينفذ المدين الالتزام باختياره، وهو حكم مسلم ولا يحتمل الشك حتى في ظل النص الحالي الذي اكتفى بالقول (ينفذ الالتزام جبرًا على المدين) وذلك نقلاً عن القانون المصري. وقد أُريد بتعديل الصياغة والتصريح بهذا الحكم المسلم أن يكون النص أكثر وضوحًا.
ويعرض المشروع في المادة (281) لوجود الالتزام الطبيعي. وبدهي أن يرجع أولاً إلى نصوص التشريع، فإذا لم يوجد نص يقرر في حالة خاصة وجود التزام طبيعي، فالقاضي هو الذي يقدر ذلك.
وقد اكتفى نص المادة (198) تجاري، شأنه في هذا شأن القانون المصري (المادة 200) والقوانين التي نقلت عنه (السوري والجزائري)، بترك التقدير للقاضي دون أي توجيه من المشرع اللهم القيد الخاص بعدم قيام التزام طبيعي يخالف النظام العام، وهو قيد ربما أمكن عدم النص عليه لبداهته.
وحاول المشرع الليبي أن يخطو خطوة في سبيل إرشاد القاضي فنص على أن يقدر القاضي، عند عدم النص، ما إذا كان هناك التزام طبيعي (يقوم على أساس واجب أدبي أو اجتماعي). وهو توجيه محدود الفائدة أما المشرع الأردني فيبين معنى الالتزام الطبيعي، أو الحق الطبيعي على نحو ما قيل فيما يسمى النظرية التقليدية، فبعد أن نص في الفقرة الأولى من المادة (313) على أن ينفذ الحق جبرًا على المدين به عند استحقاقه متى استوفى الشرائط القانونية، نص في الفقرة الثانية على أنه (فإذا افتقد الحق حماية القانون لأي سبب فلا جبر في تنفيذه ويصبح حقًا طبيعيًا يجب في ذمة المدين)، كما نص في المادة (314) على أنه: (إذا أوفى المدين حقًا طبيعيًا فقد حماية القانون ...). وهذه فكرة ضيقة في تحديد حالات الالتزام الطبيعي، ذلك أن الاتجاه الحديث هو عدم حصر هذه الحالات في الالتزامات التي حال مانع قانوني دون أن تكون التزامات مدنية يجبر المدين على تنفيذها سواء كان المانع قد حال دون نشوء الالتزام كتخلف شرط شكلي في العقد أو كان قد حال دون بقاء الالتزام كما هي الحال بالنسبة للالتزام الذي لم تسمع الدعوى به لمرور الزمان، وإنما يمتد نطاق الالتزامات الطبيعية إلى واجبات خلقية منذ نشأتها ولكن درجة الوجوب فيها أقوى من درجة الوجوب في الواجبات الخلقية العادية فيرتفع إلى مستوى الوجوب الذي يرتب بعض الآثار القانونية.
وقد آثر المشروع أن يبين للقاضي الضابط الذي يقف عنده وهو ما إذا كان هناك التزام طبيعي، فنص على أن (يُقدر القاضي، عند عدم النص، متى يُعتبر الواجب الأدبي التزامًا طبيعيًا، مراعيًا في ذلك الوعي العام للجماعة)، فالقاضي وهو على علم بأحكام الالتزام الطبيعي يقدر ما إذا كان الواجب الخلقي يرتفع في ضمير الجماعة إلى مستوي هذا الالتزام الطبيعي بأحكامه التي نُص عليها في القانون، أم لا.
وتعرض المادة (282) التي تطابق المادة (199) من قانون التجارة الحالي، للأثر الأول من آثار الالتزام الطبيعي وهو حكم الوفاء الاختياري، وذلك بالنص على أنه (لا يسترد المدين ما أداه باختياره قاصدًا أن يوفي التزامًا طبيعيًا، ولا يُعتبر متبرعًا بما أداه)، فنظرًا إلى أن الالتزام الطبيعي، برغم عدم إمكان الجبر في تنفيذه لانتفاء عنصر المسؤولية فيه، هو التزام قائم في ذمة المدين وعليه واجب الوفاء به، فإن وفاه باختياره فهو يوفي بدين مستحق، ويرتب المشروع على ذلك نتيجتين، الأولى أن الموفي ليس له أن يسترد ما وفاه، والثانية هي أن الموفي لا يعتبر متبرعًا بما وفى به، ذلك أن الدائن قد استوفى حقًا له والمدين وفى بما يجب عليه، على أنه يشترط لهذا – بالإضافة إلى ضرورة توفر مقومات الالتزام الطبيعي أن يكون الموفي عند الوفاء عالمًا بأن التزامه هو التزام طبيعي أي أنه غير مجبر على الوفاء ومع ذلك قصد الوفاء به مختارًا، فإذا وفى وهو يعتقد أن الالتزام التزم مدني، أو أُكره على الوفاء، كان وفاؤه غير صحيح وجاز له أن يسترد ما وفاه، ومن ناحية أخرى فإذا كان الالتزام الذي وفى به لم يصل إلى درجة الالتزام الطبيعي وقصد الموفي المتبرع بما وفى طبقت أحكام التبرعات.
أما الحكم الوارد في المادة (283) وهو أن الالتزام الطبيعي يصلح سببًا لالتزام مدني، فالمقصود به مواجهة الفرض الذي يتعهد فيه المدين بالتزام طبيعي بأن يفي بهذا الالتزام، وهو يعلم أنه غير مجبر على الوفاء، فالمسلم أن تعهده يعتبر صحيحًا ويترتب عليه أن يصبح ملتزمًا بالتزام مدني يجبر على الوفاء به، وقد اختلف الرأي في أساس تحول الالتزام الطبيعي إلى التزام مدني، فقد قيل بفكرة تجديد الالتزام بتغيير الدين، وقيل أن الالتزام الطبيعي يقوم بدوره السبب في نشوء الالتزام المدني وهو التصوير الذي أخذ به نص قانون التجارة الحالي وتبناه المشروع، وهنا أيضًا لا يعتبر تعهد المدين تبرعًا، ما دام أنه قد قصد بالتعهد وفاء الالتزام الطبيعي.
أولاً: التنفيذ العيني:
وتضع المادة (284) المبدأ العام في التنفيذ العيني الجبري، وما يرد عليه من استثناء بما يتفق تقريبًا مع نص المادة (201) من قانون التجارة الحالي مع بعض التعديل في الصياغة.
أما الفقرة الثانية من المادة ففيها تعديل في الصياغة من ناحتين: الأولى، أن نص المشروع فضل عبارة (جاز للمحكمة أن تقصر حق الدائن على ....)، على العبارة الواردة في النص الحالي وهي (جاز له أن يقتصر على دفع تعويض ...) والناحية الثانية، وهي تعديل في الحكم، أن المشروع لم يرَ وجهًا لما يشترطه النص الحالي من أن يكون التعويض نقديًا، فقد يرى القاضي أن يستجيب لطلب المدين بالتعويض العيني، خاصةً إذا لم يعترض على ذلك الدائن، كما لو كان محل الالتزام تسليم أشياء من نوع معين بأوصاف محددة وتبين أن الحصول عليها يرهق المدين، ويمكن أن يُسلم أشياء أخرى تؤدي للدائن نفس الغرض أو على وجه قريب دون أن يلحقه من ذلك ضرر جسيم.
وعرض المشروع لبيان كيف يكون التنفيذ في صور الالتزام المختلفة، مبتدأ بالالتزام بإعطاء أي نقل حق عيني، ثم الالتزام بعمل ويقصد به الالتزام بعمل إيجابي غير الإعطاء، ثم الالتزام بالامتناع عن عمل.
وفيما يتعلق بالالتزام بالعمل على نقل حق عيني، لم يضع المشروع نصًا مقابلاً لنص المادة (202) من قانون التجارة الحالي التي تنص على أن: (الالتزام بنقل الملكية أو أي حق عيني آخر ينقل من تلقاء نفسه هذا الحق، إذا كان محل الالتزام شيئًا معينًا بالذات يملكه الملتزم وذلك دون إخلال بالقواعد المتعلقة بالتسجيل) وعلة الاستبعاد أنه لا يوجد في الفرض الذي يتناوله النص التزام في حقيقة الأمر، وإنما ينتقل الحق بقوة القانون كأثر مباشر للسبب الذي من شأنه أن ينقل الحق. هذا مع ملاحظة أنه قد ورد في المشروع عند بيان أسباب كسب الملكية نص يقرر أن التصرف القانوني ينقل الملكية والحقوق العينية الأخرى إذا كان المتصرف هو صاحب الحق المتصرف فيه.
ولذلك اقتصر المشروع، فيما يتعلق بالالتزام بالعمل على نقل حق عيني، على نص المادة (285) التي تواجه حالة الشيء المعين بنوعه، وحكم النص يوافق حكم المادة (203) من قانون التجارة الحالي مع شيء من التعديل في الصياغة.
وعرض المشروع بعد ذلك إلى الالتزام بعمل، والمقصود هو العمل الإيجابي، وتمهيدًا للنصوص الخاصة بتنفيذ هذا الالتزام في صوره المختلفة، نص المشروع في المادة (286) وهي مطابقة للمادة (204) من قانون التجارة الحالي، على قاعدة تتعلق بوجود صورتين من صور الالتزام بعمل، هما الالتزام بالتسليم، والالتزام بالمحافظة على الشيء، إذ يوجد كل منهما متفرعًا عن الالتزام بنقل حق عيني.
وتقابل المادة (287) من المشروع نص المادة (205) من قانون التجارة الحالي مع شيء من التعديل، وبخاصة أن المشروع لم ينقل العبارة الواردة في صدر النص الحالي وهي: (إذا التزم المدين أن ينقل حقًا عينيًا أو أن يقوم بعمل، وتضمن التزامه أن يسلم شيئًا ...) إذ توحي هذه العبارة أن حكم النص يقتصر على بعض صور الالتزام بالتسليم في حين أنه يشمل كل صور هذا الالتزام، وهو ما صرحت به المذكرة الإيضاحية لمشروع النص المصري وهو أصل النص الكويتي.
وعن الالتزام بعمل فإنه إما أن يكون تنفيذه مما لا يقتضي تدخل المدين شخصيًا، وإما أن يكون التنفيذ يقتضي تدخل المدين بشخصه والحالة الأولى هي الأصل وتعتبر الثانية استثناءً، ولهذا بدأ المشروع بالحالة الأولى، في المادة (288) وذلك على خلاف قانون التجارة الحالي الذي قدم الحالة الثانية (المادة 206) على الحالة الأولى (المادة 207).
ونص المادة (288) مطابق لنص المادة (207) من قانون التجارة، وأكثر القوانين العربية الأخرى (المصري، والسوري، والعراقي، الليبي). ولم يرَ المشروع وجهًا لما ذهب إليه القانون الجزائري إذ استبعد حكم الفقرة الثانية الخاصة بحق الدائن في التنفيذ على نفقة المدين دون إذن القاضي في حالة الاستعجال، كما لم يرد المشروع الأخذ بمسلك القانون السوداني الذي استبعد إذن القاضي مكتفيًا بإخطار المدين، وعدم إخطاره في حالة الاستعجال. كما أن حكم القانون الأردني لا يختلف عن نص المشروع إلا في أنه يذكر الضرورة بدلاً من الاستعجال، وقد آثر المشروع أن ينص على الاستعجال لأنه يتضمن معنى الضرورة.
ويلاحظ في النهاية أنه إذا كان النص خاصًا بالالتزام بعمل الذي لا يقتضي تنفيذه تدخل المدين شخصيًا، فالنص لم يذكر هذا لأن تقدير ما إذا كان التنفيذ ممكنًا دون تدخل المدين موكول للدائن فهو الذي يقرر ما إذا كان يكتفي بتنفيذ الالتزام على نفقة المدين دون تدخله، ولهذا فقد كان المشروع التمهيدي للنص المصري، وهو الأصل التاريخي للنص، يقول (في الالتزام بعمل إذا لم يقم المدين بتنفيذ التزامه، ولم يكن ضروريًا أن ينفذه بنفسه جاز للدائن...) ثم رئُي حذف عبارة (ولم يكن ضروريًا أن ينفذه بنفسه) لأن الدائن هو صاحب المصلحة فيجب أن يُترك له التقدير فيما إذا كان المدين يجب أن ينفذ الالتزام بنفسه أم لا.
وتعرض المادة (289) للتنفيذ العيني عندما تسمح طبيعة الالتزام بأن يقوم حكم القاضي مقام التنفيذ، كما لو كنا بصدد بائع امتنع عن تنفيذ التزام بالتصديق على إمضائه في عقد البيع تمهيدًا لتسجيل العقد، وكذلك إذا امتنع الواعد بالتعاقد، بعد أن أظهر الموعود له رغبته في التوقيع على العقد الموعود به.
ويختلف نص المشروع عن نص قانون التجارة الحالي (المادة 208) في أنه لم يخصص الحكم بعبارة (في الالتزام بعمل).
وفي النصوص السابقة التي عرض فيها المشروع للالتزام بعمل، كان المقصود هو الالتزام بتحقيق غاية، سواء في ذلك الالتزام بتسليم شيء أو الالتزام بإنجاز عمل آخر مثل إقامة مبنى، أما نص المادة (290) فيعرض للالتزام بعمل إذا كان واجب المدين يقتصر على بذل عناية، سواء كانت هذه العناية تتمثل في حفظ شيء أو في إدارته، أو كانت في القيام بعمل آخر مثل التزام الطبيب بالعلاج أو المحامي بالدفاع عن موكله. وفي هذا النوع من الالتزامات بعمل يكون المدين قد وفى بالتزامه إذا بذل العناية المطلوبة منه، والأصل في العناية التي تتطلب من المدين، وهي التي قررها النص، هي عناية الشخص العادي، ولكن قد ينص القانون على درجة من العناية أكبر أو أقل من عناية الشخص العادي، كما في التزام المستعير بحفظ الشيء المعار والتزام الوديع غير المأجور بحفظ الشيء المودع، كما قد يتفق على درجة خاصة من العناية تختلف عن عناية الشخص العادي، فإذا قام المدين بالعناية المطلوبة منه فلا يكون مسؤولاً ولو لم تتحقق الغاية التي قصد إليها الدائن لأن المدين لم يلتزم بتحقق هذه الغاية، على أنه إذا كان خطأ المدين يعتبر غشًا أو خطأ جسيمًا، فإنه يكون مسؤولاً في جميع الأحول أي حتى ولو اتفق على إعفائه من المسؤولية.
ونص المادة (290) موافق لنص المادة (211) من قانون التجارة الحالي والنصوص العربية المختلفة، مع قليل من التعديل في الصياغة.
وتعرض المادة (291) لتنفيذ الالتزام بالامتناع عن عمل، أو كما يقال أحيانًا، العمل السلبي، وهو الالتزام بالامتناع عن عمل كان من حق المدين أن يقوم به لولا وجود الالتزام، كالالتزام بعدم فتح محل تجاري من نوع معين في مكان معين أو الالتزام بعدم التمثيل على مسارح معينة، فإذا أخل المدين بالتزامه بأن قام بالعمل الذي وجب عليه أن يمتنع عنه، وكانت الأعمال التي قام بها المدين مما يمكن إزالتها، مثل غلق المحل التجاري، أو هدم البناء الذي أُقيم على خلاف الالتزام، كان للدائن أن يطلب من المحكمة الحكم بالإزالة، وله أن يطلب ترخيصًا من القضاء في أن يقوم بهذا الإزالة على نفقة المدين مع عدم الإخلال بحقه في التعويض، والأعمال التي للدائن أن يطلب إزالتها وفقًا لهذا النص هي، كما يتضح من الأمثلة المذكورة الأعمال المادية.
وذلك النص مطابق لنص المادة (210) من قانون التجارة الحالي.
وتعرض المادة (292) لما يسمى الغرامة التهديدية أو التهديد المالي، وهي وسيلة غير مباشرة لحمل المدين على التنفيذ العيني، يُلجأ إليها إذا كان التنفيذ العيني يقتضي أن يقوم به المدين شخصيًا إما لأنه غير ممكن أو لأنه يكون غير ملائم إلا إذا قام به المدين نفسه وقد يكون الدائن في ذات الوقت حريصًا على التنفيذ العيني.
والغرامة التهديدية التي يحكم بها القاضي ليست تعويضًا عن الضرر، وإنما هي وسيلة لتهديد المدين لحمله على التنفيذ، ولذلك لا يراعي القاضي في تقدير ما يحكم به التناسب مع الضرر بل يراعي ما يراه كافيًا لتهديد المدين، ولذلك إذا رأى أن ما حكم به لم يثنِ المدين عن إصراره على عدم التنفيذ فإنه يمكنه إعادة النظر والزيادة في مقدار الغرامة. وما دامت الغرامة هي مجرد تهديد للمدين فالحكم بها يكون حكمًا وقتيًا وليس واجب التنفيذ، وتنتفي علة وجوده إذا اتخذ المدين موقفًا نهائيًا إما بالتنفيذ أو الإصرار على عدم التنفيذ فيعيد القاضي النظر في حكمه ليفصل في الموضوع، فإن كان المدين قد نفذ فالقاضي لا يحكم عليه إلا بالتعويض عن التأخير في التنفيذ وإذا أصر المدين على عدم التنفيذ فيحكم القاضي بالتعويض عن عدم التنفيذ ويراعي القاضي في الحالتين ما لحق الدائن من ضرر، كما يراعي ما يكون قد بدا من المدين من عنت.
ونص المادة (292) موافق لنص المادتين (211 و212) كويتي، ولا يختلف عنهما إلا في الصياغة، فقد استبدل المشروع عبارة (جاز للدائن أن يطلب الحكم بإلزام المدين ...) بعبارة (جاز للدائن أن يحصل على الحكم بإلزام المدين ...) كما استبدل لفظ المحكمة بلفظ القاضي، وكذلك نص الفقرة الثالثة من المادة لا يختلف عن نص المادة (212) كويتي إلا في بعض الألفاظ، فقد استبدل عبارة (عدم التنفيذ) بعبارة (رفض التنفيذ) واستبدل لفظ المحكمة بلفظ القاضي.
ثانيًا: التنفيذ بطريق التعويض:
تعرض المادة (293) للقاعدة العامة في التنفيذ بطريق التعويض أي للمسؤولية عند عدم التنفيذ أو التأخر فيه، وهي تقابل المادة (162) من قانون التجارة الحالي، مع بعض التعديلات على النحو الآتي:
أولاً: نص قانون التجارة الحالي ورد تحت عنوان المسؤولية العقدية في الباب الخاص بآثار العقد. وقد آثر المشروع وضع النص مع النصوص الخاصة بتنفيذ الالتزام لأن حكمه لا يقتصر على الالتزام الناشئ من العقد وإنما ينصرف إلى الإخلال بأي التزام ولو لم ينشأ عن عقد، فإذا أخل الفضولي مثلاً بالتزامه بحفظ المال الذي في يده بسبب الفضالة وإدارته، سرى عليه حكم النص.
ثانيًا: نص قانون التجارة الحالي لم يصرح بركني الضرر والسببية بين الضرر والخطأ، فآثر المشروع التصريح بهما وذلك في عبارة (... بتعويض الضرر الذي لحق الدائن بسبب ذلك ...) والتصريح برابطة السببية بين الخطأ والضرر على هذا الوجه يستبعد احتمال أن تُفهم العبارة الأخيرة من النص وهي (... ما لم يثبت المدين أن عدم التنفيذ أو التأخير كان لسبب أجنبي لا يد له فيه) على أن المقصود بها هو نفي السببية بين ركني الخطأ والضرر، في حين أنه يقصد بها أن المدين له، برغم عدم التنفيذ - أن يُثبت أنه ليس منسوبًا إليه، وبالتالي فهو غير مقصر.
ثالثًا: رُئي الجمع بين التعويض عن عدم التنفيذ والتعويض عن التأخير فيه، في صيغة واحدة، في حين أن النص الحالي يضع الحكم بالنسبة للتعويض عن عدم التنفيذ ثم يقول بعد ذلك (وكذلك يكون الحكم إذا تأخر المدين في تنفيذ التزامه).
وتواجه المادة (294) ما يسمى الخطأ المشترك، وهي تقابل نص المادة (218) من قانون التجارة الكويتي، بعد تعديلها بما يجعل النص مقصورًا على حكم حالة (الخطأ المشترك) بالمعنى الفني لهذا المصطلح. ذلك أن اشتراك خطأ الدائن مع خطأ المدين في إحداث الضرر إذا فُهم بالمعنى اللغوي يحتمل ثلاثة فروض: أن يستغرق خطأ المدين خطأ الدائن وفي هذا الفرض تبقى مسؤولية المدين كاملة فيلتزم بتعويض الضرر كله، والفرض الثاني أن يستغرق خطأ الدائن خطأ المدين، وفي هذا الفرض نكون بصدد حالة من حالات السبب الأجنبي الذي يجعل المدين غير مسؤول أصلاً، والفرض الثالث هو ألا يستغرق أحدًا الخطأين الآخر، وهذا هو الخطأ المشترك بالمعنى الفني الذي يراد مواجهته بنص خاص حيث يحكم على المدين، بعد إنقاص التعويض بالقدر الذي يقابل خطأ الدائن.
ونص قانون التجارة الحالي يفيد أن المشرع واجه فرضين من الفروض الثلاثة المشار إليها، وهما الفرض الخاص بعدم استغراق أحد الخطأين للآخر وحيث يحكم بإنقاص التعويض، والفرض الخاص باستغراق خطأ الدائن لخطأ المدين وحيث لا تحكم المحكمة بأي تعويض، والفرض الأخير لا يحتاج إلى نص خاص وتحكمه المادة (295).
وتقابل المادتان (295 و296) أحكام الفقرتين الأولى والثانية من نص المادة (219) من قانون التجارة الكويتي، وتتفق مع الأحكام الواردة فيها، ولكن رئُي إفراد الحكم الوارد في المادة (295) بنص خاص لأنه يتعلق بصحة الاتفاق على صورة من صور تشديد المسؤولية على المدين، في حين أن المادة (296) والتي تقابل الفقرة الثانية من المادة (219) تجاري تواجه الاتفاقات على الإعفاء من المسؤولية.
أما الحكم الوارد في الفقرة الثالثة من المادة (219) تجاري والخاص ببطلان كل شرط يقضي بالإعفاء من المسؤولية المترتبة على العمل غير المشروع، فقد رئُي أن مكانه المناسب هو مع النصوص الخاصة بتلك المسؤولية.
وتعرض المادة (297) لضرورة الإعذار حتى يستحق التعويض وهي تقابل المادة (214) من قانون التجارة، وتختلف عنها: أولاً في عبارتها الأخيرة حيث تقول: (ما لم يقضِ الاتفاق أو ينص القانون على غير ذلك) فقد رئُي اعتبار حالة الاتفاق على عدم الإعذار من الحالات التي لا يلزم فيها الإعذار، بدلاً من الحكم الحالي الوارد في المادة (215) من قانون التجارة وهو اعتبار الاتفاق السابق إعذارًا إذ يقول النص بصدد بيان كيف يكون إعذار المدين (... كما يجوز أن يكون مترتبًا على اتفاق يقضي بأن يكون المدين معذرًا بمجرد حلول الأجل دون الحاجة إلى إنذار)، وثانيًا لم ينص المشروع على العبارة الواردة في النص الحالي وهو (... ولو كان سبق تحديده مقدمًا باتفاق بين المتعاقدين ...) لأن التعويض في هذه الحالة، والمقصود هو الشرط الجزائي، هو تعويض يصدق عليه النص دون حاجة إلى تصريح بذلك، كما أن القاعدة الخاصة بضرورة الإعذار تسري على التعويض الاتفاقي.
وتعرض المادة (298) لكيفية الإعذار، والوسيلة الأولى التي يتحقق بها هي الإنذار وهو ورقة رسمية توجه من الدائن إلى المدين، عن طريق مندوب الإعلان، يطلب فيها الدائن من المدين تنفيذ التزامه. ويقوم مقام الإنذار أي ورقة رسمية يتبين منها أن الدائن يريد أن يقوم المدين بتنفيذ التزامه بشرط أن تعلن إلى المدين، مثل صحيفة الدعوى أي التكليف بالحضور أمام المحكمة وكذلك إعلان السند التنفيذي الذي يسبق التنفيذ.
وكما يكون الإعذار بالإنذار أو ما يقوم مقامه فإنه يتفق في العقد على أن يكون الإعذار بوسيلة أخرى كخطاب مسجل أو برقية فإذا كان من الجائز أن يتفق على عدم ضرورة الإعذار فمن باب أولى يجوز الاتفاق على طريقة معينة للإعذار لأن القاعدة التي تستوجب الإعذار ليست من النظام العام.
وتقابل المادة (298) الحكم التي تنص عليه المادة (215) من قانون التجارة مع تعديل أدق في صياغتها وحكمها.
وتقابل المادة (299) نص المادة (216) من قانون التجارة الحالي وتختلف عنه من النواحي الآتية:
أولاً: أضاف نص المشروع الحالة ( أ ) التي تعتبر الاتفاق مقدمًا على أن يكون المدين مخلاً بالتزامه بمجرد عدم الوفاء به عند حلول الأجل اتفاقًا على عدم ضرورة الإعذار. وذلك بعد أن استبعد المشروع هذه الحالة من نص المادة (298) التي تبين كيفية الإعذار، على خلاف نص المادة (215) من القانون الحالي، فالواقع أن مثل هذه الاتفاق يغني عن الإعذار وليس طريقة من طرق الإعذار.
ثانيًا: آثر المشروع في الحالة (ب) ألا يذكر العبارة الواردة في نص المادة (216) من قانون التجارة والتي تبدأ بالقول (وعلى الأخص ...) وذلك اكتفاءً بالقاعدة العامة التي تسبقها. كما أضاف نص المشروع عبارة (أو غير مجدٍ) بعد عبارة (غير ممكن) وفي هذا يتفق المشروع مع نص القانون المصري والقوانين التي نقلت عنه.
ثالثًا: عدل المشروع تعديلاً لفظيًا في الحالتين (د)، (هـ) المقابلتين للحالتين الواردتين في نص قانون التجارة برقمي (3 و4).
وتعرض المادة (300) للأصل العام في تقدير التعويض، أو التعويض القضائي، حيث تقدره المحكمة وفقًا للضوابط التي وضعها المشروع وحكمها يقابل المادة (163) من قانون التجارة الذي وضعه المشرع تحت عنوان المسؤولية العقدية مع آثار العقد، وكان من نتيجة هذا أن قصر النص الضوابط التي وضعها لتقدير التعويض على حالة الالتزام الناشئ عن العقد، ولم يرَ المشروع أن يساير هذا الاتجاه لأن هذه الضوابط هي الواجبة الاتباع أيًا كان مصدر الالتزام ولهذا وضع النص مع النصوص الخاصة بالتنفيذ بطريق التعويض كما فعل المشرع المصري والقوانين الأخرى التي حذت حذوه.
هذا والضرر الذي يلحق الشخص بسبب عدم تنفيذ الالتزام، قد يكون ماديًا وقد يكون أدبيًا، والتعويض عن الضرر المادي، وهو ما يصيب المضرور في مصلحة مالية، لا يحتاج إلى نص، أما التعويض عن الضرر الأدبي، وهو يصيب الشخص في مصلحة غير مالية، فقد كان محل شك، وأخذت المادة (301) بمبدأ التعويض عن الضرر الأدبي اطرادًا مع قانون التجارة الكويتي (المادة 217). ثم أحالت إلى المادتين (231 و232) الواردتين مع أحكام المسؤولية التقصيرية وتعرضان لمن يجوز الحكم له بالتعويض عن الضرر المتمثل في الألم بسبب الموت، والأحوال التي يجوز فيها أن ينتقل التعويض ممن يستحقه ابتداء إلى غيره.
وتضع المادة (302) مبدأ جواز الاتفاق مقدمًا على تقدير التعويض الذي يستحق عند إخلال المدين بالتزامه، وهو المعروف بالشرط الجزائي أو التعويض الاتفاقي، وخلافًا لقانون التجارة (المادة 164/ 1)، حرص المشروع على أن ينص في صدر النص الذي وضعه على المجال الذي يصح فيه الاتفاق مقدمًا على مقدار التعويض، وهو حالة ما إذا لم يكن محل الالتزام مبلغًا من النقود. ذلك أنه إذا كان محل الالتزام هو دفع مبلغ من النقود، فيكون الاتفاق على التعويض عند إخلال المدين بالتزامه هو اتفاق على فائدة أما إذا لم يكن محل الالتزام مبلغًا من النقود، فالاتفاق على تقدير تعويض يلتزم به المدين عند إخلاله بالتزامه يعتبر صحيحًا عند جمهور فقهاء المسلمين ولا يبطل إلا عند الشافعية.
وتناول المشروع في المادتين (303 و304) ما يترتب على وجود الاتفاق على تقدير التعويض من نتائج.
ويتضح من حكم المادة (303) أن الاتفاق يُبقي على ركن الضرر فلا يحكم بالتعويض إذا لم يترتب على إخلال المدين بالتزامه أي ضرر بالدائن، ولكن يظهر أثر الاتفاق على تقدير التعويض فيما يتعلق بركن الضرر في مجال الإثبات، إذ يترتب عليه افتراض حصول ضرر مساوٍ لما قدره المتعاقدان، فلا يكلف الدائن بإثبات وجود الضرر، كما أن من يدعي من الطرفين أن الضرر الواقع فعلاً يقل أو يزيد عما هو متفق عليه، فعليه عبء إثبات ذلك.
فإذا أثبت المدين أن الدائن لم يلحقه أي ضرر، فيكون أحد أركان المسؤولية قد تخلف وبالتالي لا تحكم المحكمة بأي تعويض. أما إذا لم يثبت المدين ذلك، ولكنه أثبت أن الضرر الحادث أقل من التعويض المتفق عليه، فيجوز للمحكمة أن تخفض التعويض في حالتين: الحالة الأولى، إذا أثبت المدين أن التقدير الاتفاقي للتعويض كان مبالغًا فيه إلى درجة كبيرة، فلا يكفي أن يثبت أن الضرر الواقع فعلاً أقل من المتفق عليه، والحالة الثانية أن يثبت المدين أن الالتزام قد نفذ في جزء منه، ذلك أن المفروض أن التقدير الاتفاقي كان لعدم التنفيذ الكلي، وكلا الحكمين المقررين في النص، وهما عدم الحكم بأي تعويض إذا ثبت عدم حصول الضرر، والحكم بتخفيض التعويض، يتعلق بالنظام العام وبالتالي فكل اتفاق على خلافه باطل لا أثر له.
وقد استمد المشروع حكم تلك المادة من قانون التجارة الكويتي (164/ 2) ومن مصادره التشريعية من القوانين العربية مع تعديل الصياغة على وجه أكثر دقةً وضبطًا.
وتعرض المادة (304) للحالة التي تبين فيها أن الضرر قد جاوز قيمة التعويض المتفق عليه، ولما كان المفروض أن الضرر مساوٍ لما قدره المتعاقدان، فإنه إذا ادعى الدائن أنه قد لحقه ضرر يزيد عن المتفق عليه كان عليه إثبات ذلك، وفي هذه الحالة لا تحكم المحكمة بزيادة التعويض لموجهة الزيادة في الضرر إلا إذا أثبت الدائن أن المدين قد ارتكب غشًا أو خطأ جسيمًا، ويرجع هذا الحكم على أن الاتفاق على تقدير التعويض مقدمًا يتضمن اتفاقًا على الإعفاء من المسؤولية عما يجاوز التعويض المتفق عليه من ضرر، والأصل أن هذا الاتفاق يعتبر صحيحًا ويُعمل به إلا في حالة غش المدين أو خطئه الجسيم.
ويتفق حكم تلك المادة مع الحكم المنصوص عليه بالمادة 164/ 2 من قانون التجارة الكويتي.
وقد سار المشروع على استبعاد نظام الفوائد، سواء كانت اتفاقية أو قانونية، في مقابل انتفاع المدين بمبلغ من النقود أو جزاء التأخر في الوفاء بالنقود، في كل موضع يكون فيه محل الالتزام مبلغًا من النقود.
وحتى لا يحمل السكوت عن النص على الفوائد محل تركها للاجتهاد أو في الأقل حتى لا يثور الشك حول مدى صحة الاتفاق على فائدة، رئُي وضع نص المادة (305) التي تقرر بطلان الاتفاق على الفائدة، ظاهرة كانت أو مستترة.
وإذا كان النص على بطلان الاتفاق الذي يلزم بفائدة لا يثير مشاكل في معاملات الناس تستحق الوقوف عندها، فتبقى مسألة قد يؤدي السكوت عنها إلى تأثير سيئ في النشاط الاقتصادي فيحجم الكثيرون عن ائتمان غيرهم، وهذا المسألة هي: ما الحكم إذا تأخر المدين بمبلغ من النقود عن الوفاء، وبخاصة إذا كان قادرًا ؟
وهذه المسألة هي التي عرض لها نص المادة (306) الذي أُريد به تحقيق شيء من الحماية للدائن الذي أخل المدين بثقته فيه، وبمقتضى هذا النص يجوز للمحكمة أن تحكم على المدين المتأخر بالتعويض، وذلك بمراعاة ما يلي:
أولاً: لا يعتبر المدين متأخرًا على النحو الذي يمكن معه الحكم بالتعويض إلا بعد إعذاره، وقد يبدو أن المشروع يشدد على المدين بأكثر مما هو متبع في نظام الفوائد حيث لا تستحق الفوائد إلا من وقت المطالبة القضائية بها، ولكن حكم المشروع قد روُعي فيه أولاً أن الحكم بالتعويض لا يكون إلا حيث يكون المدين قادرًا على الوفاء، وثانيًا لأن المشروع يهدف إلى حمل المدين على الوفاء دون أن يلجأ الدائن إلى الالتجاء إلى القضاء خاصة والخطر الذي يراد حماية الدائن منه، والفرض أن المدين مقتدر، هو حرمان الدائن من النقود في الفترة ما بين وقت استحقاق الدين والوقت الذي يتمكن فيه من استيفاء حقه بالتنفيذ على أموال المدين.
ثانيًا: يجب أن يثبت الدائن قدرة المدين على الوفاء، وتراعي المحكمة في ذلك طبيعة الأموال التي يملكها المدين والوقت اللازم لتدبير المبلغ المطلوب منه.
ثالثًا: لا يكون للدائن الحق في التعويض عن الضرر الذي لحقه بسبب تأخر المدين في الوفاء أيًا كان هذا الضرر، بل لا بد كما يقول النص أن يكون الضرر غير مألوف، وهو ما يعني أن يكون ضررًا غير عادي له صفة الاستثناء، فلا يكفي مجرد حرمان الدائن من مبلغ من المال كان سيستثمره كما يستثمر الناس عادة أموالهم، ويمكن التمثيل للضرر غير المألوف بحالة ما إذا كان الدائن قد اعتمد على أنه سيستوفي حقه في موعد استحقاقه وارتبط بناءً على ذلك بصفقة يلتزم فيها بمبلغ يُستحق في موعد استحقاق الدين الذي له أو بعده بقليل، وبسبب عدم وفاء مدينه وبالتالي عدم وفائه بما عليه فُسخ العقد الذي تمت به الصفقة وحكم عليه بالتعويض، وكذلك حالة ما إذا كان الدائن قد اعتمد على المبلغ الذي لم يفِ به المدين ليفي دينًا عليه، ولما تأخر المدين تأخر الدائن في الوفاء بما عليه وانتهى الأمر بالحجز على منزله وبيعه جبرًا.
رابعًا: عندما تحكم المحكمة بالتعويض، لا تلتزم في ذلك بالقواعد العامة في تقدير التعويض، أي ما لحق الدائن من خسارة وما فاته من كسب بل تراعي، كما يقول النص، مقتضيات العدالة الأمر الذي يفتح الباب أمام القاضي ليُدخل في اعتباره كافة الظروف الخاصة بطرفي النزاع.
الفصل الثاني: الضمان العام للدائنين ووسائل المحافظة عليه:
المواد (307 - 322):
يعرض نص المادة (307) للضمان العام للدائنين، ويقصد به أن لكل دائن أن يستوفي حقه جبرًا عن المدين بالتنفيذ على أمواله، وعمومية الضمان تظهر من ناحيتين: ناحية أموال المدين فللدائن أن ينفذ على أي مال يوجد في ذمة المدين وقت التنفيذ، سواء أكان موجودًا وقت نشوء الحق الذي يراد استيفاؤه جبرًا أو وُجد في ذمة المدين بعد نشوء الحق، ولا يستثنى من أموال المدين إلا الأموال التي لا يجوز الحجز عليها، كما تظهر العمومية من ناحية أن الضمان مقرر لكل الدائنين. ويتساوى الدائنون في هذا الضمان بمعنى أنه إذا اشترك عدة دائنين في التنفيذ على مال للمدين ولم يكفِ المتحصل من بيعه للوفاء بكل ديونهم فيقسم بينهم قسمة الغرماء، ولكن هذه المساواة لا تكون إلا بالنسبة للدائنين العاديين، أما بالنسبة للدائنين الذين لهم حقوق تخولهم التقدم، كالرهن أو الامتياز، فيستوفون حقوقهم كل بحسب مرتبته، فإن بقي شيء اقتسمه الدائنون العاديون.
ونص المشروع مطابق لنص قانون التجارة الحالي (المادة 220).
أولاً: استعمال الدائن حقوق مدينه (الدعوى غير المباشرة):
تعرض المادة (308) وكذلك المادة (309) لحق الدائن في استعمال حقوق مدينه باسم هذا المدين، وهو ما يُطلق عليه في الاصطلاح السائد، وإن كان غير دقيق الدعوى غير المباشرة، فإن كان الغالب أن يكون استعمال حق المدين برفع دعوى باسمه فإنه يكون أيضًا باتخاذ إجراء آخر، مثل تسجيل عقد اشترى به المدين عقارًا، أو قيد رهن يضمن حقًا لمدينه قِبل الغير، أو تجديد قيد الرهن، أو إعلان حكم صدر لمصلحة المدين، أو الطعن في حكم صدر ضده، أو قطع التقادم الساري ضد المدين.
ونص المادة (308) موافق للأحكام الواردة في المادة (221) من قانون التجارة الحالي مع شيء من التعديل في الصياغة روُعي فيه على وجه الخصوص:
أولاً: تجنب نص المشروع عبارة (ولا يكون استعمال الدائن لحقوق مدينة مقبولاً ...) إذ توحي هذه العبارة بأن ما ورد بعدها شرط لقبول الدعوى، في حين أنه مشروط لجواز استعمال الحق، فعدم استعمال المدين حقوقه إذا كان من شأنه أن يؤدي إلى إعسار المدين أو زيادة إعساره من الشروط الموضوعية. ولهذا آثر المشروع في الفقرة الأولى أن يجعل شرط عدم استعمال المدين حقوقه وكذلك شرط أن عدم الاستعمال يؤدي إلى الإعسار أو زيادة الإعسار باعتبارهما شرطين موضوعيين.
ثانيًا: أفرد المشروع الفقرة الثانية للنص على عدم الحاجة إلى إعذار المدين، وهو حكم عام يشمل كل صور استعمال الدائن حقوق مدينه، سواء كان ذلك برفع دعوى أو دون رفع دعوى. وللنص أيضًا على وجوب إدخال المدين إذا كان استعمال الحق برفع دعوى، وهذا الواجب بالذات هو الذي يترتب على الإخلال به عدم قبول الدعوى، كما روُعي في الصياغة التي جاء بها المشروع تفادي صياغة النص الحالي بوجوب إدخال المدين في الدعوى بصيغة توحي أن استعمال الدائن لحقوق مدينه يكون دائمًا برفع دعوى، وهو غير صحيح، لذلك بدأ المشروع العبارة الخاصة بهذا الحكم بالقول (ولكن إذا رُفعت دعوى...).
وتعالج المادة (309) آثار استعمال الدائن حق مدينه وقد اكتفى المشروع بالنص على الفكرة التي تنبني عليها تلك الآثار وهي أن القانون يعتبر الدائن نائبًا عن مدينه. والنتيجة المنطقية لهذا هي أن يبقى الحق كما هو للمدين الذي يكون له حرية التصرف فيه، كما أن من يستعمل الدائن الحق ضده يستطيع أن يدفع بكافة الدفوع التي له قِبل المدين. وكل ما يترتب على استعمال الحق فإنه يكون للمدين فإذا حُكم في دعوى مثلاً بدين لمصلحة المدين دخل في ذمته هو وبالتالي لا يستأثر به الدائن الذي رفع الدعوى، وقد روُعي عدم مجاراة قانون التجارة الحالي فيما ضمنه بالمادة (222) من أن (كل فائدة تنتج عن استعمال هذه الحقوق تدخل في أموال المدين، وتكون ضمانًا لجميع دائنيه)، فهذه نتيجة لازمة لما نص عليه من أن الدائن يُعتبر في استعماله حقوق مدينه نائبًا عنه، وهو ليس النتيجة الوحيدة كما ذُكر من قبل. هذا بالإضافة إلى أن تلك العبارة، تنقصها الدقة، فهي وإن كانت تواجه الفرض الغالب في العمل وحيث يترتب على استعمال الدائن حقًا لمدينه أن يُدخل شيء ما في أموال المدين، فثمة فروض يقتصر استعمال الدائن فيها لحقوق مدينه على دفع خطر كان يتهدد ذمة المدين فلا يترتب عليه إدخال شيء في أموال هذا المدين، كما لو قطع الدائن التقادم الساري ضد مصلحة المدين أو جدد قيد رهن يضمن دينًا للمدين ضد الغير.
ثانيًا: دعوى عدم نفاذ التصرفات:
وتعرض المواد من (310 إلى 313) للشروط التي يجب أن تتوفر حتى يستطيع الدائن أن يطلب عدم نفاذ تصرف مدينه في حقه، وهذه الشروط هي:
أولاً: فيما يتعلق بحق الدائن الذي يطعن في تصرف مدينه فإنه يُشترط أن يكون الحق مستحق الأداء، وهو ما صرحت به المادة (310).
ثانيًا: فيما يتعلق بتصرف المدين الذي يطعن فيه الدائن فإنه يُشترط أن يكون ضارًا بالدائن، وهو ما صرحت به المادة (310) أيضًا ويترتب على هذا الشرط أن الدائن لا يستطيع أن يطعن في تصرف المدين إذا كان هذا التصرف سابقًا على وجود حق الدائن، كما يترتب عليه أن الدائن لا يستطيع أن يطعن في تصرف المدين فيما لا يجوز الحجز عليه، ويعتبر تطبيقًا لهذا الشرط ما صرح به النص من اشتراط أن يكون التصرف قد ترتب عليه إعسار المدين أو زيادة إعساره، وأنه وإن كان هذا يغني عما أضافه النص من أن التصرف المطعون فيه قد أنقص من حقوق المدين أو زاد في التزاماته، وهو ما يعبر عنه بأن يكون التصرف مفقرًا إلا أن النص حرص على تلك الإضافة للإفصاح صراحةً عن أن التصرف المفقر لا يقتصر على التصرف الذي ينقص من حقوق المدين بل يشمل كذلك التصرف الذي يزيد في التزاماته.
ثالثًا: وفيما يتعلق بالمدين المتصرف والمتصرف إليه، فإنه يشترط لعدم نفاذ التصرف في حق الدائن غش المدين وعلم المتصرف إليه بهذا الغش، إن كان التصرف معاوضة. وقد وضع المشروع قرينة على غش المدين فيكفي أن يثبت الدائن أن المدين كان يعلم وقت التصرف أنه معسر حتى يفترض فيه الغش أي نية الإضرار بالدائن، ولكنها قرينة بسيطة يستطيع المدين أن يثبت عكسها كما وضع قرينة بسيطة أخرى فيما يتعلق بإثبات علم المتصرف إليه بغش المدين فيكفي أن يثبت الدائن أن المتصرف له كان يعلم أن المدين معسر أو أنه كان ينبغي عليه أن يعلم بذلك حتى يفترض أنه يعلم بالغش (المادة 311).
وإذا تصرف خلف المدين إلى خلف آخر، فإن كان التصرف الأول معاوضة والثاني معاوضة فيشترط لعدم نفاذ التصرف أن يكون الخلف الثاني يعلم غش المدين كما يعلم أن الخلف الأول كان يعلم بهذا الغش، وإن كان التصرف الأول تبرعًا والثاني معاوضة فلا يشترط إلا علم الخلف الثاني بعسر المدين وقت تصرفه للخلف الأول (المادة 312).
وثمة صورتان من صور توالي التصرفات، لم يصرح النص بحكمها إذ يمكن استخلاص هذا الحكم من نص الفقرة الثانية من المادة (311)، وهي صورة ما إذا كان التصرف الأول تبرعًا والثاني تبرعًا، وكذلك إذا كان التصرف الأول معاوضة والثاني تبرعًا، فيكفي إعمال الفقرة الثانية لنصل إلى أنه لا يُشترط لعدم نفاذ التصرف أي شرط يتعلق بالغش أو العلم به في الصورة الأولى، وعدم اشتراط شرط جديد في الصورة الثانية.
تبقى مسألة إثبات أحد شروط عدم نفاذ التصرف وهو شرط إعسار المدين، فإذا كان الأصل أن الدائن هو الذي يقع عليه الإثبات، إلا أنه يكفي أن يثبت ما في ذمة المدين من ديون، وعلى المدين إذا أراد أن يثبت أنه موسر أن يثبت أن لديه من المال ما يساوي ما عليه من ديون أو يزيد عليها وهو ما نصت عليه المادة (313).
وقد استمد المشروع أحكام دعوى عدم نفاذ التصرفات بالمواد السابقة من قانون التجارة الكويتي (223 - 225) ومصادره التشريعية في القوانين العربية المادة (238) مصري وما بعدها والمادة (239) سوري وما بعدها والمادة (241) ليبي وما بعدها، مع تعديل في الصياغة وترتيب الأحكام اقتضته الملاءمة.
وتعرض المادة (314) لمن يستفيد من الحكم بعدم نفاذ التصرف، ومنه يتضح أن عدم النفاذ لا يكون بالنسبة للدائن الذي رفع الدعوى وحده ولكن يمتد إلى الدائنين الآخرين الذين صدر التصرف إضرارًا بهم، أي من كانوا يستطيعون التمسك بعدم نفاذ التصرف في حقهم ولو لم يشتركوا في الدعوى، وهم السابقة ديونهم على التصرف.
ويتفق هذا الحكم مع ما تنص عليه المادة (226) من قانون التجارة الكويتي والمواد المقابلة بمصادرها في التشريعات العربية، وأجرى المشروع تعديلاً طفيفًا في الصياغة
وتعرض المادة (315) لحق المتصَرف إليه في التخلص من الدعوى وحكمها يقابل حكم الفقرة الثالثة من المادة (227) من قانون التجارة الكويتي. ولم يرَ المشروع ما يدعو إلى النص على الأحكام التي أوردتها هذه المادة في الفقرتين الأولى والثانية لأنها محض تطبيق للقواعد العامة ولا تحتاج إلى نص بشأنها.
هذا ويختلف النص الذي جاء به المشروع عن النص الوارد في القانون الكويتي (المادة 227/ 3) والنصوص العربية الأخرى المقابلة إذ لوحظ على تلك النصوص أنها تقتصر على مواجهة الفرض الذي يكون فيه المتصرف إليه مشتريًا، ولم يدفع الثمن، وتقرر أن له أن يتخلص من الدعوى بإيداع الثمن. والواقع أن التخلص من الدعوى لا يحتاج إلى أكثر من إيداع قيمة المال المتصرف فيه بغض النظر عن كون المتصرف إليه مشتريًا أم لم يكن كذلك، فقد يكون متبرعًا إليه ويرغب في الاحتفاظ بالمال لسبب ما فيودع ما يساويه من قيمة، وكذلك فإن كان مشتريًا فلا معنى لاشتراط عدم دفعه الثمن للبائع، فإيداع قيمة المال هو الذي ينتفي معه شرط الضرر أيًا كانت ظروف المتصرف إليه.
وجاءت المادة (316) بنص مماثل في عمومه للمادة (228) من قانون التجارة ويعرض لحالات خاصة من تطبيقات دعوى عدم نفاذ التصرفات وهي:
أولاً: الحالة الأولى هي حالة ما إذا كان التصرف هو تفضيل دائن على آخر دون حق، بأن يعطيه تأمينًا خاصًا، وقد حرص المشروع على النص على هذه الحالة بالذات لأن إعمال القواعد العامة في دعوى عدم نفاذ التصرفات يثير الشك في انطباقها عليها إذ قد يُقال إن إنشاء الرهن لا يتضمن إنقاصًا من حقوق المدين ولا الزيادة في التزاماته، فورد النص قطعًا لهذا الشك ويترتب على ذلك وجوب التمييز بين فرضين، فإذا كان التصرف معاوضة كما لو قدم المدين رهنًا لأحد دائنيه في مقابل مد الأجل أو حط جزء من الدين، فيشترط غش المدين وعلم المتصرف إليه بهذا الغش وفقًا للقواعد العامة، أما إذا كان التصرف تبرعًا بأن أعطى المدين الرهن دون أي مقابل، فلا يُشترط الغش ولا علم المتصرف إليه بإعسار المدين: كما هو الشأن في التبرعات. هذا وقد عدل المشروع في صياغة الفقرة الأولى من المادة (228) من القانون القائم التي تواجه هذه الحالة وذلك حتى يتسع النص لكل تصرف بتفضيل دائن على غيره إذ أن النص الحالي لا يواجه إلا الفرض الذي يكون فيه المدين غاشًا، ومن ناحية أخرى فإن النص الحالي يقول في بيان أثر الطعن في التصرف، أنه لا يترتب عليه إلا حرمان الدائن من هذه الميزة، وهذا لا يعني أكثر من عدم نفاذ التصرف في حق الدائن.
ثانيًا: إذا وفى المدين المعسر أحد دائنيه قبل حلول الأجل أو بعد حلوله. وهنا أيضًا حرص المشروع تمشيًا مع القانون الحالي على بيان حكم الوفاء وجواز الطعن فيه، لأن ترك الأمر للقواعد العامة يثير الشك إذ أن الوفاء لأحد الدائنين قبل غيره ليس فيه إنقاص لحقوق المدين أو الزيادة في التزاماته، على أنه يجب التفرقة بين الوفاء قبل انقضاء الأجل، والوفاء بعد انقضائه.
فإذا وفى المدين أحد دائنيه قبل انقضاء الأجل، كان لكل من الدائنين الآخرين أن يطعنوا بعدم نفاذ التصرف وفقًا لأحكام التبرعات، أي دون حاجة إلى اشتراط غش المدين الموفي وعلم الدائن المستوفي بإعسار المدين. أما إذا كان الوفاء بعد حلول الأجل فلا يجوز الطعن بعدم نفاذه إلا في حالة التواطؤ بين المدين والدائن الذي استوفى حقه، وهو شرط أشد مما تقتضيه القاعدة العامة.
ثالثًا: الحق في الحبس:
وتعرض المادة (318) للحق في الحبس وبيان شروطه وحكمها يقابل نصوص المواد (230 و231 و232) من قانون التجارة الحالي.
وقد آثر المشروع الاكتفاء بوضع القاعدة العامة، دون سرد لبعض تطبيقاتها، وذلك على خلاف مسلك قانون التجارة الحالي الذي حذا حذو القانون العراقي، إذ بدأ بالنص في المادة (230) على حق البائع في حبس المبيع حتى يستوفي الثمن وحق العامل في حبس الشيء الذي يعمل فيه إلى أن يستوفي أجره، ثم بعد ذلك عمم الحكم على كل المعاوضات المالية حيث يكون لكل من المتعاقدين أن يحبس المعقود عليه وهو في يده حتى يقبض البدل المستحق، ثم عرض في المادة (231) لحق من أنفق على ملك غيره مصروفات وهو في يده في حبسه حتى يستوفي ما هو مستحق له. وبعد ذلك عاد فوضع القاعدة العامة في المادة (232) بصيغة تتسع لما سبق أن قرره في المادتين (230 و231). ونظرًا إلى أن تلك التطبيقات تحكم قاعدة عامة واحدة، فإن المشروع لم يفردها بأحكام خاصة. وقد أورد المشروع تلك القاعدة بالمادة (318) بفقرتها الأولى على وجه يتفق مع ما تقرره المادة (232) من القانون الحالي والمادة 246/ 2 مصري والنصوص التي نقلت عنه، وذلك بعد إجراء التعديلين التاليين:
فأولاً: صرح المشروع بأن يكون حق الدائن الذي يحق للمدين أن يُحبس حتى يستوفيه مستحق الأداء وهو حكم مسلم حتى في ظل النصوص التي لم تصرح به ومع ذلك آثر المشروع أن يصرح به.
وثانيًا: في بيان صلة التزام المدين بالتزام الدائن اكتفى المشروع بالنص على الارتباط بينهما، في حين أن النصوص العربية وكلها متأثرة في ذلك بالنص المصري، تتطلب وجود رابطة سببية بين الالتزامين، وهو حكم غير صحيح، ولعله وُجد في نص القانون المصري، ومن بعده في التشريعات العربية الأخرى، نتيجة خطأ في ترجمة عبارة النص الأصلي الذي كتب بالفرنسية للمشروع التمهيدي للقانون المصري، فقد تُرجمت عبارة a l"coyasion أي بمناسبة بكلمة (بسبب) في النص العربي. فإذا كانت السببية هذه تتحقق عندما ينشأ الالتزامان من عقد ملزم للجانبين، فإن نطاق الحق في الحبس لا يقتصر على دائرة هذه العقود، فقد يكون خارج نطاق الروابط العقدية.
أما الفقرة الثانية من مادة المشروع، والتي تقابل الفقرة الثانية من النص المصري، والمادة (231) تجارة كويتي، فقد صيغت بطريقة مختلفة ذلك أن النص المصري، ومن بعده النصوص العربية الأخرى، قد أوردت الحكم الخاص بحق حائز الشيء أو محرزه في حبس الشيء حتى يسترد المصروفات باعتباره تطبيقًا أورده المشروع على وجه الخصوص، وفي نهاية النص يقرر عدم جواز الحبس إذا كان الالتزام بالرد ناشئًا عن عمل غير مشروع، والواقع أنه يكفي النص على هذا الحكم الأخير فيكون مؤدى ذلك أنه استثناء من القاعدة العامة في الحبس أو بتعبير آخر نكون بصدد شرط هو أن يكون وجود الشيء في يد حائزه أو محرزه بسبب مشروع. ولهذا صيغت الفقرة الثانية على نحو لا يبرز أن المشروع يضع تطبيقًا خاصًا، ولكن للإفصاح بأن الحبس في هذا الفرض غير جائز ما دام الالتزام بالرد نشأ عن عمل غير مشروع.
وتعرض المادة (319) لما يترتب على الحابس من التزامات بسبب حبسه الشيء، فعليه أن يقوم بالمحافظة عليه، وأن يقدم حسابًا عن غلته، وتفريعًا على الالتزام بالحفظ، إذا كان الشيء المحبوس يُخشى عليه من الهلاك أو التعييب أن يطلب من المحكمة الإذن له في بيعه كما يكون له في حالة الاستعجال أن يبيعه دون إذن، وينتقل الحق في الحبس في الحالين من الشيء إلى ثمنه. ونص المشروع لا يختلف عن أحكام الفقرتين الثانية والثالثة من المادة (233) من قانون التجارة إلا في أنه أضاف جواز البيع دون استئذان في حالة الاستعجال، وهو حكم لم تنص عليه التشريعات العربية المقارنة برغم أنه قد يحدث في العمل ألا يتسع الوقت للحصول على إذن المحكمة كما لو أن أمين النقل كان يحبس نوعًا من الفاكهة أو الخضروات التي لا تحتمل التأخير إلى حين الحصول على إذن القضاء وإلا تلفت.
وقد أفرد المشروع الحكم الخاص بأن حق الحبس في ذاته لا يعطي الحابس حق امتياز على الشيء المحبوس بمادة مستقلة، هي المادة (320) على خلاف قانون التجارة الحالي، الذي يجمع بينه وبين التزامات الحبس في المادة (233) السابقة، وقد حذا المشروع في تقرير الحكم الذي أخذ به حذو القانون الحالي وقوانين البلاد العربية الأخرى ما عدا القانون الأردني الذي ينص على أن الحابس أحق من باقي الغرماء في استيفاء حقه.
وتعرض المادة (321) لحلول ما قد يستحق عند هلاك الشيء المحبوس أو تلفه من مقابل أو تعويض، حلولاً عينيًا، وهو نص لا مقابل له في القانون الكويتي ولا في قوانين البلاد العربية الأخرى فيما عدا القانون السوداني (المادة 232).
هذا مع ملاحظة أن قانون التجارة الكويتي، والقوانين العربية الأخرى قد طبقت فكرة الحلول العيني في حالة خاصة وهي عندما يكون الشيء المحبوس مما يُخشى عليه الهلاك أو التلف، وحيث يكون للحابس أن يحصل على إذن المحكمة في بيعه، وينتقل الحق في الحبس من الشيء إلى ثمنه، وهو ما قرره المشروع في المادة (319) فرئُي تعميم حكم هذا الحلول العيني على الحالات الأخرى التي يهلك فيها الشيء المحبوس أو يتلف ويترتب على ذلك استحقاق مقابل أو تعويض يلتزم به من أهلك الشيء أو أتلفه وفقًا لأحكام المسؤولية التقصيرية، أو مبلغ التأمين الذي تلتزم به الشركة المؤمنة أو ما تدفعه الدولة نظير استملاك المال المحبوس، فليس ثمة مبرر لقصر الحلول العيني على حالة بيع الشيء الذي يُخشى عليه الهلاك أو التلف دون غيرها من الحالات.
ونص المشروع لا يختلف عن نص القانون السوداني إلا في أنه استبدل عبارة (إلى ما يُستحق بسبب ذلك من مقابل أو تعويض) بعبارة (إلى ما يحل محله) الواردة في النص السوداني، لأن الحلول في المعنى الفني للمصطلح هو الأثر الذي يرتبه القانون على الاستبدال الذي يعني وجود مال في الذمة بدلاً من مال آخر خرج منها، وبالتالي فالحلول في الفرض المنصوص عليه هو انتقال الحق في الحبس إلى مال البدل.
بقي أن انتقال الحق في الحبس من الشيء إلى ما يستبدل به، يثير مسألة كيف يمارس صاحب الحق في الحبس حقه على المال الذي حل محله، خاصة والغالب أن يكون مبلغًا من النقود، وقد رئُي تنظيم هذه المسألة بالنسبة للرهن الحيازي، عندما ينتقل حق الدائن المرتهن إلى ما يستبدل بالشيء المرهون على أثر الهلاك أو التلف، والاكتفاء هنا بالإحالة إلى أحكام الرهن الحيازي.
وتعرض المادة (322) لحالة خاصة من الحالات التي ينقضي فيها الحق في الحبس بعد وجوده وهي حالة خروج الشيء من يد الحابس، فالحق في الحبس ينقضي في حالات أخرى لا تحتاج إلى نص بشأنها، منها أن يقوم الدائن بالوفاء بالتزامه نحو الحابس، أو يقدم تأمينًا كافيًا للوفاء بهذا الالتزام. كما ينقضي الحق في الحبس بالنزول عنه صراحةً أو ضمنًا كما لو طلب الحابس بيع الشيء جبرًا على مالكه ليستوفي حقه من ثمنه فلا يكون له عندئذ أن يمتنع عن تسليم الشيء إلى الراسي عليه المزاد تمسكًا بحقه في الحبس.
والأصل كما تقرره المادة (322) أن الحبس ينقضي بخروج الشيء من يد الحابس، وقد آثر المشروع ألا ينقل العبارة المقابلة بقانون التجارة الحالي التي تتكلم عن زوال الحيازة، إذ أن الحبس لا يقتضي بالضرورة أن يكون الحابس حائزًا بالمعنى الفني لمصطلح الحيازة، ولهذا تكلم النص المصري عن الحيازة أو الإحراز.
على أنه إذا خرج الشيء من يد الحابس دون علمه أو رغم معارضته فله، وفقًا لنص الفقرة الثانية أن يطلب استرداده خلال ثلاثين يومًا من وقت علمه بخروج الشيء من يده وقبل انقضاء سنة من وقت خروجه وهذا الحكم متفق مع نص القانون الكويتي والقوانين العربية الأخرى.
الباب الثالث: الأوصاف المعدلة لآثار الالتزام
الفصل الأول: الشرط والأجل:
المواد (323 – 335):
أولاً: الشرط:
تعرض المادة (323) من المشروع لحكم الشرط فتتطلب أن يكون الالتزام الشرطي معلقًا في قيامه أو في زوال وجوده على أمر مستقبل وغير محقق الوقوع، أما إذا علق على أمر تم وقوعه في الماضي كان الالتزام منجزًا ولو كان المتعاقدان على جهل بذلك، وإن علق على أمر محقق الوقوع كان الالتزام مضافًا إلى أجل، ويتفق المشروع في ذلك مع ما تقرره المادة (236) من قانون التجارة الحالي مع تعديل في الصياغة يجعل المعنى المراد سهل التناول، وهو ما جرت به نصوص المواد (265) مصري، (252) ليبي، (265) سوري.
وقد أخذت المادة (324) من المشروع بما تقرره المادة (227) من قانون التجارة الحالي عن الشرط غير الممكن أو المستحيل مع تعديل في الصياغة أدنى إلى دقة العبارة وأوفى في الإحاطة بالحكم المقصود وقد حذا المشروع في ذلك حذو القانون المصري والقانون السوري والقانون الليبي بالمواد (266 و265 و252) على التوالي ويكون الشرط غير ممكن إذا كان أمرًا مستحيل الوقوع وعلى أن تكون الاستحالة مطلقة فإن كانت استحالة نسبية فإنها لا تعيب الالتزام وتعتبر الاستحالة نسبية إذا غلب على الفكر إمكان وقوعها.
وتقرر المادة (325) حكمًا يقضي بعدم قيام الالتزام المقترن بشرط واقف يتعلق بمحض إرادة الملتزم اعتبارًا بأنه من شأن الشرط في هذه الصورة أن يجعل عقدة الالتزام منحلة منذ البداية. فإذا جاء الشرط على أساس أن المدين يلتزم إذا شاء أو إن وجد ذلك مناسبًا له كان شرطًا باطلاً لا يولد معه الالتزام، إنما إذا كان الشرط فاسخًا فإنه يكون صحيحًا ولو تعلق بمحض إرادة المدين، لأن الالتزام قد وُجد صحيحًا ولو تعلق بمحض إرادة المدين، لأن الالتزام قد وجد صحيحًا وتامًا وتنطلق إرادة المدين بشأن الإبقاء عليه أو فسخه، ويراعى أيضًا أن الشرط يصح إذا كان رهينًا بإرادة الدائن وحده فيكون الالتزام المشروط معلقًا على إرادة هذا الدائن فله أن يقتضي الدين من المدين وله أن يحله منه، وغني عن البيان أن البطلان لا يتطرق إلى الشرط المختلط وهو ما يكون مرتبطًا بإرادة أحد الطرفين وبعامل أو عوامل خارجية لا تخضع لإرادته التحكمية وقد جاء المشروع بحكم المادة (325) نقلاً عن المادة (267) مصري والقوانين العربية التي نقلت عنها.
وأوردت المادة (326) ذات الحكم العام الذي تنص عليه المادة (238) من قانون التجارة الحالي، وإذ كان مؤدى النص الحالي على عدم قيام الالتزام إلا بتحقق الشرط الواقف هو عدم صلاحية الالتزام قبل تحقق هذا الشرط لمباشرة أي إجراء من إجراءات التنفيذ، إلا أن فترة بقاء الالتزام معلقًا على خطر الوجود قانونًا دون أن يكون مجرد أمل من الآمال يجعله أساسًا صالحًا لاتخاذ الإجراءات التحفظية وهو ما رئُي إضافته إلى حكم القانون الحالي وعلى نحو ما جرت عليه أكثر التشريعات العربية المقارنة (المادة 268 من القانون المصري وما يقابلها في التشريعات العربية التي نقلت عنه).
وتقابل المادتان (327 و328) من المشروع ما تقرره المادتان (239 و240) من قانون التجارة الحالي مع تعديل في أولاهما أدنى إلى الدقة في الصياغة وتمام التنسيق بين حكمها والحكم المنصوص عليه بالمادة (240) فقد نصت المادة (327) من المشروع على أن زوال الالتزام بتحقق الشرط الفاسخ لا يرتب الضمان على الدائن إذا استحال عليه الرد بسبب لا يعزى إليه، وبذلك يتسق حكمها مع ما تقضي به المادة (328) من المشروع (المقابلة للمادة 240 تجاري) من تجريد الشرط واقفًا كان أو فاسخًا من أثره الرجعي إذا أصبح محل الالتزام قبل تحقق الشرط مستحيلاً لسبب لا يد للمدين فيه، وهو ما رُوعي في التشريع المصري، بالمادتين (269 و270) مدني والتشريعات العربية التي سارت على منواله (المادة 270 سوري والمادة 257 ليبي والمادة 290 عراقي). وقد أخذ المشروع بنظرية القانون القائم وتلك التشريعات بشأن فكرة الأثر الرجعي اعتبارًا بأنها تمثل عادة النية المحتملة للمتعاقدين، ذلك أن مفهوم تعليق الالتزام على الشرط، أن المتعاقدين لا يعلمان وقت التعاقد إن كان الشرط يتحقق أو لا يتحقق ولو أنهما كانا على معرفة مسبقة بمآل الشرط لما علقا عليه الالتزام وجعلاه التزامًا منجزًا من اللحظة التي انعقد فيها العقد، ومن أجل ذلك لا يكون الأثر الرجعي للشرط متعلقًا بالنظام العام فيجوز للمتعاقدين أن يتفقا على خلاف مقتضاه، كما يمتنع الأثر الرجعي للشرط إذا تعارض وجوده مع طبيعة العقد.
ثانيًا: الأجل:
تتفق المواد (329 و330 و331) من المشروع على التوالي مع الأحكام المقررة بالمواد (241 و242 و243) من قانون التجارة الحالي، مع تعديل في صياغة أولاها التي تنص على معنى الأجل بنوعيه تحقيقًا للتجانس مع الصياغة التي آثرها المشروع بمادته (323) في بيان نوعي الشرط. والحق المقترن بأجل موقوف حق له وجود كامل فينتقل من صاحبه إلى الغير بكافة الأسباب التي تنتقل بها الحقوق الأخرى ولذلك تقرر المادة (330) أن لصاحبه أن يجري فيه الأعمال اللازمة للمحافظة عليه وصيانته، ولا يجوز للمدين أو غيره أن يحول بينه وبين ما يتخذه من هذه الأعمال، كما أن له أن يقوم بالأعمال والإجراءات التحفظية كوضع الأختام وقيد الرهون الرسمية والتدخل في القسمة وله بوجه خاص أن يطالب بتأمين إذا خشي إعسار المدين أو إفلاسه واستند في ذلك إلى سبب معقول يبرره، وفي هذه الحالة إذا لم يقدم المدين التأمين سقط الأجل وصار الالتزام منجزًا، وترتيبًا على ما للحق المؤجل من ماهية الوجود الكامل فإنه إذا هلك الشيء الذي يكون محلاً له بسبب أجنبي قبل حلول الأجل وقع هلاكه على الدائن لا على المدين. وتنص المادة (331) على حكم تمليه القواعد العامة وهو حلول الأجل بالنزول عنه ممن له مصلحة فيه، فلصاحب المصلحة وحده أن يتنازل عما تقرر من أجل لمصلحته هو، ويغلب أن يكون الأجل لمصلحة المدين وإنما يمكن أن يتمحض لمصلحة الدائن كما هي الحال في الوديعة فلا يملك التنازل عن الأجل في الحالة الأولى إلا المدين ولا يملكه في الحالة الثانية إلا الدائن فإذا كان الأجل لمصلحتهما معًا لم يجُز لأحدهما أن ينفرد بالتنازل بل يصبح تراضيهما شرطًا للتنازل في هذه الصورة.
وقد أخذ المشروع في المادة (332) بأسباب سقوط الأجل كما أوردتها المادة (244) من قانون التجارة الحالي وإنما رئُي أنه من الملائم في خصوص السبب الثاني من تلك الأسباب أنه إذا كان أضعاف التأمين قد وقع بعلة لا يد للمدين فيها، فإن المدين يكون له الخيار بين قبول سقوط الأجل أو تقديم تأمين كافٍٍ لتغطية الدين، فلا مبرر في هذه الصورة لما يجري به النص الحالي من جعل الخيار الثاني هو تكملة التأمين إلى القدر الذي كان عليه قبل أضعافه إذ يمكن أن تربو قيمته الأصلية كثيرًا على قدر الدين، وقد استمد المشروع هذا الحكم من المادة (273) مصري والتشريعات العربية التي حذت حذوه.
كذلك أخذ المشروع في المادة (333) بما تقضي به المادة (245) من قانون التجارة الحالي من أن موت المدين يترتب عليه حلول الدين المؤجل وهو حكم يرجع في أصله إلى بعض الآراء في الفقه الإسلامي، ويستثنى من ذلك الحكم الدين المضمون بتأمين خاص، ورأى المشروع إضافة استثناء آخر استمده من مذهب الحنابلة بمنع سقوط الأجل إذا قدم الورثة ضامنًا كافيًا تقديرًا بما في هذه الصورة من التصون لحق الدائن، وتتفق المادتان (334 و335) في حكمهما مع ما تنص عليه المادتان (246 و247) من قانون التجارة الحالي مع تعديلات لفظية طفيفة في الصياغة ومؤدى حكم أولاهما أنه إذا تبين من الظروف أن المدين قصد إضافة التزامه إلى أجل هو ميسرته أو قدرته على الوفاء فإنه يكون للدائن أن يطلب من المحكمة تعيين الموعد المناسب لذلك الوفاء، وتلتمس المحكمة من الظروف والملابسات الموعد الذي تقدر أن يكون المدين عند حلوله موسرًا أو مقتدرًا على الوفاء بالالتزام مراعية في التقدير موارد المدين عند نظر الدعوى وما يتوقع أن يرد إليه من أموال وموارد في المستقبل وواضعةً في اعتبارها أن المدين سينتهج فيما يجريه ذات درجة العناية التي يبذلها الشخص الحريص على الوفاء بالتزامه، وتنص المادة (335) المقابلة للمادة (247) على حكم تفرضه الطبيعة القانونية للأجل الفاسخ، فالحق المقترن بأجل من هذا القبيل يكون زواله محققًا منذ البداية وتبعًا لذلك يمتنع التأويل بأن نية الطرفين انصرفت إلى الأثر الرجعي إذ لا محل لهذا التأويل إزاء أمر محقق الوقوع.
الفصل الثاني: تعدد محل الالتزام:
المواد :(336 - 340):
أولاً: الالتزام التخييري:
جاء المشروع بالمادتين (336 و337) متفقًا مع ما تقضي به المادتان (248 و249) من قانون التجارة الحالي. ويعتبر الالتزام تخييريًا في حكم المادة الأولى إذا كان هناك تعدد في محل الالتزام على نحو يحقق مكنة الاختيار بين ما تعدد إليه المحل. فإذا لم يصح الالتزام بأكثر من أمر واحد بسبب عدم توفر الشروط القانونية فيما عداه لعدم مشروعيته أو لعدم إمكانه مثلاً فإن الالتزام يكون مجردًا من وصف التخيير وليس له إلا محل واحد وهو ذاك الذي صح الالتزام به، ويلزم ألا يتداخل في منطقة الالتزام التخييري نظم قانونية أخرى تشتبه به وأخصها الشرط الجزائي الذي لا يعدو أن يكون تقديرًا اتفاقيًا للتعويض عن إخلال المدين بالتزامه فهو بمثابة كل تعويض آخر لا يقوم محلاً ثانيًا إلى جانب المحل الأصلي الذي انصب الالتزام عليه فيمتنع على المدين أن يختار التعويض بالشرط الجزائي دون التنفيذ العيني إذا كان هذا التنفيذ ممكنًا وطالب به الدائن، كما يمتنع على الدائن أن يختار الشرط الجزائي إذا كان التنفيذ العيني ممكنًا وعرضه المدين، واستكمالاً لما تقرره المادة (249) من قانون التجارة أضاف المشروع إلى المادة (337) المقابلة لها حكمين جديدين يقضي أولهما بأنه إذا لم تعين مدة الخيار تولت المحكمة تعيين المدة المناسبة تبعًا للظروف، ويعالج الآخر حالة تعدد من يكون لهم الخيار كما هو الشأن في تعدد المدينين أو خلفاء المدين أو تعدد الدائنين أو خلفاء الدائن وقد استلزم النص اتفاق أولئك أو هؤلاء جميعًا الخيار في المدة المحددة له وإلا تولته المحكمة في الصورة الأولى وانتقل الخيار إلى المدين في الصورة الثانية، وقد استمد هذا الحكم الأخير من القانون المصري (مادة 276 والتشريعات العربية التي نقلت عنه المادة 276 سوري والمادة 263 ليبي وتقابلها في القانون العراقي المادة 299) والالتزام التخييري يقابله في الفقه الإسلامي خيار التعيين، ولا يجوز عندهم أن يقع على أكثر من ثلاثة أشياء ويلزم فيه ذكر المدة على خلاف في الرأي.
ويتفق حكم المادة (338) مع ما تنص عليه المادة (251) من قانون التجارة مع تعديلات لفظية فيه لضبط الصياغة ويقابله في التشريعات العربية وبغير مخالفة في الأحكام المادة (277) مصري، (277) سوري، (264) ليبي، (301) عراقي و(61) وما بعدها لبناني.
ومؤدى ذلك النص الذي أورده المشروع أنه إذا هلك أحد الشيئين موضع الخيار لسبب أجنبي فإن الالتزام ينحصر محله في الشيء الباقي ولا يكون للمدين إلا أن يختاره وهذا هو ما تقتضيه أيضًا تطبيق القواعد العامة، فإذا شمل الخيار أكثر من شيئين وهلك أحدهما كان للمدين أن يعين محل الالتزام في شيء من الخيارات الباقية، وإن هلكت الخيارات جميعًا انقضى الالتزام لاستحالة التنفيذ، أما إن كان الهلاك بخطأ المدين وتناول شيئًا واحدًا فإن محل الالتزام يتركز في الشيء الآخر أو يبقى للمدين خياره في الأشياء الباقية إذا تعدت وإن ترتب على خطأ المدين هلاك الشيئين أو الأشياء جميعها فإن التزام المدين ينحصر في آخر شيء هلك منها وبذلك يلتزم بدفع قيمة هذا الشيء الذي هلك أخيرًا.
وتقابل المادة (339) ما تنص عليه المادة (250) من قانون التجارة وتتفق معها في الحكم بأن المدين إذا مات قبل أن يعمل الخيار المقرر له انتقل حقه في هذا الشأن إلى ورثته، ويتفق هذا الحكم مع القواعد العامة في القانون وقد ورد عليه نص صريح بالمادة (300) من القانون العراقي والمادة (59) من القانون اللبناني وكذلك يرى الفقهاء المسلمون أن خيار التعيين ينتقل إلى الورثة بعد موت المدين.
ويترتب على تعدد ورثة المدين وامتناع أحدهم فقط أو بعضهم عن اختيار أحد محال الالتزام ما يترتب على مثل هذا الوضع في حالة تعدد المدينين في الأصل إذ يعتبر الورثة جميعهم في حكم الممتنعين عن إعمال حق الخيار ويتولى القاضي بنفسه تعيين محل الالتزام بناءً على طلب الدائن.
ثانيًا: الالتزام البدلي:
أخذ المشروع في المادة (340) بما يقرره قانون التجارة بالمادة (252) في شأن الالتزام البدلي ويكون الالتزام بدليًا كما هو واضح في النص إذا انحصر المحل في أمر واحد يعين ابتداء مع تخويل المدين الحق في الوفاء بمحل بديل عنه، ومثاله أن يتفق المقرض مع المقترض على أنه يجوز عند حلول الأجل بدلاً من الوفاء بمبلغ القرض تقديم عروض معينة أخرى وينبني على تقديمها براءة ذمة المقترض.
وإذا كان التكليف الأصلي هو وحده محل الالتزام البدلي على وجه الإفراد فإنه من ثم يكون هو المناط في تعيين طبيعة ذلك الالتزام، فتتحدد ماهية الالتزام البدلي على أساسه باعتباره عقاريًا أو منقولاً كما يقدر الالتزام بقدره فيما يتعلق بالقيمة والاختصاص، وإذا هلك التكليف الأصلي بخطأ المدين فلا يكون للدائن إلا أن يطالب بالتعويض عنه وليس له أن يطلب البدل فليس البدل محلاً للالتزام وإنما يجوز للمدين إذا شاء أن يوفي بالبديل فيتوقى دفع التعويض.
ويقابل تلك المادة في التشريعات العربية ويتفق معها في الحكم المواد (287) مصري، (378) سوري، (265) ليبي، (302) عراقي، (68) و(69) لبناني.
الفصل الثالث: تعدد طرفي الالتزام:
المواد (341 – 363):
أولاً: التضامن:
جاء المشروع بالمادتين (341 و342) مقابلاً للمواد (253 و254 و258) من قانون التجارة الحالي وهي تتفق مع الأحكام المقابلة في التشريعات العربية، المصري (279 و280) والسوري (279 و280) والليبي (266 و267)، والعراقي (315 و316). وتعين المادة (341) مصدر التضامن سواء بين الدائنين أو بين المدينين إذ تنص على أن التضامن في الحالين لا يفترض فلا يكون التضامن بنوعيه إلا بناءً على نص في القانون أو بناءً على اتفاق الطرفين وليس المقصود باتفاق الطرفين أن يكون التضامن مشروطًا بصريح العبارة إذ يكفي أن تنصرف إليه الإرادة ضمنًا بدلالة بينة لا خفاء فيها، فإذا لابس الشك هذه الأدلة وجب تأويلها لنفي التضامن لا لإثباته وذلك كله مع مراعاة قواعد التجارة.
1 - التضامن بين الدائنين:
وقد زيد على المادة (342) من المشروع المقابلة للمادة (254) من القانون الحالي حكم جديد يواجه الحالة التي تتسم بها رابطة بعض الدائنين بوصف يختلف عن رابطة الآخر كأن يكون دين أحدهم معلقًا على شرط أو مضافًا إلى أجل خلافًا للباقين ويقضي هذا الحكم بالاعتداد بالوصف إذا جاءت المطالبة من الدائن ذي الرابطة الموصوفة. وعدم الاحتجاج بذلك الوصف عندما تكون المطالبة من الدائنين الآخرين.
وقد استمد المشروع المواد (343 و344 و345) من المواد (255 و256 و257) على التوالي من قانون التجارة الحالي وبما يوافق أحكامها، ويتيح نص أولاها للمدين أن يوفي الدين بتمامه لمن يختاره من الدائنين المتضامنين ولا يكون لهذا الدائن أن يرفض استيفاء ما يزيد على نصيبه من الدين بل عليه أن يقبضه كله فإن امتنع جاز للمدين أن يعرضه عليه عرضًا حقيقيًا ويترتب عليه براءة ذمته قِبل ذلك الدائن وسائر الدائنين، ولكن لا يستطيع المدين أن يفرض على أحد الدائنين وفاءً بقدر حصته من الدين إذ يعتبر ذلك وفاءً جزئيًا يحق للدائن أن يرفضه، ولكل من الدائنين المتضامنين أن يعترض على وفاء المدين لأحدهم بكل الدين فقد يحدوه إلى ذلك الاعتراض التوقي من خطر إعسار الدائن الذي اختاره المدين للوفاء إليه ويتعين على المدين في هذه الصورة أن يوفي إلى المعترض قدر نصيبه في الدين وقد اشترط المشروع أن يكون الاعتراض بإنذار رسمي يُعلن إلى المدين لينحسم الإثبات على حصول الاعتراض وهو النهج الذي يتبعه قانون التجارة الحالي والقانون العراقي في المادة (317) خلافًا لما تجري به القوانين العربية الأخرى من الاكتفاء بالنص على أن المدين يمتنع عن الوفاء لمن اختاره من الدائنين إذا اعترض أحد هؤلاء على الوفاء (280 مصري، 280 سوري، 267 ليبي). وإذا مات أحد الدائنين المتضامنين انقسم الدين على ورثته فيما يختص بالعلاقة بينهم وبين المدين فلا يستطيع المدين أن يفي لأحد الورثة إلا بقدر حصته في الميراث ولا يجوز للوارث أن يطالبه إلا بنسبة هذه الحصة في الدين.
وتضع المادة (344) القاعدة العامة في حالة براءة ذمة المدين قِبل أحد الدائنين المتضامنين بسبب غير الوفاء وتقضي بأن المدين لا تبرأ ذمته بالنسبة إلى باقي الدائنين إلا بقدر حصة الدائن الأول في الدين اعتبارًا بأن أسباب انقضاء الالتزام بغير الوفاء هي أسباب خاصة بمن انقضى التزامه بسبب منها، فلا يُضار بها بقية الدائنين إذ تستمر ذمة المدين مشغولة بباقي الدين بالنسبة لهؤلاء الدائنين. كما لا يجوز أن ينفذ قبلهم أي عمل يقع من أحدهم إذا كان من شأنه الإضرار بهم.
وتُرسي المادة (345) القاعدة في العلاقة بين الدائنين المتضامنين وإذ كانت صلة الدائنين بالمدين تؤسس على اعتبار الدين وحدة لا تتجزأ فإن الصلة بين الدائنين المتضامنين بعضهم وبعض تؤسس على تقسيم الدين ومن ثم فإن ما يستوفيه أحدهم يُعتبر من حق جميعهم ويوزع بينهم بنسبة حصة كل منهم ما لم يوجد اتفاق أو نص في القانون يقضي بغير ذلك.
2 - التضامن بين المدينين:
وعالج المشروع بعد ذلك التضامن بين المدينين وجاء أولاً بالمادة (346) مقابلاً للمادة (259) من قانون التجارة وتنص بالفقرة الأولى على حق الدائن في مطالبة مدينيه المتضامنين معًا أو مطالبة أحدهم على سبيل الإفراد أو مطالبة بعضهم دون البعض اعتبارًا بأن هذا التضامن شأنه كالتضامن الإيجابي منوط بفكرتين الأولى وحدة المحل والأخرى تعدد الروابط والمقصود بوحدة المحل في مقام التضامن السلبي أن كلاً من المدينين المتضامنين ملزم في مواجهة الدائن بالدين كاملاً غير منقسم، والمقصود بتعدد الروابط أن كل مدين تربطه بالدائن رابطة مستقلة ومتميزة عن الروابط التي تربط المدينين الآخرين بهذا الدائن فإذا تعيبت الرابطة الخاصة بواحد من المدينين المتضامنين بقيت روابط سائر المدينين سليمة. وقد أُضيف إلى الفقرة الأولى حكم جديد يقضي بأن رجوع الدائن على مدينيه المتضامنين أو بعضهم يكون في حدود ما قد يُلابس روابطهم المتعددة من أوصاف يخالف بعضها بعضًا، فقد يكون أحدهم مدينًا تحت شرط ويكون دين غيره منجزًا أو مضافًا إلى أجل، فلا يكون للدائن أن يطالب المدين تحت شرط إلا عند تحقق الشرط أو أن يطالب المدين المؤجل دينه إلا عند حلول الأجل.
على أن المشروع لم ينقل إلى الفقرة الثانية ما تنص عليه المادة 259/ 2 من قانون التجارة من أنه (ولا يجوز للمدين الذي يطالبه الدائن بالوفاء أن يحتج بأوجه الدفع الخاصة بمدين آخر إلا بقدر نصيب هذا المدين إذا كان قد انقضى بوجه من الوجوه ولكن يجوز له أن يحتج بأوجه الدفع الخاصة به وبأوجه الدفع المشتركة بين المدينين جميعًا) وإنما آثر فيما أورده بالفقرة الجديدة نصًا أكثر سدادًا فيضع أولاً القاعدة العامة فيما يتعلق بالدفوع التي يتمسك بها كل من المدينين المتضامنين في مواجهة الدائن. ومؤدى هذه القاعدة أنه إذا كانت رابطة أحد المدينين المتضامنين خاضعة لدفع خاص به كأن يكون رضاه مشوبًا بغلط أو تدليس أو إكراه أو نقص في الأهلية فإنه يتمسك بهذا الدفع في مواجهة دائنه ولا يقبل من غيره من المدينين أن يحتج به، وأما أوجه الدفع المشتركة بين المدينين المتضامنين كما إذا كان العقد المنشئ للالتزام التضامني باطلاً في الأصل لعدم توافر شروط المحل أو السبب أو كان العقد قابلاً للفسخ لتخلف الدائن عن الوفاء بالتزامه المقابل للمدينين المتضامنين فإنه يكون لكل من هؤلاء أن يتمسك بالفسخ في وجه الدائن.
أما في أحوال انقضاء الالتزام فإنه إذا كان الانقضاء بسبب الوفاء عينًا أو بمقابل من جانب أحد المدينين المتضامنين فإن هذا السبب يُعتبر مشتركًا بين جميع المدينين ويكون لكل منهم أن يحاج الدائن به، وإذا كان انقضاء الالتزام قد وقع بالنسبة لأحد المدينين المتضامنين ولسبب غير الوفاء فإن المدينين الآخرين لا يكون لهم الاحتجاج به إلا في حدود نصيب المدين الذي انقضى الالتزام لصالحه وبما يتفق مع طبيعة كل سبب من تلك الأسباب وذلك على التفصيل المبين فيما يلي.
فقد جاء المشروع بالمادة (347) لتقرر حكم الوفاء من أحد المدينين وهو يتفق مع ما تنص عليه المادة (260) من قانون التجارة الحالي وإنما أُعيدت صياغتها لجلاء حكمها المقصود، واقتضى ذلك وضعها في فقرتين تنص الأولى على أنه إذا قضى أحد المدينين المتضامنين الدين بوفائه عينًا أو بمقابل فانه يبرأ من ذلك الدين ويبرأ معه بقية المدينين، فإذا رفض الدائن أن يستوفي الدين كله من أي مدين متضامن كان لهذا المدين أن يجبره على قبول الوفاء بأن يعرض الدين عليه عرضًا حقيقيًا وفقًا للإجراءات المقررة وبذلك تبرأ ذمته كما يبرأ باقي المدينين المتضامنين، وتقضي الفقرة الثانية بأنه إذا تمت حوالة الدين من أحد المدينين المتضامنين إلى شخص آخر برئ هذا المدين وبرئ أيضًا المدينون الآخرون ما لم يرضوا بالحوالة وذلك على اعتبار أن أولئك المدينين أجانب عن الحوالة فلا يجوز أن تسري في حقهم بغير رضاء من جانبهم، وبذلك يتحقق التنسيق واضحًا بين حكم هذه الفقرة وبين ما تنص عليه المادة (381) من المشروع والمقابلة للمادة (298) من قانون التجارة الحالي من أنه إذا تمت حوالة الدين فإن الكفيل عينيًا كان أو شخصيًا لا يبقى ملتزما قِبل الدائن إلا إذا رضي بالحوالة. وتقابل هذه المادة في القوانين العربية المواد (322) عراقي و(284) مصري و(284) سوري، (371) ليبي.
وفي شأن تجديد الدين بين الدائن وأحد مدينيه المتضامنين أخذ المشروع في المدة (348) بما يقرره قانون التجارة القائم في المادة (261) وهي مطابقة في الحكم والصياغة مع نصوص القوانين العربية بالمادة (286) مصري و(286) سوري و(273) ليبي، (323) عراقي كما تتفق مع حكم المادة (31) لبناني، وتقوم في أساسها على خصيصة يتميز بها التجديد إذ ينقضي به الالتزام الأصلي بتوابعه وتأميناته وينشأ في مكانه التزام جديد يختلف عن الالتزام القديم الذي انقضى بما كان له من صفات وتوابع وتأمينات، ويُعتبر من تأمينات الدين القديم التضامن بين المدينين فيقضي بانقضاء هذا الدين، وعلى ذلك إذا اتفق الدائن مع أحد المدينين المتضامنين على تجديد الدين استتبع ذلك قضاء الدين القديم وبراءة ذمة جميع المدينين دون أن يفقد التزام المدينين المتضامنين الآخرين بالدين القديم فيكون لزامًا عليه وقت إجراء التجديد أن يُفصح عن نيته بأنه لا يقصد من التجديد إبراء ذمة باقي المدينين المتضامنين كما أنه يمكنه من باب أولى أن يتفق مع هؤلاء المدينين على بقاء التزامهم التضامني القديم.
وتنص المادة (349) على الحكم في حالة وقوع المقاصة بين الدائن وأحد المدينين المتضامنين، وإذ كان من شأن المقاصة قضاء الدين الذي انصب عليه القصاص، ومن ثم يمتنع على الدائن أن يرجع على المدين الذي انقضى دينه بالمقاصة ولا يبقى له إلا الرجوع على بقية المدينين المتضامنين فيحق له مطالبة كل منهم بجملة الدين بعد استنزال حصة المدين الذي وقع القصاص معه. وقد نقل المشروع هذا الحكم عن المادة (262) من قانون التجارة القائم وهي مطابقة للمواد المقابلة في التشريعات العربية (287 مصري و287 سوري، 274 ليبي و324 عراقي).
ويواجه نص المادة (350) من المشروع حكم اتحاد الذمة بين الدائن وأحد مدينيه المتضامنين، ويتحقق ذلك إما عن طريق خلافة الثاني للأول، وإما عن طريق خلافة الأول للثاني، وفي كلتا الحالتين لا ينقضي الدين إلا بقدر حصة هذا المدين فيه وحكم هذه المادة مأخوذة عن المادة (263) من قانون التجارة الحالي وهو مطابق لما تنص عليه المادة (288) من القانون المصري وما يقابلها من القوانين العربية الأخرى.
وتعرض المادة (351) للحكم في حالة إبراء أحد المدينين المتضامنين على وجه يوافق نص المادة (264) من قانون التجارة الحالي مع تعديل في صياغتها أقرب إلى الدقة والوضوح، ومع إضافة حكم جديد إليها رئُي أن من الملائم النص عليه صراحةً وإن كان مما يتفق مع القواعد العامة وذلك حسمًا لأي خلاف محتمل في الرأي بشأنه، ذلك أن القانون القائم يقضي بأن الدائن إذا أبرأ أحد المدينين المتضامنين مع المدين كان له أن يرجع على المدينين المتضامنين الآخرين بالدين منقوصًا منه حصة من أبرئ، وقد أخذ المشروع بذلك الحكم وزاد عليه أن الدائن إذا كان عند إبرائه لمن أبرأه من المدينين قد احتفظ بحقه في الرجوع على بقية المدينين بكل الدين فإنه يحل له في هذه الصورة مطالبة هؤلاء المدينين أو من يشاء مطالبته منهم بالدين بتمامه، ويكون لمن يوفي الدين أن يرجع بدوره على المدين الذي أبرأه الدائن وبقدر حصته في ذلك الدين، واستمد المشروع هذا الحكم الذي أضافه من القانون المصري بالمادة (289) والقوانين العربية التي نقلت عنه (289 سوري و276 ليبي).
وفي المادتين (352 و353) استكمل المشروع بقية أحكام إبراء أحد المدينين المتضامنين سواء من الدين أو من التضامن فيه فقط بما يتفق مع أحكام المادتين (265 و266) من قانون التجارة القائم مع إعادة صياغة بعض عباراتهما صياغة أكثر دقة وضبطًا استمدها المشروع من بعض التشريعات العربية في المواد المقابلة (290 إلى 292 مصري، 290 إلى 292 سوري، 277 إلى 297 ليبي). وقد استبدل المشروع بما تجري به المادة (267) من نص على تقادم الدعوى العبارة التي أوردها بالمادة (354) وهي امتناع سماع الدعوى بمرور الزمان أخذًا بالمصطلح عليه في الفقه الإسلامي وعلى نحو ما يأخذ به نص المادة (329) من القانون العراقي.
وجاء المشروع في المادة (355) بحكم يطابق ما تنص عليه المادة (268) من قانون التجارة الحالي ويُشكل هذا الحكم تطبيقًا دقيقًا لقاعدة مستقرة بأن النيابة التبادلية بين المدينين المتضامنين تكون فيما ينفعهم وليس فيما يضرهم، فكل خطأ يقع في تنفيذ الالتزام لا يكون مسؤولاً عن التعويض عنه غير فاعله أو فاعليه من المدينين ومقدرًا بقدر خطئه جسيمًا كان أو يسيرًا ولا تتعدى المسؤولية عنه إلى المدينين الآخرين بل إن مسؤولية هؤلاء تبقى في حدود تنفيذ الالتزام تنفيذًا عينيًا وكذلك فإن إعذار أحد المدينين المتضامنين أو رفع الدعوى عليه لا ينتج أثره إلا بالنسبة إليه فلا يغير بحال من المراكز القانونية لباقي المدينين، أما إذا وجه أحد المدينين المتضامنين إعذارًا إلى الدائن فإن المدينين الآخرين يفيدون منه ويكون شأنهم في ذلك شأن المدين الذي صدر الإعذار عنه، ويتفق حكم هذه المادة مع ما تنص عليه المادة (293) من القانون المصري والقوانين العربية التي أخذته عن ذلك القانون (293 سوري، 280 ليبي، 330 عراقي).
وأخذ المشروع المادة (356) نقلاً عما تنص عليه المادة (269) من قانون التجارة القائم ومؤداها أن الصلح بين الدائن وأحد المدينين إذا انطوى على إبراء من الدين أو من جزء منه كان لباقي المدينين أن يفيدوا منه وكذلك يكون الحكم إذا تضمن الصلح بأية صورة من الصور تخفيفًا من أعباء الدين اعتبارًا بما بين المدينين من نيابة تبادلية فيما ينفع، وغني عن البيان أنه بالنظر إلى أن الصلح لا يقبل التجزئة فلا يجوز للمدينين المتضامنين الآخرين أن يتمسكوا بالجزء الذي يفيدهم في الصلح وأن يطرحوا ما يضرهم بل أنهم إذا ما احتجوا بالصلح لأنه في مجموعه يفيدهم فيجب أن يتحملوا به كله.
وعرض المشروع في المادتين (357 و358) لتطبيقات أخرى للقاعدة العامة في إعمال فكرة النيابة التبادلية بصدد الإقرار واليمين وحجية الشيء المقضي به آخذًا في ذلك مأخذ قانون التجارة في المادتين (270 و271) ولكن أدخل المشروع بعض التعديلات في الصياغة التي جاء بها كما آثر النص في الفقرة الثالثة من المادة (357) على أن حلف أحد المدينين المتضامنين لليمين يفيد منه الباقون واستبعد منه ما يضيفه الحكم المقابل في المادة (270) من القانون الحالي من أن هؤلاء المدينين الآخرين يستفيدون إذا انصبت اليمين على المديونية لا على التضامن، اعتبارًا بأن هذه الإضافة فضلة زائدة إذ لا يتصور استفادة المدينين من يمين يحلفها أحدهم ينكر بها وجود التضامن. ومما يجدر التنويه به أن المجال الذي يتناوله الحكم هو توجيه اليمين إلى واحد فقط من المدينين المتضامنين، أما إذا وجه الدائن اليمين إلى جميع المدينين فحلفها بعضهم ونكل بعض آخر فإن تطبيق القواعد العامة يؤدي إلى أن من نكل يُضار بنكوله ولا يستفيد من حلف الآخرين. وتقابل هذه الأحكام في التشريعات العربية أحكام المواد (295 و296) مصري و(295 و296) سوري و(282 و283) ليبي و(332 و333) عراقي.
وتناول المشروع في المادة (359) بفقراتها الثلاث علاقة المدينين فيما بينهم وتقابل الفقرة الأولى المادتين 272/ 1 و273/ 1 من قانون التجارة القائم مع تعديل في عباراتهما يقتضيه الإيضاح وتنسيق أحكامها مع القواعد العامة وتقضي تلك الفقرة بأنه إذا وفى أحد المدينين المتضامنين الدين كله أو ما يزيد على حصته فيه أو قام بهذا أو ذاك بطريق من الطرق الأخرى المعادلة للوفاء، فإنه يرجع على بقية المدينين كل بقدر حصته في الدين أو في تلك الزيادة، أي أن حقه في الرجوع يكون حيث يقضي الدين بوفائه عينًا أو بما يعادله سواء كان وفاء بمقابل أو تجديدًا أو مقاصة أو اتحاد ذمة، أما إذا انقضى الدين بالنسبة إلى أحد المدينين المتضامنين بسبب لا يُعتبر معادلاً للوفاء كالإبراء والتقادم فلا رجوع له على غيره من المدينين لأنه لم ينفع الدين أو مقابلاً له.
وأتى المشروع في الفقرة الثانية بحكم جديد يرسي القاعدة الأصلية في تقسيم الدين في العلاقة بين المدينين المتضامنين وهو يقضي بأن الدين ينقسم بين المدينين حصصًا متساوية فإذا وُجد اتفاق بينهم على خلاف ذلك انقسم الدين بالنسب المتفق عليها وإن كان هناك نص خاص في القانون بطريقة التقسيم حددت الحصص طبقًا لذلك النص. واستمد المشروع هذا الحكم من القانون المصري بالمادة 297/ 2 والقوانين العربية التي نقلته 297/ 2 سوري و284/ 2 ليبي. ويتفق مع أحكامها المادة (39) لبناني.
وأخذ المشروع الفقرة الثالثة من المادة (359) نقلاً عن المادة 272/ 2 من قانون التجارة الحالي الذي استمدها بدوره من نصوص القوانين العربية السابقة، ويؤدي حكمها إلى أن العبرة في قيام الإعسار بمن أعسر من المتضامنين والذي يتيح لمن أوفى الدين منهم الرجوع على سائرهم بنصيب المعسر، تكون بالوقت الذي يحصل فيه الرجوع إلا أن يثبت أن المدين الموفي قد تراخى في الرجوع حتى أعسر المعسر فيكون قد أخطأ من جانبه ولا يحق له أن يحمل المدينين الآخرين تبعة خطئه، على أنه إذا كان أحد المدينين المتضامنين هو وحده صاحب المصلحة في الدين، فإنه وإن كانت علاقة الدائن بالمدينين المتضامنين في هذه الصورة تظل محكومة بقواعد التضامن، إلا أنه في علاقة أولئك المدينين بعضهم ببعض فإن قواعد الكفالة هي التي تسري عليها، ومن ثم فإن المدين الذي تفرد بالمصلحة في الدين يتحمل به كله في صلته بالمدينين المتضامنين الآخرين، فإن قام هو بالوفاء لم يكن له الرجوع على غيره بشيء مما وفاه، وإن قام مدين متضامن آخر دونه بالوفاء رجع عليه وحده بالدين بتمامه، وقد أورد المشروع القاعدة التي تحكم هذا الموضوع بالمادة (360) نقلاً عما ينص عليه قانون التجارة بالمادة 273/ 2 مع تعديل في الصياغة اقتضته الملاءمة.
ثانيًا: عدم القابلية للانقسام:
ويعرض المشرع لعدم قابليه الالتزام للانقسام في المواد (361 و362 و363) وهي تتفق مع نصوص المواد (274 و275 و276) من قانون التجارة الحالي وما يقابلها في التشريعات العربية (المواد 300 - 302 مصري، 300 - 302 سوري، 287 - 289 ليبي، 336 - 338 عراقي، 70 وما بعدها لبناني) وتتناول المادة (361) الأحوال التي يكون فيها الالتزام غير قابل للانقسام فتنص على أن الالتزام يتسم بذلك الوصف إذا ورد على محل تمتنع فيه التجزئة بأصل طبعه كالالتزام بتسليم جواد مثلاً، أو إذا اتجهت النية المشتركة للمتعاقدين إلى عدم إجازة تجزئة الوفاء بالالتزام وبالأخص إذا تبين ذلك من الغرض الذي قصدا إليه ومثاله أن ينعقد البيع على قطعه أرض لإقامة مدرسة أو مستشفى عليها أو أي بناء آخر تقتضي إقامته في مفهوم الطرفين مساحة الأرض المبيعة كلها فيكون التزام البائع غير قابل للانقسام بسبب الغرض المقصود من البيع.
وتتناول المادة (362) حكم الالتزام غير القابل للانقسام في حالة تعدد المدينين فتقضي بالتزام كل منهم بوفاء الدين بتمامه إلى الدائن ولمن أوفى الرجوع على بقية المدينين كل بقدر حصته في الدين، وباعتبار أن الالتزام غير القابل للانقسام فإنه لا ينقسم بين ورثة المدين ويكون كل من الورثة مسؤولاً عن الالتزام كاملاً ولذلك يجري كثير من المتعاملين على اشتراط التزام المدين (ولو كان متضامنًا مع آخرين) التزامًا غير قابل للانقسام كيلا يتجزأ الدين بين الورثة.
وتعالج المادة (363) حالة تعدد الدائنين في الالتزام غير القابل للانقسام وهي تتيح لكل دائن أو لأي وارث من ورثته أن يقتضي الدين بتمامه من المدين، وإذا هو استوفاه فإنه يحق لسائر الدائنين الرجوع عليه كل بقدر حصته.
الباب الرابع: انتقال الالتزام
الفصل الأول:
المواد (364 – 376):
تُرسي المادة (364) الأصل العام في حوالة الحق على نحو ما يقرره قانون التجارة الحالي بالمادة (277) منه – نقلاً عن المادة (303) مصري والتشريعات العربية التي أخذت عنه (303 سوري، 290 ليبي، 362 عراقي) – وحاصل ذلك أن الحوالة ترد بصفة عامة على كافة الحقوق الشخصية، وأما محل الحوالة فإنه يكون في الأغلب الأعم التزامًا بمبلغ من النقود، ويمكن أن يكون محلها التزامًا بعمل كاستيفاء منفعة العين المؤجرة بمقتضى حق المستأجر في مواجهة المؤجر، على أن مبدأ حوالة الحقوق الشخصية لا يجري على إطلاقه إذ أن للطرفين الاتفاق على عدم جواز الحوالة كما يحول دونها أن يكون الحق نافيًا بطبيعته لمكنة الانتقال إلى دائن آخر كما هو الشأن في العقود التي يُنظر فيها إلى شخصية المتعاقد الذاتية وكذلك قد ينص القانون صراحةً على عدم جواز الحوالة لاعتبارات معينة، وتورد المادة (365) واحدًا من التطبيقات لهذه الحالة الأخيرة فتقضي بأنه لا تجوز الحوالة في الحق إلا في القدر القابل منه للحجز وهو حكم نقله المشروع عن المادة (279) من قانون التجارة الذي أخذه بدوره من المادة (304) مصري والتشريعات العربية التي نقلت عنه، وما لم يوجد أحد تلك الموانع التي تحول من حوالة الحق فإنه يكفي لانعقاد الحوالة التراضي بين المحيل والمحال له ودون حاجة إلى رضاء المدين الذي يصبح محالاً عليه بمجرد انعقاد الحوالة بين طرفيها. ومع ذلك فإن الحوالة إذا انعقدت صحيحة فإنها لا تُنفذ ولا تُعتبر حجة على المدين أو الغير إلا بتوفيته إجراءات معينة تكفلت ببيانها المادة (366) من المشروع – بما يطابق المادة (279) من قانون التجارة والمأخوذة في أصلها من المادة (305) مصري والمواد المقابلة بالتشريعات العربية التي سارت على نهجها – ومؤداها أن الحوالة لا تُعتبر حجة على المدين إلا بقبوله لها ويكون هذا القبول حجة على الغير إذا كان ثابت التاريخ، فإذا لم يصدر من المدين قبول للحوالة فإنها لا تنفذ في حقه أو في حق الغير إلا إذا أُعلنت إلى المدين وفقًا للأوضاع المقررة في قانون المرافعات.
وتعطي المادة (367) للمحال له الحق في اتخاذ الإجراءات التحفظية حتى قبل أن تصبح الحوالة نافذة بالنسبة للمدين والغير ويتفق ذلك مع الحكم المقرر بالمادة (280) من قانون التجارة الحالي مع تعديل طفيف في الصياغة، ولا يعدو هذا الحكم أن يكون تطبيقًا للقاعدة العامة في تخويل الدائن اتخاذ الإجراءات التحفظية ولو كان حقه معلقًا على شرط واقف أي معدومًا على خطر الوجود. فيثبت ذلك من باب أولى للمحال له ولو لم يكن حقه نافذًا. وقد أخذ القانون القائم بهذا الحكم من المادة (306) من القانون المصري والمواد المقابلة في التشريعات العربية المقارنة.
وتعين المادة (368) مدني الحق الذي تنقله الحوالة إلى المحال له فتقرر أن الحق ينتقل إلى المحال له بما يلازمه من صفات وما لحقه من توابع وما يضمنه من تأمينات وهي تقابل المادة (281) من قانون التجارة ولا تختلف عن حكمها إلا في استبعاد الفوائد مما تشمله الحوالة التزامًا بالقاعدة الأساسية التي انتهجها المشروع بحظر الفوائد عملاً بأحكام الشريعة الإسلامية ولم ينقل النص ما يجري به القانون الحالي من أن الحوالة تشمل الأقساط اعتبارًا بأن القواعد العامة تقتضيه دون حاجة إلى نص خاص عليه.
وتتطابق المادتان (369 و370) من المشروع مع المادتين (283 و282) على التوالي من قانون التجارة مع المخالفة في الترتيب مراعاةً لمنطق الأمور والحكم الذي تنص عليه المادة (369) تمليه طبيعة الحوالة وحكمها في انتقال الحق من المحيل إلى المحال له فإن ذلك يضع على عاتق المحيل الالتزام بتمكين المحال له من الحق الذي انتقل إليه فيكون عليه أن يمده بكافة ما يلزم من الوسائل لإثبات ذلك الحق، والحكم الذي تقرره المادة (370) نتيجة منطقية لانتقال الحق بذاته إلى المحال له، فيمكن للمحال عليه – تبعًا لذلك – أن يتمسك قِبل المحال له بالدفوع وأوجه الدفع التي كان يمكنه أن يتمسك بها قِبل المحيل وذلك بمراعاة أن الوقت الذي تصبح فيه الحوالة نافذة في حق المدين – سواء بقبوله لها أو بإعلانها إليه – يعين الحد الفاصل بين الدفوع وأوجه الدفع التي يكون للمدين أن يتمسك بها وبين ما عداها مما يمتنع عليه الاحتجاج به، وقد استمد القانون الحالي حكمه ذاك من المادة (312) من القانون المصري والقوانين العربية التي سارت على منواله.
وتعرض المواد (371 و372 و373) من المشروع لضمان المحيل للحق المحال به والأحوال التي يتحقق فيها هذا الضمان مع بيان لمداه في كل حالة ويتفق المشروع في ذلك مع ما يجري به قانون التجارة في المواد (284، 285، 286) وإنما أدخل المشروع تعديلات لفظية تحقيقًا لصياغة أفضل في المواد التي جاء بها، هذا وقد جعل المشروع في المادة (373) رجوع المحال له بالضمان على المحيل وفقًا للمادتين (371 و372) محدودًا كأصل عام فيما سبق أن دفعه مع المصروفات مستبعدًا الفوائد التي يضمها القانون الحالي مما يوجب رده، وإلى ذلك وضع المشروع استثناءً ملائمًا من ذلك الأصل الذي أخذ به فاستحدث بالفقرة الثانية من المادة (373) حكمًا يقضي بأن المحال له حسن النية يكون من حقه الرجوع أيضًا بالتعويض عما يلحقه من الضرر إذا كان المحيل يعلم وقت الحوالة بعدم وجود الحق المحال بذمة المدين الأصلي.
وجاء حكم المادة (374) من المشروع متفقًا مع ما تنص عليه المادة (378) من قانون التجارة الحالي مع تعديل لفظي لا يمس جوهر القاعدة المقررة به وهي ضمان المحيل لأفعاله الشخصية سواء كانت الحوالة معاوضة أو تبرعية، واعتبار كل شرط بعدم الضمان باطلاً ولا أثر له. هذا وينص القانون الحالي في المادة (288) التالية على أنه (تبرأ ذمة المدين إذا لم يقبل الحوالة ووفى المدين للمحيل قبل أن يعلم بها، ومع ذلك لا تبرأ ذمته بهذا الوفاء إذا أثبت المحال له أنه كان يعلم وقت الوفاء بصدور الحوالة). وقد رأى المشروع ألا ينقل هذا النص لأنه يتضمن حكمًا تفصيليًا يغني عنه تطبيق القواعد العامة بشأنه وهو نفس النهج الذي اتخذه التشريع المصري إذ أن المشروع التمهيدي للقانون المدني كان قد وضع هذا النص ضمن أحكامه بمادته (432)، ورئي حذفها في المراحل النهائية لإعداد المشروع لما رئي من عدم وجود حاجة إليها.
وتواجه المادتان (375 و376) أحكام التزاحم على الحق المحال في صورتين الأولى هي التزاحم بين محال له ومحال له آخر وتعالجه المادة (375)، والصورة الثانية هي التزاحم بين محال له ودائن حاجز أو دائنين حاجزين وتعالجه المادة (376)، ولم يأتِ المشروع بجديد في الأمرين عما ينص عليه قانون التجارة الحالي في المادتين (389 و290) والقانون المصري الذي نقل عنه، وإنما أدخل المشروع تعديلات لفظية في الصياغة التي وضعها تجعل المعنى المقصود أكثر وضوحًا، وحكم الصورة الأولى بين لا لبس فيه وليس يعدو أن يكون تطبيقًا للقواعد العامة في تصرف السلف في منقول معين إلى خلف ومن بعده إلى خلف آخر إذ تكون الأفضلية للأسبق منهما في الاستخلاف وبمراعاة أن السبق لا يتحدد هنا بتاريخ صدور كل من الحوالتين وإنما يثبت السبق للحوالة التي أصبحت نافذة في حق الغير قبل الحوالة الأخرى، وغني عن البيان أن التزاحم في تلك الصورة لا يوجد إلا إذا اتحد المحل في الحوالتين فإذا تلقى المحال له جزءًا من الحق وتلقى المحال له الآخر الجزء الباقي فإن كلاً منهما يرجع بما أحيل به بغير تزاحم.
وتعرض المادة (376) للتزاحم بين الحوالة والحجز في فرضين: الأول أن يكون الحجز أسبق في تاريخه من الوقت الذي أصبحت فيه الحوالة نافذة، بأن يقع الحجز تحت يد المدين (المحال عليه) وفي تاريخ لاحق لذلك يصير إعلان الحوالة إلى المحال عليه أو يقبلها قبولاً ذي تاريخ ثابت، وعندئذٍ يكون الحجز قد توقع على الحق المحال وهو ما زال على ملك المحيل ومن ثم فإن الحوالة التي تجيء بعد ذلك لا تضره وإنما تعتبر بمثابة حجز ثانٍ ويزاحم صاحبها الحاجز الأول ويقسم المال بينهما قسمة غرماء، أما الفرض الثاني الذي تواجهه المادة فإنه يعرض كالفرض السابق أن الحجز وقع أولاً ومن بعده جاءت الحوالة النافذة وإنما أعقب ذلك توقيع حجز ثانٍ على ذات الحق في تاريخ لاحق للتاريخ الذي أصبحت فيه الحوالة نافذة، وإذ كان هذا الحاجز المتأخر يقف على قدم المساواة مع الحاجز الأول – وفقًا للقواعد العامة – فيكون له أن يزاحمه، ولكن الحجز المتأخر يجب ألا يكون بذي أثر على الحوالة التي صارت نافذة في تاريخ سابق على توقيعه إذ أن الحوالة من شأنها نقل الحق من المحيل إلى المحال له من تاريخ نفاذها فتجب كل حجز لاحق لذلك التاريخ، وعلى هذين الأساسين، يصير تقسيم الدين قسمة غرماء بين الحاجز المتقدم والمحال له والحاجز المتأخر ثم يؤخذ بعد ذلك من نصيب الحاجز المتأخر ما يستكمل قيمة الحوالة.
الفصل الثاني - حوالة الدين:
المواد (377 – 390):
يجدر التنويه بادئ ذي بدء إلى أن قانون التجارة الحالي قد استمد أحكامه في حوالة الدين بصفة عامة من الفقه الإسلامي محتذيًا في ذلك الخصوص حذو القانون العراقي ومقتفيًا أسلوب هذا القانون في التنسيق بين الأحكام وفي صياغة النصوص وقد رأى المشروع الأخذ في تقنين هذا الفصل بمأخذ قانون التجارة والقانون العراقي وفي حدود ما التزماه من أحكام الفقه الإسلامي وإنما بمراعاة ما توجيه الأصول التشريعية من التوفيق بين المصطلحات الفنية في هذا الفصل وبين كافة ما يقابلها من المصطلحات السارية في أبواب المشروع وفصوله الأخرى والمنقولة بذاتها من قانون التجارة الحالي، ومع ما استلزمه ذلك من تعديل في صياغة بعض المواد صياغة جديدة تجعلها أدنى إلى الوضوح والدقة ودون إخلال بجوهر حكمها المقصود منها، ولم ينقل المشروع من مواد القانون الحالي ما يغني عنه تطبيق القواعد العامة دون لبس أو تردد، كما وجد من الملائم تنقية بعض المواد الأخرى من أحكام فرعية بها لا يوجبها المقام.
وعلى تلك الأسس السابقة فقد صيغت المادة (377) من المشروع المقابلة للمادة (291) تجارة والمادة (339) عراقي صياغة جديدة تلتزم بالمعنى المقصود ولكن دون نقل لعبارات هاتين المادتين أو لما بهما من مصطلحات رأى المشروع التجاوز عن استعمالها في أبوابه الأخرى واستعاض عنها بمصطلحات مقابلة استقرت في القوانين الحالية والأعراف القضائية، وتقرر المادة (377) بفقرتها الأولى القاعدة الأساسية في حوالة الدين وهي أنها تؤدى إلى نقل الدين من ذمة المدين الأصلي إلى ذمة شخص أخر هو المحال عليه، ولازم ذلك ومؤداه أن الدين لا ينتقل وحده إنما تنتقل معه المطالبة أيضًا، وهو ما يحدد مصدر المشروع في هذا الخصوص بعد أن اختلفت بشأنه الآراء في الفقه الإسلامي، فقد تمشى المشروع مع القانون الحالي في اعتماد رأى الأمام أبي حنيفة وأبي يوسف فيما قالا به من أن حوالة الدين تنقل الدين والمطالبة معًا، وذلك على خلاف آراء أخرى لدى الأحناف حيث يقول محمد أن تلك الحوالة تنقل المطالبة دون الدين ويقول زفر إنها لا تنقل الدين ولا المطالبة وإنما تضم ذمة إلى ذمة في سداد الدين، وعلى خلاف الآراء في بقية المذاهب التي تتجه في مجموعها إلى إقرار نوع واحد من الحوالة هو الحوالة المقيدة إذ يشترط لصحة الحوالة عندهم أن يكون المحال عليه مدينًا للمحيل.
وقد أبانت الفقرة الثانية من المادة (377) المعنى المقصود بكل من نوعي الحوالة المطلقة والمقيدة، وتجنبت في صياغتها ما يشوب النص المقابل في القانون الحالي من تفصيل وإسهاب لا محل لها.
وتتفق المادة (378) من المشروع مع المادة (292) من قانون التجارة في الحكم وإن خالفتها خلافًا طفيفًا في الصياغة.
أما المادة (379) فإنها تقابل المادة (293) من قانون التجارة وجاءت بتعديل في حكمها إذ تنص مادة قانون التجارة على أنه (يصح عقد الحوالة بين الدائن والمحال عليه، ويلزم المحال عليه بالأداء، ولكن ليس له الرجوع على المدين الأصلي إلا إذا أقر المدين الحوالة) وهو نص منقول عن المادة (341) من القانون المدني العراقي، والبادي أن صياغتها التزمت بما يراه جمهور الحنفية من أن الحوالة إذا تمت دون أمر من المحيل بأن كانت قد انعقدت بين الدائن والمحال عليه مباشرة ولم يقرها المحيل، فلا يكون للمحال عليه أن يرجع على المحيل بشيء ما، لقولهم إنه في هذه الصورة تنعقد الحوالة صحيحة ويعتبر المحال عليه متبرعًا (المادة 778 من مرشد الحيران والمادة 681 من المجلة، والزيلعي جزء 4 ص 173 وابن عابدين جزء 4 ص 305، ص 307 وابن نجيم جزء 6 ص 351)، وتوفيقًا بين تلك القاعدة وبين الأصل المقرر في القوانين الوضعية والمعتمد بهذا المشروع من أنه يجوز للغير الوفاء بدين المدين ولو بغير علمه أو رضاه فقد رُئي النص بالمادة التي جاء بها المشروع على أن المحال عليه لا يكون له الرجوع على المدين الأصلي طبقًا لأحكام الحوالة في حالة عدم إقرار هذا المدين للحوالة، ليكون باقيًا للمحال عليه في هذه الصورة حقه في الرجوع على المدين المذكور طبقًا لقواعد الإثراء بلا سبب إن لم يصرح بأنه كان متبرعًا. وهو ما يقول به بعض الفقهاء المسلمين (الدسوقي على الشرح الكبير للدردير جزء 3 ص 296).
ولم يجد المشروع وجهًا لنقل ما تنص عليه المادتان (294 و295) من القانون القائم من أنه يُشترط لصحة الحوالة أن يكون المحيل مدينًا للمحال له وإلا كان العمل وكالة، ومن أنه يشترط في المحال به أن يكون معلومًا وتصح به الكفالة، وذلك أن تلك الأحكام هي تطبيقات واضحة للقواعد العامة.
وتعرض المادة (380) من المشروع لما تعرض له المادة (296) من قانون التجارة مع التعديل فيها لأحكام الصياغة، وذلك أن النص الحالي يجري بأنه (إذا قبل المحال له الحوالة ورضي المحال عليه بها، برئ المحيل من الدين ومن المطالبة معًا، ويكون للمحال له حق مطالبة المحال عليه) وذلك في حين أن المفروض أصلاً أن حوالة الدين لا تقوم ولا تنعقد إلا إذا كان المحال عليه طرفًا فيها، ومن ثم فإن الحوالة إذا ما تم عقدها والمحال عليه طرف فيها بحكم اللزوم، فإن تطلب رضاء المحال عليه بعد ذلك لسريانها في حقه يكون تزيدًا لا يقتضيه المقام، وهو ما تلافاه المشروع في النص الذي جاء به مع التعديل في الصياغة على مقتضى الحال.
وأورد المشروع المادة (381) مقابلاً لما تنص عليه المادتان (297 و298) من قانون التجارة الحالي (المنقولتان عن المادتين 347 و348 عراقي) على أن المشروع لم يرَ محلاً لمحاكاة المادة (297) فيما أوردته من تمثيل وشرح لما يصح أن يكون وصفًا في الدين فمن الملائم ألا يردد التشريع بين أبوابه وفصوله شروحًا وتفصيلات عن أصول عامة وأساسية وإن التزم بوضعها مع ما لها من أحكام وآثار في مكانها المناسب بين النصوص، كما أن المشروع وقد أرسى في النص الذي وفق إليه القاعدة الأساسية بأن الدين المحال، يلازمه في تحوله من المدين الأصلي إلى (المحال عليه) كافة التأمينات الخاصة التي كانت تضمنه، لم يجد وجهًا بعد ذلك لمجاراة المادة (298) من القانون الحالي فيما استطردت إليه بقولها: (فإذا أحال الراهن المرتهن بالدين على آخر أو أحال المشتري البائع بالثمن على آخر لم يسقط حق المرتهن في الرهن ولا حق البائع في حبس المبيع أما إذا أحال المرتهن غريمًا له على الراهن فإن حقه في الرهن يسقط ولا يكون رهنًا للمحال له، وكذا إذا أحال البائع غريمًا له على المشتري بالثمن سقط حقه في حبس العين المبيعة) ذلك أن الشطر الأول من هذه الفقرة هو تطبيق بين للقاعدة أما شطرها الخير فانه استطراد لا يقتضيه المقام للتدليل على استبعاد القاعدة فيما لا تنعقد فيه العلاقة على أساس من حوالة دين مضمون بتأمين خاص، بأن كان المدين الأصلي الذي حول دينه إلى المحال عليه هو بذات الوقت دائن للمحال عليه بدين مضمون بتأمين خاص كرهن أو حق في الحبس، فإن ذلك المدين الأصلي إذ يحول الدين الذي عليه قبل دائنه فإنه ينقل هذا الدين كما هو إلى المحال عليه أي بغير تأمين خاص يضمنه، لأن الضمان الخاص القائم في العلاقات بين الأطراف لم يكن ضمانًا للدين المحال به، وإنما هو ضمان لدين آخر ذلك الدين الذي كان للمدين الأصلي (المحيل) بذمة المحال عليه وانقضى بينهما قصاصًا، بسبب الحوالة.
وجاء المشروع في المادة (382) بحكم يتفق مع حكم المادة (299) من قانون التجارة الحالي مع ضبط الصيغة على وجه أدق، فينص الشطر الأول من المادة (382) على حق المحال عليه في التمسك بما كان للمحيل من دفوع متعلقة بذات الدين وهو ما يغني عما يضيفه نص القانون الحالي من عدم أحقية المحال عليه في التمسك بالدفوع الخاصة بشخص المحيل، وكذلك ينص الشطر الثاني من المادة على حق المحال على في التمسك بالدفوع المستمدة من عقد الحوالة وهي بذاتها الدفوع التي يعبر عنها نص القانون الحالي بأنها الدفوع الخاصة بشخصه هو(شخص المحال عليه).
ولم يرَ المشروع موجبًا لنقل الحكم الذي تنص عليه المادة (300) من القانون الحالي ذلك أنها ترد انقضاء الدين الذي انتقل إلى المحال عليه للأسباب العامة في انقضاء الديون كافة.
وتعرض المادة (383) لحكم يتفق مع الحكم الذي تقرره المادة (302) من قانون التجارة الحالي مع صياغتها صياغة جديدة أقرب إلى ما يجري به الأسلوب التشريعي ولكن دون مساس بجوهر القاعدة كما استمده النص الحالي من الفقه الإسلامي وتقضي الفقرة الأولى من المادة التي أتى بها المشروع بأن الحوالة المقيدة تبقى قائمة ومنتجة لآثارها إذا ما برئ المحال عليه من الدين الذي عليه للمحيل بسبب عارض بعد انعقاد الحوالة، ومن ثم فإذا أحال البائع دائنه على المشتري مقيدًا بثمن البضاعة المبيعة، ثم احترقت هذه البضاعة أو تلفت قبل تسليمها إلى المشتري أو ردت بعيب أو خيار ما ولو بعد التسليم فإن الثمن يسقط عن المشتري ولكن الحوالة لا تبطل لأن الدين الذي قيدت به كان قائمًا عند عقدها (الموسوعة الفقهية نموذج 3 بند 292 الفتاوى الهندية 3/ 306 – والبحر الرائق 6/ 275) وتقضي الفقرة الثانية بأن الحوالة المقيدة تبطل إذا سقط الدين الذي قيدت به عن الحال عليه بسبب سابق على انعقادها ولا دخل للمحال عليه فيه، وعلى ذلك فإنه إذا أحال البائع دائنه على المشتري بثمن المبيع ثم استحق المبيع للغير فإن الحوالة تكون باطلة وذلك أنه قد تبين أن الحوالة علقت بمعدوم حكمًا إذ قيدت بدين لم يكن له وجود قط ويعود الدين على المدين الأصلي وهو المحيل (الموسوعة الفقهية نموذج 3 بند 281 – البحر الرائق 5/ 275 وابن عابدين على الدر 4/ 293)، وتقابل المادة (384) من المشروع ما تقرره المادة (303) من قانون التجارة ولا تختلف عنها في الحكم وإنما أدخل المشروع تعديلاً في الصياغة جعلها أدنى إلى الدقة والملاءمة.
وتعرض المادة (385) من المشروع لحكم الحوالة المقيدة بعين مودعة إذا ما هلكت الوديعة بغير خطأ من المودع أو استحقت للغير، ويرجع ذلك الحكم في أصله إلى الفقه الإسلامي، ويؤسسه الفقهاء المسلمون على أن فوات الأمانة بغير تعدٍ ممن هي عنده كالوديعة إذا احترقت أو سرقت من شأنه إنهاء الحوالة فتبرأ ذمة المحال عليه ويعود الدين على المحيل، وأنه إذا استحقت العين المقيدة بها الحوالة في يد الوديع فإن الحوالة تبطل لما تبين من أن العين التي قيدت بها غير مملوكة للمحيل فتفقد الحوالة أساسها (المادة 787/ 2، 788/ 2 مرشد الحيران، 694 من المجلة).
وقد أورد قانون التجارة ذلك الحكم بالمادة (304) بالنص التالي: (إذا أحال المدين غريمه على الوديع حوالة مقيدة بالعين المودعة عنده فهلكت الوديعة قبل أدائها بلا تعدٍ من الوديع بطلت الحوالة، واستحقاق الوديعة للغير مبطل للحوالة كهلاكها) وهو بذلك ينص على بطلان الحوالة سواء كانت العين المقيدة بها هلكت بلا تعدٍ من الوديع أو كانت قد استحقت للغير، ولعله جاء متأثرًا فيما أورده بالمشهور في الفقه الإسلامي من أن (استحقاق الوديعة مبطل للحوالة كهلاكها)، (الموسوعة الفقهية 4 ص 187 – وابن عابدين على الدر 4/ 293)، وإذ كان هلاك العين المقيدة بها الحوالة مؤداه في المصطلحات القانونية انفساخ الحوالة أو انحلالها خلافًا لحالة استحقاق تلك العين للغير، لذلك فقد آثر المشروع أن يعتمد في صياغته للمادة المقترحة وفي خصوص حالة هلاك العين تعبيرًا أكثر دقة وملاءمة وهو (ترتب على ذلك انفساخ الحوالة).
وجاءت المادة (386) من المشروع مطابقة لما تنص عليه المادة (305) من قانون التجارة الحالي، مع تعديل مناسب في الصياغة، ويرجع ذلك الحكم في أصله إلى المادتين (787، 788) من مرشد الحيران والمادة (695) من المجلة، وموسوعة الفقه الإسلامي على أن العين المغصوبة التي قُيدت بها الحوالة إذا لحقها الهلال لسبب طارئ كما لو ضاعت أو سُرقت فإن الحوالة تبقى كما هي ومطالبة المحال عليه متوجهة كما كانت من قبل التلف لأن الحوالة قيدت بشيء موجود فعلاً، فلا يضير ارتفاعه الطارئ لأن الشيء المضمون إذا هلك وجب مثله على ضامنه والمغصوب مضمون على الغاصب - الزيلعى جزء 4 ص (173) وابن عابدين جزء 4 ص 307) أما إذا استحقت العين المقيدة بها الحوالة وهي في يد الغاصب فإن حكمها لا يختلف عن الحكم في حالة استحقاقها وهي في يد الوديع، إذا يترتب عليه بطلان الحوالة.
وفي خصوص مسألة رجوع المحال له على المحيل، اختلفت المذاهب بل وتعددت الآراء في المذهب الواحد، فالراجح عند الحنفية أن للمحال له الرجوع على المحيل إذا تَوِيَ الدين على المحال عليه أي تعذر الوصول إليه عنده بسبب إفلاسه أو موته مفلسًا أو جحده الحوالة دون أن تكون هناك بينة عليه، ويرى جمهور الشافعية رفض التوى أي عدم جواز الرجوع إطلاقًا استنادًا إلى أن شرط الرجوع عند التوى منافٍ لمقتضى العقد فيبطُل والأصح عندهم أنه يُبطل الحوالة أيضًا، أما المالكية فيقولون بجواز الرجوع إذا شرط في العقد وهو مقتضى ما يقرره الإمامية في الشروط عامة من أن كل شرط ليس بمحظور شرعًا ولا يؤدي إلى الجهالة بالمشروط يعتبر شرطًا صحيحًا نافذًا، ورأي المالكية هو السائد لدى فقهاء العصر كما يتفق مع الأصل في التشريعات الحديثة بأن العقد شريعة المتعاقدين، وقد أخذ به قانون التجارة الحالي بالمادة 306/ 1، وحذا المشروع حذوه فنقل حكم تلك الفقرة إلى المادة (387) مع تعديل أكثر ضبطًا ودقة في الصياغة، على أن المشروع لم يورد ما تنص عليه الفقرة الثانية من المادة (306) بقولها (أما مجرد تعذر استيفاء الدين من المحال عليه ولو بأمر المحكمة فلا يوجب بطلان الحوالة وعود الدين على المحيل) إذ أن هذا الحكم ليس إلا ترديدًا زائدًا للحكم الوارد في الفقرة الأولى من المادة (الموسوعة الفقهية نموذج 3 بند 289 وما بعدها – المغني لابن قدامه 2/ 58 والفروع 2/ 484).
كذلك لم يجد المشروع وجهًا لإيراد نص على غرار نص المادة (307) من قانون التجارة الذي يقضي بأن الحوالة المشروطة بعدم براءة المحيل تعتبر كفالة عادية يثبت بها حق المحال له في الرجوع على أي من المحال عليه والمحيل، ذلك أن هذا الحكم تطبيق بين للقواعد العامة في القانون.
وجاء المشروع بالمادتين (388، 389) مقابلاً للمادتين (308 و309) من قانون التجارة الحالي المأخوذتين أصلاً من المادتين (359 و360) مدني عراقي ومصدرهما ما سنته المجلة في المادتين (691 و698) من أحكام الفقه الإسلامي في الخصوص الذي وردتا فيه، وتنص المادة (691) من المجلة على أنه (إذا أحال المحيل بصورة مطلقة ولم يكن له دين عند المحال عليه، رجع المحال عليه بعد الأداء على المحيل، وإن كان له دين يتقاص بدينه بعد الأداء) ويقول صاحب درر الحكام (جزء 2 ص 34) تعليقًا على المادة (698) من المجلة أنه (إذا لم يكن للمحيل مطلوب عند المحال عليه وعلى تقدير أن الحوالة أجريت بأمر المحيل فطبقًا للمادة (698) يرجع المحال عليه به على المحيل بعد الأداء، وإذا كان له مطلوب بذمة المحال عليه يتقاصان بعد الأداء).
وعلى هدْي ما تقدم وضع المشروع المادتين اللتين اقترحهما وهما تنصبان على الحوالة المطلقة التي تكون بالاتفاق مع المدين الأصلي أو بإقراره وهو ما حدا بالمشروع إلى تعديل صياغة المادة (388) (المقابلة للمادة 308 تجاري) على وجه يقطع في ذلك المعنى كيلا تختلط بحكم الحوالة التي لا يقرها ذلك المدين والمنصوص عليه بالمادة (379) من المشروع، ويُقصد بما أوردته المادة (388) أنه إذا لم يكن المحال عليه مدينًا للمحيل، فليس له الرجوع على المحيل إلا بعد أن يؤدي الدين المحال به إلى المحال له، ويكون رجوعه بقدر المحال به، ودون نظر إلى ما أداه، وأساس الرجوع أنه يفي دين المحيل بأمره (ابن عابدين رد المحتار جزء 4 ص 307) وأما الحكم الذي أوردته المادة (389) فيقضي أن المحال عليه وإن كان مدينًا للمدين الأصلي بدين أو عين، فإن التزامه بموجب الحوالة بالوفاء إلى المحال له لم يتقيد بهذه العين أو ذاك الدين، فيبقى حق المدين الأصلي المحيل في طلب الدين أو العين إلى حين قيام المحال عليه بالوفاء إلى المحال له، فإن أوفى إليه يُجرى القصاص بين ما أداه وبين ما للمحيل عنده (المرجع السابق).
ويتفق حكم المادة (390) مع ما تنص عليه المادة (310) من قانون التجارة القائم وإنما استبعد المشروع ما أورده القانون الحالي من تفصيلات وشروح، وذلك الحكم الذي نقله المشروع إنما يمليه ما للحوالة المقيدة من ماهية متميزة بتعيين العنصر الذي يستوفي منه المحال له دينه إذ يتحدد في دين معين بذمة المحال عليه أو في عين بذاتها عنده، ومن ثم فلا يكون للمحيل بعد انعقاد حوالة من هذا القبيل أن يطالب المحال عليه بالمال الذي قيد وفاء الحوالة به لدى المحال عليه، اعتبارًا بأن الحق فيه قد انتقل إلى المحال له. ويؤسس الأحناف هذا الحكم على أن الحوالة المقيدة تُسقط حق المدين الأصلي (المحيل) في المطالبة، وتمنع الوفاء إليه لأن حقه صار كالمرهون، والمعتبر في بقية المذاهب أن الحوالة المقيدة تبرئ المحال عليه من دين المحيل لأن حقه صار للمحال عليه (الموسوعة الفقهية نموذج 3 بند 260، وبند 261 – فتح القدير 5/ 451، وابن عابدين على الدر 4/ 294، ونهاية المحتاج 4/ 413 وما بعدها) ولم يجد المشروع وجهًا إلى النقل عما تنص عليه المادة (310) في فقرتها الثانية من أنه (ولو أعسر المحيل قبل أداء المحال عليه الدين، فليس لسائر الغرماء أن يشاركوا المحال له) اعتبارًا بأنها تقرر حكمًا يتفرع عن الأصل المقرر بالفقرة الأولى بانتقال الحق في المطالبة بما قيدت به الحوالة من المدين الأصلي إلى المحال له، وهو ما يتفق أيضًا مع رأي زفر حيث يرى أن للمحال له امتيازًا على المال المقيدة به الحوالة عند المحال عليه، لأن حق الغرماء تعلق مال المحيل، وما للمحيل عند المحال عليه صار أجنبيًا عن هذا المال بدليل أنه لا يستطيع أخذه حال حياته، فيكون كذلك بعد وفاته (البابرتي على هامش فتح القدير جزء 5 ص451 وابن الهمام جزء 5 ص 451).
الباب الخامس: انقضاء الالتزام
الحق الشخصي أي الالتزام له أجل محدود ينقضي به، فمصيره حتمًا إلى الزوال وهو في ذلك يختلف عن الحق العيني المتمثل بصفة خاصة في حق الملكية حيث تعتبر صفة التأييد أو الدوام من خصائصه الأصلية، وقد أخذ المشروع بأسباب انقضاء الالتزام مأخذ قانون التجارة الحالي والقانون المدني المصري الذي نقل عنه، فرد تلك الأسباب إلى تقسيم عملي على النحو التالي، القسم الأول ويشمل انقضاء الالتزام بتنفيذه عينًا أي بالوفاء وهو الطريق المألوف لقضاء الدين والقسم الثاني ويشمل أحوال انقضاء الالتزام بما يعادل الوفاء ويندرج تحته الوفاء بمقابل والتجديد والإنابة في الوفاء والمقاصة واتحاد الذمة، والقسم الثالث ويشمل أحوال انقضاء الالتزام دون أن ينفذ ويندرج تحت الإبراء واستحالة التنفيذ ويلحق به عدم سماع الدعوى لمرور الزمان الذي استمد المشروع أحكامه من القانون المدني العراقي والفقه الإسلامي واستعاض بها عن نظام انقضاء الالتزام بالتقادم المسقط الذي يأخذ به قانون التجارة الحالي.
الفصل الأول – الوفاء:
المواد (391 – 413):
جاء المشروع بالمادة (391) مقابلاً للمادة (311) من قانون التجارة الحالي مع تعديل أكثر إحكامًا في الصياغة، فلم يأخذ بما تنص عليه الفقرة الأولى عن (الوفاء من نائب المدين) إذ يغني عنها (الوفاء من المدين)، كما لم ينقل من تلك الفقرة ما تجري به نهايتها بقولها (إلا إذا كان ضروريًا أن يوفي المدين الدين بنفسه) واستعاض المشروع عنها بفقرة جديدة هي الفقرة الثالثة بالمادة التي جاء بها وهي القاعدة الأصلية للأحوال التي يجوز فيها للدائن أن يرفض الوفاء من غير المدين، سواء كان من يعرض هذا الوفاء له مصلحة فيه اعتبارًا بأن له حق الحلول محل الدائن أو ليست له هذه المصلحة وهي ذات القاعدة التي تحددها المادة (206) من قانون التجارة الحالي المستمدة من المادة (208) من القانون المصري.
ووضع المشروع المادة (392) في فقرتين جمع فيهما معًا الأحكام التي تنص عليها المادتان (312 و313) من قانون التجارة الحالي بعد تعديل الصياغة بما يتفق مع الجمع بين تلك الأحكام المترابطة بعضها مع البعض، وهو الأسلوب الذي جرى عليه التشريع المصري بالمادة (325) وتابعه فيه التشريع السوري بالمادة (324) والتشريع الليبي بالمادة (312) ومؤدى تلك الأحكام أن صحة الوفاء مشروطة بأن يكون الموفي سواء في ذلك المدين أو الغير مالكًا لما وفى به وأن تتوافر لديه أهلية التصرف فيه، فإذا لم يكن الموفي أهلاً للتصرف في الشيء الذي أوفى به كان وفاؤه قابلاً للإبطال بسبب نقص الأهلية على أنه إذا لم يُلحق الوفاء ضررًا بناقص الأهلية انتفت مصلحته في الدفع بالإبطال وبالتالي فإنه يمتنع عليه أن يتمسك به ويعتبر وفاؤه صحيحًا ويترتب عليه انقضاء الدين وبراءة ذمة المدين.
واستحث المشروع في المادة (393) حكمًا يقضي بأن الغير الذي أوفى الدين يكون له الرجوع على المدين بقدر ما أوفاه، أما إذا كان الوفاء رغم معارضة المدين أو بدون علمه فيكون للمدين أن يمنع رجوع الموفي عليه إذا أثبت أن له أية مصلحة في الاعتراض على الوفاء، مثل التمسك في مواجهة الدائن بالمقاصة القانونية، أو الدفع بانقضاء الدين لأي سبب آخر أو الدفع ببطلانه، ويوجه الحكم في الصورة الأولى أن الغير يرجع بدعوى الفضالة، ويوجهه في الصورة الأخرى أن الرجوع لا يستند إلا إلى دعوى الإثراء بلا سبب فيكون رجوعه بأقل القيمتين: مقدار ما دفعه الغير أو مقدار ما عاد على المدين من منفعة وقد نقل المشروع هذه المادة من القانون المدني المصري بالمادة (324) والتشريعات العربية التي أخذتها عنه.
ووجد من الملائم ألا ينقل المشروع ما تنص عليه المادة (314) من قانون التجارة الحالي من أنه (لا يصلح للمدين أن يوفي دين غرمائه في مرض موته إذا أدى هذا الوفاء إلى الإضرار ببقية الدائنين) فقد آثر المشروع أن يترك الحكم في ذلك الشأن للقواعد القانونية العامة التي تحكم سائر تصرفات المريض مرض الموت.
وأورد المشروع في المادة (394) الحكم في شأن حلول من أوفى الدين محل الدائن بحكم القانون وهو الحلول القانوني وحصر أحواله آخذًا – بصفة عامة – بما يقرره قانون التجارة القائم بالمادة (315) والتي سُنت في الأصل على غرار المادة (326) من القانون المصري والقوانين العربية التي نقلت عنه. ويبين جليًا بذلك الحكم أن الموفي الذي يحل محل الدائن بأمر القانون يكون دائمًا صاحب مصلحة في الوفاء بدين المدين وتبعًا لذلك يمكنه القانون من أن يفي بالدين رغم إرادة المدين والدائن على السواء، فيتم بذلك حلوله محل الدائن الذي وفاه، وتتحقق الحالة الأولى للحلول القانوني إذا كان الموفي ملزمًا بالدين مع المدين أو ملزمًا بوفائه عنه كالمدين المتضامن والكفيل الشخصي أو العيني إذ قد يكون لأي من هؤلاء مصلحة في درء مطالبة الدائن له بدين المدين أمام القضاء، وتتحقق الحالة الثانية إذا كان الموفي دائنًا عاديًا أو له تأمين عيني وأوفي الدين إلى دائن آخر له تأمين عيني مقدم عليه ويقوم حق الحلول في هذه الصورة رعايةً لمصلحة الموفي في منع الدائن المتقدم عليه في المرتبة من بيع المال المثقل بالتأمين في وقت غير مناسب، فقد يقدم هذا الدائن على البيع ولو بالوكس طالما كان الثمن الذي لا يزاحمه فيه غرماء يكفي للوفاء بدينه المتقدم في المرتبة، أما الحالة الثالثة من أحوال الحلول فقد لوحظ أن قانون التجارة القائم - متأثرًا بالقوانين العربية التي نقل عنها – قد اختص بها مشتري العقار الذي يفي بثمنه إلى الدائنين المخصص ذلك العقار لضمان دينهم في حين أن هذه الحالة ليست إلا تطبيقًا للحالة الأولى اعتبارًا بأن المشتري في هذه الصورة يعتبر مسؤولاً عن الدين عن المدين وفي حدود ثمن ما اشتراه، وهو اعتبار يصدق سواء أكان المبيع عقارًا أو منقولاً ومن أجل ذلك فقد استبدل المشروع في نطاق تلك الحالة كلمة الشيء بكلمة العقار، وتتوفر الحالة الرابعة للحلول القانوني كلما وجد نص خاص عليها في القانون.
وعرضت المادة (395) من المشروع لحكم الحلول الاتفاقي وإجراءاته على وجه مطابق للمادة (316) من قانون التجارة الحالي والقوانين العربية التي أخذ عنها مع تعديل طفيف في الصياغة، كما أُضيف إلى آخر الفقرة الثانية حكم يقضي بأنه لا يجوز للدائن الأصلي الذي يستوفي حقه من مال اقترضه المدين من شخص آخر أن يرفض ذكر هذه الواقعة في المخالصة المثبتة لسداد دينه إليه .. وقد نقل المشروع هذا الحكم من المادة 2102/ 3 من القانون المدني الإيطالي وذلك لإزالة كل لبس في أن الدائن الأصلي يعتبر ممتنعًا عن قبول الوفاء إذا رفض إثبات تلك الواقعة بالمخالصة مما يجيز إجباره على قبول الوفاء بطريق العرض الحقيقي والإيداع.
وتكلفت المادة (396) من المشروع ببيان آثار الحلول بنوعيه سواء أكان حلولاً قانونيًا أو حلولاً اتفاقيًا، وترد هذه الآثار إلى قاعدتين أساسيتين أولاهما أن الموفي يحل محل الدائن الذي أوفاه وفي نفس المركز القانوني الذي كان له، فينتقل إليه حق الدائن بكافة ماله من صفات وتوابع وتأمينات وما يلحقه من الدفوع أما القاعدة الثانية فهي أن الموفي الذي احتل محل الدائن الموفي له لا يرجع على المدين إلا بمقدار ما أداه، ولم يأتِ المشروع في ذلك بجديد غير ما هو مقرر بالمادة (317) من قانون التجارة القائم والمواد المقابلة بالتشريعات العربية التي استمد منها ذلك الحكم.
وتتفق المادة (397) من المشروع مع حكم المادة (318) من قانون التجارة الحالي مع تعديل طفيف في الصياغة يجعلها أدنى إلى الدقة، أما المادة (398) فقد استحدث بها المشروع حكمًا جديدًا يعالج به الصورة التي يكون فيها الدين مضمونًا بعدة رهون على عقارات متعددة ثم يباع كل منها إلى حائز على استقلال ويقوم أحد الحائزين بوفاء الدين كله، ويقرر النص المستحدث أن هذا الحائز لا يكون له أن يرجع على أي من الحائزين الآخرين إلا بقدر نصيبه في الدين بحسب قيمة العقار الذي يكون حائزًا له ومن ثم فإن شأن الحائز الموفي بكل الدين بالنسبة إلى الحائزين الآخرين كشأن المدين المتضامن الذي يوفي بالدين جميعه فيرجع على سائر المدينين الآخرين كل بقدر حصته وقد استمد المشروع ذلك الحكم من المادة (331) من القانون المصري والقوانين العربية التي نقلتها عنه.
وتقرر المادة (399) القاعدة العامة التي تنص عليها المادة (319) من قانون التجارة الحالي بأن الوفاء يكون للدائن ولكن دون استطراد إلى ما تردده من شروط بشأن أهلية الموفي له اغتناءً بما جاء به المشروع في الباب الأول من القواعد والأحكام لتصرفات ناقصي الأهلية وأصحاب الصفة في النيابة عنهم في تلك التصرفات، وإنما أضاف المشروع إلى المادة التي أوردها نصًا مستحدثًا يقضي بصحة الوفاء إلى من قدم للمدين مخالصة صادرة من الدائن ما لم يكن هناك اتفاق على الوفاء للدائن بشخصه أو لنائبه، وقد تغيا المشروع بذلك النص أن يجعل من التقدم بالمخالصة الموقعة من الدائن قرينة على ثبوت صفة مقدمها في استيفاء الدين، على أن تنتفي هذه القرينة بوجود اتفاق مسبق على أن يكون الوفاء للدائن بنفسه أو لمن ينوب عنه إذ يتعين عندئذٍ على المدين أن يرفض الوفاء حتى يستوثق من صفة من بيده المخالصة وقد استمد المشروع ذلك الحكم من بعض التقنينات العربية (332 مصري، 330 سوري، 319 ليبي).
ووضع المشروع المادة (400) بما يتفق مع ما تنص عيه المادة (320) من قانون التجارة القائم. وأضاف حالة أخرى تأخذ ذات الحكم المطبق على الحالتين الواردتين في النص الحالي، ولكن في حدود خاصة، وهي حالة الوفاء لغير الدائن إذا عادت منه منفعة على الدائن وعلى أن تكون براءة المدين الموفي بقدر هذه المنفعة، وتتحقق تلك الحالة مثلاً إذا كان المدين قد وفى الدين إلى شخص كان دائنًا للدائن وقبضه منه استيفاءً لحقه في ذمة ذلك الدائن وكان الحق خاليًا من النزاع وواجب الأداء ومقدمًا على سائر ديون الدائن، وتوجد للدائن مصلحة ما في الوفاء به، وقد استمد المشروع هذا النص من بعض التقنينات العربية (333 مصري، 331 سوري، 320 ليبي) أما قانون التجارة الكويتي فلم يورد نصًا مماثلاً مع أنه تطبيق للأحكام التي أوردها بشأن الفضالة والبادي أنه قد تأثر في ذلك بمسلك القانون العراقي (المادة 384) مع أن هذا القانون إذ لم ينقل تلك الحالة عن القوانين العربية الأخرى قد التزم منطقه الخاص بعدم الاعتراف بالفضالة وفي خصوص الحالة الأخيرة من الحالات التي يطبق عليها الحكم الوارد في النص آثر المشروع التعبير عنها بالأسلوب الذي صاغها به القانون الحالي مع تعديل طفيف في الصياغة، فقد رأى أنه أصح في النظر مما تجري به عبارة بعض التشريعات العربية في ذلك المقام بأنه (الوفاء لشخص كان الدين في حيازته).
عرض الدين عرضًا حقيقيًا وإيداعه:
أغفلت التشريعات الرئيسية الحالية بالكويت النظام القانوني لعرض الدين عرضًا حقيقيًا وإيداعه، على الرغم مما له من أهمية وخطر، حتى لقد دعت الضرورة بعض المتعاملين إلى الأخذ بقواعده الأساسية بدون نص واجتهد القضاء في إقرارهم على ما أخذوا به ما وسعته أسباب الاجتهاد، كذلك لمس المشروع مدى الحاجة إليه في بعض التشريعات الفرعية الحديثة، ففي المرسوم بقانون رقم (25) لسنة 1978 بشأن إيجار العقارات وضع نظام خاص لعرض الأجرة وإيداعها بإجراءات مناسبة لذلك النوع من الأنزعة، وكان حتمًا لدى اقتراح مشروعات للقوانين الرئيسية أن تضمن نصوصها قواعد شاملة لنظام العرض الحقيقي والإيداع تتناول إجراءاته وأحكامه الموضوعية على السواء. وبالنسبة للقواعد الإجرائية فقد احتواها مشروع قانون المرافعات المدنية والتجارية الذي تم إنجازه وأصبح معدًا ليأخذ طريقه إلى مراحله التشريعية، أما القواعد الموضوعية فقد أتى بها هذا المشروع في المواد من (401) إلى (404) وهي مستمدة من المواد (334 و335 و338 و340) من القانون المدني المصري ومن التشريعات العربية الأخرى التي نقلت عنه.
وتعرض المادة (401) من المشروع لحكم لا ينصب مباشرة على العرض الحقيقي والإيداع وإنما ينتظم مرحله يسلكها المدين إذا شاء تمهيدًا لاتخاذ إجراءات العرض والإيداع أو عوضًا عنها، وغاية تلك المرحلة هي وضع الدائن في موضوع التقصير إذا رفض قبول الوفاء بدون مبرر مقبول، مع بيان الآثار التي تترتب على ذلك، ولكي يعتبر الدائن في ذلك الوضع القانوني فإن ذلك يقتضي من المدين أن يعذره، بإعلان رسمي يسجل عليه فيه، إما أنه رفض وفاءً صحيحًا عرضه عليه، وإما أنه امتنع عن القيام بعمل من الأعمال اللازمة لإتمام الوفاء، وإما أنه أعلن عدم قبوله للوفاء، فيترتب على الإعذار إلى الدائن بأنه في حالة من هذه الحالات انتقال تبعة هلاك الشيء إلى عاتقه، والسماح للمدين بإيداع الشيء على نفقة الدائن مع الرجوع عليه بالتعويض عند الاقتضاء. وتتحقق الحالة الأولى كما لو عرض المدين على الدائن عرضًا فعليًا – ولو بدون إعلان رسمي – الدين بتمامه عند حلول الأجل وفي المكان المحدد للوفاء به أو حتى اكتفى بإبداء استعداده للوفاء بالدين على هذا الوجه فرفض الدائن ذلك الوفاء، وتتحقق الحالة الثانية إذا استلزم الوفاء من الدائن أن يتدخل بعمل من جانبه، كما لو كان الدين واجب الوفاء في موطن المدين وأبى أن يسعى إليه، أما الحالة الثالثة فإن الدائن يسبق فيها المدين بأن يُعلن من ناحيته أنه لن يقبل الوفاء إذا ما عُرض عليه، فإن وضع الدائن نفسه في حالة من تلك الحالات وسجلها عليه المدين بالإعذار إليه ترتبت على الإعذار آثاره السابقة.
وللمدين أن يعرض الدين عرضًا حقيقيًا على دائنه - سواء أكان قد أعذر إليه وفقًا لحكم المادة السابقة أم لا – وقد أورد مشروع قانون المرافعات بيان إجراءات العرض وكذلك الإيداع، ففصلت أحكامه كيفية القيام بالعرض الحقيقي وفقًا لطبيعة المعروض، فإن كان تسليمه ميسورًا في موطن الدائن وجب أن يحمله إليه مندوب الإعلان وإلا كلفه بتسلمه حيث يوجد، وإذا ما قبل الدائن العرض على ذلك الوجه فيكون الوفاء قد تم إليه منذ اللحظة التي يقترن فيها القبول بالعرض، وهو حكم واضح في تلك الصورة وفي غير حاجة إلى النص عليه في المشروع، أما إذا لم يقبل الدائن العرض فيكون من اللازم اتخاذ إجراءات الإيداع التي رسمها مشروع قانون المرافعات، وتتم بإيداع الشيء خزانة إدارة التنفيذ إذا كان المعروض نقودًا أو غيرها مما يقبل الإيداع بالخزانة، فإن لم يكن كذلك تعين استصدار أمر من القضاء بالإيداع في مكان أمين، أما إذا كان المعروض شيئًا يستحيل على الإيداع فإن الإجراء البديل هو استصدار أمر القضاء بوضعه تحت الحراسة، أما الأشياء التي يسرع إليها التلف فتباع بإذن القضاء ويودع الثمن المتحصل من البيع، على أن الدائن قد يعود بعد إتمام الإيداع أو الإجراء البديل عنه فيقبل العرض. كما أنه قد يظل على موقفه من رفض العرض والامتناع عن تسلم المعروض حتى يُقضى نهائيًا بصحة العرض والإيداع وتقرر المادة (402) من المشروع الحكم في الحالين فتقضي بأن العرض فيهما يعتبر بمثابة وفاء للدين ونصها قاطع في إسناد وقت الوفاء وبراءة ذمة المدين إلى التاريخ الذي تم فيه العرض الحقيقي على الدائن فابتدره بالرفض ولم يشأ أن يقبله في حينه.
وقد يحول بين المدين وبين إمكان التعرف على الدائن الواجب الوفاء إليه حائل، فيتعذر اتخاذ إجراءات عرض الدين عرضًا حقيقيًا، وكان لزامًا لذلك فتح الباب أمام المدين للخلوص من عبء الدين بإيداعه مباشرة إيداعًا غير مسبوق بالعرض الحقيقي في الأحوال التي يتحقق فيها قيام ذلك الحائل وقد حصرتها المادة (403) فيما يلي:
أولاً: إذا كان المدين يجهل شخصية الدائن أو موطنه، ثانيًا: إذا كانت أهلية الدائن مقيدة أو معدومة وليس له نائب يقوم عنه في استيفاء الدين، ثالثًا: إذا كان الدين محل نزاع بين عدة أشخاص ولم يتيسر للمدين التثبت من صاحب الحق فيهم، رابعًا: إذا كانت هناك أسباب جدية أخرى تبرر عدم إجراء العرض الحقيقي كما إذا كان المدين يطالب بالتزام مقابل لم يتيسر له استيفاؤه قبل تنفيذ التزامه، ومثال ذلك أن يكون المشتري راغبًا في الوفاء بالثمن إلى البائع ولكن البائع يمتنع عن الوفاء المقابل بالتصديق على توقيعه في عقد البيع تمهيدًا لتسجيل العقد ونقل الملكية، فلا يكون أمام المشتري مفر من إيداع الثمن مباشرة على ذمة البائع مشروطًا بعدم صرفه إليه إلا بعد توقيعه على العقد، وترتب المادة (403) على الإيداع (أو ما يقوم مقامه) في هذه الصورة أنه يكون بمثابة وفاء للدين، واعتبارًا من تاريخ القيام به، وبدهي أن الإيداع المقصود هو الإيداع الصحيح الذي قِبله من ثبت له الحق فيه دون أن ينازع في صحته أو الإيداع الذي يقضي بصحته لدى النزاع فيه.
ولا يعتبر العرض الحقيقي المشفوع بالإيداع لازمًا، ولذلك فقد أجازت المادة (404) من المشروع للمدين أن يرجع في عرضه ما دام لم يقبله الدائن وما دام لم يصدر حكم نهائي بصحته، ويرسم مشروع قانون المرافعات إجراءات الرجوع فيوجب على المدين إن أراد رجوعًا أن يُعلن الدائن بعزمه على ذلك وأن يتلبث ثلاثة أيام قبل أن يؤذن له في الرجوع، إذ يكون للدائن خلال هذه المهلة أن يقبل العرض فيقتضي الدين ويمتنع بذلك على المدين أن يرجع، أما إذا انتهت المهلة ولم يبد الدائن قبولاً للعرض ورجع المدين فإن العرض يعتبر كأن لم يكن، ومن ثم تبقى ذمة المدين مشغولة بالدين وملحقاته كما لا تنفك عن الدين ضماناته.
أما إذا جاء رجوع المدين في العرض بعد قبول الدائن له أو بعد الحكم نهائياً بصحته، فإن هذا الرجوع يكون قد وقع على غير محل من الدين الذي صار عرضه وانقضى بما كان له من كافة الضمانات، وحتى إذا كان الدائن لم يقبض الدين فعلاً في هذه الصورة ثم عاد وقبل من المدين الرجوع في العرض، فإن أثر هذا القبول يكون مقصورًا على العلاقة بينهما فتعود ذمة المدين مشغولة بدين جديد معادل للدين القديم الذي انقضى فلا يكون للدين الذي نشأ بذمة المدين ما كان للدين القديم المنقضي من الضمانات ما لم يوجد اتفاق بين ذوي الشأن على ذلك.
وأورد المشروع المادة (405) بحكم يتفق مع ما تقرره المادة (321) فقرة أولى من قانون التجارة الحالي مع تعديل أوفق في الصياغة، ومؤداه أن الوفاء ينبغي أن يكون بالشيء المستحق أصلاً، ولا يجوز أن يستبدل شيء آخر به ولو كانت له قيمة أكبر، إلا إذا وافق الدائن أو كان متعسفًا في قبول الوفاء، وقد رُئي عدم الحاجة إلى إيراد حكم خاص على نحو ما تقرره الفقرة الثانية من (319) بشأن حق المدين بدين لم يعين إلا بنوعه في أن يفي بمثله ولو لم يرضَ الدائن، اعتبارًا بأن هذا الحكم لا يعدو أن يكون تطبيقًا سلسًا للقواعد العامة وقد سبق إلى ذلك النهج القانون المصري بالمادة المقابلة (341) مدني والقوانين العربية التي حذت حذوه (339 سوري، 328 ليبي).
وأوردت المادة (406) من المشروع بفقرتها الأولى حكمًا مطابقًا للحكم المنصوص عليه في المادة (323) من قانون التجارة الحالي بشأن عدم جواز إجبار الدائن على قبول الوفاء بجزء من حقه، ما لم يكن هناك اتفاق أو نص في القانون يقضي بإلزامه بذلك، وإنما أجرى المشروع تعديلاً في العبارة لتكون الصياغة أكثر دقة وإحكامًا، وأورد المشروع فقرة جديدة بالمادة المقترحة تضع حلاً بينًا لكيفية الوفاء إذا كان هناك نزاع في جزء من الدين دون باقيه، ويقضي بأن للدائن في هذه الحالة أن يستوفي من المدين الجزء الذي يعترف به بغير انتظار لحسم النزاع في الجزء الذي انصب عليه ذلك النزاع، ولا يكون للمدين أن يرفض هذا الوفاء الجزئي متذرعًا بالتريث إلى الوقت الذي يتم فيه حسم النزاع في الجزء الآخر، وقد استمد المشروع هذا الحكم من المادة (342) فقرة ثانية من القانون المدني المصري، والقوانين العربية التي سارت على منواله.
وتأخذ المادة (407) من المشروع بحكم المادة 324/ 2 من قانون التجارة الحالي بشأن كيفية الخصم في حالة الوفاء بالدين وملحقاته، أما المادتان (408 و409) فتنصرفان إلى معالجة كيفية الخصم من أصل الديون المتعددة وهي مسألة تباينت فيها الحلول التشريعية، فمنها ما يذهب على أن المدين له عند الوفاء أن يعين الدين الذي يريد قضاءه، فإن لم يفعل كان للدائن أن يقوم بهذا التعيين ما لم يعترض عليه المدين أو يثبت أن الدائن أجرى التعيين في المخالصة بطريق الغش أو المباغتة (القانون الفرنسي المادة 1255) ومنها ما يذهب إلى إطلاق حق المدين في تعيين الدين الذي يوفِّي به ويستعمله كيف شاء وفي أي وقت يشاء بعد الوفاء وهو منهج القانون العراقي المادة 393/ 1 مدني وقانون التجارة الكويتي المادة 324/ 1 ويأخذ فريق ثالث من التشريعات بتحديد حق المدين في تعيين الدين في وقت قيامه بالوفاء أما إن سكت عن التعيين فإن القانون يتولى ذلك عنه آخذًا في الاعتبار نية المدين المفترضة وقت الوفاء، فإن لم يوجد من الاعتبارات ما يرجح اتجاه النية إلى تعيين دين بذاته فإن الحق في التعيين يؤول إلى الدائن وهو ما أخذ به القانون المدني المصري في المادتين (344 و345) والمدني السوري في المادتين (342 و343) والمدني الليبي في المادتين (331 و332)، وقد اختار المشروع منهج هذه القوانين ضمانًا لاستقرار المراكز القانونية، وتلافيًا للمنازعات حول مشروعية استعمال المدين لحقه المطلق في تعيين الدين بعد أن تم الوفاء دون تعيين.
وقد نصت المادة (408) من المشروع على أن للمدين أن يعين عند الوفاء الدين الذي يريد الخصم منه ما لم يمنعه اتفاق مسبق من ذلك أو يحول بينه وبين حقه في الاختيار نص في القانون كما إذا أراد أن يقع الخصم من دين لا يجوز فيه تجزئة الوفاء، ونصت المادة (409) من المشروع على كيفية إجراء الخصم إذا لم يعينه المدين عند الوفاء، بأن الوفاء يقع من الدين الذي حل تمشيًا مع النية المفترضة للمدين وقت أن أوفى، فإن تعددت الديون الحالة فإن الوفاء يقع من أشدها كلفة تقديرًا بأنه الأصلح للمدين والأكثر اتفاقًا مع قصده عندما أوفى دون تعيين، وعلى ذلك فلا يكون للمدين الذي لم يعين وقت الوفاء، أن يعود بعد هذا الوقت بزمن طال أو قصر فيختار الخصم من دين مؤجل حتى ولو كان الأجل لمصلحته دون الخصم من دين كان حالاً وقت الوفاء واستقر في يقين الدائن الموفي له عندئذٍ أن الوفاء قد انصب عليه، كما لا يكون للمدين بعد ذلك الوقت (وقت الوفاء) أن يعود فيؤثر الخصم من دين عادي على الخصم من دين مكفول كان معتبرًا وقت الوفاء أنه الأشد كلفة من ذلك الدين العادي.
وتطابق المادتان (410 و411) من المشروع الأحكام المقررة بالمادتين (325 و326) من قانون التجارة الحالي مع تعديل أحكم في صياغة أولاهما والاحتفاظ بجوهر الحكم على حاله. ويتضمن هذا الحكم أصلاً عامًا بأن الالتزام يكون مستحق الأداء بمجرد ترتبه بذمة المدين على أن هذا الأصل ليس مطلقًا فقد يوجد اتفاق بإضافة الالتزام إلى أجل فيصير أداؤه معلقًا على أجل واقف كما قد ينص القانون في بعض الأحوال رعايةً لمصلحة يقدرها على تحديد أجل للوفاء بالالتزام، وإلى جانب الأجل الاتفاقي والأجل القانوني أخذ المشروع مأخذ القانون الحالي ومصادره التشريعية بالأجل القضائي فأتاح للقاضي أن يمهل المدين في الوفاء أو يمنحه ما يسمى نظرة الميسرة، وذلك إذا توافرت في الموضوع الأسباب المشروطة قانونًا لذلك إذ يجب أن تكون حالة المدين تستأهل إيثاره بهذه المنحة وبالتالي فلا يجوز أن تعطى لمن تعمد عدم الوفاء أو قصر فيه قصورًا بينًا أو لمن كان معسرًا لا يرجى منه الاقتدار على الوفاء، كما يجب ألا يكون من شأن النظرة إلحاق ضرر شديد بالدائن فلا وجه لإغاثة المدين إذا كان السبيل إلى ذلك هو إنزال الأضرار البالغة بالدائن ويلزم أخيرًا ألا يوجد نص في القانون يمنع النظرة إذ يتعين عندئذٍ التزام حكمه، وغني عن البيان أن القاضي عليه أن يقدر مدى النظرة بالمدة الضرورية لتمكين المدين من الوفاء.
وجاء المشروع بالمادة (412) تتفق مع الحكم المقرر في المادة (327) من قانون التجارة الحالي بفقرتيها مع تعديل أكثر وضوحًا في العبارة، استمده المشروع مما تجري به صياغة المادة (347) من القانون المدني المصري مع التصرف بما اقتضاه المقام، ولم يرَ المشروع وجها لنقل ما تنص عليه المادة (328) من قانون التجارة الحالي من أنه (إذا أرسل المدين الدين مع رسوله إلى الدائن فهلك في يد الرسول قبل وصوله هلك من مال المدين، وإن أمر الدائن المدين بأن يدفع الدين إلى رسول الدائن فدفعه إليه وهلك في يده فهلاكه من مال الدائن ويبرأ المدين من الدين) وذلك تقديرًا من المشروع أن هذا الحكم لا يعدو أن يكون تطبيقًا للقواعد العامة ويمكن إعماله دون لبس وبغير حاجة إلى تخصيصه بالنص أما المادة (413) فوضعها المشروع مطابقةً للمادة (329) من قانون التجارة في حكمها بأن نفقات الوفاء بالدين تكون على عاتق المدين إلا إذا اتفق على غير ذلك أو كان هناك نص أو عرف يجري على خلافه، والنفقات المقصودة في هذا المقام هي تلك التي تصرف في سبيل الوفاء بالدين مثل ثمن الشيك وأجرة الوزن أو الكيل ونفقات إرسال الدين إلى الدائن.
الفصل الثاني - انقضاء الالتزام بما يعادل الوفاء:
المواد (414 - 434):
أولاً: الوفاء بمقابل:
أورد المشروع ماهية الوفاء بمقابل والقواعد التي تحكمه بالمادتين (414 و415) على نسق ما تجري به المادتان (330 و331) من قانون التجارة القائم ومصدرها في القوانين العربية (المادتان 350 و351 مصري والمواد المقابلة بالتشريعات العربية التي أخذت بها)، ويترتب على الوفاء بمقابل نقل الملكية شيء من ذمة المدين إلى ذمة الدائن وفاء لالتزام سابق بينهما فهو بهذه المثابة تجديد بتغيير الالتزام يتبعه بل ويمتزج به الوفاء بالالتزام الجديد على الفور، وبذلك ينطوي الوفاء بمقابل على نقل الملك بمقابل ومن هذا الوجه تنطبق عليه أحكام البيع كما يؤدي إلى انقضاء الالتزام فتسري عليه من هذا الوجه أحكام الوفاء، وقد رُئي التماسًا لوضوح العبارة بالمادة (415) الاستعاضة بعبارة (وبالأخص ما تعلق منها بتعيين الخصم في الوفاء من الديون المتعددة) عن الصياغة المقابلة بالمادة (331) والتي تجري عبارتها (وعلى الأخص ما تعلق منها بتعيين جهة الدفع).
ثانيًا التجديد:
وتتفق المادة (416) من المشروع مع المادتين (332 و333) من قانون التجارة وإنما أدخل المشروع تعديلاً لفظيًا طفيفًا في صياغة الفقرة الأولى المقابلة للمادة (332) من القانون.
واستحدث المشروع في المادة (417) نصًا على حكم التجديد في حالة بطلان أي من الالتزامين القديم أو الجديد، وتقضي هذه المادة بأن التجديد لا يقع إذ أن الالتزام القديم إذا كان باطلاً استتبع ذلك بطلان الالتزام الجديد لتخلف سببه، وإذا كان الالتزام الجديد باطلاً بقي الالتزام القديم قائمًا لامتناع أثر التجديد.
ونص المشروع في المادة (418) منه على أن التجديد لا يفترض بل يجب أن يتفق عليه صراحةً أو يُستخلص بوضوح من الظروف ذلك أن التجديد يستلزم ظهور إرادة الطرفين في القضاء على الالتزام القديم وفي إنشاء الالتزام الجديد ليكون بديلاً له ومختلفًا عنه، فضلاً عما ينطوي عليه التجديد من نزول من جانب الدائن عن الالتزام القديم ومن ثم لا يجوز افتراض التجديد أو استخلاصه من المظاهر المادية المجردة من قصد التجديد. فمن هذه المظاهر ما يفضي إلى خلق عمليات قانونية تكون صحيحة في ذاتها دون أن يقصد الطرفان منها قضاء الالتزام القديم الذي يستلزم توفر عنصر معنوي هو نية التجديد بإنشاء الالتزام الجديد، وقد نقل المشروع هذا الحكم عن المادة 354/ 1 مدني مصري والتشريعات العربية التي سارت على منواله.
وجاء المشروع في المادة (419) بحكم يطابق ما تنص عليه المادة (334) من قانون التجارة القائم مع صياغة أكثر ضبطًا لتأكيد المعنى المقصود منه وهو أن الالتزام الجديد غير الالتزام القديم وله مقوماته واستقلاله الخاصان به، وقد أضاف المشروع فقرة ثانية إلى المادة التي جاء بها للتأكيد على أن التأمينات لا تنتقل من الالتزام القديم إلى الالتزام الجديد ما لم يقضِ بذلك نص في القانون أو تبين أن النية قد انصرفت إلى ذلك. وقد جرى المشروع في هذه الإضافة على منوال التشريع المصري في المادة (356) من القانون المدني والتشريعات العربية التي حذت حذوه (354 سوري، 343 ليبي).
وقد لوحظ أن المادة (335) من قانون التجارة الحالي تنص على أنه (إذا كان الدين الأصلي مكفولاً بتأمينات شخصية أو عينية وصار تجديده سقطت التأمينات إلا إذا جُددت هي أيضًا) وهو حكم عام ومبهم، إذ أنه لا يفرق بين التأمينات العينية والتأمينات الشخصية مع ما بينهما من اختلاف في الطبيعة القانونية وفي الآثار، كما أنه جاء مرسلاً بلا تحديد للوسيلة القانونية لتجديد هذه أو تلك من نوعي التأمينات، كذلك فإنه ترك حقوق الغير دون تصون أو حماية حيث يقتضي الحال ذلك، وهذا كله من شأنه أن يوسع أسباب الخلاف في وضع الحلول القانونية في كثير من الصور بل وقد يضل الاجتهاد فيها، ولذلك فإن المشروع قد جاء بالمادتين (420 و421) ورسم بهما قواعد.
حاسمة لتحكم المسائل المتماثلة وتلك المخالفة كل بما يتفق مع طبيعتها من الأحكام، والأصل العام في جميعها استمده المشروع من القانون المدني المصري في مادتيه (357 و358) والقوانين العربية الأخرى التي نقلت عنه، ولكنه لم يلتزم النهج الذي سلكته تلك القوانين بحصر تطبيق الحكم المقرر في أولى المادتين (357 مصري وما يطابقها) في التأمينات العينية المقدمة من المدين، وإطلاق الحكم المقرر في المادة (358) على التأمينات المقدمة من غير المدين سواء أكانت عينية أو شخصية، وهو ما يثير اضطرابًا بشأن المفارقة في الحكم بين انتقال التأمينات العينية إذا كانت مقدمة من المدين، وبين انتقال تلك التأمينات إذا كانت مقدمة من غير المدين. مع ما بينهما من تقارب شديد في الطبيعة القانونية والآثار، ولذلك فإن المشروع آثر أن يفرد المادة (420) لحكم التأمينات العينية كافة سواء أكانت مقدمة من المدين أو من غيره، فتقضي هذه المادة أنه إذا كانت تلك التأمينات مقدمة من المدين وكان التجديد بتغيير الدين فإنها تنتقل إلى الدين الجديد بالاتفاق بين الدائن والمدين على ألا يؤثر ذلك على حقوق الغير، وعلى ذلك إذا اتفق الدائن والمدين على انتقال التأمين العيني لضمان الدين الجديد بقيمة تزيد على قيمة الدين القديم، فإن اتفاقهما على امتداد الضمان إلى القدر الزائد في الدين الجديد لا ينفذ ولا يسري في مواجهة الغير وهو كل دائن آخر يكون دينه مضمونًا بحق عيني على التأمين المقدم ضمانًا للدين القديم متى كان تاليًا له في المرتبة، وإن كان التجديد بغير المدين جاز للدائن والمدين الجديد الاتفاق على استبقاء التأمين بغير رضاء المدين الأصلي ويبقى التأمين على حاله يثقل العين المقدمة منه، ويعتبر هو عندئذٍ كفيلاً عينيًا للدين الجديد، وإن كان التجديد بتغيير الدائن فيصير الاتفاق بين أطراف التجديد ثلاثتهم على انتقال التأمينات - فإن كان التأمين العيني مقدمًا من سوى المدين فإنه لا ينتقل إلى الدين الجديد إلا بموافقة من قدم ذلك التأمين وبشرط ألا يضر ذلك بحقوق الغير، وفي جميع الأحوال وسواء كانت التأمينات العينية مقدمة من المدين أو من سواه فإن الاتفاق على انتقالها إلى الدين الجديد لا يعتبر نافذًا في حق الغير إلا إذا كان هذا الاتفاق معاصرًا وقت الاتفاق على التجديد، فإذا كان لاحقًا له في الزمان فإنه يكون من شأن التجديد الذي تم مجردًا من التأمينات العينية انقضاء الدين القديم مع تأميناته، ولا يكون في السعة إعادة تلك التأمينات بعد زوالها لضمان الدين الجديد وبذات المرتبة التي كانت في ضمان الدين القديم، حماية للغير وصيانة لحقوقه، وإن كان التأمين العيني موقعًا على العقار فيلزم لسريانه أيضًا اتباع الأحكام التي يقررها قانون التسجيل العقاري، وخصص المشروع المادة (421) لبيان الحكم في شأن انتقال التأمينات الشخصية فيقضي بأن هذه الأمينات لا تنتقل إلى الدين الجديد إلا برضاء الكفيل أو المدين المتضامن، ومن ثم فإن الكفالة الشخصية لا تضمن الوفاء بالدين الجديد ما لم يوافق الكفيل على ذلك، وكذلك إذا تم التجديد بموافقة بعض المدينين المتضامنين ترتب على ذلك انقضاء الدين الأصلي ونشوء دين جديد بالتضامن بين من وافقوا على التجديد، وتبرأ ذمة من عداهم من المدينين الذين كانوا متضامنين في الدين الأصلي، وإنما يجب التنويه في ذلك المقام بأن الدائن إذا احتفظ عند التجديد بحقه قبل من لم يرتضه من المدينين المتضامنين فإن هؤلاء يبقون ملزمين بالتضامن بالدين الأصلي بعد حط حصة المدين الذي أجرى التجديد وذلك عملاً بما تنص عليه المادة (348) من المشروع المقابلة للمادة (261) من قانون التجارة الحالي، وغني عن البيان أن موافقة الكفلاء الشخصيين أو المدينين المتضامنين ليست مشروطة في نفاذها بحق الغير بمعاصرة الاتفاق على التجديد، فيجوز أن يأتي رضاؤهم بكفالة الدين الجديد أو التضامن فيه عند حصول التجديد، كما يصح أن يكون لاحقًا له، وإذا جعلوا لرضائهم فيما لو كان لاحقًا أثرًا رجعيًا من تاريخ التجديد فإن التزامهم بالكفالة أو التضامن على ذلك الوجه يكون صحيحًا ونافذًا في حدود القواعد العامة في القانون.
ثالثًا: الإنابة في الوفاء:
وتعرض المادة (422) لحكم الإنابة في الوفاء مستلهمة نص المادة (336) من قانون التجارة القائم مع تعديل صياغته على وجه أكثر دقة، ونظام الإنابة يفترض وجود أطراف ثلاثة: المدين الأصلي وهو المنيب، الدائن وهو المناب له، والأجنبي وهو الشخص المناب، وتقع الإنابة كاملة إذا اتفق ثلاثتهم على إبراء المدين الأصلي من الدين، وأن يصير على المناب الالتزام بوفائه منفردًا، ويكون ذلك بمثابة تجديد للدين بتغير المدين، وتقع الإنابة ناقصة إذا لم ينعقد الاتفاق على التجديد وإنما تم الاتفاق على إنشاء الالتزام الجديد بذمة المناب إلى جانب الالتزام الأصلي الثابت بذمة المنيب (المدين الأول) وهذا النوع من الإنابة هو الأكثر أهمية وذيوعًا في المعاملات، ومع ذلك فقد لوحظ أن قانون التجارة الحالي في صدد تعريفه بالإنابة - لم يورد سوى عبارة موجزة ومرسلة في معناها - متأثرًا في ذلك ببعض القوانين العربية حيث قال: (إن الأجنبي يلتزم بوفاء الدين مكان المدين)، وهي صياغة يقصر مدلولها عن الإحاطة بالإنابة الناقصة مما حدا بالمشروع إلى تعديلها على الوجه الذي جاء به في النص الذي أورده بالمادة (422).
وقد استمد المشروع المادة (423) بفقرتيها من الأحكام المقررة بفقرتي المادة (337) من قانون التجارة الحالي. وتتناول الفقرة الأولى القاعدة العامة في الإنابة الكاملة المعتبرة تجديدًا للالتزام، وأهم الآثار التي تتميز بها تلك الإنابة وهي براءة ذمة المنيب قبل المناب لديه وقد أجرى المشروع تعديلاً في صياغة الفقرة الثانية لتكون عبارتها أكثر وضوحًا وبيانًا في أنه إذا لم يوجد اتفاق صريح على التجديد فلا تكون الإنابة إلا إنابة ناقصة يترتب عليها إنشاء التزام جديد بذمة المناب إلى جوار الالتزام الأول الثابت بذمة المدين المنيب.
وتتفق المادة (424) من المشروع مع ما تنص عليه المادة (338) من قانون التجارة القائم، ويفيد حكمها المطلق أنه يسري على الإنابة بنوعيها سواء كانت كاملة أو ناقصة، ويوجه هذا الحكم أن الأصل في الإنابة أيًا كان نوعها أنها - كما تقدم - تنشئ بذمة المناب التزامًا مجردًا من سببه، على أساس أن المناب لديه لا يتلقى إلا حقه، وأنه إنفاذًا للإنابة يستأديه من المناب بدلاً من أن يستأديه من المدين الأصلي، ومن ثم فإن الإنابة لا تتأثر ولا تندفع بما قد يكون واردًا على العلاقة بين المدين الأصلي (المنيب) وبين المناب من أسباب البطلان أو الدفوع، وغني عن البيان أن الحال يختلف إذا ورد في الإنابة تصريح بأن المناب يلتزم قبل المناب لديه بسبب العلاقة بينه وبين المنيب (أي بين المناب والمنيب) فسواء أكانت هذه العلاقة علاقة مديونية أو علاقة تبرعية فإن الإنابة لا تصح إلا بصحة الالتزام الذي اتخذ سببًا لها كما تدفع بما يدفع به ذلك السبب.
رابعًا: المقاصة:
لوحظ أن قانون التجارة الحالي وإن صرف عنايته إلى وضع النظام القانون للمقاصة القانوني للمقاصة القانونية وأورد فيه أحكامها الأساسية وما يترتب عليها من الآثار إلا أنه أشار من خلال نصوصه إشارات مبهمة إلى المقاصة الاختيارية وبعض من قواعدها بكيفية تثير الاضطراب في ماهية هذا النوع من المقاصة وفيما تناوله من تنسيق بين أحكامها وأحكام المقاصة القانونية كما سيبين فيما يلي من الإيضاحات، ولذلك فإن المشروع آثر السير على نهج القانون المدني المصري في المواد (362 - 369) والتشريعات العربية التي تابعته فاقتصر على إيراد ما تعلق بالمقاصة القانونية من الأحكام وما ترتب عليها من الآثار، ولم يرَ أن يتناول المقاصة الاختيارية بنصوص خاصة ذلك أن مجالها يكون حيث يتخلف شرط أو أكثر من الشروط اللازمة لوقوع المقاصة القانونية، وعندئذٍ تقع تلك المقاصة الإرادية بإرادة أحد الطرفين أو باتفاقهما معًا على التجاوز عن الشرط أو الشروط المقررة لمصلحة أيهما والمانعة من المقاصة القانونية، فأساسها إذا هو الإرادة وأولى أن يُترك حكمها للقواعد العامة التي تنظم التصرفات القانونية، كما أنها من وقت اتجاه الإرادة إليها أو اتفاق الطرفين عليها ترتب الآثار الناشئة عن المقاصة القانونية فلا تكون هناك حاجة إلى ترديد تلك الآثار في شأنها بنصوص على استقلال.
وترتيبًا على ما تقدم جميعه جاء المشروع بالمادة (425) وضمنها تعريفًا واضحًا بالمقاصة القانونية، وحكمها في انقضاء الدينين قصاصًا بمجرد توافر الشروط التي أحاط بها النص، وقد حذا المشروع فيما أخذ به من ذلك حذو القانون المدني المصري في مادته الـ (362) والتشريعات العربية التي نقلتها عنه، وهي تتفق في جوهرها مع الأحكام المقررة بالمادتين (339 و340) من قانون التجارة الكويتي، مضافًا إليها أن نظرة الميسرة التي يمنحها القاضي للمدين أو يتطوع بها الدائن من جانبه لا تمنع من وقوع المقاصة، وهي إضافة يقتضيها التطبيق السليم للقواعد العامة في القانون، ذلك أن العلة في النظرة تزول من أساسها بصيرورة المدين في مركز الدائن لدائنه بدين تتوافر فيه شروط المقاصة القانونية مع الدين الذي بذمته لذلك الدائن وأمهل في الوفاء به إشفاقًا على ظروفه سواء بالنظرة القضائية أو تفضلاً عليه من الدائن.
وفيما عدا ذلك فإن المشروع التزامًا بسياسته التي رسمها لم يُشر إلى المقاصة الاختيارية التي يقول عنها قانون التجارة الحالي في نصوصه بأنها تحصل بتراضي المتداينين، ومع ذلك فيلزم التنويه في هذا المقام - ودفعًا لأي لبس في حكم القواعد العامة بشأن تلك المقاصة - أن المقاصة الاختيارية كما تقع بتراضي الطرفين إذا كان المانع من تحقق المقاصة القانونية مقررًا لمصلحتهما معًا، فإنها تقع أيضًا بتصرف من جانب واحد إذا كان المانع من المقاصة القانونية لم يقرر إلا لمصلحة ذلك الجانب وحده فيكون له أن ينزل عن المانع ويطلب إلزام غريمه بالامتثال للمقاصة فتقع بين الدينين من تاريخ نزوله عن ذلك المانع.
واستحدث المشروع في المادة (426) الحكم المقرر بها وهو مستمد من المادة (363) من القانون المدني المصري والتشريعات العربية التي نقلت عنه، ويقضي بأنه لا يُشترط لوقوع المقاصة أن يكون الدينان المتقابلان واجبي الوفاء في مكان واحد تقديرًا بأنه لا ينبغي أن يشكل اختلاف مكان الوفاء مانعًا من تحقيق المزايا التي تكفلها المقاصة في المعاملات، وأنه يكفي في هذه الصورة إلزام من تمسك بالمقاصة بأن يعوض الطرف الآخر عما يلحقه من الضرر نتيجة لعدم استيفاء حقه أو عدم وفائه بدينه في المكان المتفق عليه، وتقابل المادة (427) من المشروع المادة (341) من قانون التجارة الحالي التي تنص على أنه (إذا كان للوديع دين على صاحب الوديعة من جنس واحد، أو كان للغاصب دين على صاحب العين المغصوبة من جنسها، فلا تصير الوديعة أو العين المغصوبة قصاصًا بالدين إلا إذا تقاص الطرفان بالتراضي) ويواجه الحكم في حالة الوديعة ما ينبغي أن يسود التعامل من الثقة في النزول على مقتضى التعاقد، ويوجهه في حالة العين المغصوبة القاعدة المستقرة بحظر انتصاف الشخص لنفسه، ومع ذلك فيؤخذ على هذه المادة أنها تقصر عن تناول حالة مماثلة حيث يكون مصدر أحد الدينين عارية استعمال فضلاً عن الحالة التي يكون فيها ذلك المصدر دينًا قابل للحجز وامتناع الحجز تمليه أسبابه تتصل بالنظام العام، ولذلك فقد اختار المشروع أن ينقل المادة التي جاء بها عن القانون المدني المصري بمادته الـ (364) إذ يكفل نصها مواجهة حالات القصور المشار إليها ويترك الشأن في المقاصة الاختيارية فيها للقواعد العامة في القانون، ولكن المشروع أضاف إلى الأحوال المنصوص عليها في القانون المصري حالة أخرى هي حالة ما إذا كان أحد الدينين مستحقًا للمنفعة وذلك ما لم يحصل التمسك بالمقاصة من مستحقها.
هذا ولم يجد المشروع وجهًا لمسايرة قانون التجارة الحالي فيما ينص عليه بالمادة (342) من أنه (إذا أتلف الدائن عينًا من مال المدين وكانت من جنس الدين سقطت قصاصًا، وإن كانت خلافه فلا تقع المقاصة إلا بتراضيهما) مؤثرًا أن يترك الحكم في ذلك الشأن ليجري وفقًا لما تمليه القواعد العامة في القانون.
وقد رُئي أيضًا التجاوز عن إعادة تقنين الحكم المقرر بالمادة (343) من القانون الحالي فيما تنص عليه من أنه (إذا كان للكفيل المحروم من حق التجريد دين على الدائن المكفول له من جنس المكفول به، فالدينان يلتقيان قصاصًا من غير رضاهما، وإن كانت من غير جنس الدين المكفول به، فلا يلتقيان قصاصًا إلا بتراضي الدائن المكفول له مع الكفيل لا مع المدين). فهذا النص في عمومه لا يعدو أن يكون تطبيقًا من تطبيقات القواعد العامة والأحكام الخاصة بالمقاصة، ذلك أن الكفيل المحروم من حق التجريد يكون حسب الأصل كفيلاً متضامنًا مع المدين، فيثبت الحق للدائن في الرجوع عليه بالدين وفي التنفيذ على أمواله ولو لم يجرد المدين المكفول أو يبدأ بالتنفيذ على أمواله، وعلى ذلك فإن الكفيل المتضامن مع المدين إذا صار دائنًا للدائن الذي يكفل له دينه بذمة المدين، فإنه يتحقق التقابل بين الدين المشغولة به ذمة ذلك الكفيل وبين الدين الذي نشأ بذمة الدائن لصالح الكفيل المذكور، ويتقاص الدينان بحكم القانون إذا توافرت الشروط الأخرى للمقاصة القانونية، أما إذا اختل شرط اتحاد الجنس في الدينين أو اختل أي شرط آخر من شروط المقاصة القانونية فلا يكون هناك مجال لغير المقاصة الاختيارية وتنعقد بالاتفاق بين الكفيل والدائن طبقًا للقواعد العامة.
وجاء المشروع بالمادة (428) مقابلاً للمادة (344) من قانون التجارة القائم وبغير مخالفة للحكم المقرر بها، وهو يوجب تمسك صاحب المصلحة بالمقاصة، وذلك تأكيدًا لعدم ارتباط المقاصة بالنظام العام فلا يكون للقضاء سلطة الحكم بها من تلقاء نفسه، وإنما أضاف المشروع حكمًا جديدًا يقضي بعدم جواز النزول عن المقاصة قبل ثبوت الحق فيها تلافيًا من اختلاف الرأي في ذلك الشأن.
والتزامًا بنهج المشروع في الاقتصار على تقنين المقاصة القانونية فإنه قد أفصح بالمادة (428) التي جاء بها عن حدود الأثر الذي ترتبه تلك المقاصة في انقضاء الدينين وهو اعتبار الانقضاء مستندًا إلى الوقت الذي حصل فيه التقابل بين الدينين المذكورين، وكذلك ودفعًا لكل لبس في كيفية المقاصة عند تعدد ديون أحد المدينين أورد المشروع حكمًا جديدًا أخر يقضي باحتساب الخصم في هذه الحالة كما يحتسب الخصم في الوفاء لدى تعدد الديون، وقد أخذ المشروع فيما أضافه من ذلك كله نقلاً عن المادة (365) من القانون المدني المصري بعد إدخال تعديلات لفظية عليها.
أما المادة (429) من المشروع فإنها تقابل الحكم الوارد بالمادة (345) من قانون التجارة الحالي وإنما عدل المشروع في صياغتها على وجه يتفق مع التزامه بمبادئ الفقه الإسلامي في أن الحقوق الشخصية لا تنقضي بالتقادم، وإنما لا تسمع دعوى المطالبة بها بمرور الزمان، وقد نقلت الصياغة المعدلة عن المادة النظيرة بالقانون المدني العراقي وهي المادة (414).
ويستند الحكم المقرر بالمادة (429) في أساسه التشريعي إلى ما للتمسك بالمقاصة من أثر رجعي يرتد إلى وقت التلاقي بين الدينين، فإذا تتحقق التلاقي بينهما قبل أن تتم المدة اللازمة لمنع سماع الدعوى بأحدهما، فإن ذلك لا يحول دون وقوع المقاصة وإن جاء التمسك بها في وقت لاحق لاكتمال تلك المدة.
وجاء المشروع بالمواد (430 و431 و432) مطابقة في أحكمها للمواد (346 و348 و347) - على التوالي - من قانون التجارة الحالي مع تعديلات لفظية في الصياغة ويجمع بين نصوصها مبدأ أساسي يقضي بعدم جواز الإضرار بحقوق كسبها الغير لا عن طريق التمسك بالمقاصة وهو ما يتناوله بالتطبيق المادة (430) (المقابلة للمادة 346 تجاري) ولا عن طريق النزول عن التمسك بالمقاصة وهو ما تناوله بالتطبيق المادتان (431 و432 المقابلتان للمادتين 348 و347).
فتضع المادة (430) بفقرتها الأولى القاعدة الأساسية حيث تقضي بأنه لا يجوز أن تقع المقاصة إضرارًا بحقوق كسبها الغير، وتورد بالفقرة الثانية تطبيقًا لتلك القاعدة، مؤداه أنه إذا أوقع الدائن حجزًا تحت يد مدين مدينه ثم نشأ بعد ذلك دين للمحجوز لديه بذمة صالح للمقاصة بالدين الموقع عليه الحجز، فإن المقاصة لا تقع في هذه الصورة لعدم المضارة بحقوق الحاجز الذي كسب حقًا بالحجز، أما إذا توقع الحجز بعد تلاقي الدينين لم يحل ذلك من التمسك بالمقاصة التي سبقته إذ أنها بمثابة الوفاء ويترتب عليها انقضاء الدينين بقدر الأقل منهما ومنذ اللحظة التي تم فيها التلاقي بينهما.
وأوردت المادة (431) حكمًا مؤداه أنه إذا توافرت شروط المقاصة القانونية بين دينين، وبعد ذلك حول أحد الطرفين حقه بذمة غريمه إلى شخص آخر، وقبل المدين المحال عليه هذه الحوالة دون تحفظ، فإنه لا يجوز له من بعد ذلك أن يتمسك بالمقاصة إذ يعتبر بقبوله للحوالة نازلاً عن تلك المقاصة فيلتزم بالوفاء إلى المحال له ويرجع بحقه الذي كان انقضى بالمقاصة التي نزل عنها ولكن لا يعود من التأمينات التي كانت تكفل هذا الحق ما تضر عودته بالغير مثل الكفالة الشخصية والعينية، أما إذ كان المدين قد أعلن بالحوالة فلا يُحمل ذلك على أنه قد قبل النزول عن المقاصة ومن ثم يكون له أن يتمسك بها، ومع ذلك فإنه لا يجوز للمحال عليه أن يتمسك بالمقاصة بين الدين المحال به وبين دين نشأ للمحال عليه المذكور بذمة المحيل بعد إعلان الحوالة ذلك أن من شأن إعلان الحوالة أولاً انتقال الدين ولا يبقى بعد انتقاله ثمة محل ترد المقاصة عليه.
أما الحكم الذي تناولته المادة (432) فمؤداه أنه إذا وفى المدين دينًا في ذمته وهو يعلم أنه له أن يطلب المقاصة فيه بحق له بذمة الدائن الذي أوفاه، فإن ذلك وإن كان يعد نزولاً عن المقاصة فإنه يجب ألا يكون من شأن هذا النزول إلحاق الضرر بالغير، فإن كان دينه بذمة غريمه مضمونًا بتأمينات مقدمة من الغير فإنه لا يملك التمسك بتلك التأمينات اعتبارًا بأنه إذا لم يكن قد دفع دينه إلى غريمه وتمسك بالمقاصة لانقضى الدينان قصاصًا وسقطت التأمينات، أما إذا أوفى المدين دينه وكان يجهل وجود هذا الحق فإن تطبيق القواعد العامة كان من شأنه وقوع المقاصة وانقضاء دين ذلك المدين بما يكفله من التأمينات، ويبقى له أن يسترد ما دفعه طبقًا لقواعد استرداد غير المستحق ولكن استثناءً من ذلك ورعايةً لما كان من حسن نية المدين رُئي الاعتداد بالوفاء الصادر منه على أنه وفاء لدين قائم بذمته لم تقع به المقاصة وأن حقه بذمة غريمه يكون قائمًا بما يكفله من التأمينات ولو كانت مقدمة من الغير.
خامسًا: اتحاد الذمة:
وتتفق المادتان (433 و434) في الصياغة والحكم مع المادتين (349 و350) من قانون التجارة الحالي مع تعديل بسيط في العبارة التي وردت بصدر أولاهما، وتتناول المادتان الكيفية التي يقع بها اتحاد الذمة وآثارها وما يترتب على زوالها إن كان بذي أثر رجعي، ومقتضاهما أن اتحاد الذمة يتحقق إذا ما اجتمعت لشخص واحد الصفة القانونية بأنه الدائن والمدين بالنسبة إلى التزام واحد ويقع ذلك أكثر ما يقع عن طريق الميراث كما لو ورث المدين دائنه فإنه إن كان الوارث الوحيد فإن وصف الدائن يثبت له مع صفته كمدين القائمة به فينقضي كل الدين الذي كان عليه إذ يستحيل أن يطالب به نفسه وإن كان معه ورثة آخرون انقضى من الدين بقدر حصته في الميراث، على أنه يلاحظ أنه إذا ورث الدائن مدينه فإن اتحاد الذمة يكون ممتنعًا لأن مقتضى قواعد الفقه الإسلامي أنه لا تركة إلا بعد سداد الديون. فالدائن لا يرث دينه الذي يكون له على التركة وإنما تبقى التركة منفصلة عنه حتى تسدد ديونها كافة، ومنها دين ذلك الوارث ثم يؤول الباقي بعد سداد الديون إلى الورثة جميعًا كل بقدر حصته في الميراث، ويمكن أن يقع اتحاد الذمة أيضًا عن طريق التصرف القانوني بين الأحياء كما لو اشترى المستأجر العين المؤجرة فأصبح دائنًا بالأجرة وهو بذات الوقت مدين بها، أو قام المسحوب عليه الكمبيالة بشرائها من المستفيد فصارت إلى ملكه وهو بذات الوقت مدين بها.
ويرى مما تقدم أن اتحاد الذمة ليس من شأنه أن يقضي الالتزام كما يقضيه الوفاء أو التجديد أو المقاصة، وإنما يتمحض اتحاد الذمة عن إنشاء حاجز منيع يحول دون نفاذ الالتزام، أو يجعل المطالبة به غير متصورة، وفي غير هذه الحدود يمكن أن يبقى للالتزام وجود يُعتد به وتترتب عليه آثار قانونية ومن تطبيقات ذلك ما تنص عليه المادة (350) من المشروع (المقابلة للمادة 263 من قانون التجارة القائم) من أنه " إذا اتحدت ذمة الدائن وأحد مدينيه المتضامنين فإن الدين لا ينقضي بالنسبة إلى باقي المدينين إلا بقدر حصة المدين الذي اتحدت ذمته مع الدائن " فلو أن الدين كان ينقضي باتحاد الذمة كما ينقضي بالوفاء لترتب على ذلك في الصورة التي يعالجها النص براءة ذمة سائر المدينين المتضامنين من الدين كله ومن الأمثلة التي تمليها البداهة الحالة التي يرث فيها الكفيل الدائن المكفول دينه، فإن اتحاد الذمة لا يقضي الدين بذمة المدين، إذ يكون للكفيل الذي أصبح وارثًا أن يرجع بذات الدين على المدين، خلافًا لما إذا كان الكفيل قد قضى الدين بطريق الوفاء إلى الدائن فإن الدين الأصلي ينقضي وتبرأ بهذا الوفاء ذمة المدين وإنما يكون للكفيل أن يرجع على المدين إما بدعوى الكفالة وإما بدعوى الحلول محل الدائن الذي أوفاه.
وإذا وجد من الأسباب ما يترتب عليه زوال اتحاد الذمة بأثر رجعي، فإن اتحاد الذمة يعتبر كأن لم يكن، فيعود الدين كما كان بأصله وترتد إليه قوته في المطالبة كما تعود له صفاته وتأميناته، ومثال ذلك أن يكون العقد الذي اشترى به المستأجر العين المؤجرة قابلاً للإبطال، ويُقضى ببطلانه، أما إذا زال اتحاد الذمة بسبب ليس له أثر رجعي فإن الدين الذي يبعث على ذلك الوجه لا تبقى له التأمينات المقدمة من الغير فإذا ما ورث المدين دائنه، واجتمعت له صفتا الدائنية والمديونية ثم قام بوصفه دائنًا بحوالة الحق إلى شخص آخر، فإنه يعود من جديد مدينًا للمحال له بالدين الذي كان بذمته لمورثه، وإنما تبرأ ذمة الكفيل الشخصي أو العيني الذي كان يكفل ذلك الدين اعتبارًا بأنه من الغير في الاتفاق الذي تم بين مكفوله وبين المحال له.
الفصل الثالث: انقضاء الالتزام دون وفاء:
المواد (435 – 453):
أولاً: الإبراء:
أورد المشروع المادتين (435 و436) بشأن الإبراء ويقابلهما المواد من (351 إلى 355) من قانون التجارة الحالي، وقد أخذ المشروع بماهية الإبراء من الفقه الإسلامي ناهجًا في ذلك نهج القانون الحالي وكثرة من التشريعات العربية (371 مدني مصري و465 مدني سوري و420 مدني عراقي و358 مدني ليبي).
وتقضي المادة (435) بأن الإبراء الصادر من الدائن يقضي الإلزام فلا يتوقف انقضاؤه على قبول من المدين، بل يترتب عليه هذا الأثر متى وصل إلى علم المدين ولم يرده، فإن رده عاد الدين كما كان وبذلك يعود مع مقوماته فتبقى له صفاته وتأميناته، كما يظل خاضعًا للدفوع التي تلابسه، وتأكيدًا لعودة الدين على ذلك الوجه استحدث المشروع فقرة ثانية تقضي بذلك الحكم تلافيًا من اختلاف الآراء في هذا الشأن.
ولتحديد الوقت الذي يصح فيه الرد يلزم الرجوع إلى الفقه الإسلامي باعتباره مصدر التشريع في ذلك الخصوص والرأي عندهم أن الرد يصح في مجلس الإبراء إن كان المدين حاضرًا فيه، فإذا انقضى المجلس صار الإبراء باتًا غير قابل للرد من المدين، أما إذا كان المدين غائبًا من المجلس فيجوز له الرد متى وصل الإبراء إلى علمه (المادة 1568 من مجلة الأحكام ومؤلف درر الحكام في شرح المجلة جزء 4 ص 64).
وتنص المادة (436) بأنه يسري على الإبراء القواعد الموضوعية التي تسري على التبرعات، وأنه لا يشترط في الإبراء شكل خاص حتى وإن وقع على التزام يتطلب ذلك الشكل، ويوجه هذا الحكم في شطره الأول أن الإبراء نزول عن الدين دون مقابل وهو بذلك تبرع محض فوجب أن تسري عليه من حيث موضوعه القواعد القانونية التي تحكم التبرعات، ويوجه الحكم في شطره الآخر أن الإبراء وإن كان يصدر على سبيل التبرع أو الهبة إلا إنه يعتبر من قبيل الهبات غير المباشرة التي لا يتطلب القانون الرسمية لانعقادها وعلى ذلك يصح الإبراء من الالتزام مصدره عقد شكلي وسواء كان الشكل مفروضًا بحكم القانون كعقد الوعد بالهبة أو كان الشكل لازمًا باتفاق الطرفين كاتفاقهما على أن يكون البيع بورقة رسمية، فإنه يصح إبراء الواعد من وعده بالهبة وإبراء المشتري من التزامه بثمن المبيع بغير ورقة رسمية وقد استمد المشروع نص المادة (436) من المادة (372) من القانون المدني المصري والقوانين العربية التي نقلتها عنه (466 سوري، 359 ليبي).
ولم يرَ المشروع موجبًا لمتابعة ما يزيد على ما تقدم من الأحكام التي أوردها قانون التجارة الحالي بالمواد من (352) إلى (355)، ذلك أن المادة (352) تنص على أنه يشترط لصحة الإبراء أن يكون المبرئ أهلاً للتبرع، ويغني عنها القاعدة العامة التي أرساها المشروع بخضوع الإبراء للأحكام الموضوعية التي تسري على التبرعات، وللأهلية مكان الصدارة بين تلك الأحكام.
وكذلك تنص المادة (353) من القانون الحالي على أن المدين إذا مات قبل قبول الإبراء لم يؤخذ الدين من تركته، وأنه يصح إبراء الميت، والحكمان كلاهما من قبيل التفصيلات التي تترتب على ماهية الإبراء – كما اعتمدها المشروع نقلاً عن الفقه الإسلامي – بأنه تصرف يصدر من الدائن بإرادته المنفردة ولا يستلزم قبول المدين ولا يرتد إلا أن يرده المدين، فإن مات المدين دون أن يقبل فإن مقتضى ذلك صيرورة الإبراء تامًا ولازمًا بغير لبس في الحكم، وكذلك فلا يوجد في القواعد العامة في القانون - ما يمنع الدائن من إبراء الميت من دينه – فيصبح الإبراء باتًا ما لم يرده الورثة (المادة 1569 من مجلة الأحكام).
أما المادة (354) من قانون التجارة الحالي فتنص على أنه (يصح تعليق الإبراء فإن علق الدائن إبراء مدينه من بعض الديون بشرط أداء البعض الآخر وأداه المدين برئ وإن لم يؤده فلا يبرأ ويبقى عليه الدين كله). وقد أُخذت هذه المادة من القانون العراقي، ومن الواضح أن هذا القانون لم يورد حكم تلك المادة إلا لتأكيد جواز تعليق الإبراء على الشرط اتفاقًا مع المبدأ العام الذي سار عليه بجواز اقتران الشرط بسائر التصرفات القانونية، فيكون بذلك قد أفصح عن أنه لم يلتزم بما يراه الجمهور من فقهاء المسلمين من عدم جواز تعليق الإبراء على الشرط (المادة 243 من مرشد الحيران، ودرر الحكام في شرح مجلة الأحكام جزء 4 ص 59 – والخانية ومجمع الأنهر)، ولم يكن المشروع بحاجة لذلك التحرز الذي اتخذه القانون العراقي وتابعه فيه قانون التجارة الكويتي بعد أن صرح في المادة (436) المشار إليها بأنه يسري على الإبراء القواعد الموضوعية التي تحكم التصرفات القانونية التبرعية، وأما المادة (355) من قانون التجارة الحالي فتنص على أنه (إذا اتصل بالصلح إبراء خاص بالمصالح عنه، فلا تُسمع الدعوى في خصوص ذلك، وتُسمع في غيره وإذا اتصل بالصلح إبراء عام عن الحقوق والدعاوى كافة، فلا تُسمع على المبرأ دعوى في أي حق كان قبل الصلح، وتسمع على الحق الحادث بعده، وحكم البراءة المنفرد عن الصلح كحكم البراءة المتصلة به في الخصوص والعموم) وقد نُقلت هذه المادة بدورها من المادة (524) من القانون المدني العراقي والحكم الوارد بها يهدف إلى وجوب التحرز في تفسير الإبراء، بأن يكون تفسيره في أضيق الحدود، وهو تفصيل زائد على حاجة النصوص إذ يترتب حتمًا على إعمال القواعد العامة في تفسير الأحكام القانونية، فإذا كان الإبراء نزولاً عن الحق دون مقابل وهو على ذلك الأساس بمنزلة التبرع فإنه لا يؤخذ في تفسيره بما يعد على أي وجه كان تجاوزًا للحدود التي وقع فيها أو انصب عليها.
ثانيًا: استحالة التنفيذ:
عرض المشروع لاستحالة التنفيذ كسبب من أسباب انقضاء الالتزام بالمادة (437) وجاء بها نقلاً عن المادة (356) من قانون التجارة الحالي والتي أُخذت بدورها من المادة (373) من القانون المدني المصري والتشريعات العربية التي تابعته (371 سوري، 360 ليبي، 425 عراقي، 341 لبناني). ومؤدى الحكم الذي أوردته أن الالتزام ينقضي إذا طرأ عليه بعد نشوئه ما يجعل تنفيذه مستحيلاً بسبب أجنبي عن المدين، ويستوي في ذلك أن تكون الاستحالة فعلية أو قانونية، كما يستوي أن يكون السبب الأجنبي هو الحادث الفجائي أو القوة القاهرة أو خطأ الدائن أو فعل الغير، ويترتب على انقضاء الالتزام عدم استيفاء الدائن لحقه لا عينًا ولا بمقابل.
وقد جاء قانون التجارة الحالي في فصل استحالة التنفيذ بالمواد (357 و358 و359) - نقلاً عن القانون العراقي - وأورد بها أحكامًا خاصة بتحمل تبعة هلاك الشيء، إذا كان قد هلك بعد انتقاله إلى يد غير يد صاحبه بناءً على عقد أو بدون عقد، وفي الأحوال التي تكون فيها اليد يد ضمان أو يد أمانة، ورأى المشروع ألا يجاري القانون الحالي بإيراد تلك الأحكام، وأن يحتذي حذو التشريع المصري والتشريعات العربية التي سارت على منواله التي آثرت أن يكون الرجوع في شأنها إلى القواعد العامة في آثار الالتزام وفي الأبواب الخاصة بالملكية وبالعقود التي ترد عليها أو تلك التي ترد على الانتفاع بالشيء.
ثالثًا: مرور الزمان المانع من سماع الدعوى:
تنص المادة (360) من القانون التجارة الحالي القائم على أنه (يتقادم الالتزام بانقضاء خمس عشرة سنة فيما عدا الحالات التي ورد عنها نص خاص في القانون وفيما عدا الاستثناءات التالية). وقد نُقلت هذه المادة عن المادة (374) من القانون المدني المصري، كما سبق ونقلها القانون المدني السوري (المادة 372)، والقانون المدني الليبي (المادة 361)، وكذلك يتفق حكمها العام مع حكم المادة (344) من قانون الموجباب اللبناني التي يجري نصها على أنه (تسقط الموجباب بتقاعد الدائن الذي يتخلف عن التذرع بحقوقه سحابة مدة من الزمان ... إلخ).
أما القانون المدني العراقي فإنه ينص بالمادة (329) على أن: (الدعوى بالالتزام أيًا كان سببه لا تسمع على المنكر بعد تركها من غير عذر شرعي خمس عشرة سنة، (مع مراعاة ما وردت فيه أحكام خاصة).
وقد استمد القانون العراقي هذا الحكم في خصوص عدم سماع الدعوى بالحقوق الشخصية بمرور الزمان مدة معينة من المبادئ المقررة في الفقه الإسلامي كما قننتها مجلة الأحكام العدلية بشأن عدم سماع الدعوى لذلك السبب بأي حق من الحقوق كافة حيث تنص المادة (1660) من المجلة على أنه (لا تسمع دعوى الدين والوديعة والعقار المملوك والميراث وما لا يعود من الدعوى إلى العامة ولا إلى أصل الوقف في العقارات الموقوفة كدعوى المقاطعة أو التصرف بالإجارتين والتولية المشروطة)، (والغلة بعد أن تركت خمس عشرة سنة)، وتنص المادة (1661) على أنه (تسمع دعوى المتولي والمرتزقة المتعلقة بأصل الوقت إلى ست وثلاثين سنة) وتنص المادة (1662) على تعيين مدد أخرى تتراوح بين عشر سنين وست وثلاثين سنة يمتنع بعدها سماع الدعوى بحقوق مختلفة.
وتقوم فكرة انقضاء الالتزام بالتقادم في القوانين الوضيعة وبصفة عامة - على اعتبارات عملية، ودون نظر إلى القواعد الأخلاقية والواجبات الأدبية في التعامل، حتى أنه ليؤذن في بعض الأحوال بإسقاط الحق على صاحبه على الرغم من إقرار الملتزم به، وقد رأى المشروع أن يتجنب هذا التصوير في أثر مرور الزمان على الالتزام، وآثر الاقتداء بالقانون العراقي فنهل على غراره من القواعد والأحكام التي جاء بها الفقه الإسلامي في ذلك المجال.. فالمقرر عندهم أن الحق لا ينقضي ولا يسقط بتقادم الزمان وإنما يرتبون على مرور الزمان مدة معينة منع سماع الدعوى بالحق، وهو استحسان وجهه منع التزوير والحيل لأن ترك الدعوى مع التمكن من قيامها يدل على عدم وجود الحق ظاهرًا حتى إذا انتفت هذه العلة وجب سماع الدعوى مهما طالت مدة تركها، وورد في تنقيح الحامدية أن عدم سماع الدعوى بمرور الزمان ليس مبنيًا على بطلان الحق وإنما هو مجرد منع القاضي من سماعها مع بقاء الحق لصاحبه حتى لو أقر به الخصم لزمه، ومنع القاضي من سماع الدعوى في هذا المقام هو من قبيل تخصيص قضائه بالزمان والمكان والخصومة، (الحامدية، المادة 1801 من مجلة الأحكام - شرح سليم باز ص 1168).
وعلى أساس ما تقدم وضع المشروع نص المادة (438) وهو يقضي بأنه (لا تسمع عند الإنكار الدعوى بحق من الحقوق الشخصية بمضي خمسة عشرة سنة وذلك فيما عدا الأحوال التي يعين فيها القانون مدة أخرى والأحوال المنصوص عليها في المواد التالية). ووجد المشروع أن من الملائم أن تكون المدة اللازمة لمنع سماع الدعوى - كأصل عام - هو خمس عشرة سنة، أخذًا بالمقرر في ذلك الشأن منذ عهد مجلة الأحكام العدلية، على أن عادات الناس وأعرافهم جرت بالنسبة لأنواع معينة من الحقوق الشخصية - وبالنظر إلى ما لها من طبيعة خاصة وصفات - على مبادرة أصحابها باستيفائها، وعدم قعود الملزمين بها طويلاً دون الوفاء بها، ولذلك فإن القوانين التي أخذت بفكرة سقوط الحق بالتقادم (ومنها قانون التجارة الكويتي) لم تلتزم في شأن تلك الطائفة من الحقوق بمدة التقادم العام المعينة بخمس عشرة سنة بل جعلت التقادم في كل نوع من أنواعها بمدة دون ذلك وتناسب مجريات التعامل فيه والمدة المألوفة به وبمراعاة ظروف من يقع عليهم الالتزام بكل منها، ولذلك فقد اعتد المشروع في مواده اللاحقة بتلك المدد وجعل مرور الزمان بقدرها مانعًا من سماع الدعوى بالحقوق التي ترد عليها لدى إنكارها من الخصم.
وقد فضل المشروع أن يكون نص المادة (438) بمنع سماع الدعوى بحق من الحقوق، فلا يجري على منوال القانون العراقي في المادة المقابلة حيث نص على منع سماع الدعوى بالالتزام، وذلك أن الأقرب إلى المنطق الصحيح - أن صاحب الدعوى يدعيها بحقه هو بذمة غريمه، وإن يكن الالتزام ليس إلا الوجه السلبي للحق المدعى به، هذا إلى أن القانون العراقي قد عاد في مواده التالية فاستعمل عبارة عدم سماع الدعوى بالحقوق التي تناولتها تلك المواد وهو ما التزمه المشروع أيضًا فاكتمل له تنسيق الصياغة بين مواده جميعًا.
وجاء المشروع بالمادة (439) وهي تقابل المادة (361) من قانون التجارة الحالي مع تعديل حكمها بما يقتضيه التزام المشروع بقواعد الفقه الإسلامي، وتقضي الفقرة الأولى منها بأن المدة المقررة لعدم سماع الدعوى بالحقوق التي تناولتها خمس سنوات، وهي الحقوق التي لها صفة الدورية والتجدد (وذلك ما لم يوجد نص يقضي بخلافه)، أما الفقرة الثانية فتعرض لعدم سماع الدعوى بمرور خمس عشرة سنة بالنسبة إلى الريع في ذمة الحائز سيِّئ النية أو الريع الواجب على نظار الوقف أداؤه للمستحقين فهذه أو تلك لا تعتبر من الحقوق الدورية المتجددة ذلك أن الريع يتحول في ذمة الحائز سيئ النية إلى رأسمال يتعين الوفاء به للمالك، كما أن غلة الوقف تظل ملكًا للمستحق ما بقيت مفرزة بيد الناظر فإن خلطها بماله واستهلاكها بتعديه أو بتقصيره كان مسؤولاً مسؤوليته عن ديونه العادية فلا يمتنع سماع الدعوى بالمطالبة بها إلا بمرور خمس عشرة سنة.
ويعرض المشروع بالمادة (440) لحكم يقابل ما تنص عليه المادة (362) من قانون التجارة الحالي مع التعديل المناسب للأصول التي استنها بعدم سماع الدعوى بدلاً من القاعدة التي يجري عليها القانون القائم بتقادم الحق، هذا ولم يورد المشروع أصحاب المهن الحرة الذين يتناول النص الذي جاء به حقوقهم على سبيل الحصر بل سقاهم على سبيل التمثيل وأضاف إليهم عبارة (وغيرهم ممن يزاولون المهن الحرة ليشمل الحكم حقوق أصحاب المهن الحرة الآخرين كالمحاسبين والمصورين والفنانين ونحوهم. وقد استمد المشروع هذه الإضافة مما تجري به المادة " 341 أ " من القانون المدني العراقي).
ويعرض المشروع في المادة (441) للحكم بشأن عدم سماع الدعوى ومدته في المطالبة بالضرائب والرسوم المستحقة للدولة أو في المطالبة برد ما دفع منها بغير حق وهو الحكم الذي تناولته المادة (363) من قانون التجارة الحالي مع تعديل في الأساس والصياغة على النهج الذي التزمه المشروع كما تبين في الإيضاحات المتقدمة هذا وقد لوحظ أن القانون الحالي يحدد مدة التقادم بثلاث سنوات للمطالبة بالضرائب والرسوم كما يحدد ذات المدة للمطالبة بردها وتنص على سريان التقادم في هذه الحالة الأخيرة من يوم الدفع، وقد رُئي التماسًا لصواب التقدير إطالة مدة عدم سماع الدعوى في الحالين إلى خمس سنوات على أن يبدأ سريان المدة في حالة المطالبة بالرد من تاريخ التسوية النهائية، اعتبارًا بأنه على الممول بدءًا من ذلك التاريخ أن ينشط للمطالبة برد ما كان قد دفعه بغير حق، وأنه لم يكن له قبل حسم التسوية أن يسعى إلى استرداد حق لم يثبت له بعد، وكل ما تقدم دون الإخلال بما تقضي به القوانين الخاصة.
وتقابل المادة (442) من المشروع المادة (364) من قانون التجارة الحالي مع التغيير في لفظها وحكمها بما تقتضيه المناسبة التشريعية، وهي خاصة بالحقوق المستحقة للتجار والصناع عن أشياء وردوها لأشخاص لا يتجرون فيها، وحقوق أصحاب الفنادق والمطاعم عن أجر الإقامة وثمن الطعام وكل ما صرفوه لحساب عملائهم أو كذلك حقوق خدم المنازل ومن في حكمهم كالبستاني والطاهي والسائق الخاص وحارس المنزل الخصوصي. وقد أخذ المشروع في شأن ذلك الحكم بنظر القانون الحالي والتشريعات العربية المقارنة بأن الحقوق التي يتناولها يتم الوفاء بها فور استحقاقها، اعتبارًا بأن الدائنين يعولون عليها في نفقات معيشتهم ولذلك فمن المألوف أن يستأدوها دون تأخير ولا يظن أن يمهلوا المدينين بها أكثر من سنة، فإن مضت سنة ولم يطالبوا بها كان ذلك قرينة على الوفاء. ولكنها ليست قرينة كافية بذاتها بالنظر إلى قصر المدة لذلك ففقد استوجب المشروع للحكم بعدم سماع الدعوى بتركها مدة السنة أن يحلف المدين بأنه أدى الدين فعلاً، فإن كان الذي تمسك بعدم السماع غير المدين كالوارث أو النائب القانوني فعليه أن يحلف اليمين بأنه لا يعلم بوجود الدين أو بأنه بحصول الوفاء واليمين على هذا الوجه يمين إجبارية يوجهها القاضي من تلقاء نفسه ويترتب على حلفها وجوب الحكم بعدم سماع الدعوى.
وتقابل المواد (443 و444 و445) من المشروع المواد (365 و366 و367) من قانون التجارة الحالي مع تغيير في الصياغة والحكم على أسس التغيير في المواد السابقة بهذا الفصل.
وفي المادة (444) أخذ المشروع في كيفية حساب المدة المقررة لعدم سماع الدعوى، بذات الكيفية التي تحسب بها مدة التقادم في الحقوق بالمادة (366) من القانون القائم فجرى على اعتبارها بالأيام وليس بالساعات. وإغفال اليوم الأول، وعلى أن تكمل المدة بانقضاء آخر يوم منها، ولم يجد المشروع محلاً لنقل ما تضيفه المادة (366) إلى الحكم السابق من أن حساب المدة يكون بالتقويم الميلادي إذ يغني عن ذلك ما قرره المشروع في أحكامه العامة من اعتماد هذا التقويم في حساب كافة المدد المنصوص عليها فيه ما لم يرد بها حكم مخالف بشأن مدة معينة بذاتها.
وفي المادة (445) وضع المشروع القاعدة العامة في تحديد تاريخ بدء جريان المدة المقررة لعدم سماع الدعوى، على ذات الأساس الذي اعتمده القانون القائم في المادة (367) بشأن التاريخ المُجرى لتقادم الحقوق، وهو تاريخ الذي يصبح فيه الذين مستحق الأداء وهذا فيما لم يرد فيه نص خاص بحكم مخالف، إذ قد ينص القانون في بعض الأحوال لاعتبارات معينة، على جعل بدء سريان المدة في تاريخ لاحق لتاريخ الاستحقاق. كما هو الحال بالنسبة للالتزامات الناشئة عن العمل غير المشروع إذ يقضي أن المدة لا تسري إلا من الوقت الذي يعلم فيه الدائن بقيام الدين وبالشخص المسؤول عنه، كذلك قد توجب بعض الاعتبارات جعل بدء سريان المدة من تاريخ سابق لوقت الاستحقاق، ومن ذلك على سبيل المثال النص الذي منع سماع الدعوى بالنسبة لملحقات الدين تبعًا لمنع سماعها بالنسبة إلى الدين ذاته مع أن استحقاقها يكون لاحقًا في الغالب لاستحقاق الدين، وتقضي الفقرة الثانية من المادة (445) بأن ميعاد الوفاء إذا كان متوقفًا على إرادة الدائن سرت المدة منذ الوقت الذي يكون فيه للدائن أن يعلن إرادته، وينطبق هذا الوقت عادة على تاريخ نشوء الالتزام، فلا يعتد في هذا المقام بالوقت الذي يختاره الدائن للمطالبة بالوفاء، وذلك تلافيًا من تحكم الدائن في تحديد التاريخ الذي يبدأ به جريان المدة لعدم سماع الدعوى.
وتقابل المادة (446) من المشروع المادة (368) من قانون التجارة الحالي مع تعديل الصياغة بما تقتضيه الأصول التي اعتمدها المشروع، وتورد بالفقرة الأولى الحكم العام بشأن وقف التقادم وتقرر أن الوقف يتحقق إذا وجد ثمة مانع مادي أو أدبي يستحيل معه على الدائن المطالبة بحقه في الوقت المناسب وعلى ذلك فإنه كلما تحقق مانع من هذا القبيل أو ذاك وقف سريان التقادم طوال مدة وجود المانع، فلا تحسب ضمن المدة المقررة لعدم سماع الدعوى وإنما تحسب المدة السابقة لها والمدة التالية لزوال المانع، وكذلك تقف المدة فيما بين الأصيل والنائب طالما ظلت النيابة قائمة، اعتبارًا بأن حيازة النائب لمال الأصيل هي حيازة عارضة ولحساب الأصل نفسه.
على أن المشروع لم يجار الفقرة الثانية من المادة المقابلة بالقانون الحالي فيما تنص عليه من تحديد الوقف في التقادم بما يزيد على خمس سنوات بالنسبة لحقوق من لا يوجد لهم نائب قانوني من الأشخاص الذين لا تتوفر فيهم الأهلية أو الغائبين أو المحكوم عليهم بعقوبة جناية، وإنما رأى المشروع جعل الوقف ساريًا على التقادم أيًا كانت مدته بالنسبة لهؤلاء الأشخاص تقديرًا بأن عدم وجود النائب القانوني يعتبر بذاته مانعًا يتعذر معه المطالبة بالحق أيًا كان نوعه وأيًا كانت المدة المانعة من سماع الدعوى به، وقد استمد المشروع هذا الحكم من المادة (435) من القانون المدني العراقي والمادة (355) من قانون الموجبات والعقود اللبناني.
(انظر المادة " 1663 " من مجلة الأحكام التي تقضي بوقف المدة - إذا كان المدعي صغيرًا أو مجنونًا أو معتوهًا سواء كان له وصي أو لم يكن).
وتقابل المادة (447) من المشروع المادة (369) من قانون التجارة الحالي مع التعديل اللازم في الصياغة، وقد استمد القانون الحالي أصل الحكم الذي جاء به من المادة (436) من القانون المدني العراقي، وهو لا يعدو أن يكون تطبيقًا للقواعد العامة ذلك أن وقف مدة التقادم إذا كان مرجعه سببًا شخصيًا قائمًا بأحد الشركاء في الدين، فلا يفيد من هذا الوقف الشركاء الآخرون الذين لم يتحقق بهم سببه. وتقابل المادة (448) من المشروع المادة (370) من قانون التجارة الحالي مع التعديل اللازم في الصياغة ولا تخالف عن مضمون الحكم الذي تقرره تلك المادة وهي تورد الأسباب التي تنقطع بها مدة عدم سماع الدعوى وأولاها المطالبة القضائية ولو كانت الدعوى رُفعت إلى محكمة غير مختصة كما قد يقع ذلك من جراء خطأ مغتفر في تحديد جهات الاختصاص، ويترتب الانقطاع على المطالبة القضائية كلما توفر فيها معنى الطلب الواقع فعلاً للمحكمة والجازم بالحق الذي يُراد اقتضاؤه أما إذا كان سند الدين تنفيذيًا وامتنعت بالتالي الحاجة إلى المطالبة القضائية فإن الانقطاع يترتب على اتخاذ إجراءات التنفيذ وفاتحتها مقدمات التنفيذ بإعلان السند التنفيذي، وقد استعاض المشروع بعبارة إعلان السند التنفيذي عن عبارة التنبيه اتفاقًا مع الاصطلاح الفني لتلك الورقة في قانون المرافعات الكويتي وفي مصادره بقوانين الإجراءات المدنية المصرية منذ تشريع سنة 1949، وحتى ينتج إعلان السند التنفيذي أثره القاطع فإنه يجب أن تتوافر فيه مقومات صحته وفقًا لتشريع المرافعات فيشمل صورة من سند التنفيذ مذيلة بالصيغة التنفيذية مع تكليف المدين بأداء ما هو مطلوب منه وإنذاره بإجراء التنفيذ الجبري إن لم يقم بأدائه، وتنقطع المدة أيضًا بالحجز سواء أكان حجزًا تنفيذيًا أو حجزًا تحفظيًا، كما يأخذ حكم المطالبة القضائية في أحداث الانقطاع الطلب الذي يقدمه الدائن لقبول حقه في تفليس أو توزيع وكذلك أي إجراء يتخذه الدائن للتمسك بحقه أثناء سير الدعوى كما لو تدخل في دعوى مرفوعة من قبل مطالبًا بالحق لنفسه أو أبدى طلبًا عارضًا في دعوى مرفوعة ضده من مدينه.
وتقابل المادة (449) من المشروع المادة (371) من قانون التجارة الحالي مع التعديل اللازم في صياغتها وتطابق الحكم المقرر بها وهو أن إقرار المدين صريحًا كان أو ضمنيًا من شأنه قطع المدة، ويوجه هذا الحكم أن الإقرار ينطوي على معنى النزول عن الجزء الذي انقضى من المدة فينمحي أثره ويعتبره كأنه لم يوجد.
وتقضي الفقرة الثانية من المادة (449) بانقطاع المدة أيضًا إذا كان للمدين مال مرهون رهنًا حيازيًا إلى الدائن ضمانًا للدين أو كان الدائن قد حبس المال تحت يده تبعًا لحقه في عدم رده حتى يستوفي الدين المرتبط به، فإن ترك المدين لماله في الحالين يعتبرًا إقرارًا ضمنيًا بالدين يكون من شأنه استدامة الانقطاع طالما بقي المال في حيازة المرتهن أو تحت يد الحابس تقديرًا بأن الإقرار بهذه المثابة يبقى مستمرًا مهما طالت المدة على استحقاق الدين، وقد نقل المشروع حالة المال المرهون رهنًا حيازيًا من المادة المقابلة بالقانون الحالي وأضاف إليها حالة المال المحبوس تحت يد الدائن لما بينهما من تماثل في الدلالة على الإقرار الضمني بالدين.
وتقابل المادة (450) بفقرتيها الأحكام المنصوص عليها بالمادتين (365 و372) من قانون التجارة الحالي.
وتنص المادة (365) في فقرتها الأولى على أن الحقوق المشار إليها في المادتين (362 و364)، (وهي حقوق الأطباء وأصحاب المهن الحرة التي تتقادم بسنة واحدة) يبدأ سريان التقادم فيها من الوقت الذي يتم فيه الدائنون تقادماتهم، وتنص في فقرتها الثانية على أنه (إذا حُرر سند بحق من هذه الحقوق فلا يتقادم الحق إلا بانقضاء خمس عشرة سنة). وتنص المادة (372) على أنه (إذا انقطع التقادم بدأ تقادم جديد يسري من وقت انتهاء الأثر المرتب على سبب الانقطاع، وتكون مدته هي مدة التقادم الأول، على أنه إذا حُكم بالدين وحاز الحكم قوة الأمر المقضي أو إذا كان الدين مما يتقادم بسنة واحدة وانقطع تقادمه بإقرار المدين، كانت مدة التقادم الجديد خمس عشرة سنة، إلا أن يكون الدين المحكوم به متضمنًا لالتزامات دورية متجددة لا تستحق الأداء إلا بعد صدور الحكم).
وقد نقل هذان النصان من المادتين (379/ 2 و385) من القانون المدني المصري بغير التفات إلى التعرض القائم بين حكميهما، ذلك أن المادة (379/ 2) مصري (مصدر المادة 365/ 2 تجاري) تقضي أيضًا بأن إقرار المدين في سند كتابي بحق من الحقوق المعينة في المادتين (376 و378) وهي حقوق أصحاب المهن الحرة التي تتقادم بخمس سنوات وحقوق الصناع والتجار والعمال التي تتقادم بسنة واحدة يكون من شأنه تحول التقادم إلى المدة الطويلة فيبدأ بالإقرار تقادم جديد مدته خمسة عشرة سنة، على حين أن المادة (385) مصري (مصدر المادة 327 تجاري) تقصر التحول إلى التقادم الطويل الذي يقع نتيجة الإقرار على نوع واحد فقط من الديون التي يجري عليها التقادم القصير وهي تلك التي تتقادم بسنة واحدة، ولم تكن هذه المفارقة بين الحكمين مقصودة في التشريع المصري. وإنما جاءت وليدة السهو إذ كان المشروع التمهيدي في مراحله الأولى ينص في المادة المقابلة للمادة (376) من القانون المدني المصري على تقادم حقوق الأطباء وأصحاب المهن الحرة بسنة واحدة وبذلك فإنها كانت تدخل حتمًا ضمن الحقوق التي يتحول فيها التقادم من سنة واحدة إلى خمس عشرة سنة بإقرار المدين وفقًا للمادة (385) من ذلك القانون، وهكذا كان التناسق تامًا بين النصوص على أن المشروع التمهيدي قد عدل في مرحلة لاحقة بجعل مدة التقادم في حقوق أصحاب المهن الحرة خمس سنوات على الوجه الذي استقر عليه النص بالمادة (376)، ولم يجرَ تعديل مناسب لذلك في المادة (385) وبقيت على أصلها كما وقعت في المشروع التمهيدي وتقضي بأن الإقرار بحق يتقادم بسنة واحد يتحول إلى تقادم طويل، ومن ثم بدت على خلاف لا مبرر له مع نص المادة (379/ 2) التي تنص على أن التقادم سواء كان بسنة واحدة أو بخمس سنوات يتحول إلى تقادم طويل إذا حرر المدين سندًا بالحق مع أن تحرير السند يتمثل في إقرار بالحق وإن تطلب القانون أن يكون بصورة خاصة.
وقد تلافى المشروع كل ذلك في الصياغة التي أوردها بالمادة (450) للتوفيق بين الأحكام.
وتقابل المواد (451 و452 و453) الأحكام الواردة في المواد ( 373 و374 و375) من القانون التجارة الحالي مع تعديل في صياغتها تعديلاً يتفق مع نهج المشروع على عدم سماع الدعوى لمرور الزمان ونبذه للأساس الذي تقوم عليه أحكام القانون الحالي بتقادم الحقوق، وتقضي المادة (451) بأن عدم سماع الدعوى بأصل الحق يستتبع عدم سماعها بالنسبة للملحقات، ولو كانت مدة عدم السماع لم تكتمل بعد بشأن هذه الملحقات، وذلك اعتبارًا بأن الفرع يتبع الأصل فلا تسمع الدعوى به ما دامت لا تسمع بالأصل.
وتأخذ المادة (452) بالحكم المقرر بأن عدم سماع الدعوى لا يتعلق بالنظام العام وبذلك فليس للمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها، وإنما يجب أن يدفع المدين بعدم السماع، كما يجوز لدائن المدين ولأي شخص له مصلحة أن يتمسك بالدفع ولو لم يتمسك به المدين، ويصح الدفع به في أية حالة كانت عليها الدعوى ولو لأول مرة في مرحلة الاستئناف ما لم يبدر ممن تمسك بالدفع ما يدل على التنازل عنه.
وتقضي المادة (453) بأنه لا يجوز النزول عن الدفع قبل ثبوت الحق فيه ذلك أنه لو أجيز النزول المسبق لأصبح شرطًا مألوفًا يمليه الدائن على المدين وقت نشوء الدين فضلاً عن أنه يهدر الاعتبارات التي يقوم عليها الدفع بعدم السماع وإنما يكون النزول عنه مبررًا إذا كان بعد ثبوت الحق فيه، فنزول المدين عندئذٍ يكون طليقًا إلا مما يفرضه عليه الواجب والضمير، ويتضمن النص حكمًا آخر يقضي بعدم جواز الاتفاق على منع سماع الدعوى بمدة تختلف عما عينه القانون ذلك أن تعيين المدة التي لا تسمع بعدها الدعوى في كل حال من الحالات أمر يتصل أشد الاتصال بالنظام العام فلا يجوز أن يترك الأمر في تحديده لمشيئة الأفراد.
الكتاب الثاني: العقود المسماة
الباب الأول: العقود التي تقع على الملكية
الفصل الأول – البيع:
الفرع الأول - البيع بوجه عام:
البيع في المجلة - وفي الفقه الإسلامي عامة - يتسع لكل مبادلة مال بمال، وينقسم إلى أربعة أقسام: بيع المال بالثمن، ويسمى بالبيع المطلق، لأنه أشهر أقسام البيع. وبيع النقد بالنقد، وهو الصرف، وبيع العين بالعين وهو المقايضة. وبيع مؤجل بمعجل وهو السلم (المادتان 105 و120 من المجلة). وقد سارت بعض التقنينات العربية على ذلك النهج في تعريف البيع، فالتقنين العراقي جعل البيع شاملاً للبيع المطلق والصرف والمقايضة. ولم يرَ حاجة للإشارة إلى السلم بعد أن أصبح بيع الشيء المستقبل جائزًا بوجه عام، لا في بيع السلم فحسب، وكذلك فعل التقنين الأردني فأغفل أن الثمن يجب أن يكون نقدًا، وجعل البيع شاملاً للبيع المطلق والمقايضة والسلم (المواد من 532 - 538 ومن 552 - 556). ولكن المشروع آثر أن يُجرى في تعريف البيع بالمادة (454) على المتعارف، وهو البيع المطلق، وأورد في التعريف الذي جاء به أهم خصائص عقد البيع، وهي تمليك المال - أي نقل ملكية الحق المالي - في مقابل عوض نقدي، فكونه ناقلاً للملكية، يميزه عن عقد الإيجار، وكونه معاوضة يميزه عن عقد الهبة، وكون العوض فيه مبلغًا من النقود يميزه عن عقد المقايضة. وهي خصائص حرصت غالبية التقنينات العربية الأخرى على إبرازها وتحدد المادة (455) من المشروع ما يدخل في البيع ولو لم يذكر في العقد، فلخصت ما أوردته المجلة في هذا الشأن، مقررة أن البيع يشمل كل ما كان من ملحقات المبيع وتوابعه. ويهتدي في ذلك بطبيعة المعاملة وبالعرف وبقصد المتعاقدين، وقد وضع هذا النص في مكانه الصحيح، لتعلقه بالبيع، لا بالتسليم وهو ما لم تفطن إليه كثير من التقنينات الأخرى، التي قنعت بأن تحدد مشتملات التزام البائع بالتسليم. والأولى أن يحدد محل العقد ككل، حتى يتحدد على أساسه مشتملات التزامات البائع جميعها، وليس التزام التسليم فحسب.
أولاً: أركان البيع:
التراضي هو الركن الأساسي في عقد البيع، على أنه يلزم أن يتعلق التراضي بمبيع وثمن لذلك ينص قانون التجارة في الفقرة الأولى من المادة (376) على أن (ينعقد البيع بتراضي المتبايعين على المبيع والثمن)، وهو نص مأخوذ عن نص المادة (557) من المشروع التمهيدي للتقنين المصري. الذي كان يرمي - كما جاء في المذكرة الإيضاحية لذلك المشروع - إلى التمهيد بذكر المبيع والثمن لإيراد النصوص الخاصة بهما، ولكنه حُذف في لجنة المراجعة لأن حكمه مُستفاد من القواعد العامة. وقد آثر المشروع عدم ترديده أيضًا. وانتقل مباشرة - في المواد التالية - إلى بيان الأحكام المتعلقة بالتراضي على المبيع والثمن. فعرض أولاً للعلم بالمبيع ولبعض أنواع من البيوع، كالبيع بالعينة، والبيع بشرط التجربة وبشرط المذاق، التي تجمعها في الفقه الإسلامي الأحكام المتعلقة بخيار الرؤية وخيار الشرط، ثم عرض بعد ذلك لتحديد الثمن وأسس تقديره.
العلم بالمبيع:
طبقًا للقواعد العامة المتعلقة بتعيين محل الالتزام، يكفي أن يكون المبيع معينًا تعيينًا كافيًا يميزه عن غيره ويكون مانعًا من الجهالة الفاحشة ولو لم يكن المشتري عالمًا به، فلا يُشترط رؤية المشتري للمبيع ولا سابقة علمه به ولا وصفه بأكثر من الأوصاف التي تكفي لتعيينه، مع مراعاة ألا يكون المشتري واقعًا في غلط في صفة جوهرية في المبيع، وهو غلط يقع عبء إثباته على عاتق المشتري الذي يدعيه، ولكن الفقه الحنفي يثبت للمشتري الذي لم يرَ المبيع الخيار إذا رآه، فإن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء رده بعد رؤيته له، سواء رآه على الصفة التي وُصفت له أو على خلافها، ويُسمى بخيار الرؤية (لقوله صلى الله عليه وسلم) " من اشترى شيئًا لم يره فله الخيار إذا رآه " فخيار الرؤية إنما يثبت بعد صحة البيع لرفع الجهالة اليسيرة، أما البائع فلا خيار له، إذا باع ما لم يره، ويسقط خيار الرؤية برؤية المشتري للمبيع ورضائه به صراحة أو دلالة كما يسقط بهلاك بعض المبيع أو تعيبه أو تغيره قبل أن يختار وكذلك بتصرفه في المبيع. أما في فقه المذاهب الثلاثة الأخرى، فإن وصف المبيع يغني عن رؤيته. فالبيع على الوصف جائز ولا يكون للمشتري عند ذاك خيار الرؤية، وإنما يكون له خيار فوات الوصف.
وقد قننت المجلة أحكام العلم بالمبيع (والمقصود بها تعيينه) في المواد من (200 إلى 204)، كما قننت أحكام خيار الرؤية أخذًا عن الفقه الحنفي في المواد من (320 إلى 335)، وكذلك فعل التقنين الأردني (المواد من 184 - 188 والمادتان 466 و467).
أما التقنين المصري فقد عمد إلى التوفيق بين أحكام خيار الرؤية في الفقه الحنفي وبين القواعد العامة المتعلقة بتعيين المبيع، فأوجب في المادة (419) أن يكون المشتري عالمًا بالمبيع علمًا كافيًا - وهو ما يتحقق بالرؤية أصلاً - ولكن يُغني عن الرؤية إما وصف المبيع وصفًا كافيًا وإما إقرار المشتري في العقد بأنه عالم بالمبيع، وأخذت بذلك غالبية التقنينات العربية، ومنها قانون التجارة الكويتي بالمادة (376)، وقد نقل المشروع حكم هذه المادة إلى المادة (456) بعد تعديل طفيف في صياغتها، فالأصل في العلم بالمبيع أن يكون برؤية المبيع ذاتًا، على ما يقول به المذهب الحنفي، ولكنه يجوز تحصيل هذا العلم من اشتمال عقد البيع على بيان المبيع وأوصافه الأساسية بيانًا يمكن من تعرفه، فيقوم هذا الوصف مقام الرؤية، على نحو ما تأخذ به مذاهب السنة الثلاثة الأخرى. ثم إن إقرار المشتري في عقد البيع بأنه عالم بالمبيع أو سبقت له رؤيته يكون حجة عليه، فلا يكون له حق إبطال البيع بدعوى عدم علمه بالمبيع إلا إذا أثبت تدليس البائع. وذلك دون إخلال بحقه في طلب إبطال البيع تأسيسًا على الغلط وفقًا للقواعد العامة. وقد استحدث المشروع حكمًا جديدًا وإن كان مما تمليه القواعد العامة، فنص بالفقرة الأخيرة من المادة (456) على أنه إذا تسلم المشتري المبيع ولم يعترض عليه خلال فترة معقولة اعتبر ذلك قبولاً للمبيع فلا يكون له بعد ذلك أن يطلب إبطال البيع بدعوى عدم العلم بالمبيع.
البيع بالعينة:
وتعالج المادة (457) من المشروع حالة البيع على أساس عينة أو نموذج يتفق عليه المتعاقدان، وهو المسمى في الفقه الإسلامي بالبيع على رؤية بعض المبيع، وفي ذلك تنص المجلة على أن (الأشياء التي تباع على مقتضى أنموذجها تكفي رؤية الأنموذج منها فقط)، والأصل في هذا أن رؤية جميع المبيع غير مشروطة لتعذرها، فيكتفي برؤية ما يدل على العلم بالمقصود، ورؤية ذلك قبل الشراء كافية في سقوط خيار الرؤية، وبذلك يكون البيع قد انعقد على مبيع مطابق للعينة. ومن ثم وجب، عند تسلمه - أن يكون مطابقًا لها، وإلا جاز للمشتري أن يرفض المبيع أو أي جزء منه، ويكون الجزاء طبقًا للقواعد العامة، المطالبة بالتنفيذ العيني بإجبار البائع على تقديم ما يطابق العينة، أو فسخ البيع، أو طلب إنقاص الثمن إذا كانت قيمة المبيع أقل من قيمة ما يطابق العينة، وذلك دون إخلال بحق المشتري في التعويض، إذا كان له محل. أما المجلة، ويتابعها في ذلك كل من التقنين العراقي والتقنين الأردني فتجعل جزاء عدم المطابقة للنموذج، الفسخ أو الأخذ بالثمن المسمى.
وإذا تلف النموذج أو هلك، فإن كان ذلك وهو في يد المشتري كما هو غالب، وادعى هذا أن المبيع غير مطابق له، كان عليه هو أن يثبت ذلك، سواء كان التلف أو الهلاك بخطأ منه أو بقوة قاهرة، لأن البائع لا يد له في ضياع النموذج. حتى يثبت المشتري (المغايرة)، وإن كان النموذج في يد البائع وتلف أو هلك ولو بغير خطأ منه، وادعى المشتري أن المبيع غير مطابق له، فعلى البائع أن يثبت المطابقة. وهو حكم وارد في غالبية التقنينات المدنية العربية ويأخذ به أيضًا قانون لتجارة الكويتي م 378/ 2.
البيع بشرط التجربة أو بشرط المذاق:
تعرض المادة (458) لحالتي البيع بشرط التجربة والبيع بشرط المذاق، وقد رُئي أن يقتصر المشروع على إيراد نص واحد يتعلق بالبيعين دون تفرقة بينهما على عكس ما فعلت غالبية التقنينات العربية وقانون التجارة الكويتي، لأن المذاق في الحقيقة صورة من صور التجربة، فلا تقوم ثمة ضرورة للمباعدة بين البيعين، ويجيز المشروع اشتراط التجربة أو المذاق، مدة معلومة لقبول البيع أو رفضه دون تحديد لمداها، وإذا سكت المتبايعان، عند إبرام البيع، عن تحديد مدة، حملت على المدة المعتادة التي يترك تقديرها لقاضي الموضوع وفق ظروف الحال وعرف الجهة وطبيعة المعاملة، فإن انقضت المدة دون أن يعلن المشتري رفضه للبيع مع تمكنه من التجربة أو المذاق، اعتبر سكوته الملابس قبولاً، وبذلك فإن البيع لا ينعقد إلا من وقت قبول البيع صراحةً أو دلالةً.
تحديد الثمن:
وتقضي المادة (459) من المشروع بأنه يكفي في تعيين الثمن، أن يكون قابلاً للتقدير. وهو يعتبر كذلك ما دامت الأسس التي يقوم عليها تقديره متفقًا عليها بين المتبايعين، كان يكون أساس التقدير السعر المتداول في التجارة أو سعر السوق، وكما هو الحال في بياعات الأمانة. وأجاز المشروع أن يترك المتبايعان تحديد الثمن لأجنبي يتفقان عليه عند البيع. لأن الثمن هنا وإن لم يقدره المتبايعان، إلا أنهما جعلاه قابلا للتقدير. وما يقدره الأجنبي ثمنًا للبيع يكون ملزمًا لكل من البائع والمشتري، ما لم يثبت تدليسه. فإذا لم يحدد الأجنبي الثمن - في وقت مناسب - لأي سبب كان، كان الثمن هو ثمن المثل، اعتبارًا بأنه الثمن العادل، أما إذا لم يتفق المتعاقدان على تحديد الثمن أو على جعله قابلاً للتحديد، ببيان الأسس التي يحدد بمقتضاها أو بتفويض طرف ثالث في تحديده، فإن البيع يكون باطلاً لتخلف ركن من أركانه، ومع ذلك تقضي المادة (460) من المشروع بأنه لا يترتب على عدم تحديد الثمن على الوجه المتقدم بطلان البيع إذا تبين من الاتفاق أو الظروف قصد المتعاقدين التعامل بالسعر المتداول بينهما أو بسعر السوق. فقد يظهر من الظروف والملابسات - إذا كان بين المتبايعين تعامل سابق - أنهما متفقان ضمنًا على أن يكون الثمن هو السعر الذي جرى عليه التعامل السابق، كما قد يظهر أيضًا، أن سكوت المتبايعين عن تحديد الثمن ينطوي على اتفاق ضمني بترك تحديد الثمن إلى السعر المتداول في التجارة - كسعر البورصة أو سعر السوق - فيعتبر الثمن قابلاً للتقدير (ومثال ذلك بيع الاستئمان أو الاستسلام عند المالكية، وهو بيع يقوم على استئمان المشتري للبائع واستسلامه فيما يُخبر به من الثمن المتعارف للبيع)، فإذا كان أساس تقدير الثمن هو سعر السوق، فإنه يفترض طبقًا للفقرة الثانية من المادة (464) أن المقصود هو سعر السوق في الزمان والمكان الذي تم فيهما البيع، وهو افتراض أدنى إلى قصد المتعاقدين، فإذا لم يكن في مكان البيع سوق، اعتُبر المكان الذي يقضي العرف بأن تكون أسعاره سارية، وكل ذلك ما لم يتفق على غيره.
وقد استمد المشروع أحكامه في ذلك الخصوص من قانون التجارة القائم (المواد 386 و387 و388) ومن مصادره التشريعية في قوانين البلاد العربية بعد تعديل أكثر إحكامًا في الصياغة.
وتعرض المادة (461) لحالة تقدير الثمن على أساس الوزن، فتنص على أن العبرة في ذلك تكون بالوزن الصافي، ما لم يتفق الطرفان أو يستقر العرف على غيره. وهو ما تقضي به المادة (389) من قانون التجارة الحالي، في فقرتها الأولى، وقد آثر المشروع أن يأخذ بهذا الحكم عنها. لأنه أدنى إلى قصد المتعاقدين.
وعرض المشروع بالمادة (462) إلى بيوع التولية والإشراك والمرابحة والوضيعة. فقد يتفق المتبايعان على أن يتخذ الثمن الذي سبق أن اشترى به البائع أساسًا لتقدير ثمن البيع، فيشتري المشتري بمثل ما اشترى به البائع أو أكثر أو أقل. ولهذه الصور من البيع مكان خاص في الفقه الإسلامي وتسمى عندهم (بياعات الأمانة)، لأن المشتري يشتري من البائع على أساس الثمن الذي اشترى به، مطمئنًا إلى أمانته في البيان عن هذا الثمن، فإما أن يزيد عليه قدرًا معلومًا من الربح فيسمى البيع مرابحة وإما أن ينقصه قدرًا معلومًا يتحمله البائع فيسمى وضيعة أو مواضعة. وإما ألا يزيد ولا ينقص ويشتري من البائع يمثل ما اشترى به، فيسمى البيع تولية، إذا اشترى منه جميع ما اشترى، وإشراكًا إذا أخذ جزءًا منه بما يقابله من الثمن، ويجب لصحة العقد في هذا البيوع جميعًا، أن يكون الثمن الأول (رأس المال) معلومًا وقت إبرامه. ويلحق بالثمن ما جرت العادة على إلحاقه به من مصروفات، ولا يُكتفى من البائع ببيان مجمل عن الثمن، بل يجب عليه أيضًا أن يبين ما أحاط الثمن من ملابسات وما أقترن به من أوصاف قد تؤثر في رضاء المشتري بالصفقة. والكذب فيها أو الانتقاص منها يعتبر خيانة وتدليسًا.
ولم يعرض التقنين المصري والتقنينات الأخرى التي حذت حذوه لهذه البيوع، أما التقنين العراقي فقد عرض لها في المادة (530) منه، كما نص في الفقرة الثانية من المادة (121) على أنه (يعتبر تغريرًا عدم البيان في عقود الأمانة التي يجب التحرز فيها عن الشبهة بالبيان، كالخيانة في المرابحة والتولية والإشراك والوضيعة). وكذلك فعل التقنين الأردني في المادة (480). وقد نص المشروع على هذه البيوع في المادة (462) مشترطًا أن يكون الثمن الأول الذي اشترى به البائع معلومًا وقت العقد، وأن يكون مقدار الربح في المرابحة ومقدار الخسارة في الوضيعة محددًا، وذلك منعًا من الجهالة والغرر. كما نص على أنه إذا كتم البائع بعض الملابسات الجوهرية للثمن على وجه يعيب رضاء المشتري فإن هذا يعتبر غشًا يجيز للمشتري إبطال البيع للتدليس، وإذا لم يكتم البائع شيئًا من تلك الملابسات، ولكن أثبت المشتري أن الثمن الأول الذي ذكره البائع أعلى من الحقيقة، كان البيع صحيحًا، وإنما يكون للمشتري أن يتمسك بالثمن الحقيقي فيكون له أن يحط المقدار الزائد من رأس المال وما يناسبه من الربح إن كان البيع مرابحةً أو المقدار الزائد من رأس المال فقط إن كان البيع توليةً أو إشراكًا أو المقدار الزائد من رأس المال وما يناسبه من الخفض إن كان البيع وضيعه. ويسترد المشتري القدر الزائد إن كان قد دفعه، ولا يلتزم بدفعه له إن كان لم يدفعه كما يكون له في جميع الأحوال أن يرجع بالتعويض على البائع طبقًا للقواعد العامة إذا أثبت في جانبه غشًا أو تقصيرًا.
ثانيًا: آثار البيع:
أجملت المجلة - في المادتين (369 و374) - حكم البيع، وهو نقل الملك بحكم العقد أي بقوة القانون. ولكن مقتضى البيع في قانون التجارة الحالي أن ينشئ التزامًا في ذمة البائع بنقل ملكية المبيع إلى المشتري، ويتم تنفيذ هذا الالتزام بمجرد إبرام العقد، ومن ثم ينقضي في لحظة نشوئه. وهو ما يتنافى مع فكرة الالتزام في أبسط مظاهرها. فالالتزام عبء على المدين ينبغي أن يقوم هو بوفائه. ولذلك تكون المجلة - في تقنينها للفقه الحنفي - أكثر تمشيًا مع المنطق في التفرقة بين نقل ملكية المبيع إلى المشتري وبين الالتزامات التي يرتبها العقد في ذمة المتعاقدين. وهو ما أخذ به المشروع، فأجمل في المادة (463) حكم البيع، وهو نقل ملكية المبيع إلى المشتري، وذلك قبل أن يعرض - لما يرتبه العقد من التزامات في ذمة كل من البائع والمشتري. وعلى ذلك فإنه إذا كان المبيع عينًا معينة بالذات ومملوكًا للبائع انتقلت الملكية فورًا إلى المشتري بمجرد العقد، فإن لم يعين إلا بنوعه لا تنتقل ملكيته إلا بالإفراز، ذلك أن المعين بالنوع يكون، قبل الإفراز، غير محدد بالذات، فتكون هناك استحالة طبيعية في أن تنتقل ملكيته إلى المشتري قبل إفرازه. كل ذلك ما لم يجعل القانون أو الاتفاق انتقال الملكية رهنًا بالقيام بعمل معين. فقد ينُص القانون على عدم انتقال الملكية إلا بالتسجيل، كما قد يعلق الاتفاق انتقالها على الوفاء بكل ثمن، وهو ما يعرف بشرط الاحتفاظ بالملكية للبائع، وقد عرضت المادة (464) لهذا الشرط واستلهم المشروع حكمها من المادة (396) من قانون التجارة الحالي ومصادرها العربية (القانون المصري المادة 430 والقوانين التي أخذت عنه). بعد أن أجرى عليها تعديلاً في الصياغة جعلها أكثر دقة وإحكامًا، ودون أن ينقل عن التقنينات السابقة ما أوردته من تفصيلات تغني عنها القواعد العامة. وتعرض المادة (465) أيضًا لما يترتب على البيع وهو أن يكون للمشتري ثمر المبيع ونماؤه من وقت تمام العقد كما يكون عليه من هذا الوقت تكاليفه، كنفقات الحفظ أو الصيانة أو غير ذلك وهو حكم يماثل ما تنص عليه المجلة في المادة (236) من أن (الزيادة الحاصلة في المبيع بعد العقد وقبل القبض، كالثمرة وأشباهها، هي للمشتري) ولكن المشروع استحدث إلى جانب ذلك حكمًا آخر تمليه قواعد العدالة ويقضي بأنه، إذا لم يكن البائع قد استوفى الثمن بتمامه، فإنه لا يحرم من ثمار المبيع كلها وإنما يكون له منها بمقدار ما لم يستوفه من الثمن، ولا يكون للمشتري من هذه الثمار إلا بما يناسب ما أداه منه، وكل ذلك ما لم يوجد اتفاق أو عرف يقضي بغيره.
1 - التزامات البائع:
ويعرض المشروع بعد ذلك لالتزامات البائع تباعًا فجاء في المادة (466) بحكم يقضي بأنه إذا كان ثمة أحوال لا تنتقل فيها الملكية بمجرد البيع، فإنه يكون على البائع أن يقوم بكل ما هو ضروري من جانبه لانتقالها، إلى المشتري، وأن يكف عن الأعمال التي تحول دون ذلك أو تجعله عسيرًا. فيكون عليه القيام بشهر حق الإرث، والتصدق على توقيعه، وتقديم مستندات الملكية حتى يتمكن المشتري من تسجيل العقد إذا كان المبيع عقارًا كما يكون عليه إفراز المنقول المعين بجنسه ونوعه فقط، إذا كان المبيع منقولاً وكذلك ينبغي له ألا يتصرف في المبيع إلى مشترٍ آخر تصرفًا يضر بالمشتري أو أن يخفي مستندًا لازمًا لتسجيل العقد، وقد استمد المشروع هذا الحكم من القانون المدني المصري (المادة 428) والقوانين العربية التي نقلت عنه.
وتعرض المادة (467) لالتزام البائع بالتسليم وتقضي بأن البائع ملزم بتسليم المبيع إلى المشتري بالحالة التي كان عليها وقت البيع. وهي قاعدة بديهية لأن التراضي الذي أنشأ العقد تعلق بالمبيع على الحالة التي كان عليها وقت قيامه، وقد أخذ المشروع بها نقلاً عن المادة (431) من القانون المدني المصري والنصوص المقابلة في القوانين العربية. وإذا كانت المجلة خالية من نص صريح يقرر هذه القاعدة، فإن حكمها مستفاد ضمنًا من نصوصها. ويتفرع على هذه القاعدة وجوب تسليم ذات المبيع. وهو ما عنته المجلة بقولها " المبيع يتعين في العقد " (م 204) ولكن إذا زاد المبيع بعد البيع فإن زوائده تكون للمشتري (م 236).
وغني عن البيان أن الالتزام بتسليم المبيع بالحالة التي كان عليها وقت البيع ليس من النظام العام، فيجوز للمتبايعين أن يتفقا على خلافه، كتسليم المبيع في حالة أحسن مما كانت عليه، أو في الحالة التي يكون عليها بعد استعماله فترة من الزمن.
كذلك يلتزم البائع أن يسلم المشتري كافة الوثائق والمستندات المتعلقة بالمبيع.
وأخذ المشروع الحكم الذي أورده بالمادة (468) عن المادة (573) من المشروع التمهيدي للتقنين المدني المصري، وهو يُلزم البائع أن يزود المشتري بكافة البيانات الضرورية عن المبيع، كأن يبين له حدوده وما يكون له من توابع أو ملحقات وما عليه من حقوق وتكاليف وكيفية الانتفاع به إذا كان من الأجهزة الدقيقة، وقد آثر المشروع أن يقنن هذا الحكم اعتبارًا بأنه تأكيد لالتزام البائع بتقديم ما يكون المشتري في حاجة ماسة إليه لتيسير كيفيه انتفاعه بالمبيع.
وتعرض المواد (469 و470 و471) لحكم النقص أو الزيادة في المبيع إذا كان معينًا بالذات وقد عُين مقداره في عقد البيع. والقاعدة العامة في المجلة أنه " إنما يعتبر القدر الذي يقع عليه البيع لا غيره " (مادة 222). وقد تضمنت المجلة نصوصًا تفصيلية في ذلك الشأن (المواد من 223 إلى 229) إذ تضع حلولاً تختلف باختلاف أحوال المبيع وطريقة تحديد ثمنه. ففي حالة بيع المكيلات والموزونات والمزروعات والعدديات المتقاربة التي ليس في تبعيضها ضرر، سواء حدد الثمن للجملة أو لكل كيل أو وزن أو ذرع أو عدد على حدة، إذا ظهر عند التسليم نقص في قدر المبيع، يكون للمشتري الخيار بين البيع أو أخذ القدر الموجود بحصته من الثمن أما إذا ظهر عند التسليم زيادة في قدر المبيع، فالزيادة تكون للبائع.
وفي حالة بيع الموزونات أو المزروعات التي في تبعيضها ضرر (ومنها الأراضي) إذا تحدد الثمن جملة واحدة، وزاد المبيع أو نقص، يكون للمشتري الخيار بين الفسخ أو إبقاء البيع بالثمن المسمى، فإذا تعين الثمن بسعر الوحدة، وظهر في قدر المبيع نقص أو زيادة كان للمشترى الخيار بين الفسخ، وبين أخذ المبيع بالثمن على حسب سعر الوحدة.
أما في حالة بيع العدديات المتفاوتة، فإنه إذا ذُكر في العقد ثمن مجموعها فقط، وظهر عند التسليم نقص أو زيادة في قدر المبيع فإن البيع في الحالين يكون فاسدًا لجهالة المبيع في صورة الزيادة، ولجهالة الثمن في صورة النقصان، وإذا ذكر في العقد أثمان آحاده، وظهر عند التسليم نقص في قدر المبيع، كان المشتري مخيرًا بين فسخ البيع أو أخذ المبيع بحصته في الثمن لتفرق الصفقة عليه. أما إذا ظهر عند التسليم زيادة في قدر المبيع فإن البيع يقع فاسدًا لجهالة المبيع.
وقد جرت بعض التقنينات العربية على مجاراة المجلة في إيراد تلك التفصيلات كلها أو بعضها - كالتقنين العراقي والتقنين الأردني - مع أن القواعد العامة تكفي في استخلاص الكثير منها، ولذلك آثر المشروع أن يقتصر – كما فعل التقنين المصري وما تابعه من التقنينات العربية الأخرى – ومنها قانون التجارة الحالي (المادة 399) – على نص عام يقضي بأن يكون البائع ضامنًا للقدر الذي عينه للمبيع بحسب ما يقضي به العرف، وهو ما يعني أنه إذا نقص المبيع عن القدر المعين في العقد يكون المشتري بالخيار بين الفسخ وبين إنقاص الثمن بقدر ما أصابه من ضرر، سواء كان المبيع مما يضره التبعيض أو مما لا يضره، وسواء كان الثمن محددًا بسعر الوحدة أو مقدرًا جملة واحدة، ولكنه لا يجوز للمشتري أن يطلب فسخ العقد في هذه الحالة، إلا إذا كان النقص من الجسامة بحيث أنه لو كان يعلمه لما أتم العقد – وهو ما تتضمنه المادة (469) من المشروع.
أما المادة (470) فإنها تعالج أحوال الزيادة في المبيع، وتفرق في ذلك بين تقدير الثمن جملة وبين تقديره بحسب الوحدة، ففي الحالة الأولى - وهي حالة لم يعرض لها التقنين المصري، تكون الزيادة للمشتري، لأن الغالب أن المتعاقدين قصدا أن يكون المبيع جميعه بهذا الثمن ولو زاد عن القدر المعين فالقدر هنا يكون وصفًا والوصف لا يقابله شيء من الثمن ولكن إذا كانت الزيادة من الجسامة بحيث لو علمها البائع لما أتم العقد فإنه يكون للمشتري الخيار بين زيادة الثمن بما يتناسب مع الزيادة في المبيع وبين فسخ البيع. وفي الحالة الثانية – وهي تقدير الثمن بسعر الوحدة – إذا كان المبيع قابلاً للتبعيض فإن الزيادة تكون للبائع، لأن القدر فيما لا يضره التبعيض يعتبر أصلاً بنفسه، ومن ثم إذا أراد المشتري أخذ الزيادة فإنه يكون عليه أن يدفع ما يقابلها الثمن، وهي حالة لم يعرض لها التقنين المصري أيضًا. وإذا كان المبيع غير قابل للتبعيض، فإنه يجب أن يكمل المشتري الثمن بقدر زيادة المبيع وذلك لأن القدر – مع إنه وصف للمبيع – متى أفرد بالثمن صار أصلاً وكان له حصته من الثمن، ولكن إذا كانت الزيادة جسيمة فإنه يجوز للمشتري أن يطلب فسخ العقد.
وحدد المشروع مدة موحدة تسقط بمضيها الدعوة في جميع تلك الأحوال فنص في المادة (471) منه على أن دعوة المشتري بطلب إنقاص الثمن أو بطلب الفسخ تسقط بانقضاء سنة من وقت تسليم المبيع، وكذلك يكون الحكم بشأن دعوى البائع بتكملة الثمن أو بطلب رد الزيادة، وتتفق المدة التي حددها المشروع لسقوط الدعوة مع مقدار المدة التي يحددها قانون التجارة الحالي بالمادة (399) لتقادم تلك الدعوى في كافة الصور.
ووضع المشروع في المادة (472) القاعدة العامة في كيفية التسليم متفقًا في ذلك مع نصوص المجلة والقانون المصري (المادة 435/ 1 مدني) والتشريعات العربية التي نقلت عن ذلك القانون، فالتسليم يحصل بالتخلية بين المشتري والمبيع – يوضع تحت تصرفه – بحيث يتمكن من قبضه والانتفاع به دون حائل، حتى ولو لم يستولِ عليه استيلاءً ماديًا، ما دام البائع قد أعلمه بذلك أو أذن له به. ويكون التسليم في كل شيء حسب طبيعته أو اختلاف حاله. ولكن المشروع لم يورد ما أوردته المجلة من تطبيقات عديدة لكيفية التسليم لعدم ضرورتها.
وتقرر المادة (473) جواز التسليم الحكمي، وهو الذي يتم بمجرد تراضي المتعاقدين إذا كان المبيع في حوزة المشتري من قبل البيع (بإجارة أو إعارة أو وديعة أو رهن حيازة أو غير ذلك)، أو كان البائع قد استبقى المبيع في حوزته بعد البيع لسبب آخر غير الملك (كمستأجر أو مستعير أو مودع لديه أو مرتهن أو غير ذلك). وكلتا الصورتين ليستا إلا من تطبيقات المبدأ العام في انتقال الحيازة من شخص إلى آخر انتقالاً حكميًا ولم يرد في المجلة نصوص تتعلق بالتسليم الحكمي، ولكن الحنفية لا يرون في الصورة الثانية قبضًا من المشتري للمبيع، كما يفرقون في الصورة الأولى بين ما إذا كانت يد المشتري على المبيع قبل البيع، يد ضمان أم يد أمانة. فإذا كانت يد ضمان لم يكن في حاجة إلى قبض جديد ويقع التسليم حكمًا ويعتبر قابضًا للمبيع بمجرد إبرام العقد. أما إذا كانت يده على المبيع يد أمانة فإنه لا يعتبر متسلمًا له إلا بقبض جديد، ولا يكون التسليم الحكمي في هذه الحالة جائزًا. ولم يرَ المشروع أن يأخذ بهذه التفرقة فلم يستلزم في الصورتين حصول قبض جديد، وهو ما فعله التقنين العراقي (المادتان 539، 540) وسار عليه القانون المصري (435/ 2) والقوانين العربية التي أخذت عنه.
وغني عن البيان أن القواعد المتقدمة ليست من النظام العام فيجوز الاتفاق على ما يخالفها أو يعدل فيها.
وتعين المادة (474) زمان التسليم بأنه الوقت الذي يحدده العقد، فإذا لم يحدد العقد وقتًا التزم البائع بالتسليم فورًا بمجرد انعقاد البيع، وإذا اتفق على أن يتم التسليم في الوقت الذي يحدده المشتري التزم البائع بإجرائه فيه، وكل ذلك مع مراعاة المواعيد التي تستلزمها طبيعة المبيع أو يقضي بها العرف. وفي الفقه الحنفي يتعين على البائع تسليم المبيع فور أداء الثمن إذا كان الثمن معجلاً، ولكن لا يجوز أن يشترط البائع على المشتري تأجيل التسليم ولا أن يشترط المشتري على البائع تسليم المبيع قبل دفع الثمن إذا كان حالاً، ويترتب على الشرط في الحالتين فساد البيع. وقد قُنن هذا الفقه في مرشد الحيران (م 353) ولكن المجلة لم تأخذ بفقه الحنفية في الشروط الفاسدة - فكان يجوز الاتفاق في ظلها، على تسليم المبيع في وقت معين، سواء قبل دفع الثمن أو بعده وهو ما أخذ به المشروع ويجري به قانون التجارة الحالي (المادة 397).
وتحدد المادة (475) بفقرتها الأولى مكان التسليم، بأنه المكان الذي يوجد فيه المبيع وقت تمام العقد، ما لم يتفق على غير ذلك وهو ما يتفق مع حكم المادتين (285 و287) من المجلة. ويُعتبر المنقول، إذا لم يعين مكان وجوده موجدًا في موطن البائع ومن ثم يجب تسليمه فيه وهو ما تقضي به الفقرة الثانية من المادة (475). فإذا كان المبيع واجب الإرسال إلى مكان معين، فإن التسليم لا يتم إلا بوصوله فيه وجرى بذلك حكم المادة (476) نقلاً عن المادة (393) من قانون التجارة.
وتعرض المادة (477) لنفقات التسليم فتقضي بالتزام البائع بها لأنه هو الملتزم بالوفاء بالمبيع فيقع على عاتقه مصاريف نقل المبيع وفرزه أو عده أو وزنه ونحو ذلك وهذا ما لم يوجد اتفاق أو عرف مخالف، ويتفق حكم المشروع في ذلك الشأن مع ما ينص عليه قانون التجارة بالمادة (400) والمجلة بالمادتين (289، 291).
وقد عالج المشروع الأحوال التي يقع فيها هلاك المبيع والحكم في كل حالة بالمواد من (478 إلى 480). ويجدر التنويه بادئ ذي بدء إلى أنه في الفقه الحنفي يختلف حكم هلاك المبيع قبل القبض باختلاف سبب هلاكه فلو هلك بفعل - البائع، أو بفعل المبيع أو بآفة سماوية (أي بسبب أجنبي) بطل البيع (أي أنفسخ) ويرجع المشتري على البائع بالثمن إن كان قد قبضه. وإن هلك بفعل أجنبي يكون مضمونًا عليه بالقيمة أو بالمثل ويكون المشتري بالخيار إن شاء فسخ البيع فيعود المبيع إلى ملك البائع الذي يتبع الجاني بضمانه، وإن شاء أمضى البيع ودفع الثمن ويرجع هو بالضمان على الجاني. وإذا هلك بفعل المشتري فعليه ثمنه، لأنه صار قابضًا للمبيع بالإتلاف، إذ لا يمكنه إتلافه إلا بعد إثبات يده عليه.
أما إذا هلك بعض المبيع قبل قبضه، وكان الهلاك بآفة سماوية أو بفعل المبيع نفسه، فإنهم يفرقون بين نقصان القدر ونقصان الوصف. فإن كان نقصان قدر، بأن كان مكيلاً أو موزونًا أو معدودًا، يبطل البيع (ينفسخ) بقدر الهالك وتسقط عن المشتري حصة الفائت من الثمن وله الخيار في الباقي إن شاء أخذه وإن شاء تركه. وإن كان نقصان وصف، وهو كل ما يدخل في البيع بغير ذكر، لا يسقط شيء من الثمن لأن الأوصاف لا مقابل لها من الثمن، ولكن المشتري يكون بالخيار، إن شاء أخذ بجميع الثمن وإن شاء ترك لتعيب المبيع قبل قبضه. وإذا هلك بعض المبيع بفعل البائع، سقط من الثمن قدر النقص سواء كان نقصان قدر أو نقصان وصف (لأن الأوصاف لها حصة من الثمن عند ورود الجناية عليها)، وخير المشتري بين الفسخ والإمضاء أما إذا هلك بعض المبيع بفعل المشتري فلا يسقط عنه شيء من الثمن لأنه صار قابضًا للكل بإتلاف البعض، إذ لا يتمكن من إتلاف البعض إلا بإثبات اليد على الكل. وإذا وقع هلاك بعض المبيع بفعل أجنبي، فحكمه حكم هلاك المبيع كله.
ويتفق قانون التجارة الحالي مع الفقه الحنفي في تحميل البائع تبعة الهلاك الكلي قبل التسليم، إذا كان الهلاك لسبب أجنبي لا يد للبائع فيه، ولكنه ينقل تبعة الهلاك إلى المشتري إذا وقع الهلاك بعد إعذاره لتسلم المبيع (م 391). أما إذا وقع الهلاك بفعل البائع فإنه يكون مسؤولاً عنه طبقًا للقواعد العامة، ويلتزم بتعويض المشتري عن الضرر الذي لحقه منه، فلا يقتصر أثر الهلاك على سقوط الثمن أو رده كما يرى الأحناف، وفي حالة الهلاك الجزئي إذا نقصت قيمة المبيع قبل التسليم لتلف أصابه، يكون للمشتري الخيار بين الفسخ إبقاء البيع مع إنقاص الثمن، إذا كان النقص من الجسامة بحيث لو طرأ قبل العقد لامتنع المشتري عن الشراء، أما إذا لم يبلغ النقص هذا القدر من الجسامة فلا يكون للمشتري سوى إبقاء البيع وإنقاص الثمن (م 392)، وقد سبق إلى وضع أحكام مماثلة القانون المصري (437، 438 مدني) والقوانين العربية التي نسجت على منواله. وقد استبقى المشروع تلك الأحكام أيضًا بالنسبة للهلاك الكلي قبل التسليم وكذلك بالنسبة للهلاك الجزئي وكل ذلك إذا كان الهلاك أو التلف لسبب لا يد لأحد المتعاقدين فيه. وإذا أعذر البائع المشتري لتسلم المبيع قبل أن يهلك فإن تبعه الهلاك أو التلف تنتقل إلى المشتري وهو ما تنص عليه المادتان (478، 479) من المشروع.
أما إذا هلك المبيع أو تلف بفعل المشتري فإنه يبقى ملتزمًا بالثمن كاملاً. ويمتنع الفسخ سواء كان الهلاك كليًا أو جزئيًا. فإذا كان الهلاك لسبب يعزى إلى البائع، فإنه يكون للمشتري إذا فسخ أن يسترد الثمن وأن يتقاضى تعويضًا فوق ذلك فإن أبقى البيع أنقص الثمن بمقدار ما فات. وهو الحكم الذي تقرره المادة (480) من المشروع، وتعرض المادتان (481 و482) لضمان التعرض، وهو ضمان لم يعرفه الفقه الإسلامي بوجه محدد. كما لم يرد له ذكر في المجلة أو في قانون التجارة الحالي، وقد استمد المشروع أحكام هذا الضمان من القانون المدني المصري (مادة 439) ومن النصوص المقابلة بالتشريعات التي سارت على منوال ذلك القانون، وأفرد المدة (481) لضمان التعرض الصادر من البائع وخصص المادة التالية لضمان تعرض الغير، فطبقًا للمادة الأولى يلتزم البائع بعدم التعرض للمشتري في حيازته للمبيع وانتفاعه به وعدم منازعته في ملكيته، سواء كان تعرضه ماديًا أو قانونيًا، والتعرض المادي هو الذي لا يستند فيه البائع إلى حق يدعيه، كأن يفتح على مقربة من المحل التجاري الذي باعه محلاً تجاريًا آخر من نفس النوع ليجتذب عملاءه الأسبقين - أما التعرض القانوني، فهو الذي يستند إلى سبب قانوني، كأن يدعي البائع حقًا على المبيع في مواجهة المشتري، سواء كان هذا الحق سابقًا على البيع أو لاحقًا له. وطبقًا للمادة (482) يلتزم البائع بضمان تعرض الغير، الذي يدعي على المبيع حقًًا موجودًا وقت البيع يحتج به على المشتري، كما يكون ملزمًا بالضمان ولو ادعى المتعرض حقًا نشأ بعد البيع إذا كان هذا الحق قد آل إليه من البائع أو كان نتيجة لفعله. أما التعرض المادي من الغير فإنه لا يوجب الضمان وعلى المشتري أن يدفعه بما وضعه القانون في يده من وسائل، وغني عن البيان أنه في جميع الأحوال فإن الضمان لا يجب على البائع إلا إذا حصل التعرض فعلاً من الغير، أما احتمال وقوعه فلا يكفي.
وقد تعرض المشروع في المواد من (483 إلى 488) لكيفية تنفيذ الالتزام بضمان التعرض، سواء كان تنفيذًا عينيًا بدفع تعرض الغير، أو تنفيذًا بطريق التعويض أو ضمان الاستحقاق. مراعيًا في ذلك أن يكون متفقًا بقدر الإمكان مع أحكام الفقه الحنفي الذي يعرف ضمان الاستحقاق. فتقضي المادة (483) أنه إذا رفعت على المشتري دعوى باستحقاق المبيع، وجب عليه المبادرة بإدخال البائع فيها ليقوم بتنفيذ التزامه بضمان التعرض تنفيذًا عينيًا. وهو حكم له أصل في الفقه الحنفي، وله نظير في بعض التقنينات (كالتقنين البولوني في المادتين 314 و318) وفيه قصد في الوقت والإجراءات فضلاً عن أنه يكفي المشتري مؤونة دفع دعوى الغير - وقد لا يعرف عنها شيئًا - كما يجنبه عاقبة التهمة أو الخطأ في الدفاع. فإذا لم يقم المشتري بإدخال البائع في الدعوى وصدر لصالح الغير حكم نهائي فإن ضمان البائع يسقط إذا أثبت أن إدخاله في دعوى الاستحقاق كان من شأنه أن يؤدي إلى رفضها، والحكم الذي جاء به المشروع يفضل ما تأخذ به القوانين العربية من جعل دخول البائع في الدعوى متروكًا لتقديره حتى لو أخطره المشتري بها (440 مدني مصري والمواد المقابلة بالقوانين العربية الأخرى).
وإذا أدخل المشتري البائع في الدعوى فلم يحضر أو حضر وفشل في دفعها يصبح ضامنًا لاستحقاق المبيع. فإن حكم باستحقاق المبيع كله، كان البائع مسؤولاً عن تعويض المشتري عما لحقه من خسارة أو فاته من كسب بسبب هذا الاستحقاق. ومع ذلك يقتصر حق المشتري على استرداد الثمن، إذا أثبت البائع أنه لم يكن يعلم عند البيع بسبب الاستحقاق وهو الحكم الذي جاء به المشروع في المادة (484).
أما إذا قُضي باستحقاق بعض المبيع، أو ثبت عليه حق للغير، وكانت خسارة المشتري من ذلك تبلغ قدرًا لو علمه لما أتم العقد، كان له أن يرد المبيع وما أفاده منه، على أن يعوض وفقًا لأحكام المادة السابقة. فإذا اختار المشتري استبقاء المبيع، أو كانت الخسارة التي لحقته لم تبلغ قدرًا لو علمه لما أتم العقد، فإنه لا يكون له إلا المطالبة بالتعويض عما أصابه من ضرر بسبب الاستحقاق وهو ما تقرره المادة (485).
وقد نقل المشروع عن القانون المدني السوداني (المادة 381) حكمًا ملائمًا وقننه بالمادة (486) وهو يقضي بعدم ضمان البائع لبعض الحقوق التي تنقص من انتفاع المشتري في الحالات التالية:
أولاً: إذا كان البائع قد أبان عن الحق للمشتري وقت التعاقد، إذ يعتبر سكوت المشتري بعد علمه به رضاء ضمنيًا بإسقاط ضمان البائع له.
ثانيًا: إذا كان الحق ارتفاقًا ظاهرًا، فيستطيع المشتري وقت البيع - وهو يعاين المبيع - أن يرى معالمه، أو كان يستطيع أن يراها ظاهرة فيكون سكوته دليلاً على رضائه بعدم ضمان البائع.
ثالثًا: إذا كان سبب نقص انتفاع المشتري بالمبيع ناشئًا عن قيد من القيود القانونية التي ترد على حق الملكية، وهذه القيود وأن كانت بحسب الأصل لا يضمنها البائع لأن القانون هو الذي يقررها والمشتري يعرفها أو ينبغي أن يعرفها، سواء كانت مظاهرة أو غير ظاهرة، إلا أن المشروع آثر النص عليها تأكيدًا لعدم دخولها في الضمان حتى ولو لم تكن ظاهرة.
ويعرض المشروع في المادتين (487 و488) للاتفاق على تعديل أحكام الضمان سواء بالزيادة أو الإنقاص أو الإسقاط فأحكام الضمان ليست من النظام العام ولذلك فأنه يجوز الاتفاق على تعديلها، ولكن هذا الاتفاق يجب أن يكون صريحًا واضحًا. على أنه يشترط في إنقاص الضمان أو إسقاطه ألا يكون البائع قد تعمد إخفاء سبب الاستحقاق وألا يكون الاستحقاق ناشئًا عن فعله، وإلا وقع الاتفاق على ذلك باطلاً أما إذا كان الاستحقاق ناشئًا عن فعل الغير ولم يتعمد البائع إخفاء حق هذا الغير فإن شرط عدم الضمان يكون صحيحًا، وكلما جاء شرط عدم الضمان صحيحًا فإن البائع يبقى مسؤولاً عن رد الثمن إلا إذا أثبت أن المشتري كان يعلم وقت البيع بسبب الاستحقاق، أو أنه اشترى ساقط الخيار، وقد استمد المشروع حكم هاتين المادتين من القانون المدني المصري (المادتان 445 و446) ومن القوانين العربية التي أخذت عنه وإنما أدخل المشروع من التعديلات ما يقتضيه المقام.
وعرض المشروع لضمان العيوب الخفية في المواد من (489 إلى 497) وهذا الضمان - وهو كضمان التعرض والاستحقاق - يجاوز نطاقه عقد البيع إلى كل عقد ناقل للملكية، بل وإلى كل عقد ينقل الانتفاع وبخاصة إذا كان من عقود المعاوضة. ولكن لما كان عقد البيع هو العقد الرئيسي الذي ينقل الملكية والحيازة، فقد وضعت فيه القواعد العامة لهذا الضمان، مع الإشارة إليها في العقود الأخرى وبيان ما تقتضيه طبيعة كل عقد من تعديلات خاصة، لا سيما في عقود التبرع. ويقتضي ضمان العيوب الخفية في البيع أن يلتزم البائع بتسليم المبيع خاليًا من العيب فإن ظهر في المبيع عيب ينقص من قيمته أو يجعله غير صالح لما أعده له المشتري، كان البائع ملزمًا بالضمان.
وقد عرضت المجلة لخيار العيب في المواد (336 – 355)، ورتبت على ظهور العيب، ثبوت الخيار للمشتري بين الفسخ أو إبقاء المبيع بالثمن المسمى، لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن، أما قانون التجارة الحالي فلم يعرض للعيب إلا في مادة واحدة أوجب فيها على المشتري إخطار البائع بالعيب فور كشفه، وإلا سقط حقه في الرجوع عليه بسبب العيب (المادة 401).
وقد انتهج المشروع نهج القوانين العربية في سن أحكام تفصيلية لذلك الضمان اعتبارًا بما يحظى به من أهمية في التعامل فأورد بالمادة (489) حكمًا يقضي بالتزام البائع بالضمان وقفًا لأحكام المادة (485) منه إذا كان بالمبيع وقت البيع عيب ينقص من قيمته أو من نفعه بحسب الغاية المقصودة منه مستفادة مما هو مبين في العقد أو مما هو ظاهر من طبيعة المبيع أو الغرض الذي أعد له وإنما يشترط في العيب أن يكون مؤثرًا بحيث ينقص من قيمة المبيع أو نفعه، ويرجع في تقدير ذلك إلى معيار مادي، فينظر إلى قصد المتعاقدين كما هو مبين في العقد وإلى طبيعة المبيع وإلى الغرض الذي أعد له.
قد جرى المشروع في المادة (490) على اعتبار أن العيب لا يعتبر مؤثرًا إذا كان العرف قد جرى على التسامح فيه، كما إذا وجد المشتري في الحبوب المشتراة كمية من الأتربة جرى العرف على التسامح فيها واستلهم المشروع هذا الحكم من المادة (448) من القانون المدني المصري والقوانين العربية التي نقلته عنه وكذلك عن المفهوم العام للمادتين (353 و354) من مجلة الأحكام.
واشترط الشروع في وضوح بالمادة (491) أن يكون المشتري غير عالم بالعيب ولم يكن في استطاعته أن يعلم به.
فإذا كان يعرف العيب وقت البيع أو كان العيب من الظهور بحيث يستطيع أن يتبينه بنفسه لو أنه فحص المبيع بما ينبغي من العناية، فإن العيب لا يكن خفيًا ولا يضمنه البائع وذلك ما لم يكن البائع قد أكد للمشتري خلو المبيع من هذا العيب أو أنه قد تعمد إخفاءه غشًا منه وقد أخذ المشروع بذلك الحكم نقلاً عن القانون المدني المصري (المادة 447/ 2).
وكذلك أوجب المشروع في المادة (492) على المشتري أن يقوم عند تسلم المبيع بالتحقق من حالته بمجرد أن يتمكن من ذلك، وفقًا لما هو مألوف في التعامل، فإذا كشف عيبًا يضمنه البائع وجب عليه أن يبادر بإخطاره به وإلا سقط حقه في الضمان هذا إذا كان العيب مما يمكن الكشف عنه بالفحص المعتاد، أما إذا كان العيب مما يحتاج في كشفه إلى خبرة فنية، فإنه يجب على المشتري بمجرد كشفه أن يخطر به البائع وإلا سقط حقه في الضمان. وقد استمد المشروع هذا الحكم من المادة (401/ 1، 2) من قانون التجارة الحالي والتي نقلته في الأصل عن القانون المصري (المادة 449).
وعرض المشروع في المادة (493) لحكم ذلك الضمان إذا هلك المبيع مقررًا بأن دعوى الضمان تبقى حتى لو هلك المبيع بسبب العيب أو هلك قضاءً وقدرًا حتى تنتفي الشبهة في أن هلاك المبيع قد يُسقط دعوى الضمان، وهو حكم سبق إليه القانون المصري (المادة 451) وكثير من القوانين العربية التي تأثرت به.
وتقضي المادة (494) من المشروع بأنه إذا علم المشتري بوجود عيب في المبيع ثم تصرف فيه تصرف الملاك فلا رجوع له بالضمان اعتبارًا بما ينطوي عليه ذلك من رضاء المشتري بالمبيع متعيبًا، وغني عن البيان أن رضاء المشتري بالعيب بعد العلم به يسقط حقه في الضمان لأن ضمان العيب يتأسس على فوات السلامة المشروطة في المبيع دلالة. ورضاء المشتري بالعيب بعد علمه به، دليل على أنه ما شرط السلامة فيه، وقد أخذ المشروع بذلك الحكم من القانون المدني العراقي (المادة 566 مدني) والقانون الأردني (المادة 515) وهو يتفق مع الحكم الذي سنته المجلة بالمادة (344).
ولما كانت أحكام الضمان غير متعلقة بالنظام العام، فقد أجاز المشروع بالمادة (495) للمتعاقدين أن يعدلا فيها باتفاق خاص فيزيدا في الضمان أو ينقصا منه أو يسقطا هذا الضمان، على أن يبطل الشرط إذا كان البائع قد تعمد إخفاء العيب غشًا منه، لأنه في هذه الحالة يكون قد اشترط عدم مسؤوليته عن الغش وهذا غير جائز وقد قال رسول الله عليه وسلم (لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا وفيه عيب إلا بينه له) وقد سبق إلى الأخذ بهذا الأصل القانون المدني المصري بالمادة (453) وغالبية القوانين العربية.
ونص المشروع في المادة (496) منه على سقوط دعوى ضمان العيب إذا انقضت سنة من وقت تسليم المبيع، ولو لم يكتشف المشتري العيب إلا فيما بعد، وذلك حتى يستقر التعامل ولا يكون البائع مهددًا بالضمان أمدًا يتعذر بعده التعرف على منشأ العيب، وهذا ما لم يقبل البائع أن يلتزم بالضمان لمدة أطول. وما لم يتعمد إخفاء العيب عن غش منه وقد أخذ المشروع في تقدير المدة التي تسقط بعدها الدعوى بالمدة التي ينص عليها قانون التجارة الحالي لتقادم دعوى الضمان.
كما نص المشروع في المادة (497) على أنه لا ضمان للعيب في البيوع القضائية ولا في البيوع الإدارية، إذا تمت بطريق المزايدة العلنية لما توفره هذه البيوع من ضمانات في إجراءاتها، وقد سبق إلى ذلك الحكم كثير من القوانين العربية والأجنبية فأخذه المشروع عنها.
وقد استحدث المشروع أيضًا حكمًا جديدًا بشأن الوصف المشروط في المبيع فقد لوحظ خلو قانون التجارة الحالي من وجه الحكم فيه، وإن كانت مجلة الأحكام العدلية قد عالجت الأمر في المواد (310 – 312) فرتبت على فوات الوصف ثبوت الخيار للمشتري بين الفسخ أو إبقاء المبيع بالثمن المسمى، اعتبارًا بأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن وبذلك لم تعرض للأضرار التي يمكن أن تلحق بالمشتري، أما التقنين المصري فقد أدمج ضمان البائع لمثل ذلك الوصف بضمانه للعيوب في المبيع (المادة 447 مدني) مقتفيًا في ذلك أثر بعض التقنينات الأجنبية وقد آثر المشروع الفصل بينهما فأفرد لفوات الوصف نصًا خاصًا هو نص المادة (498)، فالبائع يلتزم بتسليم المبيع بالوصف المتفق عليه في العقد، فإن فات هذا الوصف كان للمشتري أن يطلب الفسخ مع التعويض. أو أن يستبقي المبيع مع طلب التعويض عما لحقه من ضرر بسبب عدم توافر ما كفل البائع وجوده في المبيع من صفات، وغني عن البيان أن للبائع - طبقًا للقواعد العامة - أن يتوقى الفسخ إذا قدم مبيعًا تتوافر فيه الصفات المكفولة.
واستحدث المشروع بالمادة (499) حكمًا آخر بشأن ضمان البائع صلاحية المبيع مدة معينة وأخذه نقلاً عن التقنين المصري (المادة 455) والتقنينات العربية التي تأثرت به، ويقصد به ضمان صلاحية المبيع وبخاصة إذا كان من الأجهزة الدقيقة التي انتشرت في الوقت الحاضر كالأجهزة الميكانيكية والكهربائية وغيرها فإذا وُجد شرط صريح بضمان المبيع للعمل مدة معلومة ثم ظهر فيه خلل أثناء هذه المدة، وجب على المشتري أن يخطر البائع بهذا الخلل في مدة شهر من ظهوره. فإذا لم يقم البائع بالإصلاح، كان للمشتري أن يطلب الفسخ مع التعويض أو أن يستبقي المبيع ويقتصر على طلب التعويض عما لحقه من ضرر بسبب الخلل. وفي الحالين يجب على المشتري أن يقيم دعواه في مدة ستة أشهر من تاريخ إخطاره البائع بوجود الخلل وإلا سقط حقه في الضمان. وكل هذا ما لم يتفق على غيره.
2 - التزامات المشتري:
ويعرض المشروع بعد ذلك لالتزامات المشتري تباعًا فيحدد زمان وفاء المشتري بالثمن بالمادة (500) وهي تنص على أن الثمن يكون مستحق الوفاء فورًا بمجرد تمام البيع، حتى تنفذ الالتزامات المتقابلة في وقت واحد، وذلك ما لم يوجد اتفاق أو عرف يقضي بغيره، فقد يتفق المتبايعان على أجل لدفع الثمن، فلا يلتزم المشتري بدفعه إلا عند حلول هذا الأجل وقد يقضي العرف بأن يكون دفع الثمن في وقت معين، فيتعين اتباع هذا العرف، ومع ذلك فإنه يجوز للمشتري أن يحبس الثمن إذا تعرض له أحد مستندًا إلى حق سابق على البيع أو آيل إليه من البائع أو نتيجة لفعله، أو إذا خاف على المبيع أن ينزع من يده، كأن يظهر على المبيع رهن أو يتبين أن ملكية البائع معلقة على شرط فاسخ أو أنه لم يدفع ثمن المبيع. ويترتب ذات الحكم على العيب الخفي أيضًا. ويظل حق المشتري في حبس الثمن قائمًا إلى أن ينقطع التعرض أو يزول خطر الاستحقاق، أو حتى يحسم النزاع المتعلق بالعيب، وإنما يجوز للبائع أن يطلب استيفاء الثمن، إذا قدم للمشتري كفالة شخصية أو عينية تضمن له ما عسى أن يتعرض له من خطر. على أنه يجوز الاتفاق بين الطرفين على عدم حبس الثمن لكل أو لبعض الأسباب السابقة، وقد نقل المشروع حكم هذه المادة (403) من قانون التجارة الحالي والمادة (457) من القانون المصري.
وعين المشروع مكان الوفاء بالمادة (501) التي تنص على أن الثمن يكون مستحق الوفاء في المكان الذي يتم فيه تسليم المبيع، وذلك حتى يتم تنفيذ الالتزامات المتقابلة معًا، وهو حكم يتفق مع ظاهر أحكام المجلة. فإذا لم يكن الثمن مستحقًا وقت تسليم المبيع تحدد المكان الذي يدفع فيه بموطن المشتري اتفاقًا مع القواعد العامة في الوفاء، وذلك حكم لم تعرض له المجلة. وكل ذلك ما لم يوجد اتفاق أو عرف يقضي بغيره وقد نقل المشروع الحكم الذي جاء به من قانون التجارة الحالي (المادة 402) وهو مستمد في أصله من القانون المصري المادة (456) والقوانين العربية التي تأثرت به.
وتعرض المواد (502 إلى 504) لجزاء الإخلال بالالتزام بدفع الثمن فتقضي أولاها بأنه إذا لم يدفع المشتري الثمن في ميعاد استحقاقه أو إذا أخل بأي التزام آخر يرتبه العقد كان البائع بالخيار بين طلب إلزامه بالتنفيذ أو طلب فسخ العقد وهو حكم تمليه القواعد العامة التي انتهجها المشروع ويأخذ بها قانون التجارة الحالي على أن الحنفية لا يقرون ذلك الحكم فعندهم أنه إذا أخل المشتري بالتزامه بدفع الثمن فلا يكون للبائع سوى اقتضائه بطريق التنفيذ على ماله وليس له الفسخ لاسترداد المبيع (مرشد الحيران م 393) بمقولة إن البائع بعد البيع يصبح مجرد دائن وليس للدائن إلا طلب حقه بل إنه إذا قبض المشتري المبيع ثم مات مفلسًا قبل أداء الثمن، فإن البائع - طبقًا لنصوص المجلة (م 295) - يكون مثل الغرماء. أما الشافعية والحنابلة فإنهم يجيزون الفسخ إذا لم يكن الثمن حاضرًا، أو كان المشتري معسرًا، أو كان موسرًا وماله في بلد بعيد ويجد المشروع في ذلك مسندًا له من الفقه الإسلامي.
وأما المادة (503) فجاءت بحكم يقضي بأحقية البائع في حبس المبيع حتى يستوفي الثمن المستحق جميعه ويثبت له هذا الحق ولو قدم المشتري تأمينًا ما لم يكن البائع قد منح المشتري أجلاً، وهو حكم منقول عن المادة (404) من القانون التجارة الحالي والمادة (459) من القانون المصري ويتفق كذلك مع الفقه الحنفي إذ تجيز المجلة للبائع في البيع بثمن حالٍ، أن (يحبس المبيع إلى أن يؤدي المشتري جميع الثمن) (م 278). ويؤسسون ذلك على المساواة التي يجب تحقيقها بين المتعاوضين، كما يستندون فيه إلى الحديث الشريف (الدين مقضي) فلو تأخر دفع الثمن عن تسليم المبيع لم يكن هذا الدين مقضيًا. وإنما يشترط لقيام حق البائع في حبس المبيع، أن يكون الثمن حالاً، فإذا كان الثمن مؤجلاً لا يثبت للبائع هذا الحق (م 283) ويستوي في ذلك أن يكون الأجل متفقًا عليه في العقد، أو قبله البائع بعد إبرامه (م 284). وللبائع أن يحبس جميع المبيع حتى يستوفي الثمن كله، ولو كان المبيع قابلاً للتجزئة. ويعتبر تسليم المبيع للمشتري قبل دفع الثمن نزولاً من البائع عن حقه في حبسه فلا يستطيع استرداده (م 281) ولكن حق الحبس لا يسقط إذا قدم المشتري رهنًا أو كفيلاً بالثمن (م 280) لأنهما لا يسقطان الثمن عن ذمة المشتري، ولا حق المطالبة به، فكانت الحاجة إلى تعيينه بالقبض قائمة، فيبقى حق الحبس لاستيفائه، وكذلك لا يسقط حق الحبس بموت المشتري وللبائع حبس المبيع إلى أن يستوفي الثمن من تركته.
وغني عن البيان أن البائع يكون له الحق الحبس ولو لم يحل الأجل المشترط لدفع الثمن، إذا كان المشتري قد أضعف ما قدمه من تأمينات للوفاء به، أو بوجه عام إذا سقط حقه في الأجل وفقًا للقواعد العامة، وكل ذلك ما لم يتفق على غيره.
وتعرض المادة (504) للحكم فيما لو حبس البائع المبيع وهلك في يده فتقضي بأنه إذا هلك المبيع في يد البائع وهو حابس له، كان هلاكه على المشتري، ما لم يكن قد هلك بفعل البائع على أنه يجب أن يثبت أنه قد باشر حق الحبس على المبيع بأن يكون مثلاً قد طولب بالتسليم فعلاً فامتنع لعدم الوفاء بالثمن، وهو ذات الحكم الذي أخذ به قانون التجارة الحالي بالمادة (405) بعد أن نقلها عن القانون المصري (المادة 460).
وتورد المادة (505) حكمًا خاصًا ببيع المنقول. فالمنقولات بطبيعتها تقتضي سرعة التداول، وبخاصة في التجارة، حين تكون هذه المنقولات سلعًا وبضائع يتعجل البائع تسليمها إلى مشتريها وقبض ثمنها في ميعاد محدد، وإلا كان في حل من بيعها إلى غيره واعتبار البيع الأول مفسوخًا دون حاجة إلى حكم أو إعذار لذلك افترض المشروع أن اتفاق بائع المنقول مع مشتريه على ميعاد لدفع الثمن كله أو أكثره وتسلم المبيع ينطوي على شرط فاسخ يكون البيع بموجبه مفسوخًا من تلقاء نفسه دون حاجة إلى حكم أو إعذار إذا حل ميعاد تسليم المبيع ودفع الثمن ولم يتقدم المشتري لدفع الثمن، وهو ما يقترب من خيار النقد في الفقه الإسلامي الذي أخذت به المجلة في المادة (313) وما بعدها، مع مراعاة أن المشروع قد اشترط في الحكم الذي جاء به ألا يكون الباقي من الثمن قليل الأهمية بالنسبة لما دفع منه، وهو أمر متروك لتقدير قاضي الموضوع، وإذ كان ذلك الحكم ليس من النظام العام فقد أجاز النص الاتفاق صراحة أو ضمنًا على غيره، وإذا كان مقررًا لمصلحة البائع، فله ألا يعتبر البيع مفسوخًا وأن يطالب المشتري بالتنفيذ بالرغم من تأخره في دفع الثمن وذلك حسب ما يراه متفقًا مع مصلحته.
وتعرض المادة (506) لزمان التسلم ومكانه وتنص على أنه إذا لم يوجد اتفاق أو عرف فإنه على المشتري أن يتسلم المبيع في المكان الذي يوجد فيه وقت البيع، ويجب أن يقوم بالتسلم دون إبطاء إلا ما يقتضيه ذلك من زمن. وغني عن البيان أن هذا الحكم خاص بالمبيع المعين بالذات لأنه هو الذي يكون له مكان، أما المبيع المعين بنوعه فإن تسليمه يكون في موطن البائع.
وأخيرًا جمع المشروع الأحكام المتعلقة بما يتحمله المشتري من نفقات ومصروفات في نص واحد هو نص المادة (507)، فالمشتري يلتزم بنفقات عقد البيع، ويدخل فيها أتعاب كتابة العقد وما يقضي العرف بأن يتحمله المشتري من السمسرة ورسوم التسجيل، ويوافق ذلك ما تنص عليه المجلة من أن أجرة كتابة السندات والحجج وصكوك المبيعات تلزم على المشتري (م 292). ويتحمل المشتري أيضًا نفقات الوفاء بالثمن، إذا كان هذا الثمن يقتضي نفقات لدفعه، كما يتحمل نفقات تسلم المبيع وهو ما تنص عليه المادتان (329 و409) من قانون التجارة الحالي. وكل ذلك ما لم يقضِ الاتفاق أو العرف بغيره.
الفرع الثاني - بعض أنواع البيوع:
1 - بيع الوفاء:
بيع الوفاء هو بيع يحتفظ فيه البائع - خلال مدة معينة - بحق استرداد المبيع من المشتري في مقابل رد الثمن ومصروفات المبيع إليه، وقد اختلف موقف التشريعات العربية إزاء هذا البيع اختلافًا بينًا، فبعضها أجازه وأخذ به، كالتقنين اللبناني، وكذلك التقنينان التونسي والمغربي، وبعضها أبطله كالتقنين المصري والتقنينات التي حذت حذوه، ولكن بعضًا آخر - كالتقنين العراقي - توسط بين الموقفين فجعل بيع الوفاء لا بيعًا صحيحًا، ولا بيعًا باطلاً، وأقام قرينة قانونية غير قابلة لإثبات العكس على أن بيع الوفاء رهن حيازي وذلك جريًا على تقاليد الفقه الحنفي. وقد اختلفت أقوال الفقهاء المسلمين في شأن بيع الوفاء فاعتبره بعضهم بيعًا فاسدًا وأقره آخرون بيعًا صحيحًا مفيدًا لبعض أحكامه، ولكن أكثرهم اعتبره رهنًا لا يفترق عنه في حكم من الأحكام لأن طرفيه وإن سمياه بيعًا، غرضهما منه الاستيثاق للدين، وقد تأثر تنظيم بيع الوفاء في المجلة بهذه النظرة الأخيرة، فتنص المادة الثالثة منها على إجراء حكم الرهن عليه لأن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني، وهو ما آثر المشروع الأخذ به في المادة (508) إقرارًا لما جرى عليه العمل واستقر في الأذهان سنوات طويلة، فإذا احتفظ البائع عند البيع بحق استرداد المبيع من المشتري في مقابل رد الثمن والمصروفات إليه، اعتُبر العقد قرضًا مضمونًا برهن حيازي وسرت عليه جميع أحكام الرهن الحيازي بما فيها بطلان الاتفاق على تملك العقار المبيع عند عدم رد الثمن أو الاتفاق على بيعه دون مراعاة للإجراءات التي فرضها القانون، وذلك حماية للبائع.
2 - بيع ملك الغير:
واجه المشروع حكم بيع ملك الغير في المادة (509) وآثر تطبيق القواعد العامة في شأنه فهذا البيع لا يكون نافذًا بالنسبة للمالك الحقيقي إلا إذا أقره، أما فيما بين المتعاقدين فإن البيع لا يبطل لمجرد كونه واردًا على ملك الغير وإنما يكون للمشتري وفقًا للقواعد العامة أن يطلب إبطال البيع تأسيسًا على الغلط إذا كان يجهل عند إبرام العقد عدم ملكية البائع، فإذا آلت الملكية إلى البائع أو أقر المالك الحقيقي البيع، أمكن للبيع أن ينتج أثره في نقل الملكية وإلا جاز للمشتري طبقًا للقواعد العامة أيضًا أن يطلب فسخ البيع تأسيسًا على عدم وفاء البائع بالتزاماته فضلاً عن التعويض إن كان له محل، وذلك دون إخلال بحق المشتري في التمسك بالعقد، والرجوع بضمان الاستحقاق على أساسه.
3 - بيع الحقوق المتنازع فيها:
وعرض المشروع لبيع الحق المتنازع فيه في المواد من (510) إلى (513) والأصل أن هذا البيع من بيوع الغرر، لأن وجود الحق المبيع وثبوته يتوقف على مصير النزاع القائم بشأنه، مما يجعل مشتريه مخاطرًا بل ومضاربًا. وفي الفقه الإسلامي إذا صاحب عقد البيع غرر فإنه يفسده، فبيع ما في تسليمه للمشتري خصومة، كمغصوب في يد غاصبه، غرر وجهالة بإمكان قبض المبيع وعدمه، وقيل يصح بيع المغصوب لقادر على أخذه من غاصبه. وكذلك يفسد بيع ما فيه معنى المقامرة.
لذلك كانت نظرة المشروع إلى بيع الحق المتنازع فيه نظرة ريبة، لأنه ينطوي في القليل على فكرة المضاربة واستغلال الخصومات، ومن أجل ذلك خول في المادة (510) لمن عليه الحق المتنازع فيه أن يسترده ويتخلص من المطالبة، إذا هو رد إلى مشتريه ما دفعه من ثمن في شرائه وما تكبده من مصروفات في سبيل اكتساب الحق المتنازع فيه والحصول عليه. وذلك حتى ينحسم النزاع في أمر لا تُعرف مغبته.
ويُعتبر الحق متنازعًا فيه، إذا رفعت بموضوعه دعوى أو قام في شأنه نزاع جدي.
ويسقط حق الاسترداد بمضي ثلاثين يومًا من تاريخ علم المسترد بالبيع (مادة 511) عملاً على استقرار المراكز القانونية. ولما كان حق الاسترداد قد شرع للقضاء على المضاربة في الحقوق المتنازع فيها ولمنع استغلال الخصومات، فقد استثنى المشروع (في المادة 512) أربع حالات لا يجوز فيها الاسترداد لانتفاء فكرة المضاربة فيها، وهذه الحالات هي:
( أ ) إذا كان الحق المتنازع فيه يدخل ضمن مجموعة أموال بيعت جزافًا بثمن واحد، كبيع التركة، وهي مجموع من المال بما له من حقوق وما عليه من ديون، فإذا كان في التركة حق متنازع فيه، فإن هذا الحق يفقد ذاتيته ويفنى مع العناصر الأخرى في مجموع التركة، فتنعدم فكرة المضاربة في هذا الحق بالذات ومن ثم فلا يجوز الاسترداد.
(ب) إذا كان حق المتنازع فيه شائعًا، وباع أحد الشركاء نصيبه فيه لشريك آخر - كوارث يبيع نصيبه من وارث آخر، أو مالك على الشيوع يبيع نصيبه في الحق من شريكه، لأن شراء الشريك لنصيب شريكه لا يقصد به المضاربة بل هو قسمه أو خطوة في سبيل القسمة، ومن ثم فإن الاسترداد لا يجوز.
(ج) إذا كان الحق قد تصرف فيه صاحبه لدائن له وفاءً لدين مستحق في ذمته، لأن الدائن عندما قبل ذلك التصرف، لم يقصد المضاربة وإنما قصد أن يستوفي حقه.
(د) إذا كان الحق المتنازع فيه مضمونًا برهن يثقل عقارًا وبيع الحق لحائز هذا العقار لتطهيره، ذلك أن الذي دفع حائز العقار إلى شراء الحق المتنازع فيه لم يكن فكرة المضاربة، بل تطهير العقار وتجنب الإجراءات التي يتخذها الدائن المرتهن قبله.
وإذا كان تخويل حق الاسترداد للمدين، قد بني على مظنة المضاربة واستغلال الخصومات، بشراء الحقوق المتنازع فيها، فإن شراء عمال القضاء لهذه الحقوق ينطوي فوق ذلك على شبهة استغلال النفوذ أو في القليل يلقي على الشراء ظلال الشبهة في حيدة القضاء، ولذلك حرص المشروع في المادة (513) على أن يحرم عليهم أن يشتروا - ولو باسم مستعار - حقًا متنازعًا فيه، وإلا كان العقد باطلاً بطلانًا مطلقًا حتى ولو كان الشراء في مزاد علني، كما عدد المشروع عمال القضاء على سبيل الحصر على النحو الذي اتبعه التقنين المصري والتقنينات التي أخذت عنه.
وتتفق المادة (514) بفقرتيها مع ما تقضي به المادتان (412 و413) من قانون التجارة الحالي، فتحظر الفقرة الأولى منها على السماسرة والخبراء أن يشتروا ولو باسم مستعار، الأموال المعهود إليهم في بيعها أو في تقدير قيمتها أو مباشرة الخبرة في شأنها، سواء كان الشراء بالممارسة أو بطريق المزايدة العلنية وهو حكم تمليه القواعد العامة في النيابة عن الغير، وتقضي الفقرة الثانية بتصحيح العقد المخالف لحكم الفقرة الأولى إذا أقره الأصيل الذي تم البيع لحسابه.
وتقضي المادة (515) بسحب الحظر الذي تفرضه المادتان السابقتان على الأزواج والأقارب والأصهار حتى الدرجة الثانية دفعًا لكل شبهة.
4 - بيع حصة في تركة:
تعرض المواد (516 – 518) لبيع الوارث تركة أو حصة فيها، وهو يختلف عن التخارج المعروف في الفقه الإسلامي، والذي يقتصر على بيع الوارث لنصيبه لباقي الورثة، أما البيع المقصود في المشروع فإنه قد يكون لوارث أو لغير وارث. وهو بيع لمجموع من المال بما يشتمل عليه من حقوق وديون.
وتنص المادة (516) على أن البائع لا يضمن إلا ثبوت وراثته لما باعه، أما ما تشتمل عليه التركة أو الحصة من حقوق وديون فلا يضمن شيئًا منها، ولكن إذا استوفى البائع بعض حقوق التركة أو باع شيئًا مما اشتملت عليه أو استهلكه فإنه يجب عليه أن يرد للمشتري ما استوفاه من حقوق أو ثمن، وكذلك قيمة ما استهلكه (المادة 517)، ومن ناحية أخرى يجب على المشتري أن يرد للبائع ما يكون قد وفاه من ديون التركة، وكل ذلك ما لم يتفق على غيره، ولا يخل بيع الوارث لحصته بما عساه أن يكون له من حقوق قبل التركة، إذ له أن يستوفي هذه الحقوق طبقًا للقواعد العامة (المادة 518)، ولا مقابل لتلك الأحكام في التشريع الكويتي الحالي، وإنما استمدها المشروع من القانون المصري (المواد 473 و475 و476 مدني).
5 - البيع في مرض الموت:
يقصد بمرض الموت، في الفقه الحنفي، المرض الذي يغلب فيه الهلاك عادة ويتصل به الموت فعلاً، ولو وقع لغير سببه لأمر خارجي عنه كقتل مثلاً، وعرفته المجلة في المادة (1595) بأنه (المرض الذي يُخاف فيه الموت في الأكثر الذي يعجز المريض عن رؤية مصالحه الخارجة عن داره إن كان من الذكور، ويعجزه عن رؤية مصالحه الداخلة في داره إن كان من الإناث، ويموت على ذلك الحال قبل مرور سنة صاحب فراش كان أو لم يكن..) ويلحق بمرض الموت ويأخذ حكمه، كل حالة يغلب فيها الهلاك ولا يفلت الشخص فيها من الموت عادة، ويتعلق بمال المريض حال مرضه، حق دائنيه ليستوفوا ديونهم منه، وحق ورثته ليخلص لهم ثلثا ما بقي من تركته بعد وفاء ديونه. ولذلك كان لبيع المريض في مرض الموت عند الحنفية - أحكام خاصة قصد بها حماية دائنيه وورثته من المحاباة التي قد يتضمنها التصرف إضرارًا بهم.
ويأخذ تبرع المريض، في مواجهة ورثته حكم الوصية، كما تعتبر المحاباة في البيع - بالبيع بأقل من ثمن المثل أو بالشراء بأكثر منه - تبرعًا بقدرها. ولما كانت الوصية لوارث، غير جائزة - على القول المشهور في المذهب - إلا بإجازة بقية الورثة، فقد ذهب الصاحبان إلى أن بيع المريض لأحدهم بأقل من المثل موقوف على إجازتهم، أما إذا كان البيع بثمن المثل أو يزيد فإنه يكون نافذًا بغير إجازة لانعدام مظنة المحاباة، وعند الإمام الأعظم البيع لوارث موقوف على إجازة بقية الورثة في كل الأحوال، ولو كان بمثل القيمة أو يزيد، منعًا لإيثار أحد الورثة، ببعض الأعيان وتحقيقًا للمساواة بين الورثة، في جميع ما كان لمورثهم، وهو ما أخذت به المجلة في المادة (393).
وإذا باع المريض لغير وارث، كان البيع نافذًا، أما إذا باع بأقل من ثمن المثل، اعتُبر النقص محاباة منه للمشتري ومن ثم تبرعًا له يأخذ حكم الوصية، فلا يكون نافذًا إلا في حدود ثلث أمواله، ووقع البيع فيما جاوزه موقوفًا على إجازة الورثة الذين يجوز لهم فسخ البيع إلا إذا أكمل المشتري الثمن ليصل نقصه إلى ثلث التركة (المادة 394 من المجلة وانظر أيضًا المواد من 358 - 360 من مرشد الحيران)، والسبب في تقييد التصرف الذي يصدر في مرض الموت لا يرجع إلى أهلية المريض ولا إلى عيب في إرادته، وإنما يرجع إلى تعلق حق الورثة بأمواله من وقت المرض الذي يموت فيه، فإذا صدرت عنه - منذ المرض - تصرفات تنطوي على تبرع، كان لهذه التصرفات حكم الوصية. ذلك أن المريض وهو على شفا الموت، إذا تبرع بماله، فإنما يقصد أن ينقل هذا المال إلى غيره بعد موته، ولا يكون ذلك إلا عن طريق الوصية وبقيودها فكل تبرع يصدر في مرض الموت يتقيد إذن بقيود الوصية، وكذلك المعاوضات إذا انطوت على تبرع - كأن يبيع بثمن أقل من القيمة - يكون لها أيضًا في القدر المحابَى به حكم الوصية.
وعلى أساس ما تقدم جميعه، آثر المشروع أن يطبق على هذا البيع أحكام المادة (942) التي تضع قرينة مقتضاها افتراض أن التصرف الذي يصدر في مرض الموت بقصد التبرع يعتبر تصرفًا مضافًا إلى ما بعد الموت وتسري عليه أحكام الوصية (المادة 519/ 1) وإنما أضاف المشروع في الفقرة الثانية من هذه المادة حكمًا يقضي بعدم الاعتداد بتلك القرينة في مواجهة الغير حسن النية، إذا كان قد كسب بعوض حقًا عينيًا على المبيع، وهو حكم استمده المشروع من المادة (478) من القانون المدني المصري.
الفصل الثاني: المقايضة:
البيع في الفقه الإسلامي يتسع لكل مبادلة مال بمال، ويحيط من ثم بالبيع والمقايضة، ولكن المشروع يميز بين الاثنين، كما تقدم، فيُعرف البيع بأنه عقد على تمليك شيء أو نقل حق مالي آخر لقاء عوض نقدي، وهو هنا يعرف المقايضة بأنها مبادلة مال بمال لا يكون أحدهما نقدًا، فهي مبادلة حق غير نقدي بحق آخر نقدي، سواء كان أحدهما أو كلاهما حقًا عينيًا أو حقًا شخصيًا (المادة 520).
ومع ذلك فإذا كان للأموال المتقايض فيها قيم مختلفة في تقدير المتقايضين، فإنه يجوز تعويض الفرق بمبلغ من النقود يكون معدلاً (المادة 521)، ويبقى العقد بالرغم من ذلك عقد مقايضة، إلا أن يكون مقدار المعدل أزيد بكثير من قيمة المال الذي قرن به لتكملة قيمته.
وتسري على المقايضة في الأصل أحكام البيع، فيعتبر كل متقايض بائعًا لما قايض به ومشتريًا لما قايض عليه، فتسري على المقايضة الأحكام المتعلقة بالمبيع، والأحكام المتعلقة بانتقال الملكية، وبالتسليم والتسلم، وضمان التعرض والاستحقاق وضمان العيب والفسخ وغير ذلك من الأحكام التي تتفق مع طبيعة المقايضة (المادة 522)، ولكن لا يسري عليها من أحكام البيع ما يتعارض مع طبيعتها، فأحكام البيع المتعلقة بالثمن أو بالتزامات المشتري في شأنه لا تسري في عقد المقايضة، إلا إذا كان فيها معدل من النقود، فتسري أحكام الثمن على هذا المعدل وحده.
وإذا كان الأصل في عقد البيع أن تكون نفقاته على المشتري، كما تقدم، فإن اعتبار كل من المتقايضين بائعًا لما قايض به، ومشتريًا لما قايض عليه، يتلاءم معه تقسيم مصروفات عقد المقايضة ونفقاته مناصفة بين الطرفين، وذلك ما لم يُتفق على خلافه (المادة 523).
الفصل الثالث: الهبة:
الهبة عقد مالي كسائر العقود المالية فينبغي أن ينظم التقنين المدني أحكامها كاملة سواء في الشكل أو في الموضوع، وأن تأخذ مكانها الطبيعي بين العقود المسماة، واتفاقًا مع ذلك يتعين تعديل المادة الخامسة من قانون تنظيم القضاء، التي تدرجها ضمن مسائل الأحوال الشخصية وقد استمد المشروع الأحكام الموضوعية في الهبة من الفقه الإسلامي دون التقيد بمذهب معين، فعرف الهبة في المادة (524) بأنها عقد على تمليك مال في الحال بغير عوض، وهو تعريف يميزها عن عقود المعاوضة، وعن غيرها من أعمال التبرعات، ويقترب من تعريف المالكية لها بأنها تمليك ذات بلا عوض لوجه الموهوب له وحده.
أولاً: أركان الهبة:
في انعقاد الهبة يفرق التقنين المصري - والتقنينات التي حذت حذوه بين العقار والمنقول: فهبة العقار لا تتم إلا بورقة رسمية، أما هبة المنقول فتتم إما بورقة رسمية وإما بالقبض، والجزاء على الإخلال بالشكل هو البطلان. ومع ذلك فإذا قام الواهب أو ورثته مختارين بتنفيذ هبة باطلة لعيب في الشكل فلا يجوز لهم أن يستردوا ما سلموه، وهو ما ينتهي عملاً إلى اعتبار القبض مساويًا للرسمية في كل من العقار والمنقول.
لذلك رأى المشروع في المادة (525/ 1) أن يعلق انعقاد الهبة، على القبض أو التوثيق في محرر رسمي في العقار والمنقول على وجه سواء، ويعتبر القبض قد تم ولو بقي الشيء في يد الواهب إذا كان وليًا أو وصيًا أو قيمًا أو قائمًا على تربية الموهوب له (525/ 2).
وينص المشروع في المادة (526) على أن الهبة لا تنعقد على مال مستقبل، كما هو مستقر في الفقه الإسلامي (المادتان 854 و856 من المجلة) وهو ذات النهج الذي انتهجه القانون المصري (المادة 492)، والقوانين العربية التي نحت نحوه.
وفي هبة مال الغير نص المشروع في (المادة 527) على أنها تقع باطلة، فلم يلتزم في ذلك بما جرت عليه تقنينات عربية أخرى من تطبيق حكم بيع ملك الغير على الهبة ولا بما ذهب إليه الحنفية من اعتبارها عقدًا موقوفًا على إجازة المالك، بل آثر الحكم الذي جاء به مستمدًا من مذهب مالك والذي يتأسس على أن هبة مال الغير تؤدي إلى تمليك ماله بلا عوض يعود عليه فتقع باطلة، والباطل لا تصح إجازته وهو حكم يرفع الحرج عن المالك الأصلي، إذا وهب غيره مالاً يملكه، ثم عُرض الأمر عليه ليقر الهبة أو لا يقرها.
ويعرض المشروع في المادة (528) لهبة المشاع وهو ما لم يعرض له التقنين المصري مكتفيًا باستخلاص حكمه من القواعد العامة، وفي ذلك تنص المادة (826) منه على أن (كل شريك في الشيوع يملك حصته ملكًا تامًا، وله أن يتصرف فيها وأن يستولي على ثمارها وأن يستعملها بحيث لا يلحق الضرر بحقوق سائر الشركاء) ومن ثم تكون هبة المشاع جائزة في التقنين المصري وفي التقنينات العربية الأخرى التي أوردت نصًا مماثلاً.
أما في الفقه الإسلامي، فعند الحنفية تجوز هبة المشاع فيما لا يقسم ويُكتفى بالقبض القاصر للضرورة، ولكن لا تصح الهبة فيما يقسم إلا محوزة مقسومة، وعند مالك والشافعي وأحمد فإن ذلك جائز، ولذلك آثر المشروع أن ينص صراحةً على جواز هبة المشاع ولو كان الموهوب قابلاً للقسمة أخذًا برأي الأئمة الثلاثة، وهو ما فعله التقنين العراقي أيضًا (المادة 609 الفقرة الثانية).
وينص المشروع في المادة (592) على تطبيق أحكام الوصية على الهبة في مرض الموت وهو نص لا يعدو أن يكون تطبيقًا للحكم العام الذي أورده المشروع في المادة (942) والذي يعتبر كل تصرف صادر في مرض الموت بقصد التبرع تصرفًا مضافًا إلى ما بعد الموت وتسري أحكام الوصية.
ثانيًا: آثار الهبة:
1 - التزامات الواهب:
تعرض المواد (530 – 533) لالتزامات الواهب، وهي التسليم وضمان التعرض والاستحقاق وضمان العيب، فتنص المادة (530) بفقرتيها على التزام الواهب بتسليم الموهوب، ويقع ذلك إذا تمت الهبة بمحرر رسمي، وتسري عندئذٍ الأحكام المتعلقة بتسليم المبيع - فيلتزم الواهب بتسليم المال للموهوب - في الزمان والمكان المعينين - وبالحالة التي كان عليها وقت الهبة، وبالمقدار المعين في العقد. فإن تغيرت حالته أو وُجد فيه نقص، لم يكن الواهب مسؤولاً إلا عن فعله العمد أو خطأه الجسيم، وإن هلك المال الموهوب قبل تسليمه لسبب أجنبي كان هلاكه على الموهوب له، لأنه لم يدفع مقابلاً حتى يسترده، أما إن كان الهلاك بخطأ من الواهب فإنه لا يُسأل في ذلك إلا عن فعله العمد أو خطئه الجسيم لأنه متبرع. ويكون التسليم في كل شيء حسب طبيعته أو باختلاف حاله. ويتم بوضع الموهوب تحت تصرف الموهوب له، بحيث يتمكن هذا من قبضه والانتفاع به دون حائل، ويقوم مقام التسليم الفعلي، التسليم الحكمي. كما في البيع. أما إذا لم تعقد الهبة بمحرر رسمي، فإنها لا تتم إلا بالقبض، ويكون التسليم ركنًا في الهبة لا التزامًا.
وتعالج المادتان (531 و532) ضمان التعرض وضمان الاستحقاق، ومؤداها أن الواهب لا يضمن إلا التعرض الناشئ عن فعله، كما لا يضمن استحقاق المال الموهوب إلا إذا تعمد إخفاء سبب الاستحقاق، أو كانت الهبة مقترنة بتكليف وذلك ما لم يُتفق على غيره أو يقضِ القانون بخلافه، وفي الحالة الأولى يقدر القاضي للموهوب له تعويضًا عادلاً، أما في الحالة الثانية فيضمن الواهب الاستحقاق ولو كان يجهل سببه. ولكنه لا يكون مسؤولاً إلا في حدود ما أداه له الموهوب له من تكليف، وفي الحالتين يحل الموهوب له محل الواهب فيما له من حقوق ودعاوى بسبب الاستحقاق.
أما العيوب الخفية فتتناول حكمها المادة (533)، والأصل أن الواهب لا يضمن العيوب الخفية إلا إذا اتفق على أنه يضمنها، أو كان قد تعمد إخفاء عيب في الموهوب. وعندئذٍ لا يُلزم بتعويض الموهوب له إلا عن الضرر الذي يسببه العيب ولا يلزم بتعويضه عن العيب ذاته لأنه متبرع لم يأخذ مقابلاً لما أعطى، ولا يُغير من ذلك أن تكون الهبة مقترنة بتكليف، لأن التكليف يجب أن يكون أقل من قيمة الموهوب وإلا كان العقد من عقود المعاوضة.
وقد اهتدى المشروع في وضع أحكام الضمان بأنواعه المختلفة بما أورده القانون المصري من أحكام بشأنها (المواد 494 - 496 مدني) ونقلته عنه القوانين العربية الأخرى التي تأثرت به، وذلك بعد إدخال التعديلات المناسبة عليها.
2 – التزامات الموهوب له:
وتعرض المواد (534 – 536) لالتزامات الموهوب له، وهي التزامات محتملة لا تكون إلا إذا اقترنت الهبة بتكليف. فيكون التكليف التزامًا في ذمة الموهوب له وهو ما تقضي به المادة (534)، فيجوز للواهب – ولورثته من بعده – المطالبة بتنفيذه، سواء كان التكليف مشترطًا لمصلحة الواهب أو لمصلحة الغير، وللغير المشترط له أن يطالب أيضًا بالتنفيذ لأنه المستفيد وله حق مباشر قبل الموهوب له طبقًا للقواعد العامة المقررة في الاشتراط لمصلحة الغير.
وحتى تحتفظ الهبة بطابعها التبرعي، فإنه يجب أن تكون قيمة التكليف المشترط أقل من قيمة المال الموهوب، أما إذا كانت قيمة التكليف تقترب من قيمة الموهوب أو تزيد عليها، وكان الموهوب له على علم بذلك، فإن العقد يكون معاوضة لا هبة فإذا تبين أن التكليف تزيد قيمته على قيمة الموهوب وكان الموهوب له لا يعلم بذلك، فإنه لا يكون ملزمًا بأن يقوم بالتكليف إلا في حدود قيمة الموهوب وهو ما تنص عليه المادة (535) من المشروع.
وإذا اشترط الواهب على الموهوب له وفاء ديونه، وأطلق دون أن يعين هذه الديون، فالمفروض أنه أراد الديون الموجودة وقت تمام الهبة، لا الديون التي تجد بعد ذلك (المادة 536).
وجميع هذه الأحكام لها ما يقابلها في القانون المصري (المادتان 497 و499/ 1 مدني) وكثير من القوانين العربية التي أخذت عنه.
ثالثًا: الرجوع في الهبة:
جواز الرجوع في الهبة مختلف عليه في الفقه الإسلامي، فالمذهب الحنفي يجيز الرجوع إلا لمانع، أما المالكية والشافعية والحنابلة فلا يجيزون الرجوع إلا في حالة واحدة، هي حالة هبة الوالد لولده، وهو ما يسمى عند المالكية باعتصار الهبة أو استرجاعها، فيعتصر الأب – أي يسترجع قهرًا – ما وهبه لولده، وتستند هذه المذاهب الثلاثة إلى ما روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – " لا يرجع الواهب في هبته، إلا الوالد فيما يعطي لولده ". وهناك أيضًا رأي آخر يحكي عن أهل الظاهر رواية عن أحمد بن حنبل، لا يجيز الرجوع في الهبة أصلاً، ولو من الوالد ويستدل على ذلك بالحديث " العائد في هبته كالعائد في قيئه " وبأن الهبة عقد تمليك منجز كالبيع، فلا يجوز الرجوع فيها.
وقد رأى المشروع أن يجعل الأصل هو عدم جواز الرجوع في الهبة إلا للأبوين فيما وهباه لولدهما – كما هو مقرر في مذهب مالك (المادة 537/ 1) ولكنه آثر لاعتبارات عديدة أن يجيز الرجوع في الهبة، استثناءً من هذا الأصل العام بقيدين أوردهما بالمادة (537/ 2) والمادة (538) منه:
القيد الأول – أن يستند الواهب في الرجوع إلى عذر مقبول، ويعتبر على وجه الخصوص عذرًا مقبولاً:
( أ ) أن يخل الموهوب له بما يجب عليه نحو الواهب، إخلالاً يعتبر جحودًا كبيرًا من جانبه.
(ب) أن يصبح الواهب عاجزًا عن أن يوفر لنفسه أسباب المعيشة بما يتفق مع مكانته الاجتماعية، أو أن يصبح غير قادر على الوفاء بما يفرضه عليه القانون من النفقة على الغير.
(جـ) أن يرزق الواهب بعد الهبة ولدًا يظل حيًا إلى وقت الرجوع، وغني عن البيان أنه يكون للواهب أن يطلب إبطال الهبة للغلط إذا كان له ولد يظنه ميتًا وقت الهبة ثم تبين أنه على قيد الحياة.
وهذه الأعذار ليست مذكورة على سبيل الحصر، وإنما خصت بالذكر لأنها هي الأعذار الغالبة التي تبرر الرجوع في الهبة. وذلك لا يمنع من أن تقوم أعذار أخرى تجعل الرجوع مبررًا.
القيد الثاني – أن يصدر إذن من القضاء بالرجوع، حتى يكون القضاء رقيبًا على الواهب في ذلك، يجيبه إلى طلب الرجوع إذا رأى أن العذر في الرجوع عذر مقبول ويرفض طلبه إذا لم يرَ قبول العذر أو إذا تبين وجود مانع من موانع الرجوع.
وطبقًا للمادة (539) من المشروع يمتنع الرجوع في الهبة إذا وجد مانع من الموانع الآتية:
( أ ) إذا كانت الهبة من الأم وكان ولدها يتيمًا، سواء حصل اليتم قبل الهبة أم حصل بعدها، لأن الهبة لليتيم في معنى الصدقة، والصدقة لا يجوز الرجوع فيها، وهذا هو القول المعتمد في مذهب مالك، وينبني على اعتبار حال الولد وقت الرجوع، أي على اعتبار حالة كونه يتيمًا أو غير يتيم، وقطع النظر عن حاله وقت الهبة، واليتيم هو الصغير الذي ليس له أب تجب نفقته عليه، فيشترط لرجوع الأم في هبتها أن يكون ولدها كبيرًا، أو صغيرًا له أب مسؤول عن نفقته.
(ب) إذا كانت الهبة من أحد الزوجين للآخر ما دامت الزوجية قائمة.
(جـ) إذا مات الواهب أو الموهوب له. لأنه إذا مات الواهب فإنه حق الرجوع لا ينتقل إلى ورثته، وإذا مات الموهوب له تعلق حق ورثته بالمال الذي وهب له.
(د) إذا تصرف الموهوب له في الموهوب تصرفًا يخرجه عن ملكه، كما إذا باعه أو وهبه لغيره. فإذا اقتصر التصرف على بعض الموهوب جاز للواهب أن يرجع في الباقي.
(هـ) إذا حصل تغير في ذات الموهوب أو حصلت فيه زيادة متصلة موجبة لزيادة قيمته، أما تغير قيمة الموهوب مع بقاء الذات على حالها فلا يمنع من الرجوع. لأن زيادة القيمة بالغلاء أو نقصها بالرخص أمر عارض لا يُعتد به. ومن باب أولى فإن هلاك الموهوب في يد الموهوب له، يمنع من الرجوع لفواته.
(و) إذا تعامل الغير مع الموهوب له مع اعتبار قيام الهبة، كالبيع له بثمن مؤجل أو إقراضه أو تزويجه نظرًا لما حصل له من الميسرة بما وهب له، لأنه يترتب على الرجوع في الهبة ضياع حقوق الغير وتوريط الموهوب له، أما حصول التعامل مع الموهوب له الذي لا يكون مع اعتبار قيام الهبة، فلا يمنع من الرجوع، لأنه لا دخل للهبة في حصوله، فلا يترتب على الرجوع ضياع حق للغير ولا توريط الموهوب له.
(ز) إذا مرض الواهب أو الموهوب له مرضًا مخوفًا - أي مرضًا يُخشى معه الموت - أما المرض العادي فلا يُعتد به. ويمتنع الرجوع في هذه الحالة لأنه إذا مرض الواهب مرضًا مخوفًا، كان استرجاعه الموهوب لمصلحة غيره لرجحان موته من مرضه، ومصلحة ذلك الغير ليست بأولى من مصلحة الموهوب له، وإذا مرض الموهوب له مرضًا مخوفًا، تعلق حق ورثته بالمال الذي وهب له. فيمتنع الرجوع لتعلق حق الغير به. فإذا زال المرض عاد حق الرجوع لزوال المانع.
(ح) إذا اقترنت الهبة بتكليف.
(ط) إذا كانت الهبة لغرض خيري، كإنشاء مسجد.
وغني عن البيان أن هذه الموانع تسري على رجوع الأبوين الذي لا يرد عليه قيد، كما تسري على الرجوع المقيد بالعذر وباستئذان القضاء.
وتنص المادة (540) على أنه يجوز لأي من ورثة الواهب فسخ الهبة إذا قتل الموهوب له الواهب عمدًا وبدون حق أو اشترك في قتله. كما ترتب المادة (541) على الرجوع في الهبة إعادة الموهوب إلى ملك الواهب من حين تمامه، وذلك دون إخلال بالقواعد المتعلقة بالتسجيل.
أما نفقات الهبة فالأصل أن تكون على المستفيد منها، وهو الموهوب له، فيتحمل مصروفات العقد ورسم التسجيل ومصروفات تسلم الموهوب ونقله وذلك تفسيرًا للهبة في أضيق حدودها، فلا يجمع الواهب بين التجرد عن ماله بغير عوض وبين تحمل هذه النفقات. أما نفقات الرجوع فيتحملها الواهب لأنه المستفيد من الرجوع، وكل ذلك ما لم يتفق على غيره (المادة 542).
الفصل الرابع: القرض:
لم تعرض المجلة لعقد القرض على الرغم من أنه من المعاملات الجائزة بالسنة والإجماع، وقد عرفه الحنفية بأنه ما تعطيه من مال مثلي لتتقاضى مثله كما عرفه المالكية بأنه إعطاء شيء متمول لنفع المعطى له، نظير عوض مماثل مؤجل في الذمة.
ويعرفه المشروع في المادة (543) بأنه عقد يلتزم به المقرض أن يؤدي إلى المقترض مبلغًا من النقود أو أي شيء مثلي آخر مقابل رد مثله نوعًا وصفةً وقدرًا، ومؤدى ذلك أن القرض عقد رضائي يتم بمجرد تلاقي الإيجاب والقبول، أما تسليم الشيء المقترض فهو التزام ينشئه عقد القرض في ذمة المقرض وليس ركنًا في العقد ذاته، على عكس بعض التقنينات التي تجعل القرض عقدًا عينيًا لا يتم إلا بالتسليم (قارن على سبيل المثال المادة 684 عراقي والمادة 754 لبناني والمادة 1892 فرنسي). وأكثر ما يكون الشيء المقترض نقودًا، ولذا خُصصت بالذكر في التعريف، ولكن لا يوجد ما يمنع من أن يكون هذا الشيء غير نقود ما دام من المثليات التي تُستهلك بالانتفاع بها.
وغني عن البيان أنه يجب أن يتوافر في الشيء المقترض - إلى جانب ذلك - الشروط العامة التي يجب توافرها في المحل، فيجب أن يكون موجودًا معينًا أو قابلاً للتعين، غير مخالف للنظام العام ولا للآداب.
1 - التزامات المقرض:
وتعرض المادة (544) لالتزام المقرض بالتسليم ولتبعة الهلاك قبل حصوله، ففيما يتعلق بالتسليم، إذا كان الشيء المقترض نقودًا - وهو الغالب - وأصبح المقترض بمجرد تمام القرض دائنًا للمقرض بهذا المبلغ - لأن النقود لا تتعين بالتعيين - وكذلك إذا وقع القرض على أشياء مثلية أخرى وتعينت بالإفراز فانتقلت ملكيتها إلى المقرض، ففي الحالين يلتزم المقرض بتسليم الشيء المقترض وتتبع في ذلك القواعد العامة وبخاصة القواعد المقررة في التزام البائع بتسليم المبيع، فإذا أخل المقرض بالتزامه بالتسليم جاز للمقترض أن يطالب بالتنفيذ عينًا.
وفيما يتعلق بتبعة الهلاك، فإنه لا يتصور، إذا كان الشيء المقترض مبلغًا من النقود أو أي شيء مثلي آخر لم يتحدد بالإفراز أن يهلك الشيء قبل التسليم، أما إذا كان المقترض أشياء مثلية أخرى وتعينت بالإفراز فإنها إن هلكت قبل التسليم بسبب أجنبي كان هلاكها على المقرض وإن هلكت بعد التسليم كان هلاكها بداهة على المقترض، ولهذه الأحكام مثيل في القانون المصري (المادة 539 مدني) والقوانين العربية التي أخذت عنه.
ويلتزم المقرض أيضًا بضمان الاستحقاق، فإذا كان المقترض أشياء مثلية غير النقود، وتعينت بالإفراز وسلمت للمقترض ثم استحقت، اتُبعت أحكام الإعارة (المادة 545 من المشروع) وهي تقضي بألا ضمان إلا أن يكون المعير قد تعمد إخفاء سبب الاستحقاق.
أما إذا كان المقترض نقودًا أو أي شيء مثلي آخر لم يتحدد بالإفراز فإن الاستحقاق لا يصدق عليه ولا يتصور أن يقع فيه.
أما الالتزام بضمان العيوب الخفية فقد عرض له المشروع في المادة (546) والأصل فيه أن المقرض لا يلتزم بضمان العيب لأنه متبرع. فإذا ظهر في الشيء عيب خفي واختار المقترض استبقاءه فلا يلزمه أن يرد إلا قيمة الشيء معيبًا، ومع ذلك إذا كان المقرض يعلم بالعيب وتعمد إخفاءه، فإنه يكون مسؤولاً عما يسببه العيب من ضرر. وهذه هي القاعدة العامة في ضمان العيب التي التزمها المشروع في كل عقود التبرع كالهبة والقرض، ما لم يتفق المتعاقدان على خلافها.
2 - التزامات المقترض:
أباح الإسلام القرض على أساس التعاون والإخاء الإنساني، وتفريج الكروب والنوازل، وشدد النكير على المرابين وهددهم بأشد أنواع التهديد والوعيد. ولذلك حُرم في الفقه الإسلامي أن يُشترط في القرض أي شرط يجر منفعة للمقرض، وإلا فسد العقد بمثل هذا الشرط. وقد حرص المشروع على التزام هذا الأصل، فنص في المادة (547) على أن يكون الإقراض بغير فائدة وعلى بطلان كل شرط يقضي بخلاف ذلك دون مساس بعقد القرض ذاته ويُعتبر في حكم الفائدة كل منفعة يشترطها المقرض، في أية صورة تكون.
ويعرض المشروع بعد ذلك لالتزامات المقترض وهي رد المثل، وتحصيل نفقات القرض: فطبقًا للمادة (548) يجب على المقترض أن يرد المثل بحلول الأجل المتفق عليه أو عند سقوط هذا الأجل طبقًا للقواعد العامة. فإذا لم يتفق المتعاقدان على أجل للرد. عين القاضي الأجل وفقًا للظروف، أي وفقًا للإرادة المفترضة للمتعاقدين وهي تتحدد بالعرف وبالغرض من القرض وليس بحالة المقترض المالية، فالتحديد هنا لا علاقة له بنظرة الميسرة التي يوليها القاضي للمدين العاثر الجد. وفي ذلك يقول المالكية: إنه إن لم يكن للقرض أجل مضروب فلا يخلو إما أن تكون العادة أن يرد مثل هذا القرض في وقت مخصوص، كما إذا اقترض قمحًا والعادة أن يرد مثله بعد حصاد القمح. فإن كانت في ذلك عادة فإنه يُعمل بها. كما يُعمل بانقضاء الأجل فيلزم بالرد في الوقت الذي جرت به العادة، وإن لم تكن فيه عادة فإنه لا يلزم برده إلا إذا انتفع به الانتفاع الذي جرت به عادة أمثاله، وكذلك يحدد القاضي الأجل إذا اتفق على أن يكون الرد عند المقدرة أو الميسرة وطبقًا للقواعد العامة، فإنه يراعي في ذلك موارد المدين الحالية والمستقبلة، ويقتضي منه عناية الشخص الحريص على الوفاء بالتزاماته.
وطبقًا للمادة (549) من المشروع يجب على المقترض أن يرد المثل في المكان المتفق عليه، فإذا لم يتفق على مكان، كان الرد واجبًا - على خلاف القواعد العامة - في موطن المقرض لأن القرض بدون أجر فلا يلزم الدائن تحمل مصروفات سعيه إلى موطن المقترض.
ويرد المقترض مثل ما اقترضه، نوعًا وصفةً وقدرًا، فالتزامه هو التزام بتحقيق غاية، فإذا كان الشيء المقترض نقودًا - كما هو الغالب - فلا يلتزم المقترض أن يرد للمقرض إلا مقدارًا من النقود يعادل في عدده المقدار الذي اقترض دون أن يكون لارتفاع قيمة النقود، أو لانخفاضها أثر طبقًا للقواعد العامة.
أما إذا كان الشيء المقترض من المثليات الأخرى، فإنه يجب على المقترض أن يرد مثله نوعًا وصفةً وقدرًا، ولا عبرة بتغير قيمة المثل وقت الرد (المادة 550/ 1) فالقرض - كما يقول الحنفية - مضمون بمثله بقطع النظر عن غلائه ورخصه. وإذا انقطع مثل الشيء المقترض عن السوق كان المقرض بالخيار: إما أن ينتظر حتى يعود الشيء إلى السوق فيرد له المقترض مثله، وإما أن يطالب المقترض بقيمة الشيء المقترض في الزمان والمكان اللذين يجب فيهما الرد (المادة 550/ 2).
أما نفقات القرض، كنفقات تحرير عقده ونفقات الرهن الذي يضمنه ومصروفات تسلم القرض ورده وغير ذلك، فإن المقترض هو الذي يتحملها، ما لم يُتفق على غيره (المادة 551).
الفصل الخامس: الصلح:
الصلح شرعًا عقد يرفع النزاع ويقطع الخصومة، وهو جائز بالإجماع لقوله تعالي (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) وقوله (والصلح خير)، ولحديث أبي هريرة مرفوعًا (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالاً أو أحل حرامًا) وقد عرفه المالكية بأنه انتقال عن حق أو دعوى، بعوض لرفع نزاع أو لخوف وقوعه، والأول - الانتقال عن الحق - صلح على الإقرار، أما الثاني - الانتقال عن الدعوى - فصلح على الإنكار.
ويعرفه المشروع في المادة (552) بأنه عقد يحسم به عاقداه نزاعًا قائمًا بينهما أو يتوقيان به نزاعًا محتملاً، وذلك بأن ينزل كل منهما على وجه التقابل عن جانب من ادعائه. ويبين من هذا التعريف، أن عقد الصلح يفترض وجود نزاع قائم أو محتمل، ويتطلب تضحيات متبادلة لحسم النزاع، سواء بتنازل كل من المتصالحين عن جزء من ادعاءاته، أو بتنازل أحدهما عن كل ادعاءاته في مقابل بدل خارج عن موضوع النزاع، وليس بضروري بعد ذلك أن تكون التضحية من الجانبين متعادلة، فمهما كانت تضحية أحد الطرفين قليلة بالنسبة إلى تضحية الطرف الآخر، فإن العقد يكون صلحًا.
أولاً: أركان الصلح:
في المجلة - وفي الفقه الحنفي كذلك - يُشترط في المتصالحين أن يكونا عاقلين ولا يشترط فيهما البلوغ والحرية، وعلى هذا يصح الصلح من الصبي المأذون إن عري صلحه عن ضرر بين (قارن المادة 1539 من المجلة).
ولكن المادة (553) من المشروع تستلزم في كل من المتصالحين، توافر أهلية التصرف بعوض في الحقوق التي تصالحا عليها، لأن كلاً منهما ينزل عن جزء من ادعائه في نظير نزول الآخر عن جزء مقابل. والنزول بمقابل عن حق مدعى به، هو تصرف بعوض، وعلى ذلك فكل من بلغ سن الرشد ولم يُقض باستمرار الولاية على ماله، تكون أهليته كاملة في الصلح على جميع الحقوق. وقد استوحى المشروع هذا الحكم من القانون المصري (المادة 550) والقوانين العربية الأخرى التي نقلت عنه.
أما محل الصلح فهو الحق المتنازع فيه وتنازل كل من الطرفين عن جزء مما يدعيه في هذا الحق، ويدخل فيه بدل الصلح إن عقد الصلح على بدل.
وأيًا كان محل الصلح، فإنه يجب أن تتوافر فيه الشروط التي يجب توافرها في المحل بوجه عام، فيجب أن يكون موجودًا، ممكنًا، معينًا أو قابلاً للتعين، وبوجه خاص، أن يكون مشروعًا - أي حقًا يجوز الاعتياض عنه ولو كان غير مال ولذلك نصت المادة (554) من المشروع على عدم جواز الصلح في المسائل المتعلقة بالنظام العام، وعليه فلا يجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية - كالبنوة والزوجية - أو الأهلية، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالنظام العام وإنما يجوز الصلح على الحقوق المالية التي تترتب على هذه المسائل كالصلح على النفقة أو على مؤخر الصداق.
وكل ذلك ما لم يقضِ القانون بغيره ففيما يتعلق بالقصاص أو التعزيز إذا كان حقًا للعبد، يصح الصلح عن دعوى الجناية في النفس من القتل وفيما دونها، عمدًا كانت الجناية أو خطأ. أما العمد فلقوله تعالي (فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف) (البقرة 178) أي من أُعطي له بدل أخيه المقتول شيء بطريق الصلح. وأما الخطأ فلأن موجبه المال.
وتعرض المادة (555) لإثبات الصلح، فتنص على أنه لا يثبت إلا بالكتابة أو محضر رسمي. وهو نص مقابل له في غالبية التقنينات العربية، فالصلح وقد شرع لرفع النزاع وقطع الخصومة، لا يجوز أن يكون مثارًا لنزاع آخر قد ينشأ عن إباحة إثباته بالبينة.
والكتابة لازمة للإثبات لا للانعقاد، لأن الصلح من عقود التراضي، ويترتب على ذلك أنه لم توجد كتابة لإثبات الصلح، جاز إثباته بما يقوم مقامها كالإقرار واليمين.
ولكن الإثبات بالبينة والقرائن غير جائز ولو في صلح لا تزيد قيمته على نصاب الشهادة، إلا في الحالات التي تجيز فيها القواعد العامة الإثبات بهذين الطريقين.
وغني عن البيان أنه لا يشترط في الكتابة اللازمة لإثبات عقد الصلح، شكل خاص، فالورقة العرفية تكفي للإثبات، ومن باب أولى يكفي لإثبات الصلح المحضر الرسمي الذي تدون فيه المحكمة الصلح الذي يقع بين الخصوم.
ثانيًا: آثار الصلح:
وتعرض المواد (556 – 559) لآثار الصلح: وأول هذه الآثار انقضاء الادعاءات التي يتنازل عنها كل من المتصالحين تنازلاً نهائيًا (المادة 556) فإذا تنازع شخصان على ملكية دار وأرض، ثم تصالحا على أن تكون الدار لأحدهما والأرض للآخر، فهذا الصلح يترتب عليه انقضاء ادعاء من اختص بالدار في ملكية الأرض، وادعاء من اختص بالأرض في ملكية الدار. فلا يجوز لأيهما أن يعود إلى منازعة الآخر فيما اختص به. وفي ذلك يقول الحنابلة إن الصلح يحسم النزاع نهائيًا، فلا تُسمع بعده دعوى المدعي ولو أقام بينة على ما ادعاه أو على سبق إقرار المنكر به، ويترتب حتمًا على انقضاء الادعاءات، تثبيت حق كل متصالح فيما خلص له فيبقى حقه فيه على وضعه الأول، ويكون أثر الصلح الكشف عن هذا الحق لا إنشائه (المادة 557/ 1) فلا يكون المتصالح متلقيًا له من المصالح الآخر، ولا خلفًا له فيه بكل ما يترتب من نتائج. وهو حكم مأخوذ به في الفقه الحنفي. على أنه إذا تضمن الصلح حقوقًا غير متنازع فيها، فإنه يكون منشئًا أو ناقلاً بالنسبة لهذه الحقوق، فإذا تنازع شخصان على دار وتصالحا على أن يختص بها أحدهما في نظير أن يعطي الثاني عقارًا آخر، فإن الصلح يكون له أثر ناقل أو منشئ بالنسبة إلى هذا العقار (المصالَح عليه) بكل ما يترتب على ذلك من نتائج. وهو حكم مأخوذ به أيضًا في الفقه الحنفي (قارن المادة 1550 من المجلة).
وإذا كان أثر العقد يقتصر، بوجه عام، على كل من كان طرفًا فيه، وعلى المحل الذي تناوله، وعلى السبب الذي وقع من أجله غير أن الصلح في صدد هذا الأثر النسبي أكثر بروزًا:
( أ ) فهو مقصور على الحقوق التي كانت محلاً للنزاع دون غيرها، ولذلك نصت المادة (557/ 2) من المشروع على وجوب تفسير عبارات التنازل التي يتضمنها الصلح تفسيرًا ضيقًا فإذا تصالح شريك مع بقية شركائه على ما يستحق من أرباح في الشركة فإن هذا الصلح لا يشمل إلا ما استحقه فعلاً من أرباح، لا ما قد يستحقه في المستقبل، وإذا تصالح وارث مع بقية الورثة على استحقاقه في التركة باعتباره وارثًا، فإن هذا الصلح لا يتناول ما يكون المورث قد أوصى له به من مال في التركة.
(ب) والصلح لا يترتب عليه نفع ولا ضرر لغير عاقديه، حتى لو وقع على محل لا يقبل التجزئة (المادة 558/ 1)، فإذا اصطلح الموصى له مع أحد الورثة على الوصية فإن الورثة الآخرين لا يحتجون بهذا الصلح ولا يُحتج به عليهم، وإذا كان الموصى له شخصين بوصية واحدة وصالح أحدهما الوارث فإن هذا الصلح لا يحتج به الموصى له الأخر ولا يحتج به عليه، ولكن الفقرة الثانية من المادة (558) تورد استثناء من هذه القاعدة وهو حالة الصلح مع المدينين المتضامنين أو الدائنين المتضامنين فإن لكل منهم أن يتمسك بالصلح الذي يعقده أحدهم إذا رأى فيه نفعًا له.
أما إذا كان من شان الصلح أن يزيد فيما يلتزم به المدينون المتضامنون أو يسيء إلى مركز الدائنين المتضامنين فإنه لا ينفذ في حقهم ما لم يرتضوا ذلك.
(جـ) وأخيرًا يقتصر أثر الصلح على السبب الذي وقع من أجله، وفي ذلك تنص المادة (559) من المشروع على أن من تصالح على حق له (أو على حق تلقاه بناءً سبب معين)، ثم كسب هذا الحق ذاته بناءً على سبب آخر، لا يكون بالنسبة إلى هذا الكسب الجديد مرتبطًا بصلحه السابق. فإذا تصالح مع الوارث أحد الموصى لهما، ثم مات الموصى له الآخر وورثه الموصى له الأول الذي عقد الصلح، فإنه يجوز له أن يعود إلى النزاع في الوصية فيما يتعلق بحقه في الإرث من الموصى له الثاني، دون أن يستطع الوارث أن يحتج عليه بالصلح بالرغم من وحدة المحل - وهي الوصية - ووحدة الأشخاص لأن السبب لم يتحد في الحالين.
ثالثًا: بطلان الصلح:
تنص المادة (560/ 1) على أن الصلح لا يتجزأ، فبطلان جزء منه أو إبطاله، يقتضي بطلان الصلح كله أو إبطاله.
فقد يكون الصلح قابلاً للإبطال لنقص الأهلية أو لعيب في الرضاء وقد يكون باطلاً لعدم مشروعية المحل أو السبب. وأيًا كان سبب الإبطال أو البطلان، فإن الصلح إذا كان يشتمل على أكثر من أمر واحد، فالأصل أن إبطال جزء منه أو القضاء ببطلانه، يقتضي إبطال العقد كله أو بطلانه بجميع أجزائه، ولكن هذا الحكم ليس إلا افتراضًا لإرادة المتصالحين فإذا تبين أن إرادتهما قد اتجهت صراحة أو ضمنًا إلى اعتبار أجزاء الصلح منفصلة ومستقلاً بعضها عن بعض فإن إبطال جزء منها أو بطلانه لا يؤثر على بقية الأجزاء الأخرى (المادة 560/ 2).
الباب الثاني - العقود التي ترد على منفعة الأشياء
الفصل الأول: الإيجار:
نظمت المجلة عقد الإيجار في الكتاب الثاني منها (المواد 404 إلى 611). وظلت هذه الأحكام وحدها تحكم عقد الإيجار في الكويت، حتى صدر في 27 سبتمبر 1954 قانون للإيجار (عُدل بعد ذلك بالقانون رقم 32 لسنة 1962) متضمنًا بعض الأحكام المتعلقة بإيجار العقارات المخصصة للسكن أو لأعمال تجارية أو صناعية أو لمهن حرة، دون الأراضي الزراعية التي أُخرجت من نطاقه بنص صريح، ومتضمنًا عدة أحكام تتعلق بتحديد أجرة العقارات وامتداد عقود الإيجار بقوة القانون وحصر الأسباب التي يجوز للمؤجر عند توافرها إنهاء الإيجار، ثم أُلغي هذا القانون وحل محله القانون رقم (39) لسنة 1964 في شأن إيجار الأماكن وتنظيم العلاقات بين المؤجرين والمستأجرين ونص في المادة منه على سريان أحكامه على الأماكن وأجزاء الأماكن على اختلاف أنواعها، المؤجرة للسكن أو لغير ذلك من الأغراض، مستأجر من المالك أو من مستأجر لها، سواء مسورة أو غير مسورة.
وقد أُلغي هذا القانون بالقانون رقم (25) لسنة 1971، الذي حل محله أخيرًا القانون رقم (35) لسنة 1978، في شأن إيجار العقارات ويختلف هذان القانونان عن القانونين السابقين، في عدم اقتصارهما على أحكام خاصة تتعلق بالامتداد القانوني لعقد الإيجار أو بالتحديد القانوني للأجرة، بل إنهما تضمنا علاوة على ذلك قواعد أخرى موضوعية وإجرائية.
وتنص المادة الأولى من القانون الأخير على سريان أحكامه على العقارات بما في ذلك الأراضي الفضاء، والمؤجرة للسكن أو لغير ذلك من الأغراض، مع استثناء الأراضي الزراعية من نطاق تطبيقه (لما لها من وضع خاص ليس مجاله هذا القانون)، وهو استثناء لم يكن واضحًا من نصوص القانون الذي سبقه.
وبذلك يخرج عن نطاق هذا القانون على الأخص إيجار المحل التجاري الذي يخضع لأحكام قانون التجارة، كما يخرج عن نطاقه إيجار المنقولات والأراضي الزراعية الذي يظل خاضعًا لأحكام المجلة، بالإضافة إلى إيجار الوقف الذي يظل خاضعًا لأحكام الفقه المالكي، فيما عدا ما يمكن تطبيقه عليه من الأحكام الخاصة الواردة في ذلك القانون.
على أن القانون رقم (35) لسنة 1978، وإن تضمن كثيرًا من القواعد الموضوعية في عقد الإيجار، فإنه لم يضع تنظيمًا كاملاً لهذا العقد يغني عن الرجوع إلى أحكام المجلة، التي ما زالت تعتبر، تبعًا لذلك، القانون العام لعقد الإيجار ويتعين تطبيق أحكامها على ما لم يرد بشأنه نص تشريعي كما أفصح القانون في المادة الثالثة منه.
ولذلك فقد آثر المشروع أن ينظم الأحكام الموضوعية في عقد الإيجار تنظيمًا شاملاً مفصلاً، يغني عن الرجوع إلى تلك المصادر المتعددة، وبعد أن أورد الأحكام العامة للإيجار، أفرد بالذكر أنواعًا خاصة من الإيجارات - هي إيجار الأراضي الزراعية والمزارعة وإيجار الوقف - نظرًا لأهميتها، ولكن هذا التنظيم الجديد لا يمس ما ورد في القانون رقم (35) لسنة 1978 من أحكام خاصة في حدود نطاق سريانه وذلك اعتبارًا بأن القانون العام لا يلغي قانونًا خاصًا ما لم يرد نص صريح بذلك.
الفرع الأول - الإيجار بوجه عام:
الإيجار عند الحنفية عقد يفيد تمليك منفعة معلومة مقصودة من العين المستأجر بعوض، وفي المجلة، هو بيع المنفعة المعلومة في مقابلة عوض معلوم، وقد جرى التقنينان العراقي والأردني على نهج الفقه الإسلامي في تعريفه بأنه تمليك منفعة معلومة لقاء عوض معلوم، (722 عراقي و658 أردني)، كما عرفه القانون الكويتي (قانون رقم 35 لسنة 1978) نقلاً عن التقنين المصري والتقنينات العربية الأخرى بأنه (عقد يلتزم المؤجر بمقتضاه أن يمكن المستأجر من الانتفاع بعين معينة، مدة محددة لقاء أجر معلوم) ويعرفه المشروع في المادة (561) تعريفًا لا يخرج عن ذلك مع تعديل في الصياغة اقتضته الملاءمة.
أولاً: أركان الإيجار:
عرض المشروع في المواد (من 562 إلى 568) للمؤجر والأجرة والمدة، أما عن المؤجر، فمن شروط نفاذ الإيجار عند الحنفية، الملك والولاية، وهو ما قننته المجلة في المادة (246) بقولها: (يلزم أن يكون الآجر متصرفًا بما يؤجره، أو وكيل المتصرف، أو وليه أو وصيه) وإلا كانت الإجارة موقوفة على إجازة المالك أو وكيله أو وليه أو وصيه.
فالأصل أن مالك الشيء هو الذي له الحق في إدارته وتأجيره، ولكن قد يثبت حق الإدارة لغير المالك، فيكون نائبًا عن المالك في استعمال هذا الحق، سواء كانت نيابته نيابة اتفاقية - كالوكيل - أو قانونية، كالولي والوصي وناظر الوقف. فهؤلاء جميعًا لا يملكون الشيء المؤجر وليس لهم إلا حق إدارته ولذلك قيد المشروع في المادة (562) من سلطتهم في الإيجار. فمن يدير الشيء لا يملك إيجار لمدة تزيد على ثلاث سنوات، فإذا زاد على هذه المدة، فإن كان ذلك بإذن ممن يملك الإذن - كالأصيل في حالة الوكيل والمحكمة في حالة الوصي وناظر الوقف - جاز، وإلا أُنقصت المدة إلى ثلاث سنين، وكل هذا ما لم يوجد نص يقضي بغيره، كما هو الحال بالنسبة لناظر الوقف فإن له أن يؤجر لأكثر من ثلاث سنين إذا كان هو الواقف أو المستحق الوحيد (المادة 646 من المشروع).
كذلك فإنه، يجوز للمنتفع أن يؤجر الشيء، لأن الإيجار هو الوسيلة الطبيعية للاستغلال، ولكن المنتفع لا يتقيد في إيجاره بالمدة المنصوص عليها في المادة السابقة، لأنه عندما يؤجر الشيء لا يفعل ذلك بموجب حق الإدارة، وإنما يستعمل حقه الأصيل في الانتفاع، فلا حد لمدة الإيجار إلا المدة التي يبقى فيها حق الانتفاع قائمًا، لأنه بطبيعته حق موقوت، فلا يسري الإيجار بعد انتهاء حق الانتفاع، إلا إذا أقره مالك الرقبة بالنسبة للمدة التالية، وذلك دون إخلال بمواعيد التنبيه بالإخلاء والمواعيد اللازمة لنضج المحصول القائم ونضجه، وهو ما نص عليه المشروع في المادة (563/ 1). أما من ليس له إلا حق الاستعمال، أو السكنى، فليس له أن يؤجر الشيء إلا بإذن خاص أو لمبرر قوي (المادة 563/ 2).
أما الأجرة فهي المال الذي يلتزم المستأجر بإعطائه للمؤجر في مقابل الانتفاع بالمأجور. والأصل أنها تستحق باستيفاء المنفعة أو بإمكان استيفائها فإن زالت المنفعة أو اختلت، سقطت الأجرة أو أنقصت.
والأجرة في عقد الإيجار تقابل في الفقه الإسلامي، الثمن في عقد البيع، فما يصلح ثمنًا في البياعات يصلح أجرة في الإيجارات ومن ثم وجب أن تكون الأجرة مالاً متقومًا معلومًا (قارن المادتين 463 و450 من المجلة). ومع ذلك (يجوز أن يكون بدلاً في الإجارة الشيء الذي لم يصلح أن يكون ثمنًا في البيع) (463). كمنفعة شيء معين فالمنفعة وإن كانت لا تصلح ثمنًا، يجوز أن تكون أجرة.
وإذا كان المشروع قد أوجب في البيع أن يكون الثمن من النقود لأسباب سبق بيانها، غير أنه آثر في الإيجار أن يأخذ بأحكام الفقه الإسلامي فأجاز في المادة (564) أن تكون الأجرة شيئًا آخر غير النقود، كجزء من المحصول أو الانتفاع بشيء آخر مقابل الانتفاع بالمأجور.
وتستلزم قواعد المجلة تعيين الأجرة وإلا وقع الإيجار فاسدًا غير أنها تفرض أجر المثل بالغًا ما بلغ إذا كان فساد الإجارة بسبب كون البدل مجهولاً (المادة 462). ولذا لم يجد المشروع حرجًا في أن يأخذ في المادة (565) بالحكم الوارد في قانون الإيجارات الكويتي نقلاً عن التقنين المصري والذي يقرر أنه إذا لم يحدد المتعاقدان الأجرة ولا الأساس الذي يقوم عليه تقديرها، وكذلك إذا تعذر على أيهما إثبات الأجرة التي اتفقا عليها، فإن أجرة المثل وقت إبرام العقد تكون هي الواجبة ويحددها القاضي بمراعاة جميع العناصر اللازمة لذلك، ويبقى عقد الإيجار صحيحًا، وغني عن البيان أن مجال الأخذ بهذا الحكم هو إغفال الاتفاق على الأجرة أو أسس تقديرها، أو تعذر إثبات مقدار الأجرة المتفق عليها، أما إذا حاول المتعاقدان الاتفاق على الأجرة فلم يستطيعا، فإن الإيجار يكون باطلاً لأن المتعاقدين قد تعذر عليهما الاتفاق على ركن من أركان العقد.
بقيت المدة، وهي ركن لا يتم الإيجار إلا به، فإذا عرض المتعاقدان للمدة اختلفا في تحديدها، كان الإيجار باطلاً لعدم توفر الرضاء وإذا كان المتعاقدان يتفقان عادة على المدة وعلى تاريخ بدئها، غير أنه يقع في بعض الأحيان أنهما لا يعرضان إطلاقًا لشيء من ذلك ولكن هذا الإغفال لا يجعل الإيجار باطلاً، بل يظل صحيحًا ويتكفل المشروع في هذه الحالة بتحديد المدة وتاريخ بدئها كذلك قد يتفق المتعاقدان على أن يكون الإيجار لمدة معينة، أو يتفقان على مدة معينة ولكن لا يستطيع أي منها أن يثبت ما اتفقا عليه في ذلك، ففي هاتين الحالتين أيضًا لا يكون الإيجار باطلاً، بل يكون صحيحًا، ويتكفل المشروع بتحديد المدة على نفس الوجه الذي يحدد به المدة في الحالة الأولى.
أما بالنسبة لبدء المدة، فإنه إذا لم يعين المتعاقدان تاريخ بدء الإيجار، فإنه يبدأ من تاريخ العقد (المادة 566 من المشروع وقارن المادتين 485 و486 من المجلة)، وأما بالنسبة لتحديد المدة، فإنه إذا عقد الإيجار دون اتفاق عليها فإن الإيجار يعتبر نافذًا منعقدًا للمدة التي حُددت عنها الأجرة، وكذلك يكون الحال لو عقد الإيجار لمدة غير معينه أو تعذر إثبات مدته (المادة 567/ 1 من المشروع).
وينتهي الإيجار بانقضاء هذه المدة بناءً على طلب أحد المتعاقدين إذا هو نبه على المتعاقد الآخر بالإخلاء قبل نصفها الأخير على ألا يزيد ميعاد الإخلاء على ثلاثة أشهر (المادة 567/ 2) وغني عن البيان أنه إذا لم يحصل التنبيه في ميعاده يمتد الإيجار لفترة أخرى تبدأ من انتهاء الفترة السابقة وهكذا حتى يصدر التنبيه في ميعاده. وإذا اتفق المتعاقدان على تحديد مدة معينة، صح اتفاقهما والتزما به، ما دامت هذه المدة لا تجعل الإيجار مؤبدًا أو في حكم المؤبد، وكل ذلك مع مراعاة النصوص الأخرى التي تحدد المدة في بعض الأحوال، كمن له حق الإدارة لا يجوز أن يؤجر لمدة تزيد على ثلاث سنين.
أما إذا اتفق المتعاقدان على أن يكون الإيجار مؤبدًا وكذلك إذا اتفقا على مدة طويلة تجعل الإيجار في حكم العقد المؤبد. فإن المشروع ينص في المادة (568) منه على أن المدة ترد إلى خمس وعشرين سنة ولكن المشروع أجاز أن يكون الإيجار لمدة حياة المستأجر أو المؤجر، حتى لو امتد لمدة تزيد على خمس وعشرين سنة.
ثانيًا: آثار الإيجار:
1 - التزامات المؤجر:
تعرض المواد (569 – 585) لالتزامات المؤجر، وهي التزامات إيجابية ويؤدي مجموعها إلى التزام المؤجر بأن يمكن المستأجر من الانتفاع بالمأجور، فإلى جانب التزامه بالتسليم، يلتزم المؤجر بتعهد المأجور بالصيانة، كما يلتزم بضمان التعرض وضمان العيب.
ويلاحظ أن مجلة الأحكام العدلية تضع على عاتق المؤجر التزامين أساسيين: أولهما بتسليم المأجور والثاني بترك المستأجر ينتفع به طوال مدة الإجارة. فإذا انعقدت الإجارة الصحيحة لزم تسليم المأجور للمستأجر (م 583). ويكون ذلك بإجازة الآجر ورخصته للمستأجر بأن ينتفع به بلا مانع (م 582). ومن ثم يلتزم بأن يسلم المأجور للمستأجر خاليًا من العوائق التي تحول دون انتفاعه به.
أما قانون إيجار العقارات والأماكن - رقم (35) لسنة 1978 - فقد قامت أحكامه (في حدود ومجال تطبيقه) على أساس أن المؤجر ملزم بتمكين المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، فهو ملزم بتسليم العين ذاتها وملحقاتها وكل ما أُعد بصفة دائمة لاستعمالها على أن يكون ما يسلمه في حالة يصلح معها لأن يفي بما أُعدت له العين من المنفعة وذلك طبقًا لما تم عليه الاتفاق أو لما يقضي به العرف وطبيعة الأشياء، فإذا سُلمت العين في حالة لا تكون معها صالحة لاستيفاء المنفعة المقصودة، أو كانت في حالة ينقص معها الانتفاع نقصًا كبيرًا، فإن المستأجر يكون بالخيار بين فسخ العقد أو التعويض إن كان له مقتض (المادة 7 من القانون).
وطبقًا لنصوص المشروع، يلتزم المؤجر بتسليم المأجور تسليمًا صحيحًا والتسليم الصحيح لا يكون إلا بتسليم الشيء وملحقاته في حالة صالحة للانتفاع به كل الانتفاع المقصود من إيجاره (المادة 569). ويرجع في معرفة ذلك إلى اتفاق المتعاقدين، فإن لم يوجد وجب الرجوع إلى العرف وطبيعة الشيء ذاته، وتفريعًا على ذلك يلتزم المؤجر قبل التسليم بإجراء جميع الإصلاحات اللازمة لتهيئة المأجور للانتفاع به، على النحو المقصود، ولو كانت من قبيل الإصلاحات التي يلتزم بها المستأجر بعد تسلم المأجور وأثناء مدة الإيجار.
ولكن للمتعاقدين أن يتفقا على خلاف ذلك فيشترط المؤجر أن يسلم الشيء في الحالة التي هو عليها وقت التسليم، أو يشترط المستأجر تسليمه في حالة معينة، بعد القيام بأعمال كمالية لزخرفته وتجميله على سبيل المثال، فإذا لم يقم المؤجر بتسليم المأجور تسليمًا صحيحًا، بأن سلمه غير كامل أو بغير ملحقاته، أو سلمه في حاله لا يكون فيها صالحًا للانتفاع الذي أُجر من أجله أو إذا نقص هذا الانتفاع نقصًا كبيرًا، أو كان الشيء في حالة من شأنها أن تعرض المستأجر أو من يعيشون معه أو يعملون لديه لخطر جسيم، أو لم يقم بما تعهد به من إصلاحات أو إضافات للشيء المؤجر قبل تسليمه، فإنه يكون للمستأجر في جميع هذه الأحوال أن يطلب فسخ العقد أو إنقاص الأجرة بقدر ما نقص من الانتفاع مع التعويض في الحالين إن كان له مقتض، (المادة 570) وكل ذلك دون إخلال بحقه في طلب التنفيذ العيني وفقًا لما يقضي به القانون.
وفيما عدا ما تقدم، فإنه يسري على الالتزام بتسليم المأجور ما يسري على الالتزام بتسليم المبيع من أحكام (المادة 571). وعلى الأخص ما يتعلق منها بزمان التسليم ومكانه وتحديد المأجور وملحقاته والعجز والزيادة فيه، وكل هذه أحكام مستوحاة من القانون المصري والقوانين التي أخذت عنه.
أما عن التزام المؤجر بتعهد المأجور بالصيانة، فيُلاحظ بادئ ذي بدء أنه في الفقه الحنفي - وفي المجلة أيضًا - لا يلتزم المؤجر إلا بترك المستأجر ينتفع بالمأجور مدة الإجارة، وليس للمستأجر أن يلزمه بإجراء أي إصلاح فيه وقت بدء الإجارة ولا في أثناء سريانها، لأن الإنسان لا يُجبر على إصلاح ملكه ولا على إزالة العيب عنه، فالتزام المؤجر فيما يتعلق بانتفاع المستأجر بالمأجور، التزام سلبي بحت.
ولكن التقنينات العربية جميعها، حتى تلك التي لم تلزم المؤجر بتسليم المأجور إلا بالحالة التي يكون عليها وقت العقد، كالتقنين العراقي، (قارن المادتين 742 و750 منه) تلزم المؤجر بتعهد المأجور بالصيانة طوال مدة الإيجار، وكذلك فعل قانون إيجار العقارات الحالي فألزم المؤجر بتعهد العين المؤجرة بالصيانة وبالقيام في أثناء الإجارة بالترميمات الضرورية (المادة 8 فقرة أولى)، وقد ساير المشروع هذا النظر، فألزم المؤجر بتعهد المأجور بالصيانة حتى بعد تسليمه إلى المستأجر، ويستمر التزامه بذلك طوال سريان مدة الإيجار، حتى يظل المأجور في حالة يصلح معها للانتفاع به المقصود (المادة 572 من المشروع) - وعلى ذلك يلتزم المؤجر بتجصيص الأسطح وبإصلاح المصعد أو السلم، وبنزح المراحيض وبإجراء الإصلاحات الهامة (الكبيرة) في دورات المياه وأجهزة الكهرباء والتكييف ومواسير المياه وبكل ما يقضي العرف بجعله على المؤجر ما دامت حاجة المأجور إلى هذه الإصلاحات أو الترميمات غير راجعة إلى فعل المستأجر أو أحد من ذويه، كما يلحق بهذه الإصلاحات تكاليف المأجور من رسوم أو ضرائب، - كرسم السيارة المؤجرة - وغير ذلك مما لا ينص القانون على تحمل المستأجر به.
ولكن المؤجر لا يلتزم بثمن المياه والكهرباء التي يستهلكها المستأجر ولا بنفقات تشغيل الشيء المأجور - كثمن البنزين والزيت وأجرة التشحيم كما لا يلتزم بعمل التصليحات التي لا تكون ضرورية للانتفاع بالمأجور فهو لا يلتزم مثلاً بأعمال الزخرفة والتجميل ولا بإجراء الإصلاحات العادية التي يقتضيها استعمال المأجور استعمالاً مألوفًا.
ومع ذلك فهذه الأحكام ليست من النظام العام ويجوز الاتفاق على خلافها.
فإذا لم يقم المؤجر بالتزامه من إجراء الإصلاحات والترميمات الضرورية إعمالاً لما تقضي به المادتان (570 و572) يكون للمستأجر أن يطلب إما التنفيذ العيني، وإما فسخ الإيجار أو إنقاص الأجرة على حسب الأحوال، مع التعويض إن كان له مقتض، ولكن بشرط أن يقوم أولاً بإعذار المؤجر.
فطبقًا للقواعد العامة يجوز للمستأجر أن يلجأ إلى القضاء لمطالبة المؤجر بإجراء الإصلاحات أو الترميمات الضرورية التي تقع على عاتقه، ويحكم القضاء بإلزام المؤجر بإجراء هذه الإصلاحات ويحدد له ميعادًا للقيام بها، ولكن طبقًا للمادة (573) من المشروع يجوز للمستأجر عند إخلال المؤجر بالتزامه بإجراء الإصلاحات أن يحصل على إذن من القضاء بإجرائها بنفسه وفي استيفاء ما أنفقه خصمًا من الأجرة كما يجوز له، دون حاجة إلى هذا الإذن، أن يقوم بإجراء هذه الإصلاحات بنفسه على أن يستوفي ما ينفقه خصمًا من الأجرة، وذلك بعد إعذار المؤجر طبقًا للقواعد العامة، بشرط أن تكون الإصلاحات بسيطة لا تبرر اللجوء إلى القضاء، أو مستعجلة لا تحتمل الإبطاء حتى ولا الالتجاء إلى القضاء المستعجل. ويستوي أن تكون الحاجة إلى الإصلاح قائمة وقت بدء الانتفاع أو طرأت بعد ذلك بغير خطأ من المستأجر.
وغني عن البيان أن المستأجر إذا أجرى الإصلاح بغير ترخيص من القضاء فإنما يقوم بذلك على مسؤوليته، وللقضاء أن يستوثق بعد ذلك - إذا رفع المؤجر إليه الأمر - من توافر الشروط السابقة حتى يقر خصم النفقات من الأجرة.
كذلك يجوز للمستأجر أن يطلب فسخ الإيجار - بدلاً من التنفيذ العيني - إذا كان حرمانه من الانتفاع بالمأجور بسبب حاجته إلى الإصلاح، حرمانًا جسيمًا يبرر الفسخ، ويخضع هذا الطلب لتقدير القضاء، فله أن يجيب المستأجر إلى الفسخ أو أن يمهل المؤجر ليقوم بالإصلاح.
وأخيرًا يجوز للمستأجر أن يطلب من القضاء إنقاص الأجرة - بدلاً من التنفيذ العيني ومن الفسخ - وذلك على أساس أن نقص الانتفاع بالمأجور بسبب عدم إجراء الإصلاحات، يقابله نقص مناسب في الأجرة، وللقضاء أن يجيبه إلى طلبه إن كان ثمة مبرر لذلك.
وسواء اختار المستأجر التنفيذ العيني أو الفسخ أو إنقاص الأجرة، فإن له الحق في جميع الأحوال أن يطلب تعويضه عما أصابه من ضرر في شخصه أو ماله وكذلك تعويضه عن الضرر الذي أصابه بسبب نقص الانتفاع بالمأجور سواء كان هناك خطأ في جانب المؤجر أو كانت الحاجة إلى الإصلاح أو الترميم ناشئة عن سبب أجنبي.
وهناك نوع آخر من الإصلاحات أو الترميمات الضرورية عرض له المشروع في المادة (574) وهي الإصلاحات اللازمة، لا للانتفاع بالمأجور بل لحفظه من الهلاك وهذه تكون على المؤجر ولكنها أيضًا من حقه، ولذلك فلا يجوز للمستأجر أن يمنعه من إجرائها ولو أخلت بانتفاعه، لأن حفظ المأجور من الهلاك مقدم على انتفاع المستأجر به. ولكن يشترط في هذه الإصلاحات أن تكون ضرورية لحفظ المأجور، فإن لم تكن، بأن كانت لإدخال تحسينات أو زيادات على المأجور أو كانت لإعداده لمستأجر آخر يخلف المستأجر بعد انتهاء عقده، فإنه لا يكون للمؤجر حق في إجرائها إلا إذا اشترط هذا الحق على المستأجر أو حصل على إذن منه بإجرائها، أما إذا كانت هذه الإصلاحات ضرورية لحفظ المأجور فإنه يكون للمأجور الحق في القيام بها ولو عارض المستأجر بل حتى لو اقتضى الأمر تخليه عن المأجور المدة اللازمة للقيام بها.
ويشترط أيضًا في هذه الإصلاحات أن تكون مستعجلة وعبء إثبات استعجالها يقع على المؤجر، فإذا لم تكن كذلك، وكان من الممكن إرجاؤها حتى تنتهي مدة الإيجار - لم يكن للمؤجر حق في إجرائها إذا عارض المستأجر، بل يجب أن يتربص حتى ينتهي الإيجار ليقوم بها، ويجب على المؤجر أن يخطر المستأجر بعزمه على إجراء الإصلاحات قبل بدئها بمدة مناسبة حسب حالة الاستعجال، حتى يأخذ المستأجر أهبته لذلك، كما يجب على المؤجر أن يبذل العناية الواجبة في القيام بهذه الإصلاحات فيختار أيسر السبل لإجرائها حتى لا يُجشم المستأجر إلا أقل ضرر ممكن، وحتى لا يستغرق إلا المدة اللازمة لإجرائها دون إبطاء، فإذا ترتب على قيام المؤجر بهذه الإصلاحات إخلال كلي أو إخلال جسيم بالانتفاع بالمأجور، جاز للمستأجر أن يطلب فسخ الإيجار، أما إذا ترتب على إجراء الإصلاحات إخلال جزئي غير جسيم بالانتفاع بالمأجور فإنه يكون للمستأجر أن يطلب إنقاص الأجرة أثناء مدة الإصلاح وذلك بنسبة النقص في الانتفاع.
وغني عن البيان أنه لا يجوز للمستأجر أن يفسخ الإيجار بنفسه أو أن ينقص الأجرة دون حكم أو اتفاق مع المؤجر ولكن حق المستأجر في فسخ الإيجار يسقط إذا ظل محتفظًا بالمأجور حتى تمام الإصلاحات. وعندئذٍ لا يكون له إلا طلب إنقاص الأجرة. ومع ذلك فإنه يجوز الاتفاق على خلاف هذه الأحكام، كأن يشترط المؤجر على المستأجر ألا يرجع عليه بشيء مهما طالت مدة الإصلاح.
وقد يهلك المأجور هلاكًا كليًا أو جزئيًا، سواء من جراء عدم القيام بالترميمات اللازمة لحفظ العين أو بخطأ من المؤجر أو المستأجر أو بقوة قاهرة، وفي الفقه الحنفي، إذا كان المأجور منقولاً وهلك، انفسخت الإجارة بهلاكه، ولكنهم اختلفوا في حكم هلاك العقار (الدار)، فذهب بعضهم إلى انفساخ الإجارة بهلاكه، وذهب رأي إلى بقاء الإجارة رغم هلاكه ولكن تسقط الأجرة فلا يلتزم المستأجر بدفعها، لعدم تمكنه من الانتفاع بالمأجور، وهو شرط لوجوب الأجرة (قارن المادة 478 من المجلة والمادة 697/ 1 من التقنين الأردني)، فإذا أعاد المؤجر بناء الدار، يجوز للمستأجر أن يسكنها في بقية المدة، وعند المالكية ينفسخ عقد الإيجار بتلف العين المتعلقة بها المنفعة المطلوبة، بحيث لا يمكن للمستأجر أن يستوفيها، كما إذا استأجر شخص دارًا فانهدمت أو اكترى دابة فنفقت، والرأي كذلك عند الشافعية والحنابلة، ولكن الشافعية يشترطون للفسخ أن يكون التلف تامًا، أما إذا تلف بعض العين مع إمكان الانتفاع بما بقي منها، فإن الإجارة لا تنفسخ بذلك ويكون للمستأجر الخيار في هذه الحالة بين أن يسكن أو يخرج.
وقد فرق المشروع بين الهلاك الكلي والهلاك الجزئي للمأجور، ففي حالة الهلاك الكلي، ينفسخ العقد من تلقاء نفسه، إذا كان الهلاك راجعًا لسبب أجنبي لا يد لأحد المتعاقدين فيه (المادة 575/ 1).
أما في حالة الهلاك الجزئي – وكذلك إذا أصبح المأجور في حالة لا يصلح معها لاستيفاء المنفعة المقصودة كاملة – فإنه يكون للمستأجر، إذا لم يكن له يد في ذلك، أن يختار بين التنفيذ العيني وبين فسخ أو إنقاص الأجرة مع التعويض في جميع الأحوال إن كان له مقتض.
فيستطيع المستأجر طبقًا للمادة 575/ 2 من المشروع أن يطالب المؤجر بإصلاح المأجور وإعادته إلى أصله ليتمكن من الانتفاع به انتفاعًا كاملاً، وأن يحدد للمؤجر ميعادًا مناسبًا للقيام بذلك. ويستوي في ذلك أن يكون الهلاك الجزئي – أو الخلل في الانتفاع – بخطأ المؤجر أو بفعل الغير أو بقوة قاهرة – فإذا لم يقم المؤجر إلى أصله في الميعاد المحدد، الذي يخضع تقديره لرقابة القضاء، جاز للمستأجر أن يقوم بنفسه بإصلاح المأجور وإعادته إلى أصله وفقًا للأحكام الواردة في المادة (573) من المشروع.
ولكن يشترط في ذلك ألا تكون نفقات إعادة المأجور إلى أصله باهظة لا تتناسب مع الأجرة التي يتقاضاها المؤجر، وذلك إذا لم يكن الهلاك الجزئي أو الخلل في الانتفاع ناجمًا عن خطأ المؤجر، وإلا فعليه أن يصلح خطأه طبقًا للقواعد العامة، أما إذا لم يكن هناك خطأ في جانبه، فلا يصح إرهاقه بتحميله نفقات باهظة لا تتناسب مع الأجرة التي يتقاضاها، ولا يكون للمستأجر عندئذٍ إلا أن يطلب الفسخ أو إنقاص الأجرة.
ويجوز للمستأجر، إذا لم يختر التنفيذ العيني على الوجه المتقدم أن يطلب: إما فسخ الإيجار، إذا كان الهلاك الجزئي أو الخلل في الانتفاع جسيمًا بحيث يفوت عليه الانتفاع بالمأجور الانتفاع المقصود. وإما إنقاص الأجرة إذا كان الهلاك الجزئي أو الخلل في الانتفاع غير جسيم وإنما يؤثر في الانتفاع المأجور تأثيرًا لا يتمكن معه من استيفاء المنفعة المقصودة كاملة.
وعلى عكس الهلاك الكلي، لا ينفسخ الإيجار من تلقاء نفسه أو تنقص الأجرة بحكم القانون. بل يجب، إذا لم يحصل اتفاق بين المتعاقدين أن يصدر حكم بذلك. والمحكمة هي التي تقدر ما إذا كان هناك محل للفسخ أو إنه يُكتفى بإنقاص الأجرة.
وغني عن البيان أنه سواء انفسخ الإيجار من تلقاء نفسه – في حالة الهلاك الكلي – أو طلب المستأجر التنفيذ العيني أو الفسخ أو إنقاص الأجرة – في حالة الهلاك الجزئي – فإنه يكون له أيضًا الحق في طلب التعويض، ما لم يكن الهلاك أو التلف راجعًا إلى سبب لا يد للمؤجر فيه.
وتعرض المواد من (576 إلى 579) لأحكام ضمان التعرض.
وطبقًا للمجلة، يلتزم المؤجر بضمان تعرضه الشخصي، فلا يجوز له أن يأتي عملاً يؤدي إلى حرمان المستأجر من الانتفاع بالمأجور أو الإخلال بانتفاعه به، فيجب أن يبقى المأجور في حيازة المستأجر للانتفاع به طوال مدة الإيجار، مثلاً لو استأجر أحد مركبة لكذا مدة، أو على أن يذهب إلى المحل الفلاني، فله أن يستعمل المركبة الذكورة في ظرف تلك المدة أو إلى أن يصل ذلك المحل، وليس لصاحبها أن يستعملها في تلك الأثناء في أموره (المادة 583 من المجلة). والجزاء على الإخلال بهذا الالتزام، سقوط الأجر بقدر ما يترتب على التعرض من نقص في المنفعة، وكذلك إذا غُصب المأجور من المستأجر أثناء مدة الإيجار سقطت الأجرة مدة الغصب لزوال التسليم.
ويلاحظ أن المشروع سبق أن عرض لأحكام التعرض والاستحقاق في الفصل الخاص بالبيع، ولكنه عاد ووضع نصوصًا خاصة بذلك فيما يتعلق بالإيجار، لما له من خصائص يتميز بها عن البيع، مع اعتبار الأحكام الواردة في البيع هي الأصل الذي يُرجع إليه فيما لم يرد في شأنه نص خاص وبالقدر الذي يتفق مع طبيعة العقد.
وطبقًا لهذه النصوص يضمن المؤجر تعرضه الشخصي مطلقًا، كما يضمن تعرض الغير إذا كان مبنيًا على سبب قانوني، ولكنه لا يضمن التعرض المادي من الغير.
فالمؤجر يلتزم أولاً بعدم التعرض للمستأجر، في استيفائه المنفعة المعقودة عليها طوال مدة الإيجار، سواء كان التعرض ماديًا، أو كان مبنيًا على سبب قانوني، ويعتبر تعرضًا ماديًا يجب على المؤجر الامتناع عنه، أن يحدث في المأجور أو في ملحقاته تغييرًا يمنع من الانتفاع به أو يخل بالمنفعة المقصودة (الفقرة الأولى من المادة 576) وهي صورة خصها النص بالذكر تنويهًا بأهميتها.
والمؤجر يضمن للمستأجر أيضًا التعرض الصادر من أتباعه، (الفقرة الثانية من المادة 576)، والمقصود بأتباع المؤجر هنا، الأشخاص الذين تقوم بينهم وبين المؤجر صلة تكون هي التي مكنت لهم من التعرض للمستأجر فيعتبر من أتباع المؤجر خدمه ومستخدموه، وعماله وأهل بيته، وكل من يحل محله في مباشرة حقوقه أو تنفيذ التزاماته الناشئة من عقد الإيجار: كالمقاول والمهندس عند قيامهما بإجراء إصلاحات وترميمات لازمة للمأجور بتكليف من المؤجر. فإذا وقع من أحد هؤلاء تعرض للمستأجر، ولو كان تعرضًا ماديًا، اعتُبر هذا التعرض كأنه صادر من المؤجر نفسه، فيصبح مسؤولاً عنه ويجب عليه الضمان.
فإذا صدر تعرض مادي أو تعرض مبني على سبب قانوني من المؤجر للمستأجر، كان للمستأجر طبقًا للقواعد العامة أن يطلب بعد إعذار المؤجر، التنفيذ العيني، إذا كان ممكنًا، فيُقضى له بوقف التعرض، بل يجوز للمستأجر، حتى يدفع المؤجر إلى التنفيذ العيني أن يحبس الأجرة عنه إلى أن يقوم بوقف تعرضه، وللمستأجر بدلاً من طلب التنفيذ العيني أن يطلب فسخ الإيجار إذا اختل انتفاعه اختلالاً جسيمًا، أو أن يطلب إنقاص الأجرة إذا لم يكن اختلال الانتفاع بالجسامة التي تبرر الفسخ، وسواء طلب المستأجر التنفيذ العيني، أو الفسخ، أو إنقاص الأجرة، فإن له أن يطلب أيضًا التعويض عما أصابه من الضرر بسبب إخلال المؤجر بالتزامه.
وغني عن البيان أنه يجوز الاتفاق على تعديل هذه الأحكام بزيادة الضمان أو إنقاصه أو إعفاء المؤجر من المسؤولية في حدود ما يقضي به القانون.
أما تعرض الغير المبني على سبب قانوني، فيتحقق بادعاء الغير حقًا يتعارض مع حق المستأجر، يستوي في ذلك أن يكون الحق الذي يدعيه الغير حقًا عينيًا أو حقًا شخصيًا: كأن يدعي الغير أنه اشترى المأجور من المؤجر وأن الإيجار لا يسري في حقه. أو يدعي أنه أستأجر المأجور من نفس المؤجر وأنه مفضل في إيجاره على المستأجر الأول، أو يدعي على المأجور حقًا يتعارض مع حق المستأجر كحق انتفاع أو حق رهن حيازة أو حق ارتفاق، ويستوي في ذلك أيضًا أن يكون الحق الذي يدعيه الغير مستمدًا من المؤجر نفسه أو غير مستمد منه، وأن يكون سابقًا على عقد الإيجار أو تاليًا له. وفي هذا يختلف ضمان تعرض الغير في الإيجار عنه في البيع، فضمان تعرض الغير يتحقق في الإيجار إذ ادعى الغير حقًا ثبت له بعد الإيجار، ولو كان هذا الحق مستمدًا من غير المؤجر. أما في البيع فلا يتحقق ضمان البائع لتعرض الغير إذا ادعى هذا حقًا مستمدًا من غير البائع بعد عقد البيع.
فإذا حصل التعرض على الوجه المتقدم، وجب على المستأجر أن يبادر إلى إخطار المؤجر بذلك (المادة 577 فقرة أولى) حتى يتمكن من دفع التعرض في الوقت المناسب وإلا تحمل المستأجر مسؤولية عدم الأخطار طبقًا للقواعد العامة.
فإذا نجح المتعرض في تعرضه، رجع المستأجر على المؤجر بضمان الاستحقاق وجاز له - بحسب الأحوال - أن يطلب الفسخ أو إنقاص الأجرة مع التعويض إن كان له مقتض (المادة 577 فقرة ثانية)، ولكن المؤجر لا يضمن للمستأجر التعرض الصادر من الغير إلا إذا كان مبنيًا على سبب قانوني فما دام المتعرض لا يدعي حقًا على المأجور، فلا ضمان على المؤجر (المادة 578) ما لم يُتفق على غير ذلك - وللمستأجر أن يواجه الاعتداء بما خوله القانون من الوسائل، فيكون له أن يحمي حيازته ضد المتعرض بجميع دعاوى الحيازة (وضع اليد) إذا كان المأجور عقارًا.
ويكون له أن يرجع على المتعرض بالتعويض طبقًا لقواعد المسؤولية التقصيرية، كما يكون له أن يلجأ إلى القضاء الجنائي إذا انطوت أعمال المتعرض على جريمة يعاقب عليها القانون.
ومع ذلك إذا وقع تعرض مادي من الغير ولم يكن للمستأجر قِبل بدفعه، وكان هذا التعرض من الجسامة بحيث يحرم المستأجر من الانتفاع بالمأجور أو ينقص انتفاعه به إنقاصًا كبيرًا، جاز له - بحسب الأحوال - أن يطلب فسخ العقد أو إنقاص الأجرة (المادة 579). والحق الذي يعطيه هذا النص للمستأجر في طلب الفسخ أو إنقاص الأجرة لا يتأسس على ضمان التعرض، لأن المؤجر غير مسؤول عن التعرض المادي من الغير إلا إذا اشترط عليه المستأجر ذلك، وإنما يتأسس على تحمل المؤجر لتبعة حرمان المستأجر من الانتفاع بالمأجور، ويتمثل تحمله لهذه التبعة في حق المستأجر في طلب فسخ الإيجار أو إنقاص الأجرة، دون أن يكون له الحق في مطالبة المؤجر بالتعويض لأن التعويض جزاء للمسؤولية عن الضمان ولا محل لهذا الجزاء في تحمل تبعة حرمان المستأجر من الانتفاع بالمأجور، على أنه يشترط لتطبيق هذا النص أن يكون التعرض قد وقع، لا على المأجور ذاته، بل على انتفاع المستأجر به، كأن تقع حرب أو تقوم ثورة ترغم المستأجر على ترك المأجور وتحرمه من الانتفاع به. أما إذا كان التعرض قد وقع على المأجور ذاته، فأدى إلى هلاكه هلاكًا كليًا أو جزئيًا، فإنه تسري في هذه الحالة الأحكام المتعلقة بهلاك المأجور التي تضمنتها المادة (575) من المشروع.
ويعرض المشروع في المادة (580) لصورة مألوفة من صور تعرض الغير المبني على سبب قانوني، وهي التنازع بين المستأجرين لمأجور واحد، ذلك أنه إذا استأجر أكثر من شخص نفس المأجور ممن يملك حق تأجيره، وكانت مدة الإيجار واحدة أو بالقليل متداخلة، جاز أن يتعرض كل منهم للآخرين مستندًا إلى حق يتعارض مع حقوقهم، فإذا فضل أحدهم طبقًا للقاعدة الواردة في النص، كان لباقيهم أن يرجع بضمان الاستحقاق على المؤجر.
وقد عرضت المجلة لهذه الصورة في المادة (589) منها، وفضلت المستأجر السابق بإجارة لازمة، أما الإجازة اللاحقة (في التاريخ) فتكون غير نافذة وغير معتبرة، فلو أجر أحد مالاً له، عقارًا أو منقولاً على مدة معلومة ببدل معلومة إجارة لازمة. ثم أجر أيضًا المال تلك المدة نفسها مرة ثانية من غير المستأجر، فلا يطرأ خلل على الإجارة الأولى ولا تكون الإجارة الثانية نافذة لا في حق الآجر ولا المستأجر الأول، وفرع شراح المجلة على عدم نفاذ الإجارة الثانية في حق المستأجر الأول، أن تكون موقوفة بالنسبة له، فله إذا شاء أن يجيزها والأجرة تكون له، وإذا شاء فسخها وأبطلها، كما فرعوا على عدم نفاذها في حق الآجر، أنه إذا سقط حق المستأجر بانفساخ إجارته بالإقالة أو بغيرها، لا يلزم الآجر تسليم المأجور للمستأجر الثاني.
ولم تعرض التقنينات الأجنبية لهذه الصور (كما لم يعرض لها أيضًا كثير من التقنينات العربية: كالعراقي واللبناني والأردني والتونسي والمغربي) ولكن محكمة النقض الفرنسية، استقرت في أحكامها الحديثة على أن المفاضلة بين المستأجرين المتعاقبين، تكون على أساس الأسبقية في تاريخ عقد الإيجار. فمن كان من المستأجرين عقده أسبق في ثبوت التاريخ كان هو الذي يتقدم، حتى ولو سبقه مستأجر آخر في وضع يده. فبالرغم من اعتبار حق المستأجر حقًا شخصيًا، فإنه يسري في مواجهة الغير. سواء كان هذا الغير متلقيًا لملكية المأجور (م 1743 مدني فرنسي) أو كان مستأجرًا لاحقًا.
وقد وضع التقنين المصري قاعدة أخرى للمفاضلة بين المستأجرين المتنازعين، تخالف ما ورد في المجلة وما استقر عليه القضاء الفرنسي. فمن وضع يده أولاً دون غش، أو من سجل عقده أولاً (إذا كان المأجور عقارًا) وهو حسن النية، قبل أن يضع مستأجر آخر يده أو قبل أن يتجدد عقد إيجاره، يكون هو المفضل. وحذا كل من التقنين السوري (م 541)، والتقنين الليبي (م 572) والصومالي (م 535)، حذو التقنين المصري في ذلك وأقام التقنين السوداني التفضيل بين المستأجرين، على أساس الأسبقية في وضع اليد مع حسن النية، ثم على أساس الأسبقية في التعاقد (م 466)، كما أعطى التقنين الجزائري الأولوية لمن سبق من المستأجرين إلى وضع اليد بغير غش (م 585).
أما قانون إيجار العقارات الحالي - رقم (35) لسنة 1978 - فأخذ بقاعدة مماثلة للقاعدة التي وضعها التقنين المصري، فيفضل من وضع يده أولاً دون غش أو من أثبت تاريخ عقده وهو حسن النية، قبل أن يضع مستأجر آخر يده على العين المؤجرة (المادة 10 من القانون). ولما كان هذا القانون لا ينطبق إلا على العقارات (م 1)، فإن المفاضلة بين المستأجرين للمنقول تظل على أساس الأسبقية في التعاقد طبقًا لأحكام المجلة.
وقد وضع المشروع في ذلك قاعدة مقتضاها أنه إذا سبق أحد المستأجرين إلى وضع يده على المأجور وهو حسن النية، فإنه يكون حينئذٍ أولى بالتفضيل على غيره من المستأجرين ولو كانت عقودهم أسبق في التاريخ، وهو حكم يتفق مع القواعد العامة، لأن وضع المستأجر يده على المأجور، هو استيفاء لحقه كدائن شخصي للمؤجر. ومن معنى الاستيفاء للحق يجيء التفضيل. ولا يبقى للمستأجرين الآخرين، سوى الرجوع على المؤجر بالتعويض على أساس ضمان الاستحقاق.
والمقصود بحسن النية في وضع اليد أن يكون المستأجر وقت وضع يده على المأجور لا يعلم بوجود عقد سابق على عقد إيجاره، فإن كان يعلم بأن هناك مستأجرًا استأجر المأجور قبله، فإنه لا يكون حسن النية ولا يكون أولى بالتفضيل.
فإن لم يكن أحد المستأجرين قد وضع يده على المأجور بحسن نية فإن الأسبق منهم في التعاقد، هو الذي يفضل وهو نفس الحكم الذي يأخذ به التقنين السوداني.
وقد أغفل المشروع ما نص عليه القانون الكويتي (في الفقرة الأخيرة من المادة السادسة) وبعض القوانين الأخرى - من أنه إذا لم يوجد سبب لتفضيل أحد المستأجرين، فليس لهم فيما تعارضت فيه حقوقهم إلا طلب التعويض، لأن ذلك غير مقصود.
ويعرض المشروع في المادة (581) للأعمال الصادرة من السلطات العامة، والتي يترتب عليها حرمان المستأجر من انتفاعه بالمأجور أو الإخلال بالانتفاع به، والعمل الصادر من السلطة العامة قد يكون قرارًا من جهة الإدارة، كما هو الغالب، كقرار يصدر بنزع الملكية أو الاستيلاء المؤقت على العقار المأجور. أو قرار بمنع عرض فيلم سينمائي استأجرته إحدى دور العرض. ولكنه يجوز أيضًا أن يكون عملاً صادرًا من الهيئة التشريعية أو الهيئة القضائية، كقانون بتحديد الانتفاع بالمأجور (تحديد زراعة معينة)، أو حكم من القضاء بغلق المأجور أو سحب ترخيصه أو مصادرته، هذه الأعمال تعتبر من قبيل القوة القاهرة التي لا يكون المؤجر ملتزمًا بضمانها، ولكنه يتحمل تبعتها. فيكون للمستأجر تبعًا لجسامة الإخلال بالانتفاع أن يطلب فسخ الإيجار أو إنقاص الأجرة. والمحكمة هي التي تقدر هذه الجسامة، فلها أن تجيب المستأجر إلى طلب الفسخ أو تكتفي بإنقاص الأجرة، ولكن يشترط، في كل ذلك ألا يكون عمل السلطة ناجمًا عن عمل يعزى إلى المستأجر كما يشترط أن يكون هناك نقص كبير في الانتفاع، يسوغ الفسخ أو الإنقاص. أما إذا كان النقص في الانتفاع يسيرًا فإنه لا يكون ثمة مبرر لا للفسخ ولا لإنقاص الأجرة.
على أنه إذا كان عمل السلطة العامة قد صدر لسبب يكون المؤجر مسؤولاً عنه فإن المؤجر يكون ملتزمًا بالضمان، ويكون مسؤولاً ليس فحسب عن فسخ الإيجار أو إنقاص الأجرة، بل أيضًا عن التعويض إن كان له مقتض.
وكل هذا ما لم يتم الاتفاق بين المؤجر والمستأجر على غيره فيجوز أن يشترط المؤجر أن يكون مسؤولاً عن أي عمل يصدر من السلطات العامة، كما يجوز أن يشترط المؤجر على المستأجر عدم مسؤوليته عن هذه الأعمال أو التخفيف من مسؤوليته عنها.
وغني عن البيان أنه إذا كانت أعمال السلطة العامة قد صدرت مخالفة للقانون، ومن باب أولى إذا كانت من قبيل الأعمال المادية، فإنها تكون من قبيل التعرض المادي الذي لا يضمنه المؤجر، وتسري في شأنه أحكام المادة (578) من المشروع.
وتعرض المادتان (582 و583) من المشروع لضمان العيوب الخفية. وهو آخر التزام من الالتزامات الإيجابية التي قررها المشروع في ذمة المؤجر. ويلاحظ أنه في المجلة - وفي الفقه الحنفي أيضًا - يكون العيب موجبًا للخيار، إذا كان سببًا لفوات المنافع المقصودة بالكلية، أو الإخلال بها، أما النواقص التي لا تخل بالمنافع فليست موجبة للخيار في الإجارة (م 514) ولو أُنقصت العين، لأن المعقود عليه في الإيجار هو المنفعة لا العين. ويثبت الخيار للمستأجر، سواء كان العيب موجودًا وقت العقد أو طرأ بعد ذلك في مدة الإيجار (م 515) ولكن يجب لثبوت الخيار، إذا كان العيب موجودًا وقت القبض، ألا يعلم به المستأجر، فإذا علم به، وقبض مع ذلك المأجور كان راضيًا به وسقط خياره، ويترتب على العيب ثبوت الخيار للمستأجر، إن شاء استوفى المنفعة مع العيب وأعطى تمام الأجرة، وإن شاء فسخ الإجارة (م 516) وليس له المطالبة بإنقاص الأجرة، فإذا أزال المؤجر العيب الحادث قبل فسخ الإجارة لا يبقى للمستأجر حق الفسخ (م 517). وتفرق المجلة في الفسخ – مقننة في ذلك الفقه الحنفي – بين العيب الذي يخل بالمنفعة والعيب الذي يفوت المنافع المقصودة بالكلية، كانهدام الدار المؤجرة كلها. ففي الحالة الأولى، لا يجوز للمستأجر فسخ العقد إلا في حضور المؤجر " وإن فسخها في غيابه دون أن يخبره لم يعتبر فسخه وكراء المأجور يستمر كما كان ". وفي الحالة الثانية يكون له فسخها في غياب المؤجر (م 518)، ذلك أنه إذا فات الانتفاع بالمأجور بالكلية سقطت الأجرة (م 478)، والمقصود بالفسخ في حضور المؤجر – كما تفيد عبارة المادة (518) – هو مجرد إخطاره به، بحيث لا يترتب أثر الفسخ، إذا وقع في غيبة المؤجر، إلا منذ اتصاله بعلمه، لأنه يجب أن يلحق علم المؤجر بالفسخ حتى يكون على علم به، ولكن الفسخ في الحالتين لا حاجة فيه إلى رضاء المؤجر أو قضاء الحاكم.
أما قانون إيجار العقارات الحالي – رقم (35) لسنة 1978 – فلم ترد فيه نصوص تتعلق بأثر العيب على الإيجار، وإذا كانت المادة السابعة من هذا القانون تلزم المؤجر بتسليم العين المؤجر وملحقاتها، في حالة تصلح معها لأن تفي بما أُعدت له من المنفعة، غير أنها لم ترتب على إخلال المؤجر بهذا الالتزام سوى حق المستأجر في فسخ العقد أو التعويض إن كان له مقتض، متفقة في ذلك مع المجلة في أثر خيار العيب.
وطبقًا لنصوص المشروع، يلتزم المؤجر بضمان العيوب الخفية في المأجور – ولكن العيب الخفي في الإيجار لا يُشترط فيه أن يكون قديمًا، أي موجودًا وقت العقد كما في البيع، فالمؤجر يضمن العيب الحادث أيضًا أثناء تنفيذ العقد لأن عقد الإيجار عقد زمني مستمر، فإذا طرأ على المأجور عيب في مدة الإيجار ضمنه المؤجر. وفي ذلك يتفق المشروع مع الفقه الحنفي والمجلة.
ويقتصر الضمان على العيب المؤثر، ولكن بينما يُعتبر العيب مؤثرًا - وفقًا للمجلة والفقه الحنفي – متى فوت المنفعة المقصودة من الإيجار، أو أخل بها سواء كان الإخلال بالمنفعة كثيرًا أو قليلاً، فإن العيب لا يعتبر مؤثرًا طبقًا لنصوص المشروع إلا إذا حال دون الانتفاع بالمأجور أو انقص من هذا الانتفاع إنقاصًا كبيرًا (المادة 582/ 1) ويرجع في تقدير ذلك إلى قصد المتعاقدين كما هو مبين في العقد، وإلى طبيعة المأجور والغرض الذي أُجر من أجله، كما لا يُعتبر العيب مؤثرًا إذا جرى العرف على التسامح فيه، وكذلك يجب أن يكون العيب خفيًا، بأن يكون المستأجر غير عالم به وغير مستطيع أن يتبينه بنفسه، لو أنه فحص المأجور بما ينبغي من العناية، وهو يكون كذلك أيضًا إذا أثبت المستأجر أن المؤجر قد أكد له خلو المأجور من هذا العيب أو انه قد تعمد إخفاءه غشًا منه، أما إذا كان المستأجر عالمًا بالعيب وقت التعاقد، أو علم به وقت التسليم ولم يعترض فإن المؤجر لا يكون ضامنًا (المادة 582/ 2). فإذا ظهر بالمأجور عيب يتحقق معه الضمان، كان للمستأجر أن يطلب إما التنفيذ العيني، وإما فسخ الإيجار أو إنقاص الأجرة، مع التعويض في جميع الأحوال إن كان له مقتض، فيجوز للمستأجر أن يطلب إصلاح العيب، أو يقوم هو بإصلاحه على نفقة المؤجر، بترخيص من القضاء أو دون ترخيص وفقًا للأحكام المبينة بالمادة (573) من المشروع، ما لم يكن إصلاح العيب من شأنه أن يرهق المؤجر (المادة 583) كما إذا كان هذا الإصلاح يقتضي إعادة بناء المأجور من جديد أو القيام بأعمال تتكلف مصروفات باهظة لا تتناسب مع الأجرة التي يحصل عليها المؤجر.
وللمستأجر أن يطلب فسخ الإيجار، ويكون للمحكمة حق التقدير، فلها أن تجيب المستأجر إلى ذلك، إذا كان حرمان المستأجر من الانتفاع بسبب العيب على درجة من الجسامة تبرر الفسخ، ولها أن تكتفي بإنقاص الأجرة بما يقابل النقص في الانتفاع.
وسواء طلب المستأجر التنفيذ العيني أو الفسخ أو إنقاص الأجرة فإنه يكون له الحق أيضًا في التعويض عن الضرر الذي أصابه، سواء بسبب الحرمان من الانتفاع بالمأجور، أو بسبب العيب ذاته، وسواء كان المؤجر يعلم وجود العيب، أو لا يعلمه. فمجرد وجود العيب يعتبر إخلالاً بالالتزام بضمان العيب يوجب التعويض، ولو كان المؤجر حسن النية لا علم له بالعيب، وهو ما يأخذ به التقنين الفرنسي بنص صريح (م 1721 مدني فرنسي، وقارن المادة 687 أردني)، أما التقنين المصري (م 577) والتقنينات التي تابعته، فتلزم المؤجر بالتعويض ما لم يثبت أنه كان يجهل وجود العيب.
ولما كانت أحكام ضمان التعرض والعيب ليست من النظام العام، فإنه يجوز للمتعاقدين أن يتفقا على ما يخالفها بالتشديد أو بالتخفيف أو بالإعفاء ولكن شرط الإعفاء من الضمان أو التخفيف منه، يقع باطلاً طبقًا لنص المادة (584) من المشروع، إذا كان المؤجر قد تعمد إخفاء سبب الضمان غشًا منه، أما إذا كان المؤجر يعلم سبب الضمان ولكنه لم يتعمد إخفاءه عن المستأجر، واشترط عليه عدم الضمان أو تخفيف مسؤوليته عنه، فإن الشرط يكون صحيحًا.
ويلاحظ أن التقنين المصري قد ألحق بالعيب، حالة خلو المأجور من صفة كفل المؤجر للمستأجر وجودها فيه، كما فعل ذلك في البيع. وسايرته في ذلك التقنينات العربية الأخرى – فيما عدا التقنين الأردني – ولكن المشروع آثر الفصل بينهما أيضًا كما فعل في البيع (انظر المادة 498 من المشروع)، وأفرد لفوات الوصف نصًا خاصًا هو نص المادة (585) فالمؤجر يلتزم بتسليم المأجور بالوصف المتفق عليه في العقد، فإن فات هذا الوصف، كان للمستأجر أن يطلب الفسخ أو إنقاص الأجرة، وذلك دون إخلال بحقه في التعويض إن كان له مقتض.
2 – التزامات المستأجر:
عرض المشروع في المواد (586 إلى 598) لالتزامات المستأجر الرئيسية، وهي الالتزام بدفع الأجرة، والالتزام باستعمال المأجور بحسب ما أُعد له والالتزام بالمحافظة على المأجور، وأخيرًا الالتزام برده عند انتهاء الإيجار.
( أ ) أما الالتزام بدفع الأجرة فهو الالتزام الرئيسي الذي يواجهه المستأجر منذ البداية. والغالب أن ينص عقد الإيجار على المواعيد التي تدفع فيها الأجرة، كأن ينص على تعجيل الأجرة بأكملها أو على تأجيلها، أو على تقسيطها إلى أقساط تؤدى في أوقات معينة، فيلتزم المستأجر بهذه المواعيد، وإذا لم ينص عقد الإيجار على مواعيد دفع الأجرة اتبع العرف في تعيينها (المادة 586/ 1)، أما مكان دفع الأجرة فهو موطن المستأجر لأنه هو المدين بها، وليس هذا إلا تطبيقًا للقواعد العامة، فإذا وجد اتفاق أو عرف بغيره وجب اتباعه (المادة 586/ 2). وغني عن البيان أنه إذا لم يقم المستأجر بهذا الالتزام، فللمؤجر أن يلزمه القيام به طبقًا للقواعد العامة، وله في ذلك أما أن يطلب تنفيذ الالتزام عينًا، أو أن يفسخ الإيجار، مع طلب التعويض في الحالتين إن كان له محل.
وتنص المادة (587) من المشروع على أن الوفاء بالأجرة عن وحدة زمنية معينة يعتبر قرينة على الوفاء بالأجرة عن المدة السابقة، حتى يقوم الدليل على العكس، لأن المعتاد ألا يقبل المؤجر قبض قسط من الأجرة إلا إذا قبض القسط الذي قبله. وبفضل هذه القرينة لا يضطر المستأجر إلى الاحتفاظ بمخالصات الوفاء بالأجرة طوال المدة التي لا تسمع بعدها الدعوى، ويكفيه أن يحتفظ بالمخالصة الأخيرة، ولكنها قرينة قابلة لإثبات العكس، ويكون عبء هذا الإثبات على عاتق المؤجر.
هذا ولم يُلزم المشروع مستأجر العقار بأن يضع في العقار المأجور، منقولات تضمن الوفاء بالأجرة عن مدة معينة كما فعل القانون المصري في المادة (588)، وهو مسلك اتبعته غالبية القوانين العربية الأخرى (السوري والعراقي والسوداني والأردني واللبناني والتونسي والمغربي) غير أن المشروع آثر أن يعطي للمؤجر بمقتضي المادة (588) حق حبس المنقولات الموجودة في المأجور ولو لم تكن مملوكة للمستأجر، ما دامت مثقلة بامتياز المؤجر، كما أعطاه الحق في الممانعة في نقلها وفي استردادها إذا نُقلت رغم معارضته أو دون علمه، إلا إذا كان النقل أمرًا اقتضته حرفة المستأجر أو المألوف في شؤون الحياة أو كانت المنقولات التي تركت في المأجور تفي بضمان الأجرة وفاءً تامًا.
(ب) وتنص المادة (589) من المشروع على التزام المستأجر بأن يستعمل المأجور على النحو المتفق عليه، فإذا لم يكن هناك اتفاق التزم باستعماله بحسب ما أُعد له ووفقًا لما يقتضيه العرف، وفي ذلك يتفق المشروع مع الفقه الحنفي وأحكام المجلة (قارن المواد 426 و427 و527 من المجلة).
ويتفرع عن هذا الالتزام، أنه لا يجوز للمستأجر بغير إذن المؤجر أن يُحدث في المأجور تغييرًا ينشأ عنه ضرر للمؤجر (مادة 590 من المشروع) فإن فعل، كان ملزمًا بإعادة المأجور إلى الحالة التي كان عليها وبالتعويض إن كان له مقتض، كما يكون للمؤجر الحق في طلب فسخ الإيجار إن كان سمة مبرر لذلك، وكل هذا تطبيق محض للقواعد العامة. ويتفق نص المشروع مع الفقه الحنفي الذي لا يجيز للمستأجر أن يُحدث في المأجور تغييرًا بغير إذن المؤجر.
على أنه يجوز للمستأجر أن يضع في المأجور أجهزة أو تركيبات تكفل له الانتفاع المقصود، كتركيب أجهزة الهاتف والتبريد والاستقبال الإذاعي، وما إلى ذلك من الوسائل الحديثة التي شاع استعمالها، بشرط مراعاة الأصول السلمية في وضعها وذلك ما لم يكن في وضع هذه الأجهزة أو التركيبات إضرار بالمأجور أو إنقاص من قيمته. فإذا كان تدخل المؤجر لازمًا لإتمام شيء من ذلك، كان للمستأجر أن يقتضي منه هذا التدخل، على أن يتحمل بنفقاته (المادة 591 من المشروع).
(جـ) وتعرض المواد (592 - 594) لالتزام المستأجر بالمحافظة على المأجور، فتقتضي منه أن يبذل من العناية في استعماله وفي المحافظة عليه ما يبذله الشخص العادي، وتوجب عليه أن يخطر المؤجر بكل أمر يستوجب تدخله، كما تحمله بإجراء الإصلاحات البسيطة التي يقتضيها الاستعمال المألوف وإذا كانت المجلة لم تورد نصًا صريحًا يقرر هذا الالتزام، إلا أنه يستخلص ضمنًا من بعض نصوصها (قارن المواد 601 - 605) التي تُلزم المستأجر بالضمان إذا تلف المأجور أو طرأ على قيمته نقصان بتقصير منه في أمر المحافظة أو بتعديه، أو مخالفته لمأذونيته، ولكن المجلة لم تحدد قدر العناية المطلوبة من المستأجر في قيامه بهذا الالتزام.
فبالنسبة للعناية الواجبة في المحافظة على المأجور، حدد المشروع في المادة (592) هذه العناية بأنها عناية الشخص العادي، وليس هذا الحكم إلا تطبيقًا محضًا للقواعد العامة التي تقضي بأنه في الالتزام بعمل، إذا كان المطلوب من المدين هو أن يحافظ على الشيء أو أن يقوم بإدارته أو أن يتوخى الحيطة في تنفيذ التزامه، فإن المدين يكون قد وفى بالالتزام إذا بذل في تنفيذه من العناية كل ما يبذله الشخص العادي، ولو لم يتحقق الغرض المقصود (قارن المادة 209 من قانون التجارة الحالي) فالمعيار هنا موضوعي، والمطلوب من المستأجر هو عناية الشخص العادي، لا عنايته هو في شؤون نفسه والتزامه هذا هو التزام ببذل عناية، ومن ثم يكون قد وفى بالتزامه متى بذل العناية المطلوبة منه ولو لم يتحقق الغرض المقصود من هذه العناية، وهو سلامة المأجور.
ولا يلتزم المستأجر بعناية الشخص العادي في المحافظة على المأجور فحسب، بل يلتزم بهذه العناية أيضًا في استعماله فيجب عليه أن يستعمل المأجور استعمالاً مألوفًا، فإن استعمله استعمالاً غير مألوف، وترتب على ذلك هلاك المأجور أو تلفه أو أصابته بأي ضرر كان مسؤولاً عن تعويض المؤجر.
كذلك لا تقتصر مسؤولية المستأجر في المحافظة على المأجور وفي استعماله الاستعمال المألوف، على أفعاله الشخصية، بل تمتد أيضًا إلى أعمال تابعيه ويقصد بهم الأشخاص الذين تكون صلتهم بالمستأجر هي التي مكنت لهم من الإضرار بالمأجور، كأهل بيته وخدمه وعماله والمستأجرين من الباطن، فإذا أصاب المأجور تلف أو هلاك، وقع على المستأجر عبء الإثبات، فيكون عليه أن يثبت أنه بذل عناية الشخص العادي، بأن استعمل المأجور استعمالاً مألوفًا، وبأنه اتخذ الاحتياطات المعتادة في المحافظة عليه. فإن أثبت ذلك، يكون قد أثبت أنه نفذ التزامه في المحافظة على المأجور، فلا يكون مسؤولاً عما أصابه من تلف أو هلاك، أما إذا لم يستطع إثبات ذلك، أو أثبت المؤجر أن المستأجر لم يبذل عناية الشخص العادي بل قصر في اتخاذ الاحتياطات المعتادة، فإنه يبقى على المستأجر للتخلص من المسؤولية، أن يثبت أنه بالرغم من عدم بذله عناية الشخص العادي، فإن تلف المأجور أو هلاكه إنما يرجع إلى سبب أجنبي.
وفي سبيل العناية بالمحافظة على المأجور، أوجب المشروع في المادة (593) على المستأجر أن يبادر إلى إخطار المؤجر بكل ما يهدد سلامة المأجور مما لا يستطيع أن يعلمه من تلقاء نفسه كأن يحتاج المأجور إلى إصلاحات مستعجلة أو ينكشف فيه عيب، أو يقع عليه غصب، فإذا لم يقم المستأجر بهذا الواجب وأصيب المؤجر بضرر من جراء ذلك، كان المستأجر مسؤولاً عن تعويضه.
كذلك أوجب المشروع في المادة (594) على المستأجر إجراء الإصلاحات البسيطة - أو التأجيرية - التي يقتضيها استعمال المأجور استعمالاً مألوفًا، فهي تدخل في العناية الواجب بذلها في استعمال المأجور، فإذا كان المأجور منزلاً مثلاً: كان على المستأجر إصلاح النوافذ والأبواب وصنابير المياه والأقفال والمفاتيح والأجراس الكهربائية وغير ذلك من الإصلاحات البسيطة التي يقتضيها الاستعمال المألوف بالنسبة للمنازل - وإذا كان المأجور سيارة تحمل المستأجر بالإصلاحات البسيطة اللازمة لأبوابها وعجلاتها وأجهزتها الميكانيكية والكهربائية مما يقتضيه الاستعمال المألوف للسيارة. أما الإصلاحات الكبيرة لشيء مما تقدم فهي على المؤجر. ما لم يثبت أنها مترتبة على خطأ المستأجر أو أحد تابعيه.
(د) وتعرض المواد من (595 - 598) لالتزام المستأجر برد المأجور عند انتهاء الإيجار، وهي تقابل المواد (531 و591 - 595 و606) من المجلة، والمادة (23) من قانون إيجار العقارات رقم (35) لسنة 1978، مع ملاحظة ما يأتي:
1 – يضع المشروع في المادة (595) منه على عاتق المستأجر الالتزام برد المأجور وملحقاته عند انتهاء الإيجار، أما في المجلة فإن المستأجر لا يلتزم إلا برفع يده عن المأجور عند انقضاء الإجارة (م 591)، فلا يكون له بعد انقضائها أن يستعمل المأجور، لأن الثابت إلى غاية ينتهي عند وجود الغاية، ولكن المستأجر لا يلزمه رد المأجور وإعادته، بل يلزم الآجر أن يأخذه عند انقضاء الإجارة ولا يلزم المستأجر إلا تسليمه إياه (م 593 و594).
2 – طبقًا للقواعد العامة ولنصوص المشروع (المادة 597) يتحمل المستأجر مصروفات رد المأجور إن وجدت، وكل ذلك ما لم يقضِ الاتفاق أو العرف بغيره. أما في المجلة، فإن مصروفات رد المأجور تكون على المؤجر (م 595)، لأن المستأجر لا ينال منافع المأجور مجانًا فلا يلزمه أن يتحمل مؤونة الرد ومضرته، ففي الإجارة تجب مؤونة الرد على رب المال على عكس العارية، ففيها تجب مؤونة الرد على المستعير، هذا إذا كان الإخراج بإذن رب المال، أما إذا حصل الإخراج بغير إذنه فمؤونة الرد على الذي أخرجه مستعيرًا كان أو مستأجرًا (هندية).
3 – يبين المشروع أن المستأجر إذا أخل بالتزامه بالتسليم يجب عليه تعويض المؤجر عما يلحقه من ضرر وذلك دون إخلال بحق المؤجر في تسلم المأجور (المادة 595) وهو ما يتفق مع أحكام المجلة والفقه الحنفي فالمأجور عندهم يكون أمانة في يد المستأجر فإذا استمر في استعماله بعد انقضاء الإجارة دون إذن المؤجر يكون غاصبًا ويكون ضامنًا لتلف المأجور ولا تلزمه الأجرة، أما قانون إيجار العقارات الحالي، فيلزم المستأجر بأن يدفع عن المدة الزائدة تعويضًا يعادل ضعف الأجرة (م 23/ 1).
4 – يقرر المشروع أن على المستأجر أن يرد المأجور بالحالة التي تسلمه عليه إلا ما يكون قد أصاب المأجور من هلاك أو تلف بغير خطأ يسأل عنه المستأجر، وإذا كان تسليم المأجور قد تم دون بيان لحالته، افترض أن المستأجر قد تسلمه في حالة حسنة حتى يقوم الدليل على العكس (المادة 596 من المشروع) وقارن (المادة 23/ 2 و3 من قانون إيجار العقارات الحالي) أما المجلة فلم يرد فيها نص عن الحالة التي يجب أن يكون عليها المأجور عند تسليمه ومع ذلك فإنه يترتب على اعتبار المأجور أمانة في يد المستأجر أن يلتزم هذا الأخير برده بالحالة التي يكون عليها عند انقضاء الإجارة إلا إذا كان ما لحق المأجور من عيب أو تلف يرجع إلى تقصير المستأجر في حفظه أو تعديه عليه، أو مخالفة مأذونيته بشأنه.
5 – وفيما يتعلق بالزيادات التي يكون المستأجر قد أضافها إلى المأجور أثناء الإجارة، فعند الحنفية إذا أقام المستأجر في المأجور بناءً أو غرس أشجارًا، لزمه عند انقضاء مدة الإيجار أن يهدم البناء أو يقلع الأشجار وأن يسلم المأجور فراغًا من البناء والغرس ونحوهما لعدم نهايتها، فإذا كان في الإزالة ضرر بالمأجور كان للمؤجر إبقاء البناء أو الغرس مقابل دفع قيمته مستحقًا للهدم أو القلع دفعًا للضرر عنه أما إذا لم يكن في ذلك ضرر بالمأجور فلا يكون للمؤجر إبقاء البناء أو الغرس إلا برضاء المستأجر. ولكن المجلة تعطي الخيار للمؤجر في جميع الأحوال، فإن شاء قلع البناء والشجر، وإن شاء أبقاه وأعطي قيمته كثيرة كانت أو قليلة (م 531).
أما التقنينات العربية، فقد اختلفت في ذلك اختلافًا بينًا. فالتقنين الأردني يأخذ بأحكام الفقه الحنفي كاملة (المادة 70/ 1) وقانون إيجار العقارات الكويتي، يخير المستأجر بين ترك التحسينات أو إزالتها على نفقته دون إضرار بالعقار ما لم يكن هناك اتفاق يقضي بغير ذلك (م 23/ 4) فليس للمؤجر أن يطلب إبقاء ما زاده المستأجر إلا برضائه وليس للمستأجر إذا اختار إبقاء هذه التحسينات، أن يطلب من المؤجر عوضًا عنها.
ولكن غالبية هذه التقنينات تستقي أحكامها من المشروع الفرنسي الإيطالي (المادة 435)، فتفرق بوجه عام، بين ما إذا كانت هذه الزيادات قد أحدثها المستأجر بإذن المؤجر، أو على الأقل بعلمه، ودون معارضته، أو إحداثها بغير علمه أو رغم معارضته ففي الحالة الأولى، يستبقي المؤجر هذه الزيادات، ويلتزم بأن يرد للمستأجر أدنى القيمتين، ما أنفقه في هذه التحسينات أو ما زاد في قيمة العقار، وفي الحالة الثانية يجوز له أن يطلب إزالتها (إذا أثبت أنها لا تعود عليه بفائدة) وأن يطلب أيضًا تعويضًا عن الضرر الذي يصيب العقار من الإزالة، وله أن يحتفظ بها على أن يرد أدنى القيمتين المتقدمتين، ويجوز أن ينظره القاضي إلى أجل للوفاء بها (قارن المواد 592 مصري، 559 سوري، 591 ليبي، 483 سوداني، 583 لبناني، 553 صومالي، 504 جزائري).
أما التقنين العراقي فقد سلك مسلكًا وسطًا، وميز بين فروض ثلاثة:
الأول: استحداث الزيادات رغم معارضة المؤجر أو دون علمه فيلزم المستأجر بالإزالة إلا إذا كان ذلك يضر بالمأجور فيستبقي المؤجر ما استحدثه المستأجر بقيمته مستحقًا للقلع وفي هذا اتفقت أحكام التقنين العراقي مع أحكام الفقه الحنفي.
الثاني: استحداث الزيادات بعلم المؤجر ودون معارضته، فيرد المؤجر للمستأجر الأقل مما أنفقه أو ما زاد في قيمة المأجور، وهو ما يتفق مع أحكام المشروع الفرنسي الإيطالي والتقنينات العربية التي أخذت عنه.
الثالث: استحداث الزيادات بأمر المؤجر، فيرد المؤجر للمستأجر ما أنفقه بالقدر المعروف، أي بما لا يزيد على المألوف.
وقد آثر المشروع أن يأخذ في ذلك بأحكام الفقه الحنفي مع بعض التعديل فإذا أحدث المستأجر في المأجور بناءً أو غرسًا أو أية تحسينات أخرى تزيد في قيمته، كان له عند انقضاء الإيجار أن يتركها أو أن يزيلها على نفقته إذا لم يكن في ذلك إضرار بالمأجور فإن لم يقم المستأجر بإزالة هذه الزيادات فإن للمؤجر أن يطالبه بإزالتها، كما أن له أن يستبقيها بقيمتها مستحقة الإزالة، دون إخلال بحقه في التعويض عما تسببه الإزالة من ضرر إذا كانت الزيادات قد أضيفت بغير إذن منه وكل ذلك ما لم يوجد اتفاق يقضي بغيره (المادة 598 من المشروع).
ثالثًا: التنازل عن الإيجار والتأجير من الباطن:
لم تعرض المجلة أو الفقه الحنفي للتنازل عن الإيجار، ولكنهم عرضوا للتأجير من الباطن، فأجازوا للمستأجر أن يتصرف في منفعة العين المؤجرة معاوضة عن طريق الإجارة، أو تبرعًا عن طريق الإعارة، إذا كان المأجور مما لا يتفاوت استعماله والانتفاع به باختلاف الناس، حتى ولو شرط المؤجر أن يستعمل المستأجر المأجور بنفسه وأن ليس له إيجاره من غيره. لأن كل ما لم يختلف باختلاف المستعملين فالتقييد فيه لغو لأنه غير مقيد، فلو استأجر أحد دارًا على أن يسكنها كان له أن يسكن غيره فيها (المجلة 428)، لأن السكنى لا تتفاوت فيها الناس. ولكن كل ما اختلف باختلاف المستعملين يُعتبر فيه التقييد، فلو استكرى أحد دابة لركوبه ليس له أن يركبها غيره (المجلة 427) ومن استأجر ثيابًا على أن يلبسها بنفسه، فليس له أن يلبسها غيره.
والإجارة من الباطن تجوز عند الحنفية بمثل الأجرة الأصلية أو بأقل أو بأكثر، فإن كانت الأجرة الثانية من جنس الأجرة الأولى، فإن الزيادة لا تطيب للمستأجر ويتصدق بها إلا إذا كان قد زاد في المأجور زيادة، كما لو حفر في الدار بئرًا أو أصلح أبوابها أو شيئًا من حوائطها، وإن كانت الأجرة من خلاف جنس الأجرة الأولى طابت له الزيادة.
وقد اختلفت التقنينات الأجنبية في شأن التنازل عن الإيجار أو الإيجار من الباطن، فبعضها يجيزه ما لم يوجد شرط مانع (1717 فرنسي و419 مشروع فرنسي إيطالي) وبعضها لا يجيزه إلا بإذن المؤجر (549/ 1 ألماني) وبعض آخر يجيزه بشرط ألا ينتج منه ضرر للمؤجر (264/ 1 التزامات سويسري).
أما التقنينات العربية فتجيز غالبيتها التنازل والإيجار ما لم يقضِ الاتفاق (أو العرف) بغير ذلك (593 مصري، 560 سوري، 775 عراقي، 554 صومالي، 584 لبناني، 772 تونسي، 668 مغربي) وشذ بعض منها فمنع التنازل والإيجار إلا بموافقة المؤجر أو بإذنه (484 سوداني، 505 جزائري، 703 أردني)، وكذلك فعل قانون إيجار العقارات الكويتي الذي علق جواز التنازل والتأجير على إذن كتابي صريح من المؤجر (المادة 14).
ويقرر المشروع للمستأجر حق التنازل عن الإيجار والإيجار من الباطن، ما لم يوجد شرط يمنع من ذلك أو يتبين أن شخصية المستأجر كانت محل اعتبار عند التعاقد (مادة 599).
فإذا وجد الشرط المانع من التنازل فإنه يقتضي المنع من الإيجار من الباطن، وكذلك العكس (مادة 600 من الشروع) وهو حكم يبرره أن المتعاقدين لا يدركان عادةً ما بين التنازل والإيجار من الباطن من الفروق الدقيقة، ومع هذا فليس ثمة ما يمنع من ظهور نية في منع أحد العملين دون الآخر وقاضي الموضوع هو الذي يستظهر هذه النية دون معقب علية في ذلك.
ويعرض المشروع بعد ذلك لحكم التنازل عن الإيجار والإيجار من الباطن، ففي حالة التنازل عن الإيجار، يحل المتنازل له محل المستأجر الأصلي في جميع حقوقه والتزاماته الناشئة عن عقد الإيجار. ويكون للمؤجر أن يطالبه بجميع الالتزامات التي تقع على عاتق المستأجر الأصلي بطريق الدعوى المباشرة كما يكون للمتنازل له أن يطالب المؤجر، وبطريق الدعوى المباشرة أيضًا، بجميع حقوق المستأجر الأصلي، ومع ذلك يبقى المستأجر الأصلي ضامنًا للمتنازل له في تنفيذ التزاماته (مادة 601 من المشروع).
وفي حالة الإيجار من الباطن، تبقى العلاقة ما بين المؤجر والمستأجر الأصلي خاضعة لأحكام عقد الإيجار الأصلي المبرم بينهما، أما العلاقة بين المستأجر والمستأجر من الباطن، فتسري عليها أحكام عقد الإيجار من الباطن. ومع ذلك يكون المستأجر من الباطن ملزمًا بأن يؤدي للمؤجر مباشرة ما يكون ثابتًا في ذمته للمستأجر الأصلي وقت أن ينذره المؤجر، دون أن يكون للمستأجر من الباطن أن يتمسك قِبل المؤجر بما يكون قد عجله من الأجرة للمستأجر الأصلي ما لم يكن ذلك قد تم قبل الإنذار وبسند ثابت التاريخ (مادة 602 من المشروع).
وفي الحالتين - حالة التنازل وحالة التأجير - تبرأ ذمة المستأجر الأصلي قبل المؤجر، فيما يتعلق بضمانه للمتنازل له في حالة التنازل عن الإيجار وفيما يتعلق بما يفرضه عقد الإيجار الأصلي من التزامات في حالة الإيجار من الباطن، إذا صدر من المؤجر قبول صريح أو ضمني بالتنازل عن الإيجار أو بالإيجار من الباطن بعد حصول أيهما، ويعتبر قبولاً ضمنيًا استيفاء المؤجر الأجرة مباشرة من المتنازل له أو من المستأجر من الباطن دون أن يبدي أي تحفظ في شأن حقوقه قبل المستأجر الأصلي (مادة 603 من المشروع).
رابعًا: انتهاء الإيجار:
تعرض المواد من (604 إلى 606) لانتهاء الإيجار بانقضاء مدته، وللتجديد الضمني للإيجار هي تقابل المادة (19) من قانون إيجار العقارات رقم (35) لسنة 1978 مع ملاحظة ما يأتي:
1 - يميز المشروع بين تجديد الإيجار تجديدًا ضمنيًا وبين امتداد الإيجار فإذا كان الإيجار لمدة محددة وانقضت، انتهى الإيجار بانقضائها دون حاجة إلى تنبيه (مادة 604)، فإن بقي المستأجر مع ذلك منتفعًا بالمأجور دون رضاء المؤجر فإنه يكون مغتصبًا ويجوز الحكم عليه بالرد وبالتعويض، أما إن بقي المستأجر منتفعًا بالمأجور بعلم المؤجر ودون اعتراض منه، فإن هذا يكون تجديدًا للإيجار السابق أي إيجارًا جديدًا بشروط الإيجار الأول ولكن لمدة غير محددة تسري في شأن تحديدها أحكام المادة (567) من المشروع (مادة 605/ 1).
وإذا اشترط في الإيجار أنه لا ينتهي إلا بعد حصول التنبيه في ميعاد معين، فإن الإيجار ينتهي بحصول هذا التنبيه في الميعاد، فإذا لم يصدر هذا الإخطار في الميعاد، امتد الإيجار الأول إلى مدة أخرى ولا يُعتبر ذلك تجديدًا (مادة 604).
هذا ويلاحظ أن انتهاء الإيجار بانقضاء المدة، إنما يكون حيث لا يتعارض مع الأحكام الاستثنائية الواردة في بعض التشريعات والتي تقضي بامتداد الإيجار بحكم القانون بعد انقضاء مدته، ومن ثم يجب تطبيق هذه الأحكام الاستثنائية ما دامت سارية.
2 - وقد كان من مقتضى اعتبار التجديد الضمني إيجارًا جديدًا، ألا تنتقل إليه تأمينات الإيجار السابق من تلقاء نفسها - سواء كانت هذه التأمينات مقدمة من المستأجر أو مقدمة من الغير - بل كان لا بد في انتقالها من اتفاق جديد تطبيقًا للقواعد العامة. ولكن المشروع رأى الخروج على هذه القواعد فنص صراحةً في الفقرة الثانية من المادة (605) على انتقال التأمينات التي قدمها المستأجر ضمانًا للإيجار السابق إلى الإيجار الجديد، مع مراعاة القواعد المتعلقة بشهر الحقوق. ومن ثم فلا يشترط في انتقال الرهن الذي يكون المستأجر قد قدمه في الإيجار السابق ورقة رسمية جديدة، بل ينتقل هذا الرهن بسنده الأصلي إلى الإيجار الجديد، ولكن مع مراعاة قيده قيدًا جديدًا يأخذ مرتبته من وقت هذا القيد حتى لا يضر ذلك بحقوق الغير.
أما التأمينات المقدمة من غير المستأجر فلم يرَ المشروع الخروج فيها على القواعد العامة، ولذا فإنها لا تنتقل إلى الإيجار الجديد إلا برضاء من قدمها، سواء كانت هذه التأمينات شخصية أو عينية ومن ثم فإنه يشترط في انتقال الرهن الذي يكون الكفيل قد قدمه في الإيجار الأول ورقة رسمية جديدة غير ورقة الرهن السابق.
3 - اعتبر المشروع التنبيه بالإخلاء - سواء كان ضروريًا أو غير ضروري - قرينه على أن نية المتعاقد الذي وجه التنبيه لا تنصرف إلى التجديد الضمني، ولكنها قرينة قابلة لإثبات العكس بصريح نص المادة (606/ 1) إذ يجوز أن يكون من صدر عنه التنبيه قد عدل بعد ذلك، وانصرفت نيته في وضوح إلى التجديد الضمني، وقبل المتعاقد الآخر ذلك منه. وفي هذه الحالة ينعقد التجديد الضمني بالرغم من هذا الإخطار ويقع عبء إثبات ذلك على عاتق من يدعيه.
وقد يكون القصد من الإخطار أن المؤجر يقبل تجديد الإيجار على أن ترفع الأجرة إلى مبلغ معين يذكر في الإخطار، أو على أن تعدل بعض شروط العقد بطريقة توضح في الإخطار. فإذا سكت المستأجر وبقي منتفعًا بالمأجور بعد انقضاء مدة الإيجار، فإن سكوته يُعتبر رضاء وقبولاً للتجديد بالشروط الجديدة (مادة 606/ 2).
وتعرض المواد من (607 إلى 609) لأثر بيع المأجور على عقد الإيجار، ويلاحظ أنه في الفقه الحنفي وفي المجلة، لا أثر لبيع المأجور على عقد الإيجار بل إن حق المستأجر يكون عندهم مفضلاً باعتباره حقًا للغير يتعلق بالمبيع، فلو باع الآجر المأجور بدون أذن المستأجر، يكون البيع نافذًا بين البائع والمشتري فقط ولكنه لا يكون نافذًا في حق المستأجر ولا تنفسخ به الإجارة، أي أن البيع يكون موقوفًا على إجازة المستأجر، فإن أجازه نفذ في مواجهته وانقضت الإجارة، وإن لم يجزه ظل موقوفًا إلى حين انقضاء مدة الإجارة، وهو ما أخذ به التقنين الأردني في المادة (691).
أما قانون إيجار العقارات الحالي، فإن مقتضى القاعدة التي أوردتها المادة (16) منه، أنه إذا انتقلت ملكية العين المؤجرة إلى شخص آخر بأي تصرف قانوني ناقل لها، فإن الإيجار لا ينتهي لكنه يظل قائمًا وتنتقل الحقوق والالتزامات الناشئة عنه إلى المالك الجديد حتى ولو لم يكن للإيجار تاريخ ثابت قبل انتقال الملكية وكل ما يشترط لذلك هو أن يكون المستأجر شاغلاً للعين المؤجرة في تاريخ انتقال الملكية، ولكن الإيجار لا ينفذ في حق المالك الجديد إذا هو أثبت صوريته أو أثبت غشًا يبطله، وهذا الحكم ورد تطبيقًا للقواعد العامة التي طبقها القانون أيضًا في المادة (18) منه، على وفاء المستأجر معجلاً بالأجرة إلى المؤجر ومن مقتضاها أنه لا يجوز للمستأجر أن يتمسك (بما عجله من الأجرة قبل من انتقلت إليه الملكية إذ أثبت هذا أن المستأجر كان يعلم وقت الدفع بانتقال الملكية، أو كان من المفروض حتمًا أن يعلم بذلك، ومتى ثبت العلم الفعلي أو العلم الافتراضي كان دفع الأجرة عن المدة التي تلت العلم غير سارٍ في حق المالك الجديد الذي يحق له استيفاء الأجرة من المستأجر، ولهذا أن يرجع على المؤجر بما دفعه له طبقًا لقواعد الإثراء بلا سبب، أما إذا عجز المالك الجديد عن الإثبات فإن دفع الأجرة للمؤجر يكون قد تم صحيحًا ويستطيع المالك الجديد أن يرجع على المؤجر بما استوفاه من الأجرة عن المدة التالية للتصرف الناقل للملكية (المذكرة الإيضاحية للقانون).
ويلاحظ فيما يتعلق بنصوص المشروع ما يأتي:
1 - أن الإيجار لا يكون نافذًا في حق من انتقلت إليه ملكية المأجور ما لم يثبت أنه كان يعلم به أو كان له تاريخ ثابت سابق على السبب الذي ترتب عليه انتقال الملكية (مادة 607) ومع ذلك يجوز لمن انتقلت إليه الملكية أن يتمسك بعقد الإيجار حتى لو كان غير نافذ في حقه على هذا الوجه. فقد يكون له مصلحة في ذلك كأن يرى أن الإيجار بشروطه التي يتضمنها صفقة رابحة وأنه لن يجد مستأجرًا بشروط أفضل. وقد تكون المدة الباقية لانتهاء الإيجار أقل من مدة الإخطار الذي يتعين توجيهه للمستأجر حتى يرد المأجور.
2 - أنه يستوي أن يكون المأجور الذي انتقلت ملكيته عقارًا أو منقولاً.
3 - أنه لا عبرة بالسبب الذي تنتقل به ملكية المأجور، فيستوي أن تنتقل الملكية جبرًا، كما يقع في نزع ملكية العقار وفي التنفيذ بالحجز على المنقول، أو اختيارًا بأي تصرف مثل البيع أو المقايضة أو الهبة أو بأي سبب أخر كالشفعة، ولكن يشترط أن يكون من انتقلت إليه الملكية خلفًا خاصًا للمؤجر.
4 - حدد المشروع العلاقة ما بين المستأجر وبين كل من متلقي الملكية والمؤجر الأصلي سواء في حالة عدم نفاذ الإيجار في حق متلقي الملكية أو في حالة نفاذه في حقه: ففي الحالة الأولى، لا يجوز لمتلقي الملكية بالرغم من عدم نفاذ الإيجار في حقه أن يجبر المستأجر على رد المأجور دون إخطاره في الميعاد المبين بالمادة (567) أما المؤجر فإنه يلتزم بتعويض المستأجر عن حرمانه من الانتفاع بالمأجور فيما بقي من مدة الإيجار. ويكون للمستأجر أن يحبس المأجور ولا يرده حتى يستوفي هذا التعويض أو يحصل على تأمين كافٍ للوفاء به (مادة 608) سواء من المؤجر أو ممن انتقلت إليه الملكية ويكون لهذا الأخير أن يرجع على المؤجر بما دفعه للمستأجر وفقًا لقواعد الإثراء بلا سبب، أما في حالة بقاء الإيجار قائمًا سواء لنفاذه في حق الخلف أو لتمسك الخلف به رغم عدم نفاذه، فإن من انتقلت إليه الملكية يحل محل المؤجر في جميع ما يرتبه عقد الإيجار من حقوق والتزامات (مادة 609/ 1) ويلتزم المستأجر بسداد الأجرة إليه من وقت علمه بانتقال الملكية إليه، ويقع عبء إثبات العلم على الخلف الخاص فإذا أثبت أن المستأجر كان يعلم وقت الدفع بانتقال الملكية، أو كان من الفروض حتمًا أن يعلم ذلك، كان دفع الأجرة عن المدة التي تلت هذا العلم غير سارٍ في حقه (المادة 609/ 2)، وله أن يستوفي الأجرة مرة ثانية من المستأجر، ولهذا أن يرجع على المؤجر بما دفعه له طبقًا لقواعد الإثراء بلا سبب، أما إذا عجز متلقي الملكية عن الإثبات المتقدم، فإن دفع المستأجر الأجرة للمؤجر يكون صحيحًا ساريًا في حق متلقي الملكية، ولهذا أن يرجع على المؤجر بما استوفاه من المستأجر من وقت التصرف الناقل للملكية.
وغني عن البيان أن الأحكام المتقدمة تسري على ما عجله المستأجر دون غش أو تواطؤ مع المؤجر، من الأجرة عن مدة لاحقة، حتى لو كانت هذه المدة تالية للوقت الذي علم فيه بانتقال الملكية، ما دام تعجيل الأجرة كان سابقًا على هذا العلم.
وأخيرًا يعرض المشروع في المواد من (610 إلى 615) لانتهاء الإيجار بالعذر، وهو مبدأ مأخوذ عن الفقه الإسلامي. فقد أجاز الحنفية فسخ الإجارة بالعذر إذا استلزمت ضررًا ليس من مقتضى عقد الإجارة، إذ لا يجوز تحميل أحد العاقدين ضررًا لا يقتضيه العقد. فإذا كان باستيفاء المعقود عليه ضرر بالنفس أو المال، تنفسخ الإجارة، لأنه لما كانت المنافع - وهي المعقود عليه - غير مقبوضة (فصار العذر في الإجارة كالعيب قبل القبض في البيع، تنفسخ به، إذ المعنى يجمعها وهو عجز العاقد عن المضي في موجبه ألا يتحمل ضررًا زائدًا لم يستحق به). وإذا كان العذر ظاهرًا فسخت الإجارة بلا حكم حاكم، وإن كان غير ظاهر فلا تنفسخ إلا بحكم الحاكم أو برضاء الطرفين. وهذا الفقه قننته المجلة بالنص في المادة (443) منها على أنه (لو حدث عذر مانع لإجراء موجب العقد تنفسخ الإجارة) ومن أمثلة العذر الطارئ في الفقه الإسلامي أن يلحق المؤجر دين فادح لا يجد قضاءه إلا من ثمن العين المؤجرة فيكون هذا الدين عذرًا له يجيز فسخ الإجارة لأن في بقائها ضررًا يصيبه في نفسه وهو الحبس في دينه، أو أن يفلس المستأجر، فإذا استأجر شخص من آخر حانوتًا ليتجر فيه ثم أفلس، فإن له أن يفسخ الإجارة. وأما إذا كسدت سوق الحانوت فليس له أن يفسخ بذلك. ومن أمثلته أيضًا أن يغير المستأجر من حرفته أو ينتقل من التجارة إلى الزراعة أو أن يصاب مستأجر الأرض الزراعية بمرض يقعده عن زراعتها أو أن يترك الزراعة أصلاً، أو أن ينتقل المستأجر إلى بلدة أخرى والحاصل أن كل عذر لا يمكن معه استبقاء المعقود عليه إلا بضرر يلحقه في نفسه أو ماله يثبت له حق الفسخ). أما ابتغاء الربح فليس عذرًا يجيز فسخ الإجارة فلا يُعتبر العثور على حانوت أجرته أقل أو مساحته أوسع عذرًا للمستأجر يجيز له فسخ الإجارة، كما لا يُعتبر عذرًا للمؤجر أن يجد مستأجرًا بأجرة أعلى، كذلك لا يُعتبر انهدام الدار التي يسكنها المؤجر عذرًا يجيز له فسخ الإجارة ليسكن بدل المستأجر ولو كان لا يملك دارًا أخرى، لأنه لا ضرر عليه فوق ما التزمه بالعقد.
وقد أخذ التقنين المصري هذا المبدأ عن الفقه الإسلامي، فأجاز لكل من المتعاقدين أن يطلب إنهاء العقد - إذا كان محدد المدة - قبل انقضاء مدته، إذا جدت ظروف خطيرة غير متوقعة من شأنها أن تجعل تنفيذ الإيجار مرهقًا سواء تحقق الإرهاق من مبدأ تنفيذ العقد أو أثناء تنفيذه، على أن يراعي من يطلب إنهاء العقد مواعيد التنبيه بالإخلاء، وأن يعوض الطرف الأخر تعويضًا عادلاً تراعى فيه الظروف، فإذا كان المؤجر هو الذي يطلب الإنهاء فلا يجبر المستأجر على رد المأجور حتى يستوفي التعويض أو حتى يحصل على تأمين كافٍ (المادة 608 ومذكراتها الإيضاحية)، ونحت كثير من التقنيات العربية منحى التقنين المصري في الأخذ بهذا المبدأ (المواد 575 سوري و792 عراقي و607 ليبي و496 سوداني و710 أردني) ورأى المشروع بدوره أن يأخذ به، فأجاز في المادة (610) للمستأجر وللمؤجر على السواء إنهاء العقد قبل انقضاء مدته للعذر الطارئ، سواء كان المأجور عقارًا أو منقولاً، مع مراعاة ما يأتي:
1 - لم يشترط المشروع - كما اشترطت غالبية التقنينات الأخرى التي أخذت بهذا لمبدأ - أن يكون الإيجار محدد المدة، وذلك حتى لا يكون الطرف المرهق في الإيجار محدد المدة في حالة أفضل منه في الإيجار غير محدد المدة، وهو ما فعله التقنين الأردني أيضًا.
2 - لم يشترط المشروع، في الظروف التي تجد لأحد المتعاقدين بعد إبرام الإيجار، سوى أن تكون ظروفًا غير متوقعة، تجعل استمرار الإيجار مرهقًا له، ومن ثم يعتد بالعذر الطارئ حتى لو كان عذرًا شخصيًا مقصورًا على طرف العقد دون غيره من الناس ولا يشترط أن تكون هذه الظروف عامة، فيكفي أن يجعل العذر الطارئ تنفيذ الإيجار مرهقًا لا مستحيلاً. والإرهاق الذي يقع فيه أحد الطرفين معناه أن تقع به خسارة فادحة لو أنه استمر في تنفيذ الإيجار إلى نهاية مدته. ولكنه يجب أن تكون هذه الظروف غير متوقعة ولا يستطاع دفعها، فإن كانت متوقعة أو كان يمكن توقعها أو في الاستطاعة دفعها فلا يعتد بها كعذر طارئ، كل ذلك متروك تقديره لقاضي الموضوع بعد الموازنة بين مصالح طرفي العقد.
ولم يقتصر المشروع على تقرير المبدأ القاضي بانتهاء الإيجار بالعذر الطارئ على النحو السابق، بل عمد إلى إيراد تطبيقات تشريعية مختلفة لهذا المبدأ، فعرض في المواد التالية لجواز إنهاء الإيجار بسبب موت المستأجر وبسبب تغييره لمحل إقامته، أما إفلاس المستأجر فقد ترك المشروع حكمه لنصوص قانون التجارة.
موت المستأجر – والإجارة عند الأئمة الثلاثة لا تنفسخ بوفاة أحد المتعاقدين، كما لا تنفسخ بوفاتهما، لأنها عقد كالبيع لا ينفسخ بعد الانعقاد فيما لو توفي البائع أو المشتري أو الاثنان معًا، وعليه فإذا توفي المؤجر قام ورثته مقامه في أخذ الأجرة، كما يقوم ورثة المستأجر مقامه في استيفاء المنعة من المأجور.
أما عند الحنفية، فإن موت أحد المتعاقدين يوجب فسخ عقد الإجارة بشرط أن يكون عقد الإجارة لنفسه لا لغيره، ولم يرد في المجلة نص في هذا الشأن فكان يجب الحكم فيه طبقًا للمذهب الحنفي، ولكن قانون إيجار العقارات الحالي أورد نصًا (المادة 22) يقضي بأن الإيجار لا ينتهي بموت المؤجر ولا بموت المستأجر، وإن جاز في حالة وفاة المستأجر لورثته أن يطلبوا إنهاء العقد دون أن يشترط لذلك أي شرط.
وقد نص المشروع في المادة (611) على أن الإيجار لا ينتهي بموت المؤجر ولا بموت المستأجر، ولكنه في حالة موت المستأجر أجاز لورثته أن يطلبوا إنهاء العقد إذا أثبتوا أنه بسبب موت مورثهم أصبحت أعباء العقد أثقل من أن تتحملها مواردهم، أو أصبح الإيجار مجاوزًا حدود حاجتهم.
كما أجاز المشروع في المادة (612) لورثة المستأجر – وللمؤجر أيضًا – أن يطلبوا إنهاء العقد إذا لم يكن الإيجار معقودًا إلا بسبب حرفة المستأجر أو لاعتبارات أخرى تتعلق بشخصه، كما في المزارعة.
تغيير المستأجر محل إقامته:
وتغيير محل الإقامة من الأعذار التي تسوغ إنهاء الإيجار في الفقه الحنفي. ولكن المشروع يشترط لذلك أن يكون النقل قد اقتضاه عمل المستأجر حتى يكون عذرًا طارئًا، (مادة 613) وغني عن البيان أن هذا النص ليس من النظام العام، فيجوز الاتفاق على خلافه، وفي جميع الحالات التي يجوز فيها إنهاء الإيجار بالعذر الطارئ أوجب المشروع على من يطلب الإنهاء – أن يراعي ميعاد التنبيه المنصوص عليه في المادة (567) (مادة 614 من المشروع).
ومن ناحية أخرى، احتاط المشروع في حالة معينة لم يعتد فيها بالعذر، وهى حالة عدم تمكن المستأجر من الانتفاع بالمأجور انتفاعًا كاملاً، إذا كان ذلك راجعًا إلى خطئه أو إلى سبب يتعلق بشخصه، ففي هذه الحالة يبقى ملزمًا بالإيجار وبما يفرضه عليه العقد من التزامات، ما دام المؤجر قد وضع المأجور تحت تصرفه في حالة صالحه لاستيفاء المنفعة المقصودة. وهو ما يتفق مع أحكام الفقه الحنفي من أن الأجر يكون واجبًا بتمكن المستأجر من استيفاء المنفعة وإن لم يستوفها فعلاً، غير أنه يجب على المؤجر في هذه الحالة، أن يخصم من الأجرة قيمة ما اقتصده من نفقات بسبب عدم انتفاع المستأجر بالمأجور، وكذلك قيمة ما حققه من نفع إذا استعمل المأجور في أغراض أخرى (مادة 615 من المشروع).
الفرع الثاني – بعض أنواع الإيجار:
تهتم الدولة اهتمامًا بالغًا بزيادة الإنتاج الزراعي، وتحسينه، وحمايته من الآفات، وفي هذا السبيل لم تأل جهدًا في عمل الدراسات وتنفيذ المشروعات التي تحقق هذه الأغراض، كما انضمت إلى كثير من الاتفاقيات المتعلقة بالتنمية والاستثمار الزراعي، حتى أخذت المساحات المزروعة في الكويت تزداد عامًا بعد عام رغم ما يعترض هذه الزيادة من صعوبات.
وفي إطار هذه التوقعات، حرص المشروع على تنظيم طريقتين لاستغلال الأراضي الزراعية: الأولى: هي طريقة الإيجار العادي وتسري في شأنها في الأصل الأحكام العامة في عقد الإيجار، ولكن المشروع خصها ببعض الأحكام التي تتلاءم مع طبيعتها، والثانية: هي طريقة المزارعة، ولها خصائصها التي تتميز بها عن الإيجار العادي، وقد عني المشروع بإيراد النصوص التي تتضمن هذه الخصائص.
كذلك فإن للوقف نظامًا خاصًا روعيت فيه مصلحته، مما يبرر إفراد إيجاره بأحكام خاصة تكفل رعاية هذه المصلحة، ولا شك في أن أحكام الفقه الإسلامي هي الخليقة وحدها بأن تكون مرجعًا لتقنين هذه الأحكام لصدورها عن إدراك دقيق لحاجات الوقف وما ينبغي له من حماية.
لكل هذا رأى المشروع أن يختص هذه الأنواع من الإيجار بنصوص خاصة، لما لها من أهمية تبرر مثل هذا الإفراد.
أولاً: إيجار الأراضي الزراعية:
لم تفرد المجلة بابًا خاصًا لإيجار الأراضي الزراعية، وإنما اقتصرت على إيراد بعض نصوص متفرقة تتعلق بالصحة والفساد، وحكم انتهاء الإجارة قبل إدراك الزرع، ولكن الفقه الإسلامي عامة – والفقه الحنفي بوجه خاص – عرض بكثير من التفصيل لأحكام إيجار الأراضي الزراعية ضمن مباحث الإيجار.
وعندهم أن استئجار الأرض للزرع يكون صحيحًا إذا بين المستأجر ما يزرع أو لم يبين، وقال على أن يزرع فيها ما شاء، لأن ما يزرع في الأرض يتفاوت فلا بد من بيانه كيلا يفضي إلى المنازعة، فلو لم يبين ما يزرع فيها أو لم يقل على أن يزرع فيها ما يشاء فسدت الإجارة للجهالة، ولو زرعها بعد ذلك لا تعود صحيحة في القياس، وفي الاستحسان يجب المسمى وينقلب العقد صحيحًا (قارن المادتين 454 و524 من المجلة) ولا تصح إجارة الأرض المشغولة بالزراعة إلا إذا كانت تلك الزراعة بغير حق، حتى يصح قلعها وتسليم الأرض للمستأجر، أما إذا كانت بحق كأن كانت الأرض مستأجرة لشخص فزرعها ولم يحصد زرعها فإنه لا يصح إجارتها لآخر، ولكن يجوز تأجير الأرض المشغولة بالزرع إذا أدرك الزرع لأن صاحبه يؤمر بحصاده وتسليم الأرض، وكذلك يصح تأجيرها وهي مشغولة، إذا كان العقد مؤجلاً إلى زمن يدرك فيه الزرع أوان حصاده، وللمستأجر الشرب والطريق بغير نص، فله الانتفاع بالمساقي الموجودة في الأرض وسقيها منها وله الانتفاع بالطريق الموصلة إليها المملوكة للمؤجر وإن لم ينص عليها في العقد، وإذا استأجرها مدة تسع أن يزرعها مرتين، فإن له أن يزرعها مرتين وفي القنية استأجر أرضًا سنة على أن يزرع فيها ما شاء، فله أن يزرع زرعين ربيعًا وخريفًا.
وبمراعاة هذه الأحكام أورد المشروع في المواد من (616 إلى 625) بعض الأحكام الخاصة بإيجار الأراضي الزراعية تتعلق بالأدوات الزراعية التي توجد في الأرض، وبالسنة الزراعية، وبكيفية استغلال المستأجر للأرض والإصلاحات التي يقوم بها، ويتعذر انتفاع المستأجر بالأرض إما لتعذر تهيئتها للزراعة أو لهلاك الزرع وبحق المستأجر عند انتهاء الإيجار أن يبقى في الأرض حتى تنضج الغلة، وبواجبه في أن يسمح لخلفه بتهيئة الأرض وبذرها.
وقد بدأ المشروع بالنص في المادة (616) منه على سريان أحكام الإيجار على إيجار الأراضي الزراعية مع مراعاة أحكام المواد التالية، ما لم يوجد اتفاق أو عرف يخالفها، فالأصل هو أن تسري في شأن إيجار الأراضي الزراعية، الأحكام العامة في عقد الإيجار، ولكن المشروع خص إيجار هذه الأراضي ببعض الأحكام التي تتلاءم مع طبيعتها، ما لم يوجد اتفاق يخالف حكمًا منها، وإلى جانب هذه الأحكام يجب اتباع العرف الزراعي أيضًا، لأن له هنا أهمية خاصة، فهو كثيرًا ما يكمل الأحكام التي ينص عليها القانون بل كثيرًا ما ينسخها ويحل محلها إذا لم تكن من النصوص الآمرة.
وتعرض المادتان (617 و618) من المشروع لخصائص إيجار الأراضي الزراعية، فهذا الإيجار، وإن كان يشمل الشرب والطريق بغير نص - كما هو في الفقه الإسلامي، غير أنه لا يشمل الأدوات الموجودة في الأراضي، إلا إذا اتفق على ذلك، فإذا تناولها الإيجار التزم المستأجر أن يرعاها ويتعهدها بالصيانة بحسب المألوف في استعمالها (مادة 623).
أما مدة الإيجار، فتحسب بالسنين الزراعية، فإذا ذكر في العقد أن الإيجار قد عقد لسنة أو لعدة سنوات، كان المقصود من ذلك أنه عقد لدورة زراعية سنوية أو لعدة دورات (مادة 618)، ويتبع في ذلك العرف الزراعي، ولكن المهم أن تكون السنة الزراعية دورة زراعية كاملة وهي المدة التي تستغرقها الزراعة الشتوية والزراعة الصيفية، فإذا لم تحدد المدة، اعتُبر الإيجار منعقدًا للمدة الكافية لحصد محصول السنة، أي لسنة زراعية كاملة، مع مراعاة وجوب الإخطار في الميعاد المقرر لإنهاء الإيجار.
ويعرض المشروع في المادتين (619 و620) لتطبيق التزامات المستأجر والمؤجر فيما هو من خصائص الأرض الزراعية:
فالمستأجر - طبقًا للأحكام العامة في الإيجار - يلتزم بأن يستعمل المأجور على النحو المتفق عليه، فإن لم يكن هناك اتفاق، التزم بأن يستعمله بحسب ما أُعد له ووفقًا لما يقتضيه العرف (مادة 589 من المشروع)، كما لا يجوز له بدون إذن المؤجر أن يحدث في المأجور تغييرًا يضر به (مادة 590) فإذا كان المأجور أرضًا زراعية، واشترط عليه المؤجر نظامًا خاصًا في زراعة الأرض يكون المستأجر ملتزمًا باتباع هذا النظام أما إذا كان الاستعمال غير مبين في العقد، فإنه يلتزم طبقًا للمادة (619/ 1) بأن يستغل الأرض المؤجرة وفقًا لمقتضيات الاستغلال المألوف بحسب طبيعتها وما يجري عليه العرف الزراعي.
كذلك لا يجوز له أن يدخل على الطريقة المتبعة في استغلال الأرض، تغييرًا يبقى إلى ما بعد انتهاء الإيجار (مادة 619/ 2)، كأن يحولها وهي تستغل لزراعات الخضراوات إلى زراعة محصولات أخرى، فإذا أخل المستأجر بالتزامه، جاز للمؤجر طبقًا للقواعد العامة، أن يطالبه بالتنفيذ عينًا أو يطلب الفسخ، مع طلب التعويض في الحالين إن كان له مقتض.
وطبقًا للأحكام العامة في الإيجار كذلك، يلتزم المؤجر بتعهد المأجور بالصيانة ليبقى في حالة يصلح معها للانتفاع المقصود، فيقوم بالإصلاحات الضرورية لذلك (المادة 572)، أما الإصلاحات البسيطة التي يقتضيها استعمال المأجور استعمالاً مألوفًا فتكون على عاتق المستأجر (المادة 594) والإصلاحات التي يجوز أن تتطلبها الأراضي الزراعية هي بدورها، إما أن تكون إصلاحات بسيطة - أو تأجيرية - وهذه على المستأجر، وإما أن تكون إصلاحات كبيرة - أو غير تأجيرية - وهذه على المؤجر، وقد تكلفت المادة (620) من المشروع ببيان كل من النوعين: فالمستأجر يلتزم بالإصلاحات التي يقتضيها الانتفاع المألوف بالأرض المؤجرة، ومن ذلك أعمال الصيانة المعتادة للآبار ومجاري المياه والمباني المعدة لسكن العمال أو للاستغلال كزرابي المواشي والمخازن، وعمومًا كل ما يقتضيه الانتفاع المألوف كجز الحشائش ونزع الأعشاب الضارة، والترميمات البسيطة التي يقتضيها استعمال الأدوات الزراعية ...
أما الإصلاحات غير التأجيرية - أو الكبيرة - التي يتوقف عليها استيفاء المنفعة المقصودة، فيلتزم بها المؤجر، وكل هذا ما لم يقضِ الاتفاق أو العرف بغيره.
وتعرض المواد من (621 إلى 623) لحرمان المستأجر من الانتفاع بالأرض الزراعية لقوة قاهرة، إما لأنه لم يتمكن من تهيئة الأرض للزراعة أو لأن المحصول قد هلك قبل حصاده، كما تعرض لهلاك المحصول بعد ذلك:
وفي الفقه الإسلامي، يفرقون بوجه عام بين عدم تمكن المستأجر من زرع الأرض، وبين تلف الزرع بجائحة أو آفة، ففي الحالة الأولى لا يلزمه الأجر لأنه لم يتمكن من زرعها، أما في الحالة الثانية، فعند الحنفية أنه إذا أصاب الزرع آفة فهلك أو غرق وجب أجر ما قبل الإصابة وسقط ما بعدها، لكن هذا إذا بقي بعد هلاك الزرع مدة لا يتمكن من إعادة الزراعة، فإن يتمكن من إعادة المثل الأول أو دونه في الضرر يجب الأجر، وعند المالكية تلزم الأجرة بتمكن المستأجر من زرع الأرض ولو تلف الزرع بجائحة غير ناشئة من الأرض كتلفه بجراد أو جليد أو صقيع، لأنه لا دخل للأرض في تلفه فيستحق ربها أجرتها ولا تلزم الأجرة فيما إذا تلف الزرع بجائحة ناشئة من الأرض كتلفه بدودها أو فأرها أو عطشها لعدم نزول المطر عليها أو عدم وصول الماء لها أو نحو ذلك من آفات الأرض لأن تلفه راجع إلى الأرض فلا أجرة لها.
وقد أخذ المشروع بهذه التفرقة مع بعض التعديل، فإذا استحال على المستأجر تهيئة الأرض للزراعة أو بذرها، أو هلك البذر كله أو أكثره، وكان ذلك بسبب أجنبي لا يد له فيه، سقطت الأجرة عنه كلها أو بعضها بحسب الأحوال ما لم يوجد اتفاق يقضي بغير ذلك (مادة 621/ 1 من المشروع).
أما إذا تمكن المستأجر من تهيئة الأرض للزراعة ومن بذرها، ثم هلك الزرع كله قبل حصاده، بسبب أجنبي لا يد للمستأجر فيه، فإنه يجوز له أن يطلب إسقاط الأجرة كلها (مادة 621/ 2)، وإذا هلك بعض الزرع وترتب على هلاكه نقص كبير في ريع الأرض – ويترك تقدير ذلك لقاضي الموضوع – فإنه يكون للمستأجر أن يطلب إنقاص الأجرة بما يتناسب مع ما نقص من ريع الأرض (621/ 3).
وفي جميع الحالات لا يكون للمستأجر أن يطلب إسقاط الأجرة أو إنقاصها، إلا في حدود ما أصابه من ضرر (مادة 622) فإذا كان ما عاد عليه من ربح في مدة الإجارة كلها يعوضه عما أصابه من ضرر، أو إذا كان قد عوض عن ذلك من أي طريق آخر كالحصول على تعويض من الحكومة، فإنه لا يكون له أن يطلب إسقاط الأجرة أو إنقاصها.
وغني عن البيان، أن هلاك المحصول كله أو بعضه بعد حصاده – أي بعد استيفاء المستأجر لمنفعة الأرض – لا يسقط شيئًا من الأجرة في مقابل ما يهلك من المحصول، بل يتحمل المستأجر تبعة الهلاك، لأن المحصول هلك على ملكه بعد أن استوفى منفعة الأرض بالكامل، وكل ذلك ما لم يكن متفقًا على أن يكون للمؤجر جزء معلوم من المحصول، إذ يتحمل المؤجر عندئذٍ نصيبه فيما هلك، على ألا يكون الهلاك قد وقع بخطأ المستأجر أو بعد إعذاره بالتسليم (مادة 623).
ويعرض المشروع في المادة (624) لحالة انقضاء مدة الإيجار قبل أن يدرك الزرع أوان حصاده. وفي ذلك تنص المجلة في المادة (526) على أنه (لو انقضت مدة الإجارة قبل إدراك الزرع فللمستأجر أن يُبقي الزرع في الأرض إلى إدراكه ويعطي أجر المثل). وقد أخذ المشروع بهذا الحكم مع اشتراط أن يكون عدم إدراك الزرع راجعًا إلى سبب لا يد للمستأجر فيه. فإذا كان ذلك راجعًا إلى خطأ المستأجر، كأن يكون قد تأخر في الزرع كان هو المسؤول عن ذلك، أما إذا كان عدم إدراك الزرع لا يرجع إلى خطأ المستأجر، فإن الإيجار يمتد بحكم القانون ولكن للمدة اللازمة لإدراك الزرع أو أن حصاده، ويدفع المستأجر للمؤجر أجر المثل عن المدة التي بقي فيها الزرع بالأرض.
وطبقًا للمادة (625) من المشروع يلتزم المستأجر بتمكين المستأجر اللاحق له من تهيئة الأرض للزراعة ومن بذرها، وذلك حتى لو كانت مدة الإيجار السابق لم تنقضِ، بل حتى لو كان المستأجر السابق لم ينتهي من جني محصوله، فيترك المستأجر اللاحق يدخل في الأرض ليهيئها للزراعة ويبذرها، ما دام لا يعود عليه ضرر من ذلك وهو حكم يمليه التعاون الواجب بين المستأجر السابق للأراضي الزراعية والمستأجر اللاحق له.
ثانيًا: المزارعة:
المزارعة عقد على الشركة في الزرع، ولذلك عرضت المجلة لها في أحد أبواب كتاب الشركات (الباب الثامن من الكتاب العاشر).
وقد عرفها المشروع - وفقًا لتعريف الحنفية لها، بأنها عقد على زرع الأرض ببعض ما يخرج منها (مادة 626)، ثم أورد بعد ذلك الأحكام الخاصة بها مأخوذة بحسب الأصل من الفقه الحنفي وخصوصًا ما تعلق منها بمصروفات الزراعة وتوزيع الغلة بين المزارع وصاحب الأرض، فالأحكام التي تنظم المزارعة هي في الأصل أحكام الإيجار مع مراعاة الأحكام الخاصة التي وضعها المشروع في شأنها، إلا إذا وُجد اتفاق أو عرف يخالف هذه الأحكام، (مادة 627 من المشروع)، والأحكام الخاصة التي أوردها المشروع هي كالآتي:
1 - إذا لم تُحدد للمزارعة مدة، تكون مدتها هي تلك اللازمة لجمع المحصول المتفق عليه (مادة 628).
2 - تختص المزارعة - خلافًا لإيجار الأراضي الزراعية - بأنها تشمل الآلات والأدوات الزراعية التي توجد في الأرض وقت التعاقد، إذا كانت مملوكة لصاحب الأرض، فهي تدخل دون اتفاق ولا تخرج إلا باتفاق على خروجها، ويرجع ذلك إلى أن المزارعة شركة بين صاحب الأرض والمزارع وصاحب الأرض يكون شريكًا بالأرض وما عليها من آلات وأدوات (مادة 629).
3 - العناية المطلوبة من المزارع في زراعة الأرض هي العناية التي يبذلها الشخص العادي (مادة 630).
4 - ليس للمزارع أن يحل غيره في المزارعة أو يشركه فيها إلا برضاء صاحب الأرض (مادة 631)، وذلك على أساس أن شخصية المزارع ملحوظة في هذا العقد.
5 - أما مصروفات الزراعة، فإن الأصل فيها، طبقًا للفقه الحنفي، أن ما كان منها قبل القسمة يكون على الاشتراك بين المزارع وصاحب الأرض، وما كان منها بعد القسمة يكون على كل واحد في نصيبه خاصة لتميز ملك كل واحد منهما عن ملك الآخر. فإذا كانت الأرض والبقر (الماشية) لأحدهما والبذر والعمل للآخر بطلت المزارعة لأن رب البذر يصير مستأجرًا بالبذر وأنه لا يجوز لكون الانتفاع بالاستهلاك، أو يصير مستأجرًا للبقر مع الأرض ببعض الخارج وأنه لا يجوز لعدم التعامل وهو ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف أنه يجوز لما فيه من العادة، وكذلك قال بعض شيوخ المالكية الأندلسيين، أنه لا يشترط في صحة المزارعة سلامتها من كراء الأرض بما يخرج منها.
وفي ضوء ذلك قسم المشروع في المادة (632) نفقات الزراعة، على أساس أن ما يخدم المحصول يتحمله المزارع، وأن ما يخدم الأرض ذاتها يكون على صاحب الأرض، ويتحمل الطرفان - كل بنسبة حصته في الغلة - نفقات البذر والتسميد وثمن المبيدات ومصروفات الحصاد وما يتلوه حتى القسمة لأنه في صالحهما معًا، وهو ما أخذ به أيضًا التقنين الأردني في المادة (730) منه.
6 - وتوزع الغلة بين الطرفين على أساس وجود الشركة بالنسبة المتفق عليها أو بالنسبة التي يعينها العرف، فإذا لم يوجد اتفاق ولا عرف كان لكل منهما نصف الغلة (مادة 633/ 1)، وحصة كل من الطرفين يجب أن تكون جزءًا شائعًا من الحاصلات، وهذا شرط من شروط صحة المزارعة في الفقه الحنفي، فلا يجوز الاتفاق على أن تكون حصة أحد الطرفين مقدارًا محددًا من المحصول، أو محصول جزء معين من الأرض (مادة 633/ 2)، لاحتمال ألا يخرج إلا هذا المقدار المحدد، أو ألا يخرج إلا من هذه الأرض المعينة فيؤدي ذلك إلى قطع الشركة، وبناءً على ذلك، فإنه إذا هلكت الغلة كلها أو بعضها بسبب أجنبي لا يد لأحد الطرفين فيه، هلكت عليهما معًا ولا يرجع أحد منهما على الآخر (مادة 634).
7 - وتعرض النصوص الباقية (635 - 638) لانتهاء عقد المزارعة، على أساس أن شخصية المزارع ملحوظة في هذا العقد، فهي تنتهي بانقضاء مدتها، وبعجز المزارع عن زراعة الأرض، كما تنتهي بموته، ولكنها لا تنتهي بموت صاحب الأرض.
فإذا انتهت المزارعة بانقضاء مدتها، قبل أن يدرك الزرع أوان حصاده، يبقى الزرع حتى يتم إدراكه (مادة 635).
وإذا عجز المزارع عن زراعة الأرض لمرضه أو لأي سبب آخر يقعده عن زراعتها، فلا يحل محله إلا أحد من أفراد أسرته، إذا كان ذلك مستطاعًا بحيث يتحقق استغلال الأرض استغلالاً مرضيًا. فإن لم يكن ذلك مستطاعًا، جاز لكل من الطرفين فسخ العقد (مادة 636).
أما إذا مات المزارع، فإن الأصل أن المزارعة تنتهي بموته (مادة 637) إلا إذا رغب الورثة في الحلول محله كما سيجيئ.
وفي جميع الأحوال التي تنتهي فيها المزارعة قبل انقضاء مدتها يجب على صاحب الأرض أن يرد للمزارع أو لورثته ما أنفقه المزارع على الزرع الذي لم يدرك مع تعويض يعادل أجر المثل عن عمله، على ألا يجاوز جميع ذلك قيمة حصة المزارع من المحصول، ومع ذلك إذا انتهت المزارعة بموت المزارع، فإنه يكون لورثته الخيار بين تقاضي ما تقدم ذكره، أو الحلول محل مورثهم في العمل حتى يدرك الزرع ما داموا يستطيعون القيام بذلك على الوجه المرضي (مادة 638) وكل هذه الأحكام تتفق مع ما يقول به الفقه الحنفي.
ثالثًا: إيجار الوقف:
عرض المشروع لإيجار الوقف في عشر مواد، أخذها - كما فعل التقنين المصري - عن الفقه الإسلامي، (مرشد الحيران)، وهو مصدر النظام القانوني للوقف وما يتعلق به من أصل وإدارة، ولا يوجد لهذه النصوص مقابل في المجلة فهي لم تعرض لإيجار الوقف على أهميته العملية، فترك الأمر للمحاكم تقضي فيه طبقًا لمذهب الأمام مالك، على ما أشارت إليه المذكرة التفسيرية لقانون تنظيم القضاء وما ورد في الأمر السامي الصادر في 29 جماد الثاني 1370هـ (5 إبريل 1951م)، بتطبيق أحكام شرعية خاصة بالأوقاف.
وتعرض النصوص التي أوردها المشروع في شأن إيجار الوقف للمسائل الآتية: من له الحق في إيجار الوقف. ومن له الحق في استئجاره، وكيف تحدد أجرة الوقف، ومدة إيجاره.
1 - فللناظر وحده ولاية إيجار الوقف، أما الموقوف عليه فلا يملك الإيجار ولو انحصر فيه الاستحقاق إلا إذا أذن له في ذلك الواقف أو الناظر أو القاضي (مادة 639) كذلك فإن الناظر هو الذي يقبض الأجرة، إلا إذا أذن لغيره في قبضها (مادة 640)، والإيجار لا ينتهي بموت الناظر ولا بعزله، بل يسري إيجاره الصحيح على الناظر الذي يأتي بعده (مادة 647).
ولا يجوز للناظر أن يستأجر الوقف ولو بأجر المثل، كما لا يجوز له أن يؤجره لزوجه أو لأحد من أصوله أو فروعه (مادة 641).
3 - وأجرة الوقف يجب ألا يكون فيها غبن فاحش، فلا يجوز أن تقل عن أربعة أخماس أجرة المثل، إلا إذا كان المؤجر هو المستحق الوحيد الذي له ولاية التصرف في الوقف، فيجوز إجارته بالغبن الفاحش في حق نفسه لا في حق من يليه من المستحقين، والعبرة في تقدير أجر المثل بالوقت الذي أُبرم فيه عقد الإيجار ولا يعتد بالتغيير الحاصل بعد ذلك (المادتان 642 و643). وإذا أجر الناظر الوقف بالغبن الفاحش سرت في ذلك الأحكام العامة المتعلقة بالغبن (المواد 163 وما بعدها).
4 - أما مدة الإيجار، فيراعى فيها شرط الوقف، فإن عين مدة وجب التقيد بها، إلا إذا كان الناظر مأذونًا بالتأجير بما هو أنفع للوقف، فإذا لم يوجد من يرغب في استئجار الوقف المدة التي عينها الواقف أو كانت الإجارة لأكثر من تلك المدة أنفع للوقف، جاز للناظر - بعد استئذان القاضي - أن يؤجر لمدة أطول (مادة 644) وكل هذا قدر متفق عليه عند الأئمة الأربعة.
وإذا لم يعين الواقف مدة الإيجار، فالمباني لا يزيد إيجارها عن سنة والأراضي لا يزيد إيجارها على ثلاث سنين، إلا إذا قدر الناظر أن المصلحة تقتضي الزيادة في إيجار المباني أو النقص في إيجار الأرض (مادة 645)، وفي كل حال يجب ألا تزيد مدة الإيجار على ثلاث سنين ولو تم ذلك بعقود مترادفة، فإذا زادت المدة أُنقصت إلى ثلاث سنين، ومع ذلك يجوز الإيجار لمدة أطول إذا أذن القاضي في ذلك ويأذن للضرورة، أو إذا كان الناظر هو الواقف أو المستحق الوحيد، وحينئذٍ يسري الإيجار ما دامت نظارته باقية، فإذا انتهت كان للناظر الذي يخلفه أن ينقص المدة إلى ثلاث سنين (مادة 646) وهذه الأحكام تتفق مع ما يقول به الحنفية.
أما المالكية، فقد ذهبوا إلى التفصيل وقالوا لا يصح التأجير في الدور ونحوها أكثر من سنة سواء كانت موقوفة على معين كفلان وأولاده أو لا، كالفقراء، وكالمساجد، وأما الأرض فإنه لا يصح تأجيرها أكثر من ثلاث سنين سواء كان المؤجر الناظر الأجنبي أو المستحق إن كانت على معين، أما إن كانت موقوفة على غير معين كالفقراء، فإنه يصح تأجيرها إلى أربع سنين بدون زيادة، فإن كان المستأجر ممن يؤول الوقف له فإنه يصح أن يؤجرها له زمنًا طويلاً كعشر سنين ونحوها لأن الوقف يرجع إليه، إذا وجدت ضرورة تقتضي مد زمن الإجارة أكثر من المدة التي تقدمت كما إذا تهدم الوقف وليس له ريع يُبنى منه فإنه يصح للناظر أن يؤجر ليبني بها ولو طال الزمن كأربعين عامًا.
وقد فضل المشروع أن يتجنب هذا التفصيل فأخذ بما قالت به الحنفية.
5 - وأخيرًا، فإن الأحكام التي أوردها المشروع في إيجار الوقف يقتصر تطبيقها على حالة ما إذا كان المأجور عينًا موقوفة، وفي المسائل التي عرضت لها هذه الأحكام، فإذا وجدت مسألة في إيجار الوقف لم يعرض لها نص من النصوص الواردة في هذا الصدد، سرت على هذه المسألة أحكام عقد الإيجار في كل ما لا يتعرض معها (مادة 648) وكل ذلك مع عدم الإخلال بالأحكام الاستثنائية الواردة في قانون إيجار الأماكن فيما إذا كانت العين الموقوفة من المباني.
الفصل الثاني: الإعارة:
الإعارة من أعمال البر التي تقتضيها الإنسانية، لأن الناس لا غنى لهم عن الاستعانة ببعضهم بعضًا، فهي مندوبة بحسب ذاتها، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلي الله عليه وسلم، استعار فرسًا من أبي طلحة فركبه، واستعار درعًا من صفوان بن أمية يوم حنين، فقال له صفوان: أغصب يا محمد أو عارية، فقال له بل عارية مضمونة، وقد أجمع المسلمون على مشروعيتها باعتبارها داخله في قوله تعالي ((وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)) فسد حاجات الناس من أنواع البر التي تتوثق بها الروابط وتنمو بها الألفة وتتأكد المودة، وذلك ممدوح في نظر الإسلام.
وقد وضع المشروع الإعارة إلى جانب الإيجار، باعتبارها من العقود التي ترد على المنفعة، أما المجلة فقد وضعتها إلى جانب اللقطة والإيداع، وجمعت بينهم في كتاب واحد وهو الكتاب السادس المتعلق بالأمانات، وهو ما فعله أيضًا ابن نجيم في أشباهه.
والمشروع يتفق مع المجلة في غالبية الأحكام التي أوردها، ولكنه يختلف عنها في بعض آخر، فالإعارة فيه عقد رضائي - كما يقول المالكية - ومن ثم يكون التسليم التزامًا في ذمة المعير لا ركنًا في العقد، على عكس المجلة التي تنص على أن القبض شرط في العارية.
والإعارة في المشروع عقد لازم، على خلاف المجلة التي تجعله عقدًا غير لازم، وهي لا تخول المستعير أن يعير العارية مطلقًا، إلا بإذن المعير، كما أنها لا تنتهي بموت هذا الأخير ولكنها تنتهي فقط بموت المستعير، وعلى هذا الأساس عرف المشروع الإعارة في المادة (649) منه بأنها عقد يلتزم به المعير أن يسلم المستعير شيئًا غير قابل للاستهلاك ليستعمله بنفسه من غير عوض لمدة معينة أو في غرض معين على أن يرده بعد الاستعمال، والخصائص التي يمكن استخلاصها من هذا التعريف، أن الإعارة عقد رضائي وليس بعقد عيني، وهو كذلك عند المالكية على عكس المجلة التي تنص على أن القبض شرط في العارية (م 810). وهي أيضًا عقد ملزم للجانبين ودائمًا من عقود التبرع، وتخول المستعير أن يستعمل العارية بنفسه وليس له أن يستغلها، ويفهم من التعريف أيضًا، أن العارية يجب أن تكون شيئًا غير قابل للاستهلاك، وذلك لأن المستعير يأخذ الشيء ليستعمله وليرده بعينه، فإذا كان قابلاً للاستهلاك واستعمله المستعير فإنه يستهلكه بالاستعمال ولا يستطيع أن يرده بعينه، وكما يعبر الفقه الإسلامي يجب أن يكون قابلاً للانتفاع به مع بقاء عينه أو ذاته، فلا تصح العارية فيما لا ينتفع به إلا باستهلاك عينه.
أولاً: آثار الإعارة:
1 - التزامات المعير:
تعرض المواد (650 - 652) لالتزامات المعير، فهو يلتزم بأن يسلم العارية للمستعير، وبأن يرد له ما أنفقه من مصروفات لحفظ العارية من الهلاك وبأن يضمن له الاستحقاق والعيوب في حدود معينة:
( أ ) فالمعير طبقًا لنص المادة (650) يلتزم أن يسلم المستعير العارية بالحالة التي تكون عليها وقت انعقاد العقد. فالتسليم التزام في ذمة المعير ما دامت الإعارة عقدًا رضائيًا، وتسري على هذا الالتزام قواعد التسليم بوجه عام، وهي نفس القواعد المقررة في التزام البائع بتسليم المبيع للمشتري وفي التزام المقرض بتسليم القرض للمقترض وفي التزام المؤجر بتسليم المأجور للمستأجر.
وإذا كان من مقتضى هذه القواعد أن تكون مصروفات التسليم على المعير لأنه هو المدين بالتسليم، غير أن المشروع يقضي بأن تكون مصروفات التسليم على المستعير (م 655) لأنه لا يدفع أجرًا، وهو ما فعله التقنين العراقي في المادة (856) منه (وانظر أيضًا المادة 745 لبناني) ويتم تسليم العارية بالحالة التي تكون عليها وقت انعقاد الإعارة - على خلاف الإيجار - لأن الإعارة عقد تبرع لا يدفع فيه المستعير مقابلاً للانتفاع بالعارية.
(ب) ولما كانت ملكية العارية وثمارها للمعير، فإنه هو الذي يتحمل النفقات الضرورية للمحافظة عليها من الهلاك، فإذا اضطر المستعير إلى القيام بهذه النفقات كي يحفظ العارية إلى أن يردها وجب على المعير أن يرد إليه هذه النفقات (مادة 651 من المشروع) بل إنه يلتزم بردها حتى لو هلكت العارية دون خطأ من المستعير.
وغني عن البيان أن هذه المصروفات هي غير المصروفات التي يقتضيها استعمال العارية الاستعمال المعتاد، وكذلك مصروفات صيانة العارية الصيانة المعتادة، وهذه كلها يتحملها المستعير وفقًا للمادة (655) من المشروع.
(جـ) أما ضمان الاستحقاق والعيوب، فالإعارة في ذلك كالهبة - وكلاهما من عقود التبرع - فكما أن الواهب لا يضمن الاستحقاق ولا العيوب، إلا إذا وجد اتفاق على الضمان، أو تعمد الواهب إخفاء سبب الاستحقاق أو إخفاء العيب، أو كانت الهبة مقترنة بتكليف فكذلك ضيق المشروع في المادة (652) من التزام المعير بهذا الضمان فجعل الأصل هو عدم ضمانه لاستحقاق العارية وعدم ضمانه لما يوجد فيها من عيوب، إلا إذا كان هناك اتفاق على الضمان، أو كان قد تعمد إخفاء سبب الاستحقاق أو تعمد إخفاء العيب، وعبء الإثبات يقع على المستعير، فعليه أن يثبت أن المعير قد تعمد إخفاء سبب الاستحقاق أو تعمد إخفاء العيب، ومتى أثبت ذلك رجع على المعير بالتعويض، ولكن في ضمان العيوب لا يلزم المعير بتعويض المستعير إلا عن الضرر الذي يسببه العيب، فلا يعوض المستعير إذن عن العيب ذاته، أي عن نقص الانتفاع بالعارية بسبب العيب وإنما يعوضه فقط عما سببه من العيب من أضرار.
2 - التزامات المستعير:
وتعرض نصوص المواد من (653 – 657) لالتزامات المستعير، فهو يلتزم بأن يستعمل العارية وفقًا للعقد، وأن يحافظ عليها في أثناء الإعارة وأن يردها بعد انتهائها.
( أ ) فإذا قيد المعير الإعارة بزمان أو مكان أو بنوع معين من أنواع الاستعمال لم يكن للمستعير أن يستعمل العارية في غير الزمان والمكان المعينين، أو أن يخالف الاستعمال المأذون به إلى ما يتجاوزه ضررًا (المادة 653/ 1) ولكن يكون له أن يخالفه باستعمال العارية بما هو مساوٍ لنوع الاستعمال الذي قيدت به أو بنوع أخف منه.
أما إذا كانت الإعارة غير مقيدة بأي قيد، فإنه يجوز للمستعير أن يستعمل العارية في أي زمان أو مكان وبأي استعمال أراد، بشرط ألا يجاوز المألوف في استعمالها (653/ 2) فلا يستعمل العارية إلا فيما تقبله طبيعتها أو يحدده العرف في ذلك (قارن المواد 816 - 818 من المجلة)، وفي الحالين، لا يكون المستعير مسؤولاً عما يلحق العارية من تغيير أو تلف أو نقصان (استهلاك تدريجي) بسبب الاستعمال، ما دام لم يخرج في استعمالها عن الحدود المتقدمة (653/ 3) لأن ذلك يُعتبر ملازمًا لطبيعة الإعارة وعلى المعير أن يتوقعه.
ولما كان حق المستعير مقصورًا على استعمال العارية دون استغلالها فإنه لا يجوز له أن يؤجرها إلى الغير أو أن يعيرها إلا إذا أثبت أن المعير قد أذن له في ذلك صراحةً أو ضمنًا (654). وفي هذا يتفق المشروع مع المجلة والفقه الحنفي، فيما عدا أنهم يفرقون في الإعارة بين ما يختلف باختلاف المستعمل، وهذا ليس للمستعير أن يعيره إن عين المعير مستعملاً، وبين ما لا يختلف باختلاف المستعمل وهذا يكون للمستعير أن يعيره سواء عين المعير مستعملاً أو لم يعين (قارن المواد 819 - 823 من المجلة).
فإذا كان الاستعمال، وكذلك الإعداد له، يقتضي نفقة، فإن المستعير هو الذي يتحمل بها، كما يتحمل نفقات الصيانة المعتادة التي يقتضيها هذا الاستعمال (المادة 655 من المشروع).
(ب) ويلتزم المستعير أن يبذل من العناية في المحافظة على العارية ما يبذله في المحافظة على ماله دون أن ينزل في ذلك عن عناية الشخص العادي (م 656 من المشروع). ولكن هذا الحكم لا يتعلق بالنظام العام، فيجوز الاتفاق على ما يخالفه سواء بتشديد مسؤولية المستعير أو بالتخفيف منها.
(جـ) وأخيرًا على المستعير أن يرد العارية عند انتهاء الإعارة وتسري في ذلك القواعد العامة. فيجب أن يرد العارية بذاتها لا شيئًا غيرها ولو ماثلها، وأن يرد معها ملحقاتها وتوابعها وزيادتها متحملاً في ذلك كله مصرفات الرد لأنه هو المدين في هذا الالتزام.
وترد العارية بالحالة التي تكون عليها وقت الرد، دون إخلال بمسؤولية المستعير عما يكون قد أصابها من هلاك أو تلف أو تعيب (مادة 657/ 1)، إلا إذا أثبت أنه قد بذل العناية المطلوبة منه، أو أثبت أن الهلاك أو التلف أو التعييب كان بسبب أجنبي. فإذا كان المستعير قد أساء استعمال العارية أو استخدمها في غير ما أعدت له، أو في غير الزمان والمكان المعينين، أو أهمل في صيانتها أو في حفظها أو تصرف فيها دون إذن المعير أو عهد في حفظها إلى شخص آخر دون ضرورة تدعو لذلك، كان هذا تقصيرًا منه يستوجب مسؤوليته.
ويتم الرد في المكان الذي يكون المستعير قد تسليم فيه العارية، ما لم يتفق على غير ذلك (مادة 657/ 2).
وغني عن البيان أن مؤونة رد العارية تكون على المستعير لأنه المدين في هذا الالتزام.
ثانيًا: انتهاء الإعارة:
ويعرض المشروع في المواد (658 – 660) لانتهاء الإعارة:
1 - فهي تنتهي أولاً بانقضاء المدة بالمتفق عليها (سواء انتهى الاستعمال بالذي أُعيرت من أجله العارية أو لم ينتهِ)، كما تنتهي أيضًا بتمام استعمال العارية فيما أُعيرت من أجله، إذا لم يتفق على مدة (مادة 658/ 1).
فإذا لم يكن هناك سبيل لتعيين مدة الإعارة، جاز للمعير أن يطلب إنهاءها في أي وقت (مادة 658/ 2). وفي كل حال يجوز للمستعير أن يرد العارية قبل انتهاء الإعارة، غير أنه إذا كان هذا الرد يضر المعير فلا يُرغم على قبوله (مادة 658/ 3).
2 - وقد تنتهي الإعارة أيضًا قبل انقضاء مدتها، إذا عرضت للمعير حاجة للعارية، أو إذا مات المستعير، فعلى الرغم من أن الإعارة تلزم المعير، غير أن المشروع قدر أنه قد تعرض للمعير حاجه ضرورية للعارية لم تكن متوقعة، وبذلك يكون أولى من المستعير بالانتفاع بماله، فأجاز له عندئذٍ إنهاء الإعارة قبل انقضاء أجلها واسترداد العارية، بشرط أن تكون الحاجة التي تعرض له ضرورية وغير متوقعة، وهو أمر يترك تقديره لقاضي الموضوع بغير معقب عليه في ذلك (مادة 659).
وقد يموت المستعير قبل انقضاء مدة الإعارة، فتنتهي بموته لأن شخصيته محل اعتبار في العقد، وقد قصد المعير أن يعيره هو فلا تنتقل العارية إلى ورثته إلا إذا وجد اتفاق على غير ذلك (مادة 660)، والالتزامات التي تكون قد نشأت في ذمة المستعير بسبب الإعارة كالتزامه بالرد والتزامه بتعويض المعير فيما لو كان قد قصر في المحافظة على العارية أو في استعمالها، كل هذه الالتزامات تبقى في تركة المستعير وللمعير أن يطالب بها.
أما موت المعير فلا ينهي الإعارة (عكس ذلك الفقه الحنفي والمادة 807 من المجلة)، وتنتقل حقوق المعير إلى ورثته وكذلك تنتقل التزاماته في حدود تركته.
وغني عن البيان أن الإعارة كعقد ملزم للجانبين، يجوز أن تنتهي بالفسخ، فإذا أخل المستعير بالتزامه وأساء استعمال العارية أو قصر في الاحتياط الواجب للمحافظة عليها، كان للمعير أن يطلب الفسخ وفقًا للقواعد العامة.
الباب الثالث: العقود الواردة على العمل
الفصل الأول - المقاولة:
لم تعرض المجلة لعقد المقاولة تحت هذا العنوان، وإنما عرضت له في أحد فصول الباب السابع من كتاب البيوع وفي بعض نصوص متفرقة في كتاب الإجارة، فإذا قدم الصانع العمل والعين معًا انعقد البيع استصناعًا وطبقت عليه أحكام البيع، وإذا كانت العين من المستصنع، كان الصانع أجيرًا مشتركًا وطُبقت عليه أحكام الإجارة.
وكان القصد من ذلك، وقت وضع المجلة، تنظيم العلاقة القانونية بين مستصنع وصانع يعهد إليه بعمل ما، فكان وضع الصانع بالنسبة للمستصنع أقرب ما يكون إلى وضع العامل بالنسبة لرب العمل، ولكن هذا النظر أصبح غير متلائم مع الحاجات الحاضرة والتطورات الاقتصادية الحديثة، فقد تعددت أشكال المقاولة وصورها، وزاد حجمها زيادة ضخمة لها أثرها في اقتصاد البلاد وفي أوضاع العاملين في هذا القطاع، ووجب أن ينظم عقد المقاولة تنظيمًا شاملاً، يتفق مع أهميته الاقتصادية والاجتماعية ويواجه جميع الصور المختلفة للمقاولات، وهو ما فطنت إليه الحكومة، فأعدت مشروع تنظيم عقد المقاولة مستمدة أحكامه من التقنين المصري ومشروعه التمهيدي.
ولكن هذا المشروع لم يستكمل الخطوات اللازمة لإصداره.
وقد أخذ المشروع في اعتباره هذا المشروع السابق وأدخل على أحكامه كثيرًا من التعديلات، كما غير من ترتيبه في عرض الأحكام: فهو بعد أن يعرف عقد المقاولة، يتناول في فرع أول القواعد العامة التي تنطبق على جميع أنواع المقاولات، ثم يتكلم في فرع ثانٍ عن بعض الأحكام الخاصة بمقاولات المباني والإنشاء، اعتبارًا لأهميتها، ويعرض المشروع في القواعد العامة، لالتزامات كل من المقاول ورب العمل ولأحكام التنازل عن المقاولة والتقاول من الباطن، ثم لأسباب انتهاء المقاولة، كما يعرض في الأحكام الخاصة بمقاولات المباني والإنشاء للتعديل والإضافات التي قد ترد على المقايسة أو التصميم التي تبرم المقاولة على أساسه، وللأحكام المتعلقة بمسؤولية المقاول والمهندس عما يحدث من خلل فيما يشيدانه من مبانٍ أو يقيمانه من منشآت.
الفرع الأول - القواعد العامة للمقاولات:
يبدأ المشروع هذا الفرع بتعريف المقاولة فيعرفها في المادة (661) بأنها عقد يلتزم بمقتضاه أحد الطرفين أن يؤدي عملاً للطرف الآخر مقابل عوض، دون أن يكون تابعًا له أو نائبًا عنه.
وبهذا التعريف ينفصل عقد المقاولة عن عقدين آخرين، كانا مختلطين به في المجلة، وهما عقد البيع وعقد الإيجار، ويخلص منه أن عقد المقاولة عقد ملزم للجانبين ومن عقود المعاوضة، يقع التراضي فيه على العمل المطلوب تأديته من المقاول وعلى المقابل الذي يتعهد رب العمل بأدائه.
ويبرز هذا التعريف أيضًا عنصرين هامين في عقد المقاولة هما عدم تبعية المقاولة هما عدم تبعية المقاول لرب العمل، وعدم نيابته عنه في تأدية العمل المتعاقد عليه، بما يكفل تمييز عقد المقاولة عن عقد العمل وعن عقد الوكالة فالذي يميز المقاولة عن عقد العمل هو أن المقاول لا يخضع لإدارة رب العمل وإشرافه، بل يعمل مستقلاً، طبقًا لشروط العقد المبرم بينهما، ومن ثم فلا يُعتبر المقاول تابعًا لرب العمل ولا يكون هذا الأخير مسؤولاً عنه مسؤولية المتبوع عن تابعه.
كذلك فإن الذي يميز المقاولة عن الوكالة هو أن المقاول وهو يؤدي العمل لمصلحة رب العمل، لا ينوب عنه وإنما يعمل استقلالاً، أما الوكيل وهو يقوم بالتصرف القانوني لمصلحة موكله يكون نائبًا عنه ويمثله في التصرف الذي يقوم به فينصرف أثر هذا التصرف إلى الموكل.
أولاً: تقديم مواد العمل:
كانت المجلة تميز – كما تقدم بين - الاستصناع، وهو نوع من البيوع، يقدم فيه الصانع العمل والعين معًا، وبين استئجار أرباب الحرف والصنائع وهو إجارة على العمل يقدم الأجير في عمله فقط ويكون أجيرًا مشتركًا إذا كان غير مقيد بأن يعمل للمستأجر دون غيره.
وقد تابع المجلة في ذلك بعض التقنينات كالتقنين العراقي وكذلك المشروع السابق، ولكن المشروع الحالي حرص على أن يجمع بين الصورتين تحت لواء المقاولة فطبقًا لنص المادة (662) من المشروع يجوز أن يقتصر التزام المقاول على تنفيذ العمل المتفق عليه على أن يقدم رب العمل المواد اللازمة للعمل، كما يجوز أن يلتزم المقاول بتقديم المواد كلها أو بعضها إلى جانب التزامه بتنفيذ العمل، وفي الحالين يكون العمل إجارة في الحالة الأولى واستصناعًا في الثانية.
وتعرض المادة (663) للحالة الأولى، فإذا التزم المقاول بتقديم مواد العمل كلها أو بعضها وجب أن تكون هذه المواد مطابقة للشروط والمواصفات المتفق عليها، فإذا لم تكن هناك شروط أو مواصفات، وجب على المقاول أن يتوخى في اختيار المواد أن تكون وافية بالغرض المقصود (663/ 1) مستفادًا مما هو مبين في العقد أو مما هو ظاهر من طبيعة المواد أو الغرض الذي أُعدت له، وإذا لم يتفق المتعاقدان على درجة المواد من حيث جودتها ولم يمكن استخلاص ذلك من العرف أو من أي ظرف آخر التزم المقاول بأن يقدم موادًا من صنف متوسط طبقًا للقواعد العامة.
وعلى المقاول أيضًا ضمان المواد المقدمة وفقًا لأحكام الضمان المقررة في عقد البيع (مادة 663/ 2) وذلك لأنه يكون في هذه الحالة بائعًا للمواد التي يقدمها، فيضمن ما فيها من عيوب ضمان البائع للعيوب الخفية.
وتعرض المادتان (664، 665) للحالة الثانية، فإذا كانت مواد العمل مقدمة من رب العمل، فإنه يجب على المقاول في هذه الحالة أن يحافظ على المواد المسلمة إليه وأن يبذل في المحافظة عليها عناية الشخص العادي، فإذا نزل عن هذه العناية كان مسؤولاً عن هلاكها أو تلفها أو ضياعها أو سرقتها، ثم يجب على المقاول أن يستخدم هذه المواد طبقًا لأصول الفن، فيجانب الإفراط والتفريط فيها، ويستعمل منها القدر اللازم لإنجاز العمل دون نقص أو زيادة، وأن يؤدي حسابًا لرب العمل عما استعمله منها ويرد له الباقي إن وجد، وإذا كشف في أثناء عمله، أن بالمواد عيوبًا لا تصلح معها للغرض المقصود، كما إذا كان القماش الذي تسلمه من رب العمل لا يصلح لصنع الثوب المطلوب أو كانت الأرض التي يراد إقامة البناء عليها بها عيوب تهدد سلامته، وجب عليه أن يخطر رب العمل فورًا بذلك، كذلك إذا تبين له وجود عوامل أخرى من شأنها أن تعوق تنفيذ العمل في أحوال ملائمة وجب على المقاول أيضًا إخطار رب العمل فورًا، فإذا أهمل في الإخطار، كان مسؤولاً عن كل ما يترتب على إهماله من نتائج، والمفروض في كل ما تقدم أن المقاول يتوافر على الكفاية الفنية الكافية، فإذا صار شيء من المواد المسلمة إليه غير صالح للاستعمال بسبب إهماله أو بسبب قصور فني من جانبه، التزم برد قيمته إلى رب العمل مع التعويض إن كان له مقتض، ولما كانت مسؤولية المقاول في هذا الخصوص مسؤولية عقدية، فإن عبء إثبات إهمال المقاول، أو عدم بذله عناية الشخص العادي، أو تسببه بقصور كفايته الفنية في جعل المواد أو بعض منها غير صالح للاستعمال، يقع على رب العمل، وللمقاول من جانبه أن يدرأ عن نفسه المسؤولية بأن يثبت أنه بذل عناية الشخص العادي، وأنه قام بجميع واجباته بحسب أصول الفن، أو أن التلف أو الضياع أو الهلاك كان بسبب أجنبي لا يد له فيه فترتفع مسؤوليته.
ثانيًا: التزامات المقاول:
يلتزم المقاول بإنجاز العمل المعهود به إليه ثم بتسليمه بعد، إنجازه كما يلتزم بضمانه بعد التسليم، ويعرض نص المادة (666) للالتزام الأول من هذه الالتزامات.
فأولاً يجب على المقاول أن ينجز العمل بالطريقة المتفق عليها في عقد المقاولة، وطبقًا للشرط الواردة فيه وبخاصة طبقًا لدفتر الشروط إذا وجد هذا الدفتر فإذا لم تكن هناك شروط متفق عليها، وجب اتباع العرف وبخاصة أصول الصناعة والفن في العمل الذي يقوم به المقاول فلكل صناعة أو عمل أصول وقوانين تجب مراعاتها دون حاجة إلى ذكرها في العقد.
كذلك يلتزم المقاول بأن ينجز العمل في المدة المتفق عليها، فإن لم يكن هناك اتفاق على مدة معينة، فالواجب أن ينجزه في المدة المعقولة التي تسمح بإنجازه تبعًا لمقدرة المقاول ووسائله، وبمراعاة طبيعة العمل ومقدار ما يقتضيه من دقة، وحسب عرف حرفته، فإذا احتاج المقاول، في إنجازه العمل إلى أدوات ومهمات أو أيدٍ عاملة وجب عليه أن يأتي بها، ويكون ذلك على نفقته فأدوات العمل ومهماته مثل آلات البناء وعدة النجار أو السباك وأدوات الخياط وغير ذلك تكون على المقاول بغير نص ما لم يقضِ الاتفاق أو عرف الحرفة بغيره (قارن المادة 574 من المجلة)، كذلك إذا احتاج المقاول، في إنجازه للعمل، إلى أيدي عاملة أو إلى أشخاص يعاونونه ويعملون تحت إشرافه، فإنه يكون على المقاول أن يأتي بهم ويتحمل بأجورهم ما لم يقضِ الاتفاق أو عرف الحرفة بغير ذلك.
ويخول نص المادة (667) رب العمل حق مراقبة تنفيذ العمل، فالمقاول يعمل مستقلاً عن رب العمل، وهذا هو ما يميز المقاولة عن عقد العمل كما تقدم، غير أنه من حق رب العمل أن يتعهد العمل وهو في يد المقاول ليراقب ما إذا كان يتم تنفيذه طبقًا للشروط والمواصفات المتفق عليها وما إذا كان المقاول يقوم بتنفيذه، طبقًا لأصول الصناعة وعرف أهل الحرفة، فرب العمل ليس ملزمًا أن ينتظر حتى ينتهي العمل ويقدمه له المقاول، ليتبين ما إذا كان هذا الأخير قد راعى الشروط والمواصفات وأصول الصناعة، فيقبل العمل، أو لم يراعها فيرفضه، بل الأفضل أن يمكن رب العمل من مراقبة ذلك منذ البداية حتى يوفر على نفسه وعلى المقاول ذاته الوقت والجهد والمشقة، إذا ما تم العمل معيبًا أو منافيًا للشروط المتفق عليها ثم يرفضه بعد أن يكون قد تم.
فإذا لاحظ رب العمل أن مقاول البناء مثلاً قد أخل وهو يقيم البناء، بالشروط والمواصفات المتفق عليها بأن لم يدعم الأساس أو لم يصل به إلى العمق الكافي أو تبين أن النجار الذي يصنع الأثاث المطلوب قد استخدم في صنعه نوعًا من الخشب غير المتفق عليه أو صنفًا أقل جودة، فإن لرب العمل في هذه الحالة حق التداخل لمنع المقاول من المضي قدمًا في عمله المعيب أو المخالف لشروط العقد، ويكون ذلك بأن ينذر المقاول بأن يصحح طريقة التنفيذ ويحدد له أجلاً معقولاً يصلح فيه العيب، فإذا انصاع المقاول لإنذار رب العمل وقام بإصلاح العيب في الأجل المحدد، كان له أن يمضي في عمله ولا سبيل عليه لرب العمل. أما إذا نازع المقاول في وجود العيب أو المخالفة أو سلم به ولكنه لم يقم بإصلاحه في الأجل المحدد، فإنه يكون لرب العمل أن يرفع الأمر إلى القضاء ويطلب إما الفسخ وإما الترخيص له في إنجاز العمل كله على الوجه الصحيح بواسطة مقاول آخر على نفقه المقاول الأول إذا كان هذا ممكنًا وتسمح به طبيعة العمل (667/ 1). وكل ذلك مع عدم الإخلال بحق رب العمل في التعويض إن كان له مقتض.
وغني عن البيان أن لرب العمل أن ينفذ العمل على نفقة المقاول دون ترخيص من القضاء، إذا كان العمل مستعجلاً لا يحتمل الإبطاء، كما إذا كان الأمر متعلقًا بترميم منزل آيل للسقوط، أو إقامة جناح في معرض على وشك الافتتاح، وللقاضي بعد أن يبت فيما إذا كان رب العمل على حق فيما فعل.
كل ما تقدم إذا كان إصلاح ما في طريقة التنفيذ من عيب ممكنًا، أما إذا كان هذا الإصلاح مستحيلاً، كما إذا أقام مقاول البناء المبنى وارتفع بأدواره الأولى على خلاف المواصفات والتصميم المعهود إليه بتنفيذه، فعند ذلك لا يكون تدارك الخطأ مستطاعًا ولا يكون ثمة سبيل إلى إصلاح طريقة التنفيذ إلا بهدم البناء كله، وفي هذه الحالة يكون لرب العمل، الحق منذ البداية في أن يطلب فسخ العقد في الحال دون حاجة إلى إنذار أو تحديد أجل (667/ 2).
على أنه يجوز للقاضي رفض طلب الفسخ إذا كان العيب أو المخالفة من البساطة بحث لا يخل إخلالاً كبيرًا بقيمة العمل أو من صلاحيته للاستعمال المقدر له، وهو ما عني المشروع بالنص عليه دفعًا لكل شبهة (667/ 3).
ومن ناحية أخرى، فإنه إذا تأخر المقاول في البدء في تنفيذ العمل أو في إنجازه تأخرًا لا يرجى معه مطلقًا أن يتمكن من القيام به كما ينبغي في المدة المتفق عليها، أو إذا اتخذ مسلكًا ينم عن نيته في عدم تنفيذ التزامه، أو أتى فعلاً من شأنه أن يجعل تنفيذ هذا الالتزام مستحيلاً، فإن نص المادة (668) من المشروع تجيز لرب العمل أن يطلب فسخ العقد دون انتظار لحلول أجل التسليم، وهذا النص منقول عن المشروع التمهيدي المصري الذي اقتبسه بدوره عن تقنين الالتزامات السويسري والتقنين البولوني وله مثيل في بعض التقنينات العربية كالتقنين العراقي واللبناني والتونسي والمغربي، وهو يسمح بطلب الفسخ مقدمًا إذا تأخر المقاول في تنفيذ التزامه تأخرًا يصبح معه ثابتًا أو كبير الاحتمال أنه لن يتمكن من إتمام العمل في الميعاد فيكون بذلك قد أخل مقدمًا بالتزامه.
ومثال ذلك أن يتفق عارض مع مقاول على أن ينجز صنع أشياء لعرضها في معرض يفتتح في تاريخ معين فيتأخر المقاول في البدء في العمل أو في إنجازه بعد البدء فيه بحيث يتبين جليًا قبل حلول الميعاد المتفق عليه صراحةً أو ضمنًا أن المقاول لن يتمكن من إنجاز العمل في الميعاد، فعندئذٍ يجوز لرب العمل ألا ينتظر حلول الأجل المتفق عليه أو الأجل المعقول، ويبادر منذ أن يتبين استحالة تنفيذ العمل في الميعاد إلى طلب فسخ العقد، ولا يقتصر الأمر طبقًا لهذا النص على حالة تأخر المقاول في البدء في العمل أو في تنفيذه بل يتناول أيضًا حالة ما إذا صرح المقاول أنه لن ينفذ العمل أو اتخذ مسلكًا ينم عن هذه النية، أو أتى بفعل من شأنه أن يجعل تنفيذ التزامه في المدة المتفق عليها مستحيلاً، كما لو تعاقدت فرقة تمثيلية مع صاحب مسرح على تقديم بعض العروض على مسرحه في خلال أسبوع معين وقبل حلول هذا الأسبوع تعاقدت مع صاحب مسرح آخر على تقديم عروضها فيه في خلال الأسبوع ذاته، ففي هذه الحالة يجوز لرب العمل - وهو صاحب المسرح - أن يطلب فسخ العقد دون انتظار لحلول الموعد المحدد لتنفيذ العقد فيتاح له أن يتعاقد مع فرقة أخرى بما يكفل له ألا يبقى مسرحه بغير فرقة، الأمر الذي قد يحدث له لو انتظر حلول موعد التنفيذ الأول.
وإلى جانب التزام المقاول بإنجاز العمل المعهود به إليه بموجب عقد المقاولة، فإنه يلتزم بتسليم العمل بعد إنجازه، ويكون التسليم بوضع الشيء تحت تصرف رب العمل بحيث يتمكن من الاستيلاء عليه والانتفاع به دون عائق، ويكون تسليم كل شيء بحسبه، فالحائك يسلم الثوب بعد صنعه إلى رب العمل يدًا بيد، وكذلك النجار وغيره من أرباب الحرف والصناعات ومقاول البناء يسلم البناء بالتخلية بينه وبين رب العمل ووضعه تحت تصرف بحيث يتمكن من الاستيلاء عليه والانتفاع به، وقد يتم ذلك بتسليم مفاتيح البناء لرب العمل، وإذا كان المقاول قد نفذ العمل في شيء ظل في حيازة صاحبه، كالسباك يصلح مواسير المياه والدهان يدهن حوائط البناء، فإن التسليم يكون بتخلية السبيل أمام رب العمل لينتفع بالشيء الذي تم العمل فيه، فإذا لم يقم المقاول بتسليم العمل كاملاً في الزمان والمكان المتفق عليهما، فإنه يكون قد أخل بالتزامه بالتسليم، ويكون لرب العمل وفقًا للقواعد العامة طلب التنفيذ العيني أو طلب الفسخ، مع التعويض في الحالتين إن كان له مقتض.
فإذا هلك الشيء أو تلف قبل تسليم العمل، فإن المادة (669) من المشروع تنص على أنه إذا كان الهلاك بقوة قاهرة أو حادث فجائي، فلا يكون للمقاول أن يطالب لا بمقابل عمله ولا برد نفقاته، فلو تعاقد رب العمل مع نجار على صنع أثاث واحترق الأثاث أو سرق قبل أن يسلمه النجار وكانت الحريق أو السرقة بقوة قاهرة ولم يثبت تقصير في جانب النجار، فإن التبعة هنا يتحملها النجار فيما قدمه من عمل ومواد، وما أنفقه من نفقات، وكل ذلك ما لم يكن رب العمل، وقت الهلاك أو التلف مخلاً، بالتزامه بتسليم بأن يكون المقاول قد أعذره بأن يتسلمه فلم يفعل.
فإذا كانت المواد مقدمة من رب العمل وهلك الشيء أو تلف قبل تسليمه له بسبب حادث فجائي أو قوة قاهرة، فلا يكون له أن يطالب المقاول بقيمة المواد ما لم يكن المقاول وقت الهلاك أو التلف، مخلاً بالتزامه بتسليم العمل - بأن يعذره رب العمل بالتسليم فلا يفعل - ولم يثبت أن الشيء كان ليتلف لو أنه قام بالتسليم دون أن يخل بالتزامه، وتعتبر مواد العمل مقدمة من رب العمل، إذا كان قد أدى للمقاول قيمتها أو عجل له مبلغًا تحت الحساب يشمل هذه القيمة (مادة 670 من المشروع)، وغني عن البيان أنه إذا كان الهلاك أو التلف راجعًا لخطأ أحد الطرفين، فإنه يتحمل وحده تبعة الخسارة الناجمة عن الهلاك.
ثالثًا: التزامات رب العمل:
وتعرض المواد (671 إلى 679) لالتزامات رب العمال وهي: تمكين المقاول من إنجاز العمل، وتقبل العمل بعد إنجازه، ودفع المقابل المتفق عليه.
فرب العمل يلتزم بأن يبذل كل ما في وسعه لتمكين المقاول من البدء من تنفيذ العمل ومن المضي في تنفيذه حتى يتم إنجازه ومن ذلك استصدار أي ترخيص إداري يكون لازمًا للبدء في العمل مثل الترخيص بالبناء، وتقديم المواد التي تستخدم في العمل، أو الآلات والمعدات اللازمة لإنجازه إذا كان رب العمل قد التزم بتقديمها، وتقديم الرسومات والبيانات والمواصفات التي يكون متفقًا على أن يتم العمل على أساسها، فإذا لم يقم رب العمل بالتزامه، فإن نص المادة (671) من المشروع يجيز للمقاول أن يكلفه القيام بذلك في أجل معقول يحدده، فإذا انقضى الأجل دون أن يقوم رب العمل بالتزامه، جاز للمقاول أن يطلب فسخ العقد مع التعويض إن كان له مقتض.
ويلتزم رب العمل بتسليم العمل بعد إنجازه. والتسلم هنا ليس مجرد الاستيلاء على العمل بعد أن يضعه المقاول تحت تصرف رب العمل دون عائق من الاستيلاء عليه، كما هو الحال في التزام المقاول بالتسليم بل إنه يتضمن إلى جانب ذلك تقبل العمل والموافقة عليه بعد فحصه أو معاينته وهو ما تقتضيه طبيعة المقاولة فهي تقع على عمل لم يكن قد بدأ وقت إبرام العقد - أي لم يكن موجودًا - فوجب عند إنجازه أن يستوثق رب العمل من أنه موافق للشروط المتفق عليها أو لأصول الصنعة، ويكون ذلك بفحصه ومعاينته ثم الموافقة عليه أي تقبله والذي يقع عادة أن رب العمل يقوم بتقبل العمل وبتسلمه في وقت واحد ولكن لا يوجد ما يمنع من أن ينفصل التقبل والتسلم فيسبق أحدهما الآخر أو يليه، فإذا امتنع رب العمل دون سبب مشروع عن معاينة العمل وتسلمه رغم دعوته إلى ذلك اعتبر أنه قد تسلم العمل ووافق عليه (مادة 672)، ويشترط حتى يكون رب العمل ملزمًا بتسلمه على هذا الوجه أن يكون العمل موافقًا للشروط المتفق عليها، أو لما تقضي به أصول الصنع في العمل محل المقاولة أي خاليًا من العيوب، وغني عن البيان أنه إذا حصل اختلاف بين الطرفين حول ما إذا كان العمل موافقًا أو غير موافق، فإنه يجوز لأيهما أن يطلب ندب خبير على نفقته لمعاينة العمل ووضع تقرير يثبت حالته ليكون محل اعتبار فيما لو رفع الأمر إلى القضاء.
وطبقًا للفقرة الأولى من المادة (673) يجب أن يكون العيب أو المخالفة للشروط أو لأصول الصنعة التي تبرر امتناع رب العمل عن تسلمه جسيمة بحيث تجعل العمل غير صالح للغرض المقصود منه كما يستفاد من ظروف التعاقد وكل ذلك مع مراعاة ما تنص عليه المادة (691) فيما يتعلق بالمباني أو الإنشاءات التي تقام على أرض مملوكة لرب العمل، فإذا لم يبلغ العيب أو المخالفة هذا الحد من الجسامة، بقي رب العمل ملزمًا بالتسلم، ولكنه يكون له الحق، إما في طلب إنقاص المقابل بما يتناسب مع أهمية العيب أو المخالفة، وإما في طلب إلزام المقاول بالإصلاح في أجل معقول يحدده إذا كان الإصلاح ممكنًا ولا يتكلف نفقات تبهظ المقاول (673/ 2) وفي جميع الأحوال يجوز للمقاول إذا كان العمل يمكن إصلاحه، أن يقوم بهذا الإصلاح في مدة معقولة إذا كان هذا لا يسبب لرب العمل أضرارًا ذات قيمة (مادة 673/ 3).
على أنه ليس لرب العمل أن يتمسك بالحقوق المتقدمة، إذا كان هو المتسبب في إحداث العيب، سواء أكان ذلك بإصداره أوامر تخالف رأي المقاول أم كان ذلك بأية طريقة أخرى وهو ما تنص عليه صراحةً المادة (674) من المشروع.
ويعرض نص المادة (675) لأهم ما يترتب على تسلم العمل وتقبله من نتائج فمن وقت تسلم العمل لا يضمن المقاول العيوب والمخالفات الظاهرة التي كان يمكن كشفها بالفحص العادي، ذلك أنه إذا كان العيب في العمل واضحًا يمكن للشخص العادي أن يكشفه بالمعاينة، فالمفروض أنه إذا تقبل رب العمل، العمل دون أن يعترض، أنه قبله معيبًا ونزل عن حقه في الرجوع على المقاول من أجل هذا العيب، ومن ثم ينقضي ضمان المقاول للعيب بمجرد تقبل العمل مع مراعاة أحكام الضمان الخاص فيما يتعلق بالمباني والمنشآت المنصوص عليها في المادة (692) من المشروع (مادة 675/ 1).
أما إذا كانت العيوب خفية أو كانت المخالفة غير ظاهرة ولم يلحظها رب العمل وقت تسلمه ثم كشفها بعد ذلك، فإنه يجب عليه أن يخطر المقاول بها بمجرد كشفها أو في المدة التي يقضي بها عرف الحرفة، وإلا اعتبر أنه قد قبل العمل، فإذا تم إخطار المقاول في الوقت المناسب كان لرب العمل الحقوق المنصوص عليها في المادة (673) (مادة 675/ 2). كل ذلك ما لم يتفق الطرفان على خلافه، فالأحكام المتقدمة ليست من النظام العام (وذلك على عكس أحكام الضمان الخاص في حالة المباني والمنشآت)، ومن ثم يجوز الاتفاق على تشديد ضمان المقاول بتحديد مدة ضمان العيب، كما يجوز الاتفاق على تخفيف الضمان أو الإعفاء منه، فيشترط المقاول عدم ضمانه للعيب بمجرد تقبل العمل ولو كان العيب خفيًا.
وغني عن البيان أنه إذا أخفى المقاول العيب غشًا منه، فلم يستطع رب العمل أن يكشفه وقت تقبل العمل فإنه في هذا الفرض يكون المقاول مسؤولاً عن غشه، وبمجرد أن يكشف رب العمل العيب يكون له الحق في الرجوع على المقاول بالضمان وهو فرض لا يجوز فيه الاتفاق على تخفيف الضمان ولا الإعفاء منه.
وتعرض المواد من (676 – 678) لالتزام رب العمل بقع المقابل (الأجر)، ودفع المقابل يكون في الموعد المحدد في العقد، إذا كان هناك اتفاق على ذلك، وهو الغالب، فإذا لم يوجد اتفاق على ميعاد معين وكان هناك عرف للصنعة يحدد مواعيد دفع المقابل، وجب اتباع ما يقضي به هذا العرف.
وإذا لم يوجد اتفاق أو عرف، فإن المقابل يستحق دفعه عند تسليم العمل (مادة 676) أي مؤخرًا، وهذا الحكم هو الذي تقضي به طبيعة عقد المقاولة، فهو عقد على تنفيذ عمل معين لقاء مقابل معين، وبمجرد تمام العقد يصبح المقاول - وفقًا للقواعد العامة - دائنًا بالمقابل ولكن في نظير عمل لم ينجزه، ولهذا يقرر النص استثناءً من القواعد العامة ألا يستحق المقابل إلا بعد إنجاز العمل وتسلم رب العمل له (قارن المادة 424 من المجلة) وغني عن البيان أن دفع المقابل عند تسلم العمل مشروط فيه أن يكون العمل مطابقًا للمواصفات والشروط المتفق عليها، ولأصول الفن في هذا النوع من العمل، وإلا كان لرب العمل أن يحبس المقابل، طبقًا للقواعد العامة.
فإذا كان العمل مكونًا من أجزاء متميزة، أو كان المقابل محددًا على أساس الوحدة، كأن يكون المقاول قد تعهد برصف طريق وحدد المقابل على أساس كل وحدة طولية يتم رصفها، فإنه يجوز للمقاول طبقًا لنص المادة 677/ 1 من المشروع أن يستوفي من المقابل بقدر ما أنجز من العمل وذلك بعد إجراء معاينته وتقبله، على أن يكون ما تم إنجازه جزءًا متميزًا، أو قسمًا ذا أهمية كافية بالنسبة إلى العمل في جملته وكل ذلك ما لم يُتفق على خلافه.
ويُفترض فيما دفع المقابل عنه، أن رب العمل قد عاينه وتقبله، ما لم يثبت أن ما دفعه ليس إلا مبلغًا قدمه للمقاول تحت الحساب (مادة 677/ 2).
والمقابل لا بد من وجوده في عقد المقاولة (قارن المادة 450 من المجلة) وإلا كان العقد من عقود التبرع ولا يُعتبر مقاولة، ويشترط فيه أن يكون معينًا أو قابلاً للتعين (قارن المادة 630 لبناني) غير أن المقابل وإن كان ركنًا في المقاولة إلا أنه لا يشترط ذكره في العقد ولا أن يحدده المتعاقدان، فإذا لم يحدداه تكفل القانون بتحديده وتبقى المقاولة صحيحة، ويكفي أن يتبين أن العمل المعهود به إلى المقاول ما كان ليتم إلا لقاء مقابل، حتى يفترض أن هناك اتفاقًا ضمنيًا على وجود المقابل (قارن المادة 631 لبناني و880/ 2 عراقي) وهو ما يُستخلص ضمنًا من ظروف التعاقد وبخاصة من أهمية العمل ومهنة من يتولاه، ويمكن القول بوجه عام إن أصحاب المهن الحرة وكذلك أرباب الحرف والصنعة يعملون بمقابل، فإذا تعاقد العميل مع أحد منهم فالمفروض أن العمل يكون بمقابل، حتى لو سكت المتعاقدان ولم يذكرا شيئًا عن ذلك، أما مقدار المقابل فيحدده القانون كما تقدم.
والأصل أن المتعاقدين هما اللذان يقومان بتحديد المقابل، وهما قد يحددانه بموجب مقايسة على أساس الوحدة. أو يحددانه جزافًا (إجمالاً) على أساس تصميم متفق عليه، ولكنهما قد يحددانه على وجه تقريبي أو لا يعرضان لتحديد مقداره أصلاً فيتكفل القانون بتحديد هذا المقدار، وفي ذلك تختلف التقنينات: فالتقنين الأردني يعطي المقاول أجر المثل بالإضافة إلى قيمة ما قدمه من المواد التي تطلبها العمل (المادة 796)، والتقنين اللبناني يعين بدل العمل بحسب العرف، فإذا كانت هناك تعريفة أو رسم وجب تطبيقهما (المادة 632 وقارن المادة 632 ألماني) أما التقنين المصري والتقنينات الأخرى التي أخذت عنه فتوجب الرجوع في تحديد الأجر إلى قيمة العمل ونفقات المقاول (659 مصري، وقارن 374 التزامات سويسري و479 بولوني).
وقد آثر المشروع في المادة (678) منه أن يجمع ذلك في عبارة (مقابل المثل وقت إبرام العقد) فعند الخلاف يعين القاضي مقدار المقابل على هذا الأساس وله أن يسترشد في ذلك بالعرف الجاري في الصنعة أو المهنة وبطبيعة العمل فقد يكون معقدًا في حاجة إلى مهارة فنية كبيرة، وقد يتضمن تبعات جسامًا ومسؤوليات يتعرض لها مقاول ويدخل طبعًا في الحساب، نفقات المقاول وكمية العمل والوقت الذي استغرقه إنجازه، ومؤهلات المقاول وكفايته الفنية وسمعته.
وقد حرص المشروع بعد ذلك على النص في المادة (679) منه على أنه لا يكون لارتفاع تكاليف العمل أو انخفاضها أثر في مدى الالتزامات التي يرتبها العقد، وذلك دون إخلال بأحكام المادة (198)، وهو نص له مقابل في غالبية التقنينات العربية، ويردد الأصل العام من أن ارتفاع تكاليف العمل أو انخفاضها (أي أسعار المواد الأولية وأجور الأيدي العاملة أو غيرها من التكاليف) لا يكون له أثر في مدى الالتزامات التي يرتبها العقد، فلا يجوز للمقاول عند ارتفاع هذه التكاليف أن يطالب بزيادة في المقابل كما لا يجوز لرب العمل عند انخفاض هذه التكاليف أن يطالب بإنقاص المقابل وكل ذلك دون إخلال بأحكام نظرية الظروف الطارئة المنصوص عليها في المادة (198) من الأحكام العامة للالتزامات.
رابعًا: التنازل عن المقاولة والمقاولة من الباطن:
ويعرض المشروع في المواد من (680 - 683) للتنازل عن المقاولة، وللتقاول من الباطن.
ويأخذ التنازل عن المقاولة إحدى صورتين، الأولى أن يتنازل المقاول للغير عن جميع عقد المقاولة بما يشتمل عليه من حقوق والتزامات، والثانية أن يتنازل رب العمل عن عقد المقاولة، كأن يبيع الأرض التي قاول على إنشاء بناء فيها ويتنازل في الوقت ذاته للمشتري عن عقد المقاولة وما ينشأ عنه من حقوق والتزامات. وفي الحالين ينص المشروع في المادة (680) على عدم جواز التنازل إلا بموافقة المتعاقد الآخر، ما لم يوجد في العقد شرط يقضي بخلافه، فإذا تم التنازل بموافقة المتعاقد الآخر أو بناءً على إجازته في العقد، فإن المتنازل له يحل محل المتنازل في جميع حقوقه والتزاماته قبل المتعاقد الآخر، ولكن التنازل لا يكون ساريًا في مواجهة الغير، في حالة إجازته في العقد، إلا إذا أُعلن للمتعاقد الآخر بوجه رسمي، أما في حالة حصول التنازل بموافقة المتعاقد الآخر، فإن التنازل لا يكون ساريًا في مواجهة الغير إلا إذا كانت الموافقة ثابتة التاريخ، وغني عن البيان أن للمقاول أيضًا أن يتنازل عن مستحقاته قبل رب العمل لشخص ثالث عن طريق حوالة الحق وعندئذٍ تطبق أحكامها.
أما التقاول من الباطن وهو أكثر وقوعًا في العمل خاصة في مقاولات المباني والإنشاء، حيث تتعدد الأعمال وتتشعب فقد عرض المشروع له في المواد (681 - 683).
ويخلص من النص الأول أن للمقاول أن يقاول من الباطن في كل العمل أو في جزء منه ما لم يمنعه من ذلك شرط في العقد (قارن المواد 571 - 573 من المجلة)، أو تكون طبيعة العمل تتطلب الاعتماد على الكفاية الشخصية للمقاول، كأن يكون العمل محل المقاولة عملاً فنيًا ركن فيه رب العمل إلى كفاية المقاول الشخصية في هذا العمل أو ما اشتهر عنه في أدائه، فعندئذٍ يتحتم أن يقوم المقاول بالعمل شخصيًا، وغني عن البيان أن هذا المنع لا يحول دون المقاول وبين الاستعانة بأشخاص آخرين، فنيين أو غير فنيين، في إنجاز العمل، ما دام هؤلاء الأشخاص ليسوا مقاولين من الباطن بل يعملون عند المقاول بعقد عمل لا بعقد مقاولة.
فإذا لم يكن هناك شرط مانع أو لم تكن شخصية المقاول محل اعتبار عند التعاقد، وعهد المقاول بتنفيذ العمل كله أو بعضه إلى مقاول من الباطن فإن المقاولة من الباطن تكون صحيحة، وتنفذ حتى في حق رب العمل، وتكون العلاقة ما بين المقاول الأصلي والمقاول من الباطن، علاقة رب العمل بمقاول ينظمها عقد المقاولة من الباطن، فيكون المقاول الأصلي بالنسبة إلى المقاول من الباطن رب العمل، وعليه جميع التزامات رب العمل، كما يكون المقاول من الباطن بالنسبة إلى المقاول الأصلي مقاولاً عليه جميع التزامات المقاول فيما عدا الأحكام الاستثنائية المتعلقة بالضمان في المباني والإنشاءات. (انظر المادة 692 من المشروع) ولكن المقاول الأصلي يُسأل إزاء رب العمل عن أعمال المقاول من الباطن (الفقرة الثانية من المادة 681)، فإذا أخل المقاول من الباطن بالتزامه من إنجاز العمل طبقًا للشروط والمواصفات المتفق عليها ولأصول الصنعة، أو بالتزامه من تسليم العمل بعد إنجازه أو ظهر في عمله عيب، كان المقاول الأصلي مسؤولاً عن كل ذلك قِبل رب العمل، أما المقاول من الباطن فيكون مسؤولاً عن ذلك قبل المقاول الأصلي.
وجدير بالذكر أن مسؤولية المقاول الأصلي عن أعمال المقاول من الباطن هي مسؤولية عقدية تنشأ من عقد المقاولة الأصلي وليست مسؤولية متبوع عن تابعه، فالمقاول من الباطن يعمل مستقلاً عن المقاول الأصلي ولا يُعتبر تابعًا له. وتقوم هذه المسؤولية على افتراض أن كل أعمال المقاول من الباطن تعتبر بالنسبة إلى رب العمل أعمالاً صادرة من المقاول الأصلي ومن ثم يكون مسؤولاً قبله عنها.
ولما كانت المسؤولية هنا عقدية، فإنه يجوز الاتفاق على ما يخالفها فيجوز أن يشترط المقاول على رب العمل ألا يكون مسؤولاً عن المقاول من الباطن، كما يجوز أن يقبل رب العمل حلول المقاول من الباطن محل المقاول الأصلي في كل حقوقه والتزاماته، فتتحول المقاولة من الباطن إلى تنازل عن المقاولة وتسري عليه أحكام الحوالة.
والأصل ألا تقوم علاقة مباشرة بين رب العمل وبين المقاول من الباطن إذ لا يربطهما أي تعاقد، فلا يطالب أيهما الآخر مباشرة بتنفيذ التزاماته، وإنما يكون للمقاول من الباطن طبقًا للقواعد العامة أن يرجع على رب العمل في خصوص المقابل المستحق له قِبل المقاول الأصلي وذلك بطريق الدعوى غير المباشرة يرفعها باسم المقاول الأصلي ويطالب فيها بما هو مستحق في ذمة رب العمل للمقاول الأصلي، ولكن هذه الدعوى غير المباشرة تسمح لدائني المقاول أن يزاحموا المقاول من الباطن، فلا يستأثر وحده بما يستخلصه من رب العمل، بل يقاسمه فيه سائر دائني المقاول الأصلي مقاسمة الغرماء. ومن أجل هذا حمى المشروع المقاول من الباطن من مزاحمة دائني المقاول الأصلي بإعطائه دعوى مباشرة وحق امتياز يجنبانه مزاحمة دائني المقاول الأصلي، كما مد هذه الحماية إلى عمال المقاول الأصلي وعمال المقاول من الباطن لأن هؤلاء العمال لا يقلون في الحاجة إلى الرعاية عن المقاول من الباطن، (المادتان 682 و683) وهي أحكام لها مقابل في جميع التقنينات العربية.
خامسًا: انتهاء المقاولة:
تنتهي المقاولة انتهاءً مألوفًا بانقضاء المدة المحددة لها إذا كان العمل المتفق عليه متجددًا يقترن بمدة معينة ينجز في أثنائها، كعقود الصيانة (مادة 684 من المشروع).
وهي تنتهي أيضًا انتهاء غير مألوف قبل تنفيذها باستحالة التنفيذ أو الفسخ، أو بالتقايل طبقًا للقواعد العامة، ولكنها تنتهي أيضًا بسببين خاصين بها هما: تحلل رب العمل من المقاولة بإرادته المنفردة وموت المقاول إذا كانت مؤهلاته الشخصية محل اعتبار.
ويعرض المشروع في المواد التالية (685 - 688) لهذه الأسباب فيما عدا الفسخ والتقايل اكتفاءً بتطبيق القواعد العامة في شأنها.
فالمادة (685) تعرض لانتهاء المقاولة باستحالة التنفيذ لسبب لا يد لأحد الطرفين فيه (كمرض المدرس أو قطع يد الفنان) وفي هذه الحالة فإن التزام المقاول ينقضي، وينقضي التزام رب العمل المقابل له، وينفسخ عقد المقاولة من تلقاء نفسه تطبيقًا للقواعد العامة ومتى انتهى عقد المقاولة بالانفساخ على هذا الوجه، استحق المقاول تعويضًا، لا بموجب المقاولة وقد انتهت، ولكن بموجب مبدأ الإثراء بلا سبب، فيقتضي تعويضًا من رب العمل، أقل القيمتين، قيمة ما أنفقه من ماله ووقته، وقيمة ما استفاد به رب العمل.
هذا ويلاحظ أن إفلاس أحد الطرفين لا يُعتبر قوة قاهرة تمنع من التنفيذ، بل يستمر تنفيذ العقد بواسطة مدير تفليسة الطرف المفلس، وإذا امتنع مدير التفليسة عن التنفيذ جاز للطرف الآخر أن يطلب فسخ العقد مع التعويض (قارن المادة 862 من قانون التجارة الحالي).
وتعرض المادتان (686 و687) لموت المقاول، ويلاحظ أنه في الفقه الإسلامي يكون الاستصناع باطلاً بوفاة المستصنع أو الصانع، ولكن نصوص المشروع لم تعرض لموت رب العمل، لأن شخصيته لا تكون في العادة محل اعتبار في عقد المقاولة، ولذلك فلا تنتهي المقاولة بموته، بل يبقى العقد قائمًا بين المقاول وورثة رب العمل الذين يحلون محله في العقد طبقًا للقواعد العامة.
أما موت المقاول فهو يبطل المقاولة في الفقه الإسلامي، وكذلك تنتهي به المقاولة في القانون الفرنسي (المادة 1795) ولكن التقنينات العربية، وبعض من التقنينات الأجنبية، تميز في ذلك بين ما إذا كانت مؤهلات المقاول الشخصية محل اعتبار في التعاقد أو لم تكن، وهو ما أخذ به المشروع في المادة (686) منه.
فإذا كانت مؤهلات المقاول الشخصية أو إمكاناته محل اعتبار في التعاقد، فإن عقد المقاولة ينتهي بحكم القانون بمجرد موت المقاول (686/ 1) دون حاجة لفسخه لا من ناحية رب العمل ولا من ناحية ورثة المقاول. والمقصود بالمؤهلات كل صفات المقاول الشخصية التي تكون ذات تأثير في حسن تنفيذ العمل، فيدخل فيها ما اشتهر عن المقاول من ناحية الكفاية الفنية والأمانة وحسن المعاملة، وما قام به قبلاً من أعمال تكسبه تجربة عملية فيه (سابقة الأعمال)، ومقدار ملاءته، وإمكاناته.
وتقدير ما إذا كانت مؤهلات المقاول الشخصية وإمكاناته محل اعتبار في التعاقد هو من مسائل الواقع التي يستقل بتقديرها قاضي الموضوع دون معقب عليه في ذلك، وله أن يسترشد في هذا التقدير بضوابط ثلاثة:
1 - فشخصية المقاول تعتبر دائمًا محل اعتبار في التعاقد، إذا اتفق في العقد على أن يعمل المقاول بنفسه، أو إذا أبرم العقد مع أحد رجال الفن، كالرسامين والنحاتين والموسيقيين والمطربين أو مع أحد أصحاب المهن الحرة، كالمهندسين والمعماريين وغيرهم، فكل هؤلاء تعتبر مؤهلاتهم الشخصية محل اعتبار في التعاقد.
2 - أما أرباب الحرف والصناع، كالخياط وصانع الأحذية والنقاش والسباك والنجار وغيرهم، فالأصل أن تكون مؤهلاتهم الشخصية محلاً للاعتبار في التعاقد، ما لم يقم دليلاً أو عرف على غير ذلك، كأن يكون العمل المعهود إلى أحدهم بسيطًا لا يقتضي مهارة فنية خاصة، ويستطيع القيام به أي شخص في الحرفة.
3 - وأما مقاولات المباني والإنشاء، فهذه يقوم بها عادةً مكاتب المقاولات الكبرى، التي تعتمد على ما يتوفر لديها من مهندسين وفنيين وأدوات ومعدات ورؤوس أموال، وغير ذلك من الإمكانات، بحيث تكون العبرة لا بصفات المقاول الشخصية ولكن بالمكانة التي وصل إليها اسمه في السوق، فهؤلاء لا تكون مؤهلاتهم الشخصية في الغالب محلاً للاعتبار في التعاقد.
أما إذا لم تكن مؤهلات المقاول الشخصية محل اعتبار في التعاقد فإنه طبقًا للفقرة الثانية من المادة (686) لا ينتهي العقد من تلقاء نفسه، ولكن يجوز لرب العمل طلب إنهائه إذا لم تتوافر في ورثة المقاول الضمانات الكافية لحسن تنفيذ العمل. والقاضي هو الذي يقدر ما إذا كان الورثة لا تتوافر فيهم الضمانات الكافية فيحكم بإنهاء العقد، أو أن فيهم من الضمانات ما يكفي للمضي في العمل وحسن تنفيذه، فيرفض الطلب.
فإذا انتهت المقاولة بموت المقاول، سواء انتهت من تلقاء نفسها لقيامها على اعتبار مؤهلات خاصة في شخص المقاول، أو انتهت عن طريق الإنهاء بناءً على طلب رب العمل أو طلب الورثة وكان ذلك قبل البدء في تنفيذ العمل، فإن الالتزامات التي أنشأها عقد المقاولة في جانب كل من الطرفين تنقضي بانتهاء العقد، ولا يرجع أي منهما على الآخر بشيء، إلا إذا كان رب العمل قد عجل شيئًا من المقابل المتفق عليه فيسترده.
أما إذا كان المقاول قد بدأ في تنفيذ العمل قبل موته، فإن المادة (687) من المشروع تعطي لورثته الحق في نسبة من المقابل تعادل ما قام بتنفيذه من أعمال، كما تعطيهم الحق في قيمة ما تخلف في موقع العمل عند موت مورثهم من مواد يكون قد جلبها إذا كانت صالحة لاستعمالها في إتمام العمل، ومن ناحية أخرى يكون لرب العمل أن يطالبهم بتسليم المواد الأخرى التي يكون مورثهم قد أعدها، وكذلك الرسومات التي بُدئ في تنفيذها على أن يدفع عن كل ذلك مقابلاً عادلاً.
وتسري الأحكام المتقدمة أيضًا، إذا بدأ المقاول في تنفيذ العمل ثم أصبح عاجزًا عن إتمامه لسبب لا دخل لإرادته فيه.
وأخيرًا تعرض المادة (688) من المشروع لجواز تحلل رب العمل من المقاولة بإرادته المنفردة، ويُلاحظ بادئ ذي بدء أن الاستصناع لدى جمهور الحنفية عقد غير لازم في مواجهة كلا طرفيه قبل العمل، أما إذا أتى الصانع بالشيء المصنوع على الصفة المشروطة، فحكمه في حق المستصنع ثبوت (ملك غير لازم) في المصنوع، حتى يثبت له خيار الرؤية إذا رآه، إن شاء أخذه وإن شاء تركه، وفي حق الصانع ثبوت (ملك لازم) في الثمن إذا رأى المستصنع الشيء المصنوع ورضي به ولا خيار له، وهذا جواب ظاهر الرواية، لأن الاستصناع في حكم البيع، والمستصنع مشترٍ لشيء لم يره فيكون له الخيار إذا رآه، أما الصانع فقد أسقط خيار نفسه بالإحضار فبقي خيار صاحبه على حاله، كالبيع الذي فيه شرط الخيار للعاقدين، إذا أسقط أحدهما خياره، يبقى خيار الآخر، ورُوي عن أبي حنيفة، أنه ملك غير لازم في حق كل منهما، حتى يثبت لكل واحد منهما الخيار، لأن في تخيير كل واحد منهما دفعًا للضرر عنه.
ولكنه رُوي عن أبي يوسف أنه ملك لازم في حق كل منهما، فلا خيار للمستصنع ولا الصانع، لأن في إثبات الخيار للمستصنع إضرارًا بالصانع لأنه أفسد متاعه، وفي إثبات الخيار للصانع إضرارًا بالمستصنع لعدم اندفاع حاجته، وقد أُخذ في المجلة برأي أبي يوسف، فنصت المادة (392) منها، على أنه إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع، ولم يعطِ المستصنع الخيار إلا إذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة.
ولكن المشروع آثر أن يذهب مذهبًا وسطًا، فخول رب العمل وحده، دون المقاول، أن يتحلل بإرادته المنفردة من عقد المقاولة وينهيه، فيوقف تنفيذ العمل في أي وقت قبل إتمامه على أن يعوض المقاول عن جميع ما أنفقه من مصروفات وما أنجزه من أعمال، وما كان يستطيع كسبه لو أنه أتم العمل (مادة 688/ 1)، وهو حكم وارد في غالبية التقنينات العربية، وفي بعض من التقنينات الأجنبية، فقد يرى رب العمل بعد وضع المقاولة موضع التنفيذ أن من الخير له العدول عنها والرجوع في العقد وقد تتغير الظروف التي أبرم فيها العقد، كأن تكون المقاولة متعلقة بإنشاء عمارة للاستغلال ثم يصدر قانون بتحديد الأجرة فتصبح الصفقة غير رابحة، وقد يعتمد رب العمل على موارد يدفع منها أجر المقاولة فتتخلف هذه الموارد أو تقصر عن دفع الأجر، وقد يصبح العمل المطلوب تنفيذه غير مجدٍ لرب العمل، فلمثل هذه الأسباب أو لغيرها مما يبدو وجيهًا في نظر صاحب العمل، أجاز المشروع لرب العمل أن يرجع في العقد ويتحلل من المقاولة، على أن يعوض المقاول عما تكلفه من نفقات وما فاته من كسب، بدلاً من المضي في العمل إلى غايته والإنفاق عليه دون فائدة.
وأما المقاول فإنه ليس له حق التحلل من المقاولة بإرادته المنفردة بل يبقى ملزمًا بتنفيذها إلى النهاية، ويجوز لرب العمل إجباره على التنفيذ العيني دون أن يقتصر على مطالبته بالتعويض، ذلك أن لرب العمل مصلحة محققة في هذا التنفيذ العيني، فهو لم يبرم عقد المقاولة إلا للحصول على هذا التنفيذ.
وغني عن البيان أن حق رب العمل في التحلل من المقاولة مع تعويض المقاول ليس من النظام العام، ومن ثم يجوز الاتفاق على خلافه، فيجوز الاتفاق على عدم جواز تحلل رب العمل من العقد كما يجوز الاتفاق على أن يكون لرب العمل التحلل من المقاولة دون أن يدفع أي تعويض أو دون أن يدفع تعويضًا كاملاً بل يقتصر على دفع ما أُثري به على حساب المقاول.
على أنه يجوز للمحكمة - طبقًا للفقرة الثانية من المادة (688) أن تخفض التعويض المستحق للمقاول عما فاته من كسب، إذا كانت الظروف تجعل هذا التخفيض عادلاً.
الفرع الثاني - الأحكام الخاصة بمقاولات المباني والإنشاء:
خصص المشروع هذا الفرع لبعض الأحكام الخاصة بمقاولات المباني والإنشاء، اعتبارًا لأهميتها، ويعرض فيه للتعديلات والإضافات التي قد ترد على المقايسة أو التصميم وللأحكام المتعلقة بمسؤولية المقاول والمهندس عن المباني والمنشآت التي يقيمانها.
فتعرض المادتان (689 و690) لما يترتب على تعديل المقايسة أو التصميم، في مقاولات المباني والإنشاء، أما غير ذلك من المقاولات فتسري في شأن تعديل عقودها القواعد العامة.
ويعرض النص الأول (المادة 689) لمقاولات المباني والإنشاء التي تُبرم على أساس مقايسة تقديرية، تقدر فيها كميات الأعمال المختلفة تقديرًا تقريبيًا ويحدد المقابل لكل وحدة من هذه الأعمال، حيث يقتضي ذلك أن يتفاوت المقابل بحسب كمية الأعمال التي يتم تنفيذها، فلا يكون في زيادة المقابل إذا اقتضى الأمر ذلك ما يخالف طبيعة الاتفاق، ولكن النص يوجب على المقاول إذا تبين له في أثناء التنفيذ، ضرورة مجاوزة المقايسة المقدرة مجاوزة جسيمة، أن يبادر بإخطار رب العمل بذلك مبينًا مقدار ما يتوقعه من زيادة في المقابل نتيجة لهذه المجاوزة.
والمقصود بمجاوزة المقايسة، هو مجاوزة كميات الأعمال المقدرة فيها وليس مجاوزة أسعارها، ولذلك فإن عبارة (مجاوزة المصروفات المقدرة في المقايسة) الواردة في نص المادة (18) من المشروع السابق تكون غير دقيقة في هذا المجال إذ قد ينصرف معناها إلى أن المقصود بالمجاوزة، وهو مجاوزة السعر الوارد في المقايسة، مع أن المقصود هو حالة مجاوزة الكم لا السعر، فمثلاً إذا تبين للمقاول عند حفر الأساس اللازم للبناء الذي يقوم بإنشائه، أنه يجب تعميقه أكثر، وأن هذا التعميق يقتضي كميات من العمل تزيد زيادة جسيمة عما هو مقدر في المقايسة انطبق النص.
كذلك يجب أن تكون المجاوزة غير متوقعة وقت إبرام العقد، أما إذا كانت متوقعة أو من الممكن توقعها، فإن الأجر يزيد بمقدار هذه المجاوزة ولا خيار لرب العمل.
فإذا لم يخطر المقاول رب العمل بالمجاوزة غير المتوقعة، أو أبطأ في إخطاره دون مبرر، أو لم يذكر في الإخطار مقدار ما يتوقعه من الزيادة، سقط حقه في استرداد هذه الزيادة وبقي المقابل بغير تعديل، (مادة 689/ 1).
أما إذا أخطر المقاول رب العمل بالمجاوزة، فحينئذٍ يكون رب العمل مخيرًا - إما أن يوافق على المضي في تنفيذ العمل، ومن ثم يلتزم بزيادة المقابل بما يتناسب مع المجاوزة، وإما أن يتحلل من المقاولة إذا رأى في الزيادة إرهاقًا له، وفي هذه الحالة يكون عليه أن يطلب دون إبطاء، من المقاول وقف العمل، كما يكون عليه أن يوفي المقول قيمة ما أنجزه من الأعمال إلى يوم إخطاره بوقف العمل، وتقدر هذه القيمة بحسب مما هو مقدر في العقد لا يحسب ما أنفقه المقاول فعلاً، ولا يكون للمقاول أن يطالب رب العمل بتعويضه عما كان يمكنه كسبه لو أنه أتم العمل (مادة 689/ 2). ذلك أن رب العمل لم يتحلل هنا من العقد بمحض رغبته، بل إنه اضطر لذلك إزاء الزيادة المرهقة في المقابل.
وغني عن البيان أن النص لا ينطبق حيث تكون المجاوزة في المقايسة غير جسيمة، فحينئذٍ لا يستطيع رب العمل أن يتحلل من العقد بسبب مثل هذه المجاوزة، وتجب عليه زيادة المقابل بما يتناسب معها، شاء ذلك أو أبى، وتقدير ما إذا كانت المجاوزة جسيمة فتجيز لرب العمل التحلل من المقاولة، أو غير جسيمة فتبقيه مقيدًا بها مع زيادة المقابل الزيادة المناسبة، هو من مسائل الواقع التي يستقل قاضي الموضوع بتقديرها دون معقب عليه في ذلك.
ويعرض النص الثاني (المادة 690) لتعديل التصميم في حالة المقاولات التي تبرم على أساس مقابل جزافي يحدد للمقاولة مقدمًا وإجمالاً، بعد وضع تصميم نهائي كامل يتضمن وصفًا لجميع الأعمال المطلوبة ويتم الاتفاق عليه مع رب العمل، أما إذا كان التصميم غير كامل، أو كان تقريبيًا أو احتفظ أحد الطرفين بحق إجراء التعديل فيه أثناء التنفيذ، فلا ينطبق النص. وفي هذه الحالة - التي يعرض لها النص - فإن المقابل الإجمالي الجزافي الذي اتفق عليه الطرفان في عقد المقاولة لا يكون قابلاً للتعديل، فلا يزيد المقابل إذا أدخل المقاول تعديلاً على التصميم ولو كان التعديل هامًا نافعًا بل ولو كان ضروريًا، وليس هذا إلا تمشيًا دقيقًا مع إرادة المتعاقدين، وقد وضع هذا النص حماية لرب العمل - وهو عادةً رجل غير فني قليل الخبرة - من المقاول، وهو دائمًا رجل فني واسع الخبرة، فأتاحت له أن يصل بالاتفاق مع المقاول على مقابل إجمالي جزافي، إلى هذا القدر من الاطمئنان والاستقرار والثبات.
ومع ذلك فإن النص يجيز استثناء زيادة المقابل في حالتين:
الأولى: حالة تعديل التصميم أو زيادة التكاليف لسبب يرجع إلى رب العمل كأن يقدم للمقاول معلومات خاطئة عن الأبعاد التي يريدها للبناء أو يتأخر في الحصول على الترخيص أو في تقديم الأرض التي يتم البناء عليها فينجم عن ذلك تحميل المقاول بنفقات أو تكاليف إضافية - ولا يشترط أن يكون رب العمل سيئ النية ولا حتى أن يكون مقصرًا، فيكفي أن يكون التعديل في التصميم أو زيادة التكاليف ناجمًا عن فعله ومنسوبًا إليه، دون حاجة لأن يثبت في جانبه أي خطأ أو تقصير.
الثانية: إذا حدث في التصميم تعديل أو إضافة، وكان رب العمل قد أذن بذلك، ولم يرَ المشروع بعد ذلك أن يوجب الاتفاق مقدمًا على مقدار الزيادة ولا أن يوجب حصول الاتفاق على التعديل، كتابةً إذا كان عقد المقاولة الأصلي مكتوبًا، كما فعل التقنين المصري وبعض التقنينات الأخرى - اكتفاءً بالقواعد العامة في الإثبات.
ويعرض نص المادة (691) من المشروع لحالة خاصة هي حالة إقامة بناء أو إنشاء على أرض مقدمة من رب العمل إذا كانت تشوبه عيوب تبلغ من الجسامة حدًا يجعله غير صالح للاستعمال المقدر له، فيكون لرب العمل أن يرفض تسلمه طبقًا للأحكام الواردة في المادة (673) ويقتضي الأمر إزالته. ولما كانت إزالة البناء أو الإنشاء في هذه الحالة قد ترتب أضرارًا بالغة للمقاول، فقد رأى المشروع أن يقصر حق رب العمل في هذه الحالة على طلب إنقاص المقابل أو إصلاح العيب إن كان ممكنًا دون إزالة البناء أو الإنشاء، وكل ذلك دون إخلال بالحق في التعويض إن كان له مقتض، وهذا النص مأخوذ عن المشروع التمهيدي المصري الذي أخذه بدوره عن تقنين الالتزامات السويسري وهو مجرد تطبيق للقواعد العامة في حالة ما إذا كان في التنفيذ العيني إرهاق للمدين.
وأخيرًا ضمن المشروع نصوص المواد من (692 – 697) أحكامًا خاصة في ضمان المقاول والمهندس لما يقيماه من مبانٍ أو منشآت ثابتة أخرى، حتى يدفعهما إلى بذل كل عناية ممكنة فيما يشيدانه من المباني والمنشآت، نظرًا لخطورة ما يترتب على تهدمها أو تصدعها بالنسبة إلى رب العمل وبالنسبة إلى الغير، ويلاحظ بالنسبة لهذه النصوص ما يأتي:
1 - تنطبق أحكام هذه النصوص إذا وقعت المقاولة على منشآت ثابتة وفي مقدمة هذه المنشآت المباني من أي نوع كان، سواء كانت مشيدة بالطابوق أو بالحجارة أو بالخشب أو بغيره، ما دامت مستقرة ثابتة لا يمكن نقلها دون هدمها، ومن ذلك أيضًا الجسور والسدود والخزانات والبوابات، وأجهزة التكييف المركزية والمداخن، ولا يتحتم أن تكون هذه المنشآت فوق الأرض، بل يصح أن تكون تحتها أو في مستواها كالطرق والأنفاق.
2 - يترتب الضمان أولاً في ذمة المقاول الذي يُعهد إليه في إقامة المنشآت الثانية. وقد يعهد رب العمل تنفيذ ذلك إلى عدة مقاولين، فيعهد إلى مقاول بوضع الأساس والقيام بأعمال البناء الأخرى، وإلى مقاول آخر بأعمال النجارة وإلى ثالث بأعمال الحدادة، وإلى رابع بالأعمال الصحية وهكذا، فيعتبر كل من هؤلاء مقاولاً في حدود الأعمال التي يقوم بها ويكون ملتزمًا بالضمان في هذه الحدود، كذلك يترتب الضمان في ذمة المهندس الذي يعهد إليه رب العمل في وضع التصميمات والرسومات والنماذج اللازمة لإقامة المنشآت أو جانب منها، أو الذي قد يُعهد إليه بإدارة العمل أو بالإشراف على تنفيذه ولا يُشترط أن يكون مهندسًا معماريًا بل إن أي مهندس إنشائي أو ميكانيكي أو كهربائي أو مدني أو غيره يكون ملتزمًا بالضمان إذا قام بمهمة من المهمات المشار إليها وذلك في حدود العمل الذي قام به.
3 - طبقًا للفقرة الثالثة من المادة (692) يشمل الضمان ما يحدث في المنشآت من تهدم كلي أو جزئي أو خلل ولو كان التهدم ناشئًا عن عيب في الأرض ذاتها، أو كان رب العمل قد أجاز إقامة المنشآت المعيبة، لأن الخطأ هو خطأ المقاول، ولم يفعل رب العمل سوى أن يجيز هذا الخطأ والمفروض أنه شخص غير فني فلا يعتمد بإجازته ولا يكون لها أثر في مدى مسؤولية المقاول عن الضمان.
كما يشمل الضمان أيضًا ما يظهر في المنشآت من عيوب يترتب عليها تهديد متانتها وسلامتها، سواء كان العيب في المواد المستخدمة أو في أصول الصنعة أو في الأرض التي أُقيم الإنشاء عليها أو تحتها، كأن تكون الأرض هشة ولم تتخذ الإجراءات التي تستوجبها أصول الصنعة لتقويتها أو تعميق الأساس فيها، ولا يشترط أن يكون العيب خفيًا، فلو كان العيب ظاهرًا بحيث يمكن كشفه بالفحص المعتاد، فإن تقبل رب العمل للعمل دون اعتراض لا يسقط الضمان.
4 - وإذا اقتصر عمل المهندس على وضع التصميم، دون الإشراف على التنفيذ فإنه لا يكون مسؤولاً إلا عن العيوب التي أتت من التصميم، دون العيوب التي ترجع إلى طريقة التنفيذ (مادة 693/ 1) سواء كانت عيوب التصميم راجعة إلى خطأ فني، أو إلى مخالفة قوانين البناء ولوائحه، غير أن المهندس إذا أشرف على التنفيذ يكون مسؤولاً عن عيوب التصميم وعن عيوب التنفيذ معًا (مادة 693/ 2).
أما المقاول، فإنه لا يكون مسؤولاً إلا عن العيوب التي تقع في التنفيذ دون العيوب التي تأتي من الغلط أو عدم التبصر في وضع التصميم (مادة 694/ 1). ولكن إذا كان العيب في التصميم من الوضوح بحيث لا يخفى على المقاول، كأن يكون متعلقًا بمخالفة قوانين البناء ولوائحه ويقوم المقاول على تنفيذ التصميم بالرغم من ظهور العيب فيه، فإنه يكون هو أيضًا ملتزمًا بالضمان، ومن ثم فإنه يكون على المقاول إذا ظهر له عيب في التصميم أن يقف العمل ولا يعود إليه إلا إذا تم إصلاح العيب ومع ذلك يكون المقاول مسؤولاً عن العيوب التي ترجع إلى التصميم إذا كان المهندس الذي قام بوضعه تابعًا للمقاول (مادة 694/ 2). فإذا كان كل من المهندس والمقاول مسؤولاً عما وقع في التنفيذ من عيب، كانا متضامنين في المسؤولية (مادة 695)، وعلى ذلك فإذا أشرف المهندس على التنفيذ فإنه يكون متضامنًا مع المقاول في حدود عيوب التنفيذ ومستقلاً وحده في الضمان من عيوب التصميم، الذي وضعه بتكليف من رب العمل، وإذا كان المقاول مسؤولاً عن العيب في التصميم لوضحه كان متضامنًا مع المهندس في ذلك، وقد روعي في وضع هذه الأحكام أن التصميم يجب أن يقوم بوضعه مهندس مختص كما تنص قوانين تنظيم أعمال البناء.
وغني عن البيان أنه إذا قُضي على أي من المهندس أو المقاول بالتعويض كاملاً لقيام التضامن فإنه يكون له أن يرجع على الآخر وتقسم المسؤولية بينهما بنسبة مساهمة خطأ كل منهما في أحداث الضرر مع مراعاة جسامة الخطأ.
5 - يتحقق الضمان إذا حدث سببه خلال عشر سنوات تبدأ من وقت إتمام البناء أو الإنشاء (مادة 692/ 1) وهو ما يتمشى مع الحكمة من فرض هذا الضمان، وفي ذلك يتفق المشروع مع المشروع الفرنسي الإيطالي (522) والتقنين الإسباني (1591) والتقنين الإيطالي. أما التقنين المصري والتقنينات العربية الأخرى وكذلك تقنين الالتزامات السويسري، فيبدأ سريان المدة فيها من وقت تسلم العمل (أو تقبله كما هو المقصود).
وغني عن البيان أن مدة العشر سنوات هي مدة اختبار لصلابة المنشآت ومتانتها، وليست مدة تقادم، ومن ثم فلا تكون عرضة لأن توقف ولو وجد مانع يتعذر معه على رب العمل أن يطالب بحقه، وكذلك لا تكون عرضه لأن تنقطع.
وتحديد المدة التي يبقى فيها المقاولون والمهندسون مسؤولين عن خلل البناء بعشر سنوات أخذ به المشروع جريًا على نسق التقنين المصري (م 651) وغالبية التقنينات التي أخذت عنه، وقد أخذ بهذه المدة أيضًا التقنين الفرنسي (م 1792) والتقنين الأردني (788) والتقنين المغربي (م 769) والمشروع الفرنسي الإيطالي (م 522) والمشروع الكويتي السابق (م 6). أما تقنين الالتزامات السويسري (م 371) والتقنين اللبناني (م 668) والتقنين العراقي (م 870) والتقنين السوداني (م 525) فقد أنقصت جميعها المدة إلى خمس سنوات، ومع ذلك يجوز أن تكون مدة الضمان أقل من عشر سنوات إذا كان المقصود من المنشآت ألا تبقى طوال هذه المدة (مادة 698/ 2) فإذا كان هناك معرض مدته سنة مثلاً، وأقام أحد العارضين مبنى في المعرض. يعرض فيه منتجاته فإن من المفروض أن هذا المبنى لا يدوم إلا سنة واحدة، هي مدة بقاء المعرض، وفي هذه الحالة تكون مدة الضمان سنة واحدة لا عشر سنوات.
ولتطبيق هذا الحكم يجب أن يتبين أن المتعاقدين قصدا بالبناء أن يبقى لمدة أقل من عشر سنوات، فلا يكفي مجرد النص في عقد المقاولة على مدة للضمان أقل من عشر سنوات.
6 - تسقط دعوى الضمان بانقضاء ثلاث سنوات على حصول التهدم أو انكشاف العيب (المادة 696 من المشروع) وهي سنة في بعض التقنينات الأخرى (المادة 6 من المشروع الكويتي السابق والمادة 870 من التقنين العراقي والمادة 791 من التقنين الأردني، والمادة 528 من التقنين السوداني).
ويخلص من ذلك أن رب العمل يستطيع أن يرفع دعوى الضمان خلال ثلاث سنوات يبدأ سريانها من وقت انكشاف العيب أو حصول التهدم، فإذا انكشف العيب أو حصل التهدم بعد خمس سنوات مثلاً من وقت إتمام الإنشاء، كان أمامه ثلاث سنوات أخرى لرفع دعوى الضمان أي إلى انقضاء ثماني سنوات من وقت إتمام الإنشاء، وإذا انكشف العيب أو حصل التهدم في آخر السنة العاشرة من وقت إتمام الإنشاء، كان أمامه ثلاث سنوات أخرى لرفع الدعوى، أي ثلاث عشرة سنة من وقت إتمام العمل، وتكون هذه هي أقصى مدة يمكن أن تنقضي من وقت إتمام الإنشاء إلى وقت رفع دعوى الضمان فإذا انقضت مدة الثلاث سنوات ولم ترفع دعوى الضمان خلالها، فإن الدعوى تسقط.
7 - تعتبر أحكام الضمان الخاص الذي تعرض له النصوص المتقدمة - خلافًا لأحكام الضمان بوجه عام - من النظام العام وفي ذلك تنص المادة (697) من المشروع على أن كل شرط بإعفاء المهندس أو المقاول من الضمان أو بالحد منه يكون باطلاً ويبرر ذلك أن رب العمل لا يكون عادة ذا خبرة فنية ولذلك حماه المشروع هذه الحماية الخاصة، ومن ثم فلا يجوز الاتفاق مقدمًا على الإعفاء من الضمان أو على الحد منه، أما بعد تحقق سبب الضمان وتبين رب العمل خطورة العيوب التي انكشفت، فإنه يكون له وقد ثبت حقه في الضمان أن ينزل عن هذا الحق كله أو بعضه نزولاً صريحًا أو ضمنيًا، ولكنه لا يوجد ما يمنع من الاتفاق مقدمًا على تشديد الضمان، إذ أن الضمان إنما قُصد به حماية رب العمل، فليس هناك ما يحول دون أن يقوي رب العمل هذه الحماية باتفاق خاص.
الفصل الثاني: الوكالـة:
الوكالة شرعًا إقامة الغير مقام نفسه في تصرف معلوم ودليل جوازها قوله تعالي (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة) لأن ذلك كان توكيلاً، وما روي من أن رسول الله صلي الله عليه وسلم وَكَّل حكيم بن حزام بشراء الأضحية، كما أجمعت الأمة على جوازها من لدن رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وسببها حاجة الناس إليها لترفهم أو عجزهم.
وأحكام الوكالة في القانون الكويتي الحالي موزعة بين مصادر مختلفة: فقد عرضت المجلة للوكالة في الكتاب الحادي عشر منها (المواد 1449 - 1530) فتكلمت على ركنها وتقسيمها وبينت شروطها وأحكامها وعرض لها أيضًا قانون التجارة في الباب الرابع من الكتاب الثالث (المواد 543 - 558)، كما تضمن قانون التسجيل العقاري بعضًا من أحكامها.
وقد أعاد المشروع تنظيم هذه الأحكام بعد تعديلها التعديلات المناسبة، مراعيًا في ذلك عدم تكرار النصوص التي أوردها في القواعد العامة للالتزامات عند الكلام عن النيابة، فعرض في عقد الوكالة، أساسًا للأحكام المتعلقة بعلاقة الموكل بالوكيل، مع الإحالة على أحكام النيابة في الأحكام الأخرى المتعلقة بالعلاقة مع الغير الذي يتعاقد معه الوكيل.
وتبدأ نصوص المشروع بتعريف الوكالة، فتعرفها المادة (698)، بأنها عقد يقيم به الموكل شخصًا آخر مقام نفسه في مباشرة تصرف قانوني.
ويخلص من هذا التعريف أن محل الوكالة الأصلي يكون دائمًا تصرفًا قانونيًا، حتى لو استتبع هذا التصرف القيام بأعمال مادية تعتبر ملحقة به وتابعة له، وهذا ما يميز الوكالة عن غيرها من العقود، وبخاصة عقدي العمل والمقاولة، أما إذا كان العمل المعهود به قد تمحض عملاً ماديًا، فإن العقد لا يكون وكالة، بل قد يكون عقد عمل أو عقد مقاولة.
والتصرف القانوني محل الوكالة يجب أن يكون جائزًا، أي مشروعًا، فإذا كان غير مشروع لمخالفته للقانون أو للنظام العام أو للآداب، كان باطلاً وكان التوكيل فيه أيضًا باطلاً، ومع ذلك فقد تحدد نصوص القانون من يجوز توكيله في أمر من الأمور المشروعة، ومن ثم يكون توكيل غير من حددته هذه النصوص غير جائز لمخالفته للقانون، ومن ذلك التوكيل في الخصومة، فهو وإن كان في الأصل جائزًا، لأنه توكيل في أمر مشروع، غير أن نصوص قانون المرافعات تحدد من يجوز توكيله في الحضور أمام القضاء.
وغني عن البيان أن التصرف القانوني محل الوكالة، يجب أن يكون أيضًا ممكنًا وهو ما تقضي به القواعد العامة، فإذا كان مستحيلاً، كانت الوكالة باطلة تبعًا لذلك، ومع هذا قد يكون التصرف القانوني ممكنًا، ولكن طبيعته لا تقبل التوكيل فيه إذ يكون عملاً يقتضي أن يقوم به صاحبه شخصيًا، ومن ذلك حضور الخصم أمام القضاء للاستجواب أو لحلف اليمين.
أولاً: أركان الوكالة:
يعرض المشروع في المادة (699) منه لأهلية الموكل، أي الأصيل، فالتصرف القانوني الذي يبرمه النائب لحساب الأصيل وباسمه ينصرف أثره إلى الأصيل مباشرة (المادة 57 من المشروع) ولذلك وجب أن يكون الموكل أهلاً أن يؤدي بنفسه التصرف الذي وكل به غيره، والعبرة في توافر الأهلية في الموكل هي بوقت الوكالة بالوقت الذي يباشر فيه الوكيل التصرف أيضًا، أما الوكيل فإن أهليته تخضع للقواعد العامة.
وتعرض المادة (700) من المشروع لشكل الوكالة فتنص على أنه يجب أن يتوافر فيها الشكل الواجب توافره في التصرف القانوني محل الوكالة، فلما كان الأصل في التصرفات القانونية أن تكون رضائية لا تستوجب شكلاً خاصًا، فكذلك الأصل في الوكالة أن تكون هي أيضًا رضائية، ولكن هناك عقودًا شكلية تقتضي لانعقادها شكلاً خاصًا، ورقة رسمية أو ورقة مكتوبة مثلاً، فهذه يجب أن تكون الوكالة فيها أيضًا شكلية، وهو استثناء من الأصل العام الذي قررته المادة (55) من المشروع.
ويعرض المشروع في المواد من (701 إلى 703) لنطاق الوكالة، فالوكالة تنقسم من ناحية التصرفات القانونية التي تكون محلاً لها، إلى قسمين رئيسيين: وكالة عامة ووكالة خاصة.
أما الوكالة العامة فهي التي ترد في ألفاظ عامة، فلا يعين فيها الموكل محل التصرف القانوني المعهود به إلى الوكيل بل ولا يعين نوع هذا التصرف ذاته فيقول للوكيل مثلاً: وكلتك في إدارة أعمالي، أو في مباشرة ما تراه صالحًا لي، أو جعلتك وكيلاً مفوضًا عني، أو نحو ذلك من العبارات التي تشير إلى الإدارة أو لا تشير إليها، ولكنها حتى لو أشارت إلى الإدارة تكون في ألفاظ عامة لا تخصيص فيها. وسواء أشارت الوكالة العامة إلى الإدارة أو لم تشر، فإنها لا تخول الوكيل صفة إلا في أعمال الإدارة (مادة 701/ 1) وقد أورد المشروع في الفقرة الثانية من المادة (701) طائفة من أعمال الإدارة التي تشملها الوكالة العامة، ولكن هذه الأعمال لم ترد على سبيل الحصر، بل ذُكرت على أنها من أبرز أعمال الإدارة، فهناك أعمال إدارة أخرى لم يذكرها النص ويمكن أن يقوم بها الوكيل ومن ذلك التنفيذ على أموال مديني الموكل لاستخلاص حقوقه، ورفع دعاوى الحيازة دون دعاوى الملكية ودعاوى القسمة فهذه وتلك تقتضي توكيلاً خاصًا وكذلك يكون للوكيل أن يرفع جميع الدعاوى التي تنشأ من أعمال الإدارة التي يقوم بها، وأن يشطب الرهن بعد استيفاء الحق، كما يكون له قبل ذلك أن يقيد الرهن وأن يجدد قيده.
وأما الوكالة الخاصة فهي التي تتحدد بتصرف أو تصرفات قانونية معينة، سواء كانت من أعمال الإدارة كالتوكيل بالإيجار أو بأعمال الحفظ والصيانة، أو كانت من أعمال التصرف، كالتوكيل بالبيع والشراء والصلح والتحكيم، فأعمال الإدارة تحتمل الوكالة العامة كما تحتمل الوكالة الخاصة، ولكن التصرفات التي لا تدخل في أعمال الإدارة لا يصح أن تكون محلاً إلا لوكالة خاصة (مادة 702/ 1) لخطورتها، وفي ذلك يجوز أن تقتصر الوكالة الخاصة على تصرف واحد من هذه التصرفات، كبيع منزل معين أو رهنه، كما يجوز أن تشمل نوعًا معينًا منها، كالتوكيل في البيع أو التوكيل في الرهن، دون تعيين للمحل الذي يقع عليه التصرف، ومع ذلك فإنه إذا كان التصرف من التبرعات كالهبة وكالإبراء، فإن التوكيل فيه يجب أيضًا أن يعين المحل الذي يرد عليه التصرف. فلا يكفي أن يوكل شخص شخصًا آخر في الهبة أو في الإبراء دون تعيين للمحل وذلك لخطورة هذه التصرفات، بل يجب أن يعين المال الذي وكله أو الدين الذي وكله في هبته أو الدين الذي وكله في الإبراء منه (مادة 702/ 2) والأصل أن الوكالة – سواء كانت عامة أو خاصة – لا تجعل للوكيل صفة إلا في مباشرة الأمور المحددة فيها، فالتوكيل بالإبراء من دين لا يشمل التوكيل بحوالته، والتوكيل ببيع منزل لا يشمل التوكيل بإيجاره والتوكيل بالصلح لا يشمل التوكيل بالتحكيم. ولكن الوكالة مع ذلك تشمل كل ما يقتضيه تنفيذها من تصرفات أو أعمال ضرورية، ويرجع في ذلك إلى طبيعة التصرف محل الوكالة وإلى ما جرى به العرف وقبل ذلك إلى ما انصرفت إليه إرادة المتعاقدين (مادة 703).
فالوكالة العامة يمكن أن تمتد أيضًا إلى أعمال التصرف، إذا كانت أعمال الإدارة تقتضيها، ومن ذلك بيع المحصول وقبض ثمنه، وبيع المنقول الذي يسرع إليه التلف، وشراء ما يستلزمه المال الذي يديره الوكيل من أدوات لحفظه واستغلاله. والوكالة بالبيع تشمل تسليم البيع، والوكالة بالشراء تشمل تسلم الشيء المشترى، والوكالة بالإيجار تشمل تسليم المأجور، والوكالة بالاقتراض تشمل تسلم مبلغ القرض كما تشمل الوكالة بقبض الدين إعطاء المخالصة بدفعه وشطب الرهن الذي يضمنه وقبض الدين قبل ميعاد حلوله، واستيفاء جزء من الدين إذ جرى العرف بذلك أو انصرفت إليه نية المتعاقدين وهكذا.
ثانيًا: آثار الوكالة:
1 – التزامات الوكيل:
تعرض نصوص المواد من (704 إلى 707) لالتزامات الوكيل: ( أ ) وأول هذه الالتزامات تنفيذ الوكالة في حدودها المرسومة وعدم مجاوزتها، ولكن للوكيل أن يخرج في تصرفه عن هذه الحدود متى كان من المستحيل عليه إخطار الموكل سلفًا إذا كانت الظروف يغلب معها الظن بأن الموكل ما كان إلا ليوافق على هذا التصرف، وعلى الوكيل في هذه الحالة أن يبادر بإبلاغ الموكل بخروجه عن حدود الوكالة ليتبين موقفه (مادة 704).
(ب) كذلك يجب أن يبذل الوكيل في تنفيذ الوكالة القدر الواجب من العناية، فإذا كانت الوكالة بأجر، وجب على الوكيل أن يبذل في تنفيذها عناية الشخص العادي (مادة 705 / 2) أما إذا كانت بغير أجر، فإن على الوكيل أن يبذل في تنفيذها العناية التي يبذلها في أعماله الخاصة، دون أن يكلف في ذلك أزيد من عناية الشخص العادي (705/ 1).
(ج) ويلتزم الوكيل باطلاع موكله عن الحالة التي وصل إليها في تنفيذ الوكالة أثناء سريانها، من تلقاء نفسه أو كلما طلب منه الموكل ذلك في أوقات معقولة، وأن له حسابًا عن وكالته عند انتهائها ويجب أن يكون الحساب مفصلاً شاملاً لجميع أعمال الوكالة ومؤيدًا بالمستندات، حتى يتمكن الموكل من أن يستوثق من سلامة تصرفات الوكيل وإذا تعدد الوكلاء قدموا حسابًا واحدًا إلا إذا كانت أعمال الوكالة موزعة بينهم فيقدم كل وكيل حسابًا مستقلاً عن أعماله، ومع ذلك لا يكون الوكيل ملتزمًا بتقديم حساب عن وكالته إذا قضت طبيعة المعاملة أو الظروف أو الاتفاق بذلك، فقد تقضي طبيعة المعاملة بعدم تقديم حساب، إذا كان التصرف محل الوكالة لا يحتمل تقديم حساب عنه، كالوكالة في الإقرار أو في الزواج أو في الطلاق. وقد تقضي الظروف بالإعفاء عن تقديم الحساب نظرًا للصلة القائمة بين الموكل والوكيل. وكذلك قد يتفق الموكل مع الوكيل على عدم تقديم حساب فيكون هذا الاتفاق صحيحًا (مادة 706).
(د) وأخيرًا، يلتزم الوكيل، إذا وقع في يده مال للموكل، ألا يستعمل هذا المال لصالح نفسه بدون إذن وإلا كان ملزمًا بتعويض الموكل تعويضًا عادلاً يقدره القاضي بمراعاة ظروف الحال (مادة 707).
ويعرض المشروع بعد ذلك في المادتين (708 و709) لتعدد الوكلاء ومسؤوليتهم فيفرق في ذلك بين فرضين:
الأول: أن يعين الوكلاء بعقود متفرقة، وفي هذه الحالة يجوز لأي وكيل منهم أن ينفرد بالعمل، إلا إذا اشترط الموكل عليهم أن يعملوا مجتمعين، فعندئذٍ لا يجوز لأحد منهم أن ينفرد بالعمل (مادة 708/ 1).
الثاني: أن يعين الوكلاء بعقد واحد وفي هذه الحالة يجب عليهم أن يعملوا مجتمعين إلا إذا رخص الموكل لهم، صراحةً أو ضمنًا، في الانفراد بالعمل.
على أنه يستثنى مما تقدم أن يكون التصرف محل الوكالة مما لا يحتاج فيه إلى تبادل الرأي، فيجوز لأي من الوكلاء أن يباشره منفردًا (مادة 708 / 2)، لانتفاء الحكمة من وجوب اجتماعهم، ومثال ذلك أن يكون التصرف هو قبض دين معين أو الوفاء به أو الإبراء منه.
والأصل أنه إذا تعدد الوكلاء، فإنهم لا يكونون متضامنين في التزاماتهم قبل الموكل باعتبارهم مدينين، لان التزاماتهم ناشئة عن العقد، ولا تضامن في الالتزامات العقدية إلا باتفاق أو بنص في القانون، على أن المشروع قد نص في المادة (709) على تضامن الوكلاء في حالتين:
( أ ) إذا كانت الوكالة غير قابلة للانقسام، كأن يكون العمل الموكل به هو بيع منزل معين وقبض ثمنه، فلا يتصور في هذه الحالة أن ينفرد كل وكيل بالعمل إذ أن صفقة البيع لا تتجزأ، ومن ثم يجب على الوكيلين أن يعملا مجتمعين ويكونان مسؤولين في ذلك بالتضامن قبل الموكل.
(ب) إذا كانت الوكالة قابلة للانقسام ولكن الضرر الذي أصاب الموكل كان نتيجة خطأ مشترك من الوكلاء جميعهم، ففي هذه الحالة يكون الوكلاء مسؤولين بالتضامن قبل الموكل، وفي غير هاتين الحالتين، لا يكون الوكلاء المتعددون متضامنين فيما بينهم إلا إذا اشترط التضامن.
على أن الوكلاء لا يسألون – ولو كانوا متضامنين – عما فعله أحدهم مجاوزًا حدود الوكالة. فإذا انفرد أحدهم بمجاوزة حدود الوكالة فإنه يكون مسؤولاً وحده قبل الغير الذي تعامل معه إذا كان الموكل قد رفض إقرار عمل الوكيل.
وأخيرًا يتفق نص المادة (710) من المشروع مع المجلة في أنه لا يجيز للوكيل أن يقيم نائبًا عنه إلا بإذن الموكل، فإذا رخص الموكل للوكيل في إقامة نائب عنه دون تعيين لشخصه، فإن الوكيل لا يكون مسؤولاً إلا عن خطئه في اختيار نائبه أو عن خطئه فيما أصدره له من تعليمات، ويجوز في هذه الحالة للموكل ونائب الوكيل أن يرجع كل منهما مباشرة على الآخر.
2 - التزامات الموكل:
تعرض المواد (711 - 714) لالتزامات الموكل قبل الوكيل، فهو يلتزم بأن يدفع له الأجر وأن يرد له ما أنفقه وأن يعوضه عما يصيبه من ضرر بسبب تنفيذ الوكالة.
( أ ) أما عن الالتزام بدفع الأجر:
فالشائع في غالبية التقنينات أن الوكالة تكون تبرعية ما لم يتفق على غير ذلك، وهو حكم موروث عن تقاليد القانون الروماني حيث كانت بعض المهن الحرة، وبخاصة مهنة المحامي ومهنة الطبيب، من المكانة الرفيعة في نظر الرومان بحيث تترفع عن الأجر ولكنه مع تطور الظروف الاقتصادية وما تقتضيه من أن يعيش أصحاب المهن الحرة من ممارسة مهنهم، أجيز لهم، لا أن يأخذوا أجرًا، بل أن يتقاضوا أتعابًا تحمل معنى التقدير، وانتقلت هذه التقاليد إلى مدونة نابليون عبر القانون الفرنسي القديم فجعلت الوكالة تبرعًا في الأصل، ولا يكون للوكيل أجر إلا إذا اتفق عليه مع الموكل، وتأثر القضاء الفرنسي بأن أجر الوكيل لا يكون إلا باتفاق فذهب إلى أنه حتى مع وجود هذا الاتفاق يجوز للقضاء تخفيض أجر الوكيل. ثم انتقلت هذه الأحكام إلى التقنين المصري كما انتقلت إلى غيره من التقنينات.
وقد آثر المشروع ألا يغير من هذه الأحكام، فالوكالة تكون في الأصل تبرعية ما لم يشترط أو يتبين من الظروف خلاف ذلك، وتقدير ذلك متروك لقاضي الموضوع.
فإذا اتفق الطرفان على مقدار الأجر، كان هذا المقدار خاضعًا لتقدير القاضي، إلا إذا دُفع طوعًا بعد تنفيذ الوكالة.
(ب) وقد يقتضي تنفيذ الوكالة نفقات يصرفها الوكيل، فيلتزم الموكل بردها إليه طبقًا لنص المادة (712) من المشروع. ولكنه يجب أن تكون هذه النفقات قد استلزمها تنفيذ الوكالة التنفيذ المعتاد، فلا يسترد الوكيل نفقات يجاوز بها حدود الوكالة أو تكون غير لازمة لتنفيذ الوكالة، أو تكون نفقات غير معقولة كان يمكن تفاديها لو نفذت الوكالة التنفيذ المعتاد بأن بذل الوكيل في تنفيذها العناية الواجبة ولم يرتكب خطأ في ذلك، وغني عن البيان أن هذه النفقات يجب أن تكون مشروعة، فلو دفع الوكيل رشوة لم يجز له استردادها.
والوكيل يسترد هذه النفقات مهما كان حظه من النجاح في مهمته، وحتى ولو فشل فيها لأن التزامه التزام ببذل عناية لا التزام بتحقيق غاية.
كذلك يلتزم الموكل أن يقدم للوكيل المبالغ اللازمة للإنفاق منها في تنفيذ الوكالة ما لم يتفق على خلاف ذلك (712/ 2).
(جـ) وإذا أصاب الوكيل ضرر من تنفيذ الوكالة التنفيذ المعتاد ولم يكن قد ارتكب خطأ تسبب عنه هذا الضرر، فإن له أن يرجع على الموكل بتعويض هذا الضرر (مادة 713) يستوي في ذلك أن يكون الوكيل قد نجح في مهمته أو لم ينجح.
وتنص المادة (714) من المشروع على أنه إذا تعدد الموكلون في تصرف واحد، كانوا متضامنين في التزاماتهم قبل الوكيل دون حاجة إلى شرط خاص في ذلك، فلو وكل عدة أشخاص محاميًا في قضية مشتركة بينهم كانوا متضامنين في دفع الأجر للمحامي ورد المصروفات وتحمل الالتزامات الأخرى.
ويستوي بعد ذلك أن تكون الوكالة بأجر أو أن تكون بغير أجر، كما يستوي أن يكون الوكيل قد نجح في مهمته أو لم ينجح. ففي كل هذه الأحوال يكون الموكلون المتعددون متضامنين نحو الوكيل في جميع التزاماتهم الناشئة عن عقد الوكالة ويستطيع الوكيل الرجوع على أي منهم بأي التزام من هذه الالتزامات كاملاً.
على أن تضامن الموكلين على النحو السالف ليس من النظام العام، ومن ثم يجوز الاتفاق على استبعاد التضامن، ويصبح كل موكل مسؤولاً عن الالتزامات بالنسبة التي يتفق عليها، فإن لم يتفق على نسبة معينة، كان مسؤولاً بنسبة ما له من مصالح.
وكل ما تقدم خاص بالعلاقة بين الموكل والوكيل، أما في علاقة كل من الموكل والوكيل بالغير، فإن أحكام الوكالة تتفق مع أحكام النيابة بوجه عام والتي نظمها المشروع في المواد من (56 إلى 61) وقد اقتضى ذلك عدم تكرار هذه الأحكام والإحالة في شأنها إلى الأحكام الخاصة بالنيابة في التعاقد (مادة 715 من المشروع).
ثالثًا: انتهاء الوكالة:
تعرض نصوص المواد من (716 إلى 719) لانتهاء الوكالة:
1 - فالوكالة تنتهي انتهاءً عاديًا، بإتمام العمل الموكل فيه وبانقضاء الأجل المعين لها، كما تنتهي أيضًا بموت الموكل أو موت الوكيل أو بفقد أحدهما أهليته (مادة 716)، لأن لشخصية كل متعاقد اعتبارًا في نظر الآخر، على أن انتهاء الوكالة بموت أحد طرفيها ليس من النظام العام، ومن ثم يجوز الاتفاق على ما يخالف ذلك.
2 - والوكالة عقد غير لازم، فللموكل أن يعزل الوكيل في أي وقت قبل إتمام العمل محل الوكالة، فتنتهي الوكالة بعزله وله من باب أولى أن يقيد من وكالته (مادة 717/ 1) كأن يوكله في البيع وقبض الثمن ثم يقيد الوكالة بالبيع دون قبض الثمن، فيكون هذا عزلاً جزئيًا من الوكالة، وتعتبر هذه القاعدة من النظام العام فلا يجوز الاتفاق على ما يخالفها، على أنه يرد على حق الموكل في عزل الوكيل أو تقييد وكالته قيدان، (الأول) أنه إذا عزل الموكل الوكيل بغير مبرر معقول أو في وقت غير مناسب. فإنه على الرغم من صحة العزل وانعزال الوكيل به. فإنه يكون للوكيل أن يرجع على الموكل بالتعويض عما لحقه من ضرر من جراء هذا العزل (مادة 717/ 3)، (الثاني) أنه إذا كانت الوكالة صادرة لصالح الوكيل أو لصالح شخص من الغير، فإنه لا يجوز في هذه الحالة عزل الوكيل أو تقييد الوكالة دون رضاء من صدرت الوكالة لصالحه (مادة 717/ 2)، ومثل أن تكون الوكالة في صالح الوكيل، أن يوكل الشركاء في الشيوع شريكًا منهم في إدارة المال الشائع، وأن يوكل المؤمن له شركة التأمين في الدعوى التي ترفع منه أو عليه حسب الخطر المؤمن منه، ومثل أن تكون الوكالة في صالح الغير أن يوكل شخص شخصًا آخر في بيع منزل له وقبض الثمن ووفاء دين في ذمته للغير من هذا الثمن، فهذه وكالة في صالح الغير وهو الدائن.
كذلك يجوز للوكيل أن يتنحى عن الوكالة في أي وقت قبل إتمام العمل الموكول إليه، ويتم التنحي بإعلانه للموكل (مادة 718) فلا ينتج التنحي أثره إلا بوصوله إلى علم الموكل، وجواز تنحي الوكيل كجواز عزله، قاعدة من النظام العام، فلا يجوز الاتفاق على ما يخالفها ولكنه يرد على جواز تنحي الوكيل عن الوكالة قيدان (الأول) أنه إذا تنحى عنها في وقت غير مناسب أو بغير عذر مقبول صح تنحيه، ولكنه يكون مسؤولاً عن تعويض الموكل عما يلحقه من ضرر (مادة 718/ 1)، (الثاني) أنه إذا كانت الوكالة لصالح شخص من الغير، فلا يجوز التنحي عن الوكالة إلا إذا وجدت أسباب جدية تبرر هذا التنحي مع إخطار الغير وإعطائه وقتًا كافيًا ليتخذ ما يراه مناسبًا لرعاية مصالحه (مادة 718/ 2)، أما إذا كانت الوكالة لصالح الوكيل نفسه فإنه يجوز له التنحي دون شرط لأنه هو الذي يقدر مصلحته، وقد طبق القانون رقم (42) لسنة 1964 في شأن تنظيم مهنة المحاماة، هذه القواعد على تنحي المحامي عن وكالته، فأوجب عليه أن يخطر موكله بتنحيه بكتاب موصى عليه وأن يستمر في مباشرة إجراءات الدعوى شهرًا على الأكثر، ولا يجوز له التنحي إذا كان منتدبًا للدفاع عن الفقير إلا لأسباب تقبلها لجنة المعونة القضائية أو المحكمة المنظورة أمامها الدعوى (المادتان 26 و29 من القانون المذكور).
3 – وإذا انتهت الوكالة قبل انتهاء العمل الموكل فيه، فإنه يجب على الوكيل بالرغم من انتهاء وكالته بالعزل أو التنحي أو موت الموكل أو غير ذلك من الأسباب أن يستمر في الأعمال التي بدأها حتى يصل بها إلى مرحلة لا يخشى معها ضرر على الموكل. أما إذا كانت الوكالة قد انتهت بموت الوكيل، فإنه يكون على ورثته إذا توافرت فيهم الأهلية وكانوا على علم بالوكالة، أن يتخذوا من التدابير ما تقتضيه الحال لصالح الموكل، وأن يبادروا بأخطاره بموت مورثهم حتى يتدبر أموره (المادة 719). وغني عن البيان أنه إذا لم تتوافر في الورثة الأهلية اللازمة للقيام بهذه الأعمال التحفظية، فلا التزام عليهم حتى لو كان لهم نائب يمثلهم يستطيع أن يقوم عنهم بهذه الأعمال.
الفصل الثالث – الإيداع:
عرضت المجلة لعقد الإيداع في الكتاب السادس منها المتعلق بالأمانات. كما عرض قانون التجارة لبعض أنواع من الإيداع هي الإيداع في المخازن العامة والإيداع في البنوك (المواد 528 - 542 و630 – 632).
وقد وضع المشروع هذا العقد في مكانه بين العقود الواردة على العمل، وبعد أن عرف الإيداع حدد التزامات الوديع (المودع عنده) والتزامات المودع وبين أسباب انتهاء العقد، ثم عرض لبعض أنواع الإيداع فوضع لها ما تقتضيه من أحكام.
وتعرف المادة (720) الإيداع بأنه عقد يلتزم الوديع بمقتضاه أن يتسلم من المودع شيئًا لحفظه، وأن يرده عينًا .
ويتضح من هذا التعريف أن الإيداع عقد رضائي، يلتزم الوديع بموجبه أن يتسلم شيئًا، منقولاً أو عقارًا، ليتولى حفظه ثم يرده عينًا. فالعقد يتم قبل التسليم، أما تسلم الوديعة فهو التزام في ذمة الوديع بعد انعقاد العقد، وفي ذلك يتفق المشروع مع التقنيين المصري والتقنينات التي حذت حذوه، وكذلك مع تقنين الالتزامات السويسري.
أما التقنينات العربية الأخرى وكذلك غالبية التقنينات الأجنبية فإن الإيداع فيها عقد عيني.
أولاً: التزامات الوديع:
وتعرض المواد (721 – 725) لالتزامات الوديع فهو بأن يتسلم الوديعة وبأن يقوم بحفظها، وبأن يردها للمودع عند انتهاء الإيداع.
1 – فالوديع يلتزم طبقًا لنص المادة (721) بأن يتسلم الوديعة، بحيث لو امتنع عن ذلك اعتبر مخلاً بالتزامه وتحمل بالمسؤولية طبقًا للقواعد العامة، والغالب أن المودع لا يطلب التنفيذ العيني، إذ الإيداع من عقود الأمانة والثقة، وإذا أبى الوديع تسلم الوديعة فإن ثقة المودع فيه تتزعزع، لذلك يكون الأصلح للمودع أن يطالب الوديع بالتعويض عما أصابه من ضرر بسبب عدم تنفيذ هذا الأخير لالتزامه، وغني عن البيان أن الإيداع لا ينقل ملكية الوديعة إلى الوديع، لذلك فإن الوديع لا يتحمل تبعة هلاك الوديعة بسبب أجنبي سواء قبل التسليم أو بعده.
والوديع ليس له أن يستعمل الوديعة، ولا أن يسمح لأحد باستعمالها، إلا إذا أذن له المودع بذلك صراحة أو ضمنًا، وهذا الإذن لا يُفترض، بل يقع على عاتق الوديع عبء إثباته، وإذا أخل الوديع بالتزامه، فاستعمل الوديعة دون إذن أو تصرف فيها بالبيع أو بالرهن أو الإيجار أو العارية أو أي تصرف آخر، كان مسؤولاً عن ذلك مسؤولية مدنية، وجازت أيضًا مساءلته جنائيًا عن جريمة التبديد إذا توافرت أركانها.
2 – ويلتزم الوديع بحفظ الوديعة، بل إن التزامه بالحفظ هو الالتزام الجوهري الذي يترتب على عقد الإيداع، ولما كان الأصل في الإيداع أن يكون بغير أجر، فإن الوديع لا يلتزم في حفظ الوديعة إلا بالعناية التي يبذلها في حفظ ماله، دون أن يكلف في ذلك أزيد من عناية الشخص العادي (مادة 722/ 1)، أما إذا كان الإيداع نظير أجر، فإن الوديع يلتزم في حفظ الوديعة بعناية الشخص العادي (م 722/ 2)، وكل ذلك ما لم يتم الاتفاق على خلافه (722/ 3)، ومن ثم يجوز الاتفاق على تشديد مسؤولية الوديع، كما يجوز الاتفاق على تخفيضها أو الإعفاء منها.
3 – ولما كان شخص الوديع يكون عادةً محل اعتبار خاص عند المودع فإنه لا يجوز للوديع أن ينيب عنه غيره في حفظ الوديعة إلا في حالتين:
1/ إذا أذن له المودع في ذلك إذنًا صريحًا.
2/ أو إذا اضطر إلى ذلك بسبب ضرورة ملجئة عاجلة (مادة 723)، كما إذا فاجأه داعٍ للسفر ولم يتمكن من رد الوديعة إلى المودع فاضطر إلى إيداعها عند من يأتمنه عليها، ويكون عليه أن يخطر المودع بذلك بمجرد أن يتيسر له هذا الإخطار.
4 - ويلتزم الوديع، عند انتهاء الإيداع، أن يرد الوديعة إلى المودع أو إلى ما من يخلفه فإذا كانت الوديعة مما ينتج ثمارًا وقبضها المودع لديه وجب عليه ردها أيضًا إلى المودع، ويكون الرد في المكان الذي كان يجب فيه حفظ الوديعة، وتكون مصروفاته على المودع وكل ما سبق ما لم يوجد اتفاق يقضي بغير ذلك (مادة 724).
5 – وقد يموت الوديع، ويعتقد وارثه بحسن نية أن الوديعة ملك لمورثه وتدخل في تركته فيتصرف فيها. فإن كان تصرفه فيها بالبيع وتعذر على المودع استردادها من المشتري التزم الوارث أن يرد إلى المودع ما قبضه من ثمن أو أن يحول إليه ما عسى أن يكون له من حقوق قبل المشتري (مادة 725/ 1)، أما إن كان قد تصرف فيها بطريق التبرع وتعذر على المودع استردادها من المتبرع إليه، فإن الوارث يلتزم أن يرد إلى المودع قيمتها وقت التبرع (مادة 725/ 2). وكل ذلك يصدق على المنقول، أما إذا كان الشيء المودع عقارًا، وباعه الوارث ولو بحسن نية، فإن ملكيته لا تنتقل إلى المشتري بالبيع، لأن البيع قد صدر من غير مالك، ولذلك يستطيع المودع وهو المالك الحقيقي أن يسترد العقار من تحت يد المشتري.
ثانيًا: التزامات المودع:
ويعرض المشروع في المادتين (726 و727) لالتزامات المودع، وهى دفع الأجر إذا كان مشترطًا ورد المصروفات التي أنفقها الوديع في حفظ الوديعة، وتعويضه عن كل ما لحقه من خسارة بسببها.
1 – والأصل في الإيداع أن يكون بغير أجر، إلا إذا وجد اتفاق على الأجر وقد يكون هذا الاتفاق صريحًا، كما قد يكون ضمنيًا يُستخلص عادة من حرفة الوديع، فالإيداع في المخازن العامة مثلاً يُفترض فيه أن يكون بأجر وإذا لم يعين مقدار الأجر، ترك تعيينه للعرف أو لتقدير القاضي، ولا يجوز تعديل الأجر المتفق عليه لا بالنقص ولا بالزيادة، ويُدفع الأجر في الوقت الذي يتفق عليه المتعاقدان، فإذا لم يُتفق على وقت كان الأجر مستحقًا في الوقت الذي يعينه العرف، فإن لم يوجد عرف، كان الدفع في الوقت الذي ينتهي فيه حفظ الوديعة (مادة 726 من المشروع). وغني عن البيان أنه إذا انتهي حفظ الوديعة قبل الموعد المحدد استحق الوديع الأجر بنسبة المدة التي بقيت فيها الوديعة في حفظه ما لم يتفق على غير ذلك.
2 - فإذا أنفق الوديعة مصروفات لحفظ الوديعة التزم المودع بردها إليه (مادة 727)، والمقصود بحفظ الوديعة هنا حفظها من الهلاك إذا تعرضت لخطر وكذلك الحفظ العادي إذا اقتضى هذا الحفظ مصروفات ما. فإن أودع شخص عند آخر بضائع أو منقولات أخرى، فإن ما ينفقه الوديع على هذه المنقولات لحفظها من الهلاك، كرشها بالمبيدات الحشرية وتنقيتها وكأقساط التأمين ضد السرقة والحريق وما ينفقه في حفظ المنقولات الحفظ العادي كأجرة المكان وأجر الحارس وكذلك مصروفات الصيانة المعتادة كعلف الحيوان وتشحيم السيارة، كل هذا يرجع به الوديع على المودع بموجب عقد الوديعة.
كذلك يلتزم المودع بتعويض الوديع عما يصيبه من ضرر بسبب الوديعة. فإذا كان في الشيء المودع عيب خفي. كمرض معدٍ في الحيوان، ولم ينبه المودع الوديع إلى وجود هذا العيب، كان مسؤولاً عن تعويض الوديع عما يصيبه من ضرر بسبب ذلك، إلا إذا كان هذا الأخير عالمًا بالعيب دون تنبيه.
ثالثًا: انتهاء الإيداع:
تعرض المواد (728 - 731) لانتهاء الإيداع، فهو ينتهي بانقضاء الأجل وبرجوع أحد المتعاقدين عن الإيداع قبل انقضاء الأجل وكذلك بموت الوديع.
1 - فقد يتفق المتعاقدان على أجل لحفظ الوديعة، فينتهي العقد بانقضاء هذا الأجل، سواء كان متفقًا عليه صراحةً أو ضمنًا، وإذا لم يُتفق على أجل، كان لكل من المتعاقدين إنهاء الإيداع بعد إخطار الطرف الآخر بميعاد مناسب (مادة 728 من المشروع).
2 - ولما كان الأصل في الإيداع أن الأجل يكون محددًا لمصلحة المودع، فإنه يكون له أن ينزل عن الأجل ويطلب رد الوديعة وذلك دون إخلال بحق الوديع في الأجر عما بقي من مدة (مادة 729 من المشروع).
كذلك يجوز للوديع أن يطلب إنهاء الإيداع قبل الأجل المتفق عليه، إذا كان الإيداع بغير أجر، وطرأت للوديع أسباب يتعذر معها أن يستمر حافظًا للوديعة (مادة 730)، لأن الوديع يكون في هذه الحالة متبرعًا ولا يصح أن يُضار بتبرعه.
3 - كذلك ينتهي الإيداع بموت الوديع، ما لم يُتفق على غير ذلك (مادة 731)، لأن شخص الوديع يكون محل اعتبار عند التعاقد فوجب أن ينحل العقد بموته إلا إذا اتُفق على غير ذلك، ومتى انحل العقد استقرت في تركة الوديع الالتزامات التي ترتبت عليه إلى وقت انحلاله فتبقى التركة مثقلة بها، بما في ذلك الالتزام برد الوديعة.
رابعًا: بعض أنواع الإيداع:
ويعرض المشروع بعد ذلك لبعض أنواع الإيداع، وهي الإيداع الناقص والإيداع في الفنادق.
1 - فإذا كانت الوديعة مبلغًا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال وأذن المودع للوديع في استعمال هذا الشيء، فلا مناص من أن يستهلك الوديع الشيء باستعماله، ومن ثم لا يستطيع أن يرده بعينه وإنما يرد مثله كما هو الحال في القرض. ولذلك خرج المشروع بهذا النوع من الإيداع. ويسمى الإيداع الناقص أو الشاذ - عن أن يكون إيداعًا واعتبره قرضًا (مادة 732)، وأظهر مثال لذلك، ودائع النقود في المصارف حيث تنتقل ملكية النقود إلى المصرف ويرد مثلها، فيكون العقد في هذه الحالة قرضًا أو حسابًا جاريًا، ولكن لا يوجد ما يمنع من أن يرد الإيداع الناقص على أشياء أخرى مما يهلك بالاستعمال، كالقطن والحبوب.
على أنه إذا تم إيداع مبلغ من النقود على أن يرد بالذات دون أن يستعمل كان هذا إيداعًا عاديًا لا إيداعًا ناقصًا، ويفترض في إيداع النقود أنه إيداع ناقص ما لم يقم الدليل على العكس.
2 - أما الإيداع في الفنادق وما ماثلها من الأماكن فقد وضع المشروع له أحكامًا خاصة تحمل أصحاب هذه المحال بمسؤولية جسيمة عن الودائع التي يأتي بها النزلاء إلى محالهم، وتظهر جسامة هذه المسؤولية من وجهين:
الأول: التوسع في معنى الوديعة، فأي شيء يأتي به النزيل معه في الفندق يُعتبر مودعًا عند صاحب الفندق ولو لم يسلم إليه بالذات، فيشمل ذلك كل ما يأتي به النزيل من حقائب وأمتعة وملابس ونقود ومجوهرات وأوراق مالية ومستندات وبضائع، كما تدخل السيارة التي يأتي بها النزيل ويودعها في جراج الفندق أو في فنائه.
الثاني: التوسع في المسؤولية، فصاحب الفندق وما ماثله مسؤول في العناية بحفظ الأشياء التي يأتي بها النزلاء، حتى عن فعل المترددين على محله (733/ 1)، فلا يكفي إذن بذله عناية الشخص العادي في المحافظة على هذه الأشياء، بل عليه أيضًا أن يراقب أتباعه من خدم وموظفين بل ومراقبة المترددين على الفندق من زوار وغيرهم، فهو مسؤول عن أفعال هؤلاء جميعا ولو كانوا من غير أتباعه، فإذا ما تحققت هذه المسؤولية وجب على صاحب الفندق أن يعوض النزيل عن كل ما أصابه من ضرر وفقًا للقواعد العامة.
3 - وفي مقابل هذا التوسع في المسؤولية تم التخفيف عن كاهل صاحب الفندق من ثلاثة وجوه:
الأول: وضع حد أقصى لمسؤولية صاحب الفندق فيما يتعلق بالنقود والأوراق المالية والأشياء النفيسة الأخرى (مادة 733/ 2) فهو لا يُسأل فيما يتعلق بها عن تعويض يجاوز ألف دينار إلا في ثلاثة أحوال هي:
( أ ) أن يكون الحادث قد وقع بخطأ جسيم منه أومن أحد أتباعه، ففي هذه الحالات يجوز الرجوع عليه بكل القيمة أيًّا كان مقدارها ولو زادت على ألف دينار.
(ب) أن يكون قد تسلم النقود أو الأوراق المالية أو الأشياء الثمينة الأخرى، وأخذ على عاتقه حفظها وهو على علم بقيمتها.
(جـ) أن يكون قد رفض تسلم هذه الأشياء عهدة لديه وهو على علم بقيمتها دون أن يبدي لذلك سببًا معقولاً.
الثاني: إلزام النزيل بإخطار صاحب الفندق بسرقة الشيء أو فقده أو تلفه بمجرد كشفه لذلك، فإن أبطأ في الإخطار دون عذر مقبول فلا يكون صاحب الفندق مسؤولاً إذا أثبت أنه لو أُخطر في وقت مناسب لأمكنه تفادي الضرر (مادة 734/ 1).
الثالث: إذا انقضت مدة ستة أشهر من اليوم الذي يغادر فيه النزيل الفندق دون أن يطالب صاحب الفندق قضائيًا بحقه، سقطت دعواه (مادة 734/ 2).
4 - وإذا كان الاتفاق على تشديد مسؤولية صاحب الفندق جائزًا بالرغم مما عليه من شدة، غير أن الاتفاق على الإعفاء من هذه المسؤولية أو على التخفيف منها كان ولا يزال محل خلاف في الفقه والقضاء، ولذلك رأى المشروع حسمًا لهذا الخلاف أن ينص على بطلان كل شرط بالإعفاء من المسؤولية أو بالتخفيف منها (مادة 735)، إذ أن النزيل إذا قبل مثل هذا الشرط يكون مضطرًا إلى قبوله فآثر المشروع أن يحميه وهو نص له مثيل في بعض التقنينات الأجنبية (609 صيني).
الفصل الرابع - الحراسـة:
لم يعرض الفقه الإسلامي ولا المجلة للحراسة بوجه عام، وإنما عرضوا لصورة خاصة من صورها في حالة الرهن، فأجازوا للراهن والمرتهن أن يتفقا على شخص يتسلم الرهن عن المرتهن، ويسمى عدلاً، ولا يكون له أن يعطي الرهن لأيهما إلا برضاء الاثنين معًا، وإذا أعطاه لأحدهما دون رضاء الآخر كان له استرداده (المواد 705 و752 و755 و760 من المجلة).
ولكن الحراسة، وبخاصة الحراسة القضائية، قد أصبح لها في العمل أهمية كبيرة، مما حدا بقانون المرافعات المدنية والتجارية أن يعرض لها (في المواد من 160 إلى 167) عند الكلام على القضاء المستعجل، كما جمع مشروع تطوير قانون المرافعات هذه النصوص في المادتين (32 و33) منه فعرض لأحوال فرض الحراسة القضائية، وكيفية تعيين الحارس وبيان ما عليه من التزامات وما له من حقوق وسلطات.
ولما كان التقنين المدني هو المكان الطبيعي لهذه النصوص فقد حرص المشروع على تنظيم أحكام الحراسة سواء كانت اتفاقية أو قضائية.
وتبدأ نصوص المشروع بتعريف الحراسة تعريفًا شاملاً، فهي وضع مال متنازع فيه بيد أمين، إذا كان بقائه في يد حائزه من شأنه أن يهدد بالخطر من يدعي لنفسه حقًا فيه، على أن يتكفل الأمين بحفظه وإدارته ورده إلى من يثبت له الحق فيه (مادة 736)، فالحراسة يجوز أن تتم بالاتفاق بين المتنازعين، فتكون اتفاقية، كما يجوز أن تتم بأمر من القضاء في الحالات التي يجوز فيها ذلك، فتكون حراسة قضائية (مادة 737).
وتعرض المادة (738) لتعيين الحارس وهو أمر منفصل عن فرض الحراسة ذاتها، فالحراسة قد تتم رضاء أو قضاء، ولكن تعيين الحارس في الحالين يكون باتفاق ذوي الشأن جميعًا، ولا يكفي في ذلك اتفاق الأغلبية بل يتعين الإجماع على شخص الحارس، فإن لم يتوفر هذا الإجماع تولت المحكمة بنفسها تعيين الحارس.
أما التزامات الحارس وحقوقه، فيحددها الاتفاق أو حكم القاضي، فإن خلا الاتفاق أو الحكم من ذلك، فإن المشروع ينص في المادة (739) منه، على تطبيق أحكام الإيداع وأحكام الوكالة بالقدر الذي لا تتعارض فيه مع أحكام المواد التالية:
فبالنسبة لالتزامات الحارس، وأولها الالتزام بالمحافظة على المال وإدارته - وهو التزام ببذل العناية - يضع المشروع في الفقرة الأولى من المادة (740) معيارًا لهذه العناية، هو عناية الشخص العادي، سواء كانت الحراسة بأجر أو بغير أجر. وفي هذا تختلف الحراسة عن الإيداع الذي يميز فيه بين بالإيداع بأجر والإيداع بغير أجر (انظر المادة 722 من المشروع)، أما الفقرة الثانية من المادة (740)، فتحظر على الحارس أن ينيب عنه في أداء مهمته كلها أو بعضها أحدًا من ذوي الشأن دون رضاء الآخرين أو إذن القاضي.
وتحدد المادة (741) من المشروع سلطة الحارس، فتنص على أنه لا يجوز له في غير ما تقتضيه الإدارة أن يجري أعمال الصرف إلا برضاء ذوي الشأن جميعًا أو بترخيص من القضاء، فأعمال التصرف التي تدخل بطريق التبعية في أعمال الإدارة هي وحدها التي يكون للحارس مباشرتها، أما غير ذلك من أعمال التصرف فلا يجوز للحارس أن يباشرها إلا بموافقة ذوي الشأن أو بترخيص من القضاء.
وتعرض المادة (742) لالتزام الحارس بتقديم الحساب. وهو بحسب الأصل كالتزام الوكيل بتقديم حساب لموكله. ولكن المشروع بعد أن ألزم الحارس بأن يقدم حسابًا بما تسلمه وبما أنفقه مؤيدًا بالمستندات نظم هذا الالتزام تنظيمًا دقيقًا، فألزم الحارس بإمساك دفاتر حساب منتظمة، كما ألزمه بأن يقدم الحساب لذوي الشأن مرة على الأقل كل سنة فإذا كان معينًا من المحكمة فإنه يجب عليه أن يودع إدارة الكتاب صورة من الحساب، وكل ذلك لضمان الرقابة على إدارة الحارس.
أما بالنسبة لحقوق الحارس، فإن المشروع ينص في الفقرة الأولى من المادة (743) على حقه في تقاضي الأجر عن عمله، ما لم يكن قد قبل القيام بالحراسة تبرعًا، وفي هذا يختلف الحارس عن الوكيل وعن الوديع، فكلاهما لا يكون مأجورًا، إلا أن يُشترط الأجر، أما ما ينفقه الحارس من مصروفات على حفظ وإدارة المال المعهود إليه حراسته، فتنص الفقرة الثانية من المادة (743) على حق الحارس في استرداده، وذلك تطبيقًا للقواعد العامة.
وأخيرًا يعرض المشروع في المادة (744) لانتهاء الحراسة، فهي تنتهي إما باتفاق ذوي الشأن جميعا على انتهائها أو بحكم من القضاء، كما تنتهي بانقضاء مدتها إذا كانت المدة محددة. ويكون على الحارس حينئذ أن يبادر إلى رد المال المعهود إليه حراسته، إلى من يختاره ذوو الشأن جميعًا أو من يعنيه القاضي.
الباب الرابع: الكفالة والتأمين
الفصل الأول – الكفالة:
الكفالة في اصطلاح الفقهاء، هي ضم الكفيل ذمته إلى ذمة الأصيل، أو بعبارة أخرى إلى ذمة المكفول عنه بالشيء المكفول به، وهي مشروعة بدليل قوله تعالي (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم)، وقول النبي صلي الله عليه وسلم (الزعيم غارم) أي الكفيل ضامن.
وقد عرضت المجلة للكفالة في الكتاب الثالث منها (المواد من 612 إلى 672)، فتكلمت في ركن الكفالة وشرائطها وأحكامها والبراءة منها، كما عرض لها قانون التجارة في المواد (501 إلى 520) ولكن المجلة فرقت في بيان أحكام الكفالة، بين الكفالة بالنفس والكفالة بالمال، وكذلك فعلت بعض التقنينات العربية (كالتقنين العراقي وكالتقنين الأردني)، وهو ما لم يرَ المشروع أن يجاريها في الأخذ به، لأن الكفالة بالنفس لا تُعتبر كفالة حقيقية. فالكفيل بالنفس لا يلتزم التزامًا تابعًا لالتزام المدين الأصلي، وإنما يلتزم التزامًا أصليًا بعمل معين، هو إحضار المدين يوم حلول أجل الدين.
وقد احتفظ المشروع بوجه عام في تنظيم الكفالة بالأحكام المنصوص عليها في التقنين المصري، ولكنه أجرى عليها من التعديلات ما تقتضيه الملاءمة، كما أضاف إليها أحكامًا جديدة تسد ما فيها من نقص وتفصل في بعض المسائل الخلافية.
ويعرف المشروع الكفالة في المادة (745) منه، بأنها عقد بمقتضاها يضم شخص ذمته إلى ذمة المدين في تنفيذ التزام عليه، بأن يتعهد الدائن بأدائه إذا لم يؤده المدين.
وهذا التعريف مأخوذ من الفقه الإسلامي مع بعض التعديل، وهو يوضح أن الكفالة تفترض وجود التزام مكفول في ذمة المدين الأصلي، كما تفترض وجود عقد بين الكفيل والدائن يرتب التزامًا في ذمة الكفيل بتنفيذ الالتزام الأصلي إذا لم ينفذه المدين، فيكون التزام الكفيل التزامًا تابعًا للالتزام الأصلي.
أولاً: أركان الكفالة:
التزام الكفيل هو أساسًا من الالتزامات التبرعية، فيجب أن يستند إلى رضاء صريح قاطع - ولذلك ذهب الكثير من التقنينات العربية وبعض التقنينات الأجنبية إلى الخروج على القواعد العامة في الإثبات بتقرير وجوب إثبات الكفالة بالكتابة. ولكن المشروع آثر أن يأخذ في ذلك بمذهب التقنين الفرنسي، فنص في المادة (746) منه على أن الكفالة لا تفترض وأوجب أن يكون رضاء الكفيل صريحًا، تاركًا مسألة الإثبات للقواعد العامة.
أما الشروط الواجب توافرها في الكفيل فيعرض لها المشروع في المادة (747). ويخلص من نصها أن الشخص حين يكون ملزمًا بتقديم كفيل، سواء كان مصدر التزامه هو القانون أو القضاء أو الاتفاق، فإنه يجب أن يتوافر في هذا الكفيل شرطان:
الأول: أن يكون موسرًا، أي قادرًا على وفاء الدين الذي كفله إذا اقتضى الأمر ذلك، وعلى المدين عبء إثبات اقتدار الكفيل الذي قدمه.
الثاني: أن يكون موطنه في الكويت، وذلك مراعاة لمصلحة الدائن وللتسهيل عليه عند المطالبة، ولا يشترط بعد ذلك أن يكون الكفيل كويتيًا بل يصح أن يكون أجنبيًا ما دام موطنه في الكويت.
فإذا توافر في الكفيلان هذان الشرطان صح للمدين تقديمه كفيلاً. وغني عن البيان أنه إذا أعسر الكفيل بعد ذلك، أو نقل موطنه إلى الخارج، فإنه يكون على المدين أن يقدم كفيلاً آخر يتوافر فيه الشرطان (747/ 2)، إلا إذا كان الدائن قد اشترط شخصًا معينًا لكفالة الدين أو أن يكون الكفيل قد التزم دون علم المدين (قارن المواد 1068 لبناني و1140 مشروع تمهيدي مصري و2020 فرنسي).
ولكن النص يعطي المدين الحق إذا كان ملتزمًا بتقديم كفيل لدائنه وتعذر عليه ذلك أن يقدم له تأمينًا عينيًا كافيًا، كرهن رسمي أو رهن حيازي.
هذا ويُراعى أن مشروع قانون المرافعات قد أورد نصوصًا خاصة بشروط الكفيل في أحوال الكفالة القانونية والكفالة القضائية، فيجب تطبيق هذه النصوص في الدائرة المرسومة لها.
وتنص المادة (748) على جواز كفالة المدين بغير علمه أو بالرغم عن معارضته. فالكفالة عقد طرفاه الكفيل والدائن، أما المدين فليس طرفًا فيه، ومن ثم فلا حاجة إلى رضائه أو علمه، وقد لا يكون هناك موجب لإيراد هذا النص سوى بيان أن المشروع قد خرج في هذا الصدد عن أحكام الفقه الحنفي، وهي تحرم الكفيل الذي يضمن المدين بغير إذنه، أو على الرغم من عدم رضاه، من حق الرجوع عليه تأسيسًا على أن (الكفالة بلا أمر، وإن كانت صحيحة، فهي تبرع، فليس للكفيل بعد أداء الدين الرجوع على الأصيل).
ولكن نص المشروع يستند إلى ما ذهب إليه الإمامان مالك وأحمد من أن للكفيل بغير أمر المدين حق الرجوع لأن الدائن بقبوله الدين منه يعتبر أنه قد ملكه ما على المدين من الدين فيحل محله في المطالبة، فالكفالة يجوز إذن أن تعقد بين طرفيها بإذن المدين أو بغير إذنه، بل وعلى الرغم من معارضته، وللكفيل في جميع الحالات أن يرجع على المدين إذا وفى الدين عنه أيًا كان تكييف الدعوى التي يرجع بها عليه.
ويعرض المشروع في المادة (749) لكفالة الالتزام المستقبل فيجيزه، والواقع أن كفالة الالتزامات المستقبلية صحيحة وشائعة في العمل على الأخص في عقود الحساب الجاري وفتح الاعتماد، وقد وردت الإشارة إليها في المادتين (635 و636) من قانون التجارة في شأن الضمانات العينية والشخصية التي يقدمها المعتمد له ضمانًا لفتح الاعتماد، ولذلك آثر المشروع أن يورد نصًا صريحًا بجواز كفالة الالتزام المستقبل، مجاريًا في ذلك غالبية التقنينات العربية والتقنينات الحديثة.
ويؤخذ من النص أن كفالة الالتزام المستقبل جائزة وإن كان التزامًا غير موجود وقت الكفالة. فإذا اتفق طرفان على عقد حساب جارٍ بينهما جاز أن يقدم أحدهما كفيلاً للرصيد الذي يصبح مستحقًا عليه عند إقفال الحساب، وإذا فتح شخص اعتمادًا لدى مصرف، جاز أن يقدم كفيلاً يضمن ما عسى أن يقبضه من هذا الاعتماد.
ولكن المشروع يضع لكفالة الالتزام المستقبل قيدين:
الأول: أن يحدد مقدمًا في عقد الكفالة الحد الأقصى لما يلتزم به الكفيل، وذلك حماية له حتى لا يتورط في كفالة التزام لا يعلم مقدارها.
الثاني: أنه إذا لم يعين الكفيل مدة لكفالته، كان له أن يرجع في أي وقت في هذه الكفالة، ما دام الالتزام المكفول لم ينشأ على أن يخطر الدائن برجوعه في وقت مناسب، أما إذا عين الكفيل مدة لقيام كفالته فإنه لا يجوز له الرجوع في الكفالة طوال هذه المدة.
هذا ولم يجد المشروع حاجة للإشارة إلى كفالة الالتزام الشرطي، كما فعلت بعض التقنينات، فلا شك في جواز هذه الكفالة طبقًا للقواعد العامة، سواء كان الالتزام الأصلي معلقًا على شرط فاسخ أو معلقًا على شرط واقف.
وتعرض نصوص المواد من (750 - 752) لبعض أمور تتفرع عن تبعية التزام الكفيل للالتزام المكفول.
1 - فالتزام الكفيل يتبع التزام المدين الأصلي في صحته وفي بطلانه. وحتى تكون الكفالة صحيحة وترتب التزامًا في ذمة الكفيل بضمان الالتزام المكفول، يجب أن يكون هذا الالتزام الأخير في ذاته صحيحًا (الفقرة الأولى من المادة 750). فإذا كان الالتزام المكفول باطلاً أو قابلاً للإبطال، كان التزام الكفيل بدوره باطلاً، أو قابلاً للإبطال، يبطل بإبطال الالتزام الأصلي ويصح بإجازته.
على أنه يحصل في العمل، أن يكفل الكفيل التزامًا لشخص ناقص الأهلية، وتكون الكفالة بسبب نقص أهليته توقعًا لاحتمال أن يطلب إبطال التزامه لهذا السبب. فرأى المشروع أن ينص في الفقرة الثانية من المادة (750) على التزام الكفيل في هذه الحالة بتنفيذ التزام المكفول باعتباره مدينًا أصليًا إذا أبطل التزام المدين وهو نص مستوحى من المادة (626) من التقنين البولوني.
2 - ويخلص من نص المادة (751) أن الالتزام المكفول هو الذي يحدد مدى التزام الكفيل، مقدارًا وشروطًا وعبئًا وموعد حلول ومكان وفاء وغير ذلك مما يحدد التزام المكفول، ومن ثم فلا يلتزم الكفيل بمبلغ أكبر مما هو مستحق على المدين الأصلي، ولا يلتزم لأجل أقرب من أجل الالتزام المكفول، كما لا يلتزم بالوفاء في مكان أبعد. وإذا كان الالتزام الأصلي مؤجلاً على الأصيل تأجل على الكفيل أيضًا (قارن المادة 1013 عراقي) ولكن التزام الكفيل يجوز أن يكون أهون، فيجوز أن يكفل الكفيل المدين الأصلي في جزء من الدين أو لأجل أطول من أجل الالتزام المكفول.
3 - ويعرض نص المادة (752) لتحديد مدى التزام الكفيل بالنسبة لتوابع الالتزام المكفول ومصروفات المطالبة به، وذلك عند عدم وجود اتفاق على ذلك.
فكما أن الالتزام المكفول يشمل توابعه، كذلك يشملها التزام الكفيل، فيشمل التعويض عن عدم التنفيذ ومسؤولية المدين العقدية أما المصروفات فيضمن الكفيل منها مصروفات المطالبة الأولى لأن الدائن لا بد أن يبدأ بمطالبة المدين الأصلي بالدين، ولكن الكفيل لا يضمن ما يتلو ذلك من مصروفات إلا إذا كانت قد صرفت بعد أن يخطره الدائن بمطالبته المدين المطالبة الأولى، وغني عن البيان أن هذه المصروفات يجب أن تكون غير مبالغ فيها.
ثانيًا: آثار الكفالة:
1 - العلاقة ما بين الكفيل والدائن:
ولأن التزام الكفيل التزام تابع، فإنه كما يبطل ببطلان التزام الأصيل، ينقضي أيضًا بانقضائه. وفي ذلك تنص المادة (753) من المشروع على أن الكفيل يبرأ ببراءة المدين، وله طبقًا لنص المادة (754) أن يتمسك بجميع الأوجه التي يستطيع أن يحتج بها المدين، من بطلان أو قابلية للإبطال، أو انقضاء. ولكنه ليس له أن يتمسك بنقص أهلية المدين إذا كانت الكفالة بسبب ذلك.
وإذا قبل الدائن أن يستوفي في مقابل دينه شيئًا أخر، برئت ذمة الكفيل، حتى ولو استحق هذا الشيء، ما لم يكن الدائن قد احتفظ عند تسلمه المقابل بحقه في الرجوع على الكفيل لو استحق هذا المقابل وهو ما تنص عليه المادة (755) من المشروع، ولكن النص لا ينصرف إلا إلى الحالة التي يستوفي فيها الدائن مقابل الدين من المدين أو من الغير، أما إذا استوفى المقابل من الكفيل، فإن هذا الأخير يكون ضامنًا لاستحقاق الشيء لا تبرأ ذمته طبقًا للقواعد العامة.
ومع ذلك يعرض المشروع في المواد (756 - 758) لحالات ثلاث قد ينقضي بها التزام الكفيل دون أن ينقضي الالتزام المكفول.
( أ ) فطبقًا لنص المادة (756) تبرأ ذمة الكفيل، سواء كان متضامنًا أو غير متضامن، بمقدار ما أضاعه الدائن بخطئه من التأمينات ذلك أن من حق الكفيل أن يحل محل الدائن في ضماناته فإذا أضاع الدائن هذه الضمانات التي اعتمد عليها الكفيل، كان من حق الكفيل أن تبرأ ذمته بقدر ما أُضيع من ضمان بشرط أن يكون ذلك نتيجة خطأ يرتكبه الدائن، كأن يبرئ ذمة أحد الكفلاء أو أن ينزل عن رهن ترتب لمصلحته، أو أن يهمل في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتجديد قيد هذا الرهن. وعلى الكفيل أن يثبت أنه قد أصابه ضرر من عمل الدائن، كما عليه أن يثبت مقدار ما أصابه من ضرر، لأنه هو الذي يطلب براءة ذمته فيكون عليه أن يثبت ما يبرر طلبه.
والمقصود بالتأمينات هنا، كل تأمين يخصص لضمان الدين سواء كان تأمينًا اتفاقيًا، كالرهن الرسمي والرهن الحيازي أو تأمينًا قانونيًا. كحقوق الامتياز، وسواء تقرر التأمين قبل الكفالة أو بعدها.
(ب) وطبقًا لنص المادة (757) لا تبرأ ذمة الكفيل لمجرد عدم اتخاذ الدائن الإجراءات ضد المدين عند حلول أجل الدين أو لمجرد تأخره في اتخاذها. ولكن للكفيل في هذه الحالة أن ينذر الدائن لاتخاذ الإجراءات، فإذا لم يتخذها في خلال ثلاثة أشهر من وقت الإنذار ولم يقدم المدين للكفيل ضمانًا كافيًا كان للكفيل أن يطلب براءة ذمته من الكفالة، فإذا اتخذ الدائن الإجراءات الواجبة قانونًا ضد المدين خلال الثلاثة أشهر التالية للإنذار وسار في اتخاذها بالعناية اللازمة، كان هذا كافيًا، وبقي الكفيل ملتزمًا حتى بعد حلول أجل الالتزام الأصلي.
والإجراءات الواجب اتخاذها قانونًا ضد المدين عند حلول أجل الدين، هي إقامة الدعوى عليه لمطالبته بالدين إذا كان سند الدين عرفيًا أما إذا كان السند تنفيذيًا (حكمًا كان أو ورقة رسمية) فإنه يكون على الدائن أن يشرع في مباشرة إجراءات التنفيذ على أموال المدين في المدة المحددة. ولا يحول دون حق الكفيل في التمسك ببراءة ذمته أن يمنح الدائن المدين أجلاً دون موافقة الكفيل.
(جـ) وتعرض المادة (758) لحالة إفلاس المدين قبل حلول الدين المكفول، فتوجب على الدائن في هذه الحالة أن يتقدم بحقه في تفليسة المدين، فإن لم يفعل وأراد الرجوع على الكفيل سقط من حقه في الرجوع على الكفيل، ما كان يستوفيه لو أنه تقدم بحقه في تفليسة المدين.
ويعرض نص المادة (759) من المشروع لتعدد كفلاء المدين وتحديد المقدار الذي يطالب به الدائن كل كفيل عند الرجوع عليه، فيفرق في ذلك بين تعدد الكفلاء بعقد واحد وبين تعدد الكفلاء بعقود متوالية (قارن المادة 647 من المجلة).
فإذا تعدد الكفلاء، وكانوا جميعًا قد التزموا كفالة الدين بعقد واحد، ولم يبينوا في عقد الكفالة مقدار ما يكفل كل منهم من الدين، فإن المشروع يتخذ من وحدة العقد دليلاً على أن كل كفيل قد اعتمد على الكفلاء الآخرين، فيقسم الدين فيما بين الكفلاء جميعًا، فإذا طالب الدائن أي كفيل منهم لم يطالبه إلا بمقدار نصيبه. وإذا أعسر أحد الكفلاء بعد إبرام عقد الكفالة ولو قبل مطالبة الدائن الكفلاء بحقه، فإنه لا يكون للدائن أن يوزع حصة الكفيل المعسر على باقي الكفلاء، بل يتحمل وحده نتيجة هذا الإعسار. وذلك لأن الدين ينقسم على الكفلاء من وقت إبرام عقد الكفالة لا من وقت الدفع بتقسيم الدين.
ويُشترط لتقسيم الدين على الكفلاء المتعددين ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون الكفلاء المتعددون قد كفلوا نفس الدين، فإذا كفل كفيلان كل منهما دينًا غير الذي كفله الآخر لم ينقسم أي الدينين عليهما.
الثاني: أن يكفل الكفلاء المتعددون نفس المدين أو نفس المدينين فإذا كفل كفيلان كل منهما مدينًا متضامنًا بنفس الدين فإن كل منهما يكون قد كفل نفس الدين ولكنه لم يكفل نفس المدين، فلا ينقسم الدين بينهما، أما إذا كفل كل منهما مدينين متضامنين معًا، فإنهما يكونان قد كفلا نفس الدين وكفلا نفس المدينين فينقسم الدين عليهما.
الثالث: ألا يكون الكفلاء المتعددون متضامنين فيما بينهم وإلا جاز الرجوع على أي منهم بكل الدين طبقًا لأحكام التضامن فلا ينقسم الدين عليهم.
أما إذا تعدد الكفلاء، ولكن بعقود متوالية، ولو كانوا جميعًا يكفلون نفس الدين ونفس المدين. فإن كلاً منهم يصبح مسؤولاً عن كل الدين لأنه قد كفل الدين كله بعقد على حدة، على أنه إذا احتفظ أحد الكفلاء لنفسه بحق التقسيم، وقت أن كفل الدين بعقد على حدة، فإنه لا يجوز للدائن أن يطالبه إلا بجزء من الدين طبقًا لما احتفظ به في عقد الكفالة.
وتعرض المواد (من 760 إلى 763) لرجوع الدائن على الكفيل ويميز المشروع مقتفيًا في ذلك أثر التقنين المصري، بين دفعين يجوز للكفيل أن يدفع بهما رجوع الدائن عليه، وهما الدفع بوجوب الرجوع أولاً على المدين، والدفع بالتجريد. فالدفع الأول يُبدى عند مطالبة الدائن للكفيل، أما الدفع الثاني فيُبدى عند التنفيذ على مال الكفيل.
( أ ) فطبقًا لنص المادة (760) يجب على الدائن إذا لم يرفع الدعوى على كل من المدين والكفيل في وقت واحد، أن يرجع على المدين أولاً يطالبه قضائيًا، فإن رجع على الكفيل أولاً كان للكفيل أن يدفع رجوع الدائن عليه بوجوب رجوعه أولاً على المدين، ولا يكفي في ذلك إعذار المدين بالوفاء، بل تجب المطالبة القضائية، ويحل محل المطالبة القضائية التنبيه بالوفاء إذا كان لدى الدائن سند رسمي قابل للتنفيذ ضد المدين، كما يحل محلها كذلك تقدم الدائن بحقه في تفليسة المدين إن كان قد أفلس وامتنع على الدائن اتخاذ إجراءات فردية قِبله. وله أن يدفع بذلك في أية حالة كانت عليها الدعوى، ولو لأول مرة أمام محكمة الاستئناف. فلا يجوز للمحكمة أن تقضي بالدفع من تلقاء نفسها.
فإذا حصل الدائن على سند قابل للتنفيذ، فإنه لا يجوز له ينفذ على أموال الكفيل إلا بعد تجريده المدين من أمواله فإن شرع في التنفيذ على أموال الكفيل أولاً، كان للكفيل أن يدفع بأنه لا يجوز التنفيذ عليه إلا بعد تجريد المدين من أمواله، ويجب على الكفيل أن يتمسك بحقه في التجريد عند شروع الدائن في التنفيذ على أمواله سواء عن طريق الإشكال في التنفيذ أو عن طريق الاعتراض على الإعلان عن البيع عند التنفيذ على العقار، ويظل له هذا الحق، يبديه في أي وقت مناسب، إلى أن يتم التنفيذ، ما لم ينزل عنه صراحةً أو ضمنًا.
وغني عن البيان أنه إذا كان الكفيل متضامنًا مع المدين، فإنه لا يكون له أن يدفع بوجوب الرجوع أولاً على المدين، ولا أن يوجب تجريد المدين من أمواله.
(ب) فإذا طلب الكفيل التجريد، فإنه يكون عليه طبقًا للمادة (761) أن يقوم على نفقته بإرشاد الدائن إلى أموال للمدين تكفي للوفاء بالدين، ويصح أن تكون هذه الأموال عقارًا أو منقولاً، ولكنها - طبقًا لنص المشروع - يجب أن تتوافر فيها شروط ثلاثة:
الأول: أن تكون مملوكة للمدين.
الثاني: أن تكون كافية للوفاء بالدين كله، فلا يكفي أن تفي بجزء من الدين أو حتى بمعظمه، لأنه لا يجوز إجبار الدائن على قبول وفاء جزئي لحقه.
الثالث: أن تكون هذه الأموال غير متنازع فيها، وموجودة في الكويت، حتى لا يصعب التنفيذ عليها - ذلك أن الأموال المتنازع فيها غير مأمونة العاقبة، فقد يسفر فض النزاع حولها على أنها غير مملوكة للمدين، وهي على كل حال يصعب التنفيذ عليها، إذ يقتضي النزاع فيها غالبًا، اللجوء إلى التقاضي وما يترتب عليه من إجراءات طويلة. كذلك فإن أموال المدين إذا كانت واقعة في خارج الكويت، فإنها تكون بعيدة ويصعب التنفيذ عليها، لذلك يجب أن يدل الكفيل على أموال للمدين تكون واقعة داخل البلاد.
ويكون إرشاد الكفيل للدائن إلى أموال تفي بالدين كله، على نفقه الكفيل، لأنه هو الذي يستفيد من هذا الإرشاد. ومن المصروفات التي يتحملها الكفيل في هذا الصدد، مصروفات استخراج صور لمستندات ملكية المدين للأموال التي دل عليها، وكذلك مصروفات الشهادات العقارية الخاصة بهذه الأموال.
(جـ) فإن دل الكفيل على أموال تفي بالدين كله، وجب على الدائن أن يبادر إلى اتخاذ إجراءات التنفيذ على هذه الأموال، فإذا لم يتخذها في الوقت المناسب، تبرأ ذمة الكفيل بقدر ما تعذر على الدائن استيفاؤه من الدين (المادة 762). ويقع عبء إثبات تقصير الدائن على الكفيل وفقًا للقواعد العامة. أما إذا اتخذ الدائن، في الوقت المناسب، إجراءات التنفيذ على الأموال التي دل عليها الكفيل، فالغالب أنه يحصل من هذا التنفيذ على حقه كاملاً، لأن المفروض أن الكفيل قد دله على أموال تكفي الوفاء بالدين كله، ومن ثم تبرأ ذمة الكفيل باستيفاء الدائن لحقه. فإذا فرض ولم يحصل الدائن على حقه كاملاً من التنفيذ على تلك الأموال، وهو فرض من الممكن تحققه فيما لو انخفضت قيمة الأموال عند التنفيذ عليها، أو زاحم الدائن في التنفيذ عليها دائنون آخرون، ففي مثل هذه الأحوال لا تبرأ ذمة الكفيل إلا بمقدار ما حصل الدائن عليه من حقه ويكون للدائن أن يرجع عليه بالباقي.
(د) ويعرض نص المادة (763) لصورة خاصة للدفع بالتجريد، في حالة وجود تأمين عيني يضمن الدين، فيجيز للكفيل غير المتضامن مع الدين أن يطلب التنفيذ على المال المحمل بالتأمين العيني قبل التنفيذ على أمواله هو، وذلك إذا كان قد اعتمد على هذا التأمين العيني، بأن كفل المدين والتأمين العيني الموجود، والمقصود بالتأمين العيني هنا، أن يوجد مال للمدين، عقارًا أو منقولاً يكون مرهونًا رهنًا رسميًا أو رهنًا حيازيًا في الدين، أو عليه حق امتياز ضمانًا للدين، ومن ثم يجب استبعاد المال الذي يباشر عليه الدائن الحق في الحبس، لأن الحق في الحبس ليس بتأمين عيني.
ويجب أن يكون التأمين العيني مقررًا على مال مملوك للمدين لأنه إذا كان التأمين العيني مقررًا على مال للغير، فإن هذا الغير يكون كفيلاً عينيًا لا يجوز للكفيل الشخصي أن يطلب تجريده.
ولا يشترط في هذه الصورة من الصور الخاصة من التجريد أن يكون التأمين العيني كافيًا للوفاء بالدين كله، كما هو الحال بالنسبة إلى التجريد في صورته العامة، فحتى لو لم يكن هذا التأمين كافيًا، فإنه يجوز للكفيل أن يطلب من الدائن تجريد هذا التأمين العيني أولاً، ولكنه يشترط لتطبيق النص أن يكون الكفيل غير متضامن مع المدين، وأن يتمسك الكفيل بوجوب تنفيذ الدائن أولاً على المال الذي ترتب عليه التأمين العيني وهو شرط لحق التجريد بوجه عام.
فإذا لم ينجح الكفيل في دفع دعوى الدائن، أو لم يدفعها بدفع ما، فُحكم عليه بالدين، أو إذا تقدم الكفيل مختارًا للدائن دون دعوى، ووفى الدين، ففي جميع هذه الأحوال، يجب على الدائن عند وفاء الكفيل بالدين له، أن يمكنه من الرجوع على المدين، وأن يمكنه من الحلول محله في التأمينات المتعلقة بالدين وذلك وفقًا لنص المادة (764) من المشروع.
فطبقًا لهذا النص يلتزم الدائن أولاً، أن يسلم للكفيل المستندات اللازمة لاستعمال حقه في الرجوع، فيسلمه مستندات الدين المكفول، ومخالصة بأنه استوفى منه الدين المذكور، كما يلتزم بتمكينه من الحلول في تأمينات الدين، فإن كانت هذه التأمينات واقعة على منقول، وكان المنقول في يد الدائن مرهونًا أو محبوسًا لديه، وجب على الدائن أن يسلم الكفيل هذا المنقول ليحل محله في حق رهنه، أو في الحق في حبسه، ضمانًا لحقه في الرجوع على المدين أو يسلمه لعدل، إذا عارض المدين في تسليمه للكفيل، أما إن كان التأمين عقاريًا، كرهن رسمي أو حيازي أو حق امتياز على عقار، فإنه يكون على الدائن أن يقوم بالإجراءات اللازمة لسريان حلول الكفيل محله فيه، ويتحمل الكفيل مصروفات هذه الإجراءات على أن يرجع بها على المدين ضمن ما يرجع به عليه.
ويعرض المشروع في المادة (765) منه لكفيل الكفيل، وطبقًا لنص هذه المادة يعتبر الكفيل بالنسبة إلى كفيله مدينًا أصليًا، ويعتبر كفيل الكفيل بالنسبة إلى الكفيل الأصلي كفيلاً، وعلى ذلك تسري في العلاقة بينه وبين الدائن أحكام الكفالة، فإذا كان كفيل الكفيل غير متضامن من الكفيل، جاز له أن يطلب من الدائن أن يرجع أولاً على المدين الأصلي، ثم على الكفيل، وذلك قبل إن يرجع الدائن عليه هو، ويكون له أن يدفع بتجريد المدين الأصلي ثم بتجريد الكفيل، كما يجوز له أن يتمسك بالدفوع التي يجوز للكفيل أن يتمسك بها، سواء كانت هذه الدفوع خاصة بالكفيل، أو خاصة بالمدين الأصلي، وله كذلك أن يتمسك بأن ينفذ الدائن على التأمين العيني المقدم من المدين الأصلي، كما يتمسك بذلك الكفيل المكفول، وعمومًا له أن يستعمل حقوق المدين في الدعوى غير المباشرة، وإذا وفى كفيل الكفيل الدين، كان له أن يرجع على الكفيل أو على المدين الأصلي أو عليهما معًا، سواء بالدعوى الشخصية أو بدعوى الحلول.
وتعرض المواد (766 – 768) للكفيل المتضامن مع المدين، أو مع كفلاء آخرين:
( أ ) والأصل أن تضامن الكفيل، مع المدين أو مع غيره من الكفلاء لا يفترض، ولكنه يتقرر كالتضامن ما بين المدينين الأصليين، إما بالاتفاق أو بنص في القانون، وينص المشروع في المادة (766) على أنه في الكفالة القانونية والقضائية والتجارية، يكون الكفلاء دائمًا متضامنين فيما بينهم ومتضامنين مع المدين ومقتضى ذلك تطبيق أحكام التضامن عليهم، فيجوز للدائن أن يطالب المدين أو أيًا منهم بكل الدين، فإذا كان الكفيل متضامنًا، فإنه لا يجوز له أن يتمسك بأي من الحقين المنصوص عليهما في المادة (760)، فإذا رجع الدائن على الكفيل المتضامن قبل أن يرجع على المدين، فلا يكون للكفيل المتضامن أن يدفع رجوعه عليه بوجوب الرجوع أولاً على المدين، وإذا شرع الدائن في التنفيذ على أموال الكفيل المتضامن، فلا يستطيع هذا الأخير أن يتمسك قبل الدائن بحق التجريد ووجوب التنفيذ أولاً على أموال المدين.
(ب) ولكن للكفيل المتضامن أن يتمسك بما يجوز أن يتمسك به الكفيل غير المتضامن من دفوع متعلقة بالدين (المادة 767)، فهو ليس في مركز المدين المتضامن تمامًا، بل يبقى كفيلاً، التزامه تابع للالتزام الأصلي، ومن ثم يكن له أن يتمسك بجميع الأوجه التي يحتج بها المدين، كبطلان الالتزام الأصلي أو قابليته للإبطال، وله أن يتمسك بنقص أهلية المدين إلا إذا كان قد كفل هذا المدين بسبب نقص أهليته. وإذا انقضى التزام المدين الأصلي بسبب غير الوفاء جاز للكفيل المتضامن مع المدين، أن يتمسك هو أيضًا بانقضاء التزامه، كما يستطيع أن يحتج ببراءة ذمته بقدر ما أضاعه الدائن بخطئه من التأمينات وكذلك بتأخر الدائن في اتخاذ الإجراءات ضد المدين أو بعدم تقدمه بالدين في تفليسته.
(جـ) فإذا تعدد الكفلاء، وكانوا متضامنين فيما بينهم، فإن للكفيل الذي وفى الدين كله عند حلول الأجل أن يرجع على كل من الكفلاء الباقين بحصته في الدين وبنصيبه في حصة المعسر منهم، سواء بالدعوى الشخصية أو بدعوى الحلول، ويكون الأمر كذلك إذا تعدد الكفلاء ولكن بعقود متوالية، ولم يحتفظ أحدهم لنفسه بحق التقسيم (المادة 768 من المشروع).
2 - العلاقة بين الكفيل والمدين:
وتعرض المواد (769 – 772) للعلاقة فيما بين الكفيل والمدين، فإذا وفى الكفيل الدين للدائن، كان له، أن يرجع على المدين الأصلي إما بالدعوى الشخصية وإما بدعوى الحلول.
( أ ) ففيما يتعلق بالرجوع بالدعوى الشخصية، تنص المادة (770)، على أن للكفيل الذي وفى الدين، أن يرجع على المدين بما أداه من أصل الدين وتوابعه وبمصروفات المطالبة الأولى، وبما دفعه من مصروفات من وقت إخطاره المدين الأصلي بالإجراءات التي اتُخذت ضده، ويشمل أصل الدين كل ما دفعه الكفيل للدائن لإخلاء ذمة المدين. فيشمل ذلك مقدار الدين في أصله، كما يشمل ما يضطر الكفيل إلى دفعه للدائن في نظير المصروفات كل التي تكبدها هذا الأخير في مواجهة المدين، وتشمل المصروفات كل ما أنفقه الكفيل في سبيل الوفاء بالتزامه، كنفقات إرشاد الدائن إلى أموال المدين لتجريدها، وكذلك كل ما حكم عليه به من المصروفات للدائن، ومع ذلك فليس للكفيل أن يرجع على المدين، من هذه المصروفات، إلا بالذي أنفقه من وقت إخطاره بالإجراءات التي اتخذها الدائن ضده، لأن المدين إذا أخطره الكفيل بذلك، قد يكون لديه من الدفوع ما يتوقى به مطالبة الدائن، أو قد يبادر إلى دفع الدين الذي في ذمته، وتُستثنى مصروفات المطالبة الأولى التي يقوم بها الدائن للكفيل، من هذا الشرط كمصروفات رفع الدائن الدعوى على الكفيل، فهذه لا يعلم بها الكفيل قبل حصولها حتى يخطر بها المدين، ومن ثم كان للكفيل أن يرجع بها على المدين وإن كان لم يخطره بها.
(ب) وطبقًا لنص المادة (769) من المشروع، يجب على الكفيل أن يخطر المدين قبل إن يقوم بوفاء الدين، وإذا طالبه الدائن قضائيًا، وجب عليه أن يطالب إدخال المدين في الدعوى، وكل ذلك خشية أن يكون المدين قد وفى الدين قبل أن يوفيه الكفيل، أو أن يقوم بوفائه مرة أخرى بعد أن يوفيه الكفيل، وخشية أن يكون للمدين وقت استحقاق الدين أسباب تبطل الدين أو تقضيه من غير الوفاء به، فإذا لم يخطر الكفيل المدين قبل وفاء الدين، أو لم يطلب إدخاله خصمًا في الدعوى عند مقاضاة الدائن له، وقام بوفاء الدين فإنه يفعل ذلك على مسؤوليته، فإذا أثبت المدين أنه كان قد وفى الدين قبل وفاء الكفيل به، أو بعد وفاء الكفيل، أو أثبت أن الدين كان باطلاً أو قابلاً للإبطال، وكان المدين يستطيع أن يتمسك بذاك ضد الدائن، أو أثبت أن الدين قد انقضى بسبب يرجع إليه هو، كمقاصة أو تجديد، أو اتحاد ذمة، أو إبراء، فإن الكفيل يفقد حقه في الرجوع على المدين بالدعوى الشخصية.
(جـ) أما فيما يتعلق برجوع الكفيل على المدين بدعوى الحلول، فتنص المادة (771) من المشروع، على أنه إذا وفى الكفيل كل الدين أو بعضه، حل محل الدائن في حقه، طبقًا لقواعد الحلول القانوني، فهذه الدعوى ليست إلا تطبيقًا للقواعد العامة في الحلول القانوني فيما إذا قام بالوفاء شخص غير مدين، ولذلك يكون للكفيل، إذا وفى الدين أن يرجع على المدين بدعوى الحلول، سواء كانت الكفالة بعلم المدين أو بغير علمه أو على الرغم من معارضته ولا يُشترط للرجوع بدعوى الحلول، إخطار المدين كما هو الحال في الدعوى الشخصية، ويحل الكفيل محل الدائن في حقه بما لهذا الحق من خصائص، وما يلحقه من توابع، وما يكفله من تأمينات عينية، وما يرد عليه من دفوع. وتسري على هذا الحلول القواعد العامة في الحلول القانوني الواردة في الكتاب الأول المتعلق بالالتزامات بوجه عام.
وغني عن البيان أن الكفيل يتخير من الدعويين، الدعوى الشخصية ودعوى الحلول، ما يتناسب مع مصلحته.
(د) وأخيرًا يعرض نص المادة (772) من المشروع، لرجوع الكفيل على المدينين المتضامنين الذين كفلهم، فإذا كان هناك مدينون متضامنين في دين واحد وكفلهم الكفيل جميعًا، فإنه يكون للكفيل في هذه الحالة إذا وفى الدين، أن يرجع على أي من هؤلاء المدينين المتضامنين بالدين كله، إما بالدعوى الشخصية أو بدعوى الحلول، وفقًا للتفصيل الذي سبق.
الفصل الثاني - عقد التأمين:
يقوم التأمين على أسس فنية دقيقة، ويؤدي وظائف لها خطرها بالنسبة للاقتصاد القومي، ذلك أن شركات التأمين تجمع من الأقساط التي تحصلها أموالاً ضخمة يتم استثمارها في المشروعات والقروض، ومن ثم كان على الدولة أن تفرض رقابتها بل وسيطرتها على هذه الشركات، وأن تصدر التشريعات التي تخضع هذه الهيئات لتنظيم دقيق، وتكفل بسط الرقابة عليها مراعاةً لصالح الاقتصاد القومي، ومحافظةً على مصالح المؤمن لهم والمستفيدين، وتضع الضمانات اللازمة لمواجهة هيئات التأمين لالتزامها نحو عملائها، كتكوين الاحتياطيات المختلفة وتنظيم عمليات إعادة التأمين.
أما فيما يتعلق بعلاقة المؤمن بعملائه، وهي العلاقة التي ينظمها عقد التأمين، فقد حرصت غالبية الدول على تنظيمها بقوانين خاصة، وأهم القوانين الأجنبية التي صدرت في هذا الشأن هي القانون البلجيكي الصادر في 11 يونيه سنة 1874، والقانون السويسري الصادر في 2 إبريل سنة 1908، والقانون الألماني الصادر في 30 مايو سنة 1908، والقانون الفرنسي الصادر في 13 يوليه سنة 1930، (وتعديلاته) بالإضافة إلى القوانين المختلفة صدرت بعد ذلك بتنظيم التأمين الإجباري.
وفي البلاد العربية، كان تقنين الموجبات والعقود اللبناني الصادر في سنة 1932، هو أول تقنين احتوى على تنظيم كامل لعقد التأمين، وذلك في الباب الأول من الكتاب العاشر منه تحت عنوان الضمان.
ولما صدر المشروع التمهيدي للتقنين المصري، كان عقد التأمين محل عنايته الكبيرة، فأفرد لهذا العقد فصلاً خاصًا يتضمن (99) مادة استهلها بنصوص تتناول أحكام العقد العامة والتزامات كل من المؤمن له والمؤمن، ثم أفرد المشروع لكل فرع من الفروع التأمين نصوصًا خاصة، فنظم التأمين على الحياة في فرع على حدة، ثم نظم التأمين من الحريق - وهو أظهر أنواع التأمين من الأضرار - وجعل من نصوصه أحكامًا عامة تنطبق على التأمين من الأضرار بوجه عام، وفى فرعين أخيرين نظم المشروع التأمين من المسؤولية، وهو فرع من التأمين من الأضرار، والتأمين من الإصابات، وهو فرع من التأمين على الأشخاص، وقد اقتبس المشروع هذه النصوص من مختلف القوانين الأجنبية التي نظمت عقد التأمين في العصر الحديث وأخصها القانون السويسري الصادر في سنة 1908، وقانون التأمين الفرنسي الصادر في سنة 1930، ولما عرض هذا المشروع التمهيدي على لجنة المراجعة، حذفت منه كثيرًا من النصوص التي اعتبرتها نصوصًا تفصيلية تغني عنها القواعد العامة، ثم حذفت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ غالبية النصوص الباقية ولم تبقِ من مواد المشروع غير خمس وعشرين مادة، جاءت غير كافية لتنظيم هذا العقد الهام، مع وعد سجل في المادة (748) بإصدار قوانين خاصة تكميلية، وهو ما حدا بالحكومة بعد ذلك إلى أن تعد مشروعًا لعقد التأمين، أعادت فيه كثيرًا من النصوص المحذوفة، كما أصدر المشرع القانون رقم (652) لسنة 1955 بشأن التأمين الإجباري من المسؤولية المدنية عن حوادث السيارات، إلى جانب قوانين أخرى كان قد أصدرها ومنها القانون رقم (68) لسنة 1942 بشأن التأمين الإجباري من حوادث العمل.
أما في الكويت، فلم تعرض المجلة لعقد التأمين، وهو أمر طبيعي ما دام هذا العقد لم يكن معروفًا في الفقه الإسلامي، وإن عرفت صورة منه عند بعض المتأخرين من فقهاء الحنفية، فقد تعرض ابن عابدين لعقد التأمين البحري، الذي أسماه بالسوكره، وذهب إلى تحريمه لأنه لا يشبه عقدًا من العقود المعروفة في الفقه الإسلامي، ولما انتشر التأمين في العصر الحديث، كثرت الفتاوى الشرعية في شأنه، بعضها يحلله وبعضها يحرمه، ولكن هذا الخلاف لم يكن له من أثر على دخول نظام التأمين في الحياة الاقتصادية للبلاد، فأنشأت كثير من الشركات الأجنبية فروعًا لها في الكويت، كما تكونت كثير من الشركات التي تزاول عمليات التأمين المختلفة، وأسبغ المشروع الشرعية عليها بإصداره القانون رقم (24) لسنة 1961 بشأن شركات ووكلاء التأمين، وفي سنة 1976 صدر قانون التأمينات الاجتماعية رقم (61) متضمنًا نظام التأمين الإجباري ضد إصابات العمل وقانون المرور رقم (67) ولائحته التنفيذية متضمنًا نظام التأمين الإجباري من المسؤولية المدنية عن حوادث السيارات، وفى غضون ذلك تم وضع مشروع متكامل لتنظيم عقد التأمين وصدر في 12/ 4/ 1970 مرسوم بإحالته إلى مجلس الأمة ولكنه لم يستكمل الخطوات اللازمة لإصداره حتى حُل المجلس بالأمر الأميري الصادر في 29/ 8/ 1976 فتقرر تأجيل النظر فيه إلى أن تتم دراسته من قبل اللجنة التي ستقوم بإعداد التشريعات المدنية، كما وضعت وزارة التجارة بدورها مشروعًا لا يخرج عما قرره المشروع السابق بعد إدخال تعديلات على نصوصه مستوحاة من مشروع تنظيم عقد التأمين الذي تم وضعه مؤخرًا في مصر، ويقع المشروع السابق في (92) مادة مستمدة جميعها من المشروع التمهيدي المصري، الذي استوحته جميع التقنينات العربية، فيما أوردته من نصوص تنظم جانبًا من أحكامه.
وعلى هدي هذه المشروعات المختلفة، وضع المشروع المعروض النصوص المتعلقة بتنظيم عقد التأمين، ولكنه آثر أن يقتصر على إيراد أحكام عامة متكاملة لتنظم العقد، وأن يترك ما عدا ذلك من أحكام ليصدر بها تشريع أو تشريعات خاصة تتناول جميع تفاصيل هذا العقد وجزئياته، وما يتخصص به كل نوع من أنواعه، حتى لا يترتب على الإفاضة في هذه التفاصيل إخلال بتناسق القسم الخاص بالعقود في المشروع، بل إن هناك من نواحي تنظيم عقد التأمين ما يحسن أن تتناوله لوائح تنفيذية لم يجر عرف الصياغة بإصدارها بالنسبة إلى التقنينات المدنية، مثل ما تضمنته لائحة المرور بالنسبة لتنظيم التأمين الإجباري من المسؤولية المدنية من حوادث السيارات.
ويبدأ المشروع في المادتين (773 و774) بتعريف عقد التأمين وبيان عناصره، فالتأمين عقد يبرم بين المؤمن له والمؤمن في شأن خطر أو حادث محتمل الوقوع في المستقبل ويبغي المؤمن له تأمينه منه، فيلتزم المؤمن بموجبه أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه عوضًا يكون مبلغًا من المال أو إيرادًا مرتبًا أو أي عوض مالي آخر، في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين بالعقد، كما يلتزم المؤمن له أن يدفع للمؤمن مقابل التأمين مبلغًا نقديًا على أقساط أو دفعة واحدة (مادة 773) فالمؤمن له هو الشخص الذي يتعهد بتنفيذ الالتزامات المقابلة لالتزامات المؤمن، وهو في العادة أيضًا يكون الشخص الذي يتقاضى من المؤمن مبلغ التأمين عند وقوع الحادث أو تحقق الخطر المؤمن منه، ولكن في بعض أنواع والتأمين، كالتأمين على الحياة والتأمين من الحوادث، يكون المؤمن له والمستفيد عادةً شخصين مختلفين ولذلك حرص المشروع على إيضاح التفرقة بينهما مع اعتبار المؤمن له هو المستفيد إذا لم يعين في العقد مستفيد آخر (مادة 774).
وعناصر التأمين كما يتضح من التعريف السابق هي الخطر، ومقابل التأمين، والعوض المالي.
1 - والخطر أو الحادث المؤمن منه له في عقد التأمين مدلول واسع، فهو قد يكون أمرًا يُخشى عاقبته، كحريق أو سرقة أو إصابة أو وفاة أو مسؤولية، وهو الغالب، ولكنه قد يكون أيضًا حادثًا سعيدًا، فهناك تأمين الأولاد يتقاضى فيه المؤمن له مبلغ التأمين كلما يرزق ولدًا، وهناك تأمين الزواج يتقاضى المؤمن له فيه مبلغ التأمين إذا ما تزوج قبل بلوغه سنًا معينة، وهناك تأمين المهر يكون المستفيد فيه أحد أولاد المؤمن له إذا عاش إلى تاريخ معين وهو التاريخ الذي يغلب أن يتزوج فيه فيكون في حاجه إلى المهر، وهناك التأمين لحالة الحياة يتقاضى فيه المؤمن له مبلغ التأمين إذا عاش إلى تاريخ معين.
2 - ومقابل التأمين هو القسط أو الدفعة المالية التي يدفعها المؤمن له للمؤمن لتغطية الخطر أو الحادث المؤمن منه، وبينه وبين الخطر علاقة وثيقة، فهو يحسب على أساس الخطر وإذا تغير الخطر تغير معه قسط التأمين زيادةً أو نقصًا، وهو ما يعرف بمبدأ نسبية القسط إلى الخطر، وقد يكون مقابل التأمين مبلغًا إجماليًا يدفع مرة واحدة، ويسمى بالقسط الوحيد، ولكن الغالب أن يكون دفع مقابل التأمين على أقساط جرت العادة على أن تكون سنوية تدفع مقدمًا في أول كل سنة، وإن جاز تقسيم القسط السنوي إلى أجزاء يدفع كل جزء منها مقدمًا كل ستة أشهر، أو كل ثلاثة أشهر أو كل شهر، ولكن ذلك ليس إلا طريقًا لتيسير الدفع على المؤمن له، ويبقى القسط سنويًا.
3 - أما العنصر الثالث وهو عوض التأمين، فقد يكون تعويضًا يقاس بمقياس الضرر وحده الأقصى المبلغ المذكور في وثيقة التأمين، كما هو الشأن في التأمين من الأضرار عمومًا، وقد يكون مبلغًا محددًا يتقاضاه المؤمن له أو المستفيد مرة واحدة أو إيرادًا مرتبًا كما هو في التأمين على الحياة.
أولاً: إبرام عقد التأمين:
يبرم عقد التأمين بين طرفيه وهما المؤمن والمؤمن له، على أنه يجوز أن يعقد التأمين لحساب الغير بناءً على تفويض منه أو دون تفويض فإذا كان بناءً على تفويض يكون المفوض مجرد نائب عن صاحب الشأن في إجراء التأمين، ويعتبر الأخير هو المؤمن له الذي يلتزم بدفع الأقساط وله وحده في حالة وقوع الخطر مطالبة المؤمن بمبلغ التأمين. أما إذا تم التأمين بغير نيابة، فإنه إذا أقر الغير (المؤمن له) التأمين المعقود لصالحه، حتى بعد تحقق الخطر المؤمن منه، انصرف أثر عقد التأمين إليه من وقت إبرامه لا من وقت الإقرار ويحق له أن يقبض مبلغ التأمين من المؤمن، كما يكون هو الملتزم بدفع الأقساط، فإذا تحقق الخطر ولم يقر المؤمن له العقد خلال ثلاث سنوات من تحقق الخطر أصبحت الأقساط حقًا خالصًا للمؤمن (مادة 775).
وغني عن البيان أنه يجوز أيضًا أن يعقد التأمين لحساب ذي المصلحة أو لحساب من يثبت له الحق فيه، كأن يؤمن شخص من المسؤولية عن حوادث السيارات لحساب أي سائق يقود سيارته، فهنا يكون صاحب السيارة هو المؤمن له الذي يلتزم بدفع الأقساط ويكون السائق الذي يقود السيارة هو المستفيد.
وتنص المادة (776) على أن التأمين من الأضرار يقع باطلاً إذا لم يستند إلى مصلحة اقتصادية مشروعة، فالرأي السائد هو أن المصلحة لا تكون عنصرًا إلا في التأمين من الأضرار، أما التأمين على الأشخاص فلا تشترط فيه المصلحة، والمقصود بالمصلحة هو أن يكون للمؤمن له أو للمستفيد مصلحة في عدم وقوع الخطر المؤمن منه، ومن أجل هذه المصلحة أمن هذا الخطر، ويجب أن تكون المصلحة اقتصادية أي ذات قيمة مالية، لأن المؤمن عليه في التأمين من الأضرار هو المال.
وغني عن البيان أنه يجب أن تكون المصلحة مشروعة، فالخطر المؤمن منه يجب أن يكون متولدًا عن نشاط غير مخالف للنظام العام أو الآداب، فلا يجوز التأمين من المخاطر المترتبة على أعمال التهريب أو الاتجار في المخدرات أو على الأماكن التي تدار للدعارة أو المقامرة وما إلى ذلك.
والخطر المؤمن منه هو العنصر الجوهري في التأمين، فإذا كان قد زال أو تحقق قبل تمام العقد وقع التأمين باطلاً (مادة 777)، ويسري هذا الحكم حتى لو كان كل من الطرفين يجهل وقت إبرام العقد أن الخطر قد زال أو قد تحقق، فلو كان كل منهما يظن أن الخطر قائم محتمل لبقي العقد باطلاً على الرغم من ذلك، إذ يكون الخطر في هذه الحالة خطرًا ظنيًا والتأمين من الخطر الظني لا يجوز، وهذا هو الرأي السائد في فرنسا بشأن التأمين البري، أما في التأمين البحري، فإن التأمين من الخطر الظني جائز، ويسمى بالتأمين على الأنباء السارة أو السيئة فالتأمين على السفينة إذا كانت قد غرقت قبل إبرام العقد دون أن يعلم أحد من الطرفين بذلك تأمين جائز.
ويعرض نص المادة (778) للآثار التي تترتب على إعادة التأمين، والمستقر عليه في ذلك أن المؤمن له (أو المستفيد) في عقد التأمين الأصلي أجنبي في عقد إعادة التأمين الذي يعقده المؤمن المباشر مع المؤمن المعيد، فلا يستمد من هذا العقد أي حق قبل المؤمن المعيد ولا يتحمل التزامًا، ويبقى المؤمن المباشر وحده هو المسؤول قِبل المؤمن له بموجب عقد التأمين الأصلي الذي أُبرم فيما بينهما.
وتعرض المواد من (779 إلى 789) لإبرام عقد التأمين والمراحل المختلفة التي يجتازها في إبرامه، فعقد التأمين يُبرم بين طرفيه، وهما المؤمن له والمؤمن، فيبدأ المؤمن له بتقديم طلب التأمين، ثم يتم الاتفاق النهائي بإصدار وثيقة التأمين، ولكنه يقع كثيرًا أن يتفق الطرفان اتفاقًا مؤقتًا، انتظارًا للاتفاق النهائي، فيرسل المؤمن للمؤمن له مذكرة تغطية مؤقتة، كما يقع أن يعمد الطرفان بعد العقد إلى إجراء إضافة أو تعديل في عقد التأمين، ويثبتان ذلك في ملحق للوثيقة.
1 - طلب التأمين - وهو ورقة مطبوعة يقوم المؤمن بإعدادها مسبقًا، وتشتمل على البيانات اللازمة التي يبرم عقد التأمين على أساسها، وبخاصة الخطر المطلوب التأمين منه وجميع الظروف التي تحيط بهذا الخطر، لتكون هذه البينات أمام المؤمن عندما ينظر في إجابة هذا الطلب، وفي بعض الأحيان يشتمل طلب التأمين على مجموع من الأسئلة يجيب عليها المؤمن له، وتنص المادة (779/ 1) من المشروع على أن طلب التأمين وحده لا يكون ملزمًا للمؤمن ولا للمؤمن له، ولا يتم العقد إلا إذا وقع المؤمن على وثيقة التأمين، وتم تسليم هذه الوثيقة إلى المؤمن له، ولكن طلب التأمين له، على الرغم من ذلك، أهمية كبيرة، فهو يعتبر عند تمام العقد مكملاً له بما جاء به من بيانات وإقرارات، وكل بيان أو سؤال يكون المؤمن له قد أدلى به أو أجاب عليه فيه، يحسب عليه، ويؤخذ به.
2 - مذكرة التغطية المؤقتة وقد يقبل المؤمن الطلب ومع ذلك يمضي جانب من الوقت قبل تحرير وثيقة التأمين وتوقيعها وتسليمها إلى المؤمن له، وفى هذه الحالة لا يكون المؤمن له قد أمن نفسه من الخطر الذي يتهدده، ولذلك جرت العادة بأن يسلم المؤمن إلى المؤمن له مذكرة تغطية مؤقتة موقعة منه لتغطية المؤمن له طوال الوقت الذي يستغرقه تحرير وثيقة التأمين وتسليمها للمؤمن له، وقد عرضت الفقرة الثانية من المادة (779) لهذه الحالة ونصت على أن العقد يتم حتى قبل تسليم الوثيقة، إذا سلم المؤمن للمؤمن له - استجابةً لطلب الأمين - مذكرة تغطية مؤقتة يضمنها القواعد الأساسية التي يقوم عليها التعاقد (نوع التأمين والخطر المؤمن منه ومبلغ التأمين والقسط والمدة) ويثبت فيها التزامات كل من الطرفين قِبل الآخر، وتقوم هذه المذكرة مؤقتًا مقام الوثيقة النهائية، ومع ذلك رأى المشروع من باب التيسير على المؤمن لهم أن ينص في الفقرة الثالثة من المادة (779) على أنه إذا قدم المؤمن له إيصالاً بدفع جزء من مقابل التأمين، كان له أن يثبت بكافة الطرق أن العقد قد تم، حتى ولو لم يكن قد تسلم مذكرة تغطية مؤقتة.
3 - وثيقة التأمين - وعندما يقبل المؤمن طلب التأمين، فإنه يعمد إلى تحرير وثيقة التأمين ويوقعها ثم يسلمها إلى المؤمن له، أما توقيع المؤمن له على الوثيقة فليس ضروريًا، ذلك أنه قد وقع على طلب التأمين الذي يعتبر من جانبه إيجابًا باتًا، ووثيقة التأمين هي المحرر المثبت لعقد التأمين، وتتضمن الشروط المطبوعة التي يضعها المؤمن بحسب نموذج يعده لذلك، والتي قل أن يختلف باختلاف المؤمنين، وإلى جانب هذه الشروط العامة، تذكر بيانات معينة تكتب باليد أو بالآلة الكاتبة، وهذه هي البيانات التي تخصص وثيقة التأمين باعتبارها عقدًا مبرمًا مع مؤمن له بالذات.
والمفروض أن ما يرد في وثيقة التأمين من بيانات أو شروط، يكون مطابقًا لما تم الاتفاق عليه ابتداءً بين الطرفين عند تقدم المؤمن له بطلب التأمين، فإذا تسلم المؤمن له الوثيقة ووجد أن بعض الشروط المدونة بها لا يطابق ما كان الاتفاق قد تم عليه، فإنه يكون له - طبقًا لنص المادة (780) من المشروع - أن يطلب تصحيح هذه الشروط بعد إثبات عدم المطابقة، فإذا أثبت ذلك، وجب تصحيح الوثيقة حتى تصبح مطابقة للمتفق عليه، ولكنه إذا سكت عن طلب التصحيح ثلاثين يومًا من وقت تسلم الوثيقة، فإن سكوته يعتبر قبولاً منه للشروط المدونة فيها، وهذا النص ليس إلا تطبيقًا للقواعد العامة فيما عدا تحديد مدة الثلاثين يومًا.
وتعرض المادة (781) للصور المختلفة لوثائق التأمين، والغالب أن تكون الوثيقة في صورة وثيقة لمصلحة شخص معين، ولكنها قد تكون أيضًا في صورة وثيقة إذنية أو وثيقة لحاملها، فإذا كانت الوثيقة إذنية، فإنها تنتقل بالطرق المقررة لانتقال الوثائق الإذنية، أي بالتظهير ولو كان على بياض، أما إذا كانت الوثيقة لحاملها فإنها تنتقل من يد إلى يد بمجرد المناولة الفعلية، وكل ذلك مع استثناء الوثائق الخاصة بالتأمين على الحياة التي تخضع لأحكام خاصة. ويجوز للمؤمن أن يحتج على حامل الوثيقة أو على الشخص الذي يتمسك بها بكل الدفوع التي يكون له أن يحتج بها على المؤمن له.
وقد عمد المشروع إلى طائفة من الشروط التي يكثر ورودها في العمل، فبين حكمها في المواد (782 إلى 784)، ومن هذه الشروط شروط رأى المشروع عدم الاعتداد بها أو الاحتجاج بها على المؤمن له لاعتبارات شكلية وأخرى رأى عدم الاعتداد بها أو إبطالها لاعتبارات موضوعية.
أما الشروط التي لا يعتد بها لاعتبارات شكلية فهي الشروط المطبوعة التي تتعلق بالتحكيم أو بحال من الأحوال التي تؤدي إلى البطلان أو السقوط، إذا لم تبرز هذه الشروط بطريقة متميزة كأن تكتب بحروف أكثر ظهورًا، أو أكبر حجمًا (مادة 782)، فإذا لم تبرز مثل هذه الشروط بشكل متميز فإنه لا يجوز الاحتجاج بها على المؤمن له، أما إذا كانت الشروط مكتوبة بالآلة الكاتبة أو باليد، ومن باب أولى إذا كانت موقعًا عليها من المؤمن له، فإن هذا يكون كافيًا لإعمالها.
وأما الشروط التي رأى المشروع عدم الاعتداد بها أو أبطالها لاعتبارات موضوعية فهي:
أولاً: الشرط الذي يقضي بسقوط حق المؤمن له بسبب تأخره في إعلان الحادث المؤمن منه إلى السلطات، أو في تقديم المستندات، إذا تبين من الظروف أن التأخر كان لعذر مقبول (مادة 783).
ثانيًا: الشرط الذي يستثني من نطاق التأمين الأعمال المخالفة للقوانين واللوائح، ما لم يكن الاستثناء محددًا (مادة 784/ أ) فإذا استثنى المؤمن من نطاق التأمين أي عمل يأتيه المؤمن له مخالفًا للقوانين واللوائح، كان الاستثناء غير محدد فلا يعتد به، أما إذا ذكر المؤمن على وجه التحديد، المخالفة التي يستثنيها من نطاق التأمين، كأن يستثني العمل الذي يخالف نصًا معينًا من قانون معين أو من لائحة معينة، فإن الاستثناء يكون صحيحًا وتخرج المخالفة المستثناة من نطاق التأمين لأن استثناءها محدد لا إبهام فيه ولا غموض، وغني عن البيان أن المخالفات المنطوية على جنايات أو على جنح عمدية تكون مستثناة دون حاجة إلى نص، لأن التأمين من الخطأ العمدي غير جائز.
ثالثًا: كل شرط تعسفي آخر يتبين أنه لم يكن لمخالفته أثر في تحقيق الخطر المؤمن منه (784/ ب)، وقاضي الموضوع هو الذي يقدر ما إذا كان لمخالفة الشرط أثر في تحقق الخطر المؤمن منه، فيكون الشرط صحيحًا، أو ليس لمخالفته أثر فيكون الشرط تعسفيًا ويقع باطلاً فلا يُعتد به.
ولم يرَ المشروع بعد ذلك أن يعرض للغة التي يجب أن تكتب بها وثيقة التأمين، كما فعل المشروع السابق في المادة (14) منه، لأن مجال هذا النص هو قانون الرقابة على هيئات التأمين.
4 - ملحق الوثيقة - وملحق الوثيقة هو اتفاق إضافي ما بين المؤمن والمؤمن له يلحق بالوثيقة الأصلية، ويكون من شأنه أن يعدل فيها، كأن يتفق على زيادة مبلغ التأمين أو على امتداد مدته أو على إضافة خطر لم يكن مؤمنًا منه. ويخضع في إثباته للقواعد العامة كما يسري عليه كل ما يسري على عقد التأمين الأصلي من أحكام.
مدة التأمين - ومدة التأمين هي من أهم البيانات التي ترد في الوثيقة، ولذلك أوجب المشروع أن تكون مكتوبة فيها بشكل ظاهر (مادة 785)، والأصل أن وثيقة التأمين يبدأ سريانها من وقت تمام العقد، فمن هذا الوقت تترتب الالتزامات الناشئة من العقد في ذمة كل من الطرفين، وذلك ما لم يتفق على وقت آخر لبدء سريان الوثيقة، كأن يؤمن مشتري السيارة على سيارته قبل أن يتسلمها ويجعل بدء سريان الوثيقة من تاريخ التسليم، ولما كان وقت تمام العقد، لو جُعل هو وقت بدء السريان، لا يعرف منه عادة إلا اليوم الذي تم فيه، لذلك نص المشروع على أن تبدأ مدة التأمين من أول اليوم التالي لليوم الذي تم فيه العقد (786/ 1) وتحديد مبدأ سريان العقد على هذا الوجه يكون له مزيتان - الأولى - أن هذا الوقت يكون منضبطًا تمامًا، فإذا تحقق الخطر قبل انتهاء اليوم الذي تم فيه العقد (الساعة 24) ولو بثانية واحدة، لم يكن المؤمن مسؤولاً، أما إذا تحقق الخطر بعد (الساعة 24) ليوم تمام العقد ولو بثانية واحدة فإن مسؤولية المؤمن تتحقق - والميزة الثانية - ميزة عملية، إذ يمنع سريان العقد من أول اليوم التالي من غش المؤمن له إذا أمن من الحادث عقب وقوعه مباشرة في نفس اليوم دون أن يخبر المؤمن بذلك، أما إذا اتفق على بدأ سريان التأمين في يوم معين، بدأ سريانه من أول هذا اليوم، وكل ذلك ما لم يتفق على خلافة (786/ 2 و3).
وعلى الرغم من أن لطرفي العقد مطلق الحرية في تعيين مدته، إلا أنه حرصًا على صالح المؤمن لهم ومنعًا من تورطهم في الالتزام بعقود طويلة الأمد، فقد نص المشروع في المادة (787) على تحديد أجل (خمس سنوات) يستطيع كل من الطرفين قبل حلوله بمدة ستة أشهر على الأقل، إنهاء العقد، وذلك دون إخلال بعقود التأمين على الحياة التي يكون للمؤمن له فيها أن يتحلل من العقد بعد انقضاء سنة واحدة، ويعتبر هذا الحق من النظام العام إذ يقصد به حماية المتعاقدين، ومن ثم فلا يجوز النزول عنه أو الحد منه أو الاتفاق على ما يخالفه، وهذا النص يقرر عرفًا تأمينيًا متبعًا، وأحكامه تدرج عادة في وثائق التأمين، ونظرًا لما ينطوي عليه حكم هذا النص من أهمية، فقد نصت المادة المذكورة على ضرورة بيانه في وثيقة التأمين.
وقد عرضت المادة (788) من المشروع لامتداد عقد التأمين فأجازت بمقتضى شرط محرر في الوثيقة بشكل متميز، الاتفاق على امتداد عقد التأمين من تلقاء ذاته، إذا لم يقم المؤمن له قبل انتهاء مدته بثلاثين يومًا على الأقل بإبلاغ المؤمن برغبته في عدم امتداد العقد، ولا يسري مفعول هذا الامتداد إلا سنة فسنة ويقع باطلاً كل اتفاق على أن يكون الامتداد لمدة تزيد على ذلك، وهذا النص ليس في مجموعه إلا تطبيقًا للقواعد العامة، فيما عدا ميعاد الثلاثين يومًا لصدور الرغبة في عدم امتداد العقد، وفيما عدا أن مدة الامتداد لا يجوز أن تزيد على سنة، وهو على كل حال يقرر عرفًا تأمينًا يحمي المؤمن من مفاجأته بعدم امتداد العقد يخطر به في وقت غير كافٍ، ويحمي المؤمن له بدوره، فلا يفاجأ لمجرد سكوته بامتداد العقد لمدة أطول من سنة ولذلك لم يرَ المشروع مانعًا من الأخذ بهذه الأحكام التي جرى عليها العرف التأميني ويُستثنى منها عقد التأمين على الحياة لأنه إما أن ينتهي بالموت فلا يقبل الامتداد وإما أن ينتهي بانقضاء مدته، وهذه المدة تقبل التعديل بملحق للوثيقة ولا تمتد عادةً بشرط في العقد، فإذا لم يكن هناك شرط صريح في وثيقة التأمين يقضي بامتداد العقد، وأراد المؤمن له قبل انقضاء مدة العقد امتداده لأية مدة (وكذلك تعديله أو سريانه بعد وقفه)، كان له أن يعرض هذا الامتداد على المؤمن بكتاب موصى عليه، فإن لم يقم المؤمن بإبلاغ المؤمن له خلال العشرين يومًا التالية لوصول الكتاب، بعدم الموافقة على الامتداد، عُد موافقًا عليه وامتد العقد المدة التي عرضها المؤمن له، على أنه إذا كان القرار المؤمن يعتمد على فحص طبي أو كان الطلب يتعلق بزيادة مبلغ التأمين، فلا يُعتد إلا بالموافقة الفعلية للمؤمن (مادة 789 من المشروع).
ثانيًا: التزامات المؤمن له:
طبقًا لنصوص المشروع يلتزم المؤمن له بالتزامات ثلاثة وهي:
1 - تقديم البيانات اللازمة وتقرير ما يستجد من الظروف.
2 - دفع مقابل التأمين.
3 - إخطار المؤمن بوقوع الحادث إذا تحقق الخطر المؤمن منه (مادة 790 من المشروع).
1 - فالمؤمن له يلتزم أن يبين بوضوح وقت إبرام العقد كل الظروف المعلومة له والتي يهم المؤمن معرفتها ليتمكن من تقدير المخاطر التي يأخذها على عاتقه، ويعتبر مهمًا على الأخص، الوقائع التي جعلها المؤمن محل أسئلة محددة ومكتوبة، كما يلتزم المؤمن له أيضًا أن يبلغ المؤمن بما يطرأ أثناء العقد من ظروف من شأنها أن تؤدي إلى زيادة المخاطر وذلك فور علمه بها (مادة 790/ أ وب).
فإذا سكت المؤمن له عن أمر أو قدم بيانًا غير صحيح، وكان من شأن ذلك أن يتغير موضوع الخطر أو تقل أهميته في نظر المؤمن، فإن عقد التأمين يكون بحسب الأصل قابلاً للإبطال لمصلحة المؤمن (مادة 791/ 1) سواء كان المؤمن له سيئ النية أو حسن النية في ذلك.
فإذا انكشفت الحقيقة قبل تحقق الخطر، فإنه يكون للمؤمن أن يطلب إبطال العقد، ويتم الإبطال بعد عشرة أيام من تاريخ إخطار المؤمن له بذلك بكتاب موصى عليه، ولا يكون للإبطال هنا، خلافًا لما تقضي به القواعد العامة، أثر رجعي بل يبقى المؤمن ملتزمًا بضمان الخطر كما يبقى المؤمن له ملتزمًا بدفع الأقساط وذلك إلى يوم إبطال العقد، ومن ثم يكون ما قبضه المؤمن من الأقساط عن مدة سابقة على يوم الإبطال حقًا خالصًا له، أما ما قبضة عن مدة تلي يوم الإبطال، وهي مده لا يتحمل في مقابلها خطرًا ما، فلا يجوز له أن يستبقيه ويجب عليه رده، ولكن المؤمن له يستطيع أن يدرأ طلب الإبطال إذا هو قبل زيادة في القسط تتناسب مع الزيادة في الخطر (مادة 791/ 2) وأما إذا لم تظهر الحقيقة إلا بعد تحقق الخطر، فإنه لا يجوز للمؤمن إبطال العقد، ذلك أن الخطر قد تحقق والعقد قائم وأصبح التزام المؤمن بالتعويض واجب الأداء، فلا يستطيع التحلل منه بالإبطال، ولكن لما كانت الأقساط التي دفعها المؤمن له لا تتناسب مع الخطر المؤمن منه، فإن المؤمن لا يدفع من التعويض إلا ما يتناسب مع هذه الأقساط (مادة 791/ 3)، وقد خالف المشروع في هذه الأحكام نصوص المشروع السابق التي كانت تفرق في ذلك بين حالة المؤمن له سيئ النية وحالة المؤمن له حسن النية، فتجعل العقد باطلاً في الحالة الأولى وقابلاً للإبطال في الثانية.
وغني عن البيان أن الأحكام المتقدمة تسري أيًا كان الوقت الذي وقع فيه الكتمان أو تم الإدلاء بالبيان غير الصحيح، يستوي أن يكون ذلك ابتداءً عند التعاقد، أو وقت أن يخطر المؤمن له المؤمن بما يستجد من ظروف تؤدي إلى زيادة الخطر.
ويعرض نص المادة (792) لحالة زيادة المخاطر المؤمن منها سواء بفعل المؤمن له أو بغير فعله بعد أن ألقى نص المادة (790 ب) على عاتق المؤمن له التزامًا بإبلاغ المؤمن بما يطرأ منها فور علمه بها، والنص لا يعدو أن يكون تنظيمًا مفصلاً لما يقتضيه تطبيق القواعد العامة ولما يقضي به العرف التأميني وفقًا للشروط التي جرت العادة بإدراجها في وثائق التأمين، ويخلص من أحكامه أنه إذا استجدت، في أثناء سريان العقد ظروف من شأنها أن تؤدي إلى زيادة المخاطر المؤمن منها فإن طبيعة عقد التأمين، وما يهدف إليه من استمرار تغطية الخطر ما أمكن ذلك، تقضي بإفساح المجال للطرفين حتى يستبقيا العقد بعد زيادة في مقابل التأمين، وذلك إلى جانب حق المؤمن في طلب إنهاء العقد طبقًا للقواعد العامة، وحقه في استبقاء العقد دون زيادة في المقابل، على أنه طبقًا لنص المادة (793) من المشروع يبقى عقد التأمين ساريًا دون زيادة في المقابل إذا تحقق الخطر أو زاد احتمال وقوعه نتيجة أعمال أُديت امتثالاً لواجب إنساني أو توخيًا للمصلحة العامة، فإذا تعمد المؤمن له زيادة الخطر لحماية مصلحة المؤمن نفسه، كما إذا أتلف في التأمين من الحريق بعض المنقولات المؤمن عليها لمنع امتداد الحريق وذلك لمصلحة المؤمن حتى ينحصر ضمانه في أضيق الحدود الممكنة فإن هذا العمل لا يكون له أثر في عقد التأمين، ويبقى هذا العقد ساريًا كما هو دون زيادة في المقابل، كذلك إذا عرض المؤمن له التأمين على الحياة نفسه للموت إنقاذًا لغيره فمات فعلاً أو قتل شخص حصانًا مؤمنًا عليه بعد أن أصيب بمرض، خشية أن يؤذي غيره، ففي مثل هذه الفروض يبقى عقد التأمين كما هو دون زيادة في المقابل، لأن هناك ما يبرر فعل المؤمن له، فهو يؤدي واجبًا أو يقوم بعمل للمصلحة العامة.
وكما تجوز زيادة مقابل التأمين في الحالة المنصوص عليها في المادة (792)، فإنه يجوز أيضًا تخفيضه، ويتحقق ذلك إذا كان قد لوحظ في تحديد مقدار المقابل اعتبارات معينة ثم زالت هذه الاعتبارات أو قلت أهميتها، فيجوز عندئذٍ للمؤمن له أن ينهي العقد، إلا إذا قبل المؤمن تخفيض المقابل بما يجعله مناسبًا للخطر بعد زوال هذه الاعتبارات أو بعد نقص أهميتها (مادة 794 من المشروع) ولا يجوز الاتفاق على ما يخالف هذا الحكم لأنه في مصلحة المؤمن له فلا يجوز المساس به باتفاق خاص.
2 – ويعرض المشروع في المواد (من 795 إلى 798) لالتزام المؤمن له بدفع مقابل التأمين، والأصل أن المقابل يدفع في الوقت الذي يتفق عليه المتعاقدان، وقد جرت العادة أن يشترط المؤمن على المؤمن له أن يدفع المقابل مقدمًا، حتى يستطيع أن يواجه الأخطار التي تتحقق في خلال السنة، ويسدد مبالغ التعويض المستحقة عنها، وقد اضطرد شرط الدفع مقدمًا في وثائق التأمين حتى أصبح ذلك عرفًا تأمينيًا مستقرًا.
والغالب أن يكون مقابل التأمين أقساطًا دورية سنوية، وقد يكون مبلغًا إجماليًا يدفع مرة واحدة ويسمى بالقسط الوحيد، سواء لأن مدة التأمين تقل عن سنة كما في التأمين لمدة الرحلة، أو تكون المدة طويلة ولكن المؤمن له يختار أن يوفي بمقابل التأمين دفعة واحدة، وفى هذه الحالة يدفع مقابل التأمين كله مقدمًا عند إبرام العقد، ولكن الغالب كما تقدم أن يكون دفع مقابل التأمين على أقساط، وقد جرت العادة بأن يكون القسط سنويًا يدفع مقدمًا في أول كل سنة، ويدفع القسط الأول عند إبرام العقد، وقد قننت المادة (795) من المشروع هذه الأحكام.
هذا ويُلاحظ أن المشروع يقضي بأنه إذا نُص في وثيقة التأمين على إرجاء سريان العقد إلى ما بعد سداد القسط الأول، ثم سلم المؤمن للمؤمن له الوثيقة قبل سداد هذا القسط، لم يجز للمؤمن أن يتمسك بعد ذلك بإرجاء سريان العقد، ذلك أن تسليمه الوثيقة للمؤمن له يعتبر قرينة إما على نزوله عن شرط إرجاء سريان العقد، وإما على أنه قبض القسط الأول فبدأ العقد في السريان.
وتعرض المادة (796) من المشروع لمكان الوفاء، والأصل طبقًا للقواعد العامة، أن يكون مكان دفع القسط هو موطن المدين به، أي موطن المؤمن له، ولكن العادة جرت في المحيط التأميني أن يكون دفع أول قسط في موطن المؤمن، ثم يكون دفع الأقساط التالية في موطن المؤمن له، والموطن التأميني للمؤمن له هو الموطن الذي ذكره في وثيقة التأمين أو آخر موطن أخطر به المؤمن، ولكن قد يجد المؤمن له من مصلحته أن يتفق مع المؤمن على أن يكون الدفع في مكان آخر غير موطنه (في موطن وكيله، أو في موطن المؤمن نفسه، أو في موطن وكيل المؤمن)، ولما كان المفروض أن هذا الشرط إنما هو في مصلحة المؤمن له الذي اشترطه فإنه يجب إدراجه ضمن الشروط الخاصة المكتوبة بحروف ظاهرة بناءً على طلب المؤمن له.
ويكون الدفع استثناءً في موطن المؤمن إلى جانب حالة الاتفاق على ذلك، في الحالتين الآتيتين:
( أ ) دفع القسط الأول، إذ جرت العادة كما تقدم أن يدفع هذا القسط في موطن المؤمن، ومن ثم يكون هذا القسط محمولاً لا مطلوبًا.
(ب) حالة ما إذا تأخر المؤمن له في دفع أي قسط آخر بعد أن سعى إليه المؤمن في طلبه، وعند ذلك يعذر المؤمن المؤمن له، ومن وقت الإعذار يصبح القسط محمولاً لا مطلوبًا، أي أنه يصبح واجب الدفع في موطن المؤمن لا في موطن المؤمن له (المادة 796 من المشروع).
وتعرض المادتان (797 و798) للجزاء الذي يترتب على الإخلال بالتزام دفع قسط التأمين، وطبقًا للقواعد العامة، إذا امتنع المؤمن له عن دفع القسط أو تأخر في دفعه، يكون للمؤمن، بعد إعذاره أن يطلب الحكم إما بالتنفيذ العيني وإما بالفسخ، ولا يتحلل من التزامه بضمان الخطر المؤمن منه إلا إذا حصل على حكم بفسخ العقد، ومن الوقت الذي يصدر فيه هذا الحكم، لأن التأمين عقد زمني لا يكون لفسخه أثر رجعي ولا يستطيع المؤمن وقف التزامه بضمان الخطر، وكل ما يستطيعه إذا تحقق الخطر ولزمه التعويض، أن يحبس مبلغ التأمين حتى يستوفي القسط أو الأقساط المستحقة، ويكون له أن يخصمها من هذا المبلغ، ولا شك أن هذه الإجراءات لا تلائم مصلحة المؤمن ولا تتفق في الوقت ذاته مع التبسيط الواجب مراعاته في تسيير عجلة التأمين، ولذلك كانت شركات التأمين تلجأ إلى تضمين وثائقها شروطًا من شأنها أن تيسر الإجراءات تيسيرًا شديدًا، فتشترط إعفاءها من الإعذار، فإذا تأخر المؤمن له في دفع القسط، وقف عقد التأمين ويفاجأ المؤمن له عند تحقق الخطر، بأن التزام المؤمن موقوف لعدم دفع القسط في الميعاد، فيضيع حقه في التأمين.
وقد جرى العرف التأميني، وهو عرف يتمثل في نصوص التشريعات الأجنبية في التأمين، وخاصةً قانون التأمين الفرنسي الصادر في سنة 1930، بالتوسط بين التشديد في الإجراءات إلى حد إرهاق المؤمن والتبسيط فيها إلى حد يجعل المؤمن له تحت رحمة المفاجآت، فأوجب إعذار المؤمن له بكتاب موصى عليه دون أن يكون للمؤمن أن يشترط إعفاءه من هذا الإعذار، وقرر مواعيد محددة يقف بعد انقضائها سريان عقد التأمين، ثم مواعيد أخرى يجوز بعدها أن يطلب المؤمن التنفيذ العيني أو الفسخ بإجراءات مبسطة، وحرم على المؤمن أن يشترط إعفاءه من هذه المواعيد أو تقصيرها، وإن جاز للمؤمن له أن يشترط إطالتها، وبذلك أقام التوازن بين مصلحة المؤمن ومصلحة المؤمن له، وقد نقل المشروع هذا العرف التأميني عن قانون التأمين الفرنسي، أسوة بمختلف المشروعات التي تم وضعها سواء في الكويت أو في مصر.
3 – فإذا تحقق الخطر المؤمن منه، وعلم المؤمن له بتحققه على وجه يستوجب مسؤولية المؤمن عن ضمانه، فإن المؤمن له يلتزم عندئذٍ بإخطار المؤمن بوقوع الحادث الذي نجم عنه تحقق الخطر، وقد ورد هذا الالتزام في الفقرة (د) من المادة (790) التي تلزم المؤمن له (أن يبادر إلى إبلاغ المؤمن بكل حادثة من شأنها أن تجعل المؤمن مسؤولاً)، وهذا الالتزام بديهي، فإن المؤمن قد تحققت مسؤوليته بتحقق الخطر المؤمن منه، فيعنيه أن يعلم ذلك في أقرب وقت ممكن حتى يتمكن من اتخاذ جميع الاحتياطات اللازمة في الوقت المناسب، وغني عن البيان أن على المؤمن له أن يخطر المؤمن بالحادث في وقت معقول، وإذا تأخر في الإخطار دون مبرر فألحق بتأخره ضررًا بالمؤمن كان عليه أن يعوضه عن هذا الضرر، ولا يوجد ما يمنع، طبقًا للقواعد العامة، من أن يشترط المؤمن أن يكون الإخطار في ميعاد معين، وعندئذٍ يجب على المؤمن له أن يراعي هذا الميعاد في الإخطار مع مراعاة حكم المادة (783) من المشروع.
ثالثًا: التزامات المؤمن:
أما المؤمن فيلتزم عند تحقق الخطر المؤمن منه أو عند حلول الأجل المحدد في العقد، بأداء مبلغ التأمين المستحق خلال ثلاثين يومًا من اليوم الذي يقدم فيه صاحب الحق البيانات والمستندات اللازمة للتثبت من حقه (مادة 799 من المشروع). وهذا النص ليس إلا تطبيقًا للقواعد العامة، وهو يبين ميعاد حلول الالتزام بدفع مبلغ التأمين، وما يقع على الدائن في هذا الالتزام من عبء إثبات الحادث المؤمن منه.
وتنص المادة (800) من المشروع على أنه في التأمين من الأضرار، يلتزم المؤمن بتعويض المؤمن له عن الضرر الناتج من وقوع الخطر المؤمن منه، على ألا يجاوز ذلك مبلغ التأمين، وهذا النص يتعلق بمبدأ الصفة التعويضية لعقد التأمين ولكنه مبدأ لا يسري إلا على التأمين من الأضرار فقط، أما التأمين على الأشخاص فيسوده مبدأ رئيسي عكسي هو انعدام صفة التعويض.
وتطبيقًا لمبدأ الصفة التعويضية في التأمين عن الأضرار، لا يجوز للمؤمن له أن يجمع بين مبلغ التأمين والتعويض، وإلا تقاضى مقدار ما لحق به من الضرر مرتين، مرة من المؤمن وأخرى من الغير المسؤول وهذا لا يجوز (على عكس الحال في التأمين على الأشخاص)، ولذلك تنص المادة (801) من المشروع على حلول المؤمن قانونًا بما أداه من تعويض في الدعاوى التي تكون للمؤمن له قِبل المسؤول قانون عن الضرر المؤمن منه، وهذا النص مستوحى من المادة (771) مصري والمادة (36) من قانون التأمين الفرنسي ولهما مقابل في كثير من التشريعات العربية. وقبل صدور قانون التأمين الفرنسي لم يكن من السهل توجيه رجوع المؤمن على المسؤول بطريق الدعوى المباشرة ولم يقر القضاء الفرنسي الآراء التي ذهبت إلى جواز الرجوع، والواقع أنه لم يكن هناك سبب قانوني يجعل المؤمن يحل محل المؤمن له قبل المسؤول، بل إنه لا يوجد سبب قانوني يمنع المؤمن له بعد استيفائه مبلغ التأمين من المؤمن أن يرجع بالتعويض على المسؤول، ومن أجل ذلك جرت العادة بأن يحصل المؤمن من المؤمن له مقدمًا على حوالة بحقوق هذا الأخير قبل المسؤول، ثم صدر القانون الفرنسي مشتملاً على نص المادة (36) التي نقلتها المادة (771) من التقنين المصري بالنسبة إلى التأمين ضد الحريق فقط، ولكن المشروع آثر أن يعمم الحكم على جميع أنواع التأمين من الأضرار.
على أنه يرد على مبدأ الحلول قيدان - الأول - ما نصت عليه العبارة الأخيرة في الفقرة الأولى من المادة (801) من استثناء أقارب المؤمن له وأصهاره الذين يكونون معه في معيشة واحدة والأشخاص الذين يكون المؤمن له مسؤولاً عن أفعالهم من الرجوع عليهم بدعوى الحلول - والسبب في ذلك واضح، ففيما يتعلق بالأقارب والأصهار الذين يعيشون مع المؤمن له، افترض المشروع أنهم إذا كانوا هم الذين تسببوا في الحادث، فلن يرجع عليهم المؤمن له بالتعويض لعلاقته الخاصة بهم التي تأكدت بمعيشتهم معه في بيت واحد، فإذا كان هو لا يرجع عليهم فأولى بالمؤمن ألا يرجع، وفيما يتعلق بالأشخاص الذين يكون المؤمن له مسؤولاً عن أفعالهم كالخدم والأتباع ويدخل أيضًا من هم تحت رقابته ولو لم يقيموا معه في معيشة واحدة منع المشروع أيضًا المؤمن من الرجوع عليهم بدعوى الحلول، ليس فحسب من أجل العلاقة الخاصة التي تربطهم بالمؤمن له، بل أيضًا لأن المؤمن له لو رجع عليهم وكانوا معسرين لجاز له الرجوع على المؤمن له باعتباره مسؤولاً عنهم، فيسلبه باليسار ما أعطاه باليمين، وهذا الحكم يعتبر من النظام العام فلا يجوز الاتفاق على ما يخالفه - القيد الثاني - أن يصبح حلول المؤمن محل المؤمن له متعذرًا بسبب راجع إلى المؤمن له (مادة 801/ 2)، مثل ذلك أن يقر المؤمن له، في غير الحدود المرسومة قانونًا، للمسؤول بعدم المسؤولية، أو يبرئ ذمته منها، أو يصالحه دون موافقة المؤمن، ومثل ذلك أيضًا أن يترك المؤمن له دعواه تجاه المسؤول تسقط بمضي الزمان، ثم يرجع بعد ذلك على المؤمن، ففي هذه الفروض وأمثالها يكون المؤمن له قد أضاع بفعله فرصة حلول المؤمن محله، فلا يستطيع عندئذٍ المؤمن الرجوع بدعوى الحلول على المسؤول، ومن ثم تبرأ ذمة المؤمن تجاه المؤمن له بقدر ما أضاعه هذا عليه من الرجوع بدعوى الحلول على المسؤول.
رابعًا: انتقال الحقوق والالتزامات الناشئة عن عقد التأمين وانقضاؤها:
وتعرض المواد (802 - 807) لنقل الحقوق والالتزامات الناشئة عن عقد التأمين في حالتين هما:
1 - انتقال الشيء المؤمن عليه إلى شخص آخر.
2 - إفلاس المؤمن له أو المؤمن كما تعرض لسقوط الدعاوى الناشئة عن عقد التأمين بمرور الزمان.
1 - انتقال الشيء المؤمن عليه إلى شخص آخر:
الأصل أن الشيء المؤمن عليه، إذا انتقلت ملكيته إلى خلف عام أو خلف خاص، تنتقل وثيقة التأمين مع الشيء إلى الخلف، ذلك أنه إذا كان الخلف خلفًا عامًا، فإن حقوق السلف الناشئة عن عقد التأمين تنتقل إليه وكذلك التزاماته الناشئة عن العقد في حدود التركة، طبقًا لقواعد الاستخلاف العام، وإذا كان الخلف خلفًا خاصًا، فإن عقد التأمين يعتبر من مكملات الشيء المؤمن عليه ومحدداته، فينتقل حقوقًا والتزامات من السلف إلى الخلف طبقًا لقواعد الاستخلاف الخاصة. ولما كان عقد التأمين ينتقل بانتقال ملكية الشيء المؤمن عليه، بحكم القانون دون حاجة إلى موافقة المؤمن أو المؤمن له الجديد، فإن أكثر التشريعات قد احتفظ في مقابل ذلك لكل منهما بالحق في طلب إنهاء عقد التأمين وهو ما آثر المشروع الأخذ به (مادة 802 وما بعدها).
ويبقى حق المؤمن في الإنهاء قائمًا إلى أن ينزل عنه صراحةً أو ضمنًا، ويستخلص النزول الضمني من عدم استعماله حقه في الإنهاء في مدة ثلاثين يومًا من التاريخ الذي يخطر فيه بالتصرف الناقل للملكية أو بوفاة المؤمن له.
أما المؤمن له الجديد فيجوز له طلب الإنهاء في أي وقت منذ انتقال الملكية إليه، ويبقى حقه قائمًا إلى أن ينزل عنه صراحةً أو ضمنًا، ولا يجوز تحديد ميعاد لطلب الإنهاء لا في وثيقة التأمين ولا من جهة المؤمن، لأن في ذلك تضييقًا في حق المؤمن له الجديد في طلب الإنهاء وهو مخالف للنظام العام فيقع باطلاً، على أن حق المؤمن له الجديد في الإنهاء لا يبقى بالفعل قائمًا لمدة طويلة، فإنه لا يلبث أن يطالب بقسط التأمين الذي يحل عقب انتقال الملكية، وهنا لا بد من أن يتخذ موقفًا في أمر الإنهاء، فإما أن يطلبه وإما أن ينزل عنه بدفع القسط، فإذا طلب المؤمن له الجديد الإنهاء، انتهى عقد التأمين من هذا الوقت دون أثر رجعي، ويقع باطلاً كل شرط يستحق المؤمن بمقتضاه تعويضًا إذا اختار من انتقلت أو آلت إليه الملكية إنهاء العقد (مادة 803).
ويعرض نص المادة (804) للآثار التي تترتب على انتقال عقد التأمين، فيلتزم المؤمن له الجديد نحو المؤمن بدفع الأقساط المستقبلة أما الأقساط التي تكون قد حلت وقت انتقال الملكية فهي على المؤمن له الأصلي، فإذا لم يكن قد دفعها فعليه دفعها، وإذا كان انتقال الملكية بالموت ولم تكن بعض الأقساط الحالة قد دفعت، فهي دين على التركة طبقًا للقواعد المقررة في الميراث.
ولكن قد يكون المؤمن جاهلاً بانتقال الملكية ولا يعرف إلا المؤمن له الأصلي يتقاضى منه الأقساط التي تحل، فيبقى المؤمن الأصلي ملتزمًا بدفع هذه الأقساط ويرجع بها على المؤمن له الجديد، وذلك إلى أن يخطر المؤمن بكتاب موصى عليه بحصول التصرف الناقل للملكية، فمن وقت حصول هذا الإخطار يكون المؤمن له الجديد هو الملتزم بدفع ما يحل من أقساط، وتبرأ ذمة المؤمن له الأصلي منها، فلا يكون ملزمًا بدفعها لا بصفته مدينًا أصليًا ولا بصفته ضامنًا للمؤمن له الجديد.
على أنه يُلاحظ أنه إذا كان القسط يدفع مقدمًا كما هو الغالب ودفع المؤمن له الأصلي القسط عن العام الذي بدأ، وانتقلت الملكية في خلال هذا العام، فإنه يكون للمؤمن له الأصلي أن يرجع على المؤمن له الجديد بجزء من القسط يتناسب مع المدة التي بقيت من العام منذ انتقال الملكية.
وتنص المادة (805) من المشروع، عن أنه إذا تعدد الورثة أو المتصرف إليهم، وسرى عقد التأمين بالنسبة لهم، كانوا مسؤولين بالتضامن عن دفع الأقساط، وقد نقل المشروع هذا النص عن المادة (9/ 4) من قانون التأمين الفرنسي، حتى لا ينقسم القسط في حالة تعدد المؤمن له الجديد.
2 - إفلاس المؤمن له أو المؤمن:
وتعرض المادة (806) من المشروع لإفلاس المؤمن له ولإفلاس المؤمن، فإذا أفلس المؤمن له، فإن عقد التأمين يبقى، وتحل جماعة الدائنين محل المؤمن له في جميع الحقوق والالتزامات الناشئة عن العقد، ذلك أن الشيء المؤمن عليه قد دخل في التفليسة، فيبقى المؤمن ضامنًا للخطر المؤمن منه، وتصبح جماعة الدائنين ملتزمة بجميع التزامات المؤمن له وبدفع أقساط التأمين التي تحل بعد صدور الحكم بشهر الإفلاس، أما الأقساط التي حلت قبل ذلك ولم تُدفع فيدخل بها المؤمن في التفليسة شأنه في ذلك شأن سائر الدائنين.
وقد ترى جماعة الدائنين ألا مصلحة لها في بقاء العقد، كما قد يرى المؤمن أيضًا إنهاء العقد بعد إفلاس المؤمن له، ولذلك تحتفظ التشريعات عادةً لكل من الطرفين بالحق في إنهاء العقد، وهو ما أخذ به المشروع على أن يتم ذلك في خلال ثلاثة أشهر من وقت صدور الحكم بالإفلاس، ويكون على المؤمن في حالة الإنهاء، أن يرد لجماعة الدائنين الجزء من القسط الذي لم يتحمل في مقابله بخطر ما.
أما إذا أفلس المؤمن، فإن العقد يقف سريانه من يوم صدور الحكم بشهر الإفلاس ويكون للمؤمن له الحق في استرداد الجزء من القسط الذي يكون قد دفعه عن الفترة التي يوقف فيها العقد، وذلك مع مراعاة الأحكام الخاصة بالتأمين على الحياة حيث يحدد حق المؤمن له أو المستفيد في العقود السارية بمبلغ يعادل قيمة الاحتياطي الحسابي محسوبة على أساس تعريفة التأمين المعمول بها وقت إبرام العقد، دون زيادة.
3 - سقوط الدعاوى الناشئة عن عقد التأمين بمضي الزمان:
وتنص المادة (807) من المشروع على سقوط الدعاوى الناشئة عن عقد التأمين بانقضاء ثلاث سنوات من وقت حدوث الواقعة التي تولدت عنها هذه الدعاوى وذلك ما لم يقضِ القانون بخلاف ذلك، والدعاوى التي تُعتبر ناشئة عن عقد التأمين ويسري عليها حكم هذه المادة، إما أن تكون دعاوى للمؤمن أو دعاوى للمؤمن له.
وأما دعاوى المؤمن فهي دعاوى المطالبة بالأقساط المستحقة ودعاوى إبطال عقد التأمين، ودعاوى إنهاء عقد التأمين أيًا كان سبب الإنهاء، سواء كان إخلال المؤمن له بالتزامه بدفع الأقساط المستحقة، أو كان تقرير ما يستجد من الظروف ويكون من شأنه أن يزيد الخطر، أو كان غير ذلك من الأسباب.
وأما دعاوى المؤمن له فهي دعوى المطالبة بمبلغ التأمين عند تحقق الخطر المؤمن منه، سواء رفعت هذه الدعاوى من المؤمن له أو من المستفيد، وكذلك دعاوى البطلان والإبطال والإنهاء وكذلك دعوى استرداد المبالغ التي دفعت بغير حق.
وتسري مدة ثلاث السنوات من وقت حدوث الواقعة التي تولدت عنها الدعوى، غير أن هناك حالات يتأخر فيها مبدأ سريان المدة عن وقت حدوث الواقعة التي تولدت عنها الدعوى وهي:
( أ ) حالة إخفاء بيانات متعلقة بالخطر المؤمن منه، أو تقديم بيانات غير صحيحة أو غير دقيقة عن هذا الخطر، فلا تسري المدة في هذه الحالة إلا من اليوم الذي علم المؤمن بذلك.
(ب) حالة وقوع الحادث المؤمن منه، ففي هذه الحالة يبدأ سريان المدة من وقت وقوع الحادث المؤمن منه، بل من وقت علم ذوي الشأن بوقوع هذا الحادث.
(جـ) كذلك لا تسري المدة عندما يكون سبب دعوى المؤمن له على المؤمن ناشئًا عن رجوع الغير عليه، إلا من يوم رفع الدعوى من هذا الغير على المؤمن له أو من اليوم الذي يستوفي فيه الغير التعويض من المؤمن له.
وأخيرًا جعل المشروع النصوص التي تنظم عقد التأمين الواردة في هذا الفصل، والتي تهدف في مجموعها إلى حماية المؤمن له نصوصًا لا تجوز مخالفتها، إلا أن يكون ذلك لمصلحة المؤمن له أو المستفيد، (مادة 88 فقرة أولى) أما إذا اتفق على مخالفتها لمصلحة المؤمن فإن الاتفاق يكون باطلاً، وقد يُفهم من ذلك أنه يجوز الاتفاق على إطالة المدة المقررة لسقوط الدعوى المبينة في المادة (807) أو على تقصيرها إذا كان ذلك في مصلحة المؤمن له أو المستفيد، ولذا اقتضى الأمر النص على ذلك صراحةً في الفقرة الثانية من المادة (808) فلا يجوز الاتفاق على مدة تختلف عن المدة التي عينها المشروع.
كذلك تسري الأحكام المبنية في هذا الفصل على جميع أنواع التأمين، مع مراعاة ما تقضي به التشريعات الخاصة في شأن نوع معين منها (مادة 809 من المشروع).
فالنصوص الواردة في قانون التجارة البحرية هي التي تسري على التأمين البحري والنصوص الواردة في قوانين المرور هي التي تسري في شأن التأمين من حوادث السيارات، وهكذا، ولا تسري النصوص الواردة في هذا الفصل إلا عند عدم وجود نص في تلك التشريعات الخاصة.
القسم الثاني - الحقوق العينية:
تنقسم الحقوق المالية بصفة أساسية، إلى حقوق شخصية وحقوق عينية، وهو التقسيم التقليدي الذي رأى المشروع اتباعه كما سبق البيان في النظرة العامة للقسم الأول الذي خُصص للحقوق الشخصية.
والحقوق العينية جميعًا تتميز عن الحقوق الشخصية أو الالتزامات بأن محل الحق العيني هو شيء معين بذاته بحيث يكون لصاحب الحق سلطات مباشرة على الشيء فلا يحتاج إلى تدخل شخصي آخر ليباشر هذه السلطات، في حين أن محل الحق الشخصي هو عمل يقوم به شخص معين هو المدين حتى ولو كان هذا العمل متصلاً بشيء ما.
والحقوق العينية تنقسم أساسًا إلى نوعين، الحقوق العينية الأصلية، والحقوق العينية التبعية وهي التأمينات العينية. والحقوق العينية الأصلية هي حقوق توجد مستقلة، فلا يستند الحق في وجوده إلى حق آخر يتبعه، فيكون الحق بما يخوله من سلطات مقصودًا لذاته وليس لخدمة حق آخر، وأهم هذه الحقوق هو حق الملكية الذي يخول صاحبه، بأصل وضعه، السلطات التي تمكن من الحصول على كل منافع الشيء، ثم تأتي بعد ذلك حقوق تُعرف بالحقوق المتفرعة عن الملكية لأن كل حق منها يخول صاحبه بعض ما يخوله حق الملكية من سلطات، والحقوق العينية التبعية، أي التأمينات العينية، هي حقوق عينية لا تُقصد لذاتها، وإنما لضمان الوفاء بالحقوق الشخصية فيكون الحق العيني دائمًا تابعًا لحق شخصي.
وهذه الحقوق، وفقًا لما سار عليه المشروع، هي الرهن الرسمي والرهن الحيازي والامتياز.
وقد عرض المشروع لكل من نوعي الحقوق العينية في كتاب مستقل.
الكتاب الأول: الحقوق العينية الأصلية
الباب الأول - حق الملكية
حق الملكية هو أهم الحقوق العينية الأصلية، وعنه تتفرع الحقوق الأخرى، وقد عرض المشروع لتنظيم الملكية في فصلين: الأول في أحكام حق الملكية أي في القواعد التي تنظم الحق الموجود فعلاً، فبدأ أولاً ببيان نطاق حق الملكية من حيث مضمونه أي السلطات التي يخولها الحق صاحبه (م 810)، ومن حيث محل الحق (م 811 و812) ومن حيث القيود التي ترد على حق المالك (م 813 - 817)، ثم عرض المشروع للملكية الشائعة حيث يتعدد أصحاب الحق على الشيء فبدأ بأحكام الشيوع التي تبين كيفية ممارسة الشركاء حقوقهم على الشيء المملوك لهم جميعًا (م 818 - 829). ثم تناول انقضاء الشيوع بالقسمة فعرض للحق في طلب القسمة، وكيف تتم القسمة، اتفاقًا أو قضاءً، وأثر القسمة سواء من حيث إفراز الأنصبة أو ضمان التعرض والاستحقاق (م 830 - 842)، وبعد القسمة النهائية التي يترتب عليها إنهاء حالة الشيوع، عرض المشروع لقسمة المهايأة (م 843 - 846)، ثم عرض المشروع بعد ذلك لما يسمى الشيوع الإجباري حيث وضع قاعدة عامة (م 847). ثم عقب عليها بتنظيم ملكية الطبقات والشقق حيث يوجد أهم تطبيق من تطبيقات فكرة الشيوع الإجباري وهو ملكية الأجزاء المشتركة في البناء الذي يتعدد فيه الملاك، كل منهم يملك جزءًا مفرزًا، وحصة شائعة في الأجزاء المشتركة (م 848 - 874).
وبعد أحكام حق الملكية، عرض المشروع في الفصل الثاني لأسباب كسب الملكية، مبتدئًا بكسب الملكية ابتداءً عن طريق الاستيلاء أي حيازة المباح (م 875 - 879)، ثم كسب الملكية انتقالاً فيما بين الأحياء بالالتصاق (م 880 - 887)، والتصرف القانوني (م 888 - 890)، والشفعة (م 891 - 904)، كما عرض للحيازة بتنظيم شامل لا يقتصر على ما قد يترتب عليها من كسب الملكية، أو غيرها من الحقوق العينية، وإنما يشمل كل ما يتعلق بالحيازة (م 905 - 939)، وأخيرًا عرض المشروع لكسب الملكية انتقالاً بسبب الوفاة، فبدأ بالإشارة إلى الميراث مكتفيًا بالإحالة على أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الصادرة في شأنه (م 940)، ثم عرض للوصية فأحال أيضًا على أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الصادرة في شأنها، ثم بين التصرفات التي تأخذ حكم الوصية (م 941 - 943).
الفصل الأول: أحكام الملكية:
الفرع الأول - نطاق حق الملكية:
بدأ المشروع أحكام حق الملكية بنص المادة (810) التي تبين مضمون حق الملكية، أي السلطات التي يخولها الحق صاحبه، وفيه تعريف بهذا الحق أو هو يغني عن التعريف، وحق الملكية هو أوسع الحقوق نطاقًا من حيث ما يخول صاحبه من سلطات، فهو يخول المالك بأصل وضعه كل السلطات المتصورة لتمكينه من الحصول على كافة مزايا الشيء محل الحق، ومن الممكن أن يذكر هذا في نص تشريعي فيقال: (لمالك الشيء السلطات، التي تمكن من الحصول على كل مزاياه) دون ذكر هذه السلطات، ولكن نظرًا إلى أن السلطات التي تمكن من الحصول على كافة مزايا الشيء لا تعدو أن تكون الاستعمال والاستغلال والتصرف، فقد رُئي اتباع مسلك التشريعات المختلفة بذكر هذه السلطات الثلاث.
وتمتع المالك بهذه السلطات جميعًا هو الأصل في حق الملكية بمعنى أن المالك يتمتع بها ما لم يُحرم من بعضها مؤقتًا، كما لو حرم المالك من الاستعمال والاستغلال نتيجة لوجود حق انتفاع لغيره على الشيء أو حرم من سلطة التصرف كأثر لشرط صحيح بعدم التصرف، والحد من سلطات المالك نتيجة وجود حق للغير ليس محلاً للشك ويبقى المالك، برغم حرمانه من إحدى السلطات مالكًا.
هذا ولم يشر في النص إلى بعض العبارات التي ترد في النصوص المقابلة في بعض التشريعات لعدم الحاجة إليها من ناحية ولما قد يترتب على ذكرها من لبس من ناحية أخرى:
أولاً: ترد في بعض النصوص ألفاظ أو عبارات لإبراز ما يقال عادة في الفقه عند بيان خصائص حق الملكية من أنه حق مانع بمعنى أن تقتصر السلطات التي يخولها الحق على المالك دون غيره، مثل ما ورد في القانون المصري والقوانين التي نقلت عنه من أن لمالك الشيء وحده ... (والواقع أن حق الملكية لا يختلف في هذا عن غيره من الحقوق فكل صاحب حق له وحده أن يباشر السلطات التي يخولها حقه).
ثانيًا: لم يشر النص إلى الوظيفة الاجتماعية لحق الملكية، فأولاً من الخطأ أن يُقال، كما يقول البعض، أن الملكية وظيفة اجتماعية لأن هذا يتضمن إنكارًا لفكرة الحق ذاتها، فصاحب الحق يباشر سلطاته لحسابه ولتحقيق مصلحته الخاصة أما مصلحة الجماعة فتتحقق بطريق غير مباشر. ولذلك فالصحيح أن يقال إن للملكية وظيفة اجتماعية، ولكن هذا لا يستدعي النص، كما فعلت بعض التشريعات، على تقييد مباشرة المالك لسلطاته بالقول إن ذلك يكون (متفقًا مع ما لحق الملكية من وظيفة اجتماعية) (المادة 684) من القانون السوداني رقم (29) لسنة 1971، ذلك أن حق الملكية لا يختلف عن غيره من الحقوق من هذه الناحية، فكل حق له وظيفة اجتماعية، وليس من حسن السياسة التشريعية أن يرد مثل هذا القيد في نص تشريعي لا يُستبعد أن يساء استغلاله، هذا بالإضافة إلى أن مشروع القانون قد تضمن تنظيمًا عامًا لعدم جواز التعسف في استعمال الحق.
وبعد أن عرض المشروع لنطاق حق الملكية من حيث مضمونه أي لسلطات المالك، عرض في المادتين (811 و812) لنطاق الحق من حيث محله، فنصت المادة (811) على أن ملكية الشيء تشتمل أجزاءه وثماره ومنتجاته وملحقاته ما لم يوجد نص أو تصرف قانوني يخالف ذلك.
والنص على أجزاء الشيء يقابل ما ورد في القانون المصري والقوانين العربية التي نقلت عنه أو تأثرت به من أن (مالك الشيء يملك كل ما يعده من عناصره الجوهرية بحيث لا يمكن فصله عنه دون أن يهلك أو يتلف أو يتغير) (م 803/ 1 مصري، 769/ 1 سوري - 812/ 1 ليبي، 685/ 1 سوداني، 682/ 1 صومالي، 675/ 1 تونسي، 1049 عراقي، 1019/ 1 أردني) وقد آثر المشروع كلمة (أجزاءه) مع إيجازها على تلك العبارة وذلك (لأن كلمة جزء أكثر ملاءمة لنصوص التشريع من كلمة عنصر، كما أن وصف العناصر التي يملكها المالك بأنها جوهرية يفيد أن العناصر غير الجوهرية لا تشملها الملكية وهو غير صحيح، فكل ما يعتبر جزءًا أو عنصرًا من الشيء محل الحق تمتد إليه الملكية أيًا كانت درجة أهميته حتى ولو كان من الكماليات، وإذا كانت التشريعات المشار إليها قد حرصت على تحديد معنى العنصر الجوهري بأنه الذي (لا يمكن فصله عنه دون أن يهلك أو يتلف أو يتغير) فهذا التحديد يكتنفه الغموض إذ يدعو إلى التساؤل عن الشيء الذي تعود عليه عبارة (دون أن يهلك أو يتلف أو يتغير) هل هو العنصر الجوهري أم الشيء الأصلي ؟ فإذا كان المقصود هو العنصر الجوهري أي الجزء فالضابط غير صحيح لأن بعض ما يعتبر جزءًا من الشيء يمكن فصله دون أن يهلك أو يتلف أو يتغير مثل كثير من أجزاء السيارة وبعض أبواب ونوافذ المبنى، وإذا كان المقصود هو هلاك أو تلف أو تغير الشيء الأصلي، فالضابط غير مفيد إذ كيف يمكن مثلاً أن نميز بواسطته بين صور معلقة على حائط المنزل وهي بلا شك ليست جزءًا منه وبين تمثال مثبت على قاعدة في مدخل المنزل ؟ إن كلمة يتغير التي يقال إنها تعين على التفرقة تصدق في الحالين على نفس الوجه، وإذا كان نص المشروع قد اكتفى بفكرة الجزئية، فهذا القدر من التحديد يكفي تشريعيًا، وإذا أثير النزاع في العمل حول ما إذا كان شيء ما يُعتبر أو لا يُعتبر جزءًا من شيء آخر، فالقاضي يفصل فيه على ضوء الظروف وبالاستعانة عند اللزوم بالعرف وتقدير أهل الخبرة.
وبالإضافة إلى أجزاء الشيء تشمل الملكية منتجاته وثماره، ويقصد بالمنتجات ما ينتج عن الشيء غير الثمار، وإذا كانت الثمار تشمل ما ينتجه الشيء من غلة دورية دون أن يترتب على أخذها الانتقاص من أصل الشيء فالمنتجات غير دورية ويترتب على أخذها الانتقاص من أصل الشيء.
كما تشمل الملكية ملحقات الشيء ويقصد بها كل ما أعد بصفة دائمة لاستعمال الشيء وفقًا لعرف الجهة وقصد من أعدها دون أن تكون جزءًا من الشيء ذاته ولا متولدة عنه.
واستمرارًا لتحديد نطاق الحق من حيث الشيء الذي يرد عليه، نصت المادة (812) من المشروع على أن ملكية الأرض تشمل ما تحتها وما فوقها إلى الحد المفيد في التمتع بها وفقًا للمألوف. فتفريعًا على فكرة الوظيفة الاجتماعية لحق الملكية ينبغي ألا يتجاوز حق المالك الحدود التي له فيها فائدة من الاستئثار بباطن الأرض وما يعلوها من فضاء فالملكية ولو إنها تخول المالك بحسب الأصل كل ما يتصور من سلطات للانتفاع بالشيء الذي يملكه فذلك ينبغي أن يكون في حدود الانتفاع المألوف، ولهذا حرص المشروع على النص على قيد للحد المفيد في التمتع بالعمق والعلو، فذكر أن ذلك يكون (وفقًا للمألوف) حتى يضع حدًا لما يمكن أن يدعيه المالك من وجود منفعة له في الاستئثار بما في باطن الأرض أو فيما يعلوها من فضاء.
واشتمال الملكية لأجزاء الشيء ومنتجاته وملحقاته، وكذلك امتداد ملكية الأرض لما تحتها وما فوقها، كل ذلك هو الأصل في حق الملكية، وقد ينص القانون على خلافه، كما قد يرد في تصرف قانوني ما يخالفه، سواء كان التصرف عقدًا أو وصية، فقد يبيع الشخص ثمار الشيء كثمر الحديقة أو منتجاته كالأحجار في باطن الأرض أو حتى بعض أجزاء الشيء مثل أبواب المنزل، فتنفصل ملكية الشيء عن ملكية المبيع، وقد يحدث مثل هذا الانفصال بالوصية كأن يوصي شخص لآخر بملكية الطابق العلوي في الدار مع حق القرار على السفل.
قيود الملكية:
وبعد النص على مضمون حق الملكية ونطاقه من حيث المحل، عرض المشروع لبعض قيود الملكية، فإذا كان الأصل أن يستأثر المالك بكل السلطات التي تمكن من الحصول على كل مزايا الشيء الذي يملكه، فثمة قيود قد تحد من ذلك إما لتحقيق مصلحة عامة وإما لتحقيق مصالح خاصة، وقد ترد القيود بحكم القانون، وقد ترد في تصرف قانوني عقدًا كان أو وصية.
وإذا كان من الطبيعي أن يعرض القانون المدني، عند تنظيم حق الملكية، لما يرد على هذا الحق من قيود تحد من سلطات المالك أو من استئثاره بها، فالأمر على خلاف ذلك بالنسبة لما يرد من قيود على حق التملك أو حرية التملك، فهذه القيود ليست من موضوعات القانون المدني، ولهذا لم يعرض لها المشروع.
وبالنسبة للقيود التي ترد على حق الملكية ذاته، فمنها أولاً ما ينشأ نتيجة حتمية لوجود حق لشخص آخر غير المالك، كالحد من سلطات المالك بسبب وجود حق انتفاع على الشيء أو حق رهن، وهذه القيود لا تحتاج إلى تنظيم خاص، في باب الملكية، تبقى القيود القانونية والإدارية، التي تحد من سلطات المالك أو من استئثاره بملكه والتي تتقرر ابتداءً لتحقيق مصلحة عامة أو مصلحة خاصة يقدر القانون أنها جديرة بالحماية، وهذه هي التي عرض لها المشروع بنصوص المواد (من 813 إلى 817) مع ملاحظة أن المشروع آثر استبعاد النص على بعض القيود التي تنص عليها تشريعات أخرى، إما لعدم الحاجة إلى النص عليها وإما لاعتبارات تتعلق بالظروف الخاصة بدولة الكويت، وذلك على النحو التالي:
( أ ) رُئي أنه لا داعي للنص، كما تفعل بعض التشريعات (المادة 806 مصري والنصوص العربية المستمدة منها) على أن المالك يجب عليه أن يراعي في استعمال حقه ما تقضي به القوانين والمراسيم واللوائح المتعلقة بالمصلحة العامة أو بالمصلحة الخاصة، أو النص على أن المصانع والآبار والآلات البخارية وجميع المحال المضرة بالجيران يجب أن تنشأ على المسافات المبينة في اللوائح وبالشروط التي تفرضها (م 822 مصري)، فمثل هذه النصوص لا فائدة منها، بمعنى أنه يستوي في العمل وجود النص أو عدم وجوده، فمراعاة القوانين واجب تفرضه تلك القوانين ذاتها.
(ب) رُئي عدم النص على القيد الخاص بمضار الجوار غير المألوفة اكتفاءً بالنص العام على عدم جواز التعسف في استعمال الحق، حيث جعل المشروع الاستعمال الذي يترتب عليه ضرر غير مألوف أي ضرر فاحش صورة من صور التعسف في استعمال الحق (المادة 30 من المشروع).
(جـ) وفيما يتعلق بالقيود التي ترد على ملكية الأرض الزراعية ومرافقها كموارد المياه والصرف، آثر المشروع ألا يعرض لها تاركًا أمرها للعرف وما قد تصدره الدولة في شأنها من تشريعات خاصة.
(د) فيما يتعلق بالقيود القانونية لم يعرض المشروع لبعض القيود التي تنظمها عادة قوانين البلاد الأخرى، وذلك لعدم الحاجة إليها في الكويت، وهي: القيد الخاص بملكية الحائط الذي يفصل بين بناءين من حيث تقيد حق المالك في هدمه إذا كان الهدم يضر الجار الذي يستتر ملكه بالحائط، وكذلك القيد الخاص بحق المرور القانوني الذي يتقرر لمالك الأرض المحبوسة عن الطريق العام على الأراضي المجاورة.
ولهذا اقتصر الأمر، في شأن القيود القانونية، على نص المادتين (813، 814) وذلك على النحو التالي:
فيتضمن نص المادة (813) قيدًا على حرية المالك في ملكه، فالأصل أن كل مالك حر في ملكه، ومن بين مظاهر هذه الحرية حريته في وضع أو عدم وضع علامات ظاهرة تبين حدود هذا المالك تمييزًا له عن ملك جاره، وعلى خلاف هذا الأصل نص المشروع على أن “ لكل مالك أن يجبر جاره على وضع حدود لأملاكهما المتلاصقة “، والفرض الذي يعرض له النص هو حالة وجود أرضين غير مبنيتين متلاصقتين لمالكين مختلفين، ونظرًا إلى أن اتصال حدود كل منهما بحدود الأخرى قد يؤدي إلى صعوبة التصرف على الحد الفاصل بين كل منهما، الأمر الذي يثير المنازعات بين المالكين المتجاورين عند مباشرة كل منهما حقه، هيأ النص لكل منهما الوسيلة للتعرف على حدود ملكه في وضوح، فإذا لم يتراضَ المالكان على بيان الحدود كان لكل منهما أن يجبر الآخر على أن يُسهم معه في وضع الحدود بدعوى تعيين الحدود، وهي دعوى تثبت للمالك ولكل صاحب حق عيني على العقار.
ويتم وضع الحدود أولاً بتطبيق مستندات ملكية الجارين على الطبيعة لمعرفة الحد الفاصل بين ملكيهما، ثم توضع علامات مادية ظاهرة تميز ذلك الحد.
وتكون نفقات التحديد مناصفةً بين المالكين ولو اختلفت مساحة أرض كل منهما عن مساحة الأرض الأخرى، ونفقات التحديد التي يشترك فيها المالكان مناصفةً تقتصر على ما يلزم لوضع الحدود ذاتها كثمن الأوتاد ونفقات المحضر الذي يُحرر لبيان الحدود، أما ما يقتضيه التحديد من نفقات لمسح الأراضي المتجاورة فتكون على أصحابها كل بحسب ما تتكلفه أرضه.
ويعرض نص المادة (814) للقيود الخاصة بفتحات البناء التي تمكن من رؤية ملك الجار، وهي المطلات والمناور، وقد كان على المشروع أن يختار بين سياستين: فإما أن يضع النصوص التي تنظم الموضوع أسوة بأكثر التشريعات العربية، وإما أن يكتفي – كما فعل القانون السوداني – بالإحالة في شأن هذه القيود إلى القوانين الخاصة التي تصدر بخصوص تنظيم أعمال البناء، ونظرًا للارتباط الشديد بين هذه القيود، وقيود البناء بوجه عام، وبين السياسة العمرانية التي تتطور بشكل ملحوظ في الكويت، ونظرًا للطابع الفني لقيود البناء، فقد رُئي الاكتفاء بالإحالة إلى القوانين الخاصة.
شروط عدم التصرف:
بعد أن عرض المشروع لبعض القيود القانونية، تناول في المواد من (815 إلى 817) شرط المنع من التصرف في الملك، وحيث تتقيد سلطة المالك بمقتضى تصرف قانوني، فبين أولاً متى يكون الشرط صحيحًا (م 815)، ثم جزاء مخالفة المالك للشرط الصحيح (م 816) وأخيرًا الاحتجاج بالشرط على الغير (م 817).
( أ ) ففيما يتعلق بصحة أو عدم صحة مثل هذا الشرط، نجد سواء في فقه الشريعة الإسلامية أو في القوانين الوضعية، اتجاهين أحدهما ينتهي إلى عدم صحة الشرط، والثاني إلى صحته، فالشرط غير صحيح عند الحنفية والمالكية والشافعية، وصححه بعض الحنابلة كابن تيمية وابن القيم، ومرجع عدم صحة الشرط عندهم أنه يخالف مقتضى العقد أو الوصية وهو إطلاق الحرية للمالك في الانتفاع بما ملك والتصرف فيه بأي تصرف أراد ولم يقم الدليل الشرعي المعين الذي يدل على صحته فلا يجوز اشتراطه وإذا اشترط لا يُعمل بموجبه، وعلى رأي الفقهاء الذين يرون أن الأصل في الشروط الجواز والصحة ولا يحرم شرط ولا يبطل إلا إذا ورد نهي بخصوصه أو كان اشتراطه يؤدي إلى إلغاء المقصود الأصلي من العقد وهو الأثر الذي وُضع العقد لإفادته في جميع صوره، فإن شرط المنع المؤقت الذي يستند إلى باعث مشروع، يكون صحيحًا لأنه لم يرد عن الشارع نهي عنه بخصوصه واشتراطه لا يؤدي إلى إلغاء المقصود الأصلي من العقد أو الوصية وهو الملك، هذا بالإضافة إلى أن من فقهاء المسلمين من نص على أنه إذا باع شخص لآخر شيئًا بشرط ألا يبيعه من شخص معين كزيد فإن هذا الشرط يكون صحيحًا لأنه لا يخالف الغاية من البيع، وهي الملك، لأن المشتري يستطيع أن يبيعه من أي شخص آخر غير زيد (الخالصي وهو من علماء الشيعة الإمامية في كتابه “ الإسلام سبيل السعادة “)، ويؤخذ من هذا الكلام جواز الشرط الذي يمنع من التصرف في المال خلال مدة معقولة، لأن هذا الشرط لا يمنع المالك من التصرف فيما ملك بالعقد أو الوصية بعد انتهاء تلك المدة، وعلى هذا لا يكون اشتراطه مخالفًا لمقتضى العقد أو الوصية وهو الغاية المقصودة من كل منهما وقد آثر المشروع الأخذ بهذا الرأي.
هذا في فقه الشريعة الإسلامية، وفى القوانين الوضعية ذهب القضاء الفرنسي في أول الأمر، وحيث لا يوجد نص، إلى اعتبار شرط المنع سواء كان مؤبدًا أو مؤقتًا ودون نظر إلى البواعث التي دفعت إلى اشتراطه، باطلاً، ثم تطور القضاء فجرى على تصحيح شروط المنع إذا كانت مؤقتة وتهدف إلى تحقيق مصلحة مشروعة، وجاء القانون المصري القديم، الذي استمد من القانون الفرنسي، خلوًا من نص في الموضوع، وجرى القضاء على تصحيح شروط المنع على نحو ما فعل القضاء الفرنسي، ثم جاء القانون المصري الحالي فنص في المادة (823/ 1) على أنه “ إذا تضمن العقد أو الوصية شرطًا يقضي بمنع التصرف في مال، فلا يصح هذا الشرط ما لم يكن مبنيًا على باعث مشروع ومقصورًا على مدة معقولة “. وقد نقل هذا النص حرفيًا كل من القانون السوري (م 778/ 1) والقانون الليبي (م 832/ 1) والقانون الصومالي (م 696/ 1) أما القانون السوداني فنص على صحة الشرط إذا كان مبينًا على باعث مشروع ومقصورًا على مدة معقولة، كما فعل المشرع المصري، ولكنه صاغ النص على نحو يفيد أنه يجب أن يرد شرط المنع في التصرف القانوني الذي تلقى به المشروط عليه الملك (م 703/ 1) كما أخذ المشرع الأردني بحكم القانون المصري مع تعديل في صياغة النصوص (م 1028 و1029).
ونظرًا إلى أن الشرط المانع أو المقيد للتصرف يحقق مصالح معتبرة، فقد رأى المشروع النص على صحته بشروط تحول دون أن يُستخدم هذا الشرط لتحقيق أغراض تنافي مبادئ الشريعة الإسلامية، وتجعله غير منافٍ لمقتضى العقد أو الوصية، فقد يشترط الواهب على الموهوب له عدم التصرف في الموهوب حماية له من طيشه وإلى أن يبلغ سنًا معينة، أو احتياطيًا لاحتمال تحقق عذر من الأعذار التي يتيح للواهب الرجوع في الهبة وبالتالي استرداد الشيء الموهوب، وقد يشترط البائع على المشتري عدم التصرف في المبيع حتى تمام الوفاء بالثمن، أو يشترط البائع أو الواهب الذي استبقى لنفسه حق الانتفاع عدم التصرف في المبيع أو الموهوب تجنبًا للتعامل مع مالك رقبة لا يعرفه ولا يأمن مضايقته، وقد يشترط الواهب على الموهوب له عدم التصرف في الموهوب ضمانًا لبقاء قدرة الموهوب له على الوفاء بالتزام بالنفقة التزم به نحو شخص ثالث يحرص المشترط على ضمان حصوله على النفقة.
والنصوص المقترحة تختلف عن نص القانون المصري، الذي نقلته أو حورت فيه بعد القوانين العربية الأخرى في النواحي الآتية:
أولاً: ذكر المشروع أن الشرط قد يكون مانعًا أم مقيدًا للتصرف، في حين أن النص المصري، ونصوص القوانين الأخرى التي استمدت منه، تتكلم عن شرط المنع من التصرف، ولكن الشراح يجرون حكم النص، ليس فقط على الشروط التي تمنع التصرف بصفة مطلقة خلال مدة المنع، بل كذلك على الشروط التي تقيد حرية التصرف دون أن تمنعه كما لو اشترط الواهب على الموهوب له، إذا أراد بيع الموهوب أن يعرضه أولاً بالأفضلية على شخص معين، أو اشترط المتصرف عدم جواز التصرف إلا مع استبدال مال آخر بالمال المتصرف فيه، لهذا رأى المشروع زيادة في الإيضاح النص على الشرط المانع أو المقيد للتصرف.
ثانيًا: حرص المشروع على حسم مسألة خلافية سواء عند شراح القانون الفرنسي أو شراح القوانين العربية، وهي ما إذا كان يشترط أن يرد شرط المنع من التصرف في التصرف الذي تلقى به المشترط عليه الملكية أم يمكن أن يكون في تصرف آخر، كعقد الرهن أو عقد وعد بالبيع مثلاً وقد أخذ المشروع بالرأي القائل بوجوب ورود شرط المنع في التصرف الذي تلقى به المشروط عليه الملكية، وهو ما يضيق من نطاق استخدام شرط المنع، خصوصًا والمثالين اللذين يرددهما أنصار الرأي الآخر لا يخلو فيهما شرط المنع من مخاطر، الأول أن يشترط الموعود له في الوعد بالبيع، على الواعد ألا يتصرف في الشيء الموعد ببيعه خلال مدة الوعد حتى يضمن، إذا ما أراد الشراء، أن يجد الشيء في ملك الواعد، وخطورة تصحيح شرط المنع من التصرف في هذا الفرض أنه يمكن كل مالك، ولو مؤقتًا من إخراج أي مال من أمواله من ضمان دائنيه وذلك بأن يتفق مع أي شخص على أن يعده ببيع هذا المال ويتفق في عقد الوعد على منع التصرف فيه خلال مدة الوعد، فيمتنع التنفيذ عليه، لأن المنع من التصرف يقتضي منع التنفيذ، والمثال الثاني هو أن يرد شرط المنع في عقد الرهن حيث يشترط المرتهن على الراهن عدم التصرف في المرهون إلى أن يتم استيفاء الدين المضمون بالرهن، حتى يتفادى اتباع إجراءات التنفيذ ضد من تنتقل إليه الملكية وهي أكثر تعقيدًا من إجراءات التنفيذ ضد الراهن نفسه، وخطورة تصحيح مثل هذا الشرط، أنه لو كان صحيحًا لأصبح شرطًا جاريًا يوضع في كل عقود الرهن وحيث يكون المرتهن في مركز من القوة يسمح له بفرض شروطه، وينتهي الأمر إلى تفويت ما يهدف إليه التنظيم التشريعي للرهن من التوفيق بين حرية المالك في التصرف في المرهون ليتمتع بأكبر قدر من مزايا الملكية وبين ضمان حصول الدائن على حقه عن طريق ما له من سلطة التتبع.
ثالثًا: اكتفى نص المشروع بالقول إن الشرط لا يكون صحيحًا (ما لم يكن مبنيًا على باعث مشروع ومقصورًا على مدة معقولة) وهي العبارة التي استخدمها المشرع المصري، ومن بعده التشريعات التي نقلت عنه، فلم ينص على ما نصت عليه هذه التشريعات في بيان مشروعية الباعث، والمدة المعقولة، فقد نصت المادة (823) مصري، ومن بعدها نصوص القانون السوري والقانون الليبي، والقانون السوداني والقانون الصومالي على أنه (ويكون الباعث مشروعًا متى كان المراد بالمنع من التصرف حماية مصلحة مشروعة للمتصرف أو المتصرف إليه أو الغير) وهذا الذي أريد به إيضاح معنى مشروعية الباعث، لا يضيف في الواقع جديدًا لأن عبارة (المراد بالمنع من التصرف حماية مصلحة مشروعة) تساوي تمامًا في المعني (... المنع مبنيًا على باعث مشروع) كما أن القول إن المصلحة قد تكون مصلحة المتصرف أو المتصرف إليه أو الغير، يجمع كل المصالح المتصورة، ولعل هذه العبارة قد قُصد بها إلى التأكيد على أن المصلحة قد تكون للغير، وقد آثر المشروع الاكتفاء بالمعيار المرن الوارد في النص تمشيًا مع سياسته العامة في إعطاء القضاء حرية التقدير كلما أمكن ذلك دون ضرر.
(ب) وعرضت المادة (816) للجزاء الذي يترتب على تصرف المالك المخالف للشرط. فإذا تصرف المشروط عليه بما يخالف الشرط فالجزاء الذي يحقق الغرض من شرط المنع ليس هو فسخ التصرف الأصلي أي الذي ورد به الشرط، وإنما هو إبطال التصرف المخالف للشرط حتى يبقى المال في ذمة المشترط عليه وبالتالي يتحقق الغرض المشروع الذي أُريد بشرط المنع تحقيقه، وكان على المشروع أن يختار بين أحد اتجاهين في تحديد من له حق التمسك بالبطلان. الاتجاه الأول وهو ما يدل عليه نص القانون المصري والقوانين التي نقلت عنه ويدافع عنه بعض الشراح أن البطلان مطلق وبالتالي يكون لكل ذي مصلحه أن يطلبه وللقاضي أن يحكم به ولو لم يطلب منه، ولا ترد عليه الإجازة، والاتجاه الثاني وهو ما دعا إليه بعض الشراح، وأخذ به القانون السوداني أن يقتصر حق التمسك بالبطلان على المشترط الذي تتوفر مصلحته دائمًا ولو كان الشرط قد وضع لمصلحة غيره فتكفي مصلحته الأدبية ليكون له حق التمسك بالبطلان، وكذلك لمن تقرر الشرط لمصلحته إن كان غير المشترط، وذلك تأسيسًا على أن شرط المنع قد أُريد به تحقيق مصلحة خاصة لشخص معين فيجب أن يكون هذا الشخص هو صاحب الحق في التمسك بالبطلان، وأن يكون لهذا الشخص النزول عن حقه هذا بإجازة التصرف المخالف فيصبح صحيحًا وينتهي أصحاب هذا الرأي إلى أن أحكام هذا البطلان لا تتفق تمامًا لا مع أحكام البطلان المطلق ولا مع أحكام البطلان النسبي، وإنما تدور كلها حول فكرة الغرض الذي يراد تحقيقه من شرط المنع من التصرف، وقد آثر المشروع الأخذ بهذا الرأي الأخير.
(جـ) وأخيرًا عرض المشروع في المادة (817) للاحتجاج بالشرط على الغير فنظرًا إلى أن الشرط ينشئ قيدًا عينيًا يرد على المال ذاته كان من اللازم حماية من يتعاملون مع المالك، وهو ما لم يعرض له المشرع المصري والتشريعات التي تأثرت به، وهو نقص عمد المشروع إلى تلافيه فنص على عدم الاحتجاج على الغير إلا إذا كان يعلم بالشرط وقت إبرام العقد الذي ترتب عليه كسب حقه أو كان في مقدوره أن يعلم به، وافترض العلم لمجرد ورود الشرط في تصرف وارد على عقار تم شهره.
الفرع الثاني - الملكية الشائعة:
الملكية الشائعة هي التي يتعدد فيها الملاك لشيء واحد غير مفرزة حصة كل منهم، وتعدد الملاك لشيء واحد، أي الشيوع من شأنه أن يجعل استغلال هذا الشيء أكثر تعقيدًا مما لو انفرد بملكيته شخص واحد، إذ كثيرًا ما تختلف وجهات نظر الملاك في كيفية الاستغلال مما يؤدي إلى صعوبات قد تصل إلى حد التهديد بتعطيل استغلال الشيء، ولهذا تعتبر حالة الشيوع، من الناحية الاقتصادية، غير مرغوب فيها، ولكنها مع ذلك حالة ضرورية لا يمكن تجنبها، إذ يكفي الإشارة إلى أنه يترتب على الوفاة وانتقال أموال الشخص إلى ورثته أن تصبح ملكية الأشياء الموجودة في التركة شائعة بين الورثة فترة من الزمن، قد تطول أو تقصر، ولهذا فلا بد من تنظيم الملكية الشائعة على نحو يقلل بقدر الإمكان من الصعوبات التي تنشأ عن تعدد أصحاب الحق الواحد كما ينبغي تيسير إنهاء حالة الشيوع عن طريق القسمة.
وقد بدأ المشروع بتنظيم أحكام الشيوع، وفى سبيل التغلب على الصعوبات الناشئة عن تعدد الملاك، سلك المشروع مسلك التشريعات الحديثة في تيسير القيام بأعمال الإدارة وأعمال التصرف عن طريق الاكتفاء بقرار من الأغلبية وعدم التقيد بالمنطق الصارم الذي كان يقتضي إجماع الشركاء.
ثم عرض المشروع بعد ذلك للقسمة مبتدئًا بتقرير حق كل شريك في طلب القسمة وما يمكن أن يرد على هذا الحق من قيود ثم نظم كيفية إجراء القسمة وأثرها، وعقب على القسمة التي تنهي حالة الشيوع ببيان أحكام قسمة المهايأة. وأخيرًا عرض للشيوع الإجباري موليًا عناية خاصة لملكية الطبقات والشقق.